وقال الشيخ أبو العلاء ﵀: تشتكي يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون خطابًا للرسول الذي ناداه في أول القصيدة أي تشتكي ما اشتكيت وأنت كاذب، لأنك لست ناحلًا، وإنما الشوق حيث النحول، ومثل هذه القصيدة التي ذكرناها أبو الطيب جرى لأبي ذؤيب الهذلي مع خالد بن زهير فقال أبو ذؤيب:
مَا حُمّلَ البُخْتِيُّ يَوْمَ غِياره ... عَلَيه الوُسُوقُ برُّها وشَعِيرهاُ
بأَثْقَل مَّما كُنْتُ حَملَّتُ خَالدِا ... وَبَعضُ أمانَاتِ الرّجالِ غَرُرُهاَ
وكان أبو ذؤيب قد أفسد هذه المرأة على سواه، فقال له خالد بن زهير أبياتًا منها:
فَلاَ تَجْزَعَنْ مِن خُطَّةٍ أنْتَ سرِتْها ... فأوَّلُ رَاضي خُطةٍ مَنْ يَسيرها
وكان خالد إذا عاد إلى أبي ذؤيب يشم عطفه، ويمس ثوبه لينظر أعلق به منها طيب، وخالد الذي يقول:
يا قوم مَالي وأَبا ذُؤيبِ ... كُنتُ إذا أتيتُه عن غَيبِ
يَشمُّ عِطْفِي ويمَسُّ ثَوْبي ... كأنّما أربتُه بريبِ
وقال أبو ذؤيب:
تُريدينَ كيمَا تَجْمعِيني وخَالِدًا ... وهل يُجمعُ السَّفَيانِ ويحَكِ في غِمدِ
فآليتُ لا أنْفَكُّ أحْذُو قَصِيدَةً ... تَكُونُ وإيَّاها بها مَثلًا بَعدي
والوجه الثاني: أن يكون قوله) يشتكي (إخبارًا عن المرأة، والأول أشبه.
صَحِبتْني على الفَلاةِ فَتاةُ ... عادَةُ اللَّونِ عِنْدها التَّبدْيلُ
قال ابن جني: يعني الشمس: وجعلها فتاة لأن الزمان لا يؤثر فيها، كما يقال للدهر الأزلم الجذع، أي هو طري قوي لا يستحيل عن ذلك.
قال الشيخ ﵀: ويجوز أن يجعلها فتاة، لأنها تطلع كل يوم فكأنها شيء محدث وقوله) عادة اللون عندها التبديل (أي تغييره.
نحنُ أدْرى وقد سألْنا بنَجْدٍ ... أَطَويلُ طَرِيُقنا أمْ يَطُولُ
قال ابن جني: أي هو طويل في الحقيقة أم يطوله الشوق إلى المقصود.
وقال الشيخ ﵀: معناه أنه يدري ولكنه يقوله على سبيل التبالة ألا تراه يقول بعده:
وَكثِيرُ مِنَ السُّؤَالِ اشِتياقُ ... وَكثيرُ من رَدّهِ تَعْلِيلُ
فهذه طريقة للشعراء مألوفة، يظهرون التجاهل بالشيء، وإن كانوا يعرفونه كقول أبي تمام:
وَمَكارِمًا عُتُقَ النِجّارِ تَلَيدةً ... إنْ كانَ هَضْبُ عَمايتَيْنِ تَليدَا
ألا تراه أدخل في الكلام شكا لأن أحدًا لا يجهل أن هضب عمايتين تليد غير معروف الأول، ومن خاض كلام العرب ونظر إلى تصرفها ومذاهبها وإشارتها، أجاز ما يمنع غيره، ومنع ما يجيزه، أولا ترى إلى قول بشر:
أُسائِلُ صَاحِبي ولَقَدْ لأرَاني ... بَصِيرًا بالظَّعائنِ حَيْثُ صَارُوا
وقال ابن فورجة: قول ابن جني أن الشوق يطول الطريق محال لأن الشوق يقصر طول الطريق، ألا ترى إلى قول القائل:
أرى الطَريقَ قَريبًا حينَ أسلكُه ... إلى الحَبيبِ بَعيدًا حينَ أَنصَرفُ
وقول الآخر: مَنْ عَاَلج الشَّوْقَ لمَ يستبِعد الدَّارَا وإنما يريد بقوله) يطول (أنه يعرض له من يصده، أو حالة تلفته وتعوقه من رغبة الملوك فيه وفي مدحه ومقامه عنجهم، أو سوى ذلك من علة أو ما أشبهه، ويريد بهذا القول تشوقه إلى سرعة الوصول وإشفافه أن يطول طريقة عارض بصده، واستثنى الأخبار، ثم أخبر أنه إنما يسأل هذا السؤال لشدة الشوق، وهو عالم بقدر طول الطريق وآمده، ولا حاجة به إلى سؤال أحد. ومثله.
وأسْتَخْبِرُ الأخبارَ مِن نَحْوِ أْرضِها ... واسْألُ عنها الرَّكْبَ عَهْدُهُمُ عَهْدي
لا أقَمنا على مَكانٍ وإنْ طا ... ب ولا يُمكنُ المَكانَ الرَّحيلُ
قال ابن جني: لم يقم كقول الله تعالى) فلا صَدّقَ ولا صلى (يريد لم يصدق ولم يصل، وقال الشاعر: وَأيُّ أمْرٍ سيئٍ لأَفَعَلهْ أي لم يفعله، وقوله: ولا يمكن المكان الرحيل، أي لو أمكنه الرحيل لرحل معنا إلى سيف الدولة شوقًا إليه.
وقال الشيخ ﵀:) ولا أقمنا (في معنى لم تقم، ومنه قول الشاعر:
وأيَّةُ لَيلةٍ لا كُنْتُ فيها ... كجَاري النَّجمِ يُحرقُ ما يُلاَقي
أي لم يكن فيها، ويجوز أن يكون قوله:) لا أقمنا (على معنى القسم، كأنه قال والله لا أقمنا، والمكان لا يمكنه أن يرحل معنا، وقد أبان هذا المعنى فيما بعده فقال:
1 / 69