192

Soudan

السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)

Genres

استقالة نسيم باشا بسبب السودان

مولاي

مرت على البلاد ظروف عدة أثناء تطورها السياسي وهي تتوقع في كل يوم حكومة تطأ بها الطريق السوي. فلما شرفني مولاي أنا وزملائي بخدمة الأمة؛ قبلنا العمل على تحقيق آمالها التي جعلت أمانة بين أيدينا.

ولما كانت البلاد تجتاز دورا من أدق أدوارها لحل جملة من مسائلها العامة المعلقة بمؤتمر لوزان وإعلان الدستور والفصل في قانون التضمينات توطئة لإلغاء الأحكام العرفية وما يترتب عليها، أقدمنا على بحث هذه المسائل، وابتغينا الوسائل ملتمسين الخطى مبتدئين بمسألة لوزان التي تشعبت فيها آراء الناس بشأن التمثيل والممثلين. ولما لم تكن قد وصلت إلى الحكومة المصرية دعوة رسمية لحضور هذا المؤتمر سعت وزارة الخارجية المصرية على أثر تسلمنا إدارة البلاد للحصول على هذه الدعوة لدى الدول ذات الشأن في بعث هذه الدعوة. ولكنها لم توفق ولم يقبل البروجرام الذي قبلت هذه الحكومة أن تدخل المؤتمر على مقتضاه.

وفي أثناء هذه المفاوضات كانت اللجنة التشريعية تفحص مشروعي قانون الانتخاب والدستور، فلما فرغت منهما رفعتهما إلى الحكومة فبحثتهما وأزالت من قانون الانتخاب بعض عبارات، وأدخلت على بعض النصوص تعديلا، وكان من وراء ذلك عدم حرمان المنفيين والمعتقلين أو المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية البريطانية بأحكام وفي جرائم معينة من التمتع بحقوق الانتخاب. ولم ينقص من الدستور ما يمس بحقوق الأمة، بل أبقت فيه ما يتعلق باشتراكها في الحكم اشتراكا فعليا، وتركت لها الإشراف ومسئولية الوزارة أمام مجلس النواب، ولقد كان محل البحث والتعديل إلى آخر لحظة. وهو على وشك الصدور مطابقا لغيره من دساتير الأمم المتمدنة لولا ما صادفته الحكومة من اعتراض الحكومة الإنكليزية على النصين الواردين فيه بشأن السودان طالبة تحرير أحدهما وقصر الآخر على تلقيب الملك بملك مصر وليس بملك مصر والسودان. وقد كان البحث مقصورا في أول الأمر على المادة 145، وقد اقتضى تبادل الرأي فيما تقدم إلى مناقشة طويلة أبنت في غضونها بالحجج القانونية والأدلة الفعلية الناهضة على وجوب الاحتفاظ بنص المشروع، وكان من أهم ما لاحظته أن المادة 145 المقصودة بتبادل الرأي لا تنطوي على شيء ما، يخالف الحالة السائدة الآن فيما يتعلق بالسودان من جهتي الواقع والقانون، بل إن كل ما تحتويه إنما هو مجرد تقرير ما لمصر من الحقوق الشرعية بدون إدخال تغيير على الحالة الراهنة.

وفي نهاية الأمر اقترحت دار المندوب السامي نصا جديدا طرح على بساط البحث والمناقشة فبعد تحويره تحويرا طفيفا حاز الموافقة أبلغ إلى وزارة الخارجية.

وخلاصة ما ورد فيه أن الدستور يتناول تطبيقه الأقطار المصرية ما خلا السودان بشرط ألا يمس هذا الاستثناء بسيادة مصر على السودان ولا بحقوقها الأخرى فيه، ثم جدت مناقشة تلقيب الملك بملك مصر والسودان، وعرضت وزارة خارجية بريطانيا العظمى نصين آخرين يقضي أحدهما بحذف لقب ملك مصر والسودان وقصره على ملك مصر، والآخر بتعديل المادة 145 تعديلا جوهريا. ولما كان ذلك ماسا بحقوق البلاد، ما وسعني قبوله ولا تحمل مشئوليته، وقدمت مذكرة لفخامة المندوب السامي مبينا وجهة النظر والأسانيد في هذا الموضوع. ولكن مع الأسف الشديد لم تصادف قبولا لدى الحكومة الإنكليزية التي قدمت أخيرا لجلالتكم مذكرات شديدة ما كانت حكومتكم تتوقع صدورها، خصوصا وقد كانت المفاوضات دائرة بينها وبين دار المندوب السامي بروح الوفاق والوئام. فلما اطلعنا على هذه المذكرات لم أقبل تحمل تبعتها، وعرضت في الحال على جلالتكم استقالتي، ولما كان المركز خطرا والوقت المضروب للإجابة على هذه المذكرات معدودا بالساعات صار مدة ريثما يجتمع بقية الوزراء في الصباح.

ولقد جرت مخابرات بين الحكومة ودار فخامة المندوب السامي كانت نتيجتها وضع نصين ورد فيهما أن هذا اللقب يقرر وقت الفصل النهائي في نظام السودان بواسطة الممثلين المفوضين، وأن تطبيق الدستور لا يمس حقوق مصر في السودان، ورفع فخامة المندوب السامي النصين إلى وزارة خارجية إنكلترا منتظرا الرد الذي لم يصل بعد.

ونظرا لما أكده فخامة المندوب السامي في هذه المذكرات التي قدمها لجلالتكم بأن الحكومة البريطانية لا ترغب قط في أن تتعرض لحقوق مصر في السودان، ولا لحقوقها في مياه النيل، وصرح أنه إذا لم تقبل وجهة نظر حكومته في أربع وعشرين ساعة؛ فإن الحكومة البريطانية تسترد كامل حريتها في العمل بإزاء الحالة السياسية في السودان ومصر، وأورى بأنها تلجأ عند الضرورة إلى أي تدبير تراه مناسبا.

ونظرا للأخطار الجسيمة التي تستهدف لها البلاد في الحال من جراء هذا الإنذار في حالة الرفض القطعي عند حلول الميعاد، وما كانت تدعو إليه الحالة والظروف، تلافت الحكومة الأمر ووافقت على أن تكتب لجلالتكم بقبول هذين النصين المراد وضعهما في الدستور الذي لم يرفع لجلالتكم إلى الآن، ريثما يرد رد الحكومة الإنكليزية، وقد مضى ميعاد الأربع والعشرين ساعة المفروضة لوصوله.

Page inconnue