وهو أولا يبتدئفي هذا الفصل فيخبر بالمنفعة التي في ذكره أقاويل المقدماء المخالفين له في هذا المعنى وايراد حججهم، ويخبر مع هذا أيضا كيف ينبغي أن يكون الطالب اللحق في مناظرة خصومه ومخالفته لهم فقال: إنه يجب قبل فحصنا عن السماء هل هي مكونة من شيء أو غير مكونة من شيء، وهل تقع تحت الفساد أو ليس تفسد البتة ان نبدأ أولا فنذكر آراه الاقدمين المخالفين في ذلك ونورد حججهم، وذلك لمعنيين: احدهما ان حججهم هي شكوك في البواهين التي نوردها نحن، ومن تمام البرهان حل الشكوك الواردة عليه. والمعنى الثاني أن قولنا يكون أتم تصديقا وأكثر قبولا عند محبي الحق، ولا سيما إذا تقدمنا أولا فنسقنا حجج المخالفين لنا، ثم ابطلناها، لأنه لا يتطرق إلينا بهذا الفعل تهمة في ارادة تقرير مذهبنا والاضراب عن مذهب الغير والازدراء به، ولا سيما مع كون الخصوم لنا غيبا في وقت المناظرة ولذلك متى أتينا برأينا وحجتنا دون حجج المخالفين لنا وآرائهم، كان قبول قولنا عند محبي الحق أضعف، وأصغاؤهم إليه أقل، وتهمتهم لنا أكثر. قال: ويحق على من أراد أن يقضي بالحق ألا يكون معاندا لمن خالفه ومبغضا له، بل يجب أن يكون منصفا له ورفيقا به، وحد الانصاف أن يسلم من الأقاويل له ويجيز منها ما يسلم لنفسه. وهو يبتدئ بعد هذا فيقول: إن جميع الأولين فد اتفقوا على أن السماء مكونة، وهؤلاء انقسموا على ثلاثة أقسام: ففرقة قالت انها مكونة ولكن لا نفسد الدهر كله، بل تبقى في المستقبل أزلية. وفرقة ثانية قالت: بل تكون وتفسد مرارا لا نهاية لها. وفرقة ثالثة قالت: بل تكون مرة واحدة فقط، ثم تفسد أيضا فسادا لا تعود بعده أبدا. وهنا يعاند واحدا واحدا من هذه الآراء الثلاثة، ويبتدئ من ذلك بالرأي المنسوب إلى افلاطون، وهو: ان العالم متكون وانه لا يفسد، فيقول: انه إذا استقرئت الأشياء الكائنة، ظهر من أمرها أن كل كائن فاسد. وقد يظهر أن كل كائن فاسد من هذه الجهة: وذلك انه ان كان العالم تكون من أشياء متقدمة عليه، فلا تخلو تلك الأشياء ان تكون ممكنة أن يتكون منها العالم أو غير ممكنة. فان كانت غير ممكنة، لم يتكون عنها العالم في وقت من الأوقات. وان كان ممكنة أن يتكون منها العالم ثم تكون منها، فيمكن أيضا في العالم أن ينحل إلى تلك التي تكون منها، لأنها بمنزلة الاسطقسات له، لأن الطبيعة القابلة لصورة العالم وضدها هي (طبيعة) واحدة يعينها، وامكانهما في الموضوع القابل لهما يجب أن يكون على السواء كالحال في الامكان الموجود في المواد لقبول الصور المتضادة. واما الحجة التي احتج بها أصحاب هذه المقالة فانهم قالوا: كما ان الأشياء التي تتركب منها الأشكال في صناعة الهندسة متقدمة على الأشكال، والأشكال [11 و: ع] متقومة منها من غير أن تنحل الأشكال اليها في وقت من الأوقات، بمنزلة الشكل الناري الذي يتركب من المثلثات والمكعب الذي يتركب من المربعات، كذلك نقول نحن في العالم انه تكون من الأشياء المتقدمة عليه، على أن وجودهما معا، أعني العالم والأسباب التي منها تكون، بمنزلة ما توجد العلة مع