وقال ابن فورجة: قوله) لا رأوك إلا بقلب (يقول حلفوا ليحضرن عقولهم وليعلن أذهانهم وأفكارهم فيك وفي قتالك، إذ كان ما يرونه بعيونهم قد لفهم عنك كثيرًا، وأوهمهم أنهم يقاومونك، فلما جربوا خابوا، ورؤية القلب هو العلم، ثم أتى بمعنى يجوز أن يكون شرحًا لهذا المعنى الذي قدمه ويجوز أن يكون معنى آخر مستأنفا، فقال: أي عين تأملتك فلاقتك، يريد أن العيون إذا نظرت إليك تحيرت فلم تعقل ما ترى كقوله:
فإذا رَأيُتكَ حارَ دُونَكَ ناظرِي ... وإذا مَدَحتكَ حارَ فيكَ لِساني
وقوله: وَطَرْفٍ رَنا إلَيكَ فَالاَ آل بمعنى رجع يريد أن العيون إذا نظرت نحوك تحيرت وبهتت، فلم تؤل أي لم ترجع، وبقيت شاخصة إليك كما قال أيضا:
تَمضِي الكَواكُب والأبصار شاخصة ... مِنْها إلى المَلِكِ الميمُونِ طِائرةُ
وفي هذا المكان سؤال آخر وهو أن يقال كيف قال:
أقْسَمُوا لا رأَوْكَ إلاَّ بقَلْبٍ ... طاَلَما غَرَّتْ العُيُونُ الرّجالا
وهو قد قال قبله:
والعِيانُ الجَلِيُّ يُحْدِثُ للظَّنَّ ... زَوَالا وللمُرادِ انتِقالا
وإذا ما خلا الجَبانُ بأرضِ ... طَلَبِ الطَّعْنَ وَحدهُ والنَّزَالا
ثم أتى بهذا البيت فناقض ما قدم، لأنه زعم أن العيان يزيل الظن، ويأتي بالقين، ثم قال فيما يليه) أقسموا لا رأوك إلا بقلب (ورؤية القلب هي من الظن، وذم العيان، فقال) طالما غرت العيون الرجالا (فالجواب عن هذا أن علم القلب وإن كان أجل من البصر، فإن العلم لا يحصل إلا بعد النظر بالعين في الغالب، وإذا ظن الروم أنهم يقاومون سيف الدولة ثم علموا عظم شأنه وشدة بأسه، وقصورهم عنه، حصل لهم العلم بأنهم لا يقاومونه بعد العيان والتجربة، وإذا رأوه بالعين دون القلب، رأوا عسكرًا مثل عسكرهم شكلًا ومنظرًا، أو دونه عددًا وكثرة، فأوهمهم ذلك أنهم يقاومونه، فلم يكن هذا تناقصًا وكان كل معنى مستقلًا بنفسه منفردًا عن صاحبه.
ما لَمِنْ يَنْصِيبُ الحَبائِلَ في الأرْضِ ... وَمَرْجاهُ أنْ يَصيدَ الهِلالا
قال ابن جني: هذا مثل ضربه أي سيوفه معودة للضرب، فكأنها تعرف بالدربة الحرام من الحلال.
وقال ابن فورجة: يعني أن سيف الدولة غاز للروم، فما يقتل إلا كافرًا فكأن سيوفه تعرفالحلال من الحرام.
ومن التي أولها:
ما لَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسُوُلُ ... أنا أهْوى وَقَلبُكَ المَتْبُولُ
قال ابن جني: معنى البيت أنه اتهم رسوله بمشاركته إياه في حبيبه.
وقال الشيخ ﵀: الأجود أن يرفع) كلنا (على الابتداء ويكون) جو (خبره وكان بعض الناس يخفض كلنا، ويجعله توكيدًا للضمير في) لنا (وهذا رديْ لأنه يوجب نصب) جو (على الحال، فيقال ما لنا كلنا جويا وإن لم يفعل ذلك فهو ضرورة.
أفْسَدَتْ بينَناَ الأماناتِ عَيْناها ... وخَانَتْ قُلُوبُهنَّ العُقُولُ
قال الشيخ ﵀: زعم أنه أرسل رسولًا ينوبه فلما نظر إلى عينها تغير عن حال الأمانة،) والهاء (في قلوبهن يحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون راجعة إلى الأمانات، ويكون قد استعار للأمانات قلوبًا، وإنما يعني قلوب المؤتمنين والآخر: أن تكون الهاء والنون راجعتين إلى العقول كما يقدم الضمير الذي في المفعول، يقال: لبس ثوبه فلان والمعنى متقارب، والعقول في هذا القول فاعله، وكذلك في القول الأول إلا أن الضمير هاهنا للعقول.
وقال ابن فورجة: الهاء والنون ضمير قبل الذكر، والتاء في) خانت (للعقول يريد خانت العقول قلولها، لأنهم إذا نظروا عينها غلبهم هواها على الأمانة ولم تكمل العقول التصوير القبيح بصورة القبيح وأوهمت أنه جميل ومثل هذا قوله:
ومَا هِيّ إلاَّ نَظرةُ بعدَ نَظرةٍ ... إذا نَزَلتْ في قَلْبهِ رَحلَ العَقْلُ
وإنما يعني أني بعثت رسولًا عشقها، فخانني فيما يؤدي من الرسالة.
تَشْتَكي ما اشْتَكْيتُ مِنْ طَرَبِ الشَّوْقِ ... إليَها والشَّوقُ حَيثُ النُّحُولُ
قال ابن جني: ما أحسن ما كنى عن تكذيبها، ولم يصرح به أي أنا مشتاق فنحولي يدل على ذلك، وهي غير ناحلة فليست مشتاقة.
1 / 68