مقدمة الجزء الثاني
1 - الإنكليز في أفريقيا
2 - الإنكليز كحكام ومستعمرين
3 - استعادة السودان بعد إخلائه
4 - اتفاق 1899 والحكم الثنائي
5 - الرأي المصري في اتفاق سنة 1899
6 - بعد استعادة السودان
7 - السودان بعد اتفاق 1899
8 - حوادث السودان بعد استعادته
9 - نظام الحكم في السودان والإدارة الوطنية
10 - ديون مصر على السودان
11 - الطرق الصوفية
12 - حوادث مصر في السودان
13 - عهد الحماية والسلطنة في مصر
14 - حوادث مصر والسودان بعد الهدنة
15 - لجنة ملنر والوفد المصري
16 - السودان في مشروعات الاتفاق
17 - السودان في الدستور المصري
18 - حوادث السودان سنة 1924
19 - جمعية اللواء الأبيض
20 - الجيش المصري
21 - النيل يوحد بين مصر والسودان
22 - اتفاق بين مصر وإنكلترا سنة 1929
23 - الخزانات
24 - الزراعة في السودان
25 - جغرافية السودان ومصر
26 - معادن السودان وجوه وحيواناته وصناعاته
27 - الحالة الاقتصادية في السودان
28 - في وظائف السودان والموظفين
29 - التعليم في السودان
30 - الأدب في السودان
31 - الإسلام والأديان في السودان
32 - الحياة الاجتماعية والصحافة والعادات
33 - هجرة المصريين إلى السودان
34 - مستقبل السودان
مقدمة الجزء الثاني
1 - الإنكليز في أفريقيا
2 - الإنكليز كحكام ومستعمرين
3 - استعادة السودان بعد إخلائه
4 - اتفاق 1899 والحكم الثنائي
5 - الرأي المصري في اتفاق سنة 1899
6 - بعد استعادة السودان
7 - السودان بعد اتفاق 1899
8 - حوادث السودان بعد استعادته
9 - نظام الحكم في السودان والإدارة الوطنية
10 - ديون مصر على السودان
11 - الطرق الصوفية
12 - حوادث مصر في السودان
13 - عهد الحماية والسلطنة في مصر
14 - حوادث مصر والسودان بعد الهدنة
15 - لجنة ملنر والوفد المصري
16 - السودان في مشروعات الاتفاق
17 - السودان في الدستور المصري
18 - حوادث السودان سنة 1924
19 - جمعية اللواء الأبيض
20 - الجيش المصري
21 - النيل يوحد بين مصر والسودان
22 - اتفاق بين مصر وإنكلترا سنة 1929
23 - الخزانات
24 - الزراعة في السودان
25 - جغرافية السودان ومصر
26 - معادن السودان وجوه وحيواناته وصناعاته
27 - الحالة الاقتصادية في السودان
28 - في وظائف السودان والموظفين
29 - التعليم في السودان
30 - الأدب في السودان
31 - الإسلام والأديان في السودان
32 - الحياة الاجتماعية والصحافة والعادات
33 - هجرة المصريين إلى السودان
34 - مستقبل السودان
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
تأليف
عبد الله حسين
مقدمة الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
وفقنا الله تعالى إلى إتمام الجزء الأول من كتاب «السودان - من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية». وها نحن نبدأ الجزء الثاني، وقد جعلناه شاملا لتاريخ إعادة السودان بقيادة اللورد كتشنر باشا واتفاقية السودان سنة 1899 ونظام الحكم وحالة البلاد من وجوهها الإدارية والقضائية والزراعية والصناعية والأدبية والتعليمية والهندسية وتطورها في أثناء ذلك إلى بلوغها الوقت الحاضر، وأضفنا إلى ذلك بعض البيانات التي يحتاج إليها الباحث في شؤون السودان.
لقد وقف قارئ الجزء الأول على كيف اتجهت الحكومة الإنكليزية إلى السودان فاهتمت بفتوح إسماعيل، وندبت غوردون ليكون من حكامه، ثم قررت إخلاءه من الجيش المصري، ولكن أدى هذا الإخلاء إلى تفاقم الخطر على الحدود المصرية وإلى وقوع السودان تحت نير ثورة ومجاعة وفوضى، ورأت إنكلترا أن دولا أخرى - ولا سيما فرنسا - اتجهت إلى استعمار السودان، منافسة إنكلترا في استعمار أفريقيا واحتلال مصر، فقررت إعادة فتح السودان بجيش مصري قائده إنكليزي هو اللورد كتشنر ومعه جنود إنكليزية.
وقد اطلعنا على ما كتبه عشرات المؤرخين والسياسيين الوطنيين المصريين في شأن إخلاء السودان ثم تقرير استعادته، فكانوا يقولون: إن إنكلترا أخلت السودان مقررة في الوقت ذاته أن تستعيده على الصورة التي أعيد بها؛ أي باشتراك الجنود البريطانية مع الجيش المصري وللحكم طبقا لنظام اتفاقية 1899 أو مثله.
والواقع أن إنكلترا لم تختط خطة واحدة في هذا الصدد، وإن كانت وقفت موقف المغتنم للفرص: وأحسب أنها حين قررت إخلاء السودان، قد اتجهت إلى أن تصبح مديريات السودان ممالك مستقلة، يسهل بسط الحماية البريطانية عليها؛ فيكون حكم السودان قليل النفقة. ولكن إخلاء السودان قد ترتب عليه اتحاده تحت لواء المهدي ثم خليفته، ثم نشوب الفوضى فيه، وطمع فرنسا وغيرها في الاستيلاء عليه. فرأت إنكلترا أن السبيل اليسير - ويد احتلالها قوية في مصر وسلطانها نافذ على الحكومة المصرية - أن تكون إعادة السودان باسم مصر مقرونا باشتراك إنكلترا وبقيادة أحد ضباطها، وأن تدع للحوادث أن تكمل الباقي. ويرى القارئ في الفصول الآتية كيف تطورت الحوادث، وأن عوامل كثيرة اشتركت في هذا التطور، منها ضعف الوزارات المصرية، وضعف الروح الوطنية المصرية بعد هزيمة عرابي وأسره والاتفاق الودي بين فرنسا وإنكلترا سنة 1904، حيث أطلق لإنكلترا أن تبسط نفوذها على مصر بغير اعتراض، مقابل بسط فرنسا نفوذها ثم حمايتها على مراكش، هذا إلى توزيع مناطق النفوذ في أفريقيا بين الدول الأوروبية الكبيرة.
إن نجاح الحكومة الإنكليزية في سياستها وفي اغتنام الفرص التي أظهرتها الحوادث يجب أن يقدر فيه الكاتب مهارة إنكلترا في الحكم والنجاح في إدارة آلته، وفي روح السيادة التي يشعر بها البريطاني، وخاصة في بلاد أجنبية، ويجب أن يقدر فيه ضعف الوزراء والحكام الوطنيين واستخذاءهم، وأن قوما في مصر لم يحسنوا اغتنام الفرص، ولا توجيه الحكم لزيادة نفوذ مصر في السودان، بدلا من الاستخذاء. وليس يطلب من إنكلترا أو من أي بلد أن تكف عن الاستعمار والاحتلال وإنشاء الإمبراطوريات؛ فهذا شيء لم يعرفه التاريخ والطبائع البشرية، ولم يألفه الإنسان الطامح الطامع. فمن الطبيعي أن يكون للإنكليز سياستهم واستعمارهم واغتنام الفرص، وليس يطلب إليهم الكف عن ذلك، فهو في عرفهم خيانة وطنية. وإنما إذا وجهنا اللوم فإلى أنفسنا أو إلى المسئولين فينا عن تطور الحوادث بسرعة ضد مصلحة مصر، حتى إذا استيقظت، لقيت الأمة المصرية العقبات المتأصلة.
الفصل الأول
الإنكليز في أفريقيا
اهتمت إنكلترا منذ زمان بعيد باستعمار أفريقيا. وفي شهر سبتمبر سنة 1877 كتب المستر غلادستون في مجلة القرن التاسع عشر يقول: «إذا توطدت أقدامنا في مصر تكون هذه المستعمرة الأولى بوجه التحقيق بمثابة ذريعة لتأسيس إمبراطورية شاسعة في أفريقيا الشمالية، تأخذ في النمو تدريجيا إلى أن تدخل في تخومها منابع النيل الأبيض. بل تنتهي بدون شك بأن تجتاز خط الاستواء لتتصل بمستعمرتي الناتال ورأس العشم، وذلك بغض النظر عن الترنسفال ونهر الأورنج، وكذلك يكون الحال في الحبشة وزنجبار.»
وقد احتلت إنكلترا مصر عام 1883، واستولت على الأوغندا ونواحي خط الاستواء والأونيورو سنة 1890، ووادلاي سنة 1895.
وقد عقدت الاتفاقيات الآتية: (1)
الاتفاقية الإنكليزية الألمانية في أول نوفمبر سنة 1886. (2)
الاتفاقية الإنكليزية الإيطالية في أول يولية سنة 1890. (3)
الاتفاقية الإنكليزية مع الكونغو 12 مايو سنة 1894.
والغرض من هذه الاتفاقيات الثلاث تحديد مناطق نفوذ إنكلترا في نواحي أعالي النيل والسودان الشرقي.
هذا إلى أن فرنسا كانت تزاحم إنكلترا في القارة الأفريقية. (1) الأوربيون وأفريقية قبل القرن التاسع عشر
لم يكن الأوربيون يعرفون من أفريقية في قديم الزمان إلا سواحلها الشمالية، ثم بدأوا في القرن الخامس عشر يكشفون سواحلها الغربية، ثم داروا حول الرأس وساروا وسواحلها الشرقية حتى وفق فاسكو دي جاما البرتغالي إلى بلوغ الهند، وقد ألهى الأوربيين كنوز الهند وبيرو والمكسيك عن ارتياد مجاهل أفريقية «أو القارة المظلمة كما كانوا يسمونها». (2) الأوربيون وأفريقية أول القرن التاسع عشر
1
ولما وقفت رحى الحرب بين نابليون وأوربة عام 1815 كان شمالي أفريقية «مصر وطرابلس وتونس والجزائر» تابعا لتركيا تبعية فعلية أو اسمية، وكان للبرتغاليين السيادة على أصقاع على الساحل الشرقي تجاه مدغشقر، وكان للإنكليز والفرنسيين وغيرهم على الساحل الغربي محاط أو مستعمرات، وكان كل ما للإنكليز في أفريقية هو غمبيا وسيراليون وساحل الذهب على الشاطئ الشرقي ومستعمرة الرأس في الجنوب وجزائر سنت هيلانه وأسنشن وموريشس وسيشل.
وقد نبه الدول الأوربية إلى استعمار داخل أفريقية طلاب كشف أبطال مغامرون رموا بأنفسهم في مجاهل القارة؛ ليميطوا اللثام عنها، ومن أمثال هؤلاء سبيك وجرانت وبيكر ولفنجستون وستانلي، فضلا عن مصريين أمثال: الضابط المصري البحري الميرالاي سليم مطر بك قائد معسكر خط الاستواء الذي كشف النيل الأبيض. (3) الإنكليز وأفريقية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين
وقد أضاف الإنكليز خلال القرن التاسع عشر إلى مستعمراتهم السابقة ناتال والأورنج والترنسفال، «وتألف من المستعمرات الثلاث ومستعمرة الرأس اتحاد جنوبي أفريقية» وبتشوانالاند ونيسالاند وبسوتولاند وروديسيا وأفريقية الشرقية البريطانية وأوغندا ونيجيريا والصومال، ولما هزمت ألمانيا في الحرب العظمى «1914-1918» انتدبت إنكلترا لإدارة بلاد تنجانيقا «الألمانية» كما انتدبت حكومة اتحاد جنوبي أفريقية لإدارة أفريقية الجنوبية الغربية «الألمانية».
ولا يتمتع من كل هذه المستعمرات بالحكم الذاتي إلا اتحاد جنوبي أفريقية؛ لهذا نتكلم عنه ببعض التفصيل: (3-1) كيف استولى الإنكليز على مستعمرة الرأس؟
كان الهولنديون قد أنشأوا لهم مستعمرة عند رأس الرجاء الصالح لتكون محطا تتزود منه سفنهم التي تتجر مع الشرق، ويعرف المستعمرون الهولنديون بالبوير، وهي كلمة معناها الفلاحون، ولعلها أطلقت عليهم لاشتغالهم بالزراعة وإيثارهم لها على أية مهنة أخرى. ولما تدخلت فرنسا في شؤون هولندة في عهدي الثورة الفرنسية ونابليون وأخضعتها لحكمها، قامت إنكلترا عدوة نابليون وانتزعت مستعمرة الرأس من هولندة «1806»؛ لأنها قدرت قيمة تلك المستعمرة في حفظ مواصلاتها مع الهند.
وأقر مؤتمر فينا عام 1815 ضم الرأس إلى إنكلترا كفاء تعويض يعطى لهولندة وقدره ستة ملايين من الجنيهات. (3-2) النزاع بين الإنكليز والبوير
غير الإنكليز النظم الحكومية التي اعتادها البوير، كما جعلوا اللغة الإنكليزية اللغة الرسمية؛ فحنق البوير وأحسوا أنهم فقدوا حريتهم، واشتد حنقهم لما ألغت إنكلترا الرق «1834»، وكان البوير يستعينون بالأرقاء على فلح الأرض، ولم تمنح الحكومة الإنكليزية البوير إلا ثلاثة ملايين من الجنيهات تعويضا، وهذا المبلغ لا يكاد يساوي ثلث خسارتهم بهذا الإلغاء، لكل هذا فكر غالب البوير في الارتحال عن مستعمرة الرأس إلى الشمال والشمال الشرقي، حيث يستطيعون أن يعيشوا أحرارا لا يستلب حريتهم أحد، فبدأوا «الانسحاب العظيم
The Great Trek » عام 1836، فخرجوا طوائف تهيم في مجاهل البلاد ومعهم قطعانهم وثيرانهم وعجلاتهم الساذجة تجر الواحدة منها سبعة أو ثمانية أزواج من الثيران وتحمل أمتعتهم وأثقالهم، وبلغ عدد المنسحبين نحو 10000 من بينهم غلام نجيب يسمى كروجر «كان له شأن فيما بعد»، ونزل بعض المنسحبين في ناتال، والبعض الآخر استوطن ما بين نهر الأورنج وفرعه المسمى الفال، وقطن آخرون بإقليم شمالي نهر الفال.
وأنشأ البوير لهم في ناتال جمهورية «1838»، ولكن الإنكليز تعقبوهم هناك أيضا وضايقوهم، وأعلنوا ضم جمهوريتهم عام 1843 بدعوى أن البوير رعاياهم أنى رحلوا، وبحجة أن مستعمرة الرأس يهددها نزاع متواصل بين البوير في الناتال وجيرانهم المتوحشين المعروفين «بالكافير»
2
أو الكفرة.
لم تر كثرة بوير الناتال بدا من أن ينسحبوا مرة أخرى من الناتال وينضموا إلى إخوانهم النازلين بين الأورنج والفال، فكان ذلك مبدأ تأسيس «ولاية الأورنج الحرة»، فأعلنت إنكلترا ضمها أيضا 1848، فخرج كثير من البوير مرة ثالثة لينضموا إلى إخوانهم الذين عبروا الفال في الهجرة الأولى، وكونوا معهم جمهورية الترنسفال أو جمهورية جنوبي أفريقية «1849»، فاعترفت إنكلترا باستقلالها «1852» قانعة بضمان حرية التجارة فيها، والذي حدا بالإنكليز إلى الاعتراف باستقلال الترنسفال أنهم بدأوا يحسون ثقل التبعة الملقاة على عواتقهم لكثرة مستعمراتهم، وفي عام 1854 نزلت إنكلترا عن سيادتها عن ولاية الأورنج؛ لأنها رأت أنها تحمل عبء الدفاع ونفقاته عن هذه الولاية في وجه قبائل البسوتو المتوحشة المجاورة، وظلت ولاية الأورنج حتى سنة 1896 صديقة لمستعمرة الرأس الإنكليزية.
إذن: صارت للبوير جمهوريتان مستقلتان هما الأورنج والترنسفال، وللإنكليز مستعمرتان هما الرأس والناتال. (3-3) النزاع بين بوير الترنسفال والإنكليز
في عام 1877 أعلن لورد بيكنز فيلد رئيس الوزارة الإنكليزية وزعيم المحافظين ضم الترنسفال إلى الأملاك الإنكليزية بحجة أن فتنا متواصلة تقوم بين البوير والوطنيين في الترنسفال فتهدد أملاك إنكلترا.
ثم تولى غلادستون زعيم الأحرار الوزارة بعد بيكنز فيلد «1880»، ولم يكن غلادستون قد اعتنق الآراء الاستعمارية بعد، فأراد أن يرضي البوير، ولكن هؤلاء ثاروا بزعامة ثلاثة من رجالهم أظهرهم كروجر وهزموا الجيش الإنكليزي في موقعة «تل ماجوبا» في فبراير سنة 1881، ولم تكن الواقعة من الوقائع الحربية المجيدة، إلا أن البوير اعتزوا بها واغتروا بأنفسهم غرورا جنى عليهم فيما بعد، واعترف غلادستون باستقلال الترنسفال«1881» تحت سيادة إنكلترا.