المعلول، والسبب مع السبب، لا ان أحدهما متقدم على صاحبه بالزمان، فان الزمان انما يكونه أصحاب هذا القول مع تكوين هذا العالم. وإذا كانت هذه حال العالم في الكون فليس يمكن فيما كان كونه يهذه الجهة ان يفسد. وأزسطو يرد هذه الحجة من نفس ما تقوله هذه الفرقة في كون العالم، وذلك انهم يقولون (انه) انما تكون يأن صار من عدم النظام إلى النظام. وعدم النظام لما كان مقابلا للنظام، لم يمكن أن يكون النظام مركبا من الشيء >وعدمه< العادم للنظام، من جهة ماهو عادم للنظام، (13ظ) [24 ظ] على جهة ما يوجد المثلث مركبا من الخطوط. أعني أن يوجد معا النظام والشيء العادم للنظام، بمنزلة ما يوجد المثلث والخطوط التي تركب معا. لأن النظام وعدم النظام متقابلان، ولا يمكن اجتماعهما في موضوع واحد في وقت واحد. إذا كان ذلك كذلك فالموجود الذي لحقه النظام، أو كانت صورته عدم النظام، متقدم بالزمان ضرورة للنظام، وإذا كان ذلك كذلك، فالعالم كائن فاسد. فبهذا يعاند في هذا الموضع هذا القول. واما الفرقة التي تقول بكون العالم تارة وفساده تارة، فانه إذا تؤمل قولهم ظهر منه ان العالم على رأيهم أزلي. وذلك أنه ليس يستحيل عندهم من صورة إلى صورة، بل انما يستحيل عندهم من حالة إلى حالة وطبيعته واحدة بعينها. مثل ما نقول: ان الانسان يستحيل من الصبا إلى الاكتهال ومن الاكتهال إلى الشيخوخة ومن الشيخوخة إلى الصبا، لو كان ذلك ممكنا. وانما كان ذلك لازما لهم، لأنهم يرون أن الأسطقسات تجتمع أحيانا وتتفرق أحيانا، وهي عندهم واحدة بعينها، غير مختلفة بالحد والماهية. ولو ان هؤلاء رأوا أن العالم يستحيل دورا إلى صور متغايرة بالماهية والجوهر، لقد كان يلزمهم أن تكون هاهنا طبائع أخر غير الطبائع الخمس، وذلك مستحيل أيضا، (ولذلك لا يقولون بهذا، وانما يزعمون أن هذه الاستحالة في حالاته)، فلذلك لا يقولون بكون العالم وفساده مطلقا، بل في عرض من أعراضه. ومثل هذا فهو استحالة في الكيف، لا كون وفساد في الجوهر. وأما الفرقة الثالثة وهم الذين قالوا ان العالم تكون ثم بفسد فسادا يتكون بعده، فإنه يعاندهم بأن يقول لهم: انه ان كان العالم واحدا لم يمكن أن يكون قولهم صدقا البتة. وذلك أن الشيء الذي تكون منه العالم، يجب ضرورة أن يكون قبل العالم وأن يكون ممكنا أن يتكون منه العالم. فإذا أنزلنا أن العالم تكون منه، ثم أنزلنا انه فسد، فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: اما أن نقول انه يفسد إلى تلك الأشياء التي تكون منها، مثل فساد المركب من الاسطقسات الى الأسطقسات، فيكون ممكنا ان يتكون من تلك الأشياء مرة ثانية. أو يقولون انه إذا فسدت هذه الصورة ⎤التي له، تكونت له صورة أخرى، وتلك الصورة أيضا إذا فسدت⎡ تكونت له صورة أخرى، وذلك إلى غير نهاية، فان بهذا الوجه يمكن أن يتصرو في هذا العالم انه إذا فسد لا يعود لكن ليس يقولون بهذا، فان القائل بهذا يقول بعوالم لا ناية لها في الصورة، وذلك مستحيل. وإذا لم يقولوا بهذا فيلزمهم أن يتكون العالم بعد فساده.
الفصل الثاني:
Page 148