فاشربْ على جدةِ الزمانِ فقد ... أصبحَ وجهُ الزمانِ مقتبلا
يقال هو مقتبل الشباب إذا لم يبن فيه أثر كبر وما أحسن هذا البيت لولا تكرار لفظة الزمان فيه.
كرخيّةً تتركُ الطويلَ من ال ... عيشِ قصيرًا وتبسطُ الأملا
تلعبُ لعبَ الشرابِ في قدحِ ال ... قومِ إذا ما حبابها اتَّصلا
اتصل: قارب بعضه بعضًا، ويروى: انتضلا من النضال والأول أجود، والحباب معلوم. وقال:
يا ربَّ صاحبِ حانةٍ قد رعتُه ... فبعثتهُ من نومهِ المتزمِّلِ
تزمّل بثوبه: تلفف به وتغطى.
يا صاحبَ الحانوتِ لا تكُ مشغبًا ... أنَّ الشرابَ محرمٌ كمحللِ
يقول: الخمر المطبوخ عندي سواء وقد فسره بقوله:
فدع الذي نبذتْ يداكَ وعاطني ... للهِ درُّك من شرابِ الأرجلِ
أقول: إن أبا نواس أخذ هذا من حسان بن ثابت حيث قال:
إنَّ التي ناولتني فرددتُها ... قُتلتْ قُتلتَ فهاتها لم تُقتلِ
كلتاهما حلبُ العصيرِ فعاطني ... بمدامةٍ أرخاهما للمفصلِ
فإن رغبة حسان عن الممزوج كرغبة أبي نواس عن المطبوخ، ورغبة أبي نواس في الخمر كرغبة حسان في الصرف. نعود إلى أبيات أبي نواس:
ممّا تخيرها التجارُ ترى لها ... قرصًا إذا ذيقتْ كقرصِ الفلفلِ
ولها دبيبٌ في العظامِ كأنهُ ... قبضُ النعاسِ وأخذهُ بالمفصلِ
المفصل: واحد مفاصل الأعضاء، والمِفصل، بالكسر: اللسان وإياه أراد.
عبقتْ أكفهمُ بها فكأنما ... يتنازعون بها سخابَ قرنفلِ
السخاب: قلادة تتخذ من السك وغيره، ليس فيها جوهر والجمع سخب.
تسقيكها كفٌّ إليك حبيبةٌ ... لا بدَّ إنْ بخلتْ وإنْ لم تبخلِ
أخذ أبو تمام هذا فقال في المدح:
ورأيتَني فسألتَ نفسك سيبها ... لي ثمَّ جدتَ وما انتظرتَ سؤالي
كالغيثِ ليسَ له أُريدَ غمامهُ ... أو لم يُردْ بدٌّ من التهطالِ
وقال:
كانَ الشبابُ مطيةَ الجهلِ ... ومحسِّنُ الضحكاتِ والهزلِ
كانَ الجميلَ إذا ارتديتُ به ... وخرجتُ أخطرُ صيِّتَ النعلِ
يقال: خطر بباله يخطر، بالضم، وخطر في مشيته يخطِر، بالكسر، بمداسٍ يصرُّ.
كانَ المشفعَ في مآربهِ ... عندَ الفتاةِ ومدركَ التبلِ
والباعثي والناسُ قد رقدوا ... حتى أكونَ خليفةَ البعلِ
والآمري حتى إذا عزمتْ ... نفسي أعانَ يدي على الفعلِ
هذه الأبيات قد سبق ذكرها في وصف الشباب، وإنما ذكرتها ثانيًا لما تضمنه باقيها من وصف ما أنا بصدده وهي:
فالآنَ صرتُ إلى مقاربةٍ ... وحططتُ عن ظهر الصبا رحلي
والكأسُ أهواها وإنْ رزأتْ ... بلغَ المعاشِ وقللتْ فضلي
رزأت: نقصت، وبلغ المعاش: القوت، وهو جمع بُلغة، وقللت فضلي: ذهبت بما عندي من فضل.
وقد أحسن مهيار ما شاء في قوله:
في بُلغِ العيشِ لي فضولٌ ... فما التفاتي إلى الفضولِ
نعود إلى الأبيات:
ذُخرتْ لآدم قبلَ خلقتهِ ... فتقدَّمتهُ بخطوةِ القبلِ
فأتاكَ شيءٌ لا تلامسهُ ... إلاّ بحسنِ غريزةِ العقلِ
فترود منها العين في بشرٍ ... حرِّ الصفيحةِ ناصعٍ سهلِ
ترود: تذهب وتجيء، وحرّ: كريم، والصفيحة: جلدة الوجه وبشرته، ناصع: ظاهر اللون خالص.
حتى إذا سكنتْ جوانحُها ... كتبتْ بمثلِ أكارعِ النملِ
جمح الفرس جموحًا وجماحًا: إذا غلب فارسه، والجموح من الرجال: الذي يركب هواه فيتعذر رده، يريد أن زبدها لما سكنت كان كأكارع النمل دقة وخفاء.
وقال:
لا تعرِّجْ بدارسِ الأطلالِ ... واسقنيها رقيقةَ السربالِ
مات أربابها وبادت قُراها ... وبراها الزمانُ بريَ الخلالِ
عُتقت في الدنانِ حتى استفادتْ ... نورَ شمسِ الضحى وبردَ الظلالِ
ولعمر المدام إنْ قلتَ فيها ... إنَّ فيها لموضعًا للمقالِ
وقال:
اسقنا إنَّ يومنا يومُ رامِ ... ولرامٍ فضلٌ على الأيامِ
يوم رام: يوم أحد وعشرين من كل شهر من شهور الفرس، وشهرهم ثلاثون يومًا أبدًا، ولكل يوم منها اسم. يقال: إنه كان لهم في يوم رام لذة وفرح.
من شرابٍ ألذَّ من نظرِ المعش ... وقِ في وجهِ عاشقٍ بابتسامِ
1 / 61