وكذلك لم يكن الشعب في وجدان الأدب القديم، بل لا يزال بعيدا عن وجدان كثير من أدبائنا الكبار.
أما الأدب الجديد فينبع من إحساسات الشعب، وبكلمة أخرى نقول: إن هم الأدب الجديد واهتمامه هو الإنسان؛ أي الإنسان في ثرائه وفاقته، وسروره وحزنه، وانتصاره وهزيمته، ومعرفته وجهله، وفي جميع مشكلاته الحاضرة والمستقبلة. •••
إن القارئ للمتنبي لتدهشه قوته الخارقة في استنباط المعاني وتوليدها، بحيث يحس أنه لو وزعت هذه القوة على عشرين شاعرا لأجاد كل منهم ولصار له اسم في التاريخ.
وقريب من هذا شوقي، ولكننا نحس أن كليهما غريب عنا، بل إنني أحس بأني أقرب إلى المتنبي مني إلى شوقي؛ لأني أجد في الأول صورة الكفاح بين العرب والرومان في عشرات من قصائده الرائعة، أي أن له قيمة تاريخية عندي أبصر بها حركة التاريخ، ولكنه مع ذلك ينأى عني حين أجد أنه لم يعرف «الجندي المجهول»، فإنه حين يصف معركة إنما يجعل بؤرة القصيدة أميره «سيف الدولة» الذي ربما لم يشترك بشخصه في معركة واحدة، أما الجنود الذين كانوا يؤسرون ويقتلون فلم يكن يذكرهم، وصحيح أني أعذره في ذلك؛ لأن الشعب لم يكن قد ارتفع إلى وجدانه، ولكني مع عذري له هنا، بل لعذري له هذا، أجده غريبا عني.
أما بعد هذا، فهو وشوقي سواء في نظم الأكاذيب التي كان أولهما يمدح بها سيف الدولة والثاني الخديوي عباس.
والأدباء الجدد في مصر قد أصبحوا - بقوة ما تسلل إلى قلوبهم من الثقافة العصرية - يحسون أن الشعب هو الجندي المجهول الذي يجب عليهم أن يرفعوه إلى المستوى الفني والاهتمام الذهني في القصة والشعر والرسم والنحت، ويكتبوا عن حياته ويرسموا أهدافه، وما فيه من عبقرية أو إنسانية، وليس معنى كلمة «الشعب» أولئك البائسين فقط كما هو الوهم العام، فإن الموظف والطبيب والصحفي والمحامي والقاضي، كل هؤلاء عاملون يعملون برءوسهم كما يعمل الصانع بيده في مصنعه أو الفلاح في مزرعته، ومنهم المخترع، كما أن منهم العبقري في حبه أو في صلاحه، والمكافح في فلسفته أو في إنسانيته. •••
وهنا نحتاج إلى كلمات جديدة تعين لنا المعاني الجديدة في هذا الموضوع.
إن الأدباء الجدد يطلبون أدبا عضويا يرتبط بالمجتمع ويؤدي فيه وظيفة حيوية، بحيث يساعد على أن تسير الحياة الاجتماعية وفق الشرف والإنسانية والخير، ومكافحة الشرور، شرور الاستبداد والاستعمار والفاقة والمرض والخبث والدعارة.
والأدب هنا عضوي، من حيث إنه يؤدي في الجسم الاجتماعي خدمة معينة، كما تؤدي اليد أو القدم خدمة معينة للجسم البشري.
وبمعنى آخر ليس هو أدب الترف أو التسلية الذي يمكن الاستغناء عنه، أي ليس هو أدب البلاغة، كما فهمنا معنى هذه الكلمة في كتب البلاغة العربية، فهو لا يبالي تلك النبرات والنغمات إلا بمقدار ما يستطيع أن يؤدي بها خدمته، أي عضويته، في النشاط الاجتماعي، فالبلاغة هنا وسيلة وليست هدفا.
Shafi da ba'a sani ba