ولكن البوير أنفوا أن يكون لأحد سيادة عليهم، فنازعوا الإنكليز حتى عقد الإنكليز معهم معاهدة لندن «1884»، ونزلوا فيها عن هذه السيادة مقابل ترخيص البوير للأوربيين جميعا في استيطان جمهوريتهم والاتجار فيها. (3-4) عودة النزاع بين الترنسفال والإنكليز
في عام 1855 كشف الذهب في الترنسفال، فلم يقبل البوير إقبالا كبيرا على استخراجه؛ لأنه لا يروقهم إلا الاشتغال بالزراعة ورعي الماشية، واجتذب الذهب إلى بلادهم أفواجا عظيمة من الأوربيين، لا سيما الإنكليز، حتى أربى عددهم على عدد البوير، ونشأت مدينة جوهانسبرج في بضع سنوات، ومدت سكك الحديد.
كذلك كشف الماس في ولاية الأورنج فنزح إليها الأوربيون أيضا. (3-5) سسل رودس
كان من بين من نزح إلى جنوبي أفريقية سسل رودس الإنكليزي، فإنه بعد أن أتم دراسته في أكسفورد ذهب يبحث عن الماس، وكان مصدورا فشفي، وأثرى إثراء عظيما، وصار رئيس وزراء مستعمرة الرأس، وأخذ ينشر فكرة الجامعة البريطانية التي تنطوي على إنشاء إمبراطورية أفريقية تمتد من الرأس إلى القاهرة، والسعي في تلوين معظم أفريقية باللون الأحمر الإنكليزي». وأنشأ عام 1889 «شركة أفريقية الجنوبية» على مثال شركة الهند، وتمكنت الشركة عام 1890 بمعاضدة الحكومة الإنكليزية من إنشاء مستعمرة في حوض نهر الزمبيزي سميت روديسيا «نسبة إلى رودس منشئها». (3-6) الإنكليز يضايقون بوير الترنسفال
إن استقلال البوير في جمهوريتهم ليتعارض ومشروع رودس، لذلك اعتزم رودس أن يقضى على ذلك الاستقلال، وشاركته الحكومة الإنكليزية في عزمه؛ ولذا نرى الإنكليز يستولون على الساحل الشرقي من الناتال إلى أفريقية الشرقية البرتغالية فيقطعون على الترنسفال الطريق إلى البحر، كذلك نرى «شركة أفريقية الجنوبية» تنشئ إقليم روديسيا فتقطع على الترنسفال طريق التوغل إلى الزمبيزي شمالا وتهددها كذلك.
أحاطت هذه المستعمرات الإنكليزية بالترنسفال والأورنج، وأدرك البوير ما ينتويه الإنكليز لهم، فرأى كروجر رئيس جمهورية الترنسفال ضرورة اتباع سياسة حازمة فعارض في المهاجرة إلى جمهوريته، ولما طلب الأجانب “Outlanders”
أن يسمح لهم بحق الانتخاب لينتخبوا من يرعى لهم مصالحهم أبى البوير عليهم ما أرادوا فاستنجد الأجانب بسسل رودس، وصادف هذا الاستنجاد هوى في نفسه، فبعث إليهم بحملة يقودها الدكتور جيمسن، فأسرها البوير في يناير سنة 1896، وسلموها لإنكلترا تسامحا وكرما كي تعاقبهم كما تشاء، فلم تعاقبهم، فاستيقن البوير أن إنكلترا تشارك رودس آراءه، ثم انتدبت إنكلترا لورد ألفرد ملنر حاكم الرأس ليفاوض البوير في السماح للأجانب بحق الانتخاب، فاجتمع ملنر بكروجر رئيس جمهورية الترنسفال وحضر الاجتماع رئيس جمهورية الأورنج بصفة غير رسمية، وأبى كروجر إباء شديدا أن يسمح للأجانب بحق الانتخاب، مستمسكا بأن «أفريقية للأفريقيين» أي للبوير. فنصح ملنر لحكومته بالحرب. (3-7) حرب البوير 1899-1902
نشبت الحرب بين الإنكليز والترنسفال وانضمت جمهورية الأورنج إلى شقيقتها، وأظهر البوير وهم لا يزيدون على 300000 استبسالا عجيبا في وجه أقوى دولة أوربية، وأغاروا على الناتال والرأس وحاصروا أهم مدنهما. وكان أهم قوادهم بوثا
Botha ، وكانت إنكلترا تستخف بادئ الأمر بالبوير، ولكنها لما رأت ظفرهم، جمعت من بلادها ومستعمراتها جيشا هائلا وأمرت عليه لورد روبرتس أعظم قوادها، ثم أمدته بلورد كتشنر، وبدأ الجيش الإنكليزي يكتسح بلاد البوير مخربا، وقام كتشنر يحتجز النساء والأطفال كرهائن في نقط عسكرية، ولسوء وسائل الصحة والتغذية كان يهلك منهم الألوف، فأكره البوير على الصلح إشفاقا على نسائهم وأطفالهم، وقد كانوا يستطيعون أن يداوموا القتال مدة أخرى.
وخسر الإنكليز في هذه الحرب نحو 200 مليون من الجنيهات ونحو ربع جيشهم، ومات سسل رودس «أو نابليون الرأس كما يسميه قومه» قبل أن يعقد الصلح بثلاثة أشهر ودفن في رودسيا، وتم الصلح بمعاهدة فرينيجنج
Vereeniging
في مايو 1902 على يد ملنر وزعماء البوير، وأهم شروطها: (1)
ضم الترنسفال والأورنج إلى المستعمرات الإنكليزية. (2)
احترام لغة البوير كلما سمحت بذلك الأحوال. (3)
تكفل إنكلترا بمنح المال اللازم لإصلاح ما خربته الحرب.
وعهد إلى ملنر بإدارة ولايتي الترنسفال والأورنج، وفي عام 1907 منحت إنكلترا كلا من الولايتين الحكم الذاتي «وكانت الكاب والناتال قد منحتا من قبل هذا النوع من الحكم».
وفي 1909 وافق البرلمان الإنكليزي على إنشاء «اتحاد جنوبي أفريقية» المكون من الرأس وناتال والترنسفال والأورنج، ويتولى أمر هذا الاتحاد حاكم عام تعينه إنكلترا، ووزارة مسئولة مقرها بريتوريا، وبرلمان ذو مجلسين أحدهما للشيوخ
3
والآخر للنواب، ومقر البرلمان مدينة الرأس، وجعلت الهولندية والإنكليزية لغتين، وهذا النظام شبيه بنظام ولايات كندا المتحدة.
وبدئ ذلك النظام عام 1910، وكان (بوثا) قائد البوير أول رئيس وزارة للنظام الجديد.
4
هوامش
الفصل الثاني
الإنكليز كحكام ومستعمرين
للإنكليز إمبراطورية واسعة منتشرة في جميع القارات، ويسكنها شعوب مختلفو الألوان والأديان والمذاهب والعادات. وهذه الإمبراطورية معبود الإنكليز. والمحافظة عليها أهم ما يشغلهم، وسياستهم في مصر والسودان تتأثر بالسياسة الإمبراطورية قبل الاعتبارات الأخرى. ولو لم يكن للإنكليز من أخلاقهم وطبيعة بلادهم ما يدعوهم إلى الاستعمار وحكم بلاد نائية، ما كان ممكنا أن تقوم هذه الإمبراطورية وأن تعيش حتى الآن، بالرغم من الحوادث الكثيرة.
والإنكليز يحتلون مصر والسودان ولهم أمر ونهي فيهما، وكلمتهم مسموعة أكثر من كلمة الوطنيين أنفسهم؛ ولذا أصبح لزاما على كل مصري وسوداني أن يقرأ تاريخ الإنكليز وأن يعرف سر نجاحهم، سواء بزيارته لإنكلترا أم بملاحظته لأساليب الحكم الإنكليزي وخلق الإنكليز في مجتمعاتهم ومع أصدقائهم أم بالاطلاع على المؤلفات التي كتبت عنهم، وهي مؤلفات تعد بالمئات وبمختلف اللغات. وآخر ما ظهر من المؤلفات في العربية كتاب «الإنكليز في بلادهم» لسعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا، جمع فيه معلومات عن الحياة الداخلية الإنكليزية، من وجوهها الاجتماعية والتعليمية والرياضية والسياسية والاقتصادية، ومن الخير أن تكثر الكتب التي تؤلف في تعريف الإنكليز وسياستهم وأحزابهم، وأن يدون المصريون ما يعلمونه عنهم بالاستقراء والمشاهدة، وأن يعنى الكاتبون بعلاقة ذلك كله بمصر والسودان والاستعمار.
أما نجاح الإنكليز في الاستعمار نجاحا لا مثيل له، فيجب أن نرجعه بالضرورة إلى أسبابه ونأخذه من مظانه على النحو التالي: (1)
عزلة إنكلترا عن القارة الأوروبية - قد مكنتها من أن تتخذ لنفسها سياسة خاصة، بينما استهدفت الممالك الأوروبية إلى المنافسات والحروب، التي اغتنمت إنكلترا فرصتها لمصلحة نفسها. (2)
حاجتها إلى المواد الخام لصناعتها الناهضة - أدت بها إلى البحث عن هذه المواد في البلاد الأخرى وحمل المشاق. (3)
بعد الإنكليز عن الفلسفة والنظريات - لا يتعب الإنكليز أنفسهم في المناقشات والنظريات. بل ينظرون إلى المصلحة ويتحرونها ويتخذون مختلف الوسائل المؤدية إلى ذلك. ولذلك لا تعيش إنكلترا على الدستور المكتوب والقوانين المدونة. وينهج قضاتها في أحكامهم منهج وزن الوقائع قبل وزن النظريات القانونية. (4)
ديموقراطية الإنكليز في بلادهم - هيأت لكل منهم أن يبرز كفايته. (5)
ولعهم الطبيعي بالألعاب الرياضية - جعلهم ينظرون إلى السياسة كلعبة من الألعاب. (6)
الاعتماد على الزمن وانتهاز الفرص - لا يحدد الإنكليز أمانيهم بوقت بل يعملون لتحقيقها ويعتمدون على الزمن وعلى ظهور الفرص واهتبالها. (7)
روح السيادة التي يشعر الإنكليزي بها وإحساسه بأنه متفوق على غيره، فلكم خلق الشعور بالسيادة والذاتية والاعتزاز بالنفس الزعماء والأبطال. (8)
نظامهم التعليمي ومطابقته للأخلاق الإنكليزية وطبيعة البلاد وحاجتها. (9)
جريهم في حكم المستعمرات ونحوها على الاستتار خلف حكومات وطنية.
هذا شيء من أسباب نجاحهم الاستعماري.
ونورد فيما يلي آراء بعض الكتاب والمؤلفين في الإنكليز. (1) كيف نفهم الرجل الإنكليزي؟
ألقى مستر جيلان بالإسكندرية محاضرة في هذا الموضوع قال فيها:
الطريقة المثلى لنفهم مزاج الإنكليزي وطبائعه إنما هو درس حالته في وطنه «إنكلترا»؛ ذلك لأن ما يبدو من التفاوت بين الإنكليزي في الخارج من صفات الكبرياء والصلف والغرور واحتقار كل ما ليس إنكليزيا وبين ما يظهر به في بلاده من الصفات والأحوال، إنما يرجع إلى أسباب يحسن الوقوف عليها؛ إذ الواقع أنه ليس به كبرياء وإنما هو شعور بالذاتية يرجع إلى ما يقدره في نفسه من اتجاه الأنظار إليه، وهذه حالة تبعثه على التحوط والحذر حتى لا يكون عرضة لقلة الترحيب به من الغير؛ مما يؤدي إلى الخطأ في تقدير أن مظهره هذا ناشئ عن الصلف والغرور. يضاف إلى ذلك أن الإنكليزي في الخارج إنما يتمثل في غالب الأحوال في طبقة السياح الذين هم من أهل الثراء، والذين تعودوا فرض مشيئتهم على الغير في بلادهم والسيادة في المناطق الأجنبية.
وقد تكلم المحاضر بعد ذلك عن الحياة البيتية وحب الإنكليزي للاجتماع العائلي، وضرب لذلك مثلا مما جاء في كتاب المستر «وينر» في وصف المنزل الإنكليزي، وقابل صفات الإنكليز بغيرهم من أهل أوربا من حيث سهولة الاتصال الشخصي أو صعوبته، فإن الرجل الأوربي قد تتوثق الصداقة بينه وبين غيره من دون أن يترتب على ذلك تبادل الزيارة المنزلية، على عكس الرجل الإنكليزي في بلاده فإنه يدعوك إلى الغداء في بيته ولو لم تكن مستعدا لرد هذا الجميل إليه - ثم انتقل المحاضر إلى نظام الطعام في إنكلترا وبساطته وقال: إن الإنكليز يعنون بكيفية أكل الطعام أكثر من اهتمامهم بصنوفه، ثم وصف بيان الوجبات التي يأكلها الإنكليز في الصباح والظهر والمساء والليل، واستطرد إلى أسلوب المحادثة، ووصف الإنكليز بأنهم قوم يميلون إلى الصمت والإقلال من الكلام، وأن الحديث يبدأ عادة بحالة الطقس، وأنهم يستنكرون الإيماء بالأيدي في أثناء المحادثة، ولا يحبون الوقوف للكلام في أثناء السير في الطريق للإشارة بعلامات إلى موضوع الحديث أو مس أحد جوانب صديقه بيده؛ فإن هذه الأفعال جميعها غير لائقة في إنكلترا، والتعبير بعبارة غير لائقة هو القاعدة أو المبدأ الذي يراعى عند الإنكليز في كل ما له علاقة بآداب السلوك. واستشهد المحاضر بقول رئيس شرطة إنكلترا من أن قول الرجل للمرأة بلا موجب في الطريق العام «مساء الخير» قد يكون سببا كافيا للقبض عليه. ويقول المحاضر: إن الإنكليز يستنكرون مخاطبة الرجل للرجل من دون سبق تعارف، وإنه إذا قدم أحدهم للآخر كان على الأخير أن يبدي ابتسامة قائلا: «كيف حالك؟» وأن يكون الرد على ذلك هو أيضا «كيف حالك؟» وعندئذ تنتهي إجراءات التعارف ويسوغ الشروع في المحادثة.
وانتقل المحاضر بعد ذلك إلى التعليم في المدارس العامة الإنكليزية، وأنها تعد متخرجيها لوظائف الحكومة لما هو مفروض فيهم من الاستعداد الخلقي والمقدرة على السير في معترك الحياة بأمانة واعتدال. وانتقل من ذلك إلى طبقة الأرستقراطية التي كانت مقصورة على الأسر العريقة في الحسب والنسب، ثم اندمج فيها رجال المال من أصحاب الصحف والشركات والأعمال، وذكر المحاضر أن ممثلي إنكلترا في الخارج وكبار رجال موظفي الخارجية والسفارات وحكام المستعمرات يختارون من أفراد الطبقة العليا الحائزين للدرجات العلمية والكفايات الممتازة، ويختار من هؤلاء أيضا رجال القضاء والكنيسة وعظماء الضباط في الجيش والبحرية، وهذه الطبقة هي التي يبني عليها الأجانب حكمهم عن أخلاق الإنكليز وعاداتهم.
وقد كان المحاضر يقتبس نبذا من أقوال الأجانب عن الإنكليز قائلا: إن كلامهم أوقع في إيضاح ما ينبغي في الموضوع، واستشهد بما ينسب إلى الإنكليز من أنهم قد يضحكون في الأحوال التي لا تثير الضحك عند غيرهم، وأشار المحاضر إلى عدم وجود المقاهي في إنكلترا، وأن أمكنة الشراب ضيقة النطاق.
وأما الألعاب التي يعد الإنكليز أصحاب القدح المعلى فيها، فقد قال المحاضر: إن نسبة المشتغلين بها من الإنكليز قليلة، فإن كرة القدم التي يلعبها اثنان وعشرون رجلا في الحلبة يكون المتفرجون فيها عشرين ألفا، وإن حب الإنكليز للألعاب ينحصر في دور الدراسة حيث يخصص لها جزء من برنامج التعليم، فإنها تروض الأولاد على النظر إلى الحياة نظرة صالحة وأن يتلقوا الصدمات من دون تذمر.
والإنكليز يتمسكون بمظهر الانسجام: هم - على حريتهم - يحافظون على التقاليد ومصطلحات الحياة، وهم في مدارسهم العامة لا يتخذون رداء معينا، ويعتبرون التقيد بذلك ماسا بحريتهم، ويتركون التلاميذ يرتدون ما يشاؤون، وهذا يؤدي إلى ظهور التلاميذ بشكل واحد وليس عليهم مسيطر إلا الرأي العام، ولا شك في أن الإخلال والخروج عن المألوف يعد جريمة، واللياقة عندهم هي ما يكون خاضعا لما يتطلبه الرأي العام، وكل من يخرج عن هذا المبدأ يعد خارجا.
وانتقل المحاضر بعد ذلك إلى المرأة الإنكليزية قائلا: إن مكانتها عالية في الهيئة الاجتماعية الإنكليزية؛ فإنها ذات نصيب وافر من الثقافة، وهي تعامل بكل احترام وتنتظر كل تقدير وتبجيل من ناحية الرجل. وإن النساء أصبح لهن حق الاشتراك في الانتخابات وعضوية البرلمان ومزاولة صناعتي المحاماة والطب. وكن السابقات إلى الإصلاحات الاجتماعية، وهن صاحبات الفضل في رفع الشكوى لإصلاح مساكن الطبقات الفقيرة والمحال العمومية، وإن الأم الإنكليزية تحب أطفالها، ولكنها لا تفسد طباعهم ولا تحجم عن إرسالهم إلى المدارس الداخلية، وتخفي دوما شعورها إذا فارقتهم، كما أن الولد من جانبه يرى من اللائق عدم إظهار التألم عند الفراق. وإن أبناء الإنكليز يتاح لهم نصيب وافر من الحرية لتكوين جماعات من الأصدقاء والعناية بما يهوون من الرغبات البريئة.
