ومما فيه موضع شك كبير أنه قد تبين هاهنا أنه ليس يوجد شيء أزلي ممكنا ان يفسد، وانه ليس فيه قوة على ذلك. وتبين مع هذا في هذه المقالة ان كل جرم فقوته متناهية، سواء كان كستقيما أو مستديرا من قبل أنه متناهي القدر. وإذا كان ذلك كذلك فالجرم السماوي متناهي القوة إذ هو متناهي القدر. وإذا كان متناهي القوة فهو ممكن الفساد من ذاته غير فاسد من قبل القوة غير المتناهية التي هي في غير هيولي، أعني المحركة له. وهذا قد صرح به الاسكندر في بعض مقالالته وتبعه عليه ب س، فقال ان واجب الوجود قسمان: قسم واجب الوجود بذاته، وقسم ممكنة الوجود بذاته واجب بغيره. وقد يظن أن هذا يوافق مذهب أرسطو حين يقول في المقالة الثانية من السماء: ولو كان في فلك من الأفلاك المتحيرة كواكب كثيرة لكان الفلك الأقصى في تعب أن يحرك الافلاك التي بعد [ه] بحركة مخالفة ويلويها وفي كل واحد منها كواكب كثيرة. وقد قلنا مرارا كثيرة ان كل جرم له نهاية، ولهذه العلة صار في كل فلك من الأفلاك المتحيرة كوكب واحد فقط، وهذا نص منه ان في الأفلاك قوى متناهية. وإذا كان هذا هكذا ففي الأزلي قوة على الفساد ، والقول كما ترى نفي عنه أن تكون فيه قوة [على] الفساد، وهذا القول قد أوجبها له. وقد شعر يحيى النحوي بهذا الشك فأوجب منه أن يكون للعالم كون. فنقول نحن في حل هذا الشك: ان الجسم يقال ان فيه قوة متناهية بمعنيين: أحدهما وجود التناهي لحرك حركة في الشدة والسرعة. والمعنى الثاني تناهيها في الزمان، أعني عدم اتصالها وانقطاعها. وإذا كان هذا هكذا وقد تبين أن كل متحرك من تلقائه مؤلف من شيئين: من محرك ومتحرك، وأن المتحرك فيه جسم والمحرك ليس بجسم، بل هو صورة <في> المتحرك وكماله. وان المتحرك من تلقائه نوعان: نوع يوجد المحرك فيه متقوما بالمتحرك على جهة ما تتقوم الصور الهيولانية بالهيولي، أعني ليس يمكن وجودها من دون هيولي. والنوع الثاني يكون المحرك فيه ليس له قوام بالمتحرك عنه، وهذا النوع هو محركات الأجرام السماوية. وإذا تقررت هذه الأصول فأقول. ان المتحركات من تلقائها التي صورها المحركة متقومة بالمتحركات يصدق عليها عدم غير التناهي بالمعنيين جميعا، أعني أنه ليس يمكن في حركاتها أن تقبل سرعة يغيرنهاية وفعلا بغير نهاية ... ولا أن توجد حركاتها دائمة. وهذا ظاهر من البرهان الذي كتب <ذلك> في آخر الثامنة من السماع الطبيعي. والسبب في ذلك كما قيل أن القوى الجسمابية، أعني الفاعلة والمنفعلة، منقسمة بانقسام الجسم. واما المتحركات من تلقائها التي ليس لصورها قوام بالجرام التي تتحرك عنها، وانما هي اجرام بسيطة مثل المواد التي بها تفعل وهي المواد التي ليست فيها قوة لأن كل قوة لها نقيض، فقد [15 و: ع] يظهر أنه يجب ألا يوجد لها عدم التناهي الذي يكون من شدة الحركة وسرعتها، وذلك لأنه لو وجدت غير متناهية من هذه الجهة لأمكن أن توجد حركة في الآن. وهذا التناهي تقتضية طبيعة المتحرك بما هو جسم، لذلك قد يجب أن يعم هذا النوع من التناهي كل متحرك من تلقائه شواء كانت صورته التي يتحرك بها لها قوام بالأجسام أو لا يكون لها. وذلك أن هذا اللاحق أعني تناهي الحركة في السرعة والشدة هو شيء لحق المتحرك من جهة ان كل متحرك جسم وكل جسم ذو نهاية في القدر. وإذا كان هكذا فجميع الأجسام السماوية يوجد لها التناهي من هذه الجهة، وبدلك اختلافت حركاتها في السرعة