كُلَّما رَحَّبَتْ بنا الرَّوْضُ قُلْنا ... حَلَبُ قَصْدُنا وأنْتِ السَّبِيلُ
وكأنهم يعتذرون إلى الأماكن والروض إذا رحب بهم، لأنه مسرور بنزولهم وهم لا يقدرون على الإقامة، وهو لا يمكنه الرحيل.
وقال ابن فورجة: لو أنعم الشيخ أبو الفتح النظر لعلم أن هذه ليست تلك التي عناها، وإنما هي التي تكون جواب القسم، كقولك: والله لا أقمت، ووالله لا ضربت، وقد يحذف القسم والكلام يقتضيه ويدل عليه، ألا ترى إلى قول الرسول ﷺ فيمن فعل كذا وكذا: لا تمس النار الا تحلة القسم يريد قول الله تعالى:) وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (ألا ترى أنه لا قسم ظاهر في هذه الآية. ولكن تأكيد الإيجاب دال على القسم ونائب منابه) ولا (في بيت أبي الطيب لها وجه آخر غير ما ذكرنا وهو أن يكون) لا (التي في الدعاء المنفي كقولك: لا يفضض الله فاك وكقوله:) فلا هَجَمْتَ بها إلاَّ على ظَفَر (فمحتمل أن يريد: والله لا أقمنا على مكان هذه صفته، وقوله) لا يمكن المكان الرحيل (له معنى لطيف قدسها عنه ابن جني وهو أنه يريد: لا نقيم على مكان أبدًا حتى نلقاه، أي لا أقمنا على مكان إلا ويمكن المكان الرحيل معنا وهذا ما لايكون، فكذلك نحن لا نقيم كقول القائل:
إذَا زَالَ عَنكم أسودُ العَينِ كُنتم ... كِرامًا وأنتم ما أقامَ ألائِمُ
و) أسود العين (جبل لا يزول فكذلك المخاطبون لا يكونون كرامًا.
لو تَحرَّفْتَ عَن طرِيق الأعادي ... رَبَطَ السَّدرُ خَيلَهُم والنَّخِيلُ
قال الشيخ ﵀: يقول: لو ملت عن طريق الأعداء لساروا حتى يربطوا خيلهم في السدر والنخيل، وكأنه قلب المعنى فجعل السدر والنخيل يربط خيول الأعداء، كما تقول: ساءني أمر كذا، أي وقع السوء فيه، وهذا وجه، وفيه معنى آخر، وهو أن يكون يصف الممدوح بالسعادة، فلو تحرف عن طريق من معاديه لكان السدر والنخيل يربط خيولهم أن تتفسح في البلاد، وهذا نحو قول الآخر:
تَرَكُوا جارَهُمُ يأُكُلهُ ... ضَبُعُ الوَادي وَيَرْميهِ الشَّجَرْ
وقال ابن فورجة: هذا البيت يشبه قوله:
فكُلَّما حَلَمتْ عَذْرَاءُ عِندهُم ... فإنَّما حَلَمتْ بالسَّبي والجَمَلِ
وذاك أن الروم ليس في ديارهم سدر ولا نخيل، كما ليس في ديارهم الجمال، فقوله) ربط السدر خيلهم والنخيل (يريد لولا دفاعك عن عضد الدولة ومعز الدولة لسارت الروم إليها وأوغلوا في ديارهما، حتى ربطوا خيلهم في السدر والنخيل، يريد بذلك الغض ممن بالعراق، ورفع شأن سيف الدولة، وقد صرح بذلك فقال بعده:
ما الّذِي عِنْدَهُ تُدَارُ المَنايا ... كالَّذي عِنْدَهُ تُدارُ الشَّمُولُ
وقوله) ربط السدر (إنما يريد ربطت إلى السدر، والروم ربطوها، ولكن لما كان السدر والنخيل يمسك خيله، جعل الفعل لها توسعًا في الكلام.
ومن التي أولها:
مُحِبّي قِيامي ما لِذَالِكُمُ النَّصْلِ ... بَرّيًا مِن الجْرحَى سَليمًا مِن القَتْلِ
قال ابن جني: نصب) بريا (على الحال من النصل، ومعناه يا من يحب مقامي وتركي الأسفار والمطالب، كيف أقيم ولم أجرح بنصل أعدائي وأقتلهم به.
قال الشيخ ﵀:) محبي (نصب على النداء أي يا محبي، ويعني بقيامه نهوضه والتماس ما يريد، يقال: قام الملك في أمر كذا، ومن ذلك: كان كذا من قبل أن يقوم النبي ﷺ، أي من قبل أن تظهر الدعوة إلى الإسلام.
وقال الشاعر:
نبغَ ابن كُوزٍ في سِوَانا فإنّه ... غَذَا النَّاسُ مُذْ قَامَ النَبُّي الجوارِيَا
وقال الآخر:
إذا ماتَ مِنّا سَيّدُ قامَ سيّدُ ... قؤُولُ لما قال الكِرامُ فَعُولُ
ويعني بالنصل سيفه كأنه يسألهم ماله) بريًا من الجرحى سليمًا من القتل (يقول لمحبي قيامه: ما لكم لا تجتمعون إلي وتنصروني، فأخرج وأقتل ويختضب سيفي.
أمِطْ عَنكَ تَشْبِيهِي بما وكأنَّهُ ... فَما أحَدُ فَوْقي ولا أحَدُ مِثْلي
1 / 70