وقد استطرد المحاضر إلى نظام فرق الكشافة قائلا: إنها ترجع إلى فكرة إنكليزية، ثم انتشرت إلى البلدان الأخرى، ولكنها تحولت إلى غير معناها ومقصدها الأصلي؛ فإنه في البلدان الأوربية انقلبت نظاما عسكريا، وهو ما ينبغي أن يتجنبه منظمو هذه الهيئات؛ إذ إن المقصود من هذا النظام هو تكوين خلق النشء وتشجيع حب الطبيعة والهوايات وحب المطالعة وطرق الانتفاع بالأشياء. وقد وصف المحاضر حي الستي في مدينة لندن التي يرحل إليها كل مسافر إلى إنكلترا بأن منطقة هذا الحي مجمع لكل مظاهر النشاط والحياة والعمران، فهو مركز حركة الأعمال العالمية، وفيها البورصة الملكية وبنك إنكلترا.
وإن خصائص الستي أن كل شيء فيها يدل على السرعة، فليس فيها مقاه للجلوس والتدخين ولعب الورق، وهناك ترى قاعدة «الوقت من ذهب» ظاهرة أينما سرت؛ فلا يقف الناس في الطريق لتبادل الحديث، ولا يسيرون لمجرد الرياضة؛ فإن هذا النوع إنما يقضى في البساتين، وليس الطريق إلا وسيلة الانتقال من مكان لآخر؛ إذ التسكع في الطريق جريمة، ورجال الشرطة لا يسمحون لرجل بالوقوف طويلا إذا لحظوا ذلك.
ورجال البوليس مشهود لهم بحسن المعاملة وإرشاد الجمهور إلى ما يرغبون، وهم حجة في تقدير الوقت ويراقبون مرور الأشخاص والمركبات بحذق ومهارة. والإنكليز مشهورون بحبهم للحيوانات، ويرجع ذلك إلى تربيتهم وعلمهم بأن للحيوانات إحساسا كما للإنسان. وليس من عادة الإنكليزي إذا التقى بآخر أن يرفع قبعته للتسليم، وإنما يكتفي بإيماءة برأسه، وإذا وقفا فلا يسلمان باليد، ويلاحظ أن الإنكليز إذا وجد اثنان أو ثلاثة منهم أمام باب، فلا يحاول أحدهم دعوة الآخرين للدخول بل المتبع في ذلك لديهم أن «الوقت من ذهب»، وأن أقربهم من الباب يدخل الباب أولا - وأما المتنزهات فإنها مفتوحة لجميع الناس وليس بها إعلانات بمنع السير على العشب.
ويزدحم الناس صباحا أيام الآحاد في هذه المتنزهات فيجلسون على كراسي موزعة في أنحاء كل متنزه، ويدفع الزائر بنسين عن تذكرة لاستعمال كرسي، وهذه التذكرة تخول استعمال كراسي جميع المتنزهات طيلة اليوم، وتمتاز هذه المتنزهات بمن يجتمع فيها من خطباء الجمهور في أماكن مختلفة من دون أن يعترض للخطيب أو السامعين أحد ما داموا محافظين على النظام. أما مواعيد المحال العامة فهي محددة حسب الأصناف التي تباع فيها. وقد قال المحاضر في نهاية شرحه بأن الديموقراطية تتمثل في بلاد الإنكليز وأن الخدمة العسكرية ليست إلزامية.
وقد طلب إلى السامعين أن يحاولوا الوقوف على مزاج وطبيعة الإنكليزي بأن يتصلوا به وأن يعلموا أنه شخص يحب الصراحة في كلامه ويكره المراوغة والدوران في المعاملة، وأشار إلى وجوب إزالة أسباب سوء التفاهم كلها والعمل على إزالة التنافر؛ إذ المعلوم أنه ليس من أمة إلا وفيها أخطاء، وأن أخطاء الإنكليز تعود إلى أنهم أمة تعيش في جزائر بعيدة عن المؤثرات التي تقع على سكان القارات الأخرى، وهم لذلك ليسوا مستعدين لسرعة الارتباط بأسباب الصداقة بالغير.
وقال المحاضر - وهو أستاذ إنكليزي: إننا نخلص لمن تتوثق الصداقة بيننا وبينه، واستشهد بأبيات لشاعر الإنكليز شاكسبير تحض على التعارف واجتناب الغلظة بالأصدقاء، والحذر من كل قادم، واجتناب المشاكل، والإصغاء إلى كل ما يقال، والإقلال من الكلام، والتحفظ في الحكم على الأشياء. وقال المحاضر: إن هذه الأبيات تدل على كثير من نواحي الخلق الإنكليزي، وقد شكر الحاضرين لحسن إصغائهم لكلامه، وطلب منهم اعتبار صراحته في الكلام دليلا على حسن قدره لهم، وأعرب عن أمله في أن يكون اطراد حسن التفاهم مؤديا إلى تقوية عناصر المودة والصداقة.
وطلب منهم ألا يحكموا على الإنكليز بما قد يجدونه من كل إنكليزي يصادفونه، بل الواجب أن ينتقلوا إلى الديار الإنكليزية لدرس أحوال الإنكليز؛ لأنهم يجدون كل ترحيب ويكتسبون مودة وإخاء؛ فإن الإنكليزي في بيته يخاطب صديقه كما يخاطب الرجل الرجل من دون أن يكون للجنسية أي أثر كان. (2) رأي أديب في أخلاق الإنكليز
عقد واشنجتون إرفنج
Washington Irving
1
القصصي الشهير وصاحب كتاب حياة محمد مقارنة بين أخلاق الإنكليز والفرنسيين فقال:
مثل الأمتين الإنكليزية والفرنسية كمثل خيطين مختلفين في اللون قد تداخل كل منهما في الآخر دون أن يمتزج اللونان. وفي الحقيقة نجد أن كلتا الأمتين تعتز بتباينها واختلافها عن الأخرى، وذلك الاختلاف الذي لا يمنع قدر كل منهما لمحاسن الأخرى.
فالعقل الفرنسي سريع ونشيط وهو قادر على حل المشكلات بسرعة البرق. وبقفزة واحدة يصل إلى النتائج البعيدة التي غالبا ما تصدق بدون أن يجهد نفسه في التحليل والتفكير المنتظمين. أما العقل الإنكليزي فهو سريع ولكنه أكثر ثباتا ومثابرة، وهو أقل فجأة ولكنه آكد وأضمن في استنباطه. وعلى ذلك فالسرعة والحركة في الفرنسيين تساعدهم على أن يجدوا السرور في ضروب إحساساتهم المتنوعة. حتى لنجد أن قولهم وفعلهم يتبعان المؤثرات المباشرة والدوافع المتنوعة أكثر مما يتبعان التعقل والتفكير. فهم لذلك أكثر حبا للاجتماع والمجتمع والأمكنة العامة ومواطن اللهو والسرور. أما الإنكليزي فهو أكثر تفكيرا في طباعه، فهو يعيش في دنيا قد حددها ورسمها لنفسه، معتمدا أكثر ما يكون على نفسه، وهو يحب الهدوء في منزله، وعندما يتركه نجد أنه حريص أيضا على أن يخلق حول شخصه جوا من العزلة والتحفظ، فنجده يسير خجولا وحيدا محتفظا بسره لنفسه.
أيضا بينما نجد الفرنسيين كثيرا ما يميلون إلى التفاؤل منتهزين الفرص الحسنة وقت سنوحها والمسرات وقت مرورها، نجد الإنكليز يتغاضون عن خير عاجل في سبيل الاستعداد لشر محتمل.
هب أن الشمس قد أشرقت لحظة من الزمن في يوم غائم قاتم فإن الفرنسي ذا الطبع الزئبقي الذي لا يستقر على حال تراه يلبس أحسن ثيابه ليمرح كالفراشة الجميلة كي يمتع نفسه بتلك اللحظة القصيرة من ضوء الشمس غير حاسب أي حساب لما سيعقبها. كذلك هب أن أشعتها قد ظهرت على أبهى ما يكون من الوضوح والجمال، فإن الإنكليزي وهو الحذر الفطن يحمل مظلته في يده غير واثق بتلك الأشعة المغرية لو وجد سحابة صغيرة عند الأفق.
وللفرنسي قدرة عجيبة على الاستفادة من الأشياء مهما صغرت، فيمكنه أن يعيش سعيدا ولو نقص دخله كثيرا عن نظيره الإنكليزي. فالفرنسي مقتصد مدبر يخلق من التراب تبرا. أما الإنكليزي فمن طبعه الإسراف والتبذير. وتقدير كل شيء ضروريا كان أو كماليا تبعا لقيمته ... كذلك ليس له غرام بحب الظهور فمهما حاول أن يتظاهر فمن المؤكد أن غور ظاهره كغور باطنه.
نلحظ كذلك أن الفرنسي يتفوق في الفهم. أما الإنكليزي ففي المزاج والطبع. والفرنسي ذو تصور مرح. أما الإنكليزي فخياله أخصب وأثمر. والفرنسي إحساسه رقيق دقيق ليس أسهل من إثارته، وهو عرضة للتأثر والهياج الشديدين وإن كانا غير ثابتين. أما الإنكليزي فهو أكثر هدوءا وبرودة، ليس من اليسير أن تستثيره وإن كان قادرا على أن يصل إلى درجة عظيمة من الحماسة. وعلى هذا فالخطأ في الطبعين هو أن خفة الفرنسي عرضة لأن تكون زبدا وبذلك تذهب جفاء. ورزانة الإنكليزي عرضة لأن تسكن وتهدأ وبذلك تصبح تبلدا. ولو أمكننا - إذا - أن نرقى بالطبعين وننهض بهما إلى حد الاعتدال فإننا نحفظ الفرنسي من أن ينتفخ وينفجر كالفقاعة ونحفظ الإنكليزي من أن يركض وينتن كماء المستنقع.
كذلك مما لا شك فيه أن التباين في الأخلاق يمتد إلى كل ما يستهوي كلا الشعبين ويجذب انتباهه. فالفرنسي الحقيقي لا يمتزج بدمه أكثر من حبه للشهرة الحربية، فهو يقاتل ويعمل على الانتصار حبا في المجد والعظمة غير مبال بما يدفعه ثمنا لهذا المجد. وإنك لتعجب إذ تجد الفقير المعدم قد تهلل وجهه بالبشر وخفق قلبه بالفرح إذا ما قرأ نبأ رسميا حوى نصرا حربيا. وما اللحم والكأس أحب إلى نفسه وأسد إلى رمقه من انتصار عظيم يحرزه جيش وطنه وانخذال كبير يصيب جيش عدوه. وإن رؤية مليكه الباسل وهو يعود إلى أرض الوطن حاملا غنائم الحرب وأسلابها ليهز نفسه هزا حتى ليرمي بقبعته القديمة الرثة في الهواء ويقفز فوق حذائه الخشبي.
أما «جون بول» فهو على العكس شخص يميل إلى التعقل والتفكير، فإذا ما أخطأ كان خطؤه معقولا وإذا أقدم على حرب فللمصلحة العامة. وهو لا يتأخر عن قتل جاره في سبيل المحافظة على السلم والنظام، كما أنه - لحبه كسب المال - يدافع عن تجارته وصناعته ويحميها بقوته.
لهذا كله نجد أن الأمتين شغلتهما الحروب من أزمان طويلة، وبينما كان غرض إحداهما المجد كان غرض الأخرى الخير. وفي سبيل المجد نجد أن فرنسا تفقد عاصمتها مرتين،
2
وفي سبيل الخير نجد أن إنكلترا تغرق في بحر من الدين. (3) أخلاق الإنكليز
ويقول «الأستاذ محمد عطية الإبراشي في كتابه «نظام التعليم في إنكلترا»:
يجب أن يعنى نظام التربية بالنظر في أخلاق الشعب وتقاليده وفي الصفات السائدة بين الأمة، وألا يكون ضد العادات القومية. كل هذه الأمور قد لوحظت في التعليم بإنكلترا فإن الصفات والأخلاق التي تعرف بها بين الأجناس البشرية معروفة منذ أجيال متأصلة فيها كل التأصيل. يقول «بيتر ساند يفرد»:
الرجل الإنكليزي مولع بالمنافسة يحب من صميم فؤاده الرحلات والسياحات. ولا يستطيع أحد الاستقرار في إنكلترا إلا من كان يميل إلى المنافسة. وإن هذا الميل إلى حب التنافس لا يظهر للناظر العادي؛ لأنه مغطى بطبقة كثيفة من الهدوء العقلي، والرجل الإنكليزي يمقت النظريات والتفكير في النظريات، ويحب أن يقبض على الأمور العملية في الحياة ويحلها وهو سائر في عمله.» ويقول «بيتر ساند يفر» أيضا: «إن الرجل الإنكليزي يرى هادئا وهو في حاجة إلى قوة الخيال، ومن صعب أن تؤثر فيه، فهو كالفحم الحجري الصلب يتقد ببطء، ولكن حينما يتقد يحترق إلى النهاية.
ولدى الرجل الإنكليزي قوة كبيرة على كتمان شعوره، ويمكنه أن يمتلك نفسه، وهو شديد المحافظة على القديم يحب الحرية الشخصية فوق كل شيء. ولقد قاتل في سبيل تلك الحرية أكثر من ألف سنة. ويقول «ساند يفرد» في موضع آخر:
الرجل الإنكليزي هادئ من الجهة العقلية، ولديه حب عميق للحرية. ولقد كانت هاتان الصفتان سببا في اتخاذه سياسة البطء لا في السياسة فحسب بل في التعليم كذلك». وهو منعزل بطبيعته يحب العزلة والوحدة، لا يحادثك إلا إذا تعارف بك. وقد يكون هذا الانعزال ناشئا عن الحياء والخجل. وإن حادثك فلا تخرج محادثته في الغالب عن الجو، والجو لحسن الحظ كثير التغير والتقلب بإنكلترا؛ فمن اعتدال في الطقس إلى ضباب أو مطر أو برودة، أو عاصفة أو رعد وبرق. وإذا زالت الكلفة وذهب الخجل تحادث معك في أي موضوع كالخيالة والتمثيل والألعاب الرياضية والموضوعات الأدبية والاجتماعية. يتجنب الأمور الشخصية فلا يسألك عن مقدار ما يمنحك أبوك في الشهر ولا عن مقدار ما تنفقه أو تدفعه للسكنى أسبوعيا - كما يسأل الفضوليون حيثما يرونك أو يعرفونك أول مرة. ويميل الإنكليزي دائما إلى التحفظ في الجواب فلا يجيب إجابة الجازم المتحقق، ولكنه يجعل للشك دخلا في كل ما يقوله، ويجيب دائما بكلمة «أظن، أو ربما» بعكس الرجل الفرنسوي فإنه يميل كثيرا إلى الجزم والتخمين.
والإنكليز معروفون بحبهم للمحافظة على القديم. وفي إنكلترا تندر العجلة في تنفيذ نظرية من النظريات أو مشروع من المشروعات في التربية والتعليم، فبينما تحاول الولايات المتحدة بأمريكا تجربة طائفة كبيرة من طرق التعليم والنظريات الحديثة - وقد لا توافق على شيء منها بعد التجربة وعدم الاستحسان - تجد إنكلترا في هذه الحال مثلا في دور المناقشة والمناظرة في طريقة واحدة من هذه الطرق؛ لأن إنكلترا تخاف الخسارة وضياع الوقت. أما الولايات المتحدة فلا تبالي بما تفقده في سبيل البحث والتجربة، ولذا تجدها اليوم تقود العالم في العلم والاختراع والصناعة، وقد ساعدها غناها على هذا التقدم والإقدام. فالمحافظة على القديم في إنكلترا لها فوائد؛ ولكن يجب ألا ننسى أن لها أيضا كثيرا من المضار، فإنكلترا تميل إلى الوقوف عند حد ما وهي بطيئة في الإصلاح؛ لأنها لا تستفيد في الحال مما يقدمه لها المفكرون وما يظهره المصلحون من أبنائها، ولا تشجع البحاثين والمخترعين تشجيع الولايات المتحدة لهم، وإن ولع إنكلترا بالمحافظة على ما لديها يظهر جليا في القوانين المختلفة للتربية التي وافق عليها مجلس النواب الإنكليزي، فلا تجد مطلقا حذف قانون من القوانين برمته واستبداله بقانون آخر، بل تجد أن كل قانون هو تعديل للقانون السابق للتوفيق بينه وبين الرأي الجديد الذي يراد إدخاله. ولا يشك أحد في أن قوانينها في التربية ثابتة.
ومع ذلك حدث تغيير في التعليم بإنكلترا فمنذ سنة 1900 ترى المحافظة على القديم أقل منها في الزمن السابق وفي الحق أن التغيرات الحديثة بإنكلترا كثيرة وظاهرة لمن عرفها من قبل ورآها اليوم. ولا يشعر من الإنكليز بالفائدة الكبيرة من هذا التغيير إلا قليل منهم، وكل ما تعرفه الأكثرية هو أن هناك شيئا يجري في عالم التربية، وأن الأمور تتغير بسرعة، وهم يشعرون بالحيرة في الابتداء وهم سكوت لا يتكلمون. ولا ننكر أن النزاع بين المحافظين والمجددين دائم لا ينقطع ولو أنه نزاع صامت.
