صلى الله عليه وسلم ، ولا يعقل عقالا لم يعقله، كما أوصى عمرا نفسه يوم أبلغه نعي النبي الكريم.
ولم ير عمرو قط في حزن كالحزن الذي غمره يوم ورد إليه ذلك الكتاب فبكى طويلا، وجلس يتلقى العزاء كما يتلقاه في أقرب الناس إليه.
ثم جاءت حروب الردة، فكان موقفه منها الموقف المنتظر من مثله كيفما نظرنا إلى أسباب تلك الحروب، فقد كانت ثورة الإسلام وثورة من البادية على الحاضرة، وثورة من القبائل على قريش، وثورة على الزكاة من فرائض الدين خاصة ... وإن أحق الناس أن يبغض تلك الردة لهو عمرو المسلم القرشي العامل على الزكاة.
فلما كان في طريقه من عمان إلى المدينة، نزل ببني عامر، فإذا بزعيمها قرة بن هبيرة يهم بالردة ويقول له : «يا عمرو! إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة، فإن أعفيتموها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم.» فلم تأخذه في الأمر هوادة، بل اشتد فيه كما اشتد أبو بكر، وصاح بزعيم بني عامر: «ويحك! أكفرت يا قرة؟ تخوفنا بردة العرب! فوالله لأوطئن عليك الخيل في حفش أمك.» أي: في خبائها!
ثم أبى إلا أن ينبئ الخليفة بما سمع من قرة، غير مبق منه بقية يسترها مخافة عليه، فلما جيء بالرجل مأسورا وانطلق عمرو يروي ما سمع منه، ووصل إلى ذكر الزكاة صاح به الرجل: مهلا يا عمرو، فقال: كلا والله! لأخبرنه بجميعه.
وكان هذا الموقف منه أول ما استحق به الثقة والرعاية في عهد الخلافة. •••
وواقع الأمر أن ثقة الخليفة الأول كانت مكفولة لكل من تولى عملا للنبي - عليه السلام - ومات النبي وهو راض عنه.
فلما وقف عمرو من حروب الردة ذلك الموقف الذي حمده أبو بكر خاصة، لاشتداده في قمع هذه الحركة الخبيثة، أصبح عمرو من أقرب المقربين في العهد الجديد، ونظر أبو بكر فيمن حوله يوليه حرب قضاعة، فلم ير أمامه خيرا من صاحبه عمرو، وقد تولى حربها قبل ذلك في عهد النبي، وكان الخليفة الأول يومئذ من جنوده ... فأبلى في تأديب قضاعة أحسن بلاء ولم يرجع عنها إلا وقد سلمت بحق الزكاة وثابت إلى شرعة الإسلام.
والظاهر من بعض الروايات أن عمرا تولى لأبي بكر أعمالا أخرى تدل على ثقة الخليفة به واعتماده عليه، ففي رواية الحافظ أبي عبد الله شمس الدين محمد الذهبي أنه «قدم دمشق رسولا من أبي بكر إلى هرقل.» ويغلب على الظن - إن صح نبأ هذه الرسالة - أنه إنما أوفد من قبل الخليفة لاستطلاع حال العرب في طريق الشام، مستنفرا إياهم إلى حرب الروم إذا وقع المتوقع من الحرب بينهم وبين المسلمين، فذلك أشبه المهام بما يندب له عمرو بن العاص، وليس في تواريخ الإفرنج أو العرب ما يعزز نبأ رسالة من الرسائل حملها إلى هرقل من أبي بكر الصديق.
ثم ترامت أخبار الأهبة الكبيرة التي تأهب بها هرقل للقضاء على الدولة الإسلامية في نشأتها، ونمى إلى الخليفة أنه جمع مائة ألف أو يزيدون على مقربة من حدود فلسطين، فجرد جيشا من ثقات المسلمين الذين لم يختلط بهم في بادئ الأمر أحد من أهل الردة، وعقد لواءه لخالد بن سعيد بن العاص - أخي عمرو لأمه - وأمره أن يستعين بالعرب في طريقه، وأن ينزل بتيماء مترقبا لا يبرح مكانه إلا بإذنه ولا يقاتل إلا من بدأ بقتاله، ولعله أراد بتجريد هذا الجيش تأمين الطريق من انتقاض أهل البادية حينما سمعوا بتحفز الروم للهجوم على بلاد المسلمين، ثم استطلاع الخبر وتعويق حركة الروم حتى يجمع لهم كفايتهم من الجند والقواد.
Shafi da ba'a sani ba