أما المصريون الأقدمون فكانوا وسطا بين الإيمان بحرية الإنسان والإيمان بسيطرة الأرباب؛ لأنهم آمنوا بالثواب والعقاب في العالم الآخر، فكان إيمانهم هذا كالإيمان بأن الإنسان يعمل، وأن الأرباب تتولى جزاءه على عمله بعد ذلك، فهي قادرة لا شك في قدرتها، ولكن الإنسان قادر على أن يعمل ما يرضيها ويستحق ثوابها، أو ما يغضبها ويستحق عقابها، وقد جاء في صلواتهم ما يدل على تصريف الآلهة أحوال العالم وأسباب الحياة ولكن الكلام في التقدير عندهم أقل ما عرف في أديان الزمن القديم. •••
واقتبس اليونان شيئا من البابليين وشيئا من المصريين: اقتبسوا التنجيم وطوالع الكواكب من بابل، واقتبسوا عقيدة الثواب والعقاب من مصر، ولكنهم لم يحفلوا - أو يستطيعوا أن يحفلوا - كما فعل المصريون بإعداد الأجساد للحياة الأخرى، وتزويدها بما تحتاج إليه في تلك الحياة من مقومات البقاء.
وقد كان القدر عندهم غالبا على الآلهة والبشر على السواء، وكانوا كثيرا ما يصورونه في أساطيرهم ورواياتهم غاشما ظالما يتجنى الذنوب على الناس، ويستدرجهم إلى الزلل والغلط؛ ليوقع بهم ما يحلو له من العقاب، وكانت عندهم للنقمة ربة يسمونها «نمسيس» تأخذ الجار بذنب الجار، وتقتص من الأبناء والأحفاد لجرائر الآباء والأجداد، وتلاحقهم بالغضب ملاحقة اللدد والإصرار من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل.
وكانت صورة «زيوس» رب الأرباب في شعر هوميروس أقرب إلى الجماح والكيد وإلى سوء النية الذي يغريه بإذلال البشر وترويعهم وأن ينفس عليهم حظوظهم ويردهم إلى القناعة والصغار، ثم ترقى به الشاعر هزيود إلى نمط من العدل في محاسبة الناس بميزان يزن الحساب في ميزان الحسنات والسيئات، فيعطف على من أحسن ويسخط على من أساء. •••
ولكن المساهمة في مسألة القضاء والقدر تحسب لليونان في ميدان الفلسفة والتفكير ولا تحسب في ميدان الدين والعقيدة؛ لأنهم طرقوا باب البحث في هذه المسألة فجاءوا بخلاصة الأقوال التي تلاحقت في مباحث الفلاسفة بعدهم إلى العصر الأخير، ولا نعني باليونان هنا يونان السلالة والوطن، وإنما نعني بهم كل من تشملهم الثقافة اليونانية في وطنهم وفي غيره من الأوطان.
وأول ما يتجه الذهن من الفلسفة اليونانية إلى رأي الحكيمين الكبيرين اللذين يحيطان بأطراف الموضوعات في أكثر مسائل التفكير؛ وهما: أفلاطون الملقب بالإلهي، وأرسطو الملقب بالمعلم الأول!
فأفلاطون يتابع أستاذه سقراط بعض المتابعة في نسبة الشر إلى الجهل وقلة المعرفة، ويرى أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرفه، بل يساق إليه بجهله أو بعوارض المرض والفساد فيه، ولكنه لا يساق إليه بتقدير الآلهة؛ لأن الآلهة خير لا يصدر عنها إلا الخير، وإنما يساق إليه باعتراض الكثافة المادية - أو الهيولى - في سبيل مطالبه الروحية، وأن هذه الكثافة المادية لازمة - مع هذا - لتمحيص الخير وتحقيق معناه؛ فإن الحياة الإنسانية التي تكون خيرة؛ لأنها كذلك ولا يمكن أن تكون غير ذلك ليست بخير يغبط عليه الإنسان، ولكنها تكون خيرة لها فضل في خيرها إذا اعترضها الشر فجاهدته وانتصرت عليه في هذه المجاهدة، فلا خير في الدنيا إذا زال منها الشر بالنظر إلى الإنسان.
وكل شيء من أشياء هذا العالم له - في رأي أفلاطون - صورة مثالية أو صورة كاملة في عقل الإله، فهذه الأشياء الموجودة في الحس هي محاولة لمحاكاة صورها الخالدة التي لا نقص فيها؛ وإنما يشوبها النقص في عالم الحس لاعتراض المادة دون تحقيق الصورة المثلى، وقد تجري محاولة الخلق على أيدي أرواح دون الله في القدرة والخير فيظهر النقص في عملها؛ لأنها لم تبلغ مع الإله كماله المطلق المنزه عن الشرور.
فالشر موجود في هذا العالم، ولكنه ليس من تقدير الإله، ووجوده لازم مع وجود الخير؛ لأن الخير الاضطراري لا قيمة له، ولا دلالة فيه على فضيلة فاعلة، وحرية الإنسان في طلب الكمال لا يحدها قدر مقدور من الإله الأعظم، بل تحدها عوائق الكثافة المادية أو الهيولى، وهي كذلك عائق في سبيل تحقيق الكمال الذي يريده الله. •••
ومذهب أرسطو في القدر يلائم مذهبه في صفة الإله؛ فإن إله أرسطو بمعزل عن الكون وعن كل ما فيه من حي وجماد، فلا يقدر له أمرا ولا التقدير من شأنه الذي يوافق صفة الكمال المطلق في رأي المعلم الأول؛ لأن الكامل المطلق الكمال لا يحتاج إلى شيء غير ذاته، فلا يريد شيئا ولا يفكر في شيء غير تلك الذات، وما كانت علاقة الإله بالكون إلا علاقة المحرك الأول الذي لا يتحرك؛ لأنه لو تحرك للزم أن نبحث عن مبدأ حركته وسببها وغايته منها، وكل أولئك لا يتفق عند أرسطو مع صفات الكائن الكامل الذي لا بداية له ولا نهاية، ولا غاية له من وراء عمل يعمله، بل لا عمل له غير أن يعقل ذاته في نعيم سرمدي لا يعرفه العاملون؛ لأن العمل حركة واختلاف من حال إلى حال، ولا اختلاف في طبيعة الكائن الذي بلغ التمام في أحسن الأحوال، وليس المراد بأنه هو المحرك الأول أنه عمل شيئا لتحريك جميع هذه المتحركات، وإنما المراد به أنه مصدر العقل وأن العقل يوحي إلى الأشياء أن تتسامى إلى مصدرها فتتحرك من صورة إلى صورة في طلب الكمال؛ لأنها هي المحتاجة إلى الحركة واستكمال الصور في ارتقائها، دون صاحب الصورة المثلى أو الصورة المحض التي لا تمتزج بالهيولى أي امتزاج.
Shafi da ba'a sani ba