ويظهر الميل الفطري لحرية الفكر واستقلال الرأي في أحوال كثيرة في التعليم بإنكلترا، وإن قوانين التربية مفتوحة للتغيير البطيء، فحينما تظهر التجارب صواب الفكرة الجديدة ويرى معظم الناس فائدتها، يتغلب الإنكليز على كراهتهم لها. فالحرية الشخصية تخضع دائما للمجتمع حبا في المصلحة العامة، فمثلا كان الذهاب إلى المدرسة اختياريا يذهب إليها من يشاء من التلاميذ. لكن لما تبين أن من المحال تعميم التعليم إذا ظل اختياريا غير هذا النظام وجعل إجباريا، وكان التفتيش الطبي على المدارس والتلاميذ اختياريا ثم غير وجعل إلزاميا. وكان إعداد المدرسين اختياريا أيضا ثم ظهر أن المدرس لا يستطيع أن يقوم بمهنته كما ينبغي إلا إذا نال قسطا من التربية وعرف طرق تدريس المواد؛ فجعل إعداد المدرسين إجباريا وعده من الواجبات لرقي التعليم. وهناك عشرات الأمثلة لأمور كانت اختيارية بإنكلترا وأصبحت إجبارية يطالب بها القانون.
وإن إنكلترا - وإن كانت أمة عملية لا تدين بالنظريات - لا تمتنع من أن تعمل بما يمكن تنفيذه منها. ولا ينكر أحد أن النظرية التي لا يمكن تنفيذها لا فائدة منها ولا خير في العلم إذا لم يصحبه العمل؛ لذا كانت طريقة التعليم في إنكلترا طريقة عملية تتفق هي والأمور العملية التي تحتاج إليها وتتفق مع حاجات الشعب وحياته. ولا يمكن أن نفهم هذه الطريقة منفردة عن التاريخ القومي والحالة الشعبية. والمهم لدى الإنكليز الوصول إلى العمل بأي طريقة كانت من غير عناء كبير وبحث طويل في النظريات. وتاريخ التعليم الإنكليزي مملوء بالأمثلة الدالة على حب العمل وعدم الاكتراث للنظريات. فمدارس إنكلترا إذن مدارس عملية ذات قوة كبيرة وتأثير عظيم في تهذيب الأخلاق وتقويمها وإعداد رجال مخلصين عمليين يثقون بأنفسهم ويشعرون بما وجب عليهم لغيرهم، ولا يفرون من تحمل مسؤولية أي عمل يقومون به، وهي مدارس تربي في كل طفل الثقة بالنفس، فيقول لك دائما: «سأحاول» إذا سألته هل يستطيع أن يقوم بعمل من الأعمال. (4) زيادة أعمار المعلمين الإنكليز بسبب سلوك الطلبة
قالت جريدة إنكليزية تحت هذا العنوان «تقول لك كل أم في إنكلترا»: إن الأولاد في هذا الزمان يفوقون الأولاد في كل جيل سابق في أربعة أشياء: (1)
أنهم أصح أجساما. (2)
أنهم أعظم سرورا بالحياة. (3)
أنهم أجمل طلعة. (4)
أنهم أشد ذكاء بكثير وأحسن سلوكا.
وكانت نتيجة حسن سلوكهم أن متوسط أعمار المعلمين الآن زاد خمس سنوات على ما كان منذ 20 سنة.
فقد ظهر من آخر إحصاء أن 300 مدرس يبلغون الآن كل سنة سن 75، و500 مدرس سن 70، وألف مدرس يبلغون سن 60، وهي السن التي يعين فيها معاش لهم.
وقال رجل من وزارة المعارف «الإنكليزية»: إن الجهد العصبي الذي يستهدف له المعلمون الآن أقل مما كان قبل الحرب.
وإن طرق التعليم أصلح مما كانت والطلبة أكثر قبولا للتعليم مما كانوا.
وقد تحسنت المعرفة العمومية كثيرا على يد الصحف والراديو والسينما، وهذه المعرفة العمومية هي من العوامل المهمة في التربية.
وأهم من هذا كله أن المعلمين لا يرهقون الآن بما كان المعلمون يرهقون به منذ 30 سنة بإكراههم على حفظ النظام؛ لأن المدارس تعلم الطلبة الآن تنظيم أنفسهم وتشجعهم عليه مع زيادة إطلاق الحرية لهم، وهذا ينقذ المعلمين من ضرورة إبقاء أنفسهم على مقياس عال من الإشراف والجهد العصبي للمحافظة على النظام في المدارس.» (5) الإمبراطورية الإنكليزية ومميزاتها
ويقول الدكتور محمد عوض في بحث له عن «الإمبراطورية البريطانية»:
إن الإمبراطورية البريطانية تشتمل على نحو 12 مليونا من الأميال المربعة حسب تقدير المراجع البريطانية، التي تدخل في هذه المساحة السودان. وسكان هذه الإمبراطورية يبلغون اليوم زهاء 450 مليونا، «أي نحو خمس سكان الأرض في نحو خمس مساحة اليابس من سطحها.
وهذه الإمبراطورية مترامية الأطراف، ومنها أراض في جميع القارات والبحار. وعلى كثير من خطوط العرض. فمتى دارت الكرة الأرضية دورتها فلا بد أن يكون جزء من تلك الكرة مغمورا بأشعة الشمس، كما أن جزءا منها دائما في ظلام الليل البهيم. ولهذا قيل عنها: إنها لا تغرب عنها الشمس. ويمكن أن يقال هذا أيضا في ممتلكات روسيا وفرنسا وهولنده والولايات المتحدة. ولكن بدرجة أقل.
ويقع أكثر من نصف الإمبراطورية في نصف الكرة الشمالي، وأقل من النصف قليلا في نصفها الجنوبي. والمعنى الجغرافي لهذا أن أحد شقي الإمبراطورية صيف دائما أو شتاء. بحيث تتمثل فيها جميع الفصول في آن واحد تقريبا.
بقي أن يدرك القارئ حقيقة هامة وهي أن سكان الإمبراطورية موزعون على الصورة الآتية:
الهند:
320 مليون نسمة.
الجزائر البريطانية:
45 مليون نسمة.
الدمنيون «الأراضي المستقلة »:
25 مليون نسمة.
باقي الإمبراطورية:
من 50 إلى 60 مليون نسمة.
وهكذا يرى القارئ المركز الهائل الذي تحتله الهند في هذه المجموعة الفريدة، فإنه ليس بعد الهند والجزر البريطانية نفسها والأراضي المستقلة التي ليس لإنكلترا سلطان عليها، ليس لها بعد ذلك سوى أراض يسكنها خمسون أو ستون مليونا من الأنفس، أي ما لا يزيد عما تملكه دولة صغيرة مثل هولندة، التي تحكم شعوبا في جزر الهند الشرقية وحدها يزيد عددها على الخمسين مليونا. فالهند إذن هي ما تمتاز به بريطانيا. والهند هي الإمبراطورية الحقيقية.
والباقي إلى جانبها لا يكاد يذكر. وهذه الحقيقة الهامة - أي المركز الفائق الذي للهند في الإمبراطورية البريطانية - من الحقائق التي لم نستطع أن نعثر عليها في كتاب «الإنكليز في بلادهم»، حيث أجمل الكلام عن الهند إجمالا، وأفاض المؤلف في حديثه عن الأراضي المستقلة. ولا ندري لماذا اختصر الحديث عن الهند، وعلى كل حال ليس حديث الهند بالحديث الذي ترتاح له الآذان. •••
وبعد - فحرصا على الوضوح - يجب أن نذكر هنا أن الإمبراطورية البريطانية تتألف من أراض مستقلة استقلالا أصبح اليوم تاما، وهي التي يطلق عليها اسم دومنيون، وأهمها كندا وأستراليا وزيلندة الجديدة وأفريقية الجنوبية ودولة أيرلندة الحرة، وهذه قد فصل الحديث عنها صاحب كتاب «الإنكليز في بلادهم» بأسلوب سهل واضح، وأرانا كيف حصلت هذه الأراضي على استقلالها بالتدريج حتى أصبحت في يومنا هذا ومركزها في الإمبراطورية معادل تماما لمركز إنكلترا نفسها، وإذا كان هذا الاستقلال مصدر قوة للإمبراطورية في نظر المؤلف فمن الجائز على كل حال أن يرى القارئ في هذا رأيا آخر. والمؤلف يضرب لنا مثلا بما حدث عام 1922 يوم كان هنالك احتمال قيام إنكلترا بحرب ضد تركيا فاستغاث لويد جورج بالدومنيون فلبت نداءه أستراليا وزيلندة الجديدة، ولم تلب نداءه كندا أو جنوب أفريقية. •••
والجزء الثاني الذي تتألف منه الإمبراطورية هي مستعمرات التاج وأراض تحت الحماية كما هي الحال في أوغندة وفي المستعمرات الأفريقية المختلفة. وهي كلها تحت حكم وزارة المستعمرات.
والجزء الثالث هو الهند أهم أجزاء الإمبراطورية جميعا . ويحكمه نائب عن الملك في الهند نفسها، تحت إشراف وزارة الهند الموجودة في لندن. ووزيرها من أهم وزراء الدولة.
والجزء الرابع من الإمبراطورية هو بالطبع الجزر البريطانية نفسها. •••
وأكبر ما تمتاز به الإمبراطورية البريطانية هو أنها مترامية الأطراف متباعدة الأجزاء؛ ولهذا كان لا بد من خلق رابطة تربطها، وتصل بين أجزائها. وهذه الرابطة التي بقوتها بقوتها تقوى الإمبراطورية وبضعفها تضعف، هي قوة الأسطول؛ لأنه إذا استحال الاتصال البري - كما هو الحال في إمبراطورية الروسيا - فمن الواجب الحرص على الاتصال البحري، والتفوق فيه أمر حيوي جدا للإمبراطورية البريطانية. وهذا التفوق أمر حساس جدا في الدفاع البريطاني، وكانت الدولة البريطانية تحرص أشد الحرص قبل الحرب علي أن يكون الأسطول الإنكليزي متفوقا في القوة على أي أسطولين لأي دولتين. وهذه هي السنة التي استنتها إنكلترا قبل الحرب، وحرصت جهدها على أن تحافظ عليها، وسلمت لها الدول بها. ولم تحاول أن تجابهها في ذلك سوى ألمانيا، ومن أجل هذا لم يكن مفر لإنكلترا من دخول الحرب ضدها لهذا السبب؛ لا لأي سبب آخر.
وهذا المبدأ الذي استنته إنكلترا مبدأ تفوق الأسطول الإنكليزي سنة معقولة، بل هو مبدأ لا بد منه لسلامة تلك الدولة المترامية الأطراف. خصوصا إذا ذكرنا أنه ليس للهند ولا لكندا أو أستراليا أو أفريقية الجنوبية أسطول يستحق الذكر. فالمعقول أن يكون لدى إنكلترا أسطول فائق لجميع الأساطيل، خشية أن تتألب عليها أساطيل دولتين أو أكثر فتمزق الإمبراطورية شر ممزق.
ولقد كان من أهم حوادث التاريخ الحديث أن تخلت إنكلترا، أو أكرهت على التخلي عن مبدأ التفوق، وقبلت - أو أرغمت على قبول - المساواة بالولايات المتحدة. حيث تكون نسبة السفن القوية بين بريطانيا وأمريكا واليابان وإيطاليا وفرنسا هي على التوالي بنسبة 5 : 5 : 3 : 2,5 : 2,5. (6) سياسة الإنكليز في البلاد الخاضعة لنفوذهم
للاستعمار الإنكليزي طابع خاص يجعله مختلفا عن استعمار الممالك الأخرى: فلا يبدأ الإنكليز بتعبئة الجيوش وإرسال الأساطيل لاحتلال البلاد التي يريدون استعمارها. بل يبدأون بإرسال الرحالة المغامرين والعلماء الكاشفين والمستشرقين وكتابتهم التقارير عن أحوال البلاد ولغاتها وحكوماتها الوطنية وأخلاق أبنائها وعاداتهم ونقط الضعف عندهم، ثم تنشأ مراكز تجارية وشركات تجارية وقنصليات، وتعقد معاهدات تجارية، تتطور إلى معاهدات سياسية، وتبث إنكلترا بعض رجالها كموظفين فنيين ومستشارين في الحكومات الوطنية.
ويعتمد الإنكليز على الفرص وعلى الزمن، ومن الفرص النزاع بين العصبيات والأديان والمذاهب، والثورات بين الأمراء، فيستطيع الإنكليزي ولو كان تاجرا واحدا - بخلقه المتين وبما يشعر به من روح السيادة - أن ينال ثقة الحكومات الوطنية المتنازعة في وقت واحد، وأن يكون الحكم الذي يطاع حكمه من غير إراقة نقطة دم. وقد استطاع الكولونيل لورنس أن يظفر بثقة الشريف «الملك حسين» ملك الحجاز سابقا وأولاده وأن يلقبه الكتاب بملك العرب غير المتوج، واستطاع مستر «عبد الله» فلبي أن يظفر بثقة الملك ابن السعود إلى اليوم. •••
ومن أغراض الاستعمار، ما هو اقتصادي وما هو إمبراطوري وما هو أدبي. أما الاقتصادي فهو السيطرة على ينابيع المواد الخام. وأما الإمبراطوري فهو ما كان لحفظ مواصلات الإمبراطورية، وبإنشاء ثغور ونقط عسكرية برية أو بحرية، مثل السيطرة على البحر الأحمر وتفوق النفوذ البريطاني في بلاد العرب، بالحمايات والاتفاقات، فليس لإنكلترا منافع اقتصادية جوهرية في تلك المناطق.
أما الاستعمار الذي يكون الغرض منه أدبيا فهو منافسة البلاد الأخرى وتعزيز مقام الإمبراطورية وإبرازها قوية. وهناك استعمار مصطبغ بصبغة الإنسانية، وهي دعوى إنقاذ الأمم الضعيفة من الجهل والظلم والفوضى والرق!
ويماشي الاستعمار الإنكليزي التطورات ويحسب حسابها، أو يحاول أن يحسب حسابها، فلقد أصبحت أستراليا ونيوزيلندة وكندا واتحاد جنوبي أفريقية، متمتعة بالحكم الذاتي وباستقلال داخلي تام، أو كما يصفها بعض رجال القانون الدولي أنها أصبحت ممالك مستقلة متحالفة في اتحاد بريطاني. محتفظة بالتاج البريطاني، حتى دعيت إنكلترا بأنها «الأم».
لو أن إنكلترا أرادت احتلال طرابلس الغرب، فإنني لا أعتقد أنها كانت تفعل ما فعلت إيطاليا من حشد الجيوش والأساطيل، وإضاعة ملايين الجنيهات، وإفناء ألوف الإيطاليين، واحتمال تبعة الفظائع، مع أن طرابلس - في الأغلب - صحراء جرداء كانت إنكلترا تبدأ بالاعتراف بالحكم الوطني ومماشاته والتأثير فيه تدريجيا.
ويزن الإنكليز التكاليف التي يحتملونها من أجل الاحتلال، فهم يريدون الاستعمار من أيسر السبل وبأقل التكاليف. وإذا اضطروا للحرب، ففي الغالب حيث لا يكون هناك مناص منها لتعزيز النفوذ، وحيث لا يرون الشعوب تذعن لغير القوة أو مظهرها، وحيث تكون الحرب مأمونة العاقبة، أي إن النصر هو المصير الأرجح لها، كما حدث في جنوب أفريقيا وفي احتلال مصر والاشتراك في استعادة السودان.
وبعد أن تنتهي الحرب، يعمل الإنكليز على إزالة سوء التفاهم وتوطيد الحكم، بالعفو عن زعماء الثائرين شيئا فشيئا وبحسب الظروف، وبإكرامهم والاستعانة بنفوذهم لتوطيد الحكم. فبعد إعادة السودان، جنحت الحكومة السودانية إلى تعيين مرتبات لأبناء المهدي وخلفائه وزعماء المهدية، وتعليم الكثير منهم مجانا وتعيينهم في الوظائف.
أي إنه بعد الانتصار في الحرب، يعرف الإنكليز أن هناك مهمة أخرى هي توطيد الحكم الإنكليزي، بإزالة آثار الحرب من النفوس ومصافاة الثائرين، إلا إذا أصروا على العداء، فعندئذ «يؤدبون» بالقوة، حتى يذعنوا أو يموتوا.
ولا يتدخل الإنكليز بالقوة في العقائد الدينية والعادات وفرض لغتهم، فإذا انتشرت لغتهم فإنما ذلك يجيء من طريق المكاتبات الرسمية وبتفضيل العارفين للإنكليزية في الوظائف، وبتعيين المعلمين الإنكليز في المدارس، وهكذا تنتشر الإنكليزية تدريجيا.
ويستعين الإنكليز في الحكم بالفئات الأهلية الموالية لهم، وهم يكثرون منها، ويداولون بينها، ويثيرون الخلاف بينها، أو يستغلون ما بينها من خلاف، وتقدم الحكومة البريطانية الهدايا والأوسمة للزعماء وكبار القوم، وأحيانا تعين مرتبات، كما هو حاصل في الهند والسودان والإمارات العربية المحمية.
وتعيين الطرق، وتسهيل المواصلات بأنواعها، والاهتمام بالسواحل والمعاقل، والسيطرة على الجيش والسلاح، ومنع تسليح الأهالي، هو أول ما يعني به الإنكليز في المحافظة على المستعمرات والبلاد الخاضعة لنوع من النفوذ البريطاني.
