86

ويدعو الصمت كنديد إلى نفسه، وتشتعل لواعج الهوى في فؤاده، ويسرح ناظريه المولعين في كل ناحية، ويقبل شفاها ملتهبة وعيونا ندية، ويضع يده على كرات أبيض من المرمر، فترتد بحركة هذه الكرات العاجلة، ويعجب بنسبها، ويبصر براعم قرمزية مشابهة لبراعم الورد، التي لا تنتظر لتتفتح غير أشعة الشمس المحسنة، ويقبلها بوجد، ويبقى فمه لاصقا بها.

ويعجب فيلسوفنا حينا بقامة فارعة، بقامة هيفاء ناعمة، ويحرقه التوق، فيلقي منديله على حورية، لم يرتد طرفها عن هذا الذي يلوح أنه يقول لها: «علميني السبب في ارتباك لا عهد لي به»، والذي يحمر وجهه، إذ يريد قول هذا، فتبدو أكثر ملاحة ألف مرة، ويفتح الخصي من فوره باب غرفة خاصة بأسرار الغرام، ويدخلها العاشقان، ويقول الخصي لسيده: «ستكون سعيدا هنا»، ويجيب كنديد: «آه! هذا ما أرجو.»

وكان سقف هذه الغرفة الصغيرة وجدرانها مستورة بالمرايا، وكان يوجد في وسطها مضجع راحة من أطلس أسود، ويلقي كنديد عليه الفتاة الكرجية، ويعريها بسرعة لا تصدق، وتدعه هذه الغادة يفعل، ولم تقاطعه إلا لتمن عليه بقبلات حارة، وتقول له بتركية صحيحة: «سيدي، يا لسعادة أمتك! يا لإكرامها بهيجانك!» وتصف جميع اللغات قوة الإحساس في فم من هم مفعمون به، ويفتن هذا الكلام القليل فيلسوفنا، وعاد لا يعي عن وجد، وكان كل ما يرى غريبا عنه، ويا للفرق بين كونيغوند، التي سباها أبطال من البلغار واغتصبوها، والكرجية البالغة من العمر ثماني عشرة سنة من غير أن تغتصب! وكانت هذه أول مرة يتمتع بها الحكيم كنديد، وكان ما يلتهم ينعكس على المرايا، فيرى على الأطلس الأسود في كل جهة يلقي نظره عليها أجمل ما يمكن من الأجسام وأبيضها، فيكتسب بتضاد الألوان رونقا جديدا، ويشاهد فخذين راسختين سمينتين، وهبوط خصر عجيب، ويشاهد ... أراني ملزما باحترام ما تنطوي عليه لغتنا من حياء زائف، وأكتفي بقولي: إن فيلسوفنا ذاق غير مرة ما يمكن أن يذوق من نصيب في السعادة، وإن الفتاة الكرجية أصبحت في قليل زمن داعيه الكافي.

ويصرخ كنديد قائلا من غير وعي: «أي أستاذي، أي أستاذي العزيز بنغلوس، إن كل شيء حسن هنا، كما ورد في إلدورادو، والمرأة الحسناء وحدها هي التي تستطيع أن تقضي أوطار الرجل، وأراني سعيدا ما أمكن، والحق بجانب ليبنتز، وأنت فيلسوف عظيم، ومن ذلك أنني أراهن على كونك تميلين إلى التفاؤل، يا بنيتي المحبوبة.»

وتجيب البنية المحبوبة: «يا حسرتا! كلا، لا أدري ما التفاؤل، ولكنني أقسم لك، إن أمتك لم تعرف السعادة قبل هذا اليوم، وإذا كان مولاي يأذن لي، فإنني أقنعه بأن أقص عليه مغامراتي باختصار.»

فيقول كنديد: «أود ذلك، وأراني من الهدوء ما أستمع معه إلى رواية الأحاديث.»

وهنالك تتناول الأمة الحسناء الكلام، وتأخذ في قول ما يأتي.

الفصل السابع

قصة زيرزا

«كان أبي نصرانيا، وكنت نصرانية كما قال لي، وكان صاحبا لصومعة بالقرب من كوتاتيس، وكان يتمتع فيها باحترام المؤمنين لما عليه من ورع شديد، وتقشف تفزع منه الطبيعة، وكان النساء يأتين إليه جماعات لتكريمه، ويتلذذن تلذذا عجيبا بتبخير خلفه، الذي يبرح به كل يوم بضربات ترويض واسعة، ولا ريب في أنني مدينة بحياتي لواحدة من أتقى هؤلاء، وأنشأ في سرداب قريب من حجرة والدي، وأبلغ الثانية عشرة من سني قبل أن أخرج من هذا القبر، أي: قبل أن تزلزل الأرض مع دوي هائل، وتهبط قباب السرادب، وأنتشل من تحت الأنقاض، وأكون نصف ميتة، حينما رأت عيناي النور للمرة الأولى، ويؤويني والدي إلى صومعته كولد مقدر عليه، ويبدو هذا الحادث للناس أمرا عجيبا، ويعتمد أبي إلى المعجز، وكذلك الناس.» «ويطلق علي اسم زيرزا، ومعنى هذا الاسم في الفارسية «بنت القدرة الربانية»، ولم يلبث الناس أن تحدثوا عن مغرياتي الغالبة، وكان قد قل تردد النساء إلى الصومعة، وكان قد كثر مجيء الرجال إليها، ويقول لي أحد الرجال إنه يحبني، ويقول له أبي: «هل أنت أهل لأن تحبها أيها الفاجر؟ هي وديعة عندي من الرب، والرب قد ظهر لي هذه الليلة في صورة ناسك جليل، ونهاني عن التخلي عنها بأقل من ألفي دينار، فاخرج أيها السائل البائس، لكيلا يفسد نفسك الدنس فتونها»، ويجيب بقوله: «ليس عندي غير قلب، ولكن ألا تخجل أيها الغول من اتخاذ اسم الرب وسيلة لإشباع طمعك؟ وبأي وجه تجرؤ أيها اللئيم، على قولك: إن الرب كلمك؟ إن من إهانة خالق الناس أن يزعم تكليمه لأناس مثلك»، ويصرخ أبي قائلا عن غضب: «يا للتجديف! أمر الرب برجم المجدفين»، ويقتل أبي عاشقي التعس، وهو يقول هذا فيتفجر دمه على وجهي، ومع أنني كنت لا أعرف الغرام، فإن أمر هذا الرجل أهمني، فألقاني قتله في غم، بلغ من العظم ما جعلني لا أطيق النظر إلى أبي، فعزمت على تركه، فأدرك ذلك، وقال لي: «أيتها الكنود، أنت مدينة لي بوجودك، أنت ابنتي ... ثم تكرهينني، ولكني سأستحق حقدك بأشد ما تعاملين به»، ويعمل الظالم بقوله عملا وثيقا! وما كانت السنون الخمس التي قضيتها باكية نائحة، وما كان شبابي وجمالي الكابي لتذهب غضبه، فتارة كان يغرز ألوف الدبابيس في جميع أجزاء بدني، وتارة كان يغمر أليي بالدم وفق نظامه.»

Shafi da ba'a sani ba