سلبوا وأشرقتِ الدماء عليهم ... محمّرة فكأنّهم لم يسلبوا
وقول أبي الطيب:
يبس النجيع عليه وهو مجردٌ ... من غمده فكأنّما هو مغمد
فنقل المعنى من القتلى والجرحى إلى السيف.
ومنها: أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأوّل، كقول جرير:
إذا غضبت عَلَيّ بنوا تميم ... حسبت النّاس كلّهم غضابًا
وقول أبي نؤاس:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
فالأوّل مختصّ ببعض العالم وهو الناس، وهذا يشملهم وغيرهم.
ومنها: القلب؛ وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأوّل، كقول أبي الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حبًّا لذكرك فليلمني اللوَّم
وقول أبي الطيب:
أحبّه وأحبّ فيه ملامه ... إنّ الملامة فيه من عذَّاله
فهذا نقيض معنى بيت أبي الشيص، والأحسن في هذا النوع أن يبيّن السبب كما في هذين البيتين إلاّ أن يكون ظاهرًا، كقول أبي تمام:
ونغمةُ معتفي جدواه أحلا ... على أُذنيه من نَغَم السماع
وقول أبي الطيب:
والجراحات عنده نغماتٌ ... سبقت قبل سيبه بسؤال
أراد أبو تمام أنّ الممدوح يستلذّ نغمات السائلين لما فيه من غاية الكرم ونهاية الجود، وأراد أبوالطيب أنّه إن سبقت نغمة سائل عطاء الممدوح بلغ ذلك فيه مبلغ الجراحة من المجروح، لأنّ عاته أن يعطي بغير سؤال.
ومنها: أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه ما يحسّنه، كقول الأفوه الأودي:
وترى الطير على أثارنا ... رأي عين ثقةً إن ستمار
وقال أبو تمام:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحىً ... بعقبان طير بالدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتّى كأنّها ... من الجيش إلاّ أنّها لم تقاتل
فإنّ أبا تمام لم يلم بشيء من معنى قول الأفوه: رأي عين، ولا: ثقةً إن ستمار، لكن زاد عليه زيادة محسّنة لبعض المعنى الذي أخذه بقوله: إلاّ أنّها لم تقاتل، وبقوله: في الدماء نواهل، وبقوله: أقامت مع الرايات، مع قوله: كأنّها من الجيش، وبهذه الزيادة يتمّ حسن قوله، إلاّ أنّها لم تقاتل، لأنّه لو قيل: ظللت عقبان أعلامه ضحىً بعقبان الطير إلاّ أنّها لم تقاتل لم يحسن هذا الإستثناء المنقطع ذلك الحسن لأنّ إقامتها مع الرايات حتّى كأنّها من الجيش يوهم أنّها تقاتل مثل الجيش فيحسن الإستدراك الذي رفع التوهّم الناشي من الكلام السابق بخلاف وقوع ظلّها على الرايات.
وهذه الأنواع المذكورة منها مقبول ومنها ما هو فوق ذلك من حيث أنّه يخرجه حسن التصرّف من الإتّباع إلى الإبتداع، وكلّما كان الإتّباع أشدّ خفاءً بحيث لا يعرف أنّ الثاني مأخوذ من الأوّل إلاّ بعد إعمال روية ومزيد تفكّر كان أقرب إلى القبول لكونه أبعد عن الأخذ والسرقة وأدخل في الإبتداع والتصرّف، هذا آخر القول على السرقة وأنواعها.
أقول: وسرقة الشعر مذمومة، قال في ذمّها الحريري في إحدى مقاماته: واستراق الشعر عند الشعراء أفضع من سرقة البيضاء والصفراء، وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار، وأوّل من ذمّ ذلك طرفه ابن العبد في قوله:
ولا أغير على الأشعار أسرقها ... عنها غنيت وشرّ الناس من سرقا
وأبو تمام الطائي ضجّ من سرقة محمّد بن يزيد الأموي شعره، فقال:
من بنوا بجدل من ابن الحباب ... من بنو تغلب حداة الكلاب
من طفيلٌ وعامرٌ ومن الحا ... رث أو من عيينة بن شهاب
إنّما الضيغم الهصور أبو الأش ... بال جبّار كلّ خيس وغاب
من عدت خيله على سرح شعري ... وهو للحين راتع في كتابي
غارة أسخنت عيون المعالي ... واستباحت محارم الآداب
لو ترى منطقي أسيرًا لأصبح ... ت أسيرًا لعبرتي وانتحابي
يا عذاري الأشعار صرتنّ من بع ... دي سبايا تبعن في الأعراب
طال رغبي إليك يا ربّ يا ربّ ... ورعبي إليك فاحفظ ثيابي
وكان البحتري قال قصيدة في أبي العباس ابن بسطام أوّلها:
من قائل للزمان ما أربه ... في خلق منه قد بدا عجبه
فعارضه فيها أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بقصيدة يمدح بها الموفّق أوّلها:
أجدَّ هذا المقال أم لعبه ... أم صدق ما قيل فيه أم كذبه
1 / 42