هوامش
الفصل الثالث
استعادة السودان بعد إخلائه
لم يكن ممكنا أن يظل السودان على حالته بعد قيام الثورة المهدية، ولذا تضافرت العوامل المختلفة على وجوب إعادة السودان، من ذلك عوامل خارجية وهو منافسة فرنسا وإيطاليا لإنكلترا في استعمار أفريقيا، وداخلية تذمر السودانيين أنفسهم بعد نجاح الثورة المهدية والخلاف من أنصارها، وإعادة تنظيم الجيش المصري ، وكون قيادته للضباط الإنكليز، وتفوق سلطة اللورد كرومر والمستشارين الإنكليز في الحكومة المصرية، وتثبيت أقدام الاحتلال الإنكليزي تدريجيا في مصر.
قال السير إيلياس أشميد بارتلت بصدد الإشاعة التي أذيعت عن اعتزام فرنسا إرسال بعثة إلى أعالي النيل ما يأتي: «من الضروري القيام بعمل سريع، وبغير ذلك لا نضمن البتة أن لا يستبقنا الفرنسيون ويحتلوا قبلنا جهات أعالي النيل.».
وصرح اللورد سالسبوزي في مجلس النواب في 8 فبراير سنة 1895 بما يأتي:
إن مصلحة مصر تقضي بأن لا يدنس تخومها حادث من حوادث التعسف المجردة من كل نزاهة. بل هناك دواع أخرى تستلزم الزحف على الخرطوم. وهذه الدواعي الأخرى لا داعي لذكرها، وهي تستدعي إيجاد قوة في وادي النيل. وهذه الدواعي التي لا داعي لذكرها إن هي إلا استباق الفرنسيين في احتلال أعالي النيل وطردهم منه إذا وضعوا أقدامهم على أراضيه.
وكانت نتيجة الاتفاقية الإنكليزية الإيطالية مواجهة الإيطاليين بمنليك ملك الحبشة؛ لأن منليك كان قد أرسل منشورا للدول مؤرخا في إبريل سنة 1891 أخبرهم فيه عن عزمه على فتح السودان.
وفيما يلى وقائع إعادة السودان: (1) استعادة طوكر
رأى هولد سميث باشا محافظ سواكن استعادة طوكر، فأذن السردار له وعاونه بقوة وصلت بحرا إلى سواكن، وأعادت طوكر في 19 فبراير سنة 1891، وهزمت عثمان دقنة. (2) زيارة الخديوي الحدود
زار الخديوي عباس حلمي باشا الحدود سنة 1894. وقد وقع في أثناء زيارته حادث نذكره فيما بعد. (3) استرداد السودان
في 12 مارس 1896، أي بعد 12 يوما من كارثة الطليان في عدوه بهزيمتهم المخجلة أمام الحبشة ورد للسير كتشنر سردار الجيش المصري في منتصف الليل أمر بتسيير حملة لإعادة فتح السودان. ووصل خبر قرار الوزارة الإنكليزية إلى رئيس وزراء مصر بعد ظهر يوم 13 وللخديوي مساء ذلك اليوم.
ومن ذلك الوقت لم تكف مصر عن أن تقدم للسودان السلفيات التي كانت تلزم لرواج منتوجاته ومحاصيله ولمد شبكة من السكك الحديدية يبلغ طولها 2400 كيلومتر، وإنشاء عدد كبير من الطرق والمواصلات النيلية. ولعمل مجموعة متقنة للري في بعض الجهات. ولقد مر على الجيش المصري خمسة وعشرون عاما طوالا وهو بأسره تقريبا في السودان يشتغل في تهدئته وتوطيد دعائم الأمن في ربوعه وإنشاء الأشغال العمومية كافة. (4) استعادة دنقلة
خرج النجومي من دنقلة سنة 1889 وعليها يونس الدكيم عاملا ومساعد قيدوم وكيلا، وقد اختلفا فدعا التعايشي يونس الدكيم إلى أم درمان وعين زقل مكانه فاختلف مع مساعد قيدوم ووشى به لدى التعايشي الذي سجنه، وعند صلح التعايشي مع الأشراف أفرج عنه ونفي إلى خط الاستواء.
وافقت الحكومة المصرية في 12 مارس سنة 1896 على توجيه حملة بقيادة هنتر باشا قومندان الحدود لاستعادة دنقلة.
كانت الحملة المصرية على دنقلة مؤلفة من آلاي من السواري به 1253 جنديا، وآلاي من الطوبجية به 953 جنديا و18 مدفعا، وآلاي من الهجانة المصرية والسودانية عدده 618 رجلا و13 أورطة بيادة أي 8 أورط مصرية، هي التي ألفت بعد إلغاء الجيش المصري القديم سنة 1883 وخمس أورط سودانية، وكان المجموع 16680 جنديا نظاميا وغير نظامي بينهم 700 ضابط.
وصدر الأمر بإنشاء الأورطة السودانية الرابعة عشرة، وأنشئت أورطتان من الاحتياطي: الخامسة عشرة في أسوان وكروسكو والسادسة عشرة إلى سواكن. وكان مع الجيش نفر من العبابدة والكبابيش والعليقات، وأضيف إلى ذلك أورطة إنكليزية من آلاي نورث ستفورد شير، بها 870 جنديا معهم مهندسون وطوبجية وبحارة. وإلى سواكن آلاي هندي. وتطوع في الحملة ضباط من الإنكليز، كاللورد سسل بن اللورد سلسبوري واللورد أثلمي والكونت كليخن من الأسرة المالكة، والماجور ستيورت ورتلي من رجال الحملة النيلية، والماجور كتشنر شقيق كتشنر باشا. وكان مع الحملة 3048 رأسا، من الخيل والبغال والحمير والإبل، و15 باخرة نيلية.
اجتمع الجيش في عكاشة. وتقدم فاستولي على فركة في 7 يونية سنة 1896، وهزم المهديين الذين كانوا بقيادة حسن أزرق وحسن النجومي. وقد انتشرت الكوليرا في مصر ووصلت إلى الجيش، كما نزلت به الحمى التيفودية، وتوفي بها أكثر من ألف، واشتد الحر والأعاصير والغبار.
وقد مدت السكة الحديد إلى كوشة. ووصلت البواخر إلى تماي والمتمة وأبو طليح والتيب وهي مدرعة، وثلاثة غير مدرعة وهي: عكاشة ودال وحيبر.
وتقدم الجيش إلى أبي فاطمة جنوبي شلال حنك، وحدثت واقعة الحفير في 19 سبتمبر سنة 1896، فأخلى الثوار الحفير إلى الديم ورحب الأهالي بالجيش والنساء بالزغاريد. (5) تعيين كتشنر سردارا للجيش
عين كتشنر باشا سردارا للجيش المصري في 12 إبريل سنة 1892 عند استعفاء جرانفيل باشا. (6) منشور كتشنر إلى أهل السودان
وجه كتشنر باشا المنشور التالي إلى أهل السودان:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين. أما بعد فغير خاف على الحكومة أن الذي حملكم على شق عصا طاعتها إنما هو تصديقكم دعوى محمد أحمد المتمهدي، وقد اتضح لكم الآن أن تلك الدعوى لم تكن من المهدية بشيء، بل هي ثورة دموية أفضت إلى ملك جائر يتولاه الآن عبد الله التعايشي الذي عزل كل أمير من غير أهله وولى أهله فاستبدوا بكم. ولما رأت الحكومة سوء مصيركم أرسلت الآن جنودها الجرارة لانتشالكم من وهدة الضلال التي أوقعكم فيها ذلك المتمهدي وإنقاذكم من الظلم الذي تقاسونه في عهد خليفته التعايشي.
اللورد كتشنر الذي توفي سنة 1916 في خلال الحرب.
وقد كان من مبتدعات المتمهدي وخليفته هذا منع الحج الشريف، مع أنه فرض واجب على كل من استطاع إليه سبيلا. ثم إن كلا منهما فسر القرآن على رأيه وهواه، واستنبط أحكاما شرعية كما أراد، ومنعكم قراءة كتب الحديث والتفسير، فضلا عما يأتيه التعايشي الآن من جمع المال، وتفريق كلمة الإسلام، وهتك الأعراض، وظلم الفقراء، وهدم بيوت الكبراء، وبعد أن كان رجلا مسكينا لا يملك شروى نقير استأثر بأموال الرعية كلها، وسكن القصور المشيدة، واتخذ نساء المؤمنين سراري له، واستحل وطأهن بلا عقد ولا ملك يمين، وهو مع ذلك يدعي الزهد والمسكنة، ويتنعم سرا بكل ما تطيب له نفسه وتقر عينه. وهو ظالم غشوم ما تكلم أحد بالحق إلا قتله أو سجنه أو نفاه. وقد سجن الخليفة شريفا وأهان الخليفة ود حلو وأولاد المهدى، وقتل إبراهيم عدلان وأقارب المهدي مثل عبد القادر ود ساتي علي ومحمد عبد الكريم وإخوانهم، وسجن الزاكي طمل والقاضي أحمد والحسين ود الزهرة، وأماتهم جوعا، وخرب مساجد المسلمين كمساجد الحسن المرغني وأولاد نور الدايم والشيخ العبيد والشيخ حمد النبيل العركي. ونفى أمراء الجعليين مثل بدوي ود العريق وغيره. وبذلك أسخط جميع العالم الإسلامي، وأصبحت مكة المشرفة وكرسي الخلافة العظمى تنظر إلى عمله بعين المقت والكراهة. ولما رأى ولي النعم خديوينا المعظم «عباس حلمي الثاني» أن جرائم هذا الطاغية تزداد يوما فيوما، أخذته الشفقة على المسلمين المظلومين، وصمم على إنقاذهم من الظلم، فأرسل جيوشه المظفرة لكي تهدم أركان دولة التعايشي وتقيم حكومة شرعية مؤسسة على العدل والاستقامة، وتبني المساجد، وتعين على نشر الدين القويم. وقد أصدر سموه عفوه التام عن جميع ذنوبكم، وأمر برد أملاككم. وهو يدعوكم إلى استقبال جيوشه بالترحيب، فإذا قبلتم الدعوة وعرفتم قيمة الإنعام كنتم أنتم الرابحين الناجحين، وإلا فالويل لمن رفض نعمة ربه وكرم خديوينا المعظم. وباسمه لي الرجاء الوطيد أن أراكم قريبا طائعين ومعضدين للحكومة الخديوية والسلام - يونية سنة 1896.
الإمضاء: كتشنر قائد جيش حملة السودان وسردار الجيش المصري (7) عود إلى دنقلة
وقد تقدم الجيش في 23 سبتمبر سنة 1896، واحتل دنقلة، وتقهقر المهديون بقيادة ود بشارة وسلم الأمير حسن النجومي، وفي 24 سبتمبر سنة 1896 تم احتلال الدبة، وفي 26 سبتمبر احتل مروى.
ونظم السردار المديرية، وتلقى تهنئة الخديوي والنيشان العثماني العالي من الطبقة الأولى. وانحلت حملة دنقلة في 15 أكتوبر سنة 1896، وعادت الأورطة الإنكليزية إلى مصر، وكان في الحملة إبراهيم فتحي بك «باشا» قومندان الأورطة السابعة والملازم حسن بدر «باشا»، ومدت السكة الحديد إلى الكرمة. (8) استعادة بربر
تمرد عبد الله ود سعد أمير الجعليين على التعايشي، فأرسل إليه الأمير محمود فقتل ود سعد ورجاله، وأسر الجعليون والشايقية وسيقوا إلى أم درمان. (9) أهمية عطبرة وحالتها اليوم
تقع مدينة عطبرة الحالية على الشاطئ الأيمن للنيل بعد ملتقاه بنهير عطبرة بقليل، وتشبه في موقعها الخرطوم بحري «الحلفاية». وعلى بعد 70 ميلا تقريبا على نهير عطبرة عند قرية النخيلة حصلت موقعة أتبرة
1
بين الجيش المصري بقيادة كتشنر باشا وأتباع التعايشي بقيادة الجنرال محمود، واشترك فيها عثمان دقنه وقتل فيها ضابطان إنكليزيان، ولا تزال مقبرتهما إلى الآن. وتوجد شمالي عطبرة بأربعين كيلومترا مدينة «بربر»، وكانت لها عظمة وتاريخ تدل عليهما آثارها الحالية. أما «الدامر» فإلى الجنوب بثمانية عشر كيلو مترا، وهي عاصمة المديرية الشمالية التي أصبحت تتألف من مديريات بربر ودنقلة وحلفا بعد انضمامها معا أخيرا.
وعطبرة قسمان رئيسيان منعزلان يفصلهما الخط الحديدي الطوالي؛ أحدهما «السوق» ويشمل منازل البلد والمحال التجارية والضبطية «المركز»، وعدد سكانه خمسة عشر ألف نسمة تقريبا جلهم من الوطنيين، ومعهم قليل من المصريين والسوريين، وتبنى المساكن كباقي مدن السودان من الطين، وتتألف من طابق واحد، وبها مصنعان لصنع «الزراير» من الدوم يملك أحدهما مصري، والآخر يوناني، وقد رأتهما البعثة في أثناء وجودها بعطبرة. أما القسم الثاني فهو أرض السكة الحديدية، وبه عموم إدارات المصلحة، ومنها الورش، وهي تضم نحو ألف صانع منهم ستون مصريا. وهي تشبه «العنابر» بالسبتية وأقسام مختلفة للحدادة والنجارة والبرادة وغيرها، وأهمها ورشة العربات التي تبنى بها الصالونات والعربات الجديدة على أحدث طراز من خشب «الستيك».
وعطبرة من أمهات المدن في السودان؛ لأنها مركز السكك الحديدية بأسرها، وهي ملتقى خطي الخرطوم. حلفا. الخرطوم. بورت سودان. وتخترق الطرق الحديدية شوارع المنطقة وتجتازها القطارات لتسهيل النقل بين مختلف أنحائها، ومنها قطار يتألف من ثلاث مركبات ينقل الموظفين من المكاتب إلى منازلهم مرتين يوميا إحداهما صباحا لتناول الإفطار والثانية بعد الانصراف. والعمل يبدأ في المكاتب والورش الساعة السادسة والنصف صباحا شتاء والساعة السادسة والربع صيفا. وتوجد بها «ثكنات» الجيش المصري التي كانت تعسكر بها أورطة السكة الحديدية. وكان عددها يتراوح بين ألف وثلاثة آلاف، وقد احتلها الآن بلك إنكليزي وعدد جنوده 142. (9-1) المصريون بعطبرة
تلي عطبرة الخرطوم مباشرة من حيث عدد المصريين بها، وغالبهم موظفون بمصلحة السكك الحديدية، ويبلغ عددهم 150، وكانوا قبل حوادث الاستغناء عنهم سنة 1931 بسبب الضائقة المالية، حوالى المائتين، ويشتغل بعض المصريين بالتجارة وقد نجح فيها، ويقيم غالب الموظفين في منازل صحية بنتها لهم المصلحة. أما البريطانيون فلهم حي راق قائم بذاته. (9-2) النادي المصري
ومما يضم الشمل ويزيل السأم وجود أندية مختلفة. ولكبار الإنكليز «درجة ثالثة فما فوق» ناد ولصغارهم ناد آخر، كما أن للسودانيين ناديا.
والنادي المصري أنيق يقع على ضفة النيل يتمتع بحديقة غناء كانت ميدان الأنس والانشراح. وهو أحد مخلفات ضباط الأورطة المصرية. وأثاثه ورياشه ثمينان. وبه أقيمت حفلة تكريم للبعثة المصرية. وعدد أعضائه المؤسسين ستون والفخريين خمسون. والمؤسسون الآن هم موظفو المصلحة الذين تزيد رواتبهم الشهرية على عشرة جنيهات. ويتصل بالنادي ملعب للتنس وآخر لكرة السلة. وتخرج الفرقة التمثيلية من آن لآخر روايات كبيرة مساعدة للمنشآت الخيرية المحلية كالمساجد والكنائس والمدرسة. وتجمع هذه الحفلات بين التسلية والمنفعة. والرئيس الحالي للنادي هو حضرة يني بطرس أفندي باشكاتب القسم التجاري ورئيس جمعية التمثيل محمد درويش أفندي رئيس قلم المستخدمين، ومن الأعضاء البارزين عجايبي جرجس أفندي باشكاتب الهندسة ونائب رئيس النادي المصري، ومحمد أبو شادي أفندي رئيس الحسابات، وغيرهم. (10) مدرسة الأقباط المصرية
عقب حوادث سنة 1924 التي تلاها نزول الجيش من السودان، كان لا بد للمصريين في عطبرة لتعليم أبنائهم من أحد أمرين: إما إرسالهم إلى مصر أو إنشاء مدرسة تقيهم شر تشتت فلذات الأكباد، فآثروا الثانية، واستأجروا لذلك دار مدرسة الأمريكان، ثم استصدروا إذنا ببناء دار خاصة على نمط صحي ملائم. وتآزر الموظفون جميعا في نفقاتها التي بلغت ألف جنيه بنسبة معينة من رواتبهم، وافتتحت رسميا سنة 1926، ولا زالت تؤدي خدمتها للآن. وقد وفق الله القائمين بأمرها فكان النجاح حليفها كأختها بالخرطوم؛ إذ نجح 15 من 16 تلميذا في امتحان الشهادة الابتدائية سنة 1933 بنسبة 95 في المائة. وكادت تعصف بها حوادث الاستغناء عن الموظفين سنة 1931؛ مما أدى إلى نقصان عدد تلاميذها إلى المائتين مع زيادة نسبة الإعفاء من المصروفات إلى 25 في المائة. والأمل معقود على وزارة المعارف بمصر للأخذ بناصرها بل السير بها إلى الأمام.
