2
وقد تكون خالقا ساعة تجعل المخيلة ترى ما لا يرى، وتنظم القرطاس أفقا مفعما بالكائنات الجميلة، وتصبح سحرا يصير الغائب حاضرا والعدم وجودا.
إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد، وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالم ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي ... فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي ... إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.
إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينا وإصلاحا؛ ذلك لأن الكتابة - التي يراها الكثيرون مسألة هينة - أكثر الفنون دقة وعسرا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله؛ لأن نفسه تفيض به وتحثه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموجها وتحنيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسر تملص من القواعد والنصوص وترفع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة، وهو كل مقدرة الكاتب أو كل ضعفه.
فإثباتها الصمت للحكم والعمق لليل والنبضان للحياة والأنين للشكوى والرنين للظفر والولولة للألفاظ والتموج للنفس، وقولها: إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير ولا بالصغير، وإنه قد يكون بين سطور الكاتب لهب خفي ينشر بينها أشباح النور والظلام، وإن البعض يستطيعون أن يرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها والشفاه وحدود ثناياها والآفاق واتساعها اللانهائي وأنه لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد يتفق مع ذاتيته، ثم قولها: «إن من يحاول الوصول إلى هذا الأسلوب محاولة يهوي في دركات التصنع والتكلف وتتعثر قدماه وقلمه بذيول الزوائد والحواشي الحاضرة بين المتداولات، كالحلوى على أطباق حلواني العيد، أو يداهمه مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئه الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن.» كل ذلك من المعاني التي تكاد تكون مبتكرة في العربية. وقد أيدتها بأقوال أعظم شاعر فرنساوي وأكبر فيلسوف يوناني.
حسبي هذا الشاهد من فصولها للدلالة على بلاغتها في التعبير عما في نفسها وعلى ابتكارها المعاني وإفراغها في قوالب جديدة واستعارات أنيقة وإلا لزمني أن أنقل أكثرها ما كتبته تمهيدا وتعليقا وشرحا وتفصيلا. فهل قرأت كتب مشاهير الكتاب في أوسع اللغات الأوروبية التي تحسنها فرسخ في ذهنها كثير من أساليبهم وتخيلاتهم التي لم نألفها، أو نشأت نسيج وحدها نظرها يخترق حجب الغيب وجواهر الهيولى فيرى فيها ويؤلف منها بدائع الصور ونفائس التراكيب ، أو هي مجموعة من الاثنين الخلقي والمكتسب. قريحة وقادة تختلق الصور كما تشاء، وعقل مستقل يكره القيود إلا ما وقع عليه الإجماع، وذاكرة كثيرة الحفظ سريعة الاستحضار تسابق قلمها إلى تصور ما يتخيله ذهنها مبتكرا كان أو مقتبسا. •••
وإني أعد الساعة التي اقترحت فيها على الآنسة ماري زيادة أن تجول في هذا المضمار من أسعد الساعات التي مرت في حياتي. وبهذه الكليمات أقدم كتابها إلى القراء.
يعقوب صروف
باحثة البادية
هي ملك هانم، كريمة اللغوي المحقق المرحوم حفني بك ناصف الذي شغل المناصب العالية في وزارة المعارف والقضاء. ولدت بالقاهرة يوم الاثنين من شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1886، وتلقت مبادئ العلوم في مدارس أولية (مكاتب) مختلفة، ثم دخلت المدرسة السنية في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1893، وحصلت منها على الشهادة الابتدائية سنة 1900، وهي أول سنة تقدمت فيها الفتيات المصريات لأداء الامتحان للحصول على تلك الشهادة. ثم انتقلت إلى القسم العالي في المدرسة المذكورة وحصلت على الشهادة العالية (دبلوم) سنة 1903. واشتغلت بعد ذلك بالتعليم في مدارس البنات الأميرية.
Shafi da ba'a sani ba