مقدمة
باحثة البادية
1 - كيف عرفتها
2 - المرأة
3 - المسلمة
4 - المصرية
5 - الكاتبة
6 - الناقدة
7 - المصلحة
8 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما
9 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما (تابع وخاتمة)
10 - بين كاتبتين1
11 - مرثاة باحثة البادية1
12 - تأثير باحثة البادية
13 - تأبين باحثة البادية1
مقدمة
باحثة البادية
1 - كيف عرفتها
2 - المرأة
3 - المسلمة
4 - المصرية
5 - الكاتبة
6 - الناقدة
7 - المصلحة
8 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما
9 - قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما (تابع وخاتمة)
10 - بين كاتبتين1
11 - مرثاة باحثة البادية1
12 - تأثير باحثة البادية
13 - تأبين باحثة البادية1
باحثة البادية
باحثة البادية
تأليف
مي زيادة
مقدمة
لما اقترحت على كاتبة الفصول التالية
1
أن تتحف «المقتطف» بخلاصة ما كانت باحثة البادية تنادي به لم أنتظر أنها تعنى بقراءة كل ما كتبته الباحثة وما يضارعه مما كتبه قاسم بك أمين، وتعرض خلاصة ذلك للقراء على صورة تختلب الألباب بحسن بيانها وبديع انتساقها وقوة حجتها، وتكون نموذجا جديدا للنقد في العربية بالأسلوب الذي جرت عليه؛ فإنها مهدت لكل فصل من هذه الفصول وختمته وعلقت عليه من آرائها الخاصة وأقوال أئمة الكتاب بما يدل على واسع علمها وبعد نظرها، وعلى أنها جارت أكتب الكتاب الأوروبيين في هذا النوع من البحث والانتقاد. ولا أتذكر أنني رأيت حتى الساعة من ضارعها فيه من كتاب العربية ولا من فاقها من الأوروبيين. والظاهر أن هذا رأي كثيرين غيري، حتى اقترحوا عليها جمع هذه الفصول وطبعها على حدة، ففعلت وأضافت إليها كثيرا مما له علاقة بهذا الموضوع.
وبعد، فليس غرضي من هذه السطور التنويه بكاتبة هذا الكتاب؛ لأن القراء يعرفونها كما أعرفها، بل إبداء رأيي في كتاب أخرجته للناس ناظرا إليه من أربعة أوجه: وهي الأسلوب والإحاطة والتعليق واللغة. وسأكتفي بالإشارة الطفيفة إلى كل وجه منها، وإلا لزمني أن أنشئ على الكتاب كتابا أوسع منه إن استطعت. (1) الأسلوب:
أسلوب الكاتبة في هذه الفصول غاية في الإحكام؛ انظر إلى التمهيد الذي عقدت له الفصل الأول والثاني، فعرفت القراء بنفسها وبباحثة البادية وبما بينهما من الرابطة الأدبية. ثم تدرجت إلى التفصيل فوصفت وجه الباحثة وعقلها وأسلوبها في الكتابة. صورتها لعين القارئ كما كانت تراها بكل معانيها، حتى يحسب من يقرأ ما اقتبسته من أقوالها أنه يسمع شخصا يكلمه بصوته الحي ويعرف هويته وأمياله. وجرت على هذا الأسلوب في كل فصل من هذه الفصول؛ فإنها مهدت له تمهيدا فلسفيا حسب موضوعه؛ لتتدرج بالقارئ إليه وتعد انتباهه إلى ما فيه من رأي أو انتقاد أو نصح أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر. ثم نثرت أقوال الباحثة المرتبطة بموضوع ذلك الفصل وشرحتها وعلقت عليها ما يزيدها بيانا أو يزيل ما فيها من شبهة أو يخالفها فيما ترى مخالفتها فيه. ولما استطردت إلى المقابلة بينها وبين قاسم بك أمين، جرت على هذا الأسلوب عينه في الفصلين اللذين عقدتهما لذلك. ولعلها أنصفت قاسم بك أمين مثل أعز أصدقائه الذين كتبوا عنه. وما غرضها إلا إنصاف الموضوع الذي تكتب فيه والغاية التي ترمي إليها وهي إصلاح شأن المرأة. (2) الإحاطة:
وأي إحاطة فإنها بحثت فيما كتبته باحثة البادية كامرأة مسلمة مصرية كاتبة نافذة مصلحة. ومن الغريب أن عقلها الجامع البحاث أشار إلى هذه الصفات كلها قبلما كتبت سطرا من هذه الفصول، كأنها نظرت بعين بصيرتها إلى كل ما كتبته باحثة البادية فرأتها تتجلى فيه بصفاتها المذكورة آنفا، فلم يتعذر عليها أن تستخلص منه حقائق كثيرة أيدت نظرها. أحاطت بالموضوع من كل جهاته وعززته بآراء الباحثة وأقوالها وبما مهدته لها وعلقته عليها. ولا نظن أنها تركت زيادة لمستزيد. وكل من عانى البحث في مؤلفات الغير المتشعبة الشئون يعلم ما في الإحاطة بمناحيها من المشقة. ومن من الكتاب لا يود أن يتاح له مثل الآنسة مي تحيط بما تكتبه وتشرحه وتعلق عليه تعليق إنصاف ولو كان انتقادا، ولكن هيهات؛ فإني لم أر حتى الساعة كتابا مثل هذا في العربية. (3) التعليق:
هذا في نظري من أبلغ ما كتبته الآنسة مي؛ فإن مدركات العقل مهما كثرت لا تفيض بقوتها وغناها ومجدها إلا لدى احتكاكه بعقل آخر مضاه له، حينئذ تتنبه النفس إلى ما خزنته من المعارف وما وصل إليها بالإرث من الآباء والجدود ، وتنهض القوة الناطقة: قوة الاستحضار والتمثيل والقياس، وتنهض البداهة وتنبه المبدأ الفياض إلى سرد الأمثلة والأدلة وإقامة البراهين الخطابية والمنطقية وتأييدها بالحقائق العلمية والمسلمات العرفية والشواهد الاجتماعية. وهذا كله ظاهر في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب. فهو كتابان: كتاب باحثة البادية أو خلاصة ما كتبته في موضوع النساء، وكتاب الآنسة مي الذي جمعت فيه هذه الخلاصة وشرحتها وعززتها وعلقت عليها زبدة معارفها الواسعة، وختمته بالمقابلة بين باحثة البادية وقاسم بك أمين. وألحقت به ما دار بينها وبين باحثة البادية من المراسلات. والكتابان والخاتمة في موضوع واحد هو أهم المواضيع الاجتماعية في هذا القطر، ألا وهو المرأة المصرية وكيف تصلح شئونها فتصلح بها البلاد. (4) اللغة:
اللغة معربة، خاصة بالكاتبة في أسلوبها، دالة على ذاتيتها. وكذا تكون لغات كبار الكتاب. يرى القارئ لأول وهلة أن الكاتبة خرجت عن مألوف كتابنا الأقدمين والمحدثين في كثير من أنواع المجاز والتعابير، كأن قريحتها الوقادة رقت بها فوق مألوف العادات وعقلها المبتكر حلق بها في سماء الخيال شأن كل نابغة في عصره؛ فإنه يكثر الابتكار ويكره التقليد.
وإذا كان بعض استعاراتها مقتبسا من لغات أوروبية فذلك ليس بدعة في العربية، ولا هي أول من فعل ذلك، بل قد سبقها إليه جماعة من أساطين الكتاب، مثل الجاحظ والصابي وابن المقفع وابن خلدون، فزادوا في غنى العربية بما أضافوه إليها.
وهذا شأن كل الذين ابتكروا لغاتهم، مثل كارليل ولورد أفبري وفيكتور هيغو ولامرتين ومثل الكتاب الرومان الذين كانوا يحسنون اليونانية قبلما يكتبون لغتهم. وإدخال الجديد في اللغة ضروري لحياتها وإلا انحطت وتلاشت شأن الأسر التي لا يتزوج أعضاؤها إلا في بعضهم.
وإلى القارئ مثلا واحدا مما كتبته في وصف باحثة البادية ككاتبة، حيث قالت:
وما حاجتي إلى الكلام عنها كاتبة؟! إننا لو ضربنا صفحا عن شهادة من شهد لها بالمقدرة الكتابية، مكتفين بما ورد من أقوالها في الفصول الماضية، لأثبنا على الورق ما قد سبق وقرره حكمنا الصامت، وهو أنها كاتبة كبيرة. يطلق الناس عادة اسم «الكاتب الكبير» على من كتب كثيرا، وهم في ذلك مخطئون؛ إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير حتى ولا بالصغير؛ لأنه ليس كاتبا على الإطلاق؛ إنه ينقصه ما يسميه الإفرنج «قماش الكاتب»؛ أي السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة ويعلم اليد صياغة الجملة الملائمة. وينقصه خصوصا ذلك اللهيب الخفي الذي ينشر بين السطور أشباح النور والظلام.
ما هي الكلمة؟
الكلمة التي تعين الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه، والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار وتولول طورا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينا همسا عجيبا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟
قال فيكتور هوغو أن الكلمة كائن حي،
2
وقد تكون خالقا ساعة تجعل المخيلة ترى ما لا يرى، وتنظم القرطاس أفقا مفعما بالكائنات الجميلة، وتصبح سحرا يصير الغائب حاضرا والعدم وجودا.
إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد، وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالم ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي ... فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي ... إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.
إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينا وإصلاحا؛ ذلك لأن الكتابة - التي يراها الكثيرون مسألة هينة - أكثر الفنون دقة وعسرا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله؛ لأن نفسه تفيض به وتحثه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموجها وتحنيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسر تملص من القواعد والنصوص وترفع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة، وهو كل مقدرة الكاتب أو كل ضعفه.
فإثباتها الصمت للحكم والعمق لليل والنبضان للحياة والأنين للشكوى والرنين للظفر والولولة للألفاظ والتموج للنفس، وقولها: إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير ولا بالصغير، وإنه قد يكون بين سطور الكاتب لهب خفي ينشر بينها أشباح النور والظلام، وإن البعض يستطيعون أن يرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها والشفاه وحدود ثناياها والآفاق واتساعها اللانهائي وأنه لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد يتفق مع ذاتيته، ثم قولها: «إن من يحاول الوصول إلى هذا الأسلوب محاولة يهوي في دركات التصنع والتكلف وتتعثر قدماه وقلمه بذيول الزوائد والحواشي الحاضرة بين المتداولات، كالحلوى على أطباق حلواني العيد، أو يداهمه مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئه الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن.» كل ذلك من المعاني التي تكاد تكون مبتكرة في العربية. وقد أيدتها بأقوال أعظم شاعر فرنساوي وأكبر فيلسوف يوناني.
حسبي هذا الشاهد من فصولها للدلالة على بلاغتها في التعبير عما في نفسها وعلى ابتكارها المعاني وإفراغها في قوالب جديدة واستعارات أنيقة وإلا لزمني أن أنقل أكثرها ما كتبته تمهيدا وتعليقا وشرحا وتفصيلا. فهل قرأت كتب مشاهير الكتاب في أوسع اللغات الأوروبية التي تحسنها فرسخ في ذهنها كثير من أساليبهم وتخيلاتهم التي لم نألفها، أو نشأت نسيج وحدها نظرها يخترق حجب الغيب وجواهر الهيولى فيرى فيها ويؤلف منها بدائع الصور ونفائس التراكيب ، أو هي مجموعة من الاثنين الخلقي والمكتسب. قريحة وقادة تختلق الصور كما تشاء، وعقل مستقل يكره القيود إلا ما وقع عليه الإجماع، وذاكرة كثيرة الحفظ سريعة الاستحضار تسابق قلمها إلى تصور ما يتخيله ذهنها مبتكرا كان أو مقتبسا. •••
وإني أعد الساعة التي اقترحت فيها على الآنسة ماري زيادة أن تجول في هذا المضمار من أسعد الساعات التي مرت في حياتي. وبهذه الكليمات أقدم كتابها إلى القراء.
يعقوب صروف
باحثة البادية
هي ملك هانم، كريمة اللغوي المحقق المرحوم حفني بك ناصف الذي شغل المناصب العالية في وزارة المعارف والقضاء. ولدت بالقاهرة يوم الاثنين من شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1886، وتلقت مبادئ العلوم في مدارس أولية (مكاتب) مختلفة، ثم دخلت المدرسة السنية في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1893، وحصلت منها على الشهادة الابتدائية سنة 1900، وهي أول سنة تقدمت فيها الفتيات المصريات لأداء الامتحان للحصول على تلك الشهادة. ثم انتقلت إلى القسم العالي في المدرسة المذكورة وحصلت على الشهادة العالية (دبلوم) سنة 1903. واشتغلت بعد ذلك بالتعليم في مدارس البنات الأميرية.
وفي 28 آذار (مارس) سنة 1907 اقترن بها صاحب السعادة العربي الصميم عبد الستار بك الباسل وجيه قبيلة الرماح بالفيوم.
وتوفيت بالحمى الإسبانيولية في القاهرة ليلة الخميس 17 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1918.
الفصل الأول
كيف عرفتها
في مثل هذا الشهر كانون الثاني (يناير) منذ سنوات خمس اجتمعت بباحثة البادية للمرة الأولى. كانت تقضي فصل الشتاء في حلوان، وقد دعتني إليها على غير معرفة سابقة سوى معرفة القلم، بعد أن تبادلت وإياها بعض الرسائل في الصحف السيارة. دعتني على أثر رثائي ساعة فقدتها يومئذ فكتبت تقول: «إني وجدت ساعتك المفقودة والتقطتها. رأيتك ترثينها بحرقة فجئت لأمسح دموعك؛ لأني أحب دائما أن أمسح دمعة المحزون. تعالي إلي لتأخذيها؛ فإنها أحست بشوقي لرؤيتك فأتت تقدمة لمجيئك وتعارفنا. عثرت علي وعثرت عليها لنؤكد لك أنك وجدت الصديقة التي لا تخون.»
1
ترى ما الذي دفعها إلى ذلك؟ أهي النفس العلمية التي لا يفوتها سر من الأسرار ذكرت أنه قدر علي أن أحمل القلم يوما لأبكي المرأة الجذابة وأستخرج أمثولة من كتابات المرأة الخالدة؟
ذهبت إليها والشفق يضرم ناره في قلب الأفق والسحب قد انقلبت هنا لهيبا، وهناك أنوارا، وهنالك ألوانا. أي نفس لا ترتعش اغتباطا أمام جلال الغروب؟! والغروب في مصر أبرع جمالا منه في أي قطر آخر، وهو يبرز على أبدع ما يكون للسائر في قطار حلوان، مشهد رائع لا ينساه حياته من رآه مرة واحدة، فيه تبدو الأهرام كأنها ما تحجر من فؤاد الأيام وبعدها في أطراف الأفق يكسبها جمالا غريبا شفافا كجمال الأحلام.
على أن اغتباطي بمنظر الغروب في ذياك المساء لم يكن ليلهيني عما ينتظرني من جديد، ولا ليحبس عن ذهني أسئلة تتعاقب على فكر المرء قبيل اجتماعه بشخص غريب. إنما نحن نميل إلى الغريب ونميل عنه في آن واحد. وإذا دنت لحظة موعد ضرب بينه وبيننا للمرة الأولى فإننا لا ننفك متسائلين على غير إرادة (وغالبا على غير معرفة) منا: «ترى كيف هو؟ على أي قرار يوقع نغمة صوته، وإلى أي الألوان يقرب لون عينيه؟ كيف يبتسم ويتكلم ويتحرك؟ بل كيف يفتكر، وأي الأفكار متغلب عليه، وعلى أي الأساليب تتكون الفكرة في خاطره؟ ترى هل يتفاهم منا الروحان بلغتهما المختلفة عن لغة الشفاه الإصلاحية، أم نحن الساعة ملتقيان ليعلم كل منا أننا لسنا من وطن معنوي واحد، وأن بين مزاجينا هوة لا يزيدها التعارف إلا اتساعا؟»
أسئلة إنما ينحصر الجواب عنها جميعا في النظرة الأولى التي يتبادلها الغريبان، رجلين كانا أو امرأتين أو رجلا وامرأة، أو خادما ومخدوما، أو نظيرا ونظيرا، أو كبيرا وصغيرا. وتلك النظرة تسفر دائما عن إحدى عاطفتين اثنتين تتفاوت من كل منهما الدرجات: فإما انجذاب وإما تقلص، والانجذاب ميل والتقلص نفور.
كنت أتدرج من هذه الأسئلة إلى غامض المعاني التي يحاول علماء النفس استكناهها وأردفها بهذا السؤال الواضح: «أهذه المرأة التي سأصافحها بعد هنيهة هي الباحثة التي تنشر على الناس أفكارها، أم صدق الزاعمون أن ليس لها من فصولها إلا التوقيع كما هي الحال عند بعض السيدات الشرقيات اللاتي تعمدن التظاهر بالتفكير والتحبير؟»
والجواب عن مثل هذا السؤال قد يظهر في نظرة واحدة أو بسمة، أو حركة يأتيها الغريب فيستجلي منها اللبيب حياة ذلك الغريب وقواه الخفية وما يمكنه القيام به من الأعمال. هذا على شرط أن يكون الاثنان من درجة معنوية واحدة أو
Attuned
كما يقول الإنجليز. •••
وصلت إليها وقد تزركش رداء الليل بوشي الكواكب، ثم نشرت في الغد وصف زيارتي في إحدى الصحف الفرنساوية
2
فأستعين الآن ببعض ما جاء في ذلك المقال؛ لأني كتبته تحت تأثير المقابلة الأولى. وهاك وصف غرفة الاستقبال:
قضينا ساعة ونيفا في غرفة الاستقبال، واللون المتغلب في تلك الغرفة هو الأحمر العقيقي، تتخلله نقوش خضراء فستقية ومزيج ألوان أخرى تبدو واهية الخطوط تحت نور الكهرباء. ولم يكن ثمة ما يخبر عن عبوس الحجاب الإسلامي في تلك «الفيلا» الأوروبية، بين أثاث دقيق الصنعة ومقاعد فصلت على أحدث طرز، مع ما نشر على الطاولات النحيفة القوائم من الأشياء الفنية الصغيرة التي لا اسم لها وهي من صنع عمال المغرب أو من قلدهم من عمال المشرق الحاذقين.
كان هتافها الأول هتاف ترحيب وكلمتها الأخيرة كلمة حب. واستغرقت الوقت بين طرفي الزيارة مناقشة ودية في بعض ما عالجته الباحثة من الموضوعات كتعليم البنات، والحجاب، والسفور، وكانت تحدثني بصوت أغن الرنين تملؤه لهجة الواثق مما يقول، المعتقد بصلاح فكره، العالم أن آراءه مفيدة كل الفائدة لو كان لها الناس تابعين. وإذا وجدت الكلمة العامية ركيكة إذا ما عبر بها عن بعض المعاني، استعملت الكلمة اللغوية مكانها بنطق عربي فصيح مستشهدة بأبيات شهيرة وحكم سائرة تعزيزا لآرائها، وعلى وجهها هيئة المحقق الجاد وفي عينيها نظرة بعيدة. وإذ نحن على هذه الحال إذا بقريبة لها قد هبطت علينا من الصعيد على غير انتظار. وكانت باحثة البادية سبقت وقالت لي حين وصولي: «رغب بعض صديقاتي في المجيء للتعرف بك، على أني أردت أن نكون وحدنا في اجتماعنا الأول.»
ولكنها لم تبد انزعاجا بل ظهر السرور في وجهها وتحولت المرأة المفكرة دفعة واحدة امرأة ضحاكة كأنما لم تكن هي التي كانت منذ هنيهة تستشهد بالمعري والمتنبي. وقد ذكرت ذلك في مقالي الفرنساوي: «جاءت قريبتها من الفيوم فأخذتا تتكلمان عن أشياء يعرفانها وتهمهما معا. ذكرتا الأقارب والأصدقاء والصديقات والجارات والمعارف وهما تحلفان تارة بالله وطورا بالنبي محمد مشتركتين في الضحك والتنكيت بين جملة وأخرى. الزائرة تحدث عن الديار والباحثة تستزيدها من التفصيلات عن نساء الحي والمواشي والخياطة المصدورة والحمى المتفشية في البلد، ثم اتفقتا في الثناء على البقرة الحلوب، وهبط صوتهما إلى قرار الأسف لذكر البقرة الصغيرة المتوفاة في الأسبوع السابق. فقلت وقد أسفت لأسفهما: «أماتت تلك البقرة المسكينة؟»»
أجابت باحثة البادية: «ماتت والله! وكنت أحبها كثير قوي.»
ولكن لا يغرننا هذا الانقلاب السريع من جليل المعاني إلى تافهها، ولا تخدعننا هذه الضحكة الشبيهة بضحكة فتيات المدارس. إن لهذه المرأة كما لكل من الأفراد النوابغ شخصيات متعددات تظهر كل منها في حينها. وهاك وصف ضحكتها في المقال الفرنساوي السابق ذكره:
إنها تضحك بسرعة وسهولة وفي صوتها رنين كرنين أصوات الأطفال، تضحك بكل قواها كمن يضحك من قلب لم يخالطه بعد معنى الكآبة ولم تنزل بساحته وطأة الهموم. وما أشد ما يسر السامع بهذه الضحكة المملوءة طيبة وذكاء، ولولا أن خيالات الفكر والكآبة تتمايل على جبهتها السمراء الجميلة لتساءل المرء أهو في حضرة امرأة ذاقت طعوم اللوعة والألم؟ ...
نعم إنها التاعت وتألمت. أقول ذلك وإن لم أرها يوما إلا بين مظاهر السعادة والهناء، بل لم أقابلها مرة إلا وهي صبيحة الوجه، طليقة المحيا، براقة العينين، والبسمة تلعب على شفتيها. لكن هذه كلها ستائر تنسدل على حركات الحياة الحقيقية حاجبة عن النواظر معانيها العميقة. وهل في وسع من ذاق مرارة الفكر وحلاوته أن يكون سعيدا بالمعنى الذي يقصده البشر؟ وإذا فرضنا أنه حاز السعادة على ذلك القياس المألوف، أتكفي هذه السعادة الاصطلاحية لحمايته من لهيب الألم النفسي؟
ولكن لا تنقمن على الألم؛ فهو مغذي الذكاء ومهذب الشعور، ومنبه الإدراك إلى معان جمة وأساليب فكرية كثيرة. إنما صاحب العواطف القوية شقي إذا ما ذكرنا أن هذه العواطف تعذبه في كل حين وتظل هامسة له بالشكوى حتى في أعذب ما يناله من لحظات السعادة النادرة. لكن هذا العذاب بعينه هو ممزق غشاء الجهل والأنانية عن بصر فريسته، وهو مستنزل الوحي على فؤاد نهشته براثنه حتى أدمته. هو مفجر ينابيع النهى. هو يعطي القلم قوة تبدع من الكلام سيوفا وبروقا، ويحبو اللسان بلاغة تمتلك القلب لأنها تخابره مباشرة بلا وسيط. وماذا عسى ينفع الحديث إن لم يكن مصدره القلب؟! وما هي قيمة الإصلاح إن لم يكن ناشئا عن إدراك تكون ليس في العقل وحده بل في العواطف المسحوقة وما تنبه إليه من احتياج كثير؟! ونظرة الكاتب إن لم يطل فيها خيال القلب المتوجع ليست إلا بالنظرة الباردة القاصرة التي لا تنفذ إلى ما وراء قشرة الظواهر، ويظل باب النفس، باب الحقيقة، أمامها مغلقا مجهولا!
إن مزاج باحثة البادية العصبي الصفراوي وجنسها النسائي، وقوة عواطفها وحدة ذكائها، كل ذلك كان مشتركا في تكوين طبيعتها السريعة الانفعال وواضعا فيها قابلية شديدة للألم واستعدادا كبيرا لمشاهدة الأشياء والحوادث من وراء غشاء قاتم. اقرأ كل ما كتبته تجد أنينا متواصلا يخترقه من أوله إلى آخره. وذلك الأنين الذي يكاد يكون ركزا ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيرا وعويلا.
هذا المزاج النسائي وهذه الذاتية الأدبية، وهذه الكاتبة التي لم تدون أفكارها (على ما يظهر لي من لهجة فصولها) إلا تحت التأثير وفي ساعة الانفعال، هي ما أقصد درسه في هذا البحث الذي قسمته إلى أجزاء ستة هي: المرأة، والمسلمة، والمصرية، والكاتبة، والناقدة، والمصلحة؛ لأن في هذا التقسيم تسهيلا كبيرا لتفصيل الصفات الأدبية والمميزات الكتابية. وسنرى في الفصول الآتية كيف تبرز «الباحثة» قيمة في كل جزء من هذه الأجزاء. ولنا من كتاباتها ما يسند إليه الرأي ويستخرج منه التعليل، بل لنا منها ما يبعث بالأشعة إلى تلك الصفحات التي كتبت عن البيئة المصرية ولها ، فيمكننا أن نقدر باحثة البادية قدرها ونحب من وراء حجب الموت تلك الذاتية النادرة التي مرت في الحياة كحلم جميل.
أعترف بأني في حاجة إلى بعض المجاهدة لأتغلب على نفسي مبعدة من أمام ناظري خيالها البسام، ومحاولة نسيان المرأة كما عرفتها؛ كيلا أتأثر إلا بفكر الكاتبة المنشور على الصفحات البيضاء خطوطا سوداء. غير أني أعود فأقول إن التأثر بمعرفة المرء الشخصية ليس بالأمر المذموم، بل هو غزير الفائدة؛ لأن الذين يعرفون كاتبا خارج فصوله يستعينون بتلك المعرفة على قدر تلك الفصول، ويستخرجون من أحاديثه الشفاهية ما يؤيد أقواله الكتابية ويعززها. وإني لشاكرة «للمقتطف» اقتراحه، فهو الذي أوحى إلي كتابة ما أراه الآن علي واجبا مقدسا.
فلتحضر الروح العزيزة جلسات أكون فيها وحدي منفردة للبحث في آرائها واستخلاص درر معانيها، ولتقد يدها الروحية القادرة يدي الجسدية الحائرة لأثبت ما تريد إثباته، ولتنر حكمتها المكتسبة من ديار الخلود فكري الراغب في إدراك ما تعمدته من المقاصد، والساعي في تحديد غاية قصوى رمت إليها وهي ترى فيها كل الخير لإصلاح الشئون.
الفصل الثاني
المرأة
إن في بعض الناس قوة لا تكيفها النعوت، ليست هي الذكاء؛ وإن كان الذكاء بدونها بلادة، ولا الجمال وإن عدم الجمال ميزة التأثير بفقدانها، ولا هي توازن تراكيب الجسم وتناسب الأعضاء ونضارة الصحة، وكل هذه تافهة إذا حرمت منها؛ لأنها العنصر الخفي المحيي الذي ينفعل به الأقوام ويخضعون لسطوته مريدين كانوا أم غير مريدين. لقد دعي ذلك العنصر مغنطيسيا وكهرباء، وجاذبية، ولطفا، وخفة دم، وخفة روح، و«نغاشة». ولكن جميع هذه المعاني ليست إلا أجزاء منه وتشترك معها في تأليفه معان أخرى شتى.
إنها لقوة عجيبة قد تحول ما هو في عرف البشر قباحة إلى جمال فتان؛ فهي بروق الذكاء المتألقة في العيون وسيال اللطف المتدفق في الابتسام، وأغنية الروح المتماوجة في نغمة الصوت. هي سحر الحركة وهي وسم الامتياز، وهي جلال الهيبة، وهي قداسة السكوت. هي المقياس السري الذي يكيف الإشارة ويوقع الخطى، والشرارة التي تضرم نار الفكر ، والنور الذي يجعل كثافة المادة شفافة . هي اليد العلوية التي إذا حلت لسان المتكلم كان بليغا، وإذا أشارت إلى الناظر بدت نظرته عميقة، وإذا قادت قلم الكاتب كانت كلماته شائقة فعالة يبقى صداها داويا في أعماق النفوس.
وكل من عرف باحثة البادية شخصيا؛ أي معرفة الجسد، أو معنويا؛ أي معرفة القلم، علم أنها كانت حائزة لهذه القوة التي حارت في تعريفها الأسماء. قد كان يكفي أن يعرفها المرء ليشعر بانجذاب إليها وليحبها. وقد كان يكفي أن يقرأ إحدى مقالاتها ليرغب في مطالعة كل ما كتبت منفعلا على رغم منه بالنفس الحار المالئ فصولها، حتى لقد يتبين توهج اللهيب المعنوي بين سواد الحروف. عبثا تبحث هنالك عن الكاتب الذي يعلو بك إلى قمم الإدراك والعرفان ويبتدع لك من روحه جناحين تطير بهما إلى الآفاق البعيدة. إن مؤلفة «النسائيات» قانعة بالغرفة التي تسكنها، والحي الذي تسير بين منازله، والبيئة التي هي جزء منها. وحينما تعثر على ما لا يرضيها - وما أقل ما يرضيها! - تضرب بمؤلفات الباحثين وشروح العلماء عرض الحائط، غير معتمدة إلا على ما تختبره بالمشاهدة. وسرعان ما تقابل بين ما تراه عند الغير وما يشبهه مما طرأ عليها أو قد يكون مهددا حياتها.
هي عين ترى ما هو كائن فتذكر ما يجب أن يكون. على أن هذه العين لا تنسى لحظة أنها عين امرأة؛ فما تكاد تلمح خيال اللوعة حتى يخترق القلب منها لهفا وتذوب ذراته وجعا. وإذا طرقت موضوعا تهتز له طبيعتها النسائية من أقصاها إلى أقصاها، سمعت منها هذه اللهجة الخلابة:
إنه لاسم فظيع (تعدد الزوجات أو الضرائر) تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته؛ فهو عدو النساء الألد وشيطانهن الفرد؛ كم قد كسر قلبا وشوش لبا وهدم أسرا وجلب شرا! وكم من بريء ذهب ضحيته، وسجين كان أصل بليته، وإخوة لولاه لما تنافروا ولا تناثروا، ففرقهم أيدي سبا وأصبحوا تأكل الحزازات صدورهم، ويضمرون السوء بعضهم لبعض، يثأرون ولا ثأر بني وائل، وكانوا لولاه متفقين!
إنه لاسم فظيع ممتلئ وحشية وأنانية. كم أحرج رجلا وعلمه الكذب فأفسد عليه خلقه! وكم بذر مالا كان يعده البعض رزقه! وكم أحفظ قلب والد على ولد! وكم علم الوشاية والحسد. فإذا ما لهوت أيها الرجل بعرسك الجديد فتذكر وراءك بائسة تصعد الزفرات، يتساقط من مآقيها أمثال لؤلؤ عروسك، ولكنه صهرته نار الحزن فظهر سائلا، واخش الله في صغار يبكون لبكائها، علمتهم الحزن فاستعاروا يواقيت عروسك أعينا. أنت تقرع سمعك الطبول والمزامير وهم لا يسمعون إلا دق الحزن في طبول آذانهم وكانوا من قبل ذلك جذلين.
1
قد ينظم الشاعر هذه الزفرات أبياتا عامرة، وقد يطلعك العالم الاجتماعي على سلسلة علله ومعلولاته، مثبتا لك شر تعدد الزوجات. ولكن قلما تجد في قصيدة ذاك وأبحاث هذا تأثيرا يهز نفسك كما تفعل هذه السطور القلائل. ليس ما قرأته هنا بمنحدر من الفكر أو بناتج عن الملاحظة والتنقيب، بل هو اضطراب قلب جالت فيه المرارة مكونة أنات ما لبث القلم أن وقعهن على وفق ضربات القلب الخافق. إن هذه الفقرة لا يكتبها إلا قلم امرأة. •••
نحن الذين اعتدنا أن نرى في والدتنا سيدة البيت الدائمة وربة المنزل المطلقة لا نستطيع إدراك ما هي عليه طائفة كبيرة من أخواتنا من الشقاء تحت التهديد المتتابع. ولا يمكننا تفهم الانفعال الذليل المنحدر بهن إلى مهبط الخوف والقلق واضعا بين المرأة وبين تقديرها لكرامتها واعتبارها لنفسها هوة عميقة. وقد فطن أحد مقرظي «النسائيات» إلى عجز الأمم غير الإسلامية عن إدراك ذلك فلام الباحثة لوما لطيفا إذ قال:
لقد صورت في ذلك الباب (باب الازدراء بالمرأة) المرأة في نظر الرجل اليوم على نحو ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، وهذا أمر قلما طابق الواقع، وهل كان من حرج على السيدة أن توسع المسألة بحثا وأن ترقب اليوم الذي تترجم فيه مقالاتها إلى اللغات الأجنبية فتنشر أحكامها على هذه الأمة في العالم الأوروبي الذي يجهل معنى الغلو البديعي وأنه من المحسنات في اللغة العربية؛ حيث يعتقد الأوروبيون لا سيما نساؤهم أننا اليوم على ما كانت عليه جاهليتنا منذ أربعة عشر قرنا، وناهيك بما يحدث هذا القول في العالم المتحضر من الآراء وما يجلبه علينا بعد ذلك من البلاء.
2
غار حضرة المنتقد على سمعة قومه فأراد ألا تقال الحقيقة كما هي حتى ولا في فم من لا يبغي إلا الإصلاح. ولكن إذا تعمد كتم ما هو جار وسدل الحجاب على شقاء فئة كبرى فلا يكفي تنبيه الباحثة إلى ذلك، بل عليه أن يكسر جميع الأقلام الشاكية وأن يسكت زفرات القلوب المكلومة. عليه أن يثلج دماء الشبيبة الطامعة في توطيد دعائم الأسرة وحفظ كرامة المرأة. عليه أن ينتزع الأفئدة من الصدور لتكف عن الشعور بلوعة التقهقر العائلي. نعم ليكسر الأقلام، وليمزق الطروس، وليسل الألسنة ليجهل الغرب علة دامية في الشرق. أما باحثة البادية فلم تفكر قط في ذلك، بل أثبتت الواقع بصراحة ناشدة الإصلاح فقالت:
أي ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشد من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرق بينهما وتشتت ملتئمهما؟! وأي أمل لها في مستقبل مظلم لا تدري متى ينهار بنيانه؟ إن الدين لا يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا على غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطا وقيودا لو اتبعت لما أن منها النساء البائسات.
3
أين «الغلو البديعي» الذي يشكو منه هنا الأستاذ المنتقد؟! أين «الغلو البديعي» فيما تقرره الباحثة من ازدراء الشرقيين - مسلمين كانوا أم مسيحيين - بالبنت في جميع أدوار حياتها، وتفضيل الصبي عليها قبل ولادته وبعدها؟! وأين ذلك «الغلو» من مسألة الطلاق كما هو شائع الآن؟!