ويتعلم أبناء الوطنيين في «كتاب» وفي مدرسة ابتدائية أميرية، وهي نصف مدرسة فقط. أعني أن بها الفرقتين الأولى والثالثة أو الثانية والرابعة، وتكمل نصفها الثاني في مدينة بربر بالتبادل.
وعدا مدارس البنين توجد مدرستان للبنات إحداهما تابعة للإرسالية الكاثوليكية وتديرها راهبات الطالبات ، وهذه مقصورة على بنات غير السودانيين، والأخرى مدرسة الإرسالية الإنكليزية، وهي تقبل جميع الجنسيات عدا البريطانية. (11) بين قاضي قضاة تونس والتعايشي
حوالي سنة 1892 توجه المرحوم الشيخ محمد المنور - قاضي قضاة تونس - إلى أم درمان ومعه أسرته من جهة الغرب، وقابل الخليفة عبد الله التعايشي إذ كان في إبان سطوته، ونصحه بأن يعدل عن ادعاء أنه خليفة المهدي المنتظر، وفند الادعاء القائل بأن محمد أحمد المهدي هو ذلك المهدي المنتظر الذي جاء ذكره في الأحاديث النبوية قائلا بأن المهدي المنتظر لم يظهر بعد، وبأنه من المخالفة للدين انتحال المهدي صفة المهدية وانتحال خليفته أنه خليفة المهدي.
فغضب الخليفة التعايشي من هذه النصيحة الدينية التي حضر الشيخ المنور من تلقاء نفسه وطوعا لضميره ليزجيها إلى الخليفة التعايشي، وأمر باعتقاله وحبسه ومن معه. وقد حاول الشيخ المنور
2
التخلص من السجن، فعرض على الخليفة أن يصنع له ألغاما لنسف البواخر، وأجرى تجربة أمامه ونجحت. ثم أرسله الخليفة إلى سنار للقيام بتجربة أخرى، وكان مكبلا بالحديد في سفره بالمركب. فاستاء، وغضب من هذا التكبيل، وألقى على الباخرة لغما نسفها ومات معه الحراس المهديون عليه. (12) استعادة الواحات الخارجة
3
في سنة 1893 عندما كان السودان في نفوذ المهدي هاجمت فصيلة من الدراويش واحة الخارجة ونحن نورد لك فيما يلي ملخص ما ورد عن هذا الحادث في كتاب مذكرات عن واحات مصر والصحراء الغربية لصاحب السعادة اللواء أحمد شفيق باشا ص41 و42:
سارت فصيلة من الدراويش من دنقلة قاصدة واحة سليمة، فلما وصلت إليها وجدت آثار قافلة من البدو المصريين كانت قد ذهبت إلى بئر النطرون كالمعتاد لجلب الملح والنطرون. فقسم الدراويش أنفسهم إلى قسمين تبع أحدهما أثر الحملة ووجدها عند بئر النطرون، فأسرها وعاد إلى حيث ابتدأ - وسار القسم الثاني - وكان مكونا من 170 هجانا ببنادق رمنجتن - بدرب الأربعين، فوصلوا إلى ناحية «المقس»، وهي أقصى القرى جنوبا - وتتصل بقرية باريس، وأسروا أحد الأهالي، بينما كان يصطاد الغزلان، ومنه حصلوا على التفصيلات التي كانوا في احتياج إليها. وقد أخبرهم لسوء الحظ عن موظفي الحكومة، وقال: إن مقرهم في «باريس».
وفي أول أغسطس سنة 1893 ظهر الدراويش أمام «باريس»، وأرسلوا في طلب العمدة والمشايخ فأتوا في الحال، ولدى مثولهم بحضرة رئيسهم أمرهم بإحضار الموظفين وكانوا خمسة، فحضروا وألقي القبض عليهم وعلى العمدة والمشايخ «الدراويش»، وقد بقي الدراويش يومين بباريس جردوا أهلها في أثنائها من الأسلحة، واستولوا على 11 جوادا و4 حمير و5 رؤوس من الغنم أكلوها في أثناء إقامتهم، ولم يرتكبوا سوى ذلك عنفا. وغادروها مع أسراهم بعد أن اعترف لهم الأهالي بأنهم رعية المهدي، وتعهدوا ألا يأتوا من الأعمال ما يوجب التعنيف، وأنهم مستعدون لمعاونته في حربه الدينية المقدسة. وقد فعلوا كل هذا من تلقاء أنفسهم دون ضغط أو إجبار. وها هي صيغة البيعة التي أخذها الدراويش منهم إلى الخليفة التعايشي:
بايعنا الله ورسوله ومهدينا وبايعناك على توحيد الله ولا نشرك بالله، شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ولا نعصيك في معروف. بايعناك على زهد الدنيا وتركها والرضاء بمراد الله ولا نفر من الجهاد.
ولما وصل الأسرى إلى أم درمان أحسن الخليفة معاملتهم واعتبرهم ضيوفه، ولم يجبروا على عمل ما سوى تأدية الصلوات الخمس في أوقاتها. وقد تمكن اثنان منهم من الهرب ووصلا إلى سواكن، ولكن المأذون مات في أسره.
وفي يناير سنة 1896 أرسل من بقي منهم على قيد الحياة إلى التخوم المصرية بأمر الخليفة، وسلموا للسلطات المصرية. ا.ه. (13) السردار
عاد السردار إلى مصر بعد واقعة دنقلة، ثم وصل إلى مروى في 8 يولية سنة 1897.
وتقدم جيش بقيادة هنتر باشا فاحتل أبو حمد في 7 أغسطس سنة 1897 وهزم محمد الزين.
واحتل الجيش بربر في 6 سبتمبر سنة 1897، وكان على بربر الأمير الزاكي عثمان البقاري.
وحدثت واقعة العطبرة «الأخيرة» في 8 إبريل سنة 1898، وهزم الأمير محمود، وأسر ودخل السردار (بربر) في 14 إبريل سنة 1898 باحتفال شائق. (13-1) المواصلات
مدت السكة الحديد من أبي حمد إلى العطبرة.
وقد أضيف إلى الجيش الذي حضر واقعة العطبرة آلاي إنكليزي آخر مؤلف من أربع أورط فأصبح الجيش مؤلفا من:
أربع أورط سواري إنكليزية، وتسعة أورط سواري مصرية، و8 بلوكات هجانة، وبطاريتين إنكليزيتين، و5 بطاريات مصرية، وفرقة البيادة الإنكليزية، وفيها آلابان بثماني أورط، وفرقة البيادة المصرية، وفيها أربع آلايات بست عشرة أورطة، وجملة الجيش 25 ألفا ضم إليه ألفا رجل من عرب العبابدة والجعليين والجميعاب والمسلمية والشكرية والشايقية والبطاحين وغيرهم. وكان مع الجنود الإنكليزية ثلاث بواخر مدرعة فبلغت البواخر المدرعة عشرا، وهي السلطان والملك والشيخ والفاتح والناصر والظافر وتماي والتيب وأبو طليح والمتمة، وفي 29 أغسطس وصلت أبو حمد. (14) احتلال القضارف وهزيمة أحمد فضيل
كان أحمد فضيل عاملا على جيش الخليفة في القضارف، وكان معه 3000 مقاتل بقيادة سعد الله التعايشي والنور عنقرة. وقد استعان التعايشي بفضيل لإنقاذه في أم درمان. وقد سلم النور عنقرة القضارف في 22 سبتمبر سنة 1898 إلى الحملة المصرية بقيادة بارسونز باشا قائد جيش كسلا.
وقد احتل هنتر باشا سنار والرصيرص في سبتمبر سنة 1898.
وقد حاول أحمد فضيل استعادة القضارف. وفي الطريق حدثت واقعة الرصيرص في 20 ديسمبر سنة 1898 عندما كان متجها إلى شلال الرصيرص.
واحتل بارسونز القضارف في 7 ديسمبر سنة 1898، ووضع عليها العلمين المصري والبريطاني. وكانت الحبشة قد احتلتها قبلا ورفعت عليها العلم وسويت المسألة بجلاء الحبشة عن القلابات.
واحتل الميجر تالبوت واد مدني في 15 سبتمبر سنة 1898. (15) تسليم الخليفة محمد شريف
وسلم الخليفة محمد شريف والفاضل والبشري من أولاد المهدي للبكباشي بليوت في 15 نوفمبر سنة 1898.
واحتل الجيش فازوغلي في 22 يناير سنة 1899. (16) بحر الغزال
واحتل الجيش بحر الغزال ووصل إلى مشرع الرق في 13 ديسمبر سنة 1900 وجعل «واو» عاصمة بحر الغزال. (17) البلجيك
غزت بلجيكا خط الاستواء في فبراير سنة 1897، وقد ألحق القسم الجنوبي من خط الاستواء بأوغندا مع اللادو لملك البلجيك مدة حياته وللإنكليز بعد وفاته. (18) دارفور وعلي بن دينار
كان الأمير علي دينار من المشتركين مع التعايشي في واقعة أم درمان، وقد فر إلى الفاشر، وكتب إلى السردار بالطاعة، وأنه يحكم دارفور على جزية يدفعها لحكومة السودان، وقد أسس حكومته على مثال سلطنة أجداده، وصنع خاتما نقش عليه:
السلطان علي دينار بن السلطان زكريا بن السلطان محمد الفضل بن السلطان عبد الرحمن الرشيد. (19) إدارة الجيش
كانت إدارة الجيش كما يأتي:
قومندان عموم القوة
الفريق السر هربرت كتشنر باشا - سردار وياورانه الكبتن اللورد إدوارد سسل والبكباشي وطسن
رئيس أركان حرب
اللواء رندل باشا
مدير قلم المخابرات
الميرالاي ونجت بك
مدير مساعد قلم المخابرات
اللواء سلاطين باشا
مدير مساعد قلم المخابرات
الميجر الشريف م. ج تلبوت
مساعد ادجوتانت جنرال للجيش الإنكليزي
الكبتن السر ه. س. رولنصن والكبتن ي. ي. برنارد
حكيمباشي الجيش الإنكليزي
الجراح الجنرال و. تيلر
حكيمباشي الجيش المصري
الميرالاي جلوي بك
حكيمباشي بيطري الجيش الإنكليزي
الكبتن. ج. ل. بلنكنسوب
حكيمباشي بيطري الجيش المصري
القائمقام جريفث بك
إدارة التعيينات «للجيش الإنكليزي»
الكولونل ل. ا. هوب والماجور ه. ج. مورغن
إدارة التعيينات «للجيش المصري»
الميرالاي روجرس بك والقائمقام دراج بك والبكباشي بلنت
مدير حملة النقل
الكولونل كتشنر
قومندان السواري الإنكليزي
الكولونل ر. ه. مارتن
قومندان السواري المصري
القائمقام برودود بك
قومندان الهجانة
القائمقام تدوي بك
قومندان الطوبجية
الكولونل س. س ج. لونج
قومندان فرقة البيادة الإنكليزية
الماجور جنرال جاتيكر
قومندان الآلاي الأول
الجنرال ووشب
قومندان الآلاي الثاني
الجنرال لتلتون
قومندان فرقة البيادة المصرية
اللواء هنتر باشا
قومندان الآلاي الأول «وفيه الأورط 2 و9 و10 و11
الميرالاي ماكدونلد بك
قومندان الآلاي الثاني «وفيه الأورط 8 و12 و13 و14»
الميرالاي مكسول بك
قومندان الآلاي الثالث «وفيه الأورط 3 و4 و7 و15»
الميرالاي لويس بك
قومندان الآلاى الرابع «وفيه الأورط 1 و5 و17 و18»
الميرالاي كولنسن بك
قومندان العمارة البحرية
القومندان كولن كبل
قومندان العربان المتحابة
الماجور ستيوارت ورتلي
وفي 24 أغسطس سنة 1898 زحف الجيش من ود حامد إلى جبل الرويان جنوبي شلال السبلوقة. وكانت البواخر تتقدم في النيل والجمال في البر والعربان الموالية في حذائه في الشرق. وقد أرسل السردار إلى التعايشي الكتاب التالي:
اعلم أن شرورك في السودان، ولا سيما قتلك الجم الغفير من نفوس المسلمين الأبرياء أوجبت تقدمي بجيوشي إلى هذه البلاد لدك سلطتك وإراحة البلاد من شرك وبغيك. ولكن بين جيوشك كثير من الأهلين الكارهين لك ولحكومتك ومن العواجز والنساء والأولاد الذين لا نريد أن يلحقهم سوء . فاعزل هؤلاء من ديمك إلى مكان لا تصله القنابل والرصاص لئلا يقتلوا وتكون أنت المسئول عن دمائهم أمام الله، واثبت أنت وأشياعك فقط في ساحة القتال لتلاقوا النقمة التي أعدها الله لكم، وأما إن كنتم تودون التسليم حقنا للدماء فاعلموا أننا نستقبل رسلكم استقبالا حسنا ونعاملكم بالعدل والسلام - في 11 ربيع الآخر سنة 1316ه. •••
علم التعايشي بتقدم الجيش فحشد جيوشه في أم درمان، وحصن 17 طابية منها طابية المقرن والسراي في الخرطوم، وكان عنده 63 مدفعا في يد الأسرى من الطبجية المصريين. ووضع الألغام في النيل.
وتجاوز الجيش في أول سبتمبر سنة 1898 جبل كرري عند الظهر، ووقف عند العجيجة على بعد ثمانية أميال من أم درمان، واستولى على بعض الطوابي ورميت أم درمان بالقنابل، وفتحت توتي والخرطوم.
وحدثت واقعة أم درمان في يوم الجمعة 2 سبتمبر سنة 1898، إذ خرج التعايشي ومعه 51789 مسلحين، وتقدم لمقابلة الجيش المصري، وأقام الجيش الإنكليزي زريبة من شوك. وقد تقدم الخليفة التعايشي لمهاجمة الزريبة، وتوارى بجبل ضرغام، وكان معه عثمان دقنه ومساعد قيدوم، وهجمت جيوش التعايشي في هيئة هلال على بعد نحو 2500 ياردة من الجيش المصري، وهجم الثوار على الزريبة وأشعلوا النار بها، وكانت المدافع تحصدهم وكانوا لا يهابون الموت. وقد هجم السواري الإنكليز وتوالى الهجوم مرة ثانية، وتقدم السردار إلى أم درمان، وحصل هجوم ثالث، وفر الخليفة عند انهزام جيش الراية الخضراء وموت أخيه يعقوب، وتوجه الجيش إلى احتلال أم درمان الساعة 11 ونصف في 2 سبتمبر سنة 1898.
وقد طارد السردار التعايشي. وفي يوم الأحد 4 سبتمبر، أي بعد الموقعة بيومين عبر السردار النيل إلى الخرطوم، ورفع الرايتين المصرية والإنكليزية على خرائب سراي الحاكم العام.
واقعة فركة في 7 يونية سنة 1896.
وقد بلغ قتلى الثوار عشرة آلاف والجرحى والأسرى أكثر، وكانت خسارة الجيش 490 قتيلا وجريحا، فمن الجيش المصري ضابطان و27 عسكريا قتلى، ومن الجرحى 15 ضابطا و286 جنديا، ومن الجيش الإنكليزي من القتلى 3 ضباط و24 جنديا، ومن الجرحى 8 ضباط و25 جنديا. وقد دفن القتلى باحتفال رسمي، وامتلأ مكان الواقعة بالجثث.
واقعة أم درمان الهجوم الثاني.
وقد عرفت الواقعة بواقعة الخرطوم وأم درمان وكرري، وهي أكبر واقعة رآها السودان، وقد أفرج عن الأسرى الذين اعتقلهم التعايشي. (20) السردار في القاهرة
استقل السردار وأركان حربه البواخر النيلية من أم درمان في 3 أكتوبر سنة 1898 إلى الأتبرة، ومنها بالسكة الحديدية إلى حلفا، ومن حلفا على باخرة نيلية إلى أصوان، ومنها بالسكة الحديدية إلى القاهرة، فوصل إليها في 6 أكتوبر سنة 1898، أي بعد سفر ثلاثة أيام، وهي أقصر مدة عرفت إذ ذاك. (21) حادث فاشودة
احتلت قوة من الجنود الفرنسيين بقيادة مارشان فاشودة في 10 يولية سنة 1898، وعقد معاهدة مع ملكها عبد الفضيل الذي قبل أن يكون تحت رحمة فرنسا وانتصر على الدراويش، وكان مع مرشان تسعة ضباط فرنسيين منهم الكابتن جرمان و120 جنديا من عبيد النيجر.
علم السردار وهو في أم درمان أن الفرنسيين أو على الأصح «جيشا من البيض» احتل فاشودة. وكان الخبر قد وصل إليه بطريق الإشاعة قبل ذلك.
