وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: السلاطة والجزالة.
وقال آخر: البلاغة التقرّب من البعيد والتباعد من الكلفة، والدلالة من القليل على الكثير.
ومن مختار قول الثعالبي في هذا الباب: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه وقلّ مجازه وكثر إعجازه وتناسبت صدوره وإعجازه.
وقال: ربّ كلام له حسن الوجوه الصباح، وسحر الحدق الملاح.
وقال في صفة البليغ: البليغ من يبلغ الأغراض البعيدة بالألفاظ القريبة.
وقيل: البليغ من إذا نطق طبق المفصل، وإذا كتب نسق الدر المفصل.
نبذة فيما ورد لبعضهم من الكلام البليغ قيل لأعرابي: إنّك لكذوب خوار، فقال: والله إنّي لأصدق من قطاة، وأصلب من صفاة.
وقال آخر: يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل.
وذكر أعرابي محلة قوم فقال: ارتحلت عنها ربّات الخدور، وأقامت بها رواحل القدور، ولقد كانوا يعفون آثار الرياح، فعفت آثارهم فذهبت بأبدانهم وبقت ديارهم، فالعهد قريب واللقاء بعيد.
ودعى آخر على رجل فقال: اللهمّ اجعل معيشته السؤال، ومنيته الهزال، ولبوسه العار، ومصيره إلى النّار، وأقلل عدده، وأفني مدده.
ودعت أعرابيّة على زوجها فقالت: ضربك الله بداء لا يكون له دواء إلاّ أبوال القطا.
وسُئِل أعرابي عن بلدين كم بينهما؟ قال: أديم يوم وعمر ليله.
ودخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح وعنده أخواله من بني الحرث ابن كعب، فقال: ما تقول يا خالد في أخوالي؟ فقال: هم هامة الشرف، وعرنين الكرم، إنّ فيهم خصالًا ما اجتمعت في غيرهم من قومهم، إنّهم لأطولهم أُممًا، وأضربهم قممًا، وأكرمهم شيمًا، وأطيبهم طعمًا، وأوفاهم ذممًا، وأبعدهم هممًا، هم الجمرة في الحرب، والرفد في الجدب، والرأس في كلّ خطب، وغيرهم بمنزلة العجب. فقال السفاح: لقد وصفت يابن صفوان فأحسنت، فزاد أخواله في الإفتخار، فغضب أبوالعباس لأعمامه فقال: أفخر يا خالد، قال: أو على أخوال أميرالمؤمنين؟ قال: وأنت من أعمامه، فقال: كيف أُفاخر قومًا هم بين ناسج برد وسائس قرد ودابغ جلد، دلّ عليهم هدهد وأغرقهم جرد وملكتهم أُم ولد، فتهلّل وجه أبي العباس. قال الجاحظ وقد ذكر كلام خالد هذا: والله لو فكّر في جميع معائبهم واحتضار اللفظ في مثالهم بعد ذلك المدح المهذّب حولًا كاملًا لكان قليلًا، فكيف وهو على بديهته لم يرض فكرًا ولم يجهد خاطرًا.
ومثله ما روي أنّه وفد على رسول الله ﵌ الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميان، فقال له الزبرقان: يا رسول الله أنا سيّد تميم المطاع فيهم والمجاب منهم، آخذ لهم الحق وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك منّي؛ يعني عمروًا، فقال: أجل يا رسول الله، إنّه لمانع لحوزته، مطاع في عشيرته. فقال الزبرقان: لقد علم أكثر ممّا قال، ولكنّه حسدني شرفي، فقال عمرو: أمّا لئن قال ذلك ما علمته إلاّ ضيق العطن، زمر المروّة، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى. فتبيّن الكراهة في وجه رسول الله لاختلاف قوله، فقال: يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت، وعضبت فقلت أقبح ما علمت، ولقد صدقت في الاُولى وما كذبت في الاُخرى. فقال النبي عند ذلك: إنّ من البيان لسحرًا، وإنّ من الشعر لحمة.
وتظلّم رجل إلى المأمون من عامل له، فقال: يا أميرالمؤمنين ما ترك لنا ذهبًا إلاّ ذهب به، ولا فضّة إلاّ فضّها، ولا غلّة إلاّ غلّها، ولا ضيعةً إلاّ أضاعها، ولا علقًا إلاّ علّقه، ولا عرضًا إلاّ عرض له، ولا ماشيةً إلاّ أمتشها، ولا جليلًا إلاّ أجلاه، ولا دقيقًا إلاّ دقّه، فعجب المأمون من فصاحته وكشف ظلامته.
وقال المنصور لمعن بن زائدة الشيباني: كبرت يا معن؟ قال: في طاعتك يا أميرالمؤمنين. قال: وإنّ فيك لبقيّة، قال: هي لك يا أميرالمؤمنين. قال: وإنّك لجلد، قال: على أعدائك يا أميرالمؤمنين. قال: أيّ الدولتين أحبّ إليك: دولتنا أم دولة بني أُميّة؟ قال: ذلك إليك؛ إن زاد إحسانك على إحسانهم فدولتك أحبّ إليّ وإن نقص عنه فدولتهم أخفّ عَلَيّ.
وقال المنصور لإسحاق بن مسلم: أفرطت في وفائك لبني أُميّة؟! فقال: يا أميرالمؤمنين من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى، قال: صدقت.
1 / 17