نعم إن سهولة الطلاق كادت تلغى من الطبقة العليا، ويندر وجودها بين من يغارون على سمعتهم ويفهمون معنى احترام الأسرة من الطبقة الوسطى. ولكن هؤلاء هم الأقلية. والطلاق شائع عند الأكثرية شيوعا كبيرا. وهاك ما كتبته باحثة البادية بعد الاختبار الشخصي:
وهذه البادية التي أقطن لا أبالغ إن قلت إن جميع نسائها جربن الضرائر. طالما سألت مرأة الحي هذا السؤال: «ترين هل تحبين زوجك الآن كما كنت تحبينه قبل زواجه من غيرك؟» فكان جواب كل من سألت سلبا. وسمعت عن أخريات أنهن يفضلن أن يرين نعش أزواجهن محمولا على الأعناق من أن يرينهم متزوجين بأخريات. فيا لله! أإلى هذا الحد يبلغ بغض المرأة للضرة!
4
إن هذا الموضوع يفتح باب الفصاحة عندها. وإذا قالت حينا بوجوب الطلاق فما ذلك إلا لأنها ترى فيه ما يخفف شقاء المرأة. قالت:
والطلاق على مذهبي أسهل وقعا وأخف ألما من الضر. فالأول شقاء وحرية والثاني شقاء وتقييد. فإذا كان الشقاء واقعا على كل حال فلماذا تلتزم المرأة الصبر على الشدة؟! ترى بعينها ما يلهب قلبها ويدمي محجريها! ألا إن حزينا حرا خير من حزين أسير! وبعضهم يخادع المرأة الأولى بأن يجعلها حاكمة على البيت معها مفاتيح خزائنه. ولكن ماذا تفيد مفاتيح الخزائن والحكم على السمن والعسل؟! وأين هذه من مفاتيح القلوب وحب الزوج!
5
ألا يخيل إليك أن هذا الرجل الذي يدور على زوجاته وفي يده حزمة مفاتيح يفرقها لهو من رجال القمر أو سكان المريخ، أو على الأقل من أشباح الأقاصيص والأساطير؟ ولكن لا! إن ذلك مع الأسف واقع على مقربة منا. ومن أخواتنا من هن ذكيات الفؤاد جميلات الوجه والنفس لطيفات الشعور شريفات الميول، وعليهن أن يحتملنه وأن يصبرن على مضضه؛ لأنه أمر داخل في عادات قومهن!
إن باحثة البادية لا ينضب ينبوع إجادتها في هذا الموضوع، وما أكثر ما تصيب في نقده مستخرجة منه دروسا أخلاقية كقولها:
تعدد الزوجات مفسدة للرجل، مفسدة للمال، مفسدة للأخلاق، مفسدة للأولاد، مفسدة لقلوب النساء. والعاقل من تمكن من اكتساب قلوب الغير، فكيف بقلوب الأهل والعشراء!
6
ثم تشرح كلا من هذه شرحا وافيا في مقال هو من أجمل ما كتبت، بل هو في تقديري أتم فصولها وأبدعها. •••
على أن مطالبها لا تتوقف عند قلة الضرائر والتفرد في المنزل، بل هي تنكر زواج هذا العصر القائم على الطمع وحب المال، وتتطلع إلى تلاؤم الأذواق والتفاهم المعنوي. اقرأ هذا التهكم الممزوج بالغيظ:
إذا اجتمعوا (المصريون) بسائحة إفرنجية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرا؛ فساعدوها في النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش (؟) إجلالا لها، في حين أن أحدهم يستنكف الركوب مع امرأته في عربة واحدة. وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها كأنه لم يكن صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة. وإذا ازدحمت الطرقات في موكب أو مولد مثلا رأيت الرجال يدوسون النساء ويضربونهن بالمناكب كأنه زحام الحشر. فهل هذا مبلغ احترام النساء عندنا؟
7
كتبت هذه السطور منذ سنوات عشر. وإذا بقي هذا الوصف منطبقا في يومنا على جمهور من الرجال، فإن هناك عددا كبيرا من الطبقتين العليا والوسطى قد تغيرت منهم العادات تحت تأثير المدنية، وفعل السفر إلى أوروبا ومشهد الوحدة العائلية (ولو في الظاهر فقط) عند الغربيين. فصاروا يركبون مع زوجاتهم وبناتهم ويرافقونهن في السفر والنزهة. فكثيرا ما يرى الآن الرجل المصري في مركبة أو سيارة وبقربه زوجته ونقابها الأبيض الشفاف يضاعف جمالها الشرقي. ولا يندر ذلك على طريق الجيزة والأهرام وفي الجزيرة حيث يكثر الازدحام أيام الجمع والآحاد خصوصا، وفي الأعياد والمواسم الكبرى.
ولئن حملت كاتبتنا على الرجل بلا مجاملة فهي لا توفر المرأة، على أنها تعطف عليها غالبا حتى في خطئها وعثرتها. وتلوم الرجل لأنه القوي، ومنه تنتظر المساعدة والقدوة الحسنى. وبدلا من أن يستبد بسطوته فيصير سيدا رهيبا هي تريد أن يستسلم لعوامل الحنان فيصبح صديقا مؤدبا. قالت:
وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلا من كبريائه وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصي لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبا به لا خوفا منه. فبنات العصر الحالي - حتى الجاهلات منهن - يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات؛ فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كإحدى خدم المنزل، ولكنهن يقدرن اليوم السعادة الزوجية أكثر من ذي قبل، ويعلمن أنه إذا لم يكن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما.
8
الحمد لله! لقد آن لهن أن يفهمن ذلك ولو تجرعن في سبيله من العلقم كئوسا! أليس أفضل للمرء أن يسير نحو إدراك المعاني واستكناه الحياة ولو مخطئا ضالا من أن يظل مستكنا في ليل الذل، راضيا بقيوده، قانعا بجهله وهو يحسبه عقلا وطول أناة؟ إنما المرأة في موقف الاستعباد دون الجوامد حسا؛ لأن هذه تستعمل أقصى ما عندها من قابلية الحس، أما المرأة فإن لم تجاهد في تهذيب ما عندها من الملكات كانت قاتلة قواها بيدها. والقوة التي تتبعثر مؤدية إلى الفوضى إن لم تعرف لنفسها قانونا هي ذاتها إذا دربت كانت عنصر الارتقاء الرفيع. ولئن عز السير بانتظام بعد ليل العبودية الدامس لأن العين التي اعتادت الظلام يبهرها الضياء في بادئ الأمر، لكنها لا تلبث أن تألفه فتتمتع به لاجمة فوضاها مصلحة أحوالها. ليس هذا رأي الباحثة.
وسننظر فيما تشير به يوم ندرسها مصلحة. غير أنها لا تنفك عن العودة إلى شعور المرأة؛ ليعتد به الرجل ويجعله مقياسا لأعماله وأقواله. فقد تختلف عندها ألفاظ الشكوى غير أن معنى الأنين ثابت لا يتغير. كل شيء في نظرها أفضل من «إيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها. يا لله! أليس لها من قلب يتأثر وشعور يحس وعواطف تثور!» •••
هي امرأة بكل معنى الكلمة؛ ومن دلائل ذلك أنها تبدي يوما خلاصة ما يجول في نفسها وتضطرب له جوانحها، ثم يثب فكرها في يوم آخر فتثبت عكس ما جاءت به قبلا على خط مستقيم. فهل هي مناقضة ذاتها؟ كلا! بل هي مفصحة عن نفس كثيرة النزعات جمة الميول، كأنما هي جوهرة ذات سطوح شتى، تلمع في كل منهن ألوان جذابة وأشعة فتانة، بينما عنصر الجوهرة يظل واحدا. رأيت أنها كثيرا ما تستعطف الرجل بلهجة المتوسل المتعمد تنبيه الإشفاق في نفسه. والآن اقرأ واضحك:
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلا لإشفاقهم، إنما نحن أهل لاحترامهم. فليستبدلوا هذا بذاك. والإشفاق لا يتأتى إلا من سليم لعليل أو من جليل لحقير، فأي الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنا لنأنف أن نكون أحد هذين.
بل قد يتأتى الإشفاق من صديق لصديق ومن محب لمحبوب، وحذف الرحمة من القلب يعني حذف الوداد معها في آن واحد؛ لأن الإشفاق من العناصر الجوهرية المؤلفة عاطفة الحب. والقلب الذي لا يشعر مع من يحب ولا يشفق عليه إلا قليلا إنما هو محب حبا ملؤه الجفاف والأنانية والبرد الزئبقي.
لماذا يشفق الرجل على المرأة؟ لأنها تقضي حياتها تائهة في لجج هوة لا يعرف هو منها إلا الشاطئ، وهي هوة العواطف. للرجل كبرياء الجولات الفكرية والأطماع المتزايدة والقوة البدنية. أما المرأة فمهما ارتقت وتناهت نشاطا ورغبة في تنسم ذرى الفكر ليست بقادرة على أن تستخرج من نفسها آثار ذلك الإرث الذي أودعتها إياه يد العصفور. وهو قوة الشعور، قوة الحب التي تخلق من الكائن الترابي العادي آلهة سامية جليلة.
والمرأة القوية القادرة بإرثها النسائي ضعيفة جدا إزاء نفسها. وفي ذلك ما يستدعي الإشفاق والإجلال معا. وليس الإشفاق بقاتل الاحترام وملاشيه، بل قد يجتمعان متساندين متعاضدين. فكم تشفق المرأة الضعيفة على الرجل القوي! وكم تكون قوته ذاتها موضوع عطفها! وذلك لا يقلل من إعجابها به، بل كثيرا ما ينتبه حبها وينمو ساعة الشعور باحتياجه إلى مساعدتها. فلماذا لا ينمو كذلك حب الرجل تحت فعل الإشفاق، وكم كان الإشفاق مقدمة الحب، وهل في القلب المغلق في وجه الرحمة العذبة مكان للحب الأكيد؟!
ولكن لا يجفلن القارئ لهذه الوثبة الكلامية من الباحثة! إنه سيسمعها بعد حين عائدة إلى الابتهال. •••
لن أحاول وضع رسم معنوي لها؛ لأن كل رسم يظل واهي الخطوط إزاء الصورة التي جمعت فيها نفسها بيدها في السطور الآتية:
لماذا يا مي تدعين علي بالعذاب المعنوي؟ ألا إنما العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرا. على أني جربت كليهما وذقت الأمرين معا. تقولين: «لأنه النار المقدسة.» نعم لقد أعطاني من القداسة مقدارا أكثر مما يجب لمثلي، حتى جعل البون بعيدا جدا بيني وبين هذا العالم غير القديس. تقولين: إنه «النار التي تطهر.» حقيقة. إنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء، وهذا فيه من الضنى ما فيه. تقررين أنه «النار التي تحيي.» نعم إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كمصباح سيال كهربائه شديد، ولكن فتيلته لا تحتمل، «هو النار التي تلين.» هذا ما أبديت، ولكن ألا تعتقدين أن اللين يؤذي، خصوصا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد. إنه ألانني حتى صيرني ماء، وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة! وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك إنه «النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية.» نعم إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني.
9
يومئذ حسبت هذه الجملة الأخيرة زهرة من زهرات البيان، ولم أكن أدري أنها نبوءة، فما تلقيتها إلا اليوم بالتصديق، فجاء تصديقي متأخرا! لقد وصلت الآن إلى «السماء» فماذا وجدت هنالك حيث احتجبت عن أبصار البشر متفرغة لاستقبال وجه البقاء؟ إنها أردفت الفقرة السابقة بهذه الجملة: «فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك.»
أما أنا، فأعلم أنها هي التي كانت ذات قابلية للتكيف بقالب الأحوال المارة لم تكن راضية عن «الأرض»، وسخطها على هذه الكرة هو الذي جعلها تشك في هل «ستعجبها السماء»، لقد كانت كجميع ذوي المزاج العصبي، والعصبي الصفراوي، المستسلمين للكآبة، شديدة الشعور مع ميل إلى الحزن. وقد قوى ذلك فيها تأثير المطالعة، واعترفت به حيث قالت: «أول ما حفظت من الشعر المراثي وأولها رثاء الأندلس، وكنت في حداثتي أقرأ كثيرا ديوان المتنبي وأعجب بنفسه الكبيرة وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائي. رحمه الله، إني ألذ كثيرا بهذه العدوى.»
10
وقد تكون مدينة له كذلك ببعض الحكم المنشورة في فصولها، كهذه مثلا: «فالتجربة أرشد معلم، والليل والنهار كفيلان بتأديب من لا مؤدب له.»
11 •••
من الأدوار الثلاثة المهمة التي تستغرق حياة المرأة؛ أي أدوار البنوة والزوجية والأمومة، كانت تحت تأثير الدور الثاني يوم كتبت «النسائيات »؛ لخروجها من دور البنوة الصرف. ولما لم ترزق ولدا ينال نصيبه من عنايتها فقد ظل اهتمامها محصورا في موقف الزوجة ومركزها في العائلة والأمة. نعم إنها بحثت في جميع أدوار المرأة المصرية من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنها كانت بالزوجية أكثر اهتماما منها بأي دور نسائي غيره. أما في أحاديثها فكانت تكثر من ذكر أبيها وقرينها؛ مما يدل على مقدار احترامها لهما وتعلقها بهما.
زرتها مرة وسيدة إنجليزية فوجدنا صالونها مملوءا بالزائرات المسلمات من والدات وفتيات، ودارت بينهن مناقشة فيما إذا وقع خلاف بين أب المرأة وزوجها فأيهما تتبع. فكثرت الأقوال واحتدم الجدال إلى أن قالت شابة عروس عام: «مات أبي منذ سنوات خمس فحزنت عليه حزنا شديدا، وما زلت أبكيه إلى يومي هذا. ولكن إذا مات زوجي أموت معه ولن أعيش بعده لحظة لأبكيه.» فاعترضت والدة هذه السيدة بلهجة جعلتني أظن أن بينها وبين صهرها سوء تفاهم في أمر من الأمور، وإنها تود استمالة ابنتها إليها. لكن باحثة البادية دخلت بينهما قائلة بلهجة جمعت بين الجد والمزاح: «مكثت في دار أبي عشرين سنة ولما تتم لي هذه المدة عند زوجي ...» فقاطعها هنا بعض الزائرات قائلات: «ما هذا؟ أتجعلين طول الإقامة ميزانا للحب!»
قلت إن باحثة البادية امرأة بكل معنى الكلمة؛ فهي لا تريد أن يعرف الجميع خفايا ضميرها، ولا تريد أن تجرح زائراتها. وقد كان لديها مع قلمها (الذي كان صريره يشبه أحيانا وخز حربة صغيرة غمست في مداد إنما هو مزيج من مرارة ولهيب) سلاح آخر نسائي محض، وهو الضحك، وما يتقدمه من نظرات لطيفات المعاني، وما ينتج عنه من إرضاء الجميع دون إغضاب أحد، والتخلص من المواقف الحرجة بمهارة وبساطة.
لو قالت: «تتبع المرأة زوجها» لغضبت الأمهات. ولو قالت: «تتبع والدها» لسخط الأخريات. فلم تقل هذا ولا ذاك، بل ضحكت في وسط الضوضاء والاحتجاج والاعتراض ضحكة فضية كرنين البلور على البلور، أعقبتها بنكتة صغيرة أقفلت باب الموضوع وأرغمت جميع الحاضرات على الاشتراك في الضحك. وما كان أجمل ضحكة ثغرها! بينا شفتاها القرمزيتان تتلامسان بألفاظ مصرية التركيب واللهجة والمعنى!
الفصل الثالث
المسلمة
لئن أجملت هنا ما فصلته في النبذة السابقة من حيث إن باحثة البادية «امرأة» في جميع ما كتبت فيحسن بي الآن المجاهرة بأنها إزاء صفاتها الأخرى «مسلمة» قبل كل شيء. وأي مسلمة هي! مسلمة شغوف بدينها، تغار عليه غيرة محب مدنف يقدس الاسم المحبوب ويرى في كل حرف من حروفه عالم بهاء وعظمة ومجد لا يفنى. إن إسلامها لظاهر في كتاباتها ظهورا جليا، وأقدر أنها كانت معروفة بالورع بين أخواتها المسلمات. وقد ذكرت ذلك الآنسة نبوية موسى - التي كانت رفيقتها في المدرسة - في خطبة بعثت بها إلى لجنة التأبين وألقيت في الاحتفال المهيب الذي أقامه لها رجال مصر.
هي مسلمة إلى حد إدخال الدين في كل أمر من الأمور سياسيا كان أو اجتماعيا أو أخلاقيا، حتى مسائل الأزياء والزينة والاصطلاحات والأحاديث الثانوية. ومما قالته في أسلوب المحادثة بين الزوجين:
هناك أخرى تقول لزوجها حضرتك وسعادتك، فما هذا التكلف البارد! إننا بتسميتنا فلانا صاحب العزة وتلقيبنا أحد الملوك بصاحب الجلالة لنكفر ونلحد. فما صاحب العزة وذو الجلالة إلا الله الواحد القهار. ولو أنصف كتابنا لحذفوا تلك الألفاظ الدالة على الشرك في كتاباتهم وأقوالهم.
1
إذا ما وقفت على بدعة مستحدثة ورأت أمرا جديدا سارعت إلى استجواب نفسها هل في ذلك ما يغاير الأوامر الدينية. وإذا ساد نظام بين القوم واستحكمت روابطه بفعل المران والاستعمال والملاءمة لشروط الزمان والمكان دون أن يكون مقررا في نصوص الشريعة السمحاء فهي لا تحفل به كثيرا، حتى إذا ما أرغمت على قبوله قبلت منه أقل مظاهره ابتعادا عن الفكرة الدينية. ويا ويلمها عادة لا تروق لها! إنها تثور ثائر غضبها وتتسلح باسم الدين لمكافحتها، ويا لحدة سنان يراعها الذي يصبح في تلك الساعة حربة وخازة! قالت منتقدة الذين يعلمون بناتهم الرقص والتمثيل.
لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي «الزار» إلا مخاصرة الرجال في الرقص، وما يتبع تلك العادة من التهتك والتصنع والميل عن جادة الصواب، وما ينشأ عن إباحتها المطلقة بلا قيد ولا وازع، من الضرر البليغ والإخلال بالشرف. وأدهى من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد، وهو مذهب من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر، فيزعمن أنهن يجتنبن الرذائل بمحض إرادتهن وتربيتهن. ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يرضي فهل يصح أن تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ إن النفس لأمارة بالسوء، ولقد تقدم على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي، وهو ثمرة الوازع الديني، أفلا يعقلون؟! أرانا لا نتمسك شديدا بديننا الحنيف وهذا بدعة وعدوة أتتنا من الغرب. أو كلما رأينا إنسانا يفعل شيئا حاكيناه، وإن كان في ذلك خسارة ديننا ودنيانا معا؟
إن ذلك (أي الرقص) مناف للدين الإسلامي، هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا، ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات، اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا لا يلبثن أن يعدين الغير منه.
2
لست أدري هل كثر العاملات بهذا الرأي؟ إني شهدت من الهوانم كثيرات ممن أتقن خطوات «البولكا» و«المازركا» و«الفالس» و«الطانجو» يراقصن صاحباتهن في اجتماعاتهن اللطيفات. فأي مانع يمنعهن؟ وأي «عار» على امرأة في مراقصة زوجها أو أخيها في المجالس العائلية، أو مراقصة صديقاتها في اجتماعات نسائية؟ إن فن الرقص - شرقيا كان أم غربيا - رياضة مفيدة للصحة إذا استعمل باعتدال، فضلا عن إنه يمرن أعضاء الجسم فيكسبها لينا ونشاطا وخفة ويحفظها من النشوفة والتصلب، كما أنه درس نافع جدا لتحديد الحركة وتسهيل انسجامها، وهو أفضل مقياس لها. ويجوز مثل هذا القول في التمثيل. إني عرفت سيدات مثلن في اجتماعات نسائية وسهرات عائلية، لم أرهن رأي العين ولكن قلن لي إنهن يفعلن. ومنهن واحدة تعجب بالباحثة إعجابا شديدا، بل هي من أعز صديقاتها اللاتي يحببنها حبا جما، وقد اجتمعت بها للمرة الأولى في صالون باحثة البادية نفسها. زرت هذه السيدة منذ عامين أو ثلاثة وأخذنا نتحدث عن بعض الروايات التمثيلية، فذكرت رواية مثنية على حسن تأليفها وبراعة تنسيقها، ثم قالت: «لقد تقاسمنا أدوارها في الأسبوع الماضي، ونحن منهمكات في هذه الأيام بدرسها؛ لأننا سنمثلها أنا وصديقاتي أمام طائفة من معارفنا وزائراتنا.» كانت الباحثة في الفيوم يومئذ إلا أنها كانت تراسل صديقتها هذه كل أسبوع تقريبا، ولا أدري هل علمت بما كان يشغل صاحباتها مما أنكرت إتيانه بالحدة التي تعلم!
أما مسألة «الشرف» فيصعب حلها جدا؛ لأنها من الكلمات التي يستعملها البشر غالبا في غير محلها، ولها رنين يقرع السمع كالأجراس، ولكنها في الحقيقة أمر نسبي، كجميع المعاني البشرية. الشرف في اعتقادي أسمى وأنقى كثيرا من أن يتلوث بالغبار الذي تثيره خطوات «الفالس»، بل هو أرق لطفا وأصفى جوهرا من أن تدانيه يد الإنسان. على أني أفهم أن الباحثة لم تقصد الرقص على الإطلاق؛ لأنها لم تذكر الرقص الشرقي، بل هي عنت مراقصة الرجال للنساء على الطريقة الإفرنجية.
والآن أشعر بأني جالبة على نفسي حكما شديدا من أبناء الطرز الحديث لما أنا مجاهرة به. إنهم ينحنون أمام المرأة المحجوبة ولكنهم لن يكونوا لي من الراحمين. أنا فتاة سافرة تسري علي عادات مجتمع هو أقرب إلى «التفرنج» منه إلى أي نزعة أخرى. وقد تعلمت الرقص واشتركت مع قومي في السهرات الراقصات ولم أر فيها شيئا يصح أن يسمى «إخلالا بالشرف» ولكني ... ها قد وصلت إلى الخطوة الرهيبة ... ولكني لا أريد للمرأة اختلاطا كبيرا بالغرباء، وأكاد أقول إني لا أستحسن مراقصة الرجال للنساء.
أما الآن وقد فهت بهذا الإلحاد الاجتماعي الهائل فقد «نمرني» أهل العصر وحشروني في فصيلة المتقهقرين والرجعيين. اللهم لك الحمد والشكر على كل حال!
وإذا نادت بالإصلاح العائلي استشهدت بالله متهددة الظالمين وقالت: «ألا فلينتبه الرجال وليتقوا الله في نسائهم، وليعلموا أن التقوى مطلوبة في السر والعلن وأن الله يرى» ... «يا قوم تداركوا الأمر ... وسنوا سنة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم يكن لكم آخرها إلى يوم الدين، ولله عاقبة الأمور.»
3
وقالت في إصلاح طريقة الزواج ووجوب اجتماع الخطيبين قبل عقد الخطبة استنادا إلى ما كان يتم وقوعه في الماضي :
يرى أكثر عقلاء الأمة ألا بد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة يعملون غيره.
مما يجعل مسألة الزواج عندنا (أي المسلمين) هينة لينة إباحة الدين الحنيف الطلاق وتعدد الزوجات. ولكن حاشا أن يكون قصد الشارع ما نراه الآن من الفوضى في أدق الروابط الاجتماعية ومن نقض عهود الأسر وقلب نظاماتها. فإن الأديان لم تخلق لجلب البؤس وإنما خلقت لإسعاد البشر. «طريقة العرب على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
وما بعده في أمور الخطبة والزواج طريقة شريفة معقولة إذ لم يكن الحجاب حينذاك كما هو الآن. وإني أجاهر بأن حجابنا مقلوب ونظام اجتماعنا فاسد أشد الفساد لا يصلح ولن يصلح أن تتبعه أمة متمدنة.»
4
وإذا قررت بعض مساوئ الرجل وأشارت بأمر عمدت إلى وصية الشارع العربي كقولها:
اللهم إن رجلا هذه أخلاقه مع زوجه وهذا مبلغ جشعه لخليق بأن يفارق، ولكن المداراة مما أوصى به النبي
صلى الله عليه وسلم . فلتداره ما أمكن فذلك خير لهما من الخلاف.
5
وقد قالت بتعليم المرأة أصول الدين مرة بعد مرة، فصرحت بمطالبها في الخطبة الأولى التي ألقتها في نادي حزب الأمة ثم جعلتها أساسا لاقتراحات قدمتها إلى المؤتمر الإسلامي المصري، وخلاصتها وجوب تعليم البنات «تعاليم القرآن والسنة الصحيحة»، وأن يباح للنساء الذهاب إلى المسجد لسماع الوعظ والخطب والإرشادات الدينية وحضور ما يقام من الصلوات والاحتفالات كنساء الأديان الأخرى من مسيحية ويهودية. وكان لهذه الاقتراحات صدى استحسان عند الجميع حتى عند أرقى المسلمين فكرا وأوفرهم علما. فكتب الأستاذ لطفي السيد بك في مقدمة «النسائيات» مستصوبا مؤيدا فقال: «ولو صح نظري لكانت قاعدة بحثها في تحرير المرأة قاعدة الاعتدال ورائدها في ذلك الشرع الإسلامي.» إلى أن قال: «وقصارى القول إن باحثة البادية قد أجادت كل الإجادة في أن جعلت أساس بحثها تقرير المساواة لا على جهة الإطلاق بل في حدود الاعتدال والدين.»
ووردت الأبيات التالية في ردها على قصيدة شوقي بك المشهورة:
أما السفور فحكمه
في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه بي
ن محرم ومحلل
ويجوز بالإجماع من
هم عند قصد تأهل
ليس النقاب هو الحجا
ب فقصري أو طولي
فإذا جهلت الفرق بي
نهما فدونك فاسألي
من بعد أقوال الأئم
ة لا مجال لمقولي
لا أبتغي غير الفضي
لة للنساء فأجملي
وإن لها في مدارس الراهبات رأيا صارما جائرا. قالت:
وهذه الفئة الجاهلة الدعية في العلم هي ولا شك فئة خريجات مدارس الراهبات وكثير من المدارس الأهلية الأخرى. وحسبك وقوفا على مبلغ هؤلاء أن تسألهن سؤالا بسيطا عن بعض ما يلقينه على مسامعك مثل الببغاء فلا يحرن جوابا. ثم إن إحداهن لتسمعك تاريخ فرنسا ولا تكاد تأخذ نفسها من سرعة الإلقاء، وإذا سألتها عن عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي أو محمد الفاتح وأضرابهم من حماة الإسلام قالت لك لا أدري ... ومدارس البنات كلها في مصر - خلا مدارس الحكومة الثلاث - لا أثر فيها للنظام وليس فيها إلا تظاهر بالعلم ورياء وهي في اعتقادي لا تصلح مطلقا لتربية البنات المصريات. وبالجملة أقول إن أحسن مدارس البنات في مصر هي مدارس الحكومة أخلاقا وعلما، على أنها لا تزال تقبل الإصلاح والرقي.
6
حسبنا شهادة لمدارس الحكومة أنها أنجبت باحثة البادية ومن حذون حذوها. أما المدارس الأهلية التي قالت فيها الباحثة ما قالت فأنا لا أعرفها إلا بالاسم، فلا يمكنني تولي الدفاع عنها. ولكني أعرف بعض مدارس الراهبات حق المعرفة، وإني لأجاهر بأن انتقاد الباحثة لا ينطبق عليها. وقد تكون الباحثة عثرت صدفة على فتيات «تخرجن في مدارس الراهبات وهن لا يعرفن إلا العزف على البيانو والرطانة ولسن من العلم والتهذيب في شيء، وهن على جهلهن هذا شامخات بأنفهن نحو السماء فيقضين وقتهن بين حديث خرافة وخروج في الشوارع وهن على العموم أكثر النساء إسرافا وتبذيرا فضلا عن البهرجة وقلة الحياء»، وكن سببا في تكوين حكمها هذا الشديد. ولكن إذا وجد مثل هؤلاء بين خريجات مدارس الراهبات فلا تعدم أضرابهن المدارس الأخرى، ويوجد مثلهن بين اللائي لم يتخرجن إلا في منازل آبائهن على يد أمهر الأساتذة وأفضل المؤدبين. كذلك أنجبت مدارس الراهبات نساء كن سعادة ذويهن ونور محيطهن، كما أنه قد يرى من أفضل النساء في طائفة لم تتلقن العلم إلا من ذكائها الفطري ولم تتناول قواعد التهذيب إلا من الوجدان السليم.
إن تأثير المدرسة وتأثير الوسط عظيم جدا ولكنه ليس له القدرة المطلقة. والأهمية الكبرى إنما هي في قابلية التلميذ واستعداده. لقد قال أرسطو مرة: «إن عقل الطفل كالشمع اللين يكيفه المعلم كيفما أراد.» فاقتبس هذه النظرية قوم من علماء الأخلاق وجعلوها أساسا لتعاليمهم، لكن ما أكثر الذين قاموا يناقشونهم ويدحضون أقوالهم من المعارضين! ومن البديهي أن المدرسة لو كانت ذات فعل مطلق شامل متماثل لما رأينا الفروق الكبيرة بين طلبة المعهد الواحد والاختلاف الجوهري بين تلامذة الفرقة الواحدة المستقين العلم من أستاذ واحد المنفعلين بتأثير مؤدب واحد. ترى لماذا لم تخرج لنا تلك المدرسة العزيزة وذلك القسم الدراسي المبارك إلا «باحثة البادية» واحدة لا ثانية لها؟
لست بمدافعة عن مدارس الراهبات لمجرد الدفاع، ولكني تربيت فيها سنوات أربع فاختبرتها بنفسي، كما أني اختبرتها في غيري من بنات عمي وقريباتي ومعارفي اللاتي تهذبن وتعلمن فيها. لم أجد فيها العيوب المذكورة في «النسائيات»، بل ما يناقضها على خط مستقيم؛ منها الترفع الكثير عن الدنايا، والجري وراء مثل أعلى قلما يتراءى في سبل الحياة العادية، ورفع النفس إلى ما وراء المرئيات، والإكثار من الصلاة والتطرف في العبادة مما يؤهل الفتاة لاعتناق الحياة الرهبانية فتظل مدة بعد رجوعها إلى البيت حائرة في دوائر الهيئة الاجتماعية، غريبة بين هؤلاء البشر الذين يجهلونها ولا تفهمهم. وعلى رغم تلك العيوب ما زال الآباء يتهافتون على هذه المدارس، ورجال من أفضل المصريين حصافة وأوسعهم علما يأتمنونها على بناتهم واثقين بأن نوع التربية الذي ينلنه بين تلك الجدران الصامتة لهو من خير الأساليب التهذيبية.
أما النقص الشائن في إهمال تدريس التاريخ الإسلامي والتواريخ الشرقية الأخرى وإتقان اللغة العربية فإن اللوم فيه عائد على الأهل؛ إذ أي شيء يمنعهم عن تعليم ما يريدون لبناتهم بعد خروجهن من المدرسة؟! وذلك يسهل عليهن يومئذ لأنهن يدرسن مختارات لا مرغمات، فيجدن لذة تخلو منها أكثر الدروس المدرسية الجبرية، ويقفن على كثير في وقت قليل. إن الأجانب يهبطون ديارنا لترويج لغتهم ونشر علومهم وتاريخهم. وفي معرفتنا للغاتهم وآدابهم وتاريخهم وعلومهم سلاح في يدنا وقوة نجاهد بها في ميدان المسابقة المفتوح لنا ولهم، وهم فيه غالبا - غالبا فقط! - فائزون. وهل يكتفي المرء في هذا العصر بكونه حافظا لتاريخ الشرق مستظهرا متون سيبويه وحواشي الصبان إن لم يكن له إلمام بمعارف الغير مع إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل؟ إن ناموس تنازع البقاء ليقضي علينا بذلك، وإن أحكامه لنافذة سواء شئنا أم لم نشأ. فإن لم نسر بحكمة مع النظام سرنا جهلا ضده. ومن ذا الذي يستطيع معاندة ما لا يعاند ومغالبة ما لا يغالب؟! فإن لم نجر مع دولاب الحياة انقلب علينا فكنا فريسته المنسحقة تحته.
لندرسن علوم الأجانب من جهة ولندرسن تواريخنا من جهة أخرى نكن جامعين بين المعرفتين أقوياء بالقوتين. ومن لم يكن مهتما بشئونه فكيف يتوقع من الغير بأحواله اهتماما؟! •••
سيرى فريق أن باحثة البادية كانت متعصبة، ذلك مما لا ريب فيه، وكيف ينتظر أن تكون غير متعصبة؟! أليست بشرا؟! أوليس التعصب من أشد العواطف ملاصقة للنفس؟! حدثوني عن تسامح من لم يكن متعصبا لأضحك قليلا! من هذا الشخص؟ ومن أي مذنب مجهول في فيافي الفضاء قد هبط علينا؟ العالم في مكتبه، والمحسن في كرمه، والشاعر في عزلته، والفيلسوف في تأملاته، كل من هؤلاء متعصب تعصبا يتفاقم شره كلما كان خفيا تحت مظاهر الحلم والتساهل.
وإني لأرى استعمال المفرد في التعصب سخيفا، بل هناك تعصبات يجوز عليها جمع الجمع وجموع الجموع إلى ما لا نهاية له. فالتعصب الجنسي والقومي والعلمي والفلسفي والأدبي والاجتماعي والحزبي والفردي، وتعصبات أخرى لا أسماء لها تسير موكبا هائلا سريا لا يبرز فيه إلا التعصب الذي ننعته بالديني. قال قائل: إن التاريخ سلسلة حروب، وإن الشعب الذي لا حروب له لا تاريخ له. ولو قلنا إن الحروب إجمالا وتفصيلا ليست إلا حكاية تعصب البشر لكنا معبرين عن الفكرة نفسها بكلمات هن أقرب إلى معنى الصدق.
