ومذهب أرسطو في القدر يلائم هذا المذهب في صورة الإله، فلا قدر هناك ولا تقدير، وكل إنسان حر فيما يختاره لنفسه، فإن لم يستطع أن يفعل فهو على الأقل مستطيع أن يمتنع، وغاية الإنسان وغير الإنسان من هذه الكائنات أن تحقق ما ينبغي لوجودها على الوجه الذي يناسب ذلك الوجود. •••
ولفلاسفة اليونان - غير أفلاطون وأرسطو - مذاهب في القدر تتراوح بين مذهب الجبر ومذهب الحرية، وتتوسط بينهما أحيانا في القول بالاضطرار أو القول بالاختيار.
فعند ديمقريطس أن الموجودات كلها تتألف من الذرات، وأن الإنسان مثلها ذرات؛ تتألف فيحيا، وتندثر فيموت.
وعند هيرقليطس أن النظام قوام الأشياء، وأن الاختلاف ضرورة من ضرورات النظام، وأن العدل في طبيعة الوجود يعود بالأشياء إلى قوامها كلما طغى مزاج منها على مزاج، وأن الشر من صفات الأجزاء وليس من صفات الكل المحيط بجميع هذه الأجزاء ، فيخضع الإنسان له؛ لأنه جزء ناقص لا فكاك له من ضرورة النقص المحيق به وبغيره، ولا حيلة له في ذلك ولا للإله أو «الكلمة» التي ترادف عندهم معنى الإله، ولكنها تطرد مع قضاء النظام الشامل وتجري معه مجراه، إلى أن يدركها الاختلال فيردها سواء العدل إلى الاعتدال.
وعند فيثاغوراس كل شيء محسوب؛ لأن العدد هو قوام الوجود، فما من صفة نصف بها الموجودات إلا نراها مفارقة لها في طور من أطوارها، ما عدا العدد؛ فهو الصفة التي لا تفارق موجودا من الموجودات في طور من الأطوار، ولا يتضح رأي فيثاغوراس فيمن يحسب الحساب لتركيب هذه الأعداد، لكنه مقارب لمذهب أهل الهند في تعليق كل شيء بالحساب السرمدي أو القانون الأبدي المسمى عندهم «بالكارما» كما تقدم، ومرجعه إليه في مسألة القدر كمرجعه إليهم في مذهبه كله على التعميم.
وعند زينون وأتباعه الرواقيين أن الناموس يقضي قضاءه في جميع المخلوقات، فقولهم بالجبر أرجح جدا من قولهم بالاختيار.
وعند أبيقور أن الذرات هي قوام الموجودات، وأن الذرات إذا تركبت في روح الإنسان ملك بعض الحرية التي لا يملكها الجماد؛ لأن ذرات الروح ألطف من ذرات الجسم الجامد وأقدر منها على التصرف والاختيار، ولكن الآلهة لا تقدر للناس عند الأبيقوريين؛ لأنها سعيدة في سماواتها، ولا حاجة بالسعيد إلى التفكير في نفسه ولا في غيره! أما القدر الأعمى كما تمثله أساطير اليونان فهو عند أبيقور خرافة أصعب على التصديق من خرافات الأمساخ والغيلان، فهناك قدر في النظام لا يأتي من الأرباب ولا من ربة القضاء الأعمى، ولكنه يأتي من طبيعة الأشياء بمقدار ما فيها من تناسق الأجزاء. •••
وأهم الفلاسفة بعد أفلاطون وأرسطو رأيا في موضوع القضاء والقدر هو بلا ريب أفلوطين، إمام الأفلاطونية الحديثة الذي ولد بإقليم أسيوط واستفاد معظم دراساته من مدرسة الإسكندرية، وإنما يهم رأي أفلوطين في هذا الموضوع؛ لأنه على اتصال شديد بالمذاهب الدينية ومذاهب التصوف على الخصوص بين أصحاب الأديان.
ويؤخذ من أقوال أفلوطين المتعددة أن الإنسان في حياته الأرضية خاضع لقضاء سابق من أزل الآزال، وأنه يعاد إلى الحياة مرات كثيرة ويجزى في كل مرة على أعماله في حياته السابقة جزاء العين بالعين والسن بالسن والمثل بالمثل قيد الشعرة في كل جليل ودقيق، فمن فقأ عين إنسان فقئت عينه في دور من أدوار الحياة المتلاحقة في عالم الجسد، ومن ضرب أمه عاد إلى الحياة في جسد امرأة، وولد له البنون، واقتص منه أحدهم بضربه كتلك الضربة، يكفر بها عما جناه.
ولكن من الذي يقدر هذا القدر ويكتبه في سجله للحساب والقصاص؟
Shafi da ba'a sani ba