وقال بعض الروات: وفد علبة بن مسهّر الحارثي على ذي فائش الملك الحميري وكان ذو فائش يحبّ اصطناع سادات العرب ويقضي حوائجهم ويقرب مجالسهم، وكان علبة شاعرًا محدثًا ظريفًا، فقال له الملك ذات يوم: يا علبة ألا تحدّثني عن أبيك وأعمامك وتصف لي أحوالهم؟ قال: أيّها الملك، هم أربعة: زياد ومالك وعمر ومسهر؛ أمّا زياد فما استلّ سيفه منذ ملكت يده قائمة إلاّ أغمده في جثمان بطل أو شوامت جمل، وكان إذا حملق النجيد وصلصل الحديد وبلغت النفس الوريد خاض ظلام العجاج، وأطفأ نار الهياج وألوى بالأعراج، وأردف كلّ طفلة مغناج، ذات بدن رجراج، وقال لأصحابه: عليكم النهاب والأموال الرغاب، عطاء لا ضنين شكس، ولا حفلد نكس. وأمّا مالك فكان عصمة الهوالك إذا اشتبهت الأعجاز بالحوارك، يفري الرعيل فري الأديم بالأزميل، ويخبط البهم خبط الذئب نقاد الغنم. وأمّا عمرو فكان البحر الزاخر، والسحاب الماطر، يجود إذا بخل الغيث، ويقدم إذا أحجم الليث، ما قدر إلاّ عفى، ولا عاهد إلاّ وفى. وأمّا مسهّر فكان الذعاف الممقر، والأسد المخدر، يخبي الحرب وييسعر، ويبيح النشب فيكثر، ولا يجنحن ولا يستأثر. فقال: لله درّك يا علبة، مثلك فليصف أُسرته وقومه.
روى أثيرالدين أبو زرعة العراقي الشافعي والمدايني في كتاب الأمثال عن المفضّل الضبي أنّ رسول الله ﵌ لمّا خرج من مكّة يعرض نفسه على القبائل، خرج إلى ربيعة ومعه علي وأبوبكر، فدفعوا إلى مجلس من مجالسهم، فتقدّم أبوبكر وكان نسّابةً، فسلّم فردّوا ﵇، فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أفمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، قال: أيّ هامتها أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يقال: لا حرّ بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم بسطام وذو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم جساس حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الخوفزان قاتل الملوك وسالبها أنعمها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم أصهار الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذًا ذهل الأكبر، بل أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من شيبان يقال له دغفل حين بقل وجهه فقال:
إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبأ لا يعرفه أو يحمله
يا هذا إنّك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئًا، فممّن الرجل؟ قال: من قريش، قال: بخّ بخّ أهل الشرف والرياسة، فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرّة، قال: أمكنت والله الرامي من الثغرة، أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فصار يدعى مجمعًا؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، فاجتذب أبوبكر زمام ناقته ورجع إلى رسول الله ﵌ هاربًا من الغلام، فقال الفتى:
صادف درء السيل درء يدفعه ... يهيضه حينًا وحينًا يصدعه
أما والله يا أخا تيم لو ثَبَتَّ لأخبرتك أنّك من زمعات قريش ولست من الذوائب. فتبسّم رسول الله، وقال علي ﵌ لأبي بكر: لقد وقعت من الغلام الأعرابي على باقعة؟ قال: أجل يا أباالحسن، ما من طامّة إلاّ ولها ظامةٌ و"البلاء موكّل بالنطق"، فذهبت مثلًا.
ودغفل هذا هو ابن حنظلة النسابة، يضرب فيه المثل بالنسب، وقد كان له معرفة بعلم النجوم وغيره من علوم العرب. وقدم مرّةً على معاوية بن أبي سفيان فاختبره فوجده رجلًا كاملًا عالمًا، فقال: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سئول، وقلب عقول، وآفة العلم النسيان.
وحكى البلاذريى قال: دخل صبي من بني أسد سنّه سبع سنين على الرشيد ليعجب من فصاحته، فقال له الرشيد: ما تحبّ أن أهب لك؟ قال: جميل رأيك فإنّي أفوز به في الدّنيا والآخر، فأمر بدنانير ودراهم فوضعت بين يديه، فقال: إختر أحبّها إليك، فقال: أميرالمؤمنين أحبّ خلق الله إليّ وهذه من هاتين، وضرب بيده إلى الدنانير، فضحك منه الرشيد ووصله بمال وأمر أن يضم إلى ولده.
1 / 21