كثيرا ما أسائل نفسي: ترى هل يهدأ يوما ثائر العواطف المتطرفة وتتوازن قوى الإنصاف فيرتفع المرء بإدراكه إلى أفق يشرف منه على جميع النزعات الإنسانية؟ ترى هل يفطن البشر يوما أن كلا من الميول وكلا من الأديان ينطبق دون غيره على مطالب فئة واحتياجاتهم، فلا تطمئن منهم النفوس إلا بالتمشي مع نصوصها؟ لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، فمتى يذكرون؟ وما يسمونه عند الآخرين تعصبا يدعى عندهم غيرة قومية ونخوة وحمية، فمتى يذعنون؟ ومتى يقولون مع الشاعر:
هذي المذاهب كلها دين الهدى
كأشعة الشمس افترقن إلى مدى
والملتقى في مصدر الأنوار
7
كانت العاطفة الدينية مختلطة عندها بالمعاني القومية والاجتماعية كما هي حالها عند أكثر البشر، وإن كانت عند المسلمين أوضح منها عند غيرهم. فإذا تكلمت في اجتماعاتنا في مسائل إسلامية كنت أرى يدها تشير ببطء وعظمة ورأسها يرتفع مفاخرا. فأذكر إزاء هاتين الحركتين كلمة الشاعر الإسباني القائل: «إنما في عروق الشرق جميع الدماء ملوكية»
8
ويا طالما لمحت على تلك الجبهة السمراء الجميلة خيالات عز الإسلام تموج بين عقارب شعرها الأسود! فأحدق إذ ذاك في شفتيها الصامتتين وأراهما تتكلمان بلا حراك، وجمودهما يعبر عن كلمات حائرات عليهما، وقد حسبتهن قول الشاعر:
توزع قلبي حبكم وهو غالب
وحقد على أعدائكم يتسعر
ولو كان لي بأس على قدر غيرتي
لكان لكم منه حصون وعسكر
أجود بروحي غير أن سبيلها
إليكم كما شاء الهوى متعذر
9
الفصل الرابع
المصرية
المصرية من باحثة البادية مصريتان: مصرية بظرفها ومصرية بوطنيتها.
من لا يعجب بالظرف المصري الذي يبدو أدبا وحسن مجاملة في المعاملات، ويتناقله المتحادثون نكاتا تمر في الحديث فتجعله ذا لذعة لطيفة تشرح القلب وتبهج الخاطر؟ إن لكل من الشعوب صفة كهذه التي يسميها الفرنساويون
esprit
والأنجلو أمريكيين
humour
وهو رسم جولة الفكر منهم مع ما تتضمنه من وخز «يفلفل» الأحاديث والمناقشات فيحميها من الملل الذي يتهدد جميع العلائق البشرية إذا استمرت على وتيرة واحدة.
تتكون الشخصية الجاذبة من عنصرين اثنين: أولهما ثابت لا يتغير وهو الطبع، والآخر يفرفر متنقلا وهو الظرف. ولئن كانت قيمة المرء الأخلاقية وكرامته وعظمته في العنصر الأول وهو القوة الأصلية الجاذبة، فإن الظرف (إذا كان طبيعيا لا تكلف فيه) ينقذ الانتباه من تعب التوتر؛ إذ يمزج الطبع الجدي العبوس بشيء خفيف رشيق وثاب يرضي دائما إذا كان خاضعا للذوق السليم.
وجميع الأقطار العربية تعترف للمصريين بالمقام الأول في عالم الظرف (كما في آفاق معنوية أخرى) ويساعدهم على التفرد به لفظهم ولهجتهم ونكتهم اللاذعة. وقل من من الأوروبيين يفهم ذلك؛ لأن فكرهم على توقده وانتباهه لا يستطيع الوصول إلى الدقة الشرقية الخفية. أيكفي التوقد والانتباه لمن يطلب التفهم؟ أليس هناك صفة أخرى تصيب جوهر المعاني والأغراض بوثبة واحدة، وهي البداهة التي كانت وستظل دائما قوة النفس الشرقية؟ وهذه الدقة المتوارية إزاء النظر الغريب أليست هي البادية في السلم الموسيقي عوارض كثيرة التجزئة غريبة الأوضاع؟ تلك العوارض أخذ بعضها نفر من كبار الموسيقيين في الغرب ونظمها بيانا فنيا جميلا، على أن الجمهور الأجنبي ما زال يحسبها خطأ وخللا موسيقيا في حالتها الشرقية الصرفة. مع أنها هي الجاعلة لموسيقانا سذاجتها وفعلها الأليم المستحب.
للسان المصري سلطان يعنو له الكلام، وللمصري سرعة خاطر مدهشة لا تكل ولا تنضب وألفاظ كالسلسبيل حلاوة. ولكن هذه الميزة تظهر على أتم ما تكون في المصري الراقي الذي يرفع المعاني المتداولة إلى أوج فكره ثم يظهرها جديدة الأنس والسلاسة تتبعثر فيها الملح الحسناء ورءوس حراب صغيرة تتهدد بالوخز كثيرا ولا تفعل إلا نادرا. •••
كل ذلك في باحثة البادية محدثة وكاتبة؛ خفة الروح ترفرف على جميع سطورها. إنها تستوقفك الوقت بعد الوقت بنكتة غير منتظمة وتهكم شائق يناسب الموضوع. كقولها في انتقاد الشراسة العابسة التي يستعملها بعض الشرقيين في منازلهم:
زرت مرة سيدة ممن ابتلين بمثل هذا الزواج القاسي وكنا نتكلم وأولادها الصغار يلعبون قريبا منا وبناتها الشابات يضحكن وإذا بهن سكتن فجأة وارتبكت أمهن وغارت أعينهن وعلاهن الاصفرار، وقامت إحداهن تهرول إلى الصغار لتسكتهم، والثانية تتسمع على السلم، والأخرى ترى ماذا يمكنها ترتيبه في حجرة والدها. تعجبت من هذه الحركة الفجائية وسألت عن الباعث لها، فأخبرتني السيدة والحزن باد عليها وتكاد لا تنطق إلا همسا: «إن البك ربما يكون قد حضر.» فقلت في نفسي إذا كان كل هذا الاضطراب وفي حضوره شك فماذا يفعل هؤلاء النسوة إذا قيل لهن: «إنه قد والله حضر»؟
1
ظرفها يبدو في الغالب تهكما سليما لا مرارة فيه ترطبه البسمة التي لا تبعد عنه كثيرا، ويعجبها أن تستعمله لإيضاح أغلاط الرجل. ولو كنت رجلا لجزلت لشراستي المزعومة وضاعفتها أحيانا لتوحي إلى الباحثة مثل هذه النكتة المليحة:
فما أقدر زوج الضرتين على التفنن! ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسيا أو ناظرا للمستعمرات! (ولكن الذي يؤسف له أنا ليس لنا مستعمرات.)
2
وهذه غيرها:
يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت ونحن خلقنا لجلب المعاش. فليت شعري أي فرمان صدر بذلك من عند الله؟! «إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا لما عيرونا بأننا قليلات النبوغ وأنه لم يسمع بأن إحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلا. وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد. فنحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كلومبس لما تعذر علي أنا أيضا أن أكتشف أمريكا.»
3
ودونك هذا الوصف الحي في غاية الحياة؛ لأنه ينطبق على بعض مشاهدات واقعية. ولكنه يتناول المرأة هذه المرة:
تسافر المرأة الإفرنجية الآن أو البدوية وحدها فتركب القطار أو الجمل، وسرعان ما تحمل متاعها أو تحضر من يحمله لها بلا ضوضاء. أما المصرية فلا تسافر إلى محطة قريبة إلا ومعها من الخدم والأقارب من تعطلت أعمالهم من أجلها، ثم تجدها لا تكاد تحرك رجلا لتنزل حتى يتحرك القطار، وإذا ساعدها الله (والأولياء!) ونزلت فما أكثر ما تفقده ولا تجده. ضاعت حقيبة المصوغات، وانكسرت القلة فبللت حبرتها، واشتبك برقعها بمفتاح العربة فانقطع خيطه، وإذا لم يسرع حشمها في التقاط أطفالها فقد يقع أحدهم تحت العجلات صريعا.
4
صدقت الباحثة، إن طائفة من النساء الشرقيات لم تتهذب منهن الحركة، فإذا مشين شعر الرائي بأنهن متنبهات لحركاتهن مرتبكات فيها، وربما سرن على غير هدى فيصطدمن بما حولهن من أثاث وجدران، ويقلبن مرغمات ما على الطاولات من إناء ومزهرية وكتاب. قد يكون هذا راجعا إلى دور الانتقال الذي نحن فيه من القديم المنبوذ إلى الجديد المحبوب، ودور الانتقال يظل أليف الحيرة والخبط والتردد إلى أن يقومه المران وتألفه العادة. ولكن من الشرقيات عموما والمسلمات خصوصا من هن موزونات الكلمة يعد ما يقتضى معهن من الأوقات لحظات أنس وهناء.
ينتشر ظرف الباحثة غالبا في سطور كما رأينا في النبذ السابقة ويجتمع أحيانا في كلمة واحدة أو جملة مختصرة كقولها في نقد الحبرة العصرية:
إن نصف إزارنا السفلي مرط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب ولا مع معناها ولا مع الحكمة منه. أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر. أما البرقع فأشف من قلب الطفل.
5
كذلك تظل يدها سائرة على هواها والنكتة جزء من معانيها. وقد تدري بها فتضحك لها بعد رسمها على القرطاس، وقد لا تلتفت إليها مطلقا. فتبقى في إعراضها والظرف يتسرب بين مقاطع الخطاب حتى يجيء الانفعال الشديد يهزها فتتطاير إذ ذاك من حول صحيفتها أسراب الملح والنكات والتهكم ويتفرغ اليراع لصب مقذوفات العاطفة المشتعلة والشعور المعاني. •••
أما المصرية الوطنية فمضمرة دائما وإن لم ترفع القناع إلا الوقت بعد الوقت. وربما تكلمت الوطنية أحيانا باسم الإسلام وتارة باسم الشرق بأسره كقولها:
إننا لو سلمنا بما يقترحه الكتاب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزي بلادنا مما قد لا يوافق روح الشرق فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن، وهذا هو ناموس الكون؛ إذ يفني الضعيف في القوي، وإنه لمن العار أن نهمل هذا الأمر يجري مجراه . فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء ثمار التمدن الحديث.
رأي في منتهى العقل والاعتدال، وإخاله يتفق غرضا مع الجمعية النسائية التي تألفت في هذه الأيام لمقاومة تيار المدنية الأوروبية في هذا القطر. أنا الشرقية المحبة لكل ما هو شرقي أتمنى لكل من أقطارنا طابعا شرقيا. لكن حسن أن يبسط المرء مدى فكره إلى ما وراء حدود ما يتمنى؛ لأن جدران «التمني» ضيقة أحيانا. ثم إذا مال الإنسان إلى أمر ووجد من نفسه دافعا يحمله على طلب ذلك الأمر بقوة كان ملبيا نداء سريا منبثقا من أعماق مزاجه. وكأن خفايا المزاج تعلم أن في الأمر المطلوب ما يكمل منه قوى لم يبرز إلا بعضها، أو أن في ذلك الأمر اقتدارا لتنبيه قوى جديدة مجهولة؛ إذ ذاك ما تنفع الآراء، وهل يستفيد المرء منها حقيقة ولو تظاهر بالإصغاء والطاعة؟ إن كان من قوة الإرادة بحيث يتيسر له التملص من هذا الانجذاب فهل في ذلك خيره أم كان خاسرا ظرفا من الظروف النادرة التي تهيئها الحياة لتوسيع الممكنات وإنماء الملكات؟ ترى هل فنيت قوة اليابان منذ احتضنت المدنية الأوروبية واستخدمت مظاهرها أم تحسب اليابان من الرابحين؟
أما ساعة تتكلم الباحثة بلسان المرأة فهي تحذف اسم الشرق والأقطار الإسلامية ولا تهتم إلا بالمرأة المصرية دون غيرها كقولها:
إن من يتصفح تاريخ المرأة المصرية الحديثة يرى أنها كانت دائما مظلومة مهضومة الحقوق؛ ففي عصر إسماعيل هجم علينا جيش من الشركسيات انهزمنا أمامه وخرج ظافرا منا بأحسن رجالنا، فلم يكن شريف ولا نابه بمصر إلا وأم ولده جارية شركسية من شراء إسماعيل. ثم ابتدأ رجالنا بعد ذلك الزمن يتزوجون بالأوروبيات. «أما وقد صار الآن بمصر من المتعلمات من يصلحن للزواج بأبناء جلدتهن أفليس من العار أن تقدر على أن تجعل ابنك شريفا من أم ذات حسب فتختار أن يكون ابن جارية شركسية أو راقصة أوروبية؟» ... «ألا رب معترض يقول أن قد بطل الرق الآن ، وإن من يصاهر الترك يصاهر أكفاء . هذا صحيح ولكن الأم تغذي الطفل بأميالها وطباعها كما تغذيه بلبنها، فإذا ما حنت التركية لوطنها (وكل يحن بالطبع لوطنه) نشأ متشبعا بأميالها؛ يحب تركيا ويميل عن مصر وهو معدود من رجالها» ... «وسبب فشل المصريين وعدم ميلهم الفطري للاتحاد هو على ما أرى ناشئ عن تشعب أجناس أمهاتهم؛ فابن الفرنساوية يحب فرنسا، وابن الزنجية يذكر خصب السودان، وابن العربية يفتخر بمحتده، وولد المغربية لا يفتأ يذكر بلده، وهكذا أضعنا وطنيتنا المصرية عن طريق المصاهرة بالأجانب» ... «ثم أجدني محقة إذا قلت إن الدم يحن إلى نوعه؛ فإذا تكافأ الرجل والمرأة في العلم والتربية وكانا مصريين مثلا فإن الحب بينهما يكون أصدق وأمتن منه لو كانا مختلفي الجنس.»
6
عندي اعتراض صغير على كلمتي «أصدق وأمتن». إن للحب درجة واحدة من المتانة والصدق، وتلك الدرجة كعبة تدركها قلوب المخلصين قبل أن يفطنوا لها، بل إن الإخلاص المجرد من انتباه الشخص المخلص لوقوع إخلاصه كان دائما من الصفات الودادية الأولية. ثم إن الحب هو العالم الأنور والأفق الأطهر الذي تتلاشى عنده كل جنسية وكل تحزب، ولا يخطو بابه إلا المخلصون. كلا، لا يكون الحب «أصدق وأمتن» بين مصري ومصرية منه بين مصري وفرنساوية، أو إنجليزي وزنجية. إلا إذا أرادت باحثة البادية أن أبناء الوطن الواحد والطبقة الواحدة يكون لهم في الغالب أذواق متشابهة متقاربة فلا يولد الاحتكاك فيما بينهم نفورا. وهي نظرية أصادق عليها نصف مصادقة فقط؛ لأن أخوة الجنسية والطبقة لا تعني أخوة النزعات. كم من الناس رأوا أنفسهم منعكسين في مرآة نفوس الغرباء المختلفين عنهم جنسية وعقيدة وأطماعا ومصالح، فكانوا معهم متفاهمين متفقين؛ لأنهم وجدوا أن بينهم وبين هؤلاء الغرباء علاقات معنوية وقرابة روحية لم يربطهم مثلها بذويهم وأقرب الناس إليهم! ذلك لأن للنفوس والميول وطنا غير وطن الجسد. على أن هذا لا ينفي أن أبناء الوطن الواحد أقرب إلى الاتفاق فيما بينهم إزاء المصلحة الوطنية.
باحثة البادية تحب كل ما هو مصري؛ ما ألطف هذه الكلمة في وصف اللون المصري:
وما أحلى السمرة الجاذبة لو فهمنا معناها. إنها جميلة لأنها جميلة ولأنها مصرية ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفى.
7
وكم من رجل وامرأة في مصر يستحقان هذا التعنيف:
إننا في مصر ولكننا لا نعرفها. أرأيت أغرب من مبصر أعمى؟ إن الأهرام على قيد فلتة العيار من القاهرة ولكن كثيرات منا لم يزرنها، والآثار تخبرنا عنها السائحات الأجنبيات فنبدي جهلا مزريا ونعجب مما يقصصن علينا، وتاريخنا مبعثر في الأرض من قديم وحديث ولا من تلم به حيا من غير الكتب الجامدة الخالية من الروح.
8
على أن وطنيتها أتم وضوحا عندما تعالج الموضوع الذي يكثر عودها إليه وهو ألا يأخذ أبناء هذا الوادي من مدنية الغرب إلا ما لا بد من أخذه، على شرط أن يصطبغ بالصبغة المصرية ويتسم بالطابع الوطني، كقولها:
فانصراف شبابنا لتلقي العلوم الحديثة في أوروبا يجب أن يكون لخير البلاد لا لشرها. فكما يتعلمون لنفع أنفسهم يجب أن يقرنوا ذلك النفع بنفع مواطنيهم أيضا. فواجبهم الوطني يقضي عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه صالحا في بلادهم مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان. فصانع الحرير الوطني إذا رأى معامل أوروبا وسرعتها وجب أن يشتري لبلاده الآلات اللازمة لسرعة إنجاز العمل لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها ويقضي على صناعته الجميلة فيكون قد اقتبس شكلا وأبطل آخر. فنحن إذا اتبعنا كل شيء قضينا على مدنيتنا. والأمة التي لا مدنية لها ضعيفة هالكة لا محالة. «إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تحتم علينا ألا نقتبس من المدنية الأوروبية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائما لعاداتنا وطبيعة بلادنا. نقتبس منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل. نقتبس منها أساليب التعليم والتربية وما يرقينا حتى نبدل من ضعفنا قوة. وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن نندمج في الغرب فنقضي على ما بقي لنا من القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة.»
9
ما أجمل هذه العبارات معنى ومبنى، وما أوفاها حصافة وحكمة! إنها لتستفز الحمية وتدعو إلى التصفيق وها أنا أصفق لها بقلبي وراحتي. •••
ليس بين المعاني الاجتماعية ما هو أدعى إلى التحمس والطرب من اسم الوطن؛ لأن الوطن كل شيء؛ فهو الأهل والأحباب، والدموع والابتسامات، وهو القبور الغاليات، ومهد الذراري المقبلات، هو مجموع الوارثات الأثرية والتاريخية والأخلاقية والعلمية والعملية، كما أنه الفجر وأجواق بدائعه الذهبية والغروب بسرادقه المهيب المنصوب فوق جيوش السحب المتلمعة.
هو العلم الذي ترتعش لتلاعب النسيم بأهدابه ذرات القلوب.
نحن الذين أحببنا من مصر جمالها الطبيعي وجلالها التاريخي وعظمتها الأثرية وعذوبة بنيها وبناتها، نحن الذين أحببنا من مصر كل شيء نعلم أن مصر الحقيقة، مصر الصميمة، كانت تلك السائرة عالية الجبهة وراء أعلامها المنشورة. مصر هي تلك الشبيبة الطامح إلى الارتقاء، وتلك الأمة التي لها من فطنتها ما يذكرها أن طريق التقدم ليست التخريب والتشويش والتدمير، بل الهدوء والعمل والتفكير. مصر هي المرأة المصرية التي أرتنا في هذه الأيام أن فيها ما كنا نتمناه لها، وهو ينتظر أن تنبهه يد الأحوال ليبدو مسطورا. ما كان ألطف البسمات النسائية أيام المظاهرات وراء النقاب الأبيض! وما كان أبهج الأعلام المصرية المثلثة الأهلة الموحدة الصليب تلوحها الأيدي النحيفة! وما أحب الأصوات الشجية الخافتة تنشد أناشيد العز وتهتف هتاف الحماسة!
لترقد الباحثة بأمان وسلام، إن لأخواتها أهلية وطنية كأهليتها. أحيي هنا ما كان عندها من مصرية صادقة وأحيي بعدها كل امرأة مصرية، ولا أخشى ختم هذا الفصل بهتاف واحد: لتحي مصر!
الفصل الخامس
الكاتبة
أما انتقاد رسائلها من جهة صناعة الكتابة فحسبي أن أقرر من غير محاباة أنها أكتب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر، بل هي تعطينا في كتاباتها صورة الكاتبات الغربيات اللاتي تفوقن على كثير من الكتاب.
1
أحمد لطفي السيد بك
إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدة في بعض الموضوعات؛ وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها فكتبت فيه وهي ممتلئة حنقا.
2
الشيخ عبد الكريم سلمان
إنها أعادت لنا ذلك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميداني الكتابة والخطابة.
3
أحمد زكي باشا
لله درك أن نثرت
ودر حفني
4
إن نثر
5
حافظ إبراهيم بك
وما حاجتي إلى الكلام عنها كاتبة؟! إننا لو ضربنا صفحا عن شهادة من شهد لها بالمقدرة الكتابية مكتفين بما ورد من أقوالها في الفصول الماضية، لأثبتنا على الورق ما قد سبق وقرره حكمنا الصامت، وهو أنها كاتبة كبيرة. يطلق الناس عادة اسم «الكاتب الكبير» على من كتب كثيرا، وهم في ذلك مخطئون؛ إن من حملة الأقلام من له مؤلفات عديدة وهو ليس بالكاتب الكبير حتى ولا بالصغير، لأنه ليس كاتبا على الإطلاق. إنه ينقصه ما يسميه الإفرنج «قماش الكاتب» أي السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة، ويعلم اليد صياغة الجملة الملائمة، وينقصه خصوصا ذلك اللهيب الخفي الذي ينشر بين السطور أشباح النور والظلام.
ما هي الكلمة؟
والكلمة التي تعين الحركة والإشارة والصوت واللون والانفعال، الكلمة التي تعني أمرا دون آخر وتوقظ عاطفة دون غيرها، ما هي وما هو سر انتخابها؟ الأبجدية لجميع البشر، والناس لا يتفاهمون عادة إلا بالكلام، فما هي تلك القدرة المعطاة للبعض ليرسموا بالحروف الوجوه ونوع استدارتها، والشفاه وحدود ثناياها، والآفاق واتساعها اللانهائي، والليل وعمقه وكواكبه والنفس وعجائب خفاياها؟ كيف تنبض في الألفاظ المجردة الجامدة حياة سريعة متقدة بثورة الشعور وهيجان الغضب وأنين الشكوى ورنين النجاح والظفر؟ لماذا تهتز الألفاظ تارة كالأوتار، وتولول طورا كأمواج البحر العجاج، وتهمس حينا همسا عجيبا كأنما هو منطلق من سحيق الذراري ومبهم الآمال القصوى؟
قال فيكتور هوغو: إن الكلمة كائن حي،
6
وقد تكون خالقا ساعة تجعل المخيلة ترى ما لا يرى، وتنظم القرطاس أفقا مفعما بالكائنات الجميلة، وتصبح سحرا يصير الغائب حاضرا والعدم وجودا.
إن للإفصاح عن الفكر أساليب جمة، ولكن لا يصلح للكاتب الواحد إلا أسلوب واحد. وهو الذي يتفق مع ذاتيته. كلنا عالم ذلك. وكلنا باحث عن الطريقة التي ... فأجارك الله يا أيها الباحث من الطريقة التي ... إنك لتهوي قبل الوصول إليها في دركات التصنع والتكلف والتعمل، وتتيه في فيافي الخلو والتقعر والجفاف. وإذا حاولت النهوض من الدركات أو العودة من الفيافي تعثرت قدماك وقلمك بذيول الزوائد والحواشي الجاهزة بين المتداولات كالحلوى على أطباق حلواني العيد. أو داهمك مرض الاختصار الجاف فيشعر قارئك الشقي بأنه حكم عليه بسف التبن لجريمة مجهولة منه ومن البشر أجمعين.
إن أفلاطون الذي اشتهر ببلاغته اشتهاره بفلسفته ظل ينسخ كتابه «الجمهورية» إلى عمر الثمانين ليزيده تحسينا وإصلاحا. ذلك لأن الكتابة التي يراها الكثيرون مسألة هينة أكثر الفنون دقة وعسرا. ولا أظن اكتشاف القطب أصعب على الرحالة من اكتشاف الأسلوب (هذا القطب الآخر) على الكاتب الذي عنده شيء يقوله لأن نفسه تفيض به وتحثه على إعلانه. كلمات النفس حركات خفيفة لطيفة. فكيف يتيسر نقل هذه الخفة واللطافة بالكلمات البشرية الكثيفة؟ وكيف تتبع أداة القلم خطوات النفس الوثابة الكثيرة الأهواء في تموجها وتحنيها المباغت من الفرح إلى الحزن ومن التحنان المذيب إلى النقمة البركانية؟ إن ذلك لسر تملص من القواعد والنصوص وترفع عن أن تلقيه الضمائر إلى الألسنة. وهو كل مقدرة الكاتب أو كل ضعفه.
كذلك فيه الحكم بالإعدام أو بالخلود. وهناك معيار للوقوف على مقدرة الكاتب ومعرفة النقطة المتغلبة لديه ودرجة إدراكه للسر المكنون، وهو المقابلة بين ما كتبه هو وما كتبه آخرون في الموضوع نفسه. •••
لنخضعن بعض صفحات الباحثة بل جميع فصول «النسائيات» لهذا الحكم نجد اللغة في يدها آلة دقيقة ماهرة في تدوين ما تريد. ولا أعرف من هو أقدر منها على وضع الكلمة في مكانها، بحيث إنك لو تعمدت حذف لفظة من جملة كنت باترا مجموع المعنى. هي تخبرك عن أحقر الأشياء برشاقة وبلاغة لأنها مصرية كل المصرية، أي إن الرشاقة والبلاغة طبيعتان فيها سبق وجودهما عندها قلم الكاتب. وقد وضعت «للكاتب» وصفا وما كانت واصفة إلا نفسها في هذه الفذلكة التي هي من أدل ما كتبت على جمال أسلوبها:
اللسان والقلم رسولا القلب إلى الناس، أو هما جدولان صافيان تنعكس عليهما صورة النفس وما حواليها من الصفات. وإن شئت فقل هما سلك كهرباء بين ذهن المرء ومن يخاطبهم أو يكتب لهم. تنقل عنه رسالة أخلاقه حرفا حرفا بلا زيادة ولا نقصان. والفضائل والرذائل كامنة في الأشخاص، لا يوري زنادها إلا الأقوال والأفعال. فالمتكلم والكاتب تظهر أخلاقهما جليا فيما يقولانه أو يخطانه وإن حاولا إخفاءها؛ لأن الطبع غالب والتطبع سمل بال قليل الستر إن وارى شيئا تظهر منه أشياء. والفكرة وإن جانبتها لا تزال تحوم حواليك وترفرف إلى أن تجد لها مقرا تستقر فيه من الجولان والاضطراب.
7 «الفكرة التي تحوم وترفرف» لا تجد عند الباحثة «مقرا تستقر فيه من الجولان والاضطراب» إلا البيئة التي جعلتها موضوع اهتمامها. وإذا خرجت من هذه بالفكر حينا جاء ذلك للمعارضة وتقوية الحجة ووجوب قياس القريب على البعيد كتمثيلها الطبيعة هذا التمثيل المترسل:
فالسماء معقودة على الأفق في مصر، وهي كذلك معقودة على الأفق في اليابان وفي جرينلاند. لم يضع الله لها عمد المرمر في إيطاليا ولا قوائم العاج في السودان، ولم يقرها على حوائط البلور في النمسا. تنيرها الشمس نهارا (إلا في القطبين) والقمر ليلا، وقد نثرت فيها النجوم نثرا إلا قليلها فهو مظلم. ولم يشأ الله وهو قادر أن يجعلها كلها في شكل عقود وتيجان وأن يرسمها دوائر مثلثات مرصوصة رص البلاط الملون، وهي مع ذلك يأخذ جمالها بلب المتأمل المتفكر. والأرض بسيطة أيضا لا تحول لنظامها. فالصخر يفتته توالي الريح والمطر فيصير رملا. والرمل تسفيه الريح ويعجنه المطر فيكون صخرا. والبذر ينبت إذا لقي ريا وأرضا صالحة. وما أبسط سوق النبات تظل قائمة ولكنها تميل مع الريح ويثقل عليها ثمرها فيتدلى أو يسقط إلى الأرض!
8
وما الذي تظنه موجبا لهذه السطور المنمقة بقلم قدير، كما أنها تنم عن نفس منبسط الأرجاء توزع فيها حب الطبيعة وتفهم الجمال؟ أتحسبه مشهد شروق أو غروب أو وقفة على جبل شاهق، أو جوبة بين ضلوع الوادي المخططة بالمياه المتعلمات؟ إنها استهلت النبذة السابقة بهذا المطلع: «بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالا من غير تعقيد ولا إبهام. فالسماء معقودة على الأفق في مصر ... إلخ.»
إذا أرادت انتقاد الكلفة بين الزوجين المصريين ليس غير! وإن ذلك ليذهلني قليلا. لأن الفكر الذي يبقى ضيق الحدود ما ظل مستقرا على الجزئيات ينفتح منه الجناح بانطلاقه إلى الكليات. فيستنسر محلقا في آفاق بعيدة، ويتسع منه الكيان ممتدا في تمدد الكون الذي هو جزء منه. وحينما يصل إلى هذا المقام من النشوة المعنوية ينحسر لثام الظرفية عن صغائر الحياة ويتموج الجزء الحقير غارقا في الكل العظيم فيبدو للمفكر بوجه آخر ومعنى جديد عميق. ولكن باحثة البادية بعد هذه الطيرة الفكرية تهبط إلى ضرب مثل عن أحد ملوك الصين لتثبت قبح التكلف وحلاوة البساطة، ولتنتقد المرأة التي تقول لزوجها «يا سيدي» أو «يا بك» فيناديها هو بقوله «يا هانم!»
ترى ألم تكتب النبذة الأولى في يوم ثم عادت فألحقت بها ما يليها في يوم آخر؟ •••
إنها كجميع النفوس التي أثقل فكرها ما خلا منه فكر الآخرين، فكانت بذلك منفرزة عن محيطها، تتجنب جلبة الجمهور ما استطاعت وتستهويها العزلة حيث يختمر الفكر وتنضج ثمار التأمل. تحب عيشة القرى والخلاء بقدر ما تنفر من المدن ميادين الكذب والمشاجرة والضوضاء. وقد أبدت ميلها هذا في الفقرة الآتية الحسنة:
قل: ما أنقى الهواء وأعذب الماء وأصفى السماء في القرى! وما أكذب الحياة وأقرب الوفاة في المدن! القرى جميلة لأنها على الفطرة. أما المدن فلا تعدم أثرا للتكلف والرياء. أين دوي الكهرباء من خرير الماء! والدخان المتعاقد فوق المداخن من جو لا ترى فيه إلا تحليق الصقور وإلا رءوس النخل الباسقات! وأين وحل الشوارع وعثيرها من أرض كسيت ببساط النبات! وأين الرائحة المنبعثة من مقاذير المنازل وروث الدواب من شذى أزهار الحقول! بل ما أوصل البصر يريد الجولان فيرده من هنا جدار ومن هناك سور من نظر تسرحه حيث شئت فلا تجد إلا اللانهاية في الفضاء.
9 «اللانهاية في الفضاء »! في المدن مجد النشاط وجلال العمران ، ولكن عين المفكر في حاجة إلى تسريح النظر في المدى الواسع كأنما هي تبحث في أبعاده المتراميات عن حل ما غمض عليها من مشاكل الحياة، أو كأن القلب الحزين يستخرج من عصير الألوان الجوية بلسما إن لم يكن شافيا لسآمته ففيه ما يجلب التلطيف والتسكين.
سمعت مرة فتاة تقول: «ومن ليس جميلا من هنا (مشيرة إلى العينين)؟» وقد كانت مصيبة. إن من جميع أعضاء الجسم وتقاطيع الوجه ليس أكثر من العينين شفوفا عما يألفه الذهن من الخواطر وما يلتصق بالنفس من رغبات. العين مرآة السريرة، تطل منها جميع الخيالات والأشواق، فإذا عرفت عين امرئ عرفت ما هو إجمالا وبعض ما طوي عليه. ولئن كان بعض العيون جميلا دائما فإن جميع العيون جميلة في أوقات معينة، والمعنى النفسي الأقوى تغلبا على الملكات ينيل العينين تعبيرها المقيم.
لم يكن في عيني باحثة البادية ما يدل على أنهما اعتادتا النظر إلى داخل الوجدان، حيث وراء الجراح والدماء والآمال المهشمة يلمع بصيص النور الذي لا يخبو، وهو السعادة الحقيقية الوحيدة، لأنه من الروح، وللروح، وفي مأمن من كل شاردة وعادية. إن الباحثة لم تكن على شيء من الروحانية، وكانت تقدر الظواهر وتتكئ عليها في أشياء كثيرة، حتى في تدينها. وعلى رغم ذلك فإن إدراك «اللانهاية في الفضاء» كان يتألق أحيانا في عينيها الباسمتين الكئيبتين، في تينك العينين القاتمتين لونا ومعنى؛ لأن الاحتياج العنيف المندمج في مطاوي النفس البشرية، ذاك الاحتياج الدائم إلى قوت أثيري، ليس ليقوم مقامه ما تقدمه الأرض من غذاء وعزاء. وأكثر الذين لا تسمح لهم شواغلهم بالشعور بذلك الاحتياج يطلقون عليه اسم «الخيال» وهو في الواقع خيال بالنسبة إليهم. ولكنه بالنسبة إلى الآخرين حقيقة ثمينة قد ائتمن عليها أصفى جواهر الإنسان. •••
كلنا معجب بفصاحة القرآن ونعزو إليه فصاحة العربية عند المسلمين، واستقامة لفظهم وجمال منطوقهم، وفخامة أسلوبهم الكتابي، لأنهم يستظهرون آية صغارا ويستشهدون بها كبارا. إلا أن فصاحة الكتاب الحكيم وجماله قد عودا القوم الكسل الفكري. فصاروا إذا ما أرادوا الإفصاح عن رأي أو نظرة أهملوا إجهاد القوى المولدة مطمئنين إلى ضرب آية قرآنية - أو حكمة شعرية - مثلا، تاركين قرائحهم في حالة الجمود مستكنات، وعليها خيوط العنكبوت تخيم آمنات. بيد أن هذا الانتقاد الذي يصح على الأكثرية لا ينطبق على أقلية لبيبة إن هي استعملت الآية القرآنية عند الحاجة فإن لها أسلوبها الخاص. وقد تنسج عبارتها على وزن القرآن بنزعة فطرية، واضعة ألفاظه لمعنى شخصي وبشكل جديد يسترق السمع ويستأسر المخيلة قبل أن يبلغ أفق الإدراك. وعند الباحثة مثل ذلك أحيانا، كهذه الجمل ذات التفصيل القرآني والموسيقى القرآنية:
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فكيف ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور؟ أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحتراما لكنا لهم كما يحبون. فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم ولنا قلوب تشعر كما يشعرون، فإذا أرادوا من إصلاحنا فليصلحوا من أنفسهم وإلا فلينظروا ماذا هم فاعلون.
10
أظنني قلت قبل اليوم إن أحد أجزاء شخصيتها لا ينفصل عن الأجزاء الأخرى ولا تعمل إحدى قواها إلا بمعاونة جميع القوى؛ لذلك ترى المصرية ممتزجة دائما بالكاتبة، وتتكلم الناقدة والمصلحة بلسان المسلمة والمصرية، كأنما هي لا تستطيع تجريد نفسها من نفسها. وترتسم المرأة في كل كلمة تخطها الكاتبة وما هي إلا امرأة في البدء، وامرأة بالتالي، وامرأة دائما. فإذا ذكرت إحدى مزايا النساء ترنح القلم ثملا بين أناملها وهو يقول:
البشاشة مفتاح ما أغلق من السعادة، ومعوان على قضاء الأشغال يصل نورها إلى قلب صاحبها فيفعمه غبطة. وكذلك (إني أحذف بسرور هذه الكذلك الزائدة هنا) يلقي شعاعه الكهربائي على من حوله فتنتعش به أرواحهم. وهي جميلة في الكهل كما تجمل في الطفل، إلا أنها أبهى وأشد تأثيرا في المرأة، تلك التي تسيطر على القلوب ولا تدري.