والبطء واختلافت المتحركات عنها، أعني في الكبر والعظم. ومن هذه الجهة قال أرسطو فيها أنه ليس يمكن في الاجرام السماوية أن تحرك أي جسم اتفق من قبل انها ليست تتحرك بأي شدة اتفقت، بل كلها لها نسب محدودة بين المحركات والمتحركات، وذلك [أنه] لو كانت المتحركات من الاجرام السماوية أكثر مما هي للحقها الكلل، وبهذا النوع من عدم غير التناهي الذي يوجد للجرم السماوي بين أرسطو على العموم ان كل جسم فهو متناه القوة سواء كان سماويا أو غير سماوي، من قبل ان كل جسم لا يخلو من [أن] يكون فاعلا أو منفعلا، وكل فعل وانفعال فهو متناه في الشدة، وهو البرهان العام الذي كتبه في الاولى من السماء ... ان كل جسم متناه سواء كان مستديرا أو مستقيما بعد أن أتي في بيان هذا المعنى للجرم المستدير بما يخصه وللمستقيم بما يخصه. وإذا تبين أن حركات الاجرام السماوية هي متناهية من هذا الوجه غير متناهية من الوجه الثاني، أعني من اتصال الحركة، فبين أن سبب التناهيين مختلفان أما سبب التناهي الموجود في الاتصال، أعني في اتصال الحركة ولجوق الكلال من هذه الجهة للمتحرك، فهو أن المحرك لها وجوده بالمتحرك أعني أنه صورة قديمة به، وانه جسم مركب من مادة وصورة، ولذلك لزم أن يكون محرك الجسم السماوي ليس لوجوده تعلق بالمتحرك، أعني ليس هو صورة في مادة. إذ كان قد تبين أن الحركة متصلة لا انقطاع لها على ما تبين ذلك في الثامنةو رتبين من ذلك أنه كما أن المحرك له واحد بسيط كذلك الجرم الأزلي المتحرك عنه واحد وبسيط. واما سبب النوع الثاني من التناهي فهو طبيعة الجسم بما هو جسم، سواء كان مركبا من مادة وصورة أو بسيطا ان الفي جسم بهذه الصفة. وإذا كان الأمر هكذا فبين ان هذا النوع من عدم غير التناهي الذي يكون موجودا للأجسام من قبل الصورة الهيولانية التي فيها هو الذي من قبله وجد للجسم الفساد أو امكان الفساد، لا من قبل النوع الآخر من التناهي الموجود للأجسام بما هي أجسام متناهية وهو التناهي الذي يكون من شدة التحرك وضعفه. وإذا كان ذلك كذلك فلو كان الجرم السماوي المتحرك عن الصورة المحرك له مؤلفا أيضا من صورة ومادة على ما يعتقده ب س لكان الشك لازما ولا بد، وكان يجب أن يعتقد أنه يوجد شيء أزلي فيه امكان الفساد من غير أن يفسد. لكن لما كان قد تبرهن انه ليس يوجد شيء أزلي فيه قوة على الفساد فواجب أن يكون الجرم السماوي بسيطا لا مركبا، بل يكون ليس مؤلفا الا من شيئين فقط: الجسم المتحرك والصورة المحركة له غير الهيولانية. وقد يظهر هذا من قوة البيان المكتوب في آخر الثامنة من السماع، وذلك أنه لما تبين أن حركة الجرم السماوي أزلية فقد يجب أن يكون المحرك لهذه الحركة بصفة تتأتي منه هذه الحركة الدائمة، وكذلك يجب أن يكون هذا المتحرك بصفة يتأتي منه هذا القبول الدائم التحرك. فاما الصفة التي من قبله وجب دوام هذا الفعل للمحرك فهو تبرؤه من الهيولي، إذ كل محرك هيولاني منقطع التحرك. وأما الصفة [15 ظ: ع] التي وجب بها هذا المعنى للمتحرك أعني القبول دائما فهو انه بسيط غير مركب، إذ كل مركب فهو لا يفعل التحرك دائما ولا يقبل دائما. فإذا وجب أن يكون المحرك والمتحرك في هذا المتحرك من تلقائه الأزلي مباينا للمحرك والمتحرك الذي يأتلف منهما المتحرك من تلقائه غير الأزلي التحرك وأما فهذا أمر لائح كما ترى. فاذن ليس في الجرم السماوي قوة امكان على