وسار السردار حتى التقى بزورق عليه العلم الفرنسي ومع جنوده السود كتاب من مرشان بتهنئة السردار على انتصاره وإبلاغه أن الحكمومة الفرنسية قد كلفت مرشان فاحتل بحر الغزال إلى مشرع الرق واحتل فاشودة. واصل السردار سيره إلى أن وصل تجاه فاشودة حيث حضر مرشان والكابتن جرمان. وقال السردار إلى الميجر مرشان: إني مكلف بأن أبلغك بأن وجود الفرنسيين في فاشودة ووادي النيل يعد اعتداء صريحا على حقوق مصر، وأن فاشودة من أملاك الحضرة الفخيمة الخديوية ولا يجوز رفع العلم الفرنسي عليها. فقال مرشان: إنني جندي وليس لي إلا الطاعة، ولا أستطيع أن أفعل شيئا حتى أتلقى أوامر جديدة من حكومتي.
فقال السردار: إنني مكلف من قبل الحكومة المصرية بأن أرفع الراية المصرية في فاشودة، وأرجو أن لا تقاوم وأن تخلي فاشودة، وأن تسافر على باخرة من بواخرنا إلى مصر عن طريق الخرطوم. فأبى مرشان وقال للسردار: لا أعارضك في رفع الراية المصرية على فاشودة بشرط بقاء الراية الفرنسية في مكانها. إن قوتي أضعف من قوتك، ولكن إذا أحوجتني وحاولت إنزال الراية الفرنسية بالقوة فإني أدافع عنها إلى أن أموت أنا ورفاقي تحتها؛ فرضي السردار بترك الراية الفرنسية في مكانها ورفع الراية المصرية على بعد 500 ياردة منها، ثم أطلق عشرين مدفعا تحية لها، ووضع عندها أورطة سودانية وأربعة مدافع وباخرة حربية في الساعة الأولى بعد ظهر يوم 19 سبتمبر سنة 1898.
واقعة أم درمان - هجوم الدراويش على الزريبة.
وقد دارت المفاوضات بين بطرس غالي باشا ناظر الخارجية المصرية والحكومة الإنكليزية التي طلبت من الحكومة الفرنسية الجلاء عن فاشودة قائلة: إنه ليس لأية دولة أوربية حق في أي جهة من بلاد النيل. فوافقت الحكومة الفرنسية على الجلاء عن فاشودة.
4
وتم ذلك الجلاء في 11 ديسمبر سنة 1898، وعاد مرشان إلى فرنسا عن طريق سبت والحبشة.
الميجر جنرال الفريق السير فرانسيس ريجنلد ونجت باشا. (22) قتل الخليفة عبد الله التعايشي
بعد واقعة أم درمان هرب الخليفة عبد الله التعايشي إلى أبي ركبة فوصلت إليها حملة بقيادة الكولونيل كتشنر، فهرب التعايشي من أبي ركبة جنوبا واستقر في جبل قدير. فجرد السردار حملة بقيادته فيها 8000 آلاف جندي، فهرب التعايشي شمالا.
ووجهت ضده حملة بقيادة السير رجينالد ونجت باشا - وكيل السردار - فقتل التعايشي في (جديد) في 24 نوفمبر سنة 1899.
جثة الخليفة التعايشي ومن معه في واقعة جديد.
وكان مع التعايشي ألوف من النساء والرجال قتل الكثير منهم معه في واقعة جديد يوم الجمعة 24 نوفمبر سنة 1899. وكان مع التعايشي الخليفة علي ود حلو وأحمد فضيل والسنوسي أحمد وهرون محمد من إخوة التعايشي والصديق بن المهدي.
وقد استقبل التعايشي وصحبه الموت بجنان ثابت وقد نزع وطسون بك جبة التعايشي وسيفه من جثته. ثم دفن في حفرة في المكان الذي قتل فيه. وكانت الجبة ملطخة بالدم ومخرقة بالرصاص.
ولما علم بعض أشياع التعايشي بموته سلموا.
وكان السردار قد وعد بجائزة عشرة آلاف جنيه لمن يلقي القبض على التعايشي، وقد وزعها السردار على جنود الحملة .
وقد عين السير رجينلد ونجت باشا سردار الجيش المصري وحاكما عاما على السودان في 22 ديسمبر سنة 1899 خلفا للورد كتشنر الذي ندبته الحكومة الإنكليزية في حرب الترنسفال، ومنح الخديوي ونجت رتبة فريق، ومنحته إنكلترا رتبة ميجر جنرال ولم يتجاوز عمره يومئذ 43 سنة.
بيت الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان - وهو باق للآن كمتحف. يشبه بيوت صغار الفلاحين ويرى بجانبه أحد الدراويش. (23) قتل الخليفة شريف وولدي المهدي
بعد أن أفرج السردار عن الخليفة شريف والفاضل والبشري ولدي المهدي وسكنوا شكابة على بعد 40 ميلا من سنار عاد شريف لجمع الأنصار للحاق بالتعايشي فقبض عليه وعلى ولدي المهدي وقتلوا بالرصاص تنفيذا لحكم عسكري. (24) أسر عثمان دقنه
5
اختبأ عثمان دقنه عند الشيخ محمد علي عمر أور شيخ الجميلاب الذي أفشى لحاكم سواكن مخبأه؛ فتمكنت الحكومة من القبض عليه في 18 يناير سنة 1900، وأسر ونقل إلى القاهرة، وأرسل إلى سجن رشيد مع أسرى الدراويش الذين نقلوا فيما بعد وأفرج عنه وعنهم بعد سنوات.
ثم نقل إلى السودان والتمس السماح له بالحج فحج ثم مرض بالشيخوخة، ومات بعد الحرب الكبرى، وكان بطلا مغوارا. (25) احتلال كردفان
احتل الكولونيل ماهون ومعه فرقة من الهجانة كردفان سنة 1899. (26) إنقاذ سلاطين
6
ظل «سلاطين» مأسورا وأسلم وسمي عبد القادر وأودع إخوته القنصلية النمسوية ألف جنيه. وكان «سلاطين» مع المهدي سنة 1884، وكتب سلاطين إلى غوردون لإنقاذه، ووقع الكتاب في يد المهدي فسجنه 8 شهور، ولما مات المهدي جعله التعايشي ملازما لبابه لا يبرحه من الفجر إلى ما بعد العشاء، إلا إذا ركب معه وأعطاه منزلا ينام فيه بالقرب منه، وكان يفخر بأن مدير دارفور أسير عنده، وقد توسط ونجت بك «باشا» لدى تاجر جعلي اسمه العجيل، ودفعت القنصلية له 200 جنيه مقدما وتعهدت بدفع 800 بعد إنقاذ سلاطين. وقد وصل العجيل إلى أم درمان، وخرج مع سلاطين من أم درمان في 20 نوفمبر سنة 1895، وأرسله مع مخصوصين على هجين قوية فعبر النيل بين أبي حمد وبربر إلى أسوان، ووصل إلى القاهرة في 19 مارس سنة 1895.
وعلم التعايشي بهربه ونفى العجيل ورفيقه الصادق عثمان إلى الرجاف حيث قتلا.
وألف سلاطين سنة 1896 كتاب «السيف والنار في السودان» بالألمانية، وترجمه «ونجت» إلى الإنكليزية، وترجم إلى جميع اللغات. وقد شرح سلاطين حكم المهدي والتعايشي. وعين سلاطين مساعدا لونجت مدير المخابرات، ورافق الجيش المصري في استعادة السودان، ثم عين مفتشا عاما.
ظل سلاطين باشا بعد فك أسره حتى وفاته حاقدا طول عمره على المهديين وأبناء المهدي والخليفة. وقد أصدر - عندما كان مفتشا عاما للسودان - منشورا إلى إدارات الحكومة بأن لا يذكر في المكاتبات الرسمية «السيد عبد الرحمن المهدي» إلا تلقيبه «بالشيخ عبد الرحمن محمد أحمد».
وكان صاحب الرأي في بقاء أولاد المهدي والخليفة شريف والخليفة ابن الحلو كأسرى في أم درمان. وكان ونجت باشا يثق به ثقة كبيرة.
الزبير رحمت باشا وقد أقام في حلوان في آخر أيامه. (27) الزبير رحمت باشا
هو الزبير بن رحمة بن منصور بن علي بن محمد بن سليمان بن ناعم بن سليمان بن بكر بن شاهين بن جميع بن جموع بن غانم العباسي ، من قبيلة الجميعاب. ولد في 17 محرم سنة 1246ه و8 يولية سنة 1831. تعلم القرآن بمكتب الخرطوم وحفظ القرآن، وتفقه على مذهب مالك، واشتغل بالتجارة، ثم سافر مع ابن عمه إلى بحر الغزال في خدمة أبي عموري التاجر الذي كانت له زريبة عند مشرع الرق، وأصبح وكيلا له. وتزوج ابنة عمه ثم تزوج ابنة سلطان النمانم «تكمة»، وعينته الحكومة المصرية مديرا لبحر الغزال، ثم وشي به فنقل إلى القاهرة ممنوعا من السفر إلى السودان حتى استعادة السودان فسمح له بالسفر وردت إليه أملاكه ومات.
هوامش
الفصل الرابع
اتفاق 1899 والحكم الثنائي
أعيدت مديريات السودان تقريبا وأبرم الاتفاق التالى بين مصر وإنكلترا. (1) وفاق بين حكومة جلالة ملكة الإنكليز وحكومة الجناب العالي خديوي مصر بشأن إدارة السودان في المستقبل
1
حيث إن بعض أقاليم السودان التي خرجت عن طاعة الحضرة الفخيمة الخديوية قد صار افتتاحها بالوسائل الحربية والمالية التي بذلتها بالاتحاد حكومتا جلالة ملكة الإنكليز والجناب العالي الخديوي. وحيث قد أصبح من الضروري وضع نظام مخصوص لأجل إدارة الأقاليم المفتتحة المذكورة وسن القوانين اللازمة لها بمراعاة ما هو عليه الجانب العظيم من تلك الأقاليم من التأخر وعدم الاستقرار على حال إلى الآن ، وما تستلزمه حالة كل جهة من الاحتياطات المتنوعة. وحيث إنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة جلالة الملكة المترتبة على ما لها من حق الفتح، وذلك بأن تشترك في وضع النظام الإداري والقانوني الآنف ذكره وفي إجراء تنفيذ مفعوله وتوسيع نطاقه في المستقبل. وحيث إنه تراءى من جملة وجوه أصوبية إلحاق وادي حلفا وسواكن إداريا بالأقاليم المفتتحة المجاورة لهما؛ فلذلك قد صار الاتفاق والإقرار فيما بين الموقعين على هذا بما لها من التفويض اللازم بهذا الشأن على ما يأتي وهو:
اللورد كرومر - أو السير إفلن بارنج.
بطرس غالي باشا وزير الخارجية، ثم رئيس النظار الذي اغتال حياته الشاب الصيدلي إبراهيم ناصف الورداني في 21 فبراير سنة 1910 بسبب توقيع اتفاق 1899 والميل لمد مشروع قناة السويس. (المادة الأولى):
تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض وهي:
أولا:
الأراضي التي لم تخلها قط الجنود المصرية منذ سنة 1882.
ثانيا:
الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة، وفقدت منها وقتيا، ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد.
ثالثا:
الأراضي التي قد تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدا. (المادة الثانية):
يستعمل العلم البريطاني والعلم المصري معا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان ما عدا مدينة سواكن، فلا يستعمل فيها إلا العلم المصري فقط. (المادة الثالثة):
تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد يلقب «حاكم عموم السودان»، ويكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية. (المادة الرابعة):
القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي يكون لها قوة القانون المعمول به، والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان أو تقرير حقوق الملكية فيه بجميع أنواعها، وكيفية أيلولتها والتصرف فيها، يجوز سنها أو تحويرها أو نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام. وهذه القوانين والأوامر واللوائح يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان أو على جزء معلوم منه، ويجوز أن يترتب عليها صراحة أو ضمنا تحوير أو نسخ أي قانون أو أية لائحة من القوانين أو اللوائح الموجودة.
وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة وإلى رئيس مجلس نظار الجناب العالي الخديوي. (المادة الخامسة):
لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من القوانين أو الأوامر العالية أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن فصاعدا إلا ما يصدر بإجرائه منها منشور من الحاكم العام بالكيفية السالف بيانها. (المادة السادسة):
المنشور الذي يصدر من حاكم عموم السودان ببيان الشروط التي بموجبها يصرح للأوربيين من أية جنسية كانت بحرية المتاجرة أو السكنى بالسودان أو تملك ملك كائن ضمن حدوده لا يشمل امتيازات خصوصية لرعايا أية دولة أو دول. (المادة السابعة):
لا تدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان. ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية، إلا أنه في حالة ما إذا كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن أو أية ميناء أخرى من مواني ساحل البحر الأحمر لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة الجاري تحصيلها حينئذ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من الخارج. ويجوز أن تقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن. (المادة الثامنة):
فيما عدا مدينة سواكن لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان ولا يعترف بها فيه بوجه من الوجوه. (المادة التاسعة):
يعتبر السودان بأجمعه ما عدا سواكن تحت الأحكام العرفية
2
ويبقى كذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام. (المادة العاشرة):
لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصلانات بالسودان ولا يصرح لهم بالإقامة قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية . (المادة الحادية عشرة):
ممنوع منعا مطلقا إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه، وسيصدر منشور بالإجراءات اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن. (المادة الثانية عشرة):
قد حصل الاتفاق بين الحكومتين على وجوب المحافظة منهما على تنفيذ مفعول معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ 2 يولية سنة 1890 فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها أو تشغيلها.
تحريرا بالقاهرة في 19 يناير سنة 1899
الإمضاءات: «كرومر» «بطرس»
وفي يوم تاريخ هذا الوفاق عين اللورد كتشنر أوف خرطوم - سردار الجيش المصري - حاكما عاما للسودان مع بقاء وظيفة السردارية في يده، وأعلن فتح السودان للتجارة في 12 ديسمبر سنة 1899، ولم يكن إلا أيام معدودة حتى ندب لحرب الترنسفال.
هوامش
الفصل الخامس
الرأي المصري في اتفاق سنة 1899
عند توقيع اتفاق 1899 بين اللورد كرومر وبطرس غالي باشا - ناظر الخارجية المصرية - فحص رجال القانون المصريون هذا الاتفاق، وقالوا: إنه يعد باطلا للأسباب التالية: (1)
لأن الحكومة المصرية أكرهت على إخلاء السودان، ولأن الخديوي بمقتضى الفرمانات الشاهانية لا يملك حق النزول عن أرض مصرية أو تابعة لمصر. (2)
إن الفرمانات التركية تحرم على الخديوي إبرام اتفاقات سياسية. وقد اعترفت إنكلترا بهذه الفرمانات. (3)
لم يقترن الاتفاق بملكية السلطان العثماني للسودان، وهو ملك له كما أن مصر كانت تابعة للسيادة التركية. (1) تصريحات رجال السياسة الإنكليز عن اتفاقية 1899 (1)
عبر اللورد غرانفيل في التعليمات التي أصدرها في 18 يناير سنة 1884 إلى غوردون عن رأيه بالكيفية الآتية: «ينبغي فحص أحسن الوسائل التي يلزم اتخاذها لإخلاء داخلية السودان وتوطيد دعائم الأمن وإدارة المصالح والمواني القائمة على السواحل. وذلك تحت سيادة الحكومة المصرية وإفادتنا بما ترونه.» (2)
والبند الثاني من الاتفاقية الإنكليزية الإيطالية المعقودة في سنة 1891 نصه كالآتي: «للحكومة الإيطالية الحق في احتلال (كسلا) وما جاورها من البلاد لغاية العطبرة، وذلك فيما لو اضطرها مركزها الحربي لهذا الاحتلال. ومن المتفق عليه بين الدولتين المتعاقدتين أن كل احتلال حربي وقتي للأرض الإضافية المبينة في هذا البند لا ينسخ حقوق الحكومة المصرية في الأرض المذكورة. وهذه الحقوق تظل فقط موقوفة إلى أن يصير في استطاعة الحكومة المصرية احتلال المركز البادي ذكره.» (3)
وقال اللورد سالسبوري لسفير فرنسا في 12 أكتوبر سنة 1896: «إني متمسك على وجه العموم بهذا الرأي - ذلك أن وادي النيل كان - وما زال، ولن يزال - ملكا لمصر، وأن كل مانع أو انتقاص ألم بحقوق هذه الملكية من جراء فتح واحتلال المهدي قد زال وتلاشى بحكم انتصار الجيش الإنكليزي المصري.»
وخطب اللورد روسبري في مدينة أبسون بتاريخ 12 أكتوبر سنة 1898 فقال:
1 «لكي نقرر حقوق مصر على فاشودة بطريقة حاسمة قد كفانا أن نذكر الحكومة الفرنسية بأقوالها في السنين الأخيرة، وذلك باستعارة أقوال المسيو دكريه وكوريسل وهانوتو: «نحن على وشك أن نرد لمصر ما هو من أرضها، وذلك حسب التصريحات التي فاهت بها كل الحكومات الفرنسية.» وهذا أمر جلي واضح، حتى إنه ليشق علي أن أصدق أنه في الإمكان العثور على أي شيء ينافيه.»
وأبدى السير غراي مثل هذا الرأي في خطبة ألقاها في مدينة يورك في 28 أكتوبر سنة 1898
2
بقوله: «ليس على فرنسا إلا أن تلاحظ أن مسألة فاشودة مسألة متعلقة بالمبادئ والحقوق. فإذا كانت تريد أن تخرج من هذا المأزق فما عليها إلا أن ترجع إلى المبادئ التي بينها وبين المسيو هانوتو، وتعمل بمقتضاها، وبذلك ينحل الإشكال بسهولة.»