11 ... أو تدري. وهذا لا يقلل من جمال البشاشة.
ولو جاز لي تحديد هذا الأسلوب الكتابي لقلت إن له من المزاج العصبي الصفراوي الحرارة التي تكون حينا حدة وحينا نعومة، ومن الإسلام التنميق والبلاغة، وهو بالجملة مصري أسمر «نغش» جذاب. •••
ولا يسوغ لي أن أختم هذا الفصل دون التنويه بأمر آخر اشتهرت به دون غيرها بين المسلمات، وهو الخطابة. ولكن كيف أتكلم عن أمر أجهله، وكيف أحكم على خطيب لم أكن يوما بين المستمعين إليه؟ غاية ما أعلم أنها كانت جامعة لصفات لا بد من توفرها لكل مقدم على ارتقاء المنابر: أولها وأهمها السمباثيا
Sympathy
وخفة الروح، ثم عذوبة الصوت المنطلق من الصدر؛ لأن كل صوت ينحدر من الرأس إلى الأنف يكون ذا نغمة شائكة مزعجة فيفقد قوة التأثير. وإن لم يكن الخطيب مؤثرا فلماذا يتكلم؟ ثم وضوح اللفظ وبلاغة النطق، وأخيرا الشجاعة الأدبية اللازمة لإبداء الرأي بكرامة وسذاجة.
كثير من مقالاتها مكتوب بكيفية خطابية، وهي كيفية فعالة، غير أنها في خطبها تتبع خطة المحدث البسيط؛ لأن خطبها لم تكن في الواقع إلا محاضرات، وهذه تشغل الدرجة الواقعة بين الحديث المألوف والخطابة الصرفة. وقد تركت بعض المنظومات لأنها كانت تحب الكلام الموزون، وكل ما نثرت موزون منسق. ولا أعرف في كل ما كتبت نبذة أبدع من هذه التي تبدو فيها مقدرة مزدوجة كتابية وخطابية يختلط بها شيء من الشجن الشعري وكآبة المرأة الغزيرة العواطف الدامية الشعور:
يصبونه (الماء) فينصب، ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة فيأخذ كل شكل ويصطبغ بكل ما يراد به من الألوان. تبخره الطبيعة زارية هازئة فتارة ترفعه إلى السحاب وطورا تقذف به إلى الأرض، وآونة تعاكسه بصقيعها فيتحول بردا وآونة تحمي عليه براكينها فيخرج ملتهبا، وحينا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسوا منه غير ما يريدون وهو بريء، ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سكرا فيحلو ويذيبون به الحنظل فيمر. وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنا ولا يعترفون له بجميل. وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض وأرخص الأشياء في أقلها. إنه مثلي يا مي؛ يذهب ضياعا.
12
ما أوجع هذه الكلمة وأوجع المرارة التي أملتها! لقد فعل الحزن هنا ما يفعله في كل نفس صالحة، فكان اليد المنبهة الخصب الجانية الخيرات. إن لهف أيام ولواعج عمر أنتجت أبحاثا قليلة ولكنها فريدة من نوعها في الآداب العربية. وسنقف على زبدة هذه الأبحاث في الفصلين المقبلين إذ نعالج الباحثة ناقدة ومصلحة، فنجد ثمة أكثر الآراء تعقلا ورزانة. لو لم يكن للحزن من منفعة سوى انتباه ضحيته إلى ضرورة الإصلاح وعثورها على مواطن الضعف والسقام من بيئتها، ولو لم يكن له من منفعة سوى تمزيق حجب الزهو والغرور عن محيا الرصانة والحكمة، لكفى به قوة تسكب عليها البركات على كر الدهور!
كلا، لم تمض أتراحك جزافا، يا روح العزيزة؛ إذ لا يتلاشى شيء في هذا الوجود العظيم، ولا ذهبت منك القدرة ضياعا؛ لأن الحياة والموت ألعوبتان في يد النظام المطلق: نظام التحول الشامل، وما كان قومك بذلك التحول فيك إلا القوم الرابحين!
الفصل السادس
الناقدة
أليس النقد من تلكم الملكات الفطرية المتسلسلة أدوارها في الطفل وفي الرجل على نمط واحد؟ فتكون في دورها الأول نظرا بسيطا يعقبه انتباه إيجابي أو سلبي؛ أي الانتباه لوجود شيء أو لعدم وجوده. ثم يجيء دور المقابلة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. حتى إذا اكتمل فعل التمييز والمقابلة، وحكم الذوق بأفضلية أحد الوجهين وأنقصية الآخر، كان ذلك الحكم ما نسميه نقدا.
كان الجمهور بالأمس يتخيل وجود نصوص ثابتة مترفعة عن التحوير هي سلاح الناقد، فردا كان أو أقلية قادرة. فإذا أثبت الناقد أو نفى احتضنت رأيه الأكثرية بلا تمحيص ولا ارتياب في أنها ماثلة أمام الحقيقة بعينها. ويا لهول روعة تجمد المفكر إزاء ما قاساه الأنام من جراء هذا الاعتقاد الفاسد والاستسلام الذليل! وفي ماض ما أكثر ما أورث الحاضر من الحفائظ والضغائن! أما الآن فالرأي العام - كالرأي الخاص - لا ينقاد إلا إلى من شاء الانقياد إليهم، حافظا لنفسه حرية النقض والتأييد والمناقشة. والحقيقة أن عصرنا عصر انتقاد بلا نقدة؛ لأن النقد أصبح جزءا مدركا من شخصية كل فرد، وانحصاره في أفراد دون غيرهم ينافي الروح النقدية وينافي الواقع؛ إذ أي الناس لا يحب أشياء ويكره أشياء؟
على أن للنقد شرطين اثنين لا بد منهما ليكون صائبا مفيدا.
الشرط الأول: أن يكون قوة فطرية مكتملة لا جزئية، والشرط الثاني: أن يكون الاطلاع والملاحظة والاختبار قد أوسعته تهذيبا وتصفية. والشرطان لازمان متماسكان، إلا أن الملكة الفطرية أكثر ضرورة؛ لأن وجودها يقبل المزيد والاتساع. وإن لم توجد فجميع المطالعات والأسفار والاختبارات تعمل في محق القليل الذي أفلت من أصابع الطبيعة، وهي تقذف إلى الحياة بمن لم تشأ أن تجعله من أهل الذوق.
لو نفينا عن الباحثة كل صفة كتابية وجردناها من جميع نعوت الإنشاء لظلت ناقدة في كل كلمة خطها يراعها. كانت ناقدة بفطرتها التي ثقفها الدرس والألم والاطلاع على مناطق البيئة المصرية مما لم يكن ميسورا لسواها. لأنها بمركزها الاجتماعي كانت ذات صلة بجميع الطبقات. فبينا هي بوجاهة أبيها وزوجها من عشيرات الطبقة العليا إذا بها صديقة الطبقة الوسطى برفيقاتها في المدرسة وبتعاطيها التعليم قبل زواجها. ولما كانت تذهب إلى قصر الباسل في الفيوم كانت تجتمع بنسوة البادية والفلاحات، المحسوبات - بما يأتينه من الزراعة واللقاط والخدمة المنزلية - إحدى أمتعة الرجل وجزءا من ثروته. فتحادث تلك النفوس، الخشنة بجهلها وتربيتها وعاداتها، الرقيقة بأنثويتها وإحساسها وأوجاعها، وتقابل في سرها بينهن وبين الأخريات ذوات الدلال واليسار، فتجد أن المرأة إن تغيرت منها الأثواب والإشارات فإن وجوه الشقاء في حياتها متشابهة ومواضع الخلل واحدة في جميع الطبقات. فأدركت وجوب الانتقاد والمعالجة ابتداء بأكثر الأعضاء سقما ومبعث الصحة والمرض في جسم العمران. يجب أن يبتدأ بتعليم المرأة لأنها الأكثر جهلا. يجب إصلاحها السريع ليتيسر إصلاح الرجل. يجب أن يباشر بتحرير المرأة كيلا يكون المتغذون بلبنها عبيدا. يجب أن يحسر غشاء الخزعبلات والأوهام عن عينيها ليدرك الناظر فيهما، من زوج وأخ وولد، أن معنى الحياة عظيم. هي المظلومة المنحنية أمام الرجل العسوف، هي المهضومة الحقوق الساكتة على مضض الهوان، وترى أي إله أو شيطان أباح الجور عليها من بدء أيامها إلى منتهاها؟ منذ بدء أيامها؟ كلا، بل قبل ذلك! وهاك حجة الباحثة:
المرأة المصرية مسلوبة الحق ومظلومة في كل أدوار حياتها؛ نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة، ترى القابلة تحملها وهي منكمشة لا تبدي ولا تعيد كأنما كان لها بعض الذنب في ولادتها، ترى أقارب النفساء وصديقاتها يكثرون لها الهدايا إذا كان مولودها ذكرا، ويقللون منها عددا وقيمة إذا كانت بأنثى، نرى كل من نقل الخبر يطمح اليأس من عينيه ولسان حاله يقول: ناقل الكفر ليس بكافر. فإذا انقضت ستة أيام كان سابع أيام الصبي عيدا توقد فيه الشموع نهارا وتجلب أنواع الحلوى وتعزف آلات الطرب. أما الصبية فيكتفى لها ببعض النقل ويحسب تفضيلا.
1
حق انتقاد تفضيل الصبي على الصبية ليس عندنا نحن الشرقيين فحسب، بل عند أهل المغرب كذلك، لا سيما في هذه الأيام بعد أن فقدوا في الحرب ملايين الرجال فصاروا يطلبون الأبناء ليسدوا ما ثلم من صفوفهم؛ وخوفا على البلاد من حروب مقبلات. غير أن هذا شيء موقوت، وتشاؤم الناس من الفتاة قديم، فما هي أسبابه؟ يقولون بأفضلية الصبي لأنه يحفظ اسم العائلة. لست لأناقش ما إذا كان في وسعه الاحتفاظ بذياك الاسم بدون معاونة المرأة. ولست لألفت نظر أحد إلى أن هذه مسألة اصطلاحية صرفة، وإلى أنها كانت موكولة إلى المرأة أيام كان قانون الأمة
matriarcat
نافذا عند بعض الشعوب القديمة (وما زال نافذا في بعض الجهات من أفريقيا الجنوبية)، وإلى أن صاحبات العروش ما زلن يتمشين عليه، إذ إن الأنثى التي ترث صولجان أبيها تناول أولادها اسم عائلتها دون اسم أبيهم.
اللهم إن أسباب التفضيل عند الأهل كثير. منها أن الفتاة تأخذ نصيبها من ثروة أسرتها وتعطيها لرجل غريب، بعكس الفتى الذي يزيده ثروة أبويه بزواجه وبأرباحه جميعا. أما المقامرة، والسياحات، والمضاربة وجميع أساليب التبذير التي يبتكرها الولد ليلتهم ثروة الوالد الكئيب فلا حساب لها ولا بأس بها، أليس أنه رجل ؟ لقد امتدت يد النساء الآن إلى كثير من أنواع العمل مدفوعة بالحاجة ووجوب إعالة من لا معين لهم وضرورة إشغال الأيام بفكرة جدية، ومنهن من أثرين كأعاظم الماليين وكان نجاحهن حسن العائدة على ذويهن. ولكن ما العمل؟! إنهن نساء! وربما كان سبب التفضيل الأكبر من تلك الأسباب الغامضة التي تذوب حيالها متبلورات المنطق الثابت. كل أعمال الرجل حسنات ما دام «رجلا» وكل الذنوب جائزة تغفر له «لأنه رجل»! •••
ومقابل ذلك كل شيء يحسب على المرأة. تتدرج الناقدة في سرد حياة هذه المخلوقة المسكينة فترى نصيبها من العلم قليلا، وترى الطيبات عليها حراما؛ لأنها «بنت» لا تصلح لغير أعمال المنزل. هذا في الصغر أما في الشباب «فيحجر علينا حتى في استنشاق الهواء النقي، حتى في اختيار لون الثوب الذي نلبسه.»
2
إن عدم حرية الفتاة في اختيار الثوب الذي تلبسه لا يرجع إلى ازدراء الأبوين بها، بل إلى نقص في تربيتهما الأصلية وعدم إدراكهما وجوب تربية الصغار على الاستقلال في الاختيار والاعتماد على النفس. الشرقيون - كبعض الشعوب اللاتينية - متأخرون جدا في هذه الطريق التي قطعت منها الشعوب الأنجلوسكسونية شوطا بعيدا. إن هذه تثقف الأولاد على التمييز والاختيار فيشبون أحرارا يعرفون ماذا يريدون ولأي سبب يريدونه. فكم من أم إنجليزية وأمريكية رأيتها مع طفل لها أو طفلة تبتاع لهما في المخازن أثوابا أو أدوات مدرسية أو لعبا يلتهيان بها، وتخيرهما في الانتخاب ضمن ما شاءت هي من حدود اقتصادية. وما أبهج مرأى الصغير ناظرا إلى تلك الحوائج يقابل بينها مناقشا نفسه، حتى إذا قر رأيه على أحدها سألته أمه سبب اختيارها وأبانت له منها العيوب والحسنات بألفاظ مختصرة وحجة مفحمة وتأدب تام كأنما هي لا تحادث طفلا هو ابنها، بل تحادث رجلا غريبا عنها.
وما أجمل دوائر التيقظ تتسع قليلا قليلا في عيني الصغير! وما أعظم الفرق بين هذه الأم الرشيدة والأم الشرقية الفظة التي رأيتها البارحة تشد بذراع صغيرها قائلة بصوت أجش وعبوسة قبيحة: «امش يا ابن الكلب»! سيكبر هذا الولد واثقا من أن أباه كلب، وأمه امرأة كلب، يعني كلبة، وأن وسطه جحيم أسود لا متسع فيه لغير الضنى والمحن! كيف تستلم تلك اليد الخشنة نفس الطفل الطريئة، وإذا عاملته على هذه الصورة حين لا ذنب له سوى أن ذكاءه المتنبه ونفسه الطلعة وقفت تستعرض بضائع نشرت في نوافذ الحانوت طالبة التفهم والمعرفة، فماذا تفعل به ساعة يجني إثما ساهيا أو متعمدا؟ وهل يستطيع هذا أن يحب أمه ويحترمها كما يحب ذلك الغربي الصغير أمه الصالحة ويحترمها؟ كثيرا ما ينسى الأبوان أن الاحترام يولد الاحترام والحب يستدعي الحب، وإن معاملة أبنائهم لهما نتيجة لازمة لتصرفهما معهم. فكما أن لهما شخصية مستقلة، وإرادة ترغب في الخبرة، وميولا تريد أن تنمو وتصلح، كذلك - بل أكثر من ذلك - للأبناء المتنبهين رويدا رويدا ليقظة الحياة المنبسطة أمامهم بهولها وجلالها. وأي يد تحسن قيادتهم بين أدغال الحوادث بحكمة وإنصاف وحنان أكثر من تلك التي عينتها الطبيعة لتضمهم وتداعبهم وتهذبهم وتؤاسيهم؟
وهكذا تتبع الباحثة الفتاة خطوة خطوة في دور التربية، فترى في الأم الجاهلة أكبر عثرة في سبيل النجاح، وأن البيت يفتأ مفسدا من البنت ما تصلحه المدرسة، حتى إذا وصلت إلى عمر معين «ذكرت الأم لزوجها، والفتاة تسمع، أن البنت قد كبرت وأنه يجب أن تترك الدرس والمدرسة لتتزوج، وأن فلانا وفلانا أرسل والدته وأخته تخطبها.»
3
فإذا كانت الفتاة ذات عقل وشعور صغرت نفسها واغتاظت لجرأة الرجل الذي يهاجم حياتها الهادئة بمجرد استنسابه الزواج منها. غير أن السواد الأعظم يلتفتن لأمر الزواج وما فيه من لامع جديد فيهملن المدرسة والتعليم وتنتهي إمكانية التهذيب والأخلاق وهو قوام العائلة!
غريب جدا إننا نتعلم جميع الفنون والأعمال قبل ممارستها إلا فن تهذيب النفوس الصغيرة! الفتاة التي ترعرعت على جهل وغرور في منزل هذه حاله، تحت مراقبة أم هذه درجة إدراكها، إذا صارت ربة بيت واستلمت نفوس الأطفال فكيف تتكفل بحل مشكلة إسعادهم وإعدادهم لحياة ينفعون فيها الغير وينتفعون؟ لا ريب في أن هذا هو الأساس الأول لشقاء العائلة، أساس يقوم عليه سوء التفاهم والمشاجرة المؤدية إلى النفور المحزن بين أعضاء الأسرة الواحدة. •••
هنا تلمس الباحثة القفل وتفتح باب العائلة على مصراعيه لتجيل بنظرها في كل ما يختفي وراءه. فتبصر الفتاة في ذلك الدور الذي يسبق الخطبة. الخاطب والأهل يبحثون ذاك عما يرغب فيه من ثروة وهؤلاء عما ينشدون من جاه، والفتاة بين هؤلاء الأنانيين المستبدين كألعوبة لا صوت لها في الجماعة. يجب ألا ننسى أن فريقا كبيرا من البنات لا يهم كلا منهن من الزواج إلا زخرف الفرح والطمع بالاستقلال في منزل تصبح سيدته وتتصرف في تنسيقه وإدارته كيفما شاءت، سعيدة بأن لها «مملكة صغيرة» تنفذ فيها إرادتها. ربما كانت فكرة هذه الحرية المتواضعة من أهم المرغبات في الزواج. وقد يكون في هذا الفريق زوجات مخلصات وأمهات صالحات. إلا أن شح السعادة وتزايد الانشقاق في العائلات ينبآن بأن غير المسرورات من زواجهن كثيرات ومعظمهن عائد شقائهن إلى عبث الأهل برغائبهن، وحملهن على قبول من رضين به زوجا بالترغيب، أو بالتوسل، أو بالإرغام الصريح. وليس هذا التحكم من خصائص الشرق وحده، بل سمعت من أجانب وأجنبيات مختلفي الجنسيات أن هذه حالهم في بلادهم، وقد يكون هنا كذلك العنصر الأنجلوسكسوني أكثر احتسابا برضى الأولاد من غيره.
لما كنت أدرس الإنجليزية أخذت يوما أتحادث وأستاذي بهذه المسألة الحيوية فأخبرني أنه لما خطب، كانت الفتاة التي انتقاها ضئيلة في عيني أمه؛ لأنها ليست «ذكية ولا جميلة ولا متعلمة ولا غنية» فقالت له «لك أن تبحث عن فتاة حائزة لصفات اجتماعية أكثر من هذه.» أجاب: «صفتها الوحيدة أنها فتاة محبة وهذا يكفيني. أستطيع أن أبحث عمن تفضلها في نظر الغير، ولكنها تحبني وأنا أحبها ولا أريد غير ذلك.» فبعد أن قامت تلك الأم بواجبها نحو ضميرها ومطالبها الشخصية قامت بواجبها نحو ولدها فاحترمت عواطفه وأذعنت.
إني بكلامي عن العائلة عندنا واستبداد الأهل لا أعني الجميع على الإطلاق، بل أعني الأكثرية؛ لأن النفوس النيرة الكبيرة موجودة في كل مكان لا تقيدها الحدود الجغرافية ولا يسطو عليها مناخ الإقليم. حدثني نابه من أعاظم المصريين أنه بعد أن اختطب ابنته أحد أبناء العائلات الوجيهة رأت الفتاة خطيبها وهو داخل فلم يعجبها مع أنه كان جميل الطلعة حسن الهندام، وحملت أباها على استرجاع وعده. وبعد مدة وجيزة جاء خاطب آخر يماثل ذلك مقاما ويقل عنه جمالا فأرادت أن تراه قبل البت في الأمر فأعجبها لأن «دمه خفيف» وتزوجت منه. وهو من أشهر رجال مصر في هذه الأيام.
وقد تكلمت الباحثة عن الزواج خصوصا في فصل جعلت عنوانه «يا للنساء من الرجال ويا للرجال منهن!» ملقية الخطأ على الرجل وعلى المرأة ولا سيما على طريقة الزواج نفسها. وحصرت شقاء الزوجين وعدم الوفاق بينهما في الأسباب الآتية: (1)
جهل أحد الزوجين بالآخر. (2)
زواج مختلفي الطباع؛ كعالم وجاهلة وبالعكس، أو غني وفقيرة، ومختلفي الدين والبلد. (3)
الطمع في الغنى بغير نظر إلى الأخلاق. (4)
الزواج القسري. (5)
تأويل الدين الحنيف على غير ما أريد منه في أحكام الزواج والطلاق.
وهذه الأسباب كلها شعب لأصل واحد وهو عدم الحكمة. «فإذا روعيت شروط الحكمة فقل أن نرى هذا الشقاء المخيم على البيوت المصرية الهادم لمعنى الزوجية. وخير للفتاة والفتى أن يعيشا أعزبين من أن يتزوجا بثالث هو البؤس والعذاب.»
4
ثم أخذت بتفنيد صنوف شقائهما، فعددت عيوب المرأة الجاهلة كعدم الثقة بالزوج وتصديق وشايات صويحباتها وجاراتها به، والغيرة الشديدة على حاضره وماضيه جميعا، والتحزب لأقاربها وإفادتهم من مال زوجها ما استطاعت في حين أنها تبغض أهله وتسيء معاملتهم، والإثرة، والمباراة، والإسراف، والبطالة، والاهتمام بالزينة والزيارات، وإهمال الأولاد للخدم والمربيات، وتقليد الأجانب في اللباس والحركات بلا ترو، والثرثرة والتداخل بأمور الرجل. أي شيء لم تذكره؟! أي شيء لم تنتقده؟! إنها لم يفتها حتى ولا التدخين، ولا الضحك، ولا العبوسة. انتقدت كل ما استطاعت انتقاده في تلك الصفحات القلائل ثم وقفت طويلا عند سرعة غضب المرأة وتهديدها بالفراق فقالت:
كل شريكين قد يختلفان اختلافات بسيطة، ولكنهما لا يذيعانها، ومن أحق بكتمان السر من شريكي الحياة؛ أعني الزوجين؟! والحازم من لا يجعل للاختلاف الصغير محلا من اهتمامه بل يزيله بمجرد الفراغ من التكلم فيه. «بقيت لي كلمة عن هؤلاء اللاتي يغضبن ليقبضن ما يبقى لهن من الصداق عند أزواجهن، وهي عادة شائعة كثيرا عند بعض الطبقات. أما قبحها فجلي؛ لأن المرأة بذلك تبرهن على أنها تقدر النقود أكثر من الحياة والسعادة، وهذا جشع لا يليق إلا بالمرابين ومهووسي المال، والمرأة يجب أن تكون ملك اللطف ومثال الرقة والنزاهة. وبعضهن يتذرعن بالغضب والاحتماء بالأهل ليصالحن الرجل، والعادة أن يصالح الرجل زوجه بقطعة حلي وثياب كثيرة، فما أسخف هذه العقول! تفدي المرأة راحتها وهناءها وسعادة أولادها بذلك المتاع الفاني!» ... «والمنزل لا بهاء له إلا بالمرأة، كما أن قوامه الرجل، فترك المرأة بيتها يمسخ ذلك الهناء المرفرف عليه ويسبب حزن الأولاد وانقباضهم، كما أنه يتلف وتعبث به أيدي الخدم فيخسر الرجل خسارة مضاعفة.»
5
وبعد فراغها من وخز المرأة التفتت إلى «الآخر»: إلى الرجل، ونضدت منه المساوئ المرعبة جاعلة الطمع في رأس القائمة، ثم الاستبداد بمال المرأة بعد الحصول عليه، فقالت:
بعض النساء يهددن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون ويذكر لهن الزواج إرهابا، فأي الأمرين تختار المرأة البائسة؟ المرأة مظلومة دائما؛ إذا كانت فقيرة لا يرغب فيها، وإن كانت وارثة يطمع في مالها. والوارثة مظلومة أيضا؛ فإما ألا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا.
ما أكثر مساوئ هذا «الآخر» المخيف عدا! وليس الظلم أقلها؛ تتبعه الأنانية وعدم مؤاساة المرأة في حزنها، والزواج من غيرها، والازدراء بها، والتكبر عليها، والضغط على جميع أنواع حريتها، وكتم أسراره عنها كأنما هي شيء لا قدر له ولا قيمة ... عديدة، مديدة ذنوبك، يا إسرائيل! وأما ما تغتاظ منه الباحثة بوجه خاص فهو عدم امتزاجه بذويه وإفادتهم من معرفته وعلمه، فهي تحتمل الجهل من الغبي الصريح ولكنه يحزنها جهل امرأة العالم وابنته وأخته. وتنسب ذلك إلى الخشونة التي يضيع بها الرجل تأثيره الحسن في أسرته. قالت ساخطة:
لا أحب الأب يتكبر على أهله وأولاده فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة وهو لا يعلم بما يشعرون. «وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربي فيه الجبن والذل ثم الاستبداد متى كبر.»
6
كانت من أنصار السفور مبدئيا. ومن رأيها أن كل ما تحتاج إليه المرأة ولا تجده بين النساء كالطبيب البارع والأستاذ الماهر ... إلخ، يجوز أن تستعين به الرجل، وجاهرت بأنها لو كانت واثقة من كمال المرأة وتهذيب الرجل لما ترددت في إباحة السفور للجميع - كما أنها تبيحه للراقية من النساء. وقد أبدت فكرها في ردها على خطبة ألقاها زعيم السفوريين عبد الحميد أفندي حمدي في نادي حزب الأمة. قالت:
لا، نساء مصر متعودات الحجاب الآن، فلو أمرتهن مرة واحدة بخلعه وترك البرقع لرأيت ما يجلبنه على أنفسهن من الخزي وما يقعن فيه بحكم الطبيعة والتغير الفجائي من أسباب البلاء، وتكون النتيجة شرا على الوطن والدين (لا أفهم كيف يكون السفور أو أي شيء آخر شرا على «الدين»؟! مي.) وإذا أردت هدم بناء أفلا تهدمه قليلا قليلا إلى أن يتم الهدم فتبنى على أنقاضه أحسن منه. «ثم أفدني أيها القارئ بالله، ماذا تقول امرأة جاهلة أو متعلمة تعليما ناقصا لشاب تجتمع به؟! أتباحثه في العلوم وهي لا تدرك أهميتها أو تعلم منها قشورا لا يعتد بها. أم تناضله في السياسة وهي لا تعلم أين إنجلترا من جزائر الأرخبيل، ولا يمكنها أن تفسر لفظة دستور أو استعمار مثلا. أم ماذا تفعل؟! اللهم إنها لا تجد شيئا تقوله له إلا ما قد تستحسنه من هيئته وحسن بزته، وهناك الضلال الكبير. رأيي أن الوقت لم يأت لرفع الحجاب، فعلموا المرأة تعليما حقا وربوها تربية صحيحة، وهذبوا النشء، وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبا، ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة.»
7
من الناس من لا ينتقد إلا بمرارة وبقصد الإيذاء والإيلام والإنقاص من قيمة المنتقد عليه. أما كاتبتنا فتنتقد بسردها الحكاية كمن يصف لك حالا من الأحوال دون تعمد الانتقاد، والمرارة تنقلب تحت قلمها ظرفا، فتبتسم حينا، وتبكي أحيانا. وتخال قطرات الدم سائلات من يراعها ساعة تذكر شيئا يوجعها في أعز عواطفها ويلمس من نفسها أرق الأوتار حسا، كموضوع تعدد الزوجات مثلا الذي ترى فيه الظلم البحت والاستبداد الأقصى ولا تبرره إلا إذا تعذر عيش الرجل هنيئا مع زوجته الأولى. هاك صورة الضرتين:
أرى «القديمة» حزينة «والجديدة» كذلك. فإذا قلت للأولى: ماذا يحزنك؟ أجابت: يحزنني ذلي وانكسار قلبي، وأنا على ما ترين لست أنقص عن الجديدة جمالا ولا أدبا، وكنت أبذل جهدي في مرضاة زوجي، أما الآن فلا. على أنه لا يزال يسترضيني فيقول لي: أنت أحب إلى من الأخرى، وأنت أول من ملك قلبي، وأنت جميلة، وأنت ... وأنت ... إلخ. وأنا لم أتزوج عليك لنقص فيك وإنما كان ذلك مقدورا. وإذا ما سألت الجديدة عن سبب انقباضها قالت: يحزنني أن أرى لي شريكة ومنافسة، على أن زوجي يحقق لي أنه لا يعبأ بها، وأنه لو كان مقتنعا بها لما تزوج عليها، وأنه يريد طلاقها ولكنه يبقيها رحمة منه لتربي أولاده فقط. «فزوج الثنتين غير سعيد كما قد يخيل له» ... «الإكثار من الزواج داء إذا تأصل صعب استئصاله.»
8
في الضر ترى جميع أنواع المتاعب للرجل، وأكبر أسباب الغم والتعاسة للمرأة؛ فهو عندها مفرق العائلة وأظلم مشتت لسلامها. قالت: «هو اسم فظيع تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته» ... و«هو اسم فظيع مملوء وحشية وأنانية.» إذا شقي الرجل مع زوجته الأولى له أن يتزوج عليها. في هذا الظرف تسمح بالضر وتحرمه فيما عداه. «أما إذا كان يعد بقاءها (القديمة) معه منغصا لحياته أو كان كارها لها فليطلقها بتاتا، فربما يجد مع غيرها راحة وتجد هي كذلك مع غيره» ... «الطلاق شقاء وحرية، والضر شقاء وتقييد. ألا إن حزينا حرا خير من حزين أسير!» •••
أكتب هذا الفصل وبي عاطفتان قويتان: عاطفة الحزن وعاطفة العجز. فالعجز يجعلني قاصرة دون تشخيص هذه العلل الغريبة عني؛ لأني فتاة مسيحية أرى الضر شيئا وهميا لا وجود له في قومي، وقد ألغيت بغيابه جميع صنوف الرزايا اللاحقة به. ومهما تفهمت هذه الأوجاع بقلبي النسائي فإنها تظل عندي خيالية ليس غير. أما عاطفة الحزن فمتأتية من أن العائلة التي وجدت لتكون مستودع السعادة الطاهرة تصير على قولها مستنقع الحسرات والكوارث والقنوط. وهل يجدي إصلاح المصلحين نفعا إزاء ناموس الألم النافذ على جميع الكائنات؟! لماذا يعذب الأب ابنه والولد أمه، والغريب الغريب، والحبيب الحبيب؟ من أين تهجم جيوش الألم الدقيقة غير المنظورة مصادمة أشرف الميول، جارحة أصفى النوايا، ساحقة أخلص القلوب؟ ما هذا ما نسميه ألما؟ وما هي الغاية منه؟ إذا كان كما يزعم الروحانيون نتيجة ذنوب سابقات، وأننا نكفر اليوم عن آثام الأمس وسنكفر في عمر آت عن آثام هذا العمر، إذا كان ذلك صحيحا فقد كان يوم بدء أعمار الإنسان فيه تألم هذا مظلوما؛ لأنه تألم بريئا. وإذا سلمنا بالمعنى الشريف الذي جعله الروحانيون للألم فقالوا إنه النار المطهرة من الفساد والواسطة المثلى للتهذيب والارتقاء، فماذا نفكر إزاء من يتألمون ولا يستفيدون، بل يتقهقرون مجدفين على قوى الطبيعة والألوهية، بل ماذا نقول فيما يقاسيه الحيوان من آلام جسمية دون أن ينتفع به؟ إن الذي تروعه معاني الألم يتقطع قلبه إزاء أوجاع صغار الحيوان، فيرى الألم كما هو شيئا هائلا وحكما صارما تخضع له الموجودات مرغمة مقهورة، وتخترع له البشرية مخففات المعاني لتؤاسي يأسها وتنقص من بلواها. يخاف الناس ويرجون، ويكرهون ويرغبون، وظلام الألم مخيم عليهم أبدا، فيبحثون عن الأصدقاء والمساعدين والمؤيدين والمحبين ليأمنوا شر ذلك السواد القاسي. ولكن، ولكن! أليس هؤلاء الذين نحبهم ونحتمي في قلوبهم من مكايد الأيام هم الذين يسبكون سيال الألم في كئوسنا صرفا، ويتفننون في التعذيب كأنما الطبيعة ائتمنتهم على أسراره؟
ما هو الألم؟ من أين يأتي؟ وما هي الغاية منه؟ هل يتغلب عليه المصلحون يوما فتعيش العائلة الجزئية بسلام وتترابط العائلة البشرية الكبرى برباط الأمان؟
أم سنظل أبدا على ما نحن فيه كأنما الباري جل وعلا ينشئ وراء سماواته عالما جديدا لا يتغذى إلا بعنصر الألم المتجدد مع الثواني في حياة أبناء الأرض؟
الفصل السابع
المصلحة
قدم يوما أحد وزراء روسيا إلى نقولا الأول تقريرا ضمنه اقتراحات توسم فيها خيرا للإصلاح والارتقاء، فلما انتهى القيصر إلى هذه الكلمة كتب على هامش التقرير: «الارتقاء؟ أي ارتقاء؟ فلتحذف هذه الكلمة من اللغة!»
للأوامر الهمايونية أن تقضي على اسم الارتقاء في معاجم اللغة والتقارير الرسمية، إلا أن المعنى منه يبقى بنجوة عن الإلغاء والتكبيل عاملا عمله في الأفكار وفي القلوب. أيظن ذوو التيجان والقابضون على أعنة الأمم أنهم فائزون في مكافحة القوى الحيوية والقضاء عليها. وما هم فائزون إلا بارتدادهم خاسرين. حظر القيصر على الوزير استعمال كلمة غاب عنه أن يحبس مجراها المندفع في نفوس الرعايا. ولما أن أقبل ذلك التيار الجارف على هاوية البلشفية اندك يهبط فيها من أعالي الملكية المطلقة مكتسحا معه رفيع العروش ومبطاش الصولجة. ولو سبقت اليد المدبرة ووزعته ترعا وسواقي ترضع الحدائق وتروي المروج لما ظل شلالا عصيا يولول مبعثرا على الصخور. أكان ذلك لروسيا خيرا أم كان شرا؟ سؤال ما زال الجواب عنه دفينا في صدر المستقبل الجدير دون غيره بإصدار الأحكام التاريخية.
لئن كان النقد فطريا في المرء فالإصلاح كذلك. النقد مزيج من كره وحب: كره لما يرغب عنه من موجود، وحب لما يرغب فيه من مفقود. وهذا المفقود المرغوب فيه هو عنصر الإصلاح بعينه؛ لذلك كان كل نقد إصلاحا مضمرا، وكل ناقد مصلحا محجوبا. أي شيء يحل بنا لولا الإصلاح؟ إنه إن لم يتبسم لنا بسمة التعليل والتسويف التفت حولنا أكفان الجمود وتاقت جوانبنا إلى أخشاب النعوش ومضاجع البلى. إن جمال كل شيء قائم على الرجاء بالتحسن والنمو والتقدم ليصير في الغد أفضل منه اليوم، وما مجد الإنسانية إلا في كونها اليوم أوسع قوة منها البارحة وأشمل إدراكا. لا أمل بلا إصلاح، وإن لم يكن ثمة أمل فما هو معنى الحياة؟ كلنا عالم بذلك، على أن من الناس من يلحق به من صدمات الأيام ووخز الساعات ما يلفته إلى ما لا يحفل به الآخرون، فيصبح النقد والإصلاح غاية حياته ومحورا تدور حوله الأفكار منه والأقوال.
تلك هي باحثة البادية. قلت في فصل سابق إنها لا تعطي قارئها جناحين يطير بهما، ولا تسكب له من رحيق الفكر والخيال ما يعلو به إلى قوة الألمبس أو يحدو به إيغالا في هياكل السر والألغاز، ولا يهمها من خفايا النفوس غير ما هو معروف تشترك الجماعات في تقاسم خيراته وشروره. أنها تبقى بين جدران بيئتها إلا أنها تحدق في مظاهر الأسى بعين يظللها خيال الدموع فتكتب متهيجة متأثرة كأنما هي تحارب ذرات الشقاء بكل كلمة تخطها. رأت كل ما يتقيد به قومها من عادات دهرية وفروض دينية واصطلاحات اجتماعية، ورأت من جهة أخرى ما لا بد من إدخاله من تحسين يؤهلهم للسير بكرامة في موكب القرن العشرين، فنسيت أو تناست تأثرها لتبسط رأيا معتدلا يوفق بين القديم الجامد والحديث المتهور. كتبت للجميع لأنها أرادت أن يفهمها الجميع، ولم تقصد إلا الإفادة. يدلك على ذلك تصريحها هذا:
أريد مما كتبت وأكتب للجريدة بعنوان «النسائيات» تخفيف ويلات الزواج على قدر الإمكان. ولست أقصد كل رجل على الإطلاق كما أني لم أكن أقصد كل امرأة، وإنما الكلام على من فسدت أخلاقهم (وهم مع الأسف كثيرون) فسببوا شقاء النساء وهدموا بناء الزوجية.
1
وقد حاولت تخفيف تلك الويلات والتسوية بين الرجل والمرأة واختطاط الأسلوب لإصلاح شئونهما، بالقلم واللسان معا. وهذا استهلال خطبتها الإصلاحية الأولى في نادي حزب الأمة.
أيتها السيدات، أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرن، يؤلمها ما يؤلم مجموعكن وتجذل بما به تجذلن. «ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات، وإنما هو اجتماع جدي؛ أقصد به تقرير رأي لنتبعه؛ ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها. فقد عمت الشكوى منها وكثرت كذلك شكوانا من الرجال. كلنا متظلمون، وكلنا على حق مما نقول. بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم. هم يعزون هذه الحالة إلى نقص في تربيتنا وعوج في طريقة تعلمنا. ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم» ... «والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونزيل سوء التفاهم والتحزب؛ لنحل بدلهما الثقة والإنصاف، ولنبحث أولا في نقاط الخلاف.»
إذن فغايتها صريحة، وهي تريد إصلاحا سريعا لأن الشقاق بين الجنسين يؤلمها. قد وجدت الوسيلة، فلماذا لا يسير عليها الحائرون؟ إنها كتبت دواما كمن يرسل أقواله من على منبر الخطابة، وعندها استحسان لرأيها وإقدام وشجاعة ملازمة دائما لجميع المصلحين. كم من الجرأة والثقة بالذات في هذه الجملة: «هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها»! هذه المرأة تشعر بقلبها، إن لم تقرر بإدراكها، أن المتفوق بين ذويه رسول من لدن الله جاء يحمل إليهم رسالة إنما هي كل غايته في الحياة.
كل مقالاتها جديرة بالاهتمام، وكل انتقاد وإصلاح فيها يستحق البحث والنظر، غير أني أورد هنا وسائل الإصلاح التي لخصتها في بنود عشرة جعلتها خاتمة خطبتها الأولى في نادي حزب الأمة قالت:
بقي علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه. ولو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية:
المادة الأولى:
تعليم البنات الدين الصحيح؛ أي تعاليم القرآن والسنة الصحيحة.
المادة الثانية:
تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي، وجعل التعليم الأولي إجباريا في كل الطبقات.
المادة الثالثة:
تعليمهن التدبير المنزلي علما وعملا، وقانون الصحة وتربية الأطفال والإسعافات الوقتية في الطب.
المادة الرابعة:
تخصيص عدد من البنات لتعليم الطب بأكمله وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
المادة الخامسة:
إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
المادة السادسة:
تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.
المادة السابعة:
اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم.
المادة الثامنة:
اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج.
المادة التاسعة:
المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
المادة العاشرة: (ليست هذه المادة إلا ملحة مصرية) على إخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.
وليتم مذهبها الإصلاحي أضيف إلى البنود السابقة اقتراحاتها العشرة في المؤتمر الإسلامي، وهذه خلاصتها:
الاقتراح الأول:
ذهاب النساء سواء في المدن والقرى لحضور الصلاة وسماع الوعظ في المساجد.
الاقتراح الثاني:
جعل التعليم الأولي إجباريا وتكثير المجانية على قدر الإمكان في مدارس البنات الموجودة حاليا أو إنشاء غيرها.
الاقتراح الثالث:
تلزم جميع المدارس أميرية وأهلية بتعليم الدين الإسلامي.
الاقتراح الرابع:
تعين في كل مدرسة للبنات سيدة مسلمة عاقلة تراقبهن كيلا تهملن واجباتهن الدينية ولا يخرجن عن عادة قومهن.
الاقتراح الخامس:
توسيع نطاق مدرسة الممرضات الحاضرة. والأولى إيجاد مدرسة للطب جديدة لتعليم النساء الصناعة تعليما كاملا بدرجة تساوي درجة الأطباء.
الاقتراح السادس:
تكثير المستشفيات الخيرية والصيدليات للمرضى من الرجال والنساء والأطفال، ويكون في كل مركز من مراكز المديريات وقسم من أقسام المدن واحدة على الأقل.
الاقتراح السابع:
اتخاذ جميع الوسائل لمنع الحيف الواقع على النساء المسلمات، فينبه البوليس بأن يراعي الآداب العمومية في الطرق والاجتماعات وأن يسوق كل مخل بالآداب إلى القسم.
الاقتراح الثامن:
السعي في تقليل تعدد الزوجات لغير داع ماس بقدر الاستطاعة؛ فإن شقاق النساء واختلاف الأخوة الناشئين من هذه العادة وما يتبع ذلك من الشقاق كل ذلك يدهور الأمة في مهاوي الفناء الأدبي.
الاقتراح التاسع:
تعليم المرأة المصرية كل ما يلزم من الصناعات الضرورية لجنسها كالتفصيل والتطريز والقيام على تربية الأطفال والخدمة حتى لا يحتاج الوطنيات إلى غيرهن من الأجنبيات.
الاقتراح العاشر:
منع النساء من المشي في الجنازات ومن الاجتماع للندب واللطم والصراخ والتعديد بالطريقة القبيحة التي لا وجود لها إلا في مصر.
عفوا يا سيدتي! إن عندنا مثلها في سوريا ... •••
هنا أطبق كتاب «النسائيات» شاعرة بأن علامة استفهام كبيرة تتجسم في. أود أن أفهم كيف لم تفكر في وجوب اهتمام النساء بذوي الفاقة، وضرورة تكوين جمعية خيرية نسائية بين المسلمات؟ لقد أذهلني دائما أن أرى في هذا القطر جمعيات خيرية نسائية لجميع الطوائف والنحل إلا للمسلمات، مع أن المسلمين أغنى عناصر القطر وأرحبها كرما وأقربها إلى إتيان المعروف. وبما أنهم العدد الأوفر كان المحتاجون من فقرائهم كثيرين. إن أعمال البر أقرب الأشياء إلى قلب المرأة، ولو فقدت هذه جميع دلائل اليقظة الفكرية فإن حنوها يظل حيا جائلا منسكبا على من يستحقه ويظمأ إليه؛ لذلك لا أفهم إغضاء السيدات المسلمات عن تأليف جمعية بر منهن.
2
وفي ما عدا ذلك، هل من معترض على صلاحية اقتراحات الباحثة؟ إني أرى شيئين بارزين من إطار هذا المذهب الصغير: أولا وجوب فتح أبواب التعليم للمرأة. ثانيا وجوب انطباق كل إصلاح على التعاليم الإسلامية والعادات القومية. وتعصبها للأمر الثاني جعل أحدهم يقول عنها: «إنه لا ينقصها سوى العمة لتصير شيخا.» على أني أتفاءل خيرا بتمسكها بالمصرية والإسلام ليكون المتعنتون أكبر ثقة برأيها، هي التي لا تقبل من الدخيل إلا ما ليس عنه غنى.
إننا في زمن مطالبه عديدة واحتياجاته شديدة، وللمرأة كغيرها مكان تحت الشمس، وعليها واجبات لا بد من تتميمها نحو نفسها ونحو الآخرين. فإذا قدر عليها أن تعول ذويها وهي ليست من أهل الخدمة والخياطة فكيف تحظر عليها فروع العمل الأخرى؟! حتى وإن لم تقدم على الدرس عن حاجة بل عن رغبة بحتة واحتياج إلى المعرفة والنور، ذاك الاحتياج المعذب المنبثق من أعماق الكيان، فبأي عدل يحكم عليها بالبقاء في سجن الجهل، وبأي إنصاف تمنع عن التصرف بما لديها من مشيئة تطلب القوة وذكاء يطلب الغذاء؟! كيف يحجر عليها في حريتها الشخصية البريئة، وهل أوجد الباري هذه الحرية والعدالة جنبا إلى جنب فكتب على كل منهما: «خصوصية للرجال» و«حقوق التمتع محفوظة للرجال»؟
وعلى ذكر التعليم أود أن أقحم جملة معترضة وأقول: كم من علم ضروري للبنين والبنات على السواء يهمل بناتا بينما هم يصرفون الأعوام في تحصيل آخر لا ينتفعون به. نعم إن المرء يستفيد من جميع العلوم إلا أنه بحاجة ماسة إلى بعضها دون الآخر، وإني لأضرب مثلا بواحد منها. كلما طالعت في الصحف أخبار المحاكم والأحكام شعرت بأن علم القانون والوقوف على ما جاز وما حرم من الأعمال ، من أهم ما يتلقنه أفراد مجتمع منظم يسير تحت نفوذ تشريع واحد. إن المرء يجبهه القانون في كل خطوة يخطوها وفي كل أمر يأتيه. يرتكب المخالفة والجنحة لاهيا، وقد يفقد ثروة أو يرتكب جناية على غير علم منه، ويعاقب شديدا على جرائم لا وجود لها في تقديره ولا هو ينتبه لها إلا حين صدور الأحكام بها. كذلك في أعماله اليومية يحتاج أحيانا إلى إيضاحات صغيرة في ذاتها إلا أن جهله إياها جسيم النتائج. فيلجأ إلى السماسرة والمحامين وكتاب المحامين والموظفين العديدين - وقد يبتغي إيضاحا فلا يلقى إلا تعقيدا، فتتعطل مصالحه وترتبك شئونه، ولا يقف على ما يريد إلا ساعة تنقضي فرصة الاستفادة وتلافي الشر. وكل ذلك أساسه جهل أصول القانون وجهل أساليب التصرف المعينة في أحوال مخصوصة.
وما يقال في الرجل يزاد عليه في المرأة. لا سيما المرأة المسلمة التي يقوم حجابها جدارا بينها وبين دوائر الأعمال، فيتاجر بجهلها الوكيل والقيم والحارس والكاتب ومن نحا نحوهم فيتلاعبون بمصالحها ما شاءت لهم الأطماع تلاعبا. فإذا كانت المدارس تعنى الآن بتدريس علم الصحة البدنية لأهميته فأحر بها أن تدرس مبادئ القانون وهو علم الصحة الاجتماعية. وعلى اللبيب المتيقظ رجلا كان أو امرأة، أن يدرس ما استطاع منه في وحدته كيلا تصادمه البلية ولات ساعة ندم. •••
رأي الباحثة في الخطبة والزواج معروف، تقبله الأكثرية المتنورة إن لم يكن عمليا فمبدئيا. لقد قالت في لائحة خطبتها في نادي حزب الأمة - وفي جميع مقالاتها عن الزواج - باتباع الطريقة الشرعية في الخطبة، فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم. وقالت في الاقتراح الثامن من اقتراحاتها في المؤتمر الإسلامي بوجوب السعي في تقليل الزوجات. وهما رأيان في منتهى التعقل والصواب. ومما يبشر بالخير أن تعدد الزوجات أصبح نادرا في الطبقة الراقية، وقل من هؤلاء من يتزوجون بلا اجتماع وتعارف. وانتباه الآباء والفتيات لهذا الأمر والعمل به إنما هو في مصلحة المرأة المصرية كما أنه في مصلحة القومية المصرية، وإلا فما أسهل أن يتزوج الشاب من امرأة أجنبية تشربه روح وطنيتها فيتزوجها مبصرا بدلا من أن يقترن بالمصرية كفيفا.
وقد ارتأت اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج. ترى أتعني عادتهن منذ اثنتي عشرة سنة، أم عادتهن المتحركة مع الحياة، المتغيرة بتغيير الأحوال؟ إن المرأة التركية تحركت كثيرا في هذه الأعوام، وقد كتب بعض مراسلي صحف الفرنجة في الآستانة أنها صارت تسير في الشوارع سافرة بزي باريسي، كذلك تحركت المرأة المصرية. وكان أن قامت مظاهرات نسائية في إبان الحركة الوطنية في الربيع السابق فلم يعترض الرجال ولم يقابلوا هذه النهضة الجميلة بغير الرضى والإعجاب. ثم كان أن لجنة ملجأ الحرية أعلنت في أواخر نيسان (إبريل) أو أوائل حزيران (يونيو) رغبتها في إقامة سوق خيرية تبيع فيها الفتيات المصريات أزهارا مساعدة للملجأ، فهبت الصواعق والزلازل في وجه هذا الإعلان واستاء الجمهور استياء شديدا.
وأنا قرأت احتجاجاته بتعجب واحترام: التعجب لأن سخط اليوم لا يتفق مع رضى الأمس مع أن أعمال البر لا تنقص عن أعمال الحماسة الوطنية شرفا اجتماعيا، وإن فاقتها شرفا أخلاقيا. أما الاحترام فلأن ذلك الإباء صادر عن طائفة كبيرة من المصريين، وجميع الآراء القومية جديرة بالاحترام لأنها تعرب عن نفسيات الأقوام وعقلياتهم. ولكني عدت على رغم مني أتبين أحوال المرأة التركية. ففضلا عن أنها اشتغلت في مصالح التليفون والبريد والتلغراف وغيرها فإن الحركة لم تقتصر على طالبات المعاش؛ إذ إن السلطانة حرم السلطان محمد الخامس ذهبت إلى إحدى مدارس البنات في الآستانة لتتصدر حفلة ختام الدراسة الثانوية، ووزعت بيدها الجوائز على المبرزات من الطالبات. ولما زار الإمبراطور شارل الهبسيوري الآستانة وذهب لمقابلة الحضرة السلطانية حضرت الحرم السلطاني تلك الزيارة الرسمية في قاعة التشريفات من وراء الحجاب. قد يقال إن هذا ليس سفورا بحتا. صحيح، ولكنه يشبه المقدمة، ولم يسبق له مثيل - على ما أعلم - في تاريخ سلاطين بني عثمان. وإذا قيل: إن هذه إلا أخبارا طيرتها البروق في ذلك الحين ولا يسهل التثبت من صحتها، فماذا نقول في السوق الخيرية التي أقامتها في الآستانة جمعية نسائية قبل نشوب الحرب بشهور قليلة، وقد برزت فيها سيدات وأوانس البيوتات الإسلامية الكبيرة، ونشرت صور بعضهن يومئذ مجلة «الأيلوستراسيون» الفرنساوية؟
ليس ما أورده هنا إلا سوانح لا قيمة لها في الإصلاح المرجو، ولا أهمية لما أقوله إزاء ما يرتئيه أساطين المسلمين. ثم هل يجدي الاحتجاج والاقتراح نفعا إزاء التطور والانتقال المحتم من حال إلى حال؟! وباحثة البادية التي يعرف من قرأ كتاباتها تعصبها للمصرية والإسلام وغيرتها في المحافظة على العادات الشرقية، تقول بالسفور ليس اليوم ولكن في المستقبل؛ لأن المرأة ليست الآن على استعداد له لا هي ولا الرجل. ولقد سمعت منها ذلك شفاها بعد أن قرأته في «النسائيات»، وأجده الساعة في مقالي الفرنساوي الذي كتبت تحت تأثير المقابلة الأولى. وفيه ما معناه:
بعد تناول الشاي تحادثنا في تحرير المرأة والحجاب الذي يحاول بعضهم تمزيقه فقالت: «سيمزق الحجاب عن قريب، ونحن سائرات حتما نحو السفور، ولكن أيكون ذلك لخيرنا؟ أنا من القائلين بتحرير المرأة، ولكن علينا ألا نحتضن الحرية دفعة واحدة لنأمن شرها. ليس من الممكن أن نخرج من الظلام الحالك إلى النهار الساطع دون أن تبهرنا الأنوار فتتضعضع البصائر ولا نعود نرى الأشياء في مكانها كما هي.» «قلت مصممة على إبقاء المناقشة في هذا الموضوع: حقا إن الأبصار تنبهر في الأوقات الأولى فتخطئ النظر والحكم ثم لا تلبث أن تعود إلى مقدرتها الطبيعية. ففي الاندفاع الأول للتحرير النسائي لا بد من بعض الفوضى ثم تعتدل الشئون وتتبع صراطا سويا.»
أجابت بقوة: «كلا! محجوبات اليوم يجب أن يبقين محجوبات دائما. أما بناتنا الصغيرات ...»
قلت: «نعم. البنات الصغيرات اللاتي ما زلن جالسات على مقاعد الدراسة ويلبسن البرنيطة الإفرنجية ...»
قالت: «قلت نعم. أولئك يستطعن متابعة السفور إذا عرفن حدود الحرية وتلقين تربية متينة. ولكن أنى لهن ذلك وأمهاتهن على ما هن عليه! ...»
3
الأمهات! نتوقف عند سماع هذا الاسم أمام كل صلاح وكل فساد، ونتطلع إلى حاملاته حيال كل تربية أخلاقية وكل إصلاح اجتماعي. لئن كانت الجنة تحت أقدام الأمهات فإن الجحيم بين أيديهن، ولهن أن يكن لذويهن ولوطنهن نعيما أو جحيما، عظمة أو هوانا. لو أدركت معنى هذه الكلمات التي طال ترديدها كل فتاة، وبذلت مجهودها في إتيان ما في مقدورها، لضمنت للذراري تربية عالية ورفعة مقبلة. لو أدركت كل امرأة أن في قبضتها السعادة والشقاء لعرفت قيمة الواجب وكبرت في عيني نفسها، وفهمت هذا العناء العذب والمجد الخفي الحلو في أن تكون مليكة الأسرة. وإذن لأصبح الشرق شرق العلو والقدرة كما أنه شرق الشمس والقمر. عبثا يقتحم الرجل منطق الذرى؛ إن لم تكن رفيقته في أفقه المعنوي فإنها تقتل مواهبه بسخافتها وتعذبه بمطالبها، وتسيء تربية أولاده بتربيتها السيئة، وكلما حاول التحليق فوق جبل كانت هي جبلا معلقا في عنقه تشد به إلى الهاوية بدلا من أن تكون بتشجيعها وإعجابها جناحين لنفسه. كل إصلاح وكل نظام جدار لصرح العمران والعائلة، المرأة أساسه. لترتفع الجدران الباذخة المزخرفة ما شاء ذكاء الباني ومجهوده ارتفاعا، ولكن إذا لم تقم على أساس خال من الضعف، سليم من الشقوق، تمر الرياح فتتداعى وتعصف العاصفة فتنتقضها حجرا حجرا. •••
والوسيلة الوحيدة لإصلاح المرأة هي تعليمها؛ لأن العلم كما قالت الباحثة:
منور العقل على أي حال، سواء عمل به أم لم يعمل. «نحن نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية إخواننا لا شك نتيجة جهل أمهاتنا، فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»؟ إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها فإن المنزل له تأثير خاص بالأطفال. وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة أو لها نصيب من علم فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم لكون الصلة شديدة بينه وبينها، فتعلمنا الحالي ناقص يجب أن يزاد عليه لا أن ينقص منه. أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا فهو ما ينسبونه خطأ للتعلم وحقهم أن ينسبوه للتربية» ... «تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة. ولما كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء. ولا يتم ذلك في لحظة كما قد يتوهم.»
4
كلا، لا يتم ذلك في لحظة؛ لأن التربية كالعلم تكتسب شيئا فشيئا، وتظل مكتسبة طول الحياة. والعلم هو العلاقة الوحيدة بين الإنسان وبين الأشياء، والسلك السمباثاوي الجامع بين الفكر الفردي والفكر الكوني، هو اليد القادرة الحاذقة التي تحسر اللثام عن أسرار الحياة، وبه وحده ينتبه المرء لقيمته كفرد وكإنسان. لا ذل إلا في الجهل ولا رفعة بدون معرفة. إنما هلاك النوع البشري في سد أبواب الإدراك وحذف إمكانية التعلم والتعليم. ولكن ما زال الإنسان متناولا من بحار المعرفة والنور فهو سائر إلى الأمام مهما ألبست عليه السبل.
تقول الباحثة: إن التربية من خصائص البيت لا المدرسة، وفي فرنسا اليوم مشروع جديد لنزع الولد من حضن العائلة وهو في السنة السابعة من عمره ليتلقى تربية أخلاقية. أليس هذا المشروع ناتجا عن ملاحظة عدم كفاءة الأمهات في التربية المطلوبة؟ على أن هناك تربية أخرى هي تربية الذات. وقد ذكرتها المصلحة تلميحا حيث قالت: «فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء.»
إن الذين يسعدون بتربية متينة في الصغر قليلون في الشرق، ولعلهم ليسوا بالكثير في الغرب، ولكن يكفي أن يكون المرء حساسا راغبا في الرقي ليباشر إصلاح نفسه. هو يستطيع ذلك في كل أدوار الحياة وفي أي عمل من الأعمال. ولا يلبث الأمر المستهجن في بادئ الأمر أن ينقلب لذة كبيرة وقوة نامية. وربما كان أكثر الأفراد تأثيرا في المجتمع أولئك العاكفون على تربية ذواتهم، وهؤلاء يستفيدون من الكتب فائدة مزدوجة.
من اعتقادات الناس عامة أن العلم شيء والأخلاق شيء آخر، وقد يكون هذا ظاهرا في أحوال كثيرة إلا أنه لاغ عند من يتعاطون إصلاح نفوسهم. عندهم يمتزج العلم بالأخلاق وتتوحد المعرفة والتربية فتصير قوة رفيعة. وليس أقرب من العالم إلى الخلق السامي؛ لأن العلم يرينا عظمة الإنسان وجلال الوجود وقدرة الألوهية الشاملة، فيصبح العالم محبا ويتوق إلى الصلاح؛ إذ لا شيء يحث على الصلاح والرفعة الأخلاقية كالحب العميق الأكيد.
ألا فلنذكرن ذلك جميعا! وأنتم أيها الجالسون على مقاعد المدارس فتيانا وفتيات، المطلون من وراء السطور على غرائب الحياة وخفاياها وممكناتها، أنتم الأمل الذي لم يذو بعد، والزهرة النضرة التي لم تلفحها السموم، لو ذكرتم أننا في عصر عظيم لكنتم شيوخ حكمة في شبابكم! إننا في عصر لا مثيل له في التاريخ، فلا يغفر اليوم للفرد أن يكون ضعيفا ضئيلا لأن الأحوال تطلب الطبع الكبير والإرادة القوية ورجال الجد والعمل. فإن لم يعد في نصوص الآباء ما يرضي مطالب الأبناء فما الواجب إلا أكثر خطورة على الذرية الحاضرة.
قد تغلط هذه الذرية في تأويل معاني الارتقاء ولكن عليها أن تتجنب الخطأ بدرس أغلاط من كان لها سابقا. وقد تلقى فشلا مثلما لاقى السلف، ولكنها ستجعل اهتمامها مملوءا بثقة في الفوز والغلبة. وستجتهد على الأقل في فتح طريق الارتقاء للذراري المقبلات. وأي فخر أعظم من فخر من يهيئ السبيل؟! أليست قيمة الباحثة في أنها حفرت خط الإصلاح بدموع الإخلاص وإخلاص الدموع!
الفصل الثامن
قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما
فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات، بل الشرقيات عموما، لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا والحض على وجوب تعليم المرأة لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها. وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله. لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية، وهو رأي في نظر البعض وجيه.
1
الدكتور شبلي شميل
نحن لا نكتب طمعا في أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس ... وإنما نكتب لأهل العلم، وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التي هي مستودع أمانينا في المستقبل؛ فهي بما اكتسبته من التربية العلمية الصحيحة يمكنها أن تحل مسألة المرأة المكان الذي تستحقه من العناية والبحث.
2
قاسم أمين
حبذا لو تصفح هذا الكتاب النفيس (تحرير المرأة) كل من يغار على وطنه وأمته وساعد مؤلفه في بث آرائه بين الجمهور.
3
المقتطف
للحياة في أبنائها مآرب: تعطي بعضهم نفسا يكهربها الفكر والعاطفة، وتلقي في أعماقها وديعة النبوغ فيصير بها صاحبها كأنما هو النقطة المركزية التي تتصل بها أسلاك جميع الشعورات والخبرات والفكرات والأعمال. ما طغى ظالم في الأرض إلا اهتزت منه الجوانح حمية وحنقا. ولا استبدت جماعة بجماعة أو جنس بجنس إلا انطلق صوته يدمدم كالعواصف لأنه صوت انفجرت فيه أصوات من يتوجعون ولا يدرون كيف يتظلمون. ولا ضربت العلل الاجتماعية في بيئة عثوا إلا وحمل مشراط الجراح ولفائف المؤاسي وقام يبضع يوما ويضمد يوما. تنزل به وبجاره نكبة واحدة في آن واحد فيئن الجار كفرد بشري، ويصرخ هو وفي صراخه عويل جميع الذين قضوا وكانوا قبل الموت فريسة اليأس والهوان. وقد تكثر المحن على هذا «السعيد التعس»؛ لأنه كما أن البلسم الشافي لا تجود به الشجرة العطرية إلا بعد أن تقشر ثوبها ويتجرح صدرها فتجول حول كلومها اليد الشديدة متلمسة السائل الزكي، كذلك لا تخرج المناداة بالإصلاح القومي والتقويم العمراني إلا من أعماق نفس شققتها نصال الرزايا وجالت يد الألم تجس فيها آثار الجراح بلا شفقة.
تشيخ الأمهات مناولات بناتهن قبس الحياة المنير، ويظل الهاتف العتيد يتنقل محجوبا بين الأجنحة والمواليد من أهل الدار ونزيلها، والخمول الدهري مخيم على الجماعة إلى أن يجيء وقت اليقظة؛ إذ ذاك يبرز هاتفا في الناس فيجفلون. فيلقاه بعضهم ساخطا محتقرا، وغيرهم ناقدا متعنتا، ويصغي آخرون بمسامع النفس والرغبة، وبدهشة الحب والإعجاب، وسواء صمت آذانهم جميعا أم كانوا من المنصتين فإن صدى الصوت يظل مترددا حول الأفكار والعادات حتى يندمج فيها، فلا يلبث أن يصير الرأي واقعا والاقتراح إصلاحا. لماذا يجيء هذا الصوت الفعال من أفراد دون أفراد - مع أن الهاتفين كثير - وفي زمن دون آخر؟ ذلك سر من أسرار الحياة. وللحياة في الأمكنة والأزمنة والأفراد مآرب.
لم يكن قاسم أمين مصري الأصل وإن كان مصري المنبت والبيئة، وتام التمصر وطنية وإخلاصا. لكن الحياة اختارته ليقول ما لم يقله أحد في مصر الحديثة قبله ، وليترك في النشء أثرا جليلا لم يكن لغيره. لقد قرأت كتبه بعد «نسائيات» الباحثة في عام واحد (1914) فبدهي أن يمتزج ذكراهما في نفسي، حتى إني لا أفكر في الواحد إلا تناسق اسم الآخر ومذهبه في خاطري. وإني لأحسب من واجب الإقرار بالجميل أن أكرس له سطورا في ختام هذا البحث؛ لأنه عمل لغاية سعت إليها الباحثة بعده، وإن كان عمل كل منهما مدفوعا بفطرته الخاصة، سائرا نحو الكعبة المشتركة في طريقين يتحاذيان ويتباعدان على طول المسافة. لقد نفت الكاتبة عن نفسها اتباع مذهب قاسم، والتشيع له، بقولها في ردها على قصيدة شوقي بك:
فعلام أكثرت الملا
مة وانضممت لعذلي
وسقيتني من مر قو
لك مثل نقع الحنظل
ونسبتني حينا لمذ
هب قاسم وأبي علي
تعنين ويلك أنني
أمارة بتبذل
وهو إنكار يدل أيضا على أنها لم تنصفه - ولا أجرؤ أن أقول إنها لم تفهمه. وكيف أجرؤ على ذلك وأنا أعتقد - على رغم مني - بأن تأثيره فيها كان عظيما، وأنها لم تتناول القلم بشجاعة إلا لأن قلمه أوحى إليها مهيئا لها في النفوس سبيلا وواضعا في الأفكار قابلية واستعدادا. إنها لمست مثله نقطا معينة وارتأت إصلاحها تقريبا على الوجه الذي يطلبه. وهل يمكن ألا تنفعل امرأة راقية بكتابات هي الأولى من نوعها، ممن لم يرد للمرأة وللأمة إلا خيرا؟ لذلك أعود مجاهرة باعتقادي بأنها ابنته بالفكر والجرأة وتلميذته في المناداة بإصلاح شئون النساء. ولا ينفي ذلك ما بينهما من خلاف زهيد؛ لأن الأستاذ والتلميذ وإن اتحدت كلمتهما، فإن كلا منهما يظل جاريا وراء طبيعته يظهرها وينميها. وأبين شاهد على ذلك نجده بين ذروتي الفكر الإغريقي: أفلاطون وأرسطو. فإن كان أفلاطون زعيم الفلسفة الإيديالستية الكمالية الذي لا يبارى فإن التلميذ أرسطو انفصل عن أستاذه حتى صار اسمه مرادفا لاسم الفلسفة العلمية العملية. •••
هي تكتب كما تتكلم بفطرتها البسيطة، وهو كذلك يكتب كما يتكلم بفطرته البسيطة. إلا أن فطرتها هي نسائية فتنتقد وتنكت وتتألم وتشفق، وترتقي منبرا خياليا تخطب بالإصلاح ثم تضحك وتبكي ، وتأتي بجميع الأقوال والحركات التي تجعل المرأة محبوبة كالطفل، بليغة كالشاعر، خلابة كالسحار. أما هو ... فقلب تثقله العواطف الطروبة وفكر شغف بالعدل والإنصاف والحقيقة. يحب الخير والصلاح كما أنه يحب اللفتات الحلوة والكلمات اللطيفة. في ثنايا روحه شاعر ينشد وينوح ساعة يقول:
يشعر العاشق بلذة ساحرة إذا كان محبوبا وإذا كان غير محبوب، فيجد في ألمه لذة أخرى مشابهة للسكر. «أكثر الناس لا يفهمون من الحب إلا أنه أكلة لذيذة، إذا حضرت أكلوها هنيئا وإذا غابت استعاضوها بغيرها. والحقيقة أنه إحساس عميق يستولي على النفس كلها ويجعلها محتاجة إلى الاختلاط بنفس أخرى احتياجا ضروريا كاحتياج العليل إلى الشمس والغريق إلى الهواء. نار تلهب القلب لا يطفيها البعد ولا يبردها القرب بل يزيدها اشتعالا. ومرض يقاسي فيه العاشق عذابا يظهر باحتقان في مخه وخفقان في قلبه واضطراب في أعصابه واختلال في نظام حياته، يظهر على الأخص في الأكل وفي النوم وفي الشغل، ويجعله غير صالح لشيء سوى أنه يقضي أوقاته شاخصا إلى صورة محبوبته مستغرقا في عبادتها ذاكرا أوصافها وحركاتها وإشاراتها وكلماتها. نظرة في عيون محبوبته تملأ قلبه فرحا وتجعله يتخيل أنه ماش في طريق مغروس بالورد أو راكب سحابة وطائر في المرتفعات العالية فوق فوق قريب السماء. وفي هذه اللحظة يكون سعيدا أسعد من أكبر ملوك الأرض، فإذا انقضت عاد إلى ما كان فيه من العذاب والألم.»
4
في هذا المزاج الذي جمع بين الذكاء الفطري والمعرفة المكتسبة والخبرة الواسعة، بين جد رجل القانون ودقة الأديب الطروب يتكون الاحتياج الشديد إلى الإصلاح. لأننا إذا أردنا إصلاحا في التعليم مثلا فلا ننتظره ممن لا يحسنون القراءة، وإذا أردنا تعديل القانون وتنقية الأحكام فلا نطلبه من مستبد قانونه أنانيته. وإذا شئنا تصفية الذوق وتلطيف الشعور فلا نلجأ إلى الطبائع الخشنة والشعائر الضخمة، بل نأمل في الفكر المصقول والعقل الراجح والنفس المتقدة عواطف، لتسوق بالناس إلى حب التحسن والرفعة المعنوية. ورقيق القلب نافذ الفكر يتعذب بمعاشرة من لا يشبهه، ولا يميل إلا إلى من تفاهم معه، فينتخب أصدقاءه انتخابا لا يجعله متساهلا فيه احتياجه المؤلم إلى خل وفي. اقرأ كيف يصور قاسم الصديقين:
تأمل في مسامرة صديقين تجد أنها كنز سرور لا يفنى. متى تلاقيا يفرغ كل منهما روحه في روح الآخر فيسري عقلهما من موضوع إلى موضوع وينتقل من الجزئيات إلى الكليات ويمر على الآمال والآلام والقبيح والحسن والناقص والكامل. كل عمل أو فكر أو حادث أو اختراع يكسب عقلهما غذاء جديدا ويفيد نفسيهما لذة جديدة. كل مظهر من مظاهر حياة أحدهما العقلية والوجدانية وكل ما تحلت به نفسه من علم وأدب وذوق وعاطفة تنعكس منه على نفس الآخر فيكسبه لذة جديدة ويزيد في رابطة الألفة بينهما عقدة جديدة.
5
فإذا كان هذا ما يطلبه من صديقه فماذا تراه يطلب من تلك التي هي زوجته، وقد قيل إن العاقل ينتخب لنفسه امرأة جامعة لكل الصفات التي يريدها في الصديق؟ ماذا يطلب من المخلوقة التي ينفعل الرجل مرغما بتأثيرها في كل أدواره، وفي كل خطوة يخطوها سواء شاء أم لم يشأ، ينفعل بتأثيرها غريبة وقريبة، عابرة في سبيله أو شريكة له في حياته؟ ماذا يطلب، وهل عنده ما هو طالب بحق؟ هو يجيب عن هذا السؤال:
وكل منا يذوق حلاوة الساعات التي تمر به بدون أن يشعر حينما يطول الحديث بينه وبين صديق له وتختلط نفساهما ببعض حتى يذهل كل عن أيهما يتكلم وأيهما يسمع. فهذا السرور يتضاعف بلا شك، إذا وجد هذا التوافق بين رجل وأمه وأخته أو زوجته. ولكن يحول الآن بيننا وبينهن عدم التوافق بين عقولنا وعقولهن ونفوسنا ونفوسهن؛ ولهذا فإنا نشفق عليهن ونحن إليهن ونعذرهن، ولكن لا تكمل محبتنا لهن؛ لأن الحب التام هو ذلك التوافق، وهو معدوم.
6
هو يعرف المرأة لأنه يعرف الرجل، ويعرفهما معا لأنه يعرف الطبيعة البشرية. ترى من يستطيع أن يكتب كلمة كهذه إن لم يكن قد خبر أحوال الناس، ونقدهم ثمن كل حرف من حروفها نقطة من أثمن دماء قلبه : «كلما قدرت على أن أقوم بخدمة طلبها مني صديق أسفت على خسارته وعددته عدوا جديدا.» فلا عجب من أن هذا الذي ينفذ بنظره إلى أقاصي الوجدان طائفا بين ألغاز الميل والنفور يتمكن من لمس تفتت المرائر وإحصاء نبضات القلوب. وأي حدس متيقظ مصيب في هذا البيان: «يوجد أناس متى رأيتهم أو سمعتهم تشعر بنقص في خلقهم كأنهم صنعوا بغاية السرعة فلم ينالوا حظهم من الإتقان المعهود.»
7
وإذا حاولت إجمال شخصيته ووضع عنوان لها ما وجدت أفضل من سطوره الآتية:
يظهر لي أن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لجهازه العصبي فأكثر الناس استعدادا للرقي هم العصبيون الذين تبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغا عظيما وتهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة، أولئك هم السعداء التعساء الذين يتمتعون ويتألمون. أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون فيما بينهم بمصادمة كل صعوبة. من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها فيصير شاعرا بليغا أو وليا طاهرا أو فيلسوفا حكيما أو نبيا كريما.
8
أو قاسما أمينا ...
لأني أظن على ما أرى من كتاباته وصورته الموضوعة في صدر «كلمات»، إنه إن لم يكن مزاجه عصبيا بحتا ففيه شيء كثير من المزاج العصبي.
كل هذه العناصر النفسية تجمعت فكان أغلبها عنصر القضاء. هو يلاحظ الأشياء ويراقب الحوادث مدققا ممحصا ويحكم بفطرته لها أو عليها، وجاءت ممارسة القانون فزادت تلك الملكة ظهورا. هو قاض في جميع كتاباته يجلس على منصة العدل غير ملتفت كالخطيب، إلى أنه أعلى مكانا من الجالسين وأنه يجب أن يرفع صوته ليسمع السامعون، بل يجلس جلوسا طبيعيا لأن تلك المنصة مكانه، ويتكلم بلهجة بسيطة. يرى الأشياء حوله فيدونها ويقول: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس.»ليشتهروا بين الناس
9
ويسمع الأقوال فيسجلها، وهو الخبير بما فيها من رسم نفسية جمهور كبير من الناس، وبما تقيده على قائلها من ونى فكري واستسلام ذليل: «سئل ح. بك: ما رأيك في كتاب تحرير المرأة؟ فأجاب: رديء ! - هل قرأته؟ - لا. - أما يجب أن تطلع عليه قبل أن تحكم برداءته؟ - ما قرأت ولا أقرأ كتابا يخالف رأيي.»
10
وإذا اهتم بموضوع ما أجرى فيه تحقيقا يتناول جميع فروعه العمرانية والسيكولوجية والعلمية والوراثية والعائلية والوسطية، فيجاهر بما يراه حقا وقد لا يفهمه الآخرون، ولا يخشى لوما بتسمية العيوب والأمراض بأسمائها. يجاهر غير منتبه للصواعق المنقضة عليه ممن لا يحسنون إلا مضغ كلمات تلقنوها يوما فتجمدت معانيها في أفكارهم وفاخروا باحتكار الحقيقة. إنه يبصر اللفائف البالية الفاسدة على قروح قديمة فيمد إليها يده الجريئة، وبينا العليل يغلظ القول محتجا باسم الدين والأمة والشرف والعائلة ينزع هو تلك الأربطة هادئ الجأش، ويحلل الجراثيم الخبيثة الراكدة عليها فيحصيها واحدا فواحدا. إن نظرة المحب تلمع في عين هذا الآسي. ولا يروعه ضجيج الساخطين، بل يصمت عالما بأن التمدد أول أدوار الشفاء، وإذا تكلم قال بسذاجة:
نحن نعلم أن رجلا يعيش في عالم الخيال يكتب في مكتبه على ورقة أن ليس على النساء إلا أن يقرن في بيوتهن خاليات البال تحت كفالة وحماية الرجال. نفهم ذلك على الورق؛ لأن الورق يحتمل كل شيء.
11
وكما أن الطبيب منه ودود كذلك القاضي مفكر. هذا يصغي إلى أقوال الشهود ويجمع حيثيات حكمه في حين أن ذاك يغوص في نفس المتهم ويقلب صفحات حياته حتى يصل إلى كلمة الاستهلال، حتى يصل إلى أمه، نعم أمه؛ كيف كانت؟ وكيف ربت هذا المسكين؟ وعلى أي وجه تربت هي قبل أن تلتقي بالذي صار فيما بعد أبا له؟ ويتسلسل بحثه إلى نساء أخريات، وإلى جميع النساء، فيرى حالتهن كما هي، ويعذر الذي يناقضه في الرأي لأنه لم ير ما رأى هو. فلا يجد ذاك صعوبة في أن يحكم على المرأة بالانزواء في المنزل. وإنما:
يجد الصعوبة رجل اعتاد أن يحلل النظريات ويختبرها بقياسها إلى الواقع، فإنه إذا أراد مثلا أن يحصل لنفسه رأيا فيما هي حقوق النساء التي نحن بصددها يجب عليه أولا أن يسوق نظره إلى الوقائع التي تمر أمامه. أعني أن يطبق نظريته على الواقع ويتصورها في ذهنه منفذة ومعمولا بها في قرية، ثم في مدينة، ثم في إقليم، وتتمثل أمامه النساء في جميع أعمارهن وأحوالهن وطبقاتهن فيراهن بنات ومتزوجات ومطلقات وأرامل. ويراهن في البيت وفي المدرسة وفي الغيط وفي الدكان وفي الأماكن الصناعية. ويقف على سلوكهن مع أزواجهن وأولادهن والأجانب. ثم يعرف البلاد التي للنساء فيها شأن غير ما لنسائنا في بلادهن، وكيف أنهن يستعملن حقوقهن، والنتائج التي ترتبت على هذا الاستعمال. ويقف على حالة المرأة في الأزمان الخالية والتقلبات التي طرأت عليها. «فإذا توفر ذلك كله لم يتيسر له أن يحكم في المسألة حكما قاطعا. لأنه يعلم أن رأيه قائم على مقدمات ظنية فلا تكون نتائجها إلا تقريبية؛ لذلك تراه دائما على طريق البحث. لا يركن إلى ما وصل إليه جهده إلا ليضعه قاعدة لعمل مؤقت. ولا يأنف من تعديل رأيه بحسب ما يقتضيه الحال ويظهره العمل.»
12
لا يستطيع المرء أن يكون «قاضيا» عادلا أكثر مما يظهره قاسم أمين في هذه الفقرة. وإنك لتجد هذه النزاهة والأمانة والإنصاف في كل ما كتب؛ لذلك هو يخفي العواطف وينساها ما استطاع؛ لأنها - كما يقولون - تحول بين الفكر والعدل. ويظل متكلما بعقله، مناديا بالهدوء والرزانة والسير على القواعد العلمية والانتفاع بالمشاهدات الاجتماعية، ووجوب ضبط الانفعالات على الدوام. وعلى رغم ذلك فإن نفسه لا يفتر أبدا حتى إذا وصل إلى فكرة لمست من قلبه مكانا حساسا أرسل كلمات تشبه في مؤاساتها لمسة التدليل والتحبب على جبهة رضيع عزيز:
أليس من الغريب ألا يوجد رجل بيننا يثق بامرأة أبدا مهما اختبرها ومهما عاشت معه؟! أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟! أيليق ألا نثق بهؤلاء العزيزات المحبوبات الطاهرات وأن نسيء الظن بهن إلى هذا الحد؟!
13
وفي وسط كل هذه الأبحاث الجدية، الخالي معظمها من التأثر والشعور، يشعر القارئ بأن قلب الرجل ليس بعيدا، أن قاسما أحب المرأة حبا جما. وقد خط لها رسما يشرفها في هذه الألفاظ الوجيزة: «كلما أردت أن أتخيل السعادة تمثلت أمامي في صورة امرأة حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.»
14
امرأة يجد فيها:
لطف الشمائل ورقة الذوق، وبهاء الفطنة، ونفاذ العقل، وسعة العرفان، وحسن التدبير، والحذق في العمل مع المحافظة على النظام فيه، ونظافة الباطن والظاهر، وحنو القلب، وصدق اللسان، وطهارة الذمة، وعظم الأمانة، والإخلاص في الولاء، ونحو ذلك من الفضائل المعنوية التي ترجح عند العقلاء على جميع المحاسن الجسدانية.
15
هذا هو مثله النسائي الأعلى، وبهذا المثل القاطن جوارحه يسير في سبيل الحياة مراقبا المرأة المصرية في خبرته القانونية، وفي العائلة والاجتماع والأمة جميعا. فماذا يجد؟ يجد ما يدفعه إلى كتابة كل ما كتب في سبيل إصلاحها، يجد ما يجعله يقول في التمهيد لكتاب «تحرير المرأة»:
أكتب هذه السطور وذهني مفعم بالحوادث التي وردت علي بالتجربة وأخذت بمجامع خواطري. ولا أريد أن أذكر شيئا منها؛ لعلمي أنها ما تركت ذهنا حتى طافت به ولا خاطرا حتى وردت عليه. فإن مثار هذه الحوادث جميعها شيء واحد، هو المرض الملم بجميع العائلات، لا فرق بين فقيرها وغنيها ولا بين وضيعها ورفيعها.
ويرى يوما فتاة صغيرة يعجبه منها الذكاء والجمال، فيشير على والدها بتعليمها، ويجيب هذا بأنها تتعلم إدارة المنزل، وهذا يكفي. فيشفق قاسم على هذا الصلف والجهل وينطلق مفسرا.
يعني هذا الأب العنيد بإدارة المنزل أن بنته تعرف شيئا من صناعة الخياطة وتجهيز الطعام واستعمال المكوى وما أشبه ذلك من المعارف التي لا أنكر أنها مفيدة بل لازمة لكل امرأة. ولكني أقول ولا أخشى نكيرا أنه مخطئ في توهمه أن المرأة التي لا يكون لها من البضاعة إلا هذه المعارف يوجد عندها من الكفاءة ما يؤهلها إلى إدارة منزلها؛ ففي رأيي أن المرأة لا يمكن أن تدبر منزلها إلا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقلية والأدبية. «والحقيقة أن إدارة المنزل صارت فنا واسعا يحتاج إلى معارف كثيرة مختلفة. فعلى الزوجة وضع ميزانية الإيراد والمصروف بقدر ما يمكن من التدبير حتى لا يوجد خلل في مالية العائلة. وعليها مراقبة الخدم بحيث لا يفلتون لحظة من مراقبتها، وبغير هذا يستحيل أن يؤدوا خدمتهم كما ينبغي. وعليها أن تجعل بيتها محبوبا إلى زوجها فيجد فيه راحته ومسرته إذا أوى إليه، فتحلو له الإقامة فيه ويلذ له المطعم والمشرب والمنام، فلا يطلب المفر منه ليمضي أوقاته عند الجيران أو في المحلات العمومية. وعليها - وهو أول الواجبات وأهمها - تربية الأولاد جسما وعقلا وأدبا» ... «ومن المعلوم أن الطفل لا يعيش من طفولته إلى سن التمييز إلا بين النساء» ... «والأم الجاهلة ليس في استطاعتها أن تصبغ نفس ولدها بصبغة الصفات الجميلة؛ لأنها لا تعرفها» ... «قد صار من المقرر عندنا أن الأمهات لا يفلحن في تربية الأولاد حتى صار من المثل في الحطة ورداءة السيرة أن يقال فلان تربية امرأة.»
16
بل هو يذهب إلى أبعد من أن يحصر وظيفة الزوجة في إدارة المنزل وتربية الأطفال، هو يريد زوجة تقاسمه أفراحه وآلامه وكلامه وسكوته. يريد منها أختا لروحه فيشكو ويقول:
إن الرجل أحيانا (ولست أدري هل كل رجل كذلك) يفهم بكلمة ويود لو يفهم بالإشارة. يسكت في أوقات ويتكلم في أخرى ويضحك في غيرها. «له أفكار يحبها ومذهب يشغله وجمعية يخدمها ووطن يعزه. له لذائذ وآلام معنوية؛ فيبكي مع الفقير ويحزن مع المظلوم ويفرح بالخير للناس. وفي كل فكرة تتولد في ذهنه وإحساس يؤثر على أعصابه يود أن يجد بجانبه إنسانا آخر فيشرح له ما يشعر به ويتسامر معه» ... «فإذا كانت امرأته جاهلة كتم أفراحه وأحزانه عنها، ولا يلبث أن يرى نفسه في عالم وامرأته في عالم آخر. ومن ثم تبتدئ عيشة لا أظن أن الجحيم أشد نكالا منها. عيشة يرى كل منهما فيها أن صاحبه هو العدو الذي يحول بينه وبين السعادة» ... «والزوجة المصرية - مهما كانت - لا تعرف من زوجها سوى أنه طويل أو قصير، أبيض أو أسود. أما قيمة زوجها العقلية والأدبية وسيرته وطهارة ذمته ورقة إحساسه ومعارفه وأعماله ومقاصده في الوجود وكل ما تصاغ منه شخصية الرجل منا ويصير به إلى أن يكون محترما محبوبا ممدوحا في أمته، فهذا لا يصل إلى عقلها شيء منه. وإن وصل فلا يؤثر على منزلته في نفسها. وعلى هذا أول من يجهل الرجل زوجته. فكيف يظن أنها تحبه؟!» ... «أبغض الرجال عندها من يقضي أوقاته في الاشتغال في مكتبه. كلما رأته جالسا منحني الظهر مشغولا بمطالعة كتاب غضبت منه ولعنت الكتب والعلوم التي تسلب منها هذه الساعات وتختلس الحقوق التي اكتسبتها على زوجها. ومن هذا يتولد على الدوام نزاع لا ينتهي إلا بنزاع جديد ولا يدري الزوج المسكين ماذا يصنع إذا أراد الجمع بين هذين العدوين: الزوجة والعلم» ... «ومن البديهي أن الرجل الذي يكون هذا حاله ينتهي بفقد كل استعداد للعمل؛ لأن الرجل يطلب راحته وهي في يد امرأته ولكنها تبخل بها عليه.»
17
هذه حالة المرأة فكيف يصلحها ويجعلها نافعة لنفسها ولغيرها؟ ما الذي جعل الرجل أفضل اليوم منه البارحة؟ وعلى أي شيء تنتصب أركان العمران؟ أمر أصبح شغله الشاغل فحمل قلمه ونظر إليه كمن ينظر إلى الأمل الوحيد في الدنيا وجرى به على القرطاس المطيع، ذلك القلم الذي قال فيه خليل مطران:
يدك القبيح ويبني المليح
رجوعا إلى سنة الراسم
يشعشع نورا إذا ما انبرى
يسيل بماء الدجى الفاحم
باحثة البادية تصلح كامرأة، وقيل إن المرأة أكثر تشبثا بالماضي. وقاسم أمين يصلح كرجل؛ أي يرسل نظره أبدا إلى الأمام. هي تسير بتحفظ بين تشعب الأفكار الجديدة والآراء المستحدثة، وكلما خطت خطوة التفتت إلى الوراء لتتثبت من أنها تابعة السبيل الذي يربط الأمس بالغد. وكلما جاءت بتبديل في النصوص الاصطلاحية حاولت سبكه في قالب الاعتدال مع مراعاة العادات المألوفة ما أمكن. هي كثيرة التحذر في إصلاحها، عملية متواضعة في مطالبها، لا تبتعد فترا واحدا عن حدود بيئتها وإن حامت فوقها بما أوتيت من شجاعة وذكاء. إلا أنك حينما تسمعها صارخة كثيرا ما تظن أنها تفعل لتؤكد لك أنها غير خائفة، ولك أن تقدر كذلك أنها تصرخ لتسمع صوتا إنسيا - وإن كان صوتها - يبعد عنها الرعب والوجل في وحدتها الفكرية. أما قاسم فلا يصرخ ولا يخاف ولا يرتعش. في فكره مقدار الكمال الكافي لاختطاط النظريات، وفي أصالة رأيه وحزمه من الجدارة ما يحول النظريات إلى ما يطابق الواقع، بل هي الواقع بعينه. وله جناحان يدفعان به إلى نقطة إدراكية يشرف منها على الماضي والحاضر والمستقبل وعلى جميع البيئات والأمم والتواريخ. فيضع هناك كرسي القضاء - كرسيه - ويجلس متأملا مقابلا بين شعب وشعب وعصر وعصر، باحثا في كل آن وزمان عن تلك السعادة الحلال المتمثلة له في صورة امرأة «حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.» وبين زرافات النساء المارة أمامه تستوقف خاطره امرأة بلاده: أمه وأخته وزوجته وابنته، أولئك اللاتي أوجدتهن الطبيعة صديقات لحزنه وأنسه. وكأني به يناديهن فيلبين النداء بطيئات متسكعات تعبات. ويدنين فيرى عليهن غشاء يمنع عنهن نور الشمس ونور الحياة: الحجاب!
لهذه الكلمة دوي مرعب في نفسه كما لدوي أبواب السجون في مسمع من حكم عليه بالسجن المؤبد ظلما. فيمسك بهذا الحجاب ويقلب معانيه من جميع الوجوه، ويدرس تاريخ نشأته وتأثيره في الشعوب التي اقتبسته ثم نبذته، ويحلل أسبابه ويتبصر في نتائجه، ويراجع أقوال الكتاب العزيز والحديث الشريف وعادات القوم، فيقرر بعد البحث والتعليل أنه ليس إسلامي الأصل ما دام أنه استعمل عند أمم سبقت الإسلام، وأنه ليس واجبا على المرأة المسلمة ما دام أن ليس في الشرع نص صريح يأمر به. هو في نظره أثر من آثار الهمجية الأولى، بل هو «أقصى وأفظع أشكال الاستعباد؛ ذلك لأن الرجال في عصر التوحش كانوا يستحوذون على النساء إما بالشراء وإما بالاختطاف.» ويتابع قائلا:
فلما بطل حق ملكية الرجال على النساء اقتضت سنة التدريج أن تعيش النساء في حالة وسط بين الرق والحرية، حالة اعتبرت فيها المرأة أنها إنسان لكنه ناقص غير تام. أكبر على الرجل أن يعتبر المرأة التي كانت ملكا له بالأمس مساوية له اليوم، فحسن لديه أن يضعها في مرتبة أقل منه في الخليقة. وزعم أن الله لما خلق الرجل وهبه العقل والفضيلة وحرمها من هذه الهبات. وقال: إنه «يلزم أن تعيش غير مستقلة تحت سيطرة الرجل، وأن تنقطع عن الرجال وتحتجب بأن تقصر في بيتها وتستر وجهها إذا خرجت؛ حتى لا تفتنهم بجمالها أو تخدعهم بحيلها، وأنها ليست أهلا للرقي العقلي والأدبي فيلزم أن تعيش جاهلة» ... «وذلك هو السر في ضرب الحجاب وعلة بقائه إلى الآن» ... «ولما كانت تهمة المرأة بنقصان العقل هي الحجة التي اتخذها الرجال لاستعبادها وجب علينا أن نبحث في طبيعة المرأة لنعلم إن كانت كما يقال أحط من طبيعة الرجل أم لا» ... «ولا ريب أن المرأة اليوم أحط من الرجل في الجملة، ولكن علينا أن ننظر هل هذه الحالة طبيعية لها أو ناشئة عن طرق تربيتها» ... «لأن الرجال اشتغلوا أجيالا عديدة بممارسة العلم فاستنارت عقولهم وتقوت عزيمتهم بالعمل، بخلاف النساء فإنهن حرمن من كل تربية، فما يشاهد الآن بين الصنفين من الفروق هو صناعي لا طبيعي. لا نريد بهذا التساوي أن كل قوة في المرأة تساوي كل قوة في الرجل وكل ملكة فيها تساوي كل ملكة فيه، ولكنا نريد أن مجموع قواها وملكاتها تكافأ مجموع قواه وملكاته، وإن كان يوجد خلاف كبير بينهما؛ لأن مجرد الخلاف لا يوجب نقص أحد المتخالفين عن الآخر» ... «وبعبارة أخرى يوجد مذهبان أحدهما ينصح للناس بالتمسك بالحجاب والثاني يشير عليهم بإبطاله» ... «فأي المذهبين يتفق مع مصلحتنا وتتوفر به منافعنا؟ أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية ويمنعها من استكمال تربيتها. ويعوقها عن كسب معاشها عند الضرورة. ويحرم الزوجين من لذة الحياة العقلية والأدبية. ولا يأتي معه وجود أمهات قادرات على تربية أولادهن. وبه تكون الأمة كإنسان أصيب بالشلل في أحد شقيه» ... «وأما الحرية فمزاياها هي إزالة جميع المضار التي تنشأ عن الحجاب، وسبق ذكرها. وضررها الوحيد أنها في مبدئها تؤدي إلى سوء الاستعمال، ولكن مع مرور الزمن تستعد المرأة إلى أن تعرف مسئوليتها وتتحمل تبعة أعمالها وتتعود على الاعتماد على نفسها والمدافعة عن شرفها حتى تتربى فيها فضيلة العفة الحقيقية التي هي ترفع النفس المختارة الحرة عن القبيح، لا خوفا من عقاب ولا طمعا في مكافأة ولا لوجود حائل ليس في الإمكان إزالته، بل لأنه قبيح من نفسه.» وبالجملة فإن «المرأة لا تكون ولا يمكن أن تكون وجودا تاما إلا إذا ملكت نفسها وتمتعت بحريتها الممنوحة لها بمقتضى الشرع والفطرة معا ونمت ملكاتها إلى أقصى درجة يمكنها أن تبلغها. والحجاب على ما ألفناه مانع عظيم يحول بين المرأة وارتقائها، وبذلك يحول بين الأمة وتقدمها.»
18
كما يخطئ من لم يعرف من قاسم أمين سوى أنه ينادي برفع الحجاب، وهو الأمر الذي اشتهر به! وأنه يريد للمرأة الحرية المطلقة بلا قيد ولا شرط، وهو ما يقوله الذين لم يقرءوا كتبه! إنه من أكثر من أعرف محافظة على أنثوية المرأة ومنزلتها في العائلة والأمة، وإن أنصفها في غير هذا الدور.
الفصل التاسع
قاسم أمين وباحثة البادية: المقابلة بينهما (تابع وخاتمة)
قال المقتطف في وصفه حفلة التأبين لقاسم، إنه ورد في خطاب السيد رشيد رضا الكلمات الآتية:
أخبرني قاسم أمين أنه كان يوما اطلع على ما كتبه الدوق داركور غافلا عن حال النساء بمصر، فآلمه ذلك النقد والتشنيع فاندفع إلى الرد
1
بوجدان الغيرة، وبعد أن شفى غيظه وأرضى غيرته بذلك عاد إلى نفسه وفكر في الأمر فرأى أن كثيرا من العيوب التي عاب الدوق بها البيوت المصرية صحيح في نفسه فبعثه ذلك إلى درس هذه المسألة. وانتهى به البحث والتنقيب إلى تصنيف كتاب «تحرير المرأة».
والواقع أن من طالع الرد على الدوق داركور وعلى كتاب «تحرير المرأة» رأى أن فكر قاسم ارتقى واتسع وتسامى في الفترة التي مرت بينهما. وقد عزز هذا الكتاب بكتاب «المرأة الجديدة» ردا على معارضيه فجاء كالكتاب الأول، بل أقوى حجة وأوضح دليلا. فقسمه إلى حرية المرأة، والواجب على المرأة لنفسها، والواجب عليها لعائلتها، ثم التربية والحجاب، وخاتمة ترسم صورة الأفكار في تلك الأيام بالنسبة إلى المرأة. أما الحرية فلا بد من منحها إياها لأنه لا يظن «أن عقلا يقبل أن تعتبر المرأة إنسانا كامل العقل والحرية من جهة استحقاقها لعقوبة الشنق إذا قتلت، ثم تعتبر أنها ناقصة العقل بحيث تحرم من حريتها في شئون الحياة العادية.»
2
فقال:
على أن ما قيل ويقال من أن حرية النساء تعرضهن للخروج عن حدود العفة كله كلام لا أصل له، تبطله التجارب وينبذه العقل؛ إذ التجارب المؤسسة على المشاهدات الصحيحة تدل على أن حرية النساء تزيد في ملكاتهن الأدبية وتبعث فيهن إحساس الاحترام لأنفسهن وتحمل الرجال على احترامهن.
3
ويرى واجب المرأة لنفسها في ترتيب أعمال الإنسان المنقسمة إلى ثلاثة أنواع: الأعمال التي يحفظ بها حياته، والأعمال التي تفيد عائلته، والأعمال التي تفيد المجتمع، مقررا أن هذه الأعمال من خصائص الرجال والنساء على السواء. ولكنه يضرب صفحا عن نوع الأعمال الثالث؛ لا لقصور المرأة وعجزها الظاهر الآن فحسب؛ بل لأنه يرى «أننا لا نزال إلى الآن في احتياج كبير إلى رجال يحسنون القيام بالأعمال العمومية.» يسلم بأن الفطرة أعدت المرأة إلى الهيئة العائلية ويردد أن «أحسن خدمة تؤديها المرأة إلى الهيئة الاجتماعية هي أن تكون زوجة ووالدة.» إلا أن هذا لا ينسيه الواقع، وهو أن كثيرات ليس لهن عائل ولا واجبات عائلية، وأن عدد هؤلاء اثنان في المائة من مجموع النساء المصريات «فهل من مصلحة للرجال أو لعموم الهيئة الاجتماعية من أن يعيش هؤلاء النساء ضعيفات جاهلات فقيرات؟» ثم يتبسط في الشرح قائلا:
يوجد في كل بلد عدد من النساء لم يتزوج وعدد آخر تزوج وانفصل بالطلاق أو بموت الزوج، ومن النساء من يكون لها زوج ولكنها مضطرة إلى كسب عيشها بسبب شدة فقره أو عجزه أو كسله عن العمل. ومن النساء عدد غير قليل متزوجات وليس لهن أولاد. كل هؤلاء النسوة لا يصح الحجر عليهن. «يقول المعترضون إنهم لا يمنعون النساء الفقيرات من مباشرة أعمال الرجال والاختلاط بهم كما أنهم لا يمنعون المرأة من التعليم إذا كان لازما لكسب عيشها؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات» ... «ولا يخفى أن كل نفس حية معرضة لانتياب الحاجات ونزول الضرورات» ... «ولما كان الاطلاع على الغيب أمرا غير ميسور للإنسان وجب أن تستعد كل امرأة لهذه الحوادث قبل أن تقع لها.» فإذا تزوجت بعد ذلك فلا يضرها علمها بل تستفيد منه كثيرا وتفيد عائلتها، وإن لم تتزوج أو تزوجت ثم انفصلت عن زوجها لسبب من الأسباب الكثيرة الوقوع أمكنها أن تستخدم معارفها في تحصيل معاشها بطريقة ترضيها وتكفل راحتها واستقلالها وكرامتها. «يجب أن تربى المرأة على أن تكون لنفسها لا لأن تكون متاعا لرجل ربما لا يتفق لها أن تقترن به مدة حياتها. يجب أن تربى المرأة على أن تدخل في المجتمع وهي ذات كاملة لا مادة يشكلها الرجل كيفما شاء. يجب أن تربى المرأة على أن تجد أسباب سعادتها وشقاءها في نفسها لا في غيرها» ... «وليس معنى ذلك إلزام كل امرأة بالاشتغال بأعمال الرجال، وإنما معناه أنه يجب أن تهيأ كل امرأة للعمل عند مساس الحاجة إليه.»
4
هذه النقطة من الموضوع ينساها كثير ممن يتعرضون لمعالجة تهذيب المرأة فيجزمون بأن لا وجود للمرأة إلا بجانب الرجل. فكيف يحيا ذلك العدد الكبير من النساء الذي لا يعيش للرجل؟ لقد أنصفهن قاسم. ثم تحول إلى الوظيفة المباركة التي سماها واجب المرأة لعائلتها، مفصلا كيف أن الناس عادة يسيئون فهم تلك الوظيفة؛ إذ يجعلونها مقصورة على الأمومة الجسدية، ناسين أن المرأة الحرة هي التي يكون لها نفوذ عظيم صالح في أسرتها، وأن نفوذ الجاهلة المستعبدة لا يتعدى ما يكون «لرئيسة الخدم في البيت»، وكم كان هذا النفوذ سيئ الأثر جالب الهم والغم! يلوم من كانت هذه حالتها مشفقا ناسبا انحطاطها إلى من هو السيد، مرجعا أمره - كما فعلت الباحثة - إلى أصله الحقيقي وهو إهمال الرجل وأنانيته وبطشه. وما تتعلمه البنات الآن ليس بكاف في رأيه لأن:
أكثر ما تعرفه المرأة التي يقال إنها متعلمة هو القراءة والكتابة، وهذه واسطة من وسائط التعليم وليست غاية ينتهي إليها. وما بقي من معارفها فهي قشور تجمعها الحافظة في ريعان العمر ثم تنفلت منها واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى شيء.
5
هو يريد شيئا أفضل وأبقى من هذه اللوامع الظاهرة التي يعنى الأهل بطلاء شخصية بناتهم بها من العزف على آلات الطرب، والغناء، ومبادئ الرسم، والكلام بلغة أو بلغات لا يحسن بها غير ثرثرة الاجتماعات وقراءة الروايات، وتظارف الدمى تصنعا بالصوت والحركة. يريد للمرأة شخصية قوية مستقلة، ولا يظنها قادرة على القيام بوظيفتها في العائلة والأمة إلا إذا حازت جانبا كبيرا من المعرفة، وهي الوسيلة الوحيدة التي يرتفع بها «شأن الإنسان من منازل الضعة والانحطاط إلى مراقي الكرامة والشرف.» وإن لم تكن الأم راقية بمعرفتها وفكرها فكيف تستطيع تربية ابنها على مثل ذلك؟ قال:
غاب عنا أن الرجل إنما يكون كما هيأته والدته في صغره. «ويظن الجمهور الأعظم من الناس أن التربية من الهنات الهينات، ولكن من يعرفها حق المعرفة يعلم ألا شيء من الشئون الإنسانية مهما عظم يحتاج إلى علم أوسع ولا نظر أدق ولا عناء أشق مما تحتاج إليه التربية. أما من جهة العلم فلأنها تحتاج إلى جميع العلوم التي توصل إلى معرفة قوانين نمو الإنسان الجسماني والروحاني. وأما من جهة المشقة والعناء فلأن تطبيق هذه القوانين على ما يلائم حال الطفل من يوم ولادته إلى بلوغه سن الرشد يحتاج إلى صبر ومثابرة في العمل ودقة في الملاحظة والمراقبة قلما يحتاج إليها عمل آخر. لا يؤخذ من ذلك أني أذهب إلى أن كل أم يجب عليها أن تحيط بتلك العلوم الواسعة ولكن أن جميع الأمهات يجب عليهن أن يعرفن كلياتها، وكلما زاد علم الواحدة منهن بأصول العلوم وفروعها زادت قوة استعدادها لتربية أولادها» ... «وليس تأثير المرأة في العائلة قاصرا على تربية الأطفال، بل المشاهد بالعيان أن المرأة تؤثر على جميع من يعيش حولها من الرجال. فكم من امرأة سهلت على زوجها وسائل النجاح في أعماله، وأعدت له أسباب الراحة والاطمئنان ليتفرغ لأشغاله!» ... «وكم من امرأة طيبت قلب الرجل وقوت عزيمته في حال اليأس والقنوط! وكم رجل طلب المجد ومعالي الأمور طمعا في إرضاء محبوبته فبلغ الغاية مما طلب!»
6
وأي مصلحة لرجل أعظم من أن يعيش وبجانبه رفيقة تلازمه في الليل والنهار، في الإقامة والسفر، في الصحة والمرض، في السراء والضراء، رفيقة ذات عقل وأدب، عارفة بحاجات الحياة كلها، تهتم بكل شيء يمس بمصلحة زوجها ومستقبل أولادها، تدبر ثروته، وتحافظ على صحته، وتدافع عن شرفه، وتروج أعماله، وتذكره بواجباته، وتنبهه إلى حقوقه، وتعرف أنها باجتهادها تجد في منفعتها كما تجد في منفعة زوجها وأولادها. وهل يسعد رجل لا يكون بجانبه امرأة يهبها حياته وتشخص الكمال بصداقتها أمام عينيه، فيعجب بها ويتمنى رضاها ويتوسل إليها بفاضل الأعمال ويدنو منها بعقائل الصفات ومكارم الأخلاق، صديقة تزين بيته وتبهج قلبه وتملأ أوقاته وتذيب همومه؟ هذه الحياة التي لا يشعر الرجال عندنا بشيء منها هي من أعظم الينابيع للأعمال العظيمة.
7
يا لبلاغته ساعة يصف المرأة المثلى! إنه يتوق إلى أن يلقى فيها زوجة وأما وأختا وصديقة وحبيبة وإلهة ومهذبة جميعا. وهو جائع عطش إلى كل ما تكنه ذاتها من رحمة وحنو وحزم وحب شامل. كم كان أمينا لخيالها في ذهنه ساعة قال: إنه كلما حاول أن يتصور السعادة رآها امرأة «حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.» •••
في كتاب «تحرير المرأة» الذي هز مصر يومئذ هزة عنيفة لم يطلب رفع الحجاب دفعة واحدة، بل هناك أقوال صريحة تدل على أنه ليس أقل من الباحثة اعتدال؛ مثلا:
إني لا أقصد رفع الحجاب الآن دفعة واحدة والنساء على ما هن عليه اليوم. «وإنما الذي أميل إليه هو إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير. فيعودن بالتدريج على الاستقلال ويودع فيهن الاعتقاد بأن العفة ملكة في النفس لا ثوب يختفي دونه الجسم. ثم يعودن على معاملة الرجال من أقارب وأجانب مع المحافظة على الحدود الشرعية وأصول الأدب تحت ملاحظة أوليائهن.»
بل يعتقد: «أنه لو استمر تخفيف الحجاب يتقدم بالسرعة التي سار بها إلى الآن - والنفوس على ما هي عليه - لعمت البلوى وزاد الفساد انتشارا» ... «وليس الدواء في تغليظ الحجاب لأنه مستحيل، بل من متممات شئوننا أن نحافظ على هذه الحالة: «حالة الاختلاط بالأجانب وقبول الصالح من عاداتهم» متقين المضار التي نشأت عنها. والطريقة الناجحة والحجاب المنيع هي التربية الصالحة.» «والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء، وقد تغالينا نحن في طلب التحجب» ... «وبين هذين الطرفين وسط؛ هو الحجاب الشرعي، وهو الذي أدعو إليه.»
يمكننا اليوم أن نتخيل بسهولة بأي حدة وغضب قوبلت هذه الدعوة الجسورة، وكيف هب البعض يدحضونها ويرمون صاحبها بالكفر. أما هو فقرأ تلك الانتقادات بتمعن ورد عليها بحصافة في كتاب «المرأة الجديدة» حيث قال:
وعلى أننا بعد أن دققنا النظر في جميع ما قيل أو كتب في هذا الشأن، لا نزال على رأينا ولم يزدنا تكرار البحث فيه إلا وثوقا بصحة ما ذهبنا إليه. «لو لم يكن في الحجاب من عيب إلا أنه مناف للحرية الإنسانية، وأنه صار بالمرأة إلى حيث يستحيل عليها أن تتمتع بالحقوق التي خولتها لها الشريعة الغراء والقوانين الوضعية، فجعلها في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملا ما بنفسها مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شئونها المعاشية بكفاءة مساوية لكفاءة الرجل، وجعلها سجينة مع أن القانون يعتبر لها من الحرية ما يعتبره للرجل - لو لم يكن في الحجاب إلا هذا العيب لكفى وحده في مقته وفي أن ينفر منه كل طبع غرز فيه الميل إلى احترام الحقوق والشعور بلذة الحرية. ولكن الضرر الأعظم للحجاب فوق جميع ما سبق هو أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها.»
ولعل هذا الرجل سليل الأمير الكردي تسعى أبدا في مجاري دمه ومطاوي روحه تذكارات إغارات جدوده في جبالهم العصية وكل ما استنشقه آباء آبائه من هواء نقي وتمتعوا به من حرية، فما ذكر الحجاب والضغط إلا هتف:
أي نفس حساسة ترضى بالمعيشة في قفص مقصوصة الجناح مطأطأة الرأس مغمضة العينين، وهذا الفضاء الواسع الذي لا نهاية له أمامها والسماء فوقها والنجوم تلعب ببصرها وأرواح الكون تناجيها وتوحي إليها الآمال والرغائب في فتح كنوز أسرارها ؟
وللمعترضين بأن الإطلاق يجلب الضرر يجيب :
أما الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارا أبدا متى كان مصحوبا بتربية صحيحة؛ لأن التربية الصحيحة تكون أفرادا أقوياء بأنفسهم يعتمدون على أنفسهم ويسيرون بأنفسهم، فمن كملت تربيته استقل بنفسه واستغنى عن غيره. ومن نقصت تربيته احتاج إلى الغير في كل أموره. فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال يرفع الأنفس من الدنايا ويبعدها عن الخسائس؛ لذلك يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من تربية النساء.
بيد أنه أدرك أن إصلاح المرأة لا يتم بالتربية وحدها ما لم يتوفر لها وسط يكفل حفظ ما تكسبه من فائدة معنوية، ولا بد لذلك من كمال نظام العائلة القائم على مسائل مهمة ثلاث، وهي: الزواج والطلاق وتعدد الزوجات. وقد جعل أساسا لكلامه الآية الحكيمة القائلة:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة .
أين «المودة والرحمة»؟ يسائل قاسم نفسه. أمن دواعي المودة أن يرتبط الزوجان برباط الزواج قبل أن يتعارفا وقبل أن يميل كل منهما للآخر؟ أمن دواعي المودة ألا يتفاهم العروسان إلا بعقول الآباء والجيران والرسل، وأن لا يعلم الواحد من أحوال الآخر إلا ما يسمعه نقلا عن ناقل مغرض أو متهوس؟ وأين تلك «الرحمة» من رجل يتزوج من النساء ما شاء ومتى شاء؟ وأين الرحمة في قلوبهن وكل منهن شاعرة بأنها مظلومة وأن زوجها مستبد طاغ؟ أين الرحمة في قلب رجل يؤذي امرأة في أرق عواطفها وأعز ما عندها، ويسحق حياتها وسعادتها تحت قدم أهوائه؟
يقول بضرورة التلاؤم في الأذواق والميول، وأنه لا غنى عن أن يرضى كل بهيئة صاحبه؛ فلا يشعر بذلك «النفور» الذي يبعد بين الأشخاص لمجرد النظر، ويقول بوجوب ائتلاف الملكات والعقول. ولا يتأتى كل ذلك إلا إذا خالط كل منهما الآخر ولو قليلا قبل الخطبة، وبهذا الاجتماع عود إلى «أصول الدين وعوائد المسلمين السابقين، وهو إصلاح يقضي به العقل السليم» ... «لأن رجال العصر الجديد لا يرضون الارتباط بزوجة لم يروها، وإنما يطلبون صديقة يحبونها وتحبهم لا خادمة تستعمل في كل شيء» ... «وكل ذي ذوق سليم يرى من الصواب أن يكون للمرأة في انتخاب زوجها ما للرجل في انتخاب زوجته؛ فإنه أمر يهمها أكثر مما يهم ذوي قرابتها.»
أما تعدد الزوجات فقد قاومه بشدة مستعينا في ختام المرأة الجديدة بالتقرير الذي وضعه يومئذ فضيلة خالد الذكر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بشأن إصلاح المحاكم الشرعية. تعدد الزوجات عنده عادة «بربرية» كانت منتشرة عند ظهور الإسلام، ولا محل لها في هذا العصر الذي تصعد فيه الشعوب درجة الرقي، وأن الفرد إذا ارتقى إلى حد عرف عنده كرامته وكرامة الزوجة والأولاد، مال إلى الاكتفاء بامرأة واحدة؛ لأن:
في تعدد الزوجات احتقارا شديدا للمرأة. «وعلى كل حال فكل امرأة تحترم نفسها تتألم إذا رأت زوجها ارتبط بامرأة أخرى؛ إذ لا يخلو حالها من أحد أمرين: إما أن تكون مخلصة في محبتها لزوجها فتلتهب نيران الغيرة في قلبها وتذوق عذابها. وإما ألا تكون كذلك وهي راضية بعشرته بسبب من الأسباب، فهي مع ذلك ترى لنفسها مقاما في أهله فإذا ارتبط بأخرى سواها قاست من الألم ما يبعثه إحساسها بأن ذلك المقام الذي كان باقيا لها قد انهدم، ولم يعد لها أمل في بقاء شيء من كرامتها عنده» ... «ولا ريب في أن شقاء المرأة بهذه الحال يكون له أثر شديد في نفس الرجل المهذب حتى يشعر دائما بأنه هو السبب في هذا الشقاء. ثم إن الأولاد من أمهات مختلفات ينشئون بين عواصف الشقاق» ... «مثلهم كمثل الممالك الأورباوية تظهر بحالة السلم وهي تأخذ أهبتها للحرب، حتى إذا حانت الفرصة وثب كل منها على الآخر فمزق بعضهم بعضا كما نشاهده في أغلب العائلات» ... «فلا ريبة بعد هذا أن خير ما يعمله الرجل هو انتقاء زوجة واحدة؛ ذلك أدنى أن يقوم بما فرض عليه الشرع فيوفي زوجته وأولاده حقوقهم من النفقة والتربية والمحبة، وأقرب إلى الوصول إلى سعادته.»
8
ولا يجيز التزوج بأكثر من واحدة إلا في حالة الضرورة المطلقة. ومن ثم يصل إلى الطلاق فيقول بأنه يفضل أن يكون الزواج عقدة لا تنحل إلا بالموت، «ولكن مما يجب مراعاته أن الصبر على عشرة من لا تمكن معاشرته فوق طاقة البشر.» فيبيح الطلاق حينئذ لأنه من المضرات التي لا يستغنى عنها، ومنافعه تزيد أضراره على ما يرى. غير أنه يقبحه كما هو شائع مبنيا على اللفظ المستعمل بسهولة العادة، ولا يقبل به إلا مع النية الحقيقية والإرادة الواضحة برفع قيد الزواج ووقوع الانفصال. وقد سن للطلاق نظاما قائلا إن الحكومة إذا أرادت أن تفعل خيرا للأمة فعليها أن تعمل به. وهو:
المادة الأولى:
كل زوج يريد أن يطلق زوجته فعليه أن يحضر أمام القاضي الشرعي أو المأذون الذي يقيم في دائرة اختصاصه ويخبره بالشقاق الذي بينه وبين زوجته.
المادة الثانية:
يجب على القاضي أو المأذون أن يرشد الزوج إلى ما ورد في الكتاب والسنة مما يدل على أن الطلاق ممقوت عند الله وينصحه ويبين له تبعة الأمر الذي سيقدم عليه ويأمره أن يتروى مدة أسبوع.
المادة الثالثة:
إذا أصر الزوج بعد مضي الأسبوع على نية الطلاق فعلى القاضي أو المأذون أن يبعث حكما من أهل الزوج وحكما من أهل الزوجة أو عدلين من الأجانب إن لم يكن لهما أقارب ليصلحا بينهما.
المادة الرابعة:
إذا لم ينجح الحكمان في الإصلاح بين الزوجين فعليهما أن يقدما تقريرا للقاضي أو المأذون، وعند ذلك يأذن القاضي أو المأذون للزوج بالطلاق.
المادة الخامسة:
لا يصح الطلاق إلا إذا وقع أمام القاضي أو المأذون وبحضور شاهدين، ولا يقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية.
وليكون إنصافه تاما مستوفيا قال إن اعتبار المرأة لنفسها وحفظ كرامتها يقضيان بمنحها حق الطلاق، كما للرجل، وإنه ليس من العدل ولا من الإنسانية أن تسلب واسطة التخلص من زوج شرير أو من ذوي الجرائم، إلى غير ذلك ممن لا يمكن لامرأة سليمة الذوق والخلق أن ترضى بمساكنته.
معلوم أن هناك ضربا من الزواج يدعى «زواج العصمة» به تحفظ المرأة عصمتها بيدها فتنطلق عندما تشاء دون أن تقدم سببا للمحكمة. ويقال إن عددا يذكر من أغنياء المصريين يحفظون عصمة بناتهم عند الزواج، وأن المرحومة البرنسس نازلي هانم كانت متزوجة على هذه الكيفية. •••
ينجلي من كل ما سبق إذن أن باحثة البادية وقاسم أمين متفقان في وجوب إصلاح المرأة وفتح أبواب التعليم أمامها وجعل التربية متوفرة لها، وعلى أن هذه من خصائص المنزل. كذلك هما متفقان في وجوب الاجتماع والتعارف قبل الخطبة، وفي حل مشاكل الطلاق وتعدد الزوجات. ولا يختلفان في مسألة الحجاب إلا قليلا؛ لأن كلا منهما يعترف بخطر إباحته بلا استعداد، وبضرورة تعويد البنات عليه في الصغر وإعدادهن له مسلحات بالعلم الكافي والتربية المتينة. هذا في النقط الأساسية، أما من حيث التفاصيل فإن كلا لحق فطرته وأثبت نظرته الخصوصية في الحياة.
قضى قاسم أمين سنة 1908، وقضت الباحثة منذ عام وشهر وبعض شهر. فما هي نتيجة عملهما، وما هو الأثر الذي تركاه في بيئتهما؟ إنه يصعب جدا تعيين هذا الأثر وحصر تلك النتيجة، لأن عمل الفكر مكروب خير وضياء يسري متواريا في الأذهان والعواطف، محتجبا عن أنظار الناظر وإحصاء الحاسب. إننا لا نستطيع أن نتصور كيف تكون الحالة لو لم يجيئا ويكتبا. أما من جهة الباحثة فلو لم يكن غير حفلتي التأبين اللتين أقام إحداهما الرجال لمرور الأربعين يوما على وفاتها، وعقد الأخرى النساء لمرور العام، لو لم يكن غير ما قيل في رثائها وإذاعة فضلها مما لم يكن لامرأة قبلها في مصر الفتاة، لو لم يكن غير ذلك لكفى لتعيين مكانتها العالية. وسل الشبيبة التي كتب لها قاسم أمين وهي طفلة تلعب ووضع كل آماله فيها، سلها عنه تجبك كما تقدره وإلى أي درجات الإعزاز والإكبار يصل في نفسها.
لقد شاع قبيل الحرب أن عددا من الشبان المتعلمين اتفقوا فيما بينهم على تأليف جمعية لتحرير المرأة، حتى إذا بلغ عددهم الألف أطلقوا الحرية لنسائهم وأخواتهم وأمهاتهم وبناتهم وأباحوا لهن أن يخرجن سافرات. أليس أن قاسم أمين أوجد هذه الفكرة بكتاب «تحرير المرأة» حيث اقترح تأسيس جمعية يدخل فيها من الآباء من يريد تربية بناته على الطريقة الجديدة، وأن يختار لتلك الجمعية رئيس من كبار المصريين، ويكون عمل الجمعية في أمرين: الأول التعاون على تربية البنات على القاعدة الحديثة. والثاني السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن للمرأة حقوقها بشرط ألا تخرج في شيء من ذلك عن الحدود الشرعية.
وأما الحكم في صلاحية ما ارتآه كل من هذين المصلحين الجليلين فهو كما قال حافظ في مرثاته لقاسم أمين:
الحكم للأيام مرجعه
فيما رأيت فنم ولا تسل
وكذا طهاة الرأي تتركه
للدهر ينضجه على مهل
لينتبه الآن كل منهما في أكفانه متلفتا كما يتلفت الزارع إلى سهول زرع فيها حبات قلبه يريا أن البذور المودعة في صدر الأرض نمت وترعرعت وصارت خضرة سندسية تبشر بالحصاد الذهبي العتيد. يريا الشبيبة ناهضة والمرأة مشاركة الرجل في أفكاره وعواطفه. يريا أن فئة بدأت تفهم ما قاله تنسن من أن قضية المرأة هي قضية الرجل،
9
وأن هذا وتلك عامودا العائلة، فإن مال أحدهما وقصر واختل وضعه تداعى سقف الأسرة وانهار صرح الاجتماع القائم على دعائم العائلة. يريا نفوسا متيقظات وعقولا تدرك كرامة الأفراد وكرامة الجماعات. نعم إن هذه فئة صغيرة من المجموع الكبير ولكن نقطة النور ستظل آخذة في الاتساع حتى تشمل القوم قليلا قليلا؛ إذ ذاك تقدر مصر المفكرة قدر من فتح الطريق بكل ما لديه من وسيلة وقوة؛ إذ ذاك تشعر نحوهما بتلك العاطفة التي هي فوق الإعجاب والشكران، وقد سماها كارليل «عبادة الأبطال» فتطلق على كل اسم «بطل الإصلاح».
وعلى هذا فكلمتي الأخيرة كلمة أمل ونشيد ظفر. والحكم في مستقبل المرأة المصرية - وامرأة الشرق الأدنى على العموم؛ لأن مصر عظيمة الأثر في أبناء هذه الأقطار - يجب أن يستخرج من كتاب «تحرير المرأة»، ذلك الحكم الذي أصدره المؤلف ساعة وحي ودونه في السطور الآتية:
إنه لا بد لحسن حال الأمة من أن تحسن حال المرأة. فإذا أرسل الناظر فكره ليحيط بأطراف هذا الموضوع الواسع وبجميع ما يرتبط به من المسائل انجلت له الحقيقة وتجلت له بجميع أسرارها فيرى صورة لا تشابه الخيال الذي كان يظنه جسما. ويرى المرأة التي يهيئها المستقبل تتلألأ في أنوار جمالها ظاهرة مظهرها الفطري ولابسة حلة كمالها الثنائي: الجسم والعقل.
الفصل العاشر
بين كاتبتين1
إلى باحثة البادية
ترنمت باسمك قبل أن أعرفك، واتخذت ذكرك عنوانا لنهضة المرأة المصرية قبل أن أطالع مقالاتك؛ لأن أصوات الجمهور قد اتفقت في الثناء على فضلك. غير أني عثرت بالأمس على مجموعة كتاباتك النفيسة فانحنيت عليها ساعات طويلات فيها خيل لي أني أقلب صفحات نفسك المفكرة المتوجعة.
ثلاث سنوات مضين، وتلك المجموعة محفوظة بين دفات المكاتب أو مبعثرة بين الأوراق والأسفار المتراكمة يوما بعد يوم. لكن سرها ما زال مترقبا يدا تلمسه، مستعدا لمناجاة نفس تتلمسه.
سنوات ثلاث، فيها مشت البشرية خطواتها المعدودات متعثرة بالعظام والجماجم، منشدة أهازيج النصر الكاذب وتهاليل الفخر الباطل، وقواها الغالية تسيل على شفار السيوف، ودماء حياتها تجري أنهارا في سهول قد أخفت نجمها الجميل وثمراتها الممتعة خوفا من وحشية الإنسان.
سنوات ثلاث فيها شعرنا بارتداد صدمات السياسة والاقتصاد والأطماع المتزايدة. فيها ارتفعت دويلات جادة مجتهدة وتهشمت أعضاء تركيا العظيمة بتاريخها، الضعيفة بإهمالها وتهاونها. وقد جاش لذلك كل ما في صدر الإسلام من النخوة القديمة وبكت له قلوب الغيورين على مصالح بني عثمان.
كل ذلك ومصر، مصر بكآبتها وانعطافها واندفاعها، كل ذلك ونحن هائمون على وجهنا في صحراء الفوضى. صخور التقاليد القديمة تدمي أقدامنا الجديدة، وأشواك الاصطلاحات تجرح أيدينا الممتدة للمس أشياء نظنها موصلة إلى حياة نريدها عظيمة. والسراب الجميل اللامع في حدود المستقبل غير المحدود يستدعينا آمرا كأنه نظرة عين فتانة، فنجري في الصحراء ولا ندري إلى أين المصير!
سنوات ثلاث مررن على يوم فيه ارتفع صوتك مرشدا. عائلتنا لا تزال على ما كانت عليه، وأفكارنا لم تتغير إلا قليلا، وعواطفنا ما برحت حائرة بين تيارات متعاكسة دائمة الاضطراب بين ما ندعي أننا نعلم وما نجهل أننا لا نعلم! غير أن الأصداء الخفية ما زالت ترجع همس ذلك الصوت الرخيم.
بالأمس لمست نفسك وقرأت أفكارك فعثرت على جراح بليغة وددت تقبيلها بشفتي روحي، وما أطبقت الكتاب إلا وأنا ألثم بناني على غير هدى. ولم يكن ذلك إلا إجلالا لصفحات قلبتها وحبا لنفس استجوبتها فعرفتها.
فيا من «ارتفع قلبها إلى فكرها وانحنى فكرها على قلبها»، أيتها الباحثة الحكيمة، لماذا تصمتين؟
تتوالى الأيام ونحن في ضلال مبين. الرجل يجاهد في حرب الاقتصاد الدائمة. الرجل تائه في مهام أشغاله، فإذا كتب بحث في العموميات، وإذا أجال قلمه في الخصوصيات فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي لأنه يكتب بفكره، بأنانيته، بقساوته، والمرأة تحيا بقلبها، بعواطفها، بحبها.
علاتنا مستعصية لا يشفيها إلا طبيب يعرفها. والمرأة بعلة جنسها أدرى فهي تستطيع معالجته. ولا تطلب هذه الخدمة الشريفة من فتيات لا يعرفن من الحياة إلا ما يصوره لهن الخيال المخيم بطلانه على منابت العواطف المخصبة. هذا اعتراف ساذج صادق: الفتيات لا يداعبن القلم إلا لينثرن الدموع أو ليصورن الابتسامات. وما تجاوز ذلك علامات استفهام متتالية وإن لم ير فيها من الاستفهام شيئا.
لكن الزوجة والأم التي أعطيت ذكاء وفطنة وعلما وشعورا قويا تدرك بواسطته كل ما في الحياة من حلاوة ومرارة، تلك تستطيع وضع المرأة في مركزها السامي، وتلك تقدر أن تعمل في مزج نصفي الشخصية المتألمة، شخصية المرأة وشخصية الرجل.
فيا سيدتي!
لدينا قلوب تحترق ولا ندري أي نار تحرقها، وتلتهب شغفا بما لا نعرف ماهيته، فعلمينا أنت التي كنت فتاة قبل أن تكوني أما كيف نرشدها وإلى أين نوجهها!
لدينا نفوس عزيزة تنمو فيها ميول مبهمة ورغبات حارة، فارشدينا أي الأعشاب فاسد فنقتلعه وأيها الصالح فنسقيه ماء الرعاية والحنان!
قولي يا سيدتي، تكلمي!
ضمي يدك البارة إلى الأيدي التي تحاول رفع هذا الجيل من هوة الحيرة والتردد. ساعدي في تحرير المرأة بتعليمها واجباتها. إن صوتا خارجا من أعماق القلب، بل من أعماق الجراح كصوتك، قد يفعل في النفوس ما لا تفعله أصوات الأفكار.
لا يهمنا أن تخفي تلك اليد النحيفة وراء جدران خدرك وأن تحجبي هيئتك الشرقية وراء نقابك الشعري، ما دمنا نسمع صوتك في صرير قلمك ونعرف منك روحك العالية.
فهنيئا لوطن يضم بين بناته مثيلاتك، وهنيئا لصغار يستقون وعود الهناء من ابتسامتك ويسكبون حياتهم في قالب حياتك.
2
مي
إلى الآنسة مي
إلى الكاتبة الفاضلة الآنسة مي:
قرأت تحبيذك لكتاب شقيقتي (باحثة البادية) ودعوتك إياها أن تثابر على الكتابة في موضوعها «النسائيات»، وإني أنوب عنها في الشكر لك على ما جاء في مقالك من حسن الفكرة وقوة التعبير والخيال، وأعتذر لعدم قدرتها على الكتابة الآن. ذلك لأنها في فراش المرض منذ ثلاثة أشهر. وإنها لم تنس قط الاهتمام بما يرقي المرأة الشرقية على العموم والمصرية على الخصوص، وإن كان ذلك الإصلاح على ما فينا من عيوب داعيا للقنوط أحيانا. ولعل الله يشفيها في القريب العاجل لتقوم بما خصصت نفسها له، هذا وتفضلي بقبول شكري واحترامي.
حنيفة حفني ناصف
إلى الآنسة مي
تفضلت فكتبت إلي كلمتك العذبة في الجريدة، وكنت إذ ذاك بين مخالب الموت، فلم يكن في وسعي أن أمسك القلم لأرد عليك وإن كانت مخيلتي لم تبخل بالرد. كانت رسالتك عزاء جميلا لي في مرضي الطويل المؤلم، وبلسما ملطفا لجراحي البالغة التي قلت أنك عثرت عليها. آلامي أيتها السيدة شديدة، ولكني أنقلها بتؤدة كأني أجر أحمال الحديد، فهل تدرين يا سيدتي ما هو لي. ليس لي بحمد الله ميت قريب أبكيه، ولا عزيز غائب أرتجيه ولا أنا ممن تأسرهم زخارف هذه الحياة الدنيا ويستولي عليهم غرورها فأطمع في أكثر مما أنا فيه، وليس لي حال سيء أشتكيه، ولكن لي قلبا يكاد يذوب عطفا وإشفاقا على من يستحق الرحمة ومن لا يستحقها، وهذا علة شقائي ومبعث آلامي. إن قلبي يتصدع من أحوال هذا المجتمع الفاسد.
وما لي أحمل نفسي أعباء غيرها وليست بمسيطرة على هذا العالم! ولكني كنت عاهدت نفسي على الأخذ بيد المرأة المصرية، ويعز علي أن أتخلى عن هذا العهد وإن كان تنفيذه شاقا ومحفوفا بالصعوبات ويكاد اليأس يسد طريقي إليه .
كنت اعتزلت الكتابة؛ لا لنضوب مادتها عندي، ولا اكتفاء بالقليل الذي كتبت من قبل، ولكني كنت مللت المناداة بإصلاح المرأة المصرية، وثبط عزمي ما أراه من انصراف فئة المتعلمين والمتعلمات الجدد عن العمل لتكوين القومية المصرية المطلوبة، وما حركتهم التي ملئوا بها القطر صراخا إلا عنوان نهضة كاذبة.
تسألينني يا سيدتي أن أدلك وسط هذه الأحوال المتضاربة والآراء المتشعبة عن الطريق الذي يحسن بالفتاة نهجه، وإنها لحال توجب الحيرة ولا ندري أي الطرق نسلك لنصل سريعا إلى الغاية التي نقصد إليها. كلنا يرمي إلى تقدم الفتاة وتنورها وإعدادها لأن تكون زوجة صالحة وأما نافعة أبناءها ووطنها، ولكن لكل مناد بالإصلاح وجهة هو موليها. فبعضهم لا يرى لهذا التأخر والجهل من سبب إلا كان راجعا للحجاب، وهؤلاء قرروا وجوب سفور المرأة المصرية حالا ونسوا حكمة التأني والتحفظ عند إرادة الانتقال من طور مظلم مألوف إلى طور لم يعهد من قبل تكتنفه المدهشات واللوامع البراقة الجذابة التي تكاد تغشي الأبصار.
وفريق لا يرى للسفور فائدة ويقول: إن الحجاب لا ينفي العلم، وإن إطلاق الحرية للمرأة أخيرا كان سببا لفسادها، وإن اطراد تعليم المرأة وتثقيفها سيكون مجلبة للشغب ولخروجها عن حدود وظيفتها في المستقبل كما خرجت أختها الغربية الآن. فأي الطريقين نسلك ومن نتبع؟ إننا معشر النساء لا يزال ظلم الرجل يرهقنا واستبداده يأمر وينهى فينا، حتى أصبحنا ولا رأي لنا في أنفسنا. فإذا قال لنا اختبئن حتى تدفن بالحياة صونا لكن وتدليلا كما يقول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:
على المدفون قبل الترب صونا
وكقوله في أخت ممدوحه الثانية من رثاء أيضا:
وما رأيت عيون الأنس تدركها
فهل حسدت عليها أعين الشهب
وهل سمعت سلاما لي ألم بها
فقد أطلت وما سلمت عن كثب
إذا أمرنا الرجل أن نحتجب احتجبنا، وإذا صاح الآن يطلب سفورنا أسفرنا، وإذا أراد تعليمنا تعلمنا، فهل هو حسن النية في كل ما يطلب منا ولأجلنا، أم هو يريد بنا شرا؟ لا شك أنه أخطأ وأصاب في تقرير حقنا من قبل، ولا شك أنه يخطئ ويصيب في تقرير حقوقنا الآن.
نحن لا نأبى أن نتبع رأي العقلاء والمصلحين من الأمة، ولكننا لا يمكننا كذلك أن نعتقد أن كل من يتصدى للكتابة في موضوع المرأة من العقلاء المصلحين. ليدعنا الرجل نمحص آراءه ونختار أرشدها ولا يستبد في «تحريرنا» كما استبد في «استعبادنا». إننا سئمنا استبداده. إننا لا نخاف من الهواء ولا من الشمس، وإنما نخاف عينيه ولسانه، فإن وعدنا أن يغض بصره كما يأمره دينه وأن يكن لسانه كما يوصيه الأدب نظرنا في أمرنا وأمره، وإلا فكل منا حر يفعل ما يشاء. والسلام عليك أيتها الفاضلة من المعجبة بك، المثنية على أدبك الجم وعلمك الغزير.
باحثة البادية
إلى باحثة البادية
ليس أعز لدينا من لطفك إلا حزمك وصراحتك، وليس أجمل من صدى صوتك إلا فعل معناك. وإني لأقبض على شجاعتي بيدي لأعترف بأني أحب - أستغفر الله وأستغفرك يا سيدتي! - آلامك النفسية الشديدة من جراء شقاء الإنسانية وضلالها، وأتمنى من أعماق فؤادي أن تجد دواما تلك الآلام منفذا رحبا إلى قلبك، وأن يبقى ذلك القلب كريما لينا ينجرح لجرح الغريب، ويبكي لبكاء المظلوم، ويشفق على المتوجع أيا كان. بالاختصار - عفوك! عفوك! - أتمنى لك العذاب المعنوي؛ لأنه النار المقدسة؛ أجل، هو النار التي تطهر، النار التي تحيي، النار التي تلين، النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية والميول الرفيعة والرغبات الكريمة، والتحمس لإجراء الإصلاحات اللازمة وتنفيذ المبادئ الطيبة، والنهوض بالاجتماع نهضة تهتز لها القلوب حمية وطربا.
أتمنى لك ذلك، ولولاه لما وجدنا في كتاباتك تلك الأنة العميقة التي تنبه الفكر وتلمس العاطفة في آن واحد.
لا أنكر أن أنانيتي تتكلم الآن. غير أني قلت ما قلت مسرعة هامسة. فابتسمي له إن شئت، وإلا فلا تصغي يا سيدتي ولا تسمعي، بل اسأليني عما أهمس به لأجيب أني أحمد الله على إبلالك وأني أسأله أن يديمك سالمة. وما أغلى سلامتك لدينا ! •••
جئت أسر إليك أمرا وقفت عليه عندما شهدت صدى مقالتك لدى جمهور القراء. اسمعي يا سيدتي الباحثة، وصوني سري!
رأيت جميعهم يتقبل أقوالك بنظرة الفخر وابتسامة الإعجاب، ولكني رأيت كذلك أسيادنا الرجال - أقول «أسيادنا» مراعاة؛ بل تحفظا من أن ينقل حديثنا إليهم فيظنوا أن النساء يتآمرن عليهم؛ فكلمة «أسيادنا» تخمد نار غضبهم - قلت إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون. نعم آنست ذلك في ملامح كل من قرأ مقالك أمامي من أسيادنا الرجال.
فذكرت إذ ذاك ألا سرور في العالم يضاهي سرور التفاهم. فإذا شعر المرء بأن هناك من يفهمه كان سعيدا، سواء لديه أن تعرف منه صفاته أو علاته لأن معرفة العلات تتبعها حتما معرفة الصفات، وإن كان الخير أقل انتشارا من الشر. وما النقائص إلا فضائل مضخمة مكبرة تتسع وتستفيض دون أن تجد لها من الضمير مهذبا فتتجاوز الحدود المعنوية التي عينتها اصطلاحات الاجتماع - إذا كانت اجتماعية - أو رسمتها علوم النفس والأخلاق، إذا كانت أخلاقية.
فعملا برغبة التفاهم، وطبقا لنظام المباهاة، وتوصلا للاستمتاع بنتيجة هذه المباهاة وذلك التفاهم، كان وسيكون السارق دائم المفاخرة بوقوف الناس على براعته في اختيار الطرق الجديدة واستنباط الحيل الغريبة، وكان وسيكون القائل مسرورا بإعلان آثامه للورى آملا أن يجدوا فيها أعمال بطل - من نوعه! وكان وسيكون السياسي جادا في إقناع الآخرين أن دهاءه اقتدار وسوء ظنه وروغانه فطنة وحكمة. كذلك الرجل يسر، ويرجو، ويريد أن تشعر المرأة باستبداده ظنا منه أن الاستبداد هو السيادة، وأن هذه مقياس ذاتيته التي يريدها كبيرة. رضيت المرأة عن تلك السيادة أم تمردت عليها في نظره سيان، بل أظنه - سامحني الله إن كنت مخطئة - مؤثرا تمردها على إذعانها؛ لأنها كلما زاد تمردها زاد شعوره بالسيطرة. وأشد الملوك فرحا بهز الصولجان، وأرفعهم للرأس كبرا وتيها تحت ثقل التيجان هم ذوو العروش المتداعية للهبوط. والرجل ملك متداع عرشه؛ لأن ريح الفوضى تهب عليه من كل جانب، وخطوات الارتقاء النسائي تتوالى متكاثرة متمكنة مع مرور الأيام. •••
لكنه ملك عزيز.
هو الأب والأخ والصديق والخطيب والزوج، فإذا سقط سقطنا معه، وإذا ارتفع كنا بارتفاعه عظيمات؛ لذلك نريد له خيرا، ونجتهد في تأييد دولته بشرط أن ينصب عرشنا بقرب عرشه، وأن نقف إلى جنبه وقفة المثيل بجوار المثيل. نريد أن نكون متساويين في الحقوق الأدبية والعمرانية ما دمنا متساويين في الواجبات والمسئولية، بل إن واجباتنا ومسئوليتنا يفوقان ما عليه من مسئولية وواجب!
فيا ترى متى يرضى الرجل بتقرير هذه الحقيقة؟
ما أطيب قولك، يا سيدتي الباحثة، إنك تشفقين على من يستحق الشفقة وعلى من لا يستحقها. الرجل من الذين يستحقون الشفقة؛ لأنه لا يعرف أنه يستحقها. أنه باستعبادنا لمنتحر. ولو صرفنا النظر عن مستقبل الذرية وبحثنا في حياته الفردية لوجدنا أن ما من أحد يساعده على التخلص من الشوائب الشائنة ويحثه على إنماء شخصيته الغنية المخصبة إلا نحن. كما أنه لا يهدينا إلى واجباتنا ويضع في ضعفنا قوة إلاه.
الحجاب؟ وما هو الحجاب؟
مرحبا به ما دمنا في وسط لا يعرف كيفية معاملة المرأة ولا يستطيع احترامها. ولكن كيف نلوم الرجل على كلامه ونظراته ما دام رجل اليوم صنع امرأة الأمس؟ هكذا علمته أمه وإن لم تعلمه ذلك فإنها لم ترشده إلى ما يفضله، ولا ذنب لها؛ لأن قصورها في جهلها لم يكن إلا نتيجة اتفاق أبيها وزوجها على جعلها عبدة.
لا لوم على أبناء تلك الأمهات، إلا أن مستقبلنا صالح؛ لأن حاضرنا مملوء بالآمال الطيبات. النشء تتنازعه طبائع الوراثة ومؤثرات العصر وعواصف الفوضى المهاجمة قديم التقاليد من كل ناحية. ولكنه ينشد الصراط السوي ويصغي إلى صوت الإصلاح. فارفعي صوتك، يا سيدتي، ولا تيأسي! قولي بصراحتك، واكتبي بشجاعتك! جاهري ولا تصمتي!
إن البذرة التي تزرعها اليوم يد الزارع تنبت سنبلة في كيانها حياة الغد وما يتبعه من الأيام. وعندما تخضر المروج بنصرة الرجاء فتتماوج فوق غلتها نسمات الحياة، إذ ذاك سيسمع المستقبل صدى جميلا يردد أبيات الأمير شوقي:
صدح أيا ملك الكنا
ر ويا أمير البلبل
صبرا لما تشقى به
أو ما بدا لك فافعل
3
فتجيب الأصداء الجديدة. لقد فعلت ! لقد فعلت!
مي
الساعة المفقودة
جعلها أرباب التجارة حلية نسائية، وأتقن الجوهري وضعها في سوار ذهبي فكانت نصيبي في الشرى.
صورة مصغرة للكون، كذلك كانت ساعتي، مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود الإمكان، علاماتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب ... من الثواني يتألف الزمان ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجا.
فيا لهول ثواني الزمان! ويا لهول نبضات قلب الإنسان!
بين ثانية وثانية يلتقي العدوان في أحشاء الثرى: الماء والنار، فتميد الأرض بمن عليها، وتتفطر أساساتها فتقذف البراكين مقذوفاتها الجهنمية وسوائلها النارية وتزفر الطبيعة زفرتها القتالة فتلتهم صروح العمران وتفتح صدرها مرحبة ببنيها. تفتح صدرها مرحبة فيتدحرجون إلى الهاوية التي ليس فيها من يعود على وجه البسيطة مخبرا.
بين ثانية وثانية يتلاقى الجيشان في ساحات الوغي فتدوي رعود المدافع في الفضاء وتختطف بروق السيوف غالي الأرواح. ولأجل كلمة غالب أو مغلوب تندك عروش وتنتصب عروش، تدمر ممالك ويعمر سواها، تخرب مدائن ويشاد غيرها، تتجندل أفراد وتفنى مجاميع فترتدي الأقوام سواد الألوان وفي نفوسهم لوعة الفقدان وسواد الأحزان.
بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو، بين الثانية والثانية!
وبين نبضة ونبضة هناك سر الأسرار. دماء داخلة إلى القلب ودماء منبعثة منه، تتهافت عليه جراثيم الموت فتخرج مطهرة حيوية. بين النبضة والنبضة تأثيرات تهتز لها أعماق العمر وانفعالات تشخص لمرورها ذرات الكيان. اشتعال الفكر وخمود العاطفة، ظفر البلاهة وتقهقر النبوغ، لذعات الغرام والحسرات العظام. قنوط ورجاء، سعادة وشقاء. هتاف الروح المسلمة ولهاث الروح المودعة! •••
يا ابنة أبيك! يغدرنا الزمان ساعة الرجاء، ويخوننا يوم الصفاء، ويهجرنا حين اللقاء. فأنت غادرة خائنة هاجرة كالزمان، يا ابنة الزمان!
كم من مساع طيبات وقعت مرورهن على دوران عقربيك وفكري يناجيك بأحاديث هداه وضلاله! أبسم لك عند السرور فأتخيلك صامتة تبتسمين وأتنهد حيالك يوم الأسى فأتوسمك تتنهدين وتحزنين ، وكأن عقربيك ذراعان يمتدان نحو العلاء مستغيثين متوسلين.
لما أفنت قلبي وحدة القلب ضغطت بك على ساعدي قائلة «أنت الصديقة التي لا تخون.» ولما مزقت سمعي أكاذيب الناس وأحاديثهم المؤذية خاطبتك قائلة «أنت لا تؤذين لأنك لا تتكلمين.» ولما أذابني الجهل بدعواه والغرور بسخافته نظرت إليك قائلة «أنت عالمة لذلك تصمتين.»
وكنت تعزيتي!
وكنت زماني، يا ابنة الزمان!
وعلى هذا ما كان أطول إعراضك عني وأقل اهتمامك بي! في النهار كنت تطوقين ساعدي فيوجعه أثر سلسلتك وأجيب أنا على هذا العنف بلمسة المداعبة. وفي المساء كنت تستريحين بجوار وسادتي فأوقع على موسيقاك الساهية ألحان أحلامي وآمالي، وفي الصباح كنت أول عين أشاهدها وأول روح أستجوبها.
كل ذلك وأنت لا تنتبهين ولا تعلمين.
وها قد هجرتني. فقدتك وفقدتني فسيرى بحراسة الله وانسيني!
ولكن انتخبي اليد التي ستطوقينها!
فإذا وقعت في يد شرير وقصد استعمالك ليؤذي أخا له فانقلبي أفعى لساعة ولا تبرحي مفرغة فيه سمك حتى تصرعيه قتيلا. ... لكن لا، لا، ليس الأشرار إلا ضحايا البشر وضحايا نفوسهم، لو كنت تعلمين. وهم خليقون بالرحمة أكثر من الأخيار الصالحين. فلا تتحولي حية ولا تؤذي شريرا، بل غادري تلك اليد المسكينة واسقطي في طريق أب فقير لتكوني من نصيب فتاة لم تلبس في حياتها حلية. زيني يدا شوهت خشونة الخدمة جمالها ونامي على زند الفتاة الغريبة بدلال القبلة والتحبب! نامي هناك واسعدي، ولو ساعة، قلبا بائسا يحسب السعادة في الغنى!
نامي هناك وانسيني، ولكن!
إن كان لديك ذاكرة تذكر، يا ساعتي الصغيرة المحبوبة، اذكري لحظة ما شهدته معي من المسرات واللهفات، اذكري واحفظي ما تعرفين!
ولكن ... ألست ابنة الزمان الذي ننسب إليه في ضعفنا كل شيء وهو في قوته لا يبالي بشيء؟ ترين بأي حافظة تذكرين، وبأي ذهن تتأملين؟ إنما علاماتك مداد قد تحجر، وعقربك إصبع يشير إلى علامة يجهل منها المعنى، وأنت آلة ليس إلا، وإن كنت آلة الآلات المثلى.
أنت ابنة الزمان الناسي، وأنت مثله لا تذكرين!
مي
إلى الآنسة مي
عزيزتي مي:
لا تستغربي يا سيدتي أني دعوتك «بيا عزيزتي»، وسأدعوك باسمك على غير معرفة شخصية سابقة. أقول شخصية وأحدها لأني عرفتك من كتاباتك الشعرية الجميلة من قبل وتعرفت منها بروحك العالية الهائمة في الفضاء وكأنها تبحث عن مستقر لها فلا يكاد يعجبها مكان تستقر فيه.
وتعرفت بك بالأمس، بل وارتبطت بك من دعائك علي بالعذاب المعنوي كأني أنا المعنية بقول جميل:
وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سباب
وقلنا لها قولا فجاءت بمثله
لكل مقال يا بثين جواب
وإنما حاشا أن يكون دعاؤك علي سبابا، وحاشا أن يكون له جواب عندي من مثله، فإني لم أقابله إلا بالضحك والحلم الذي ركب في غريزتي.
لماذا يا مي تدعين علي بالعذاب المعنوي؟ ألا إن العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرا. على أني جربت كليهما وذقت الأمرين منهما معا. تقولين «لأنه النار المقدسة»، نعم لقد أعطاني من القداسة مقدارا أكثر مما يجب لمثلي حتى جعل البون بعيدا جدا بيني وبين هذا العالم غير القديس.
تقولين «إنه النار التي تطهر»، حقيقة إنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء وهذا فيه من الضنى والخطر ما فيه.
تقررين «أنه النار التي تحيي»، نعم يا مي. إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كمصباح سيال كهربائه شديد ولكن فتيلته ضعيفة لا تحتمل.
هو «النار التي تلين»، هذا ما أبديت. ولكن ألا تعتقدين أن اللين قد يؤذي ولا يفيد، خصوصا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد. إنه ألانني حتى صيرني ماء. وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة!
يصبونه فينصب ويريقونه فيختفي في الأرض ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة فيأخذ كل شكل ويصطبغ بما يراد به من الألوان. تبخره الطبيعة زارية هازئة، فتارة ترفعه إلى السحاب وطورا تقذف به إلى الأرض، وآونة تعاكسه بصقيعها فيتحول بردا، وآونة تحمي عليها براكينها فيخرج ملتهبا، وحينا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسوا منه غير ما يريدون وهو بريء. ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سكرا فيحلو، ويذيبون به الحنظل فيمر. وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنا ولا يعترفون له بالجميل. وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض، وأرخص الأشياء في أقلها. إنه مثلي يا مي، يذهب ضياعا.
وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك: «إنه النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني ...» إلخ.
نعم يا مي، إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني، فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك. إني أول ما حفظت من الشعر حفظت المراثي وأولها رثاء الأندلس. وكنت في حداثتي أقرأ كثيرا ديوان المتنبي وأعجب بروحه العالية وبنفسه الكبيرة، وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائي، رحمه الله، إني ألذ كثيرا بهذه العدوى.
وقد قال لي أخي مرة بعد حديث كنت أشتكي له فيه الدنيا وأهلها وأقول: «لعل الله يجزيني على هذا في آخرتي بالجنة.»
قال متهكما «أنا واثق يا شقيقتي أن الجنة أيضا لن تعجبك؛ لأنه لا يكاد يسرك شيء.» أستغفر الله.
إنك يا مي خالفت المألوف في التمنيات والمجاملات الفارغة، وهي كثيرة وشائعة جدا الآن (بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة المسيحيين). قلت: «ابتسمي له» أي لدعائك «إن شئت، وإلا فلا تصغي ولا تسمعي، واسأليني عما أهمس به لأجيبك أني أحمد الله على إبلالك وأني أسأله أن يديمك سالمة ...» إلخ.
لا يا عزيزتي، إني أكره الكذب والمجاملات الفارغة؛ ولذلك أصغيت وسمعت وابتسمت (حسب أمرك) وتسرني جدا صراحتك حتى في الدعاء علي.
أتدرين يا مي أن ذلك اليوم الذي تمنيت لي فيه العذاب كان فيه عيد ميلادي أيضا، وأني تفاءلت خيرا بدعائك، وافتتحت عامي الجديد بالضحك من تمنيك وبصداقتي لك تبعا لذلك التمني المعكوس. أشكر لك يا عزيزتي أمانيك لي ورغباتك الصادقة، وأقر لك أني واقعة فيما رجوت لي والحمد لله ، ولكني يا مي لا أتمنى المزيد. إنه عذاب طاهر لا يتعدى الميل إلى السكون والشعور بشيء من الحزن الشعري الجميل. ولكنه ولله المنة والشكر لا تخامره شائبة من الندم ولا من الأسف الأثيم، وأخشى أن يزيد ضرام النار التي طلبتها لي فأحترق يا مي أو أصل إلى ذلك الحد الذي لا أريده لنفسي ولا أظنك تريدينه لي.
الساعة المفقودة.
عجيب يا سيدتي أنك تريدين عذابي وأنا أريد هناءك! أتدرين ماذا سألقيه عليك فيفرحك؟
إني وجدت ساعتك المفقودة والتقطتها. رأيتك ترثينها بحرقة فجئت لأمسح دموعك لأني أحب دائما أن أمسح دمعة المحزون. تعالي إلي لتأخذيها وتستغفريها من وصفك إياها بالغدر وبعدم الإحساس. فإنها أحست بشوقي لرؤيتك فأتت تقدمة لمجيئك ولتعارفنا.
إنها بثت إلي ما كنت تشكينه إليها من العواطف والآلام. عثرت علي وعثرت عليها لنكفي قلبك شر الفناء من الوحدة ولنؤكد لك أنك وجدت «الصديقة التي لا تخون.»
حكاية الرجل.
والآن فلنعد إلى حكاية الرجل.
عجيب جدا يا سيدتي أمر هذا المخلوق الغريب الأطوار الذي يسمى «بالرجل»! إني أعتقد أنه كريم شجاع وله قلب حساس، ولكني أظنه (وبعض الظن إثم) أنانيا قبل كل شيء، ورأيي أن أنانيته وحدها هي أصل رذائله، فهو يهضم حق المرأة ويستعبدها لا لأنه يبغضها أو يتمنى لها السوء، ولكن ليلهو بها وهو يحبها. ويموت لأجلها لا لأنه يحبها ولكن ليلهو بها، وهو في كل ذلك واسع الحيلة قوي الحجة فيقنعها فتصدقه وهو كذوب.
أما المرأة فهي دائما تحترمه وتحبه لأنها تحبه صادقة، وإذا كرهته كرهته علانية، ولم يكن لذلك البغض من دواء. عرف ذلك أبو الطيب فقال:
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضا
وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
هي صادقة مخلصة دائما، حتى وهي خاطئة. هي تحب لتفنى في الحب، ولكن الرجل يحب ليعيش متمتعا بالحب. هي تحزن وقت المصاب لتتفرغ للحزن، ولكن الرجل لا يحزن إلا ليبحث عن تعزية وسلوان.
المرأة كدودة القز تفرغ حريرها لتموت. إنها لتعلم أن حريرها الذي تقدمه للملأ زينة وحلية سيقتلها ولكنها لم تحاول قط الخلاص منه.
أما الرجل فهو كالنحلة يتنقل من زهرة لزهرة متروضا، وقد يطيل المكث على زهرة ناضرة وإنما ليمتص منها نضارتها وماء حياتها. إنها تحب الأزهار حينا ولكنها تلهو بها أحيانا فتتركها هشيما. وهي تقدم للناس عملا فيه شفاء لهم وشمعا نافعا ولكنها تعملهما لغذائها وسكنها قبل كل شيء.
ظلمنا الرجل حقوقنا لا لأنه كان ينوي ظلمنا، وإنما هو أخطأ كثيرا في حسبانه أن ما يزيد في قوتنا يضعف من قوته هو. لعله ظن أن مملكتنا واحدة ولذلك نظر إلينا نظر الدعيات الثائرات. وإنما نحن نريد له السعادة والمزيد من القوة في مملكته ونرجو منه أن يفك عنا الخناق في مملكتنا المستقلة التي تشد أزره ولا تفكر في إضعافه قط مهما بلغت من العزة والقوة. إننا نتقدم إليه كأننا ساعده الذي يريد أن يخدمه، لا كأننا يد غريبة تريد أن تضربه. إننا منه وهو منا فليطب نفسا وليقر عينا وليعطنا ما نشاء!
وإنما نحن يا مي ضايقناه في بعض شئون مملكته حتى ظننا نريد منازعته فيها. لنترك له السياسة التي يحبها وحمايتنا. وأقول لك همسا: «إننا لا ننفع بدونه، ولكنه هو أيضا لا ينفع من غيرنا!»
إن المطالبات بحق الانتخاب وإن كن يطلبن حقا إلا أنهن ظالمات الرجل وأنفسهن معا؛ لماذا يرمن مشاركته في الجلوس على كراسي «البرلمان» ولا تقدم واحدة منهن صدرها للقاء كرات المدافع ونصال الفناء في الحرب. الحق أحق أن يتبع.
ليهنأ الرجل بمملكته. إننا لا نهز عرشه ليتداعى إلى السقوط كما تقولين، ولكنا نهزه لنطلب منه ... «الدستور».
الفصل الحادي عشر
مرثاة باحثة البادية1
أكتب اسم باحثة البادية فيتمثل لناظري ذلك الثغر البسام وذلك الوجه ذو السمرة المصرية العذبة، وأسمع صوتها الرخيم مرددا كلمات حلوة اللفظ لطيفة المعنى. وأضع يدي على مجموعة «النسائيات» فأشعر بالحياة الفائضة على تلك الفصول، وما هي إلا توقد النفس المتوهجة بين صفحاتها. كل ما لباحثة البادية مملوء حياة مفيدة نافعة، فكيف أصدق أن تلك الشعلة النادرة قد خمدت، وأن ذلك الوجه الوضاح قد اختفى وراء وشاح الردى؟
كانت عينا باحثة البادية مفعمتين ابتساما كثغرها. ولكن إذا أمعن المرء النظر في أعماقها وجد بعد الغور والكآبة المقيمة وراء الابتسام مما يرى في عيني المفكرين وفي عيني المزمعين على الرحيل العاجل، أولئك الذين لا تطول حياتهم أكثر من زهور الربيع فيذهبون تاركين الجو حولهم معطرا بعبير مآثرهم. •••
إن لباحثة البادية مركزا فريدا في الحركة الفكرية عندنا. بعد أن قام قاسم أمين يقول بتحرير المرأة وبإعطائها ما لها من حقوق أدبية واجتماعية، قامت باحثة البادية تؤيد كلامه مظهرة أهلية المرأة وكرامتها ودرجة الارتقاء العليا التي يمكنها تسنمها. قامت هذه المرأة العبقرية، ابنة الرجل الكبير، تدرس أحوال البيئة المصرية، فكان لها من ذكائها الفطري مرشد أمين، ومن شعورها العميق منبه مخلص، ومن قلمها العربي الصميم أبلغ ترجمان وخير رسول. رأت حاجة قومها إلى الإصلاح فصاحت صيحة ما زال يرن صداها. وظلت تكتب وتخطب ناشدة الإصلاح، وهي المرأة المسلمة الوحيدة التي فعلت ذلك في وسط ما زال رجعيا في ميوله، بشجاعة وكفاءة وتفوق لم ينل منها شيئا انتقاد الناقدين وتعنت المتحزبين.
كانت شديدة الحب لقومها، شديدة الغيرة على وطنها، شديدة التألم لما تراه من علامات التأخر والانحطاط في البيئة المصرية. ومجموع هذه العواطف من حب وغيرة وألم كان يتخلل كل ما تكتبه كأنين متواصل ينقلب ساعة الوجع الشديد زئيرا وعويلا. كذلك يتألم صاحب العقل والقلب الكبيرين كأنما هو يتألم عن أمة بأسرها! •••
لما زارتنا للمرة الأخيرة كانت ترافقها صويحبة لها، فأخذت هذه تنقر على العود وأنشدت الباحثة بصوتها الشجي هذين البيتين من الموشح الأندلسي المشهور:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
وكأنها كانت في تلك الساعة متنبئة عن نفسها، متنبئة بأن وجودها بيننا ليس إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس، وأنها راحلة عما قريب في مقتبل العمر ونضارة الشباب!
ولكن موتها ليس فناء؛ إن أمثالها يحسنون للجمهور، وهي محسنة للجنس النسائي خصوصا في هذا العصر الذي تخطو فيه المرأة خطوتها الأمامية في سبيل الارتقاء. نحن في حاجة شديدة إلى نساء تتجلى فيهن عبقرية الرجال دون أن يفقدن صفاتهن النسائية الجميلة من لطف العاطفة وعذوبة الخلق، والرقة والدعة والاستقامة والإخلاص. كذلك كانت باحثة البادية التي برزت شخصيتها فأعلت شأن بنات جنسها؛ إذ ظهرت كاتبة كبيرة، ومصلحة غيورة، وامرأة عاقلة، وصديقة أمينة. فشغلت في حياتنا الأدبية، وفي حياة المرأة الشرقية عموما، مركزا ساميا جليلا قلما يبلغه غيرها.
فلئن بكيت اليوم الصديقة الوفية والثغر الحلو البسام، فإني أحيي المرأة الخالدة بمآثرها وأحني الجبهة أمام المحسنة الغيورة. إن باحثة البادية لا تموت ولا يمكن أن تموت، وستظل حسناتها باقية ما بقيت لغة القرآن. والشعلة التي توارت اليوم في ظلمة القبر هي هي التي تطل من سماء البقاء منيرة طريق الارتقاء للمعجبين بها الآسفين عليها.
فوداعا أيتها الراحلة الكريمة! لئن نزل البلى بيدك الرطبة فإن الخلود نصيب ذكرك وفضلك. سيري إلى حيث لا حجاب ولا سفور، حيث النور شامل والجمال مقيم! هناك يحيط بك أمثالك من الأرواح الكبيرة في دار هي مقر الذكاء والنبوغ، فأنت حقيقة بسكناها وهي حقيقة بأن تسكنيها.
وأنا التي عرفتك وأحببتك، مع الدموع التي أذرفها على ذكرك ترينني جاثية أمام ضريح ضم جسمك الثمين لأضع عند جوانبه باقة أزهار تعبر عن شكرنا لك. لكن الأزهار تموت، أما شكرنا فخالد كفضلك!
مي
الفصل الثاني عشر
تأثير باحثة البادية
قضت باحثة البادية بعد سكوت سنوات أربع فكان موتها أفصح مقالة وأبلغ موعظة. وقد كشف ذلك الظرف المحزن عما لها من مكانة رفيعة في نفس الجمهور ودل على درجة الارتقاء العالية التي يسع المرأة الوطنية أن ترمي إليها.
لا أدري هل نالت من الأذهان والقلوب فصول الباحثة وآراؤها وما كانت تبغيه من إصلاح أيام جهادها مثل ما نالت بعد رحيلها؟ إنه ما طار نعيها حتى انتشرت الكآبة وعم الأسف، فسودت أعمدة الصحف حزنا عليها وكثرت فصول الثناء على فضلها . وقد اشترك في ذلك الرجل والمرأة، والمحمدي والعيسوي ، والشاعر والناثر، والأديب والصحافي، حتى الذي لم يكن ليعنى بالصفحة النسائية من الأدب العصري وجد كلمة لهف يضيفها إلى ما قرأ وسمع من كلمات الحزن والأسف.
ذلك لأن مثل هؤلاء النوادر لا يخص أسرته فحسب إنما تكون أمته بفقده خاسرة. لما صمت صوت الباحثة للمرة الأخيرة أدرك الجمهور أن ذلك الصوت كان شجيا، وأن القلم الذي انتزعته مخالب الردى كان صريره موسيقيا. أليس من طبيعة الأنام ألا يفطنوا لجمال شيء وندرته إلا بعد الغياب الذي لا حضور وراءه؟!
ولم يقتصر على فصول الصحف وقصائد الشعراء، بل عني النساء بإقامة حفلة تأبين من جهتهن بينا كان الرجال ينظمون حفلة الرجال. فسبق هؤلاء وأقاموا حفلة الأربعين برئاسة معالي وزير المعارف، وكانت جامعة لكل مظاهر الجلال. فرأت اللجنة النسائية المتشكلة برئاسة حرم سعادة شعراوي باشا أن تؤجل عملها فتعقد اجتماعا نسائيا لمناسبة مرور العام على وفاة الفقيدة، وأن تسعى في خلال هذا العام لإيجاد أثر لذكرها الطيب في المدرسة التي تخرجت منها. ومجرد تفكير السيدات في هذا الأمر وذاك واهتمامهن بكيفية تنفيذ ما حسن في تقديرهن دليل على تغيير كبير جار في النفوس.
أما حفلة الرجال فقد حضرها كل عالم وكبير ووجيه. ولو كان المؤبنون من النشء الجديد القائل بسفور المرأة لوجدنا الأمر طبيعيا، ولكنهم كان أكثرهم من ذوي العمائم ومن المطربشين الذين هم أقرب إلى حزب المحافظين منهم إلى حزب آخر. وقد فاه أحدهم بهذه الجملة الخطيرة: «أيها الرجال قولوا للنساء إننا نكرم النساء العالمات كما نكرم أعاظم الرجال.»
ولكن كيف يذهلنا ذلك وقد كان دواما أهل الذكاء والنبوغ مفيدين بمماتهم كما في حياتهم. فإذا ما أسبلت منهم الجفون على العيون الجامدات فكأنما النفس منهم تتقمص في الأقوام باعثة فيهم اهتماما وتحمسا لما جاهدوا من أجله طويلا. فهم بالشمعة التي يشتد لمعانها عند الانطفاء شبيهون.
لما قامت نساء الغرب بحركتهن لم يؤيدهن فيها من الرجال إلا آحاد وقد هزأت بهن منهم مجاميع. والآن وقد مرت أعوام الجهاد والألم فقد استملن إلى قضيتهن أعلى أصوات أمريكا وأوروبا وأعمقها تأثيرا. أما عندنا فإذا ذكرت الحركة النسائية ذكرنا أن الرجل كان موجدها ومؤيدها وأنه ما زال ساعيا في تنشيطها. وقد جاءت حفلة الرجال لذكرى باحثة البادية أتم مصداق لهذا الإقرار.
مي
الفصل الثالث عشر
تأبين باحثة البادية1
سيداتي!
لما اجتمعت بباحثة البادية للمرة الأولى في 1914 بعد تصفح مجموعة «النسائيات» لم أستشعر بأنه قدر علي أن أقف لتأبينها عما قريب. يومذاك لم أشعر إلا بجاذب تخطى بي من دور الإعجاب بقلمها إلى دور الميل إلى شخصها، لأنها كانت من الذين خصتهم الطبيعة بقوة مغناطيسية تجذب الغريب فيفطن لنفسه وقد وجد فيها مكانا خاليا ينتظرهم منذ زمن طويل. وليس موجد تلك القوة ما يسميه البشر جمالا وذكاء أو لطفا وظرفا بل إن مستودعها جسم أجوف قائم في الجانب الأيسر من الصدر - ذلك الجسم الذي ما ذكره حتى أكثر الناس طيشا وزهوا - إلا وطأطأ الرأس كمن ينتبه لمعنى عميق من أقدس معاني الحياة.
إن عصرنا عصر الاختراع والآلات. فبالآلات هبط الإنسان إلى أعماق الماء وجعل له أجنحة تسابق طير السماء، وبها استعبد عناصر الأرض وكشف أسرار الكهرباء. من البواخر العظيمة التي تحذف الأبعاد وتلاشي البحار إلى الساعة الذهبية الصغيرة التي نقيس بها الزمان، في كل من أحوالنا نرى الآلات ممثلة دورا مهما. لكن هذا الجسم الأجوف القائم في صدر الإنسان، هذا القلب البشري العجيب، ما زال أتم الآلات وأقواها، بل هو أكثر اقتدارا من أعظم القواطر الحديدية على الإطلاق إذا جعلنا المقابلة على نسبة الحجم الصحيحة. آلات الفولاذ والحديد، تلك الصناديد المعدنية التي تزحزح الجبال وتدمر المدائن والحصون، تمل العمل وتطلب الراحة، وهذا الجبار الصغير المخلوق من دم ولحم لا يعتريه إعياء ولا سكون؛ لأن في وقوف حركته انتهاء الحياة الجسمية، وفي سكونه وراحته شقاء العواطف البشرية.
وما كانت قوته الوحيدة في تأدية وظيفته واستطراد النبض ليل نهار على حساب 72 مرة في الدقيقة، ومائة ألف مرة في اليوم، وأربعين مليون مرة في السنة، بل كانت قوته الكبرى في ذلك المعنى الملتبس الشامل الذي أطلقه عليه الثيوصوفيون والشعراء؛ إذ جعلوه هيكل العواطف والرغبات ومنهل الحب والإشفاق والمكارم. ليقل العلماء ما شاءوا من أن العواطف تتولد في الدماغ، أما نحن صغار الخلائق فحسبنا شعورا بأن في رياض القلب تغرد أصوات الطرب، وترفرف أجنحة الهناء ساعة نكون من السعداء. وأن القلب منا يمسي صحراء محرقة تجول فيها لواعج الأحزان ويتعالى في تيهها نحيب الوداع والحسرات عندما نكون من التعساء. حسبنا علما أن هذا القلب الصغير يسير العالم، وأن من كان كبير القلب فهو في الحقيقة قائد العالم.
لقد تصلب قلب الرجل قليلا - أو كثيرا - في حرب الاقتصاد التي ما فتئ يشهرها في ميادين الحياة، فلحق ببعض عواطفه جفاف وتوتر هما من مقتضيات المنافسة والجهاد. على أن القلب ما زال مملكة المرأة، وفي هذه المملكة الضيقة الرحبة تجتمع القوة والدقة والكآبة والصفاء، ويختلط التأمل بالأحلام والقنوط بالرجاء. عندما لا يتكلم من الرجل غير صوت الطمع والتهديد والمفاخرة تسمعن في صوت المرأة أنينا كأنما هو بقية زفرة أو تتمة بكاء. وحينما يعتز الرجل بإدراك ذروة السؤدد ونيل بعيد الغايات ترين المرأة منحنية على نفسها كمن ينحني على جرح بليغ، ترينها منحنية على قلبها لأن شيئا يظل نائحا فيه. وسواء في ذلك تلك العائشة في وسط الأبهة والتبجيل والإعظام، وتلك الحقيرة التي تتقاذفها عواصف الحاجة واليأس والهوان.
كان هذا القلب القدير يتلظى مضطرما في صدر باحثة البادية على مقربة من ذكائها الفطري، ولم تكن ألفاظها إلا شرار وميضه. به اختبرت البيئة المصرية في كثير من مظاهرها ودرست المرأة المصرية في جميع أطوارها، ولما أن هالها ما شهدت من ذل وتعاسة غمست قلمها في مداد إنما هو سيال قلبها الناري، وكتبت فصولا خالدات. إن محاسن التنميق والإنشاء تعجب وترضي إلى حين، لكن يا لسرعان ما تدرج تلك المحاسن في أكفان النسيان؛ لأن الطبيعة البشرية لا تحتمل الإعجاب المتواصل. أما الكلام المنطلق من القلب كقطع متقدة فيدخل القلوب مباشرة بلا وسيط، ويمتزج بها لأنه يعبر عنها، يمتزج بها حتى يصير جزءا منها يأبى التفرق والانفصال.
وكما أنها أصابت في لمس مواضع النقض وتشخيص العلل القومية كذلك رأت ببصيرتها النقية أكثر طرق الإصلاح اعتدالا وأقربها اتفاقا مع سير الارتقاء الطبيعي. وقارئ «النسائيات» يقف على خطتها الإصلاحية الرشيدة حيث لا يكون الرجل جائرا مستبدا ولا المرأة ساخطة متمردة، بل يتصافى الاثنان فتصير هي له أخلص الأصدقاء وأوفى المساعدين، ويصبح هو لها أخلص الأصدقاء وألين المرشدين. فيسيران في سبل الحياة وقد جعلهما التفاهم متغلبين على المصاعب، متعاونين على تبادل المنفعة والسعادة، وذلك أقصى ما ترمي إليه العائلة الاجتماعية في كل زمان ومكان.
كانت الباحثة زوجا لعبد الستار بك الباسل، وأستميحكن بالوقوف قليلا عند هذا الاسم. اذكرن أنها كانت تكتب في سنة 1907 و1908 و1909؛ تصورن حال ذلك الوسط منذ اثنتي عشرة سنة يوم كان القوم يرمون قاسم أمين بالكفر والإلحاد لأنه جنى هذا الإثم الفظيع الذي يدعى المناداة بإصلاح المرأة!
إن إعجاب الناس بامرئ لا يسلم من لازم متعد هو انتقادهم له. فإذا كان الجمهور شديدا على الرجل، يحسب نقضه بعض ما بلي من العادات عدوانا لبني الإنسان، فما قولكن في ظهور امرأة ذات رأي شخصي وذاتية حرة في ذلك الوسط الرجعي؟
يجب أن يكون الوسط راقيا جدا ليقدر الفرد الراقي وإلا أهمله وعد نبوغه جنونا، ورأى في توجعه من التقهقر والانحطاط وقاحة وشرودا.
غير أن الباحثة كانت على حكمة مكنتها من استخراج الخير من الشر. فبدلا من أن يغضبها تعنت الناقدين، انجلت لها الحقيقة كما تتجلى أحيانا في لحظات الألم ففهمت أن الطريقة المثلى لتهذيب الرجل وإعلاء مداركه هي تهذيب المرأة وإعلاء مداركها، وأن الواسطة الفريدة لجعل الشعب المصري حرا نبيلا عظيما هي تحرير الأم من قيود الغباوة والخمول وإفهامها جلال النبل القومي والعظمة الوطنية.
ولقد وجدت في قرينها منشطا كبيرا.
إنه كان في وسعه أن يحطم قلمها بإشارة صغيرة، وبكلمة واحدة كان يستطيع إسكات ذلك الصوت الفعال. بيد أن عبد الستار بك عربي صميم، وله من وراثته الكريمة بما كانت عليه نوابغ النساء العربيات من حرية وأنفة مفاخر بأن تعيش في ظله من تماثلهن عزة وبيانا.
فليسر إليه الآن شكر المرأة المصرية مقرونا بآي الثناء!
أما أنت، يا أم الباحثة، فلك أنقى ما في القلوب من احترام وإجلال! وساعة تذهبين لزيارة حفني بك ناصف الراقد هناك في مدينة الذين رحلوا، قولي له إن اسمه مجيد مرتين: مجيد بعلمه وفضله، ومجيد لأنه والد امرأة مجيدة! هذا كل ما أردت أن أقول يا سيداتي.
وحول القلب الفتي الذي كان يذوب إشفاقا على المرأة الضعيفة المعذبة ويلتهب غيرة على مصر والمصريين، حول الصوت الصامت الذي طالما ارتفع خطيبا والقلم الجامد الذي طالما تحرك كاتبا اجتمعنا اليوم، المسلمة منا والقبطية والسورية، لنحيي أختنا الخالدة ولنمزج ذكرها بذكر هذه الأيام المملوءة حماسة وأحزانا.
نعم، المرأة المصرية التي انبرت بالأمس تهتف في الجماهير هتاف الوطنية والفخار قد عقدت اليوم في هذه الجامعة الأهلية المباركة اجتماعا معزيا في كآبته، ساميا في معناه، وحيدا من نوعه في تاريخ النهضة الحديثة لبنات هذا الوادي العظيم!
فليحمل الهواء حديث اجتماعنا إلى من لم تحضره من أخواتنا في القاهرة، وفي الأرياف، وفي الثغور، ولينقله إلى نساء سوريا وبغداد وسائر الأقطار العربية والأقطار الغربية التي ينشد نفر من نزلائها أبياتا نظمت بلغة القرآن! ولتردد النساء اسم المرأة المصرية الكبيرة «باحثة البادية» فيكون هذا الاسم عنوان نهضتنا النسائية الجديدة وعربون تضامن الشرقيات على رغم تباعد الديار واتساع البحار!
Shafi da ba'a sani ba