الفساد أصلا ولا التناهي الذي أوجبه له أرسطو هو الذي يجب من قبله امكان القساد فيه. ولو كانت توجد صورة هيولانية غير كائنة ولا فاسدة من قبل غيرها لا من قبل ذاتها، لأمكن في الجوار الفاسدة أن تقبل الأزلية [و] لكان الأزلية والفاسد واحدا بالجنس، وهذا كله مستحيل. والتوهم الذي صير القوم الى هذا الظن هو أنهم ظنوا أن ما تبين في آخر الأولى من السماع من ان كل جسم فهو مركب من مادة وصورة هو بيان عام. وليس الأمر على ما ظنوا، لأن البرهان هنالك انما كان على الأجسام الكائنة الفاسدة من جهة ما هي كائنة فاسدة، ومن قبل الكون والفساد تبين وجود الهيولي لها. وأما الاجرام الأزلية فليست مركبة من مادة وصورة على هذه الجهة. نعم كل متحرك من تلقائه بما هو متحرك فهو مركب من صورة وموضوع، وموضوع المتخركات السماوية هي الأجسام البسيطة وصورها هي المحركات المفارقة، وموضوع المتحركات من تلقائها الفانية هي الأجسام المركبة. وقد يوهم التركيب في الجسم السماوي ما قيل فيه في أول الأولى من السماء من أنه جرم لا ثقيل ولا خفيف، وذلك أنه قد يظن أن هذا العدم يدل على صورة قائمة بهيولي، وليس الأمر كذلك، بل انما يدل بذلك على صورة هذا الجسم المفارق لا على صورة فيه هي في موضوع غير صورته التي ليست في موضوع، أو على الصورة المفارقة من حيث هي صورة لموضوع غير منقسم إلى صورة ومادة، وذلك واجب لأنه إذا قلنا أن هذه الطبيعة هي التي اقتضت له الأزلية بالذات، فقد يلزم ضرورة فيها الا تكون مركبة من مادة وصورة، لأنه لو كانت مركبة من مادة وصورة لكانت أزلية بالعرض، ووجود ما بالعرض في الأزليات مستحيل، أو لزم الا يعترف بأن كل مركب من مادة وصورة كائن فاسد. ومن هذه الجهة، أعني من جهة كونه بسيطا، صار هذا الجرم لا موضوع له ولا ضد، ولذلك ما يحتج أرسطو لهذا الجرم أنه غير كائن ولا فاسد من قبل انه ليس له موضرع ولا ضد. وذلك نص منه في أول هذه المقالة. وبيس العجب من خفاء هذا المعنى على ب س، بل من هلفائه على الأسكندر، مع أنه يسلم أن الجرم السماوي بسيط غير مركب من مادة وصورة وذلك ظاهر من قوله في شرح مقالة اللام. واعلم أنه لا خلاف في ذلك بين المفسرين فانه ظاهر من كلام تامسطيوس في شرحه للسماء والعالم، أعني أن الجرم السماوي لا موضوع له، وكذلك قد صرح أبو نصر بذلك أعني أنه مذهبة. وإذا قال قائل: إذا قلتم في الجرم السماوي انه ليس فيه قوة وانه لذلك بسيط وأزلي فما الذي ينمع أن يكون متحركا من ذاته من غير ادخول أزلي محرك مفاق؟ قلنا ان الذي قام البرهان عليه هو أن الجرم السماوي ليس فيه قوة في الجوهر، ولذلك لا يقبل التغير الذي يسمى كونا وفسادا، لا لأنه ليس فيه قوة على الاطلاق، بل فيه قوة في الأين لا في غير ذلك، ولذلك احتيج الى ادخال محرك من خارج ليس فيه قوة أصلا لا في الأين ولا في غير ذلك. ومن هذه الجهة يصح أن يقال في الجرم السماوي أنه ممكن الوجود بذاته واجب بغيره، أعني في الأين فقط لا في الجوهر، وان يقال ان فيه قوة متناهية، وأنه استفاد عدم التناهي من غيره. ومن هذه الجهة يصح أيضا ان كل جسم ففيه قوة متناهية [16 و: ع]، والذي امتنع هاهنا أن يكون الأزلي فيه قوة في الجوهر لا في الأين. وهذه المسألة في في نهاية الجواب ولم يحصلها أحد ممن بلغنا قوله هذا التحصيل. كملت المقالة الأولى من كتاب السماء والعالم بعون الله وتوفيفه.
Page 184