وخطب اللورد كمبرلي في الوليمة التي أقيمت تكريما لكتشنر في 14 نوفمبر سنة 1898 فقال:
3 «إن إخلاء فاشودة ليس فيه ما يحط من قدر فرنسا ما دامت الحكومة الفرنسية هي نفسها صرحت أن الأرض المتنازع عليها ملك مصر. وينبغي على فرنسا أن تصون سمعتها بأن لا تعمل نقيض ما صرحت به هي نفسها.»
وقال اللورد سالسبوري في كتاب أزرق نشره سنة 1898: «إن فاشودة من ممتلكات مصر بلا نزاع.»
4
وكتب اللورد كرومر في تقريره عن سنة 1901
5
ما يأتي: «وليس الغرض من عقد اتفاقية سنة 1899 حرمان مصر من حقوقها في السودان ؛ بل تزويده بحكومة صالحة، والتخلص من العقبات التي تلقاها في طريقه مسألة الامتيازات.»
وكتب اللورد كمبرلي في 4 إبريل سنة 1895 إلى اللورد دوفرين:
إذا كانت مصر تسترد السودان الذي كانت تحتله في المدة السالفة، فمن الواجب علينا أن نعترف بحقها في امتلاكه.
واعترف اللورد كرومر في تقريره في سنة 1901 بمشروعية الملاحظات التي أبداها مجلس الشورى عند الاقتراح على الميزانية الخاصة بالسودان. فقد قرر فيها المجلس أن: «السودان جزء متمم لمصر.» (2) تصريحات الجانب المصري
وفي أواخر عام 1883 ذكرت وزارة شريف باشا في كتاب الاستقالة
6
أسبابها في خطاب أذيع على الجمهورية، وإليك ما جاء به: «إن الحكومة البريطانية تحتم علينا إخلاء السودان مع أن قبول هذا الإخلاء ليس من حقنا؛ لأن هذا البلد هو من ممتلكات الباب العالي، وقد سلمنا حراسته. تقول حكومة الملكة: إنه من واجبات مصر الإذعان لمشورتها بدون مناقشة. وهذا تعد صارخ على فرمان 23 أغسطس سنة 1878 القاضي بأن الخديوي يحكم مع وزرائه وبواسطتهم. وقد استقلنا لأنه حجر علينا أن ندير الأحكام بمقتضى هذا الدستور.»
وفي سنة 1884 أرسل الخديوي توفيق باشا نداء إلى أهالي السودان يقول فيه: إنه لاهتمامه بشؤونهم فوض إليهم أمر اختيار حكومتهم. «وهذا بلا جدال عمل من أعمال السيادة.»
وأرسل رياض باشا إلى السير إفلن بارنج بتاريخ 9 ديسمبر سنة 1887 مذكرة يقول فيها:
لا ينازع أي إنسان في أن النيل هو حياة مصر، وهذا أمر واضح جلي لا يختلف فيه اثنان. إذن النيل هو السودان، ولا يرتاب أحد في أن العلائق التي تربطهما لا انفكاك لها. وهي أشبه شيء بعلاقة الروح بالجسد. فإذا استولت دولة ما على ضفاف النيل فعلى مصر العفاء. ويعلم من ذلك أن حكومة سمو الخديوي لا يمكن أن تقبل بمحض رضاها واختيارها وبدون أن تكره على ذلك تعديا كهذا على وجودها وحياتها.
7
وأدمج اللورد سالسبوري في الكتاب الأزرق الذي أذاعه سنة 1898
8
بصدد فاشودة خطابا من بطرس باشا غالي إلى اللورد كرومر يقول فيه: «تعلمون فخامتكم أنه لم يغب البتة عن أنظار حكومة الخديوي مسألة استرداد مديريات السودان التي هي عبارة عن ينبوع حياة مصر، والتي لم تنجل عنها إلا على أثر طروء ظروف قوة قاهرة. وقد تضيع الفائدة من إعادة فتح الخرطوم إذا لم تسترد وادي النيل الذي ضحت مصر في سبيله الشيء الكثير من الأموال والأرواح. ولما كانت الحكومة المصرية تعلم أن هنالك مفاوضات دائرة الآن بين بريطانيا العظمى وفرنسا بصدد فاشودة، فقد كلفتني أن أرجو فخامتكم أن تمدونا بحسن معونتكم لدى اللورد سالسبوري ابتغاء الاعتراف بحقوق مصر الثابتة ورد جميع المديريات التي كانت تحتلها لغاية قيام ثورة محمد أحمد.»
وعندما كان مجلس شورى القوانين في مرات كثيرة يدعى إلى إبداء رأيه في القروض التي تقدم للسودان لا يألو أن يكرر: «نحن نصادق على هذه القروض؛ لأن السودان جزء متمم لمصر.»
9
استنادا إلى أن اتفاقية سنة 1898 ترمي إلى الوجهة الإدارية كما يتبين مما يلي: «وحيث أصبح من الضروري تنظيم طرق الإدارة وسن لوايح وقوانين للمديريات التي استردت ... إلخ». وهذا المفهوم من منطوقها أيدته الفقرة التالية منه وهي: «وحيث إنه لأسباب كثيرة يمكن حكم وادي حلفا وسواكن مع المديريات التي استردت بطريقة أنجح؛ نظرا لمجاورتهما لأراضي السودان ... إلخ».
ومن سنة 1884 لغاية سنة 1896 لم تكف مصر عن أن تدرج في ميزانيتها حسابا خصوصيا للسودان. ومذكور بإحصائيات الحكومة المبالغ السنوية التي دفعتها طول هذه المدة وقيمتها. (3) رأي سمو الأمير عمر طوسون
لحضرة صاحب السمو الأمير العظيم عمر طوسون آراء جلية في اتفاق 1899. قال سموه عن «تأجيل المفاوضة في شأن السودان» في مشروع ملنر سنة 1920 ما يلي: أرجئت مسألة السودان لسببين:
الأول:
اتفاقية سنة 1899م.
الثاني:
اعتراف تركيا بتلك الاتفاقية.
أما اتفاقية سنة 1899 فهي باطلة بالبراهين الآتية:
أولا:
لأنها مبنية على الفتح؛ وهذا أساس غير صحيح؛ لأن الفتح لم يحصل إلا باسم مصر فقط. والدليل على ذلك أن مارشان عندما احتل فاشودة توجه كتشنر إليها واحتل نقطة أمام النقطة المحتلة من الفرنسيين، ولم يرفع إلا العلم المصري فقط أمام العلم الفرنسي. وفي هذه الحالة كان لكتشنر صفتان: إحداهما أنه قائد مصري وثانيتهما أنه قائد إنكليزي؛ لأن الحامية الإنكليزية التي في السودان كانت تحت قيادته، وجزء من تلك الحامية كان من فاشودة. وقد أدى التعظيم الواجب عندما رفع العلم المصري وحده أمام العلم الفرنسي. وحيث إن هذه الحادثة كانت خاتمة الأعمال الحربية في تلك البلاد، وتعتبر تتويجا لها، فرفع العلم المصري وحده وتأدية الجنود الإنكليزية له التحية العسكرية هو اعتراف صريح من إنكلترا أمام دولة أجنبية بأن الفتح لم يحصل إلا باسم مصر فقط، وإلا فلو كان بالاشتراك لرفع العلم الإنكليزي بجانب العلم المصري.
وأما مساعدة الحامية الإنكليزية في فتح السودان فلا يعتبر إلا من باب مساعدة الوصي لمحجوره في رد جزء من أملاكه فقد، بسوء تصرفاته. إذ لو اتبع رأي عبد القادر باشا ولم يرسل الجيش المصري في داخل كردفان كما رأى هكس باشا لما هلك الجيش ولما ضاع السودان.
ثانيا:
لأنها تشبه العقد الذي يعقد بين الوصي ومحجوره ويجر منفعة لهذا الوصي.
قيمة اعتراف تركيا: وأما هذا الاعتراف فإنه لا قيمة له بالمرة بالبراهين الآتية:
أولا:
أن إعلان الحماية على مصر أزال السيادة التركية عنها ابتداء من ديسمبر سنة 1914م، وتعتبر غير موجودة في وقت عمل التنازل.
ثانيا:
أن الحكومة التركية اعترفت باستقلال مصر استقلالا تاما، وجعلت لها حرية تقرير مصيرها السياسي. وهذا القرار صدق عليه من مجلس المبعوثين قبل إمضاء معاهدة سيفر.
ثالثا:
أن معاهدة سيفر التي اعترفت فيها تركيا بحماية الإنكليز لمصر إنما وقعها ممثلو الحكومة التركية مرغمين، وفضلا عن هذا فإن الشعب العثماني معارض فيها أشد المعارضة، وهي مع هذا لم تحز تصديق مجلس المبعوثين، ولم تعترف بها بعض الدول إلى الآن. «وقد حلت محلها معاهدة لوزان مع عصمت باشا سنة 1922.»
وحيث إن السيادة لا وجود لها فإن الاعتراف من تركيا لا قيمة له بالمرة؛ لأنها بذلك تقر حقا لغيرها في بلد لا تملكه، ولم نفهم معنى السكوت عن المسألة السودانية بمجرد إظهار إنكلترا لهذا الاعتراف من الحكومة التركية، لأن تركيا اعترفت أيضا بالحماية الإنكليزية على مصر، وهذا لم يمنع المعارضة لها والمفاوضة في المسألة المصرية. (4) مذكرة عن مركز الإنكليز في السودان
وأرسل سموه إلى جريدة التيمس الرسالة التالية ولم تنشرها، فنشرت في جرائد مصر في 2 سبتمبر سنة 1927.
لما رأينا صحف إنكلترا تتعمد تشويه الحقائق فيما تكتبه عن السودان وعن مركز الإنكليز في ذلك القطر من وادي النيل، كتبنا إلى جريدة التيمس رسالة نبسط فيها للرأي العام البريطاني حقائق المسألة السودانية كما يسجلها التاريخ الصحيح ويعرفها ذوو الاطلاع.
ولقد تلقينا من رئيس تحرير تلك الجريدة كتابا يقول فيه: إنه سيحتفظ بمقالنا بقصد الرجوع إليه عند الكتابة في مسألة السودان. وهذا بالطبع معناه عدم الرغبة في نشر ذلك المقال.
وحيث إن أحوال السودان لا تزال تشغل الأفكار في هذا القطر، فقد رأينا أن نرسل ترجمة المقال المذكور إلى الصحف المصرية، وهذا معربه بعد الديباجة. (4-1) المقال
لمناسبة الأحوال السياسية الحاضرة في وادي النيل وما تبديه صحف لندن من مختلف الآراء بشأن السودان أود أن ألفت الرأي العام البريطاني بواسطة جريدتكم - إذا أذنتم - إلى الوقائع الآتية:
لما وقعت حادثة مارشان الشهيرة في السودان، كان الإنكليز يقولون: إن السودان لمصر ومن مصر. ثم ادعوا أنهم شركاء فيه بإرادة مصر. فلما أعلنت مصر بطلان هذه الشركة قالوا: إنهم ساعدوا على استرجاعه ولولاهم لما تم هذا الاسترجاع.
ولما كانت إعانتهم لمصر في استرجاع السودان قد حصلت فعلا أردنا هنا أن نبين للقارئ أنهم هم الذين كانوا السبب في ضياعه، وأنهم وإن كانوا أعانوها على استرجاعه، فقد كانت في غير حاجة إلى هذه الإعانة، وإلى القارئ الأدلة: (1)
أن مصر فتحت السودان وحدها سنة 1820م، وبقيت سلطتها فيه قائمة لم يعترها ضعف ولا وهن إلى سنة 1881م والسودان يومئذ آهل بسكانه زاخر برؤسائه وملوكه. فمن قدر على فتحه في هذه الحال وعلى حفظ نفوذه وسلطانه عليه اثنتين وستين سنة. فلا شك أنه يكون قادرا على استرجاعه بدون مساعد. (2)
أن الثورة العرابية ابتدأت في مصر في 6 فبراير سنة 1881م، وابتدأت الثورة المهدية في السودان في 12 أغسطس سنة 1881م أيضا، كأنما الثورتان كانتا على ميعاد. فلما اختل الأصل - وهو مصر - اختل الفرع وهو السودان. ومن سوء الحظ أن حكمدار السودان وقتئذ كان رؤوف باشا، وهو رجل خلو من الكفاءة والتدبير ، إذ لو كان على شيء منهما لقضي على ثورة المهدي في السودان في إبانها. فقد أبلغه رئيس كبير موثوق به وهو السيد محمد الشريف أكبر مشايخ الطرق في السودان أمر هذا المدعي وحذره عاقبة الإهمال، فلم يأبه لقوله ولم يستيقظ من سباته حتى أرسل إليه هذا المفتون كتابا يدعوه فيه إلى الدخول في شيعته والإيمان به. وبدلا من أن يرسل إليه عقب ذلك من يقبض عليه في الحال أرسل ينصح له فرده خائبا. ثم بعد لأي وتردد، أرسل إليه تجريدة صغيرة أوقع بها المهدي وهزمها شر هزيمة، فكان هذا أول وهن أصاب هيبة الحكومة في السودان، فقد انتشر خبر هذه الواقعة في جميع أنحائه وتناقل الرواة حديثها بغلو كبير، وعدتها العامة من المعجزات التي تدل على صدق محمد أحمد في دعوى المهدية. ثم جرد عليه تجريدات أخرى كان نصيبها نصيب الأولى. فانحطت كرامة الحكومة في عيون أهل السودان وصدقوا دعوى المهدي.
ولما بلغت هذه الأخبار السيئة الحكومة عينت عبد القادر حلمي باشا بدلا من رؤوف باشا؛ وحسنا فعلت فإن هذا الحكمدار الجديد أظهر همة عالية وكفاءة نادرة في قمع الثورة بعدما استطار شررها واستفحل أمرها، وكان قد طلب من الحكومة عشرة آلاف جندي. ولما لم تجبه إلى طلبه لارتباكها بالثورة العرابية جند من أهالي السودان جيشا صغيرا، دربه بنفسه وضم إليه ست أورط كانت في السودان الشرقي، وحمل بهذا الجيش الصغير على الثوار فأبادهم وشتت شملهم ورفع الحصار عن حامية سنار. فهدأت الحال وخمدت جذور الثورة، ولم يبق في يد المهدي سوى مديرية واحدة هي مديرية كردفان ولا من أتباعه العصاة في النواحي سوى نفر قليل في الجزيرة بقيادة زعيم لهم يدعى أحمد الكاشف.
فأنت ترى أن عبد القادر حلمي باشا بجيشه الصغير استرجع السودان أو كاد، ولو أرسل إليه الجيش الذي أرسل إلى هكس؛ لتم على يديه استرجاع السودان بدون عناء. ولكن عندما وصلت هذه الأخبار السارة إلى مصر، وكان ذلك في أوائل سنة 1883م وقد احتلتها الإنكليز وأصبح في يدهم تصريف أمورها صدرت الأوامر بعزل عبد القادر باشا لهذا السبب المقلوب في الوقت الذي قال في حقه المهدي في إحدى خطبه: «ليس بين رجال الحكومة التي أناوئها رجل كعبد القادر كثير الدهاء والحيل مع الشجاعة؛ مما يجعلني أضرع إلى الله أن يكفيني وأصحابي شره. وإنني أحتم على كل المؤمنين الذين دخلوا في دعوتي أن يجتنبوا القيام في الجزيرة بأي مشاغبة تضطرهم إلى الوقوف في ساحات الحرب مع عبد القادر باشا. وأوصيهم بكتمان دعوتي وعدم الظهور بها في الجزيرة ما دام عبد القادر باشا متوليا على السودان، وليواظب كل أصحابي على رفع أصواتهم بعد كل صلاة بهذه الدعوة: «اللهم يا قوي يا قادر، اكفنا شر عبد القادر.»
وقد كتب عبد القادر باشا بعد عودته من الخرطوم تقريرا وافيا للحكومة بما يجب عليها عمله. وملخصه عدم تسيير حملة إلى المهدي في كردفان والاكتفاء بإقامة الحصون على حدودها وحصر المهدي فيها حتى تنضب منها موارد اليسار القليلة التي لا يمكن أن تقوم بنفقات الملتفين حوله، فلا يمضي زمن حتى يشعروا بالضيق فيطلبوا الخلاص من جور المهدية. ولا سبيل لهم إلى نيل هذا الغرض إلا بمظاهرة الحكومة وموالاتها فيسهل عليها حينئذ قهر المهدي بقوة يسيرة.
هذا كان رأي عبد القادر باشا، ولكن حكومة ذلك الوقت التي عزلته بسبب ما أظهره من الكفاءة وأحرز من الانتصار، ليس من المعقول أن تعمل برأيه؛ فضربت بتقريره عرض الحائط، وعينت بدلا منه علاء الدين باشا. فتولى علاء الدين باشا منصب حكمدار السودان. ولكن حصرت سلطته في الإدارة الملكية وجعل سليمان نيازي باشا قائدا عاما وهكس باشا رئيسا لأركان حربه، وأرسل إلى السودان بقيادته جيش وصل إلى الخرطوم في مارس سنة 1883م، وهو مؤلف مما يأتي:
آلاي رقم 1 مشاة تحت قيادة الميرالاي سليم عوني بك عدده
2400
آلاي رقم 2 مشاة تحت قيادة الميرالاي السيد عبد القادر عدده
2500
آلاي رقم 3 مشاة تحت قيادة الميرالاي إبرهيم حيدر بك عدده
2600
آلاي رقم 4 مشاة تحت قيادة الميرالاي رجب صديق بك