وكانت رسالته إلى عمان أشبه الرسائل به وأولاها بانتدابه؛ لأنها كانت مجالا مستجمعا لكل ما فطر عليه من اللباقة والدهاء والجرأة وحب الرئاسة والثراء.
كتب النبي - عليه السلام - إلى جيفر وعباد ابني الجلندي كتابا يدعوهما فيه إلى الإسلام، قال فيه بعد السلام على من اتبع الهدى: «أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما ...»
فحمل الكتاب عمرو بن العاص، وكان عند ظن النبي به في مقدرته ودهائه، فبدأ بأصغر الأخوين عباد؛ لأنه لم يكن على ولاية الملك، فهو أقرب إلى حسن الإصغاء فاحتفى به وأصغى إليه، ووعده أن يوصله إلى أخيه ويمهد له عنده.
ثم لقي جيفرا فإذا هو أصعب مراسا من عباد؛ فطفق يسأل عمرا عن نفسه وعن أبيه: هل أسلم من قبله أو مات على غير الإسلام؟ وسأله عما صنعت قريش فلخص له موقفها أوقع تلخيص حيث قال: «إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف ...» ثم عقب كلام وجيز فيه وعد ووعيد، فقال له: «وأنت، إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، فأسلم تسلم فيوليك على قومك، وتبقى على ملكك مع الإسلام، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، وفي هذا ومع سعادة الدارين راحة من القتال.»
وأتبع هذا الوعيد بما يوائمه من قلة الاكتراث لجيفر حين لج هذا في عناده، وأعلنه بلقاء المسلمين دون أرضه وصدهم عن حوزة ملكه، فانصرف وقد ألقى في روع عباد ما ألقى، فإذا بعباد قد أتم له ما بدأه من النذير والنصيحة، وإذا بالأخوين ومن تبعهما مستجيبون للإسلام.
وكان جزاء عمرو على هذا التوفيق أن عقد له النبي ولاية الزكاة، يأخذها من الأغنياء ويفرقها على الفقراء، وهو عمل حبيب إلى طبعه لما فيه من تدبير المال ومشابهة للمهمة التي تولاها زعماء بني سهم في الجاهلية، وله منها نصيب يرضيه؛ لأن الزكاة كما نص القرآن الكريم في الصدقات:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل [التوبة: 60].
فله منها نصيب العاملين ... •••
فإذا كان النبي - عليه السلام - قد اختاره لتلك المهام المرتبة، فإنما اختاره وهو يعرف من اختار، ولم تكن مرضاته كل ما توخاه - عليه السلام - بل هي مرضاته من طريق الخير لجميع المسلمين.
وقد أبقاه - عليه السلام - على ولاية الصدقة حتى توفاه الله، فلم يشأ أبو بكر - رضي الله عنه - أن يعزله عنها إلا برأيه ومرضاته؛ إيثارا للسنة التي التزمها من إقرار كل ما أقره النبي - عليه السلام - في حياته، وألا يحل عقالا عقله رسول الله
Shafi da ba'a sani ba