وقال بعض الروات: لمّا استخلف عمر بن العزيز، قدم عليه وفد من أهل الحجاز فاشرأبّ منهم غلام للكلام، فقال عمر: يا غلام ليتكلّم من هو أسنّ منك، فقال: يا أميرالمؤمنين إنّما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا أمنح الله تعالى عبده قلبًا حافظًا ولسانًا لافظًا فقد أجاد له الإختيار، ولو أنّ الاُمور بالسنّ لكان في الناس من هو أحقّ بمجلسك منك. فقال له عمر: صدقت، تكلّم، فهذا هو السحر الحلال. فقال: يا أميرالمؤمنين إنّا وفد التهنية لا وفد المرزئة، لم تقدمنا عليك رغبة ولا رهبة، لأنّا قد أمنّا في أيّامك ما خفنا، وأدركنا ما أمّلنا. فسأل عمر عن سنّ الغلام، فقيل له: عشر سنين.
ونظير هذه القضيّة ما ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار قال: حدّث معبد بن خالد وكان ذميمًا قال: وفدنا معشر عدوان على عبد الملك، فقدّموا رجلًا منّا وسيمًا، فقال: ممّن؟ قال: عدوان، فأنشد عبد الملك:
عذيري الحي من عدوا ... ن كانوا حيّة الأرض
بغى بعضهم بعضًا ... فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ثمّ قال للرجل: إيه، فقال: لا أحفظها، قال معبد: وكنت خلفه فقلت:
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
قال للرجل: مَن الحكم؟ قال: لا أدري، فقلت: عامر بن الضرب، فقال له: من القائل؟ قال: لا أدري، فقلت: ذوالأصبع، فقال له: لم قيل ذوالأصبع؟ قال: لا أدري، فقلت: نهشته حيّة فقطعت أصبعه، فقال: ما اسم ذي الأصبع؟ قال: لا أدري، فقلت: حرثان بن الحارث، فقال عبد الملك للرجل: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة دينارًا، فقال لي: وكم أنت؟ قلت: ثلاثمائة، فقال: اجعلوا هذا لهذا، فانصرفت وعطائي سبعمائة وعطائه ثلاثمائة.
وهذه القصّة وإن لم تكن ممّا نحن فيه إلاّ أنّي أوردتها لناسبتها للقضيّة المتقدّمة قبلها.
ولمّا مات سعيد بن العاص وفد ابنه عمرو على معاوية فاستنطقه، فقال: إنّ أوّل كلّ مركب صعب، وإنّ مع اليوم غدًا. فقال معاوية: من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنّه أوصى إليّ ولم يوص بي. فقال معاوية: إنّ ابن سعيد هذا لأشدق، فسمّي عمرو الأشدق من ذلك اليوم.
وحكي عن النظّام أنّه جاء به أبوه وهو حَدِث إلى خليل بن أحمد ليعلّمه، فقال الخليل له يومًا يمتحنه، وبيده قدح زجاج: يا بنيّ صف لي هذه الزجاجة، فقال: بمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: تُريك القذى، ولا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء، قال: فذمّها، قال: سريع كسرها، بطيء جبرها، قال: فصف لي هذه النخلة، قال: بمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها، قال: فذمّها، قال: هي صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى. فقال الخليل: يا بني نحن إلى التعليم منك أحوج.
قال السيّد المرتضى: وهذه بلاغة من النظّام حسنة، لأنّ البلاغة هي وصف الشيء ذمًّا أو مدحًا بأقصى ما يقال فيه.
والنظّام هذا هو أبو إسحاق ابن سيّار النظّام. قال الجاحظ: إنّ عبد الوهّاب الثقفي ذكره يومًا فقال: هو أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم، وخصب بعد جدب، وعنىً بعد فقر، وطاعة المحبوب وفرح المكروب مع الشباب الناعم، وله شعر كثير جيّد، فمنه قوله:
يا تاركي جسدًا بغير فؤاد ... أسرفت في الهجران والإبعاد
إن كان تمنعك الزيارة أعين ... فادخل إليّ بعلّة العواد
كيما أراك وتلك أعظم منّة ... ملكت يداك بها منيع قيادي
إنّ العيون على القلوب إذا جنت ... كانت بليّتها على الأجساد
وله أيضًا:
تأمّله طرفي فألّم خدّه ... فصار مكان الوهم من نظري أثر
وصافحه كفّي فألّم كفّه ... فمن صفح كفّي في أنامله عقر
ومرّ بفكري خاطرًا فجرحته ... ولم أر خلقًا قط يجرحه الفكر
يقال: إنّ الجاحظ لمّا بلغه ذلك قال: هذا ينبغي أن لا يناك إلاّ بأير من الوهم.
ويقال: إنّ أبا العتاهية قال: أنشدت النظّام:
إذا همّ النديم له بلحظ ... تمشّت في محاسنه الكلوم
قال: ينبغي أن ينادم هذا أعمى.
قال السيّد المرتضى: وأبيات النظّام تتضمّن معنى بيت أبي العتاهية، ولسنا ندري أيّهما أخذ من صاحبه، والنظّام يكرّر هذا المعنى كثيرًا في شعره، فمن ذلك قوله:
رق فلو بزت سراويله ... علّقه الجوَّ من اللطف
1 / 22