فالمصراع الثاني من بيت أبي الطيب مأخوذ من المصراع الثاني من بيت أبي تمام لكن مصراع أبي تمام أجود سبكًا.
وثالثها: أن يكون الثاني مثل الأوّل وهذا أبعد من الذم والفضل للأوّل، كقول أبي تمام:
لو حار مرتاد المنيّة لم يجد ... إلاّ الفراق على النفوس دليلا
أخذه أبوالطيب فقال:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
وكقول الأرجاني:
لم يبكني إلاّ حديث فراقهم ... لمّا أسرّ به إليّ مودّعي
هو ذلك الدر الذي ألقيتم ... في مسمعي ألقيته من مدمعي
وقول جار الله في مرثية أُستاذه:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أُذني تساقط من عيني
هذا إذا لم يكن فيه دلالة على السرقة، وأمّا إذا كان فيه دلالة عليها باتّفاق الوزن والقافية فهو مذموم، كقول أبي تمام:
مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد
وما سافرت في الآفاق إلاّ ... ومن جدواك راحلتي وزادي
وقول أبي الطيب:
وإنّي عنك بعد غد لغاد ... وقلبي في فنائك غير غادي
محبّك حيثما اتّجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
وأمّا القسم الثاني من النوع الظاهر: وهو أخذ المعنى وحده فيُسمّى إلمامًا من ألمّ به إذا قصده، وأصله من ألمَّ بالمنزل إذا نزل به، ويُسمّى أيضًا سلخًا، والسلخ كشط الجلد عن الشاة ونحوها، واللفظ للمعنى بمنزلة الجلد فكأنّه كشط من المعنى جلده وألبسه جلدًا آخر، وهو على ثلاثة أقسام: الأوّل: أن يكون الثاني أبلغ من الأوّل، كقول أبي تمام:
هو الصنع إن يعجل فخيرٌ وإن يرث ... فللريث في بعض المواضع أنفع
وقول أبي الطيب:
ومن الخير بطؤ سيبك عنّي ... أسرع السحب في المسير الجهام
فبيت أبي الطيب أبلغ لاشتماله على زيادة بيان للمقصود حيث ضرب المثل بالسحاب.
الثاني: أن يكون الثاني دون الأوّل، كقول البحتري:
وإذا تألّق في الندي كلامه ... المصقول خلت لسانه من عضبه
وقول أبي الطيب:
كأنّ ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا
فبيت أبي الطيب دون بيت البحتري لأنّه قد فاته ما أفاده البحتري بلفظتي تألّق والمصقول من الإستعارة التخييليّة حيث أثبت التألق والصقالة للكلام كإثبات الأظفار للمنيّة، ويلزم من هذا التشبيه كلامه بالسيف وهو استعارة بالكناية.
الثالث: أن يكون مثل الأوّل، كقول أبي زياد:
ولم يك أكثر الفتيان مالًا ... ولكن كان أرحبهم ذراعًا
وقول أشجع في جعفر المكي:
وليس بأوسعهم في الغنا ... ولكن معروفه أوسع
وكقول بعضهم في مرثية ابن له:
والصبر يحمد في المواطن كلّها ... إلاّ عليك فإنّه مذموم
وقول أبي تمام:
وقد كان يُدعى لابس الصبر حازمًا ... فأصبح يُدعى حازمًا حين يجزع
وكقول أبي بكر بن النطاح:
كأنّك عند الكرّ في حومة الوغى ... تفرّ من الصفّ الذي من ورائكا
وقول أبي الطّيب:
وكأنّه والطعن من قدّامه ... متخوّف من خلفه أن يطعنا
هذا هو النوع الظاهر من الأخذ والسرقة.
وأمّا غير الظاهر فهو على أقسام: منها: أن يتشابه المعنيان في البيتين، كقول جرير:
فلا يمنعك من إرب لحاهم ... سواء ذوالعمامة والخمار
وقال أبي الطيب:
ومنْ في كفّه منهم قناة ... كمنْ في كفّه منهم خضاب
فتعبير جرير عن الرجل بذي العمامة كتعبير أبي الطيب عنه بمن في كفّه قناة، وكذا تعبيره عن المرأة بذات الخمار كتعبيره عنها بمن في كفّه خضاب.
ومنه قول الطرمّاح:
لقد زادني حبًّا لنفسي إنّني ... بغيضٌ إلى كلّ امرء غير طائل
وقال أبوالطيب:
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة بأنّي كامل
ويجوز في تشابه المعنيين اختلاف الموردين، كأن يكون أحد البيتين نسيبًا مثلًا والآخر مدحًا أو هجاءً، فإنّ الشاعر الحاذق إذا قصد إلى المعنى المختلف احتال بإخفائه فغيّر لفظه وصرفه عن مورده وعن وزنه وقافيته.
ومنها: أن ينقل المعنى إلى محلٍّ آخر، كقول البحتري:
1 / 41