ويقول كنديد: «كان هذا أقل إيلاما من الدبابيس.»
وتقول زيرزا: «حقا يا سيدي، وأخيرا هربت من منزل أبي، وإذ لم أبح لنفسي الاعتماد على أحد، فقد أوغلت في الغاب، حيث قضيت ثلاثة أيام بلا طعام، وكنت أموت جوعا، لولا متنمر كان لي شرف نيل حظوة لديه، فيقاسمني صيده، ولكنني كنت شديدة الخوف من هذا الوحش الهائل، الذي كاد ذات مرة أن يسلبني الزهرة التي اغتصبها مولاي بمشقة كثيرة ولذة كبيرة، وأصاب بداء الحفر عن سوء تغذية، ولم أكد أشفى منه، حتى اتبعت نخاسا مسافرا إلى تفليس، حيث كان يوجد طاعون فأصاب به، وما كانت هذه المصائب الكثيرة لتؤثر في ملامحي مطلقا، وما كانت لتمنع خولي الصفوي من شرائي؛ لتتمتع بي، وقد ضنيت في الدموع منذ ثلاثة أشهر، أي: منذ غدوت في عداد نسائك، وكان يخيل إلي وإلى رفيقاتي أننا محل ازدرائك. آه! لو كنت تعرف يا سيدي، مقدار ما عليه الخصيان من إغاظة وعدم صلاح لتسلية من يزدرى من الفتيات ...» «والخلاصة هي: أنني لما أبلغ الثامنة عشرة من سني، وأنني قضيت اثنتي عشرة سنة منها في سجن كريه مظلم، وأنني عانيت زلزلة، وأنني غمرت بدم أول رجل محبوب لاقيته، وأنني كابدت أقسى العذاب في أربع سنين، وأنني أصبت بداء الحفر وبالطاعون، وقد ضنيت بالأماني بين كتيبة من الغيلان السود والبيض، محافظة - دائما - على ما كنت قد أنقذت من صولات متنمر غير ماهر، لاعنة مصيري، وقد قضيت في هذا القصر ثلاثة أشهر، وكدت أموت من اليرقان لو لم تشرفني - يا صاحب السعادة - بعناقك.»
ويقول كنديد: «رباه! أمن الممكن أن تكوني قد لاقيت مصائب هائلة كهذه في مثل عمرك الناضر؟ وماذا كان يقول بنغلوس لو استطاع أن يسمعك؟ غير أن مصائبك قد انقضت كمصائبي، ولا تسير الأمور سيئة الآن، أليس هذا صحيحا؟» يقول كنديد هذا، مستأنفا ملامساته، مستمسكا بمذهب بنغلوس مقدارا فمقدارا.
الفصل الثامن
اشمئزاز كنديد، لقاء غير منتظر
كان فيلسوفنا في سواء سرايه يقسم ألطافه بالتساوي، فيتمتع بملاذ التقلب، ويعود دائما إلى «بنت القدرة الربانية» مع حرارة جديدة، ولم يدم هذا، فهو لم يلبث أن شعر بأوجاع شديدة في الخصر وبمغص أليم، فكان ينحل إذ يصير سعيدا، وهنالك لم يبد له جيد زيرزا أبيض حسن الوضع، ولم تبد ألياها له جاسئتين ولا سمينتين، وتفقد عيناها كل لمعان في نظر كنديد، وتظهر ملامحها له أقل جمالا، وتظهر له شفتاها القانيتان الفاتنتان ذاويتين، ويحس أنها لا تمشي جيدا، وأنها سيئة الرائحة، ويبصر مشمئزا، أنها ذات شامة على جبل زهرة لم يرها من قبل، وتصبح صولات هواها مزعجة، ويلاحظ ببرودة معايب في النساء الأخرى كانت قد فاتته في صولات هواه الأولى، فلا يرى فيهن غير دعارة شائنة، ويستحي من سيره على غرار أحكم الناس، «فيجده أشد مرارة من موت الزوجة.»
وكان كنديد - المحافظ على المشاعر النصرانية دائما - يتنزه في شوارع سوس حين فراغه، وإليك فارسا لابسا ثيابا فاخرة يعانقه معانقة حارة، وهو يناديه باسمه، فيقول كنديد بصوت عال: «أهذا ممكن؟ أأنت سيدي؟ ... هذا غير ممكن، ومع ذلك فإنك تشابه - مشابهة قوية - الكاهن البريغوري.»
ويجيب البريغوري: «أجل، أنا بعيني.»
وهنالك يتأخر كنديد ثلاث خطوات، ويقول بسذاجة: «أأنت سعيد يا سيدي الكاهن؟»
ويجيب البريغوري: «سؤال جميل، إن الخداع القليل الذي صنعته معك لم يؤد إلى غير جعلي محل اعتماد، فقد استخدمتني الشرطة بعض الزمن، ولكن بما أنني اختلفت معها، فقد خلعت الثوب الإكليريكي، الذي عاد غير نافع لي، وقد مررت بإنكلترة، حيث يجزل عطاء رجال حرفتي، وقد حدثت عن كل ما أعرف وما لا أعرف، وتكلمت عن قوة البلد الذي هجرت وضعفه، وقد قلت موكدا على الخصوص: إن الفرنسيين حثالة الأمم، وإن العقل الرشيد لا يتجلى في غير لندن، وأخيرا نلت ثراء، وأتيت هنا لعقد معاهدة في بلاط فارس تهدف إلى استئصال جميع الأوروبيين، الذين يجيئون للبحث عن القطن والحرير في ممالك الصفوي إضرارا بإنكلترة.»
Shafi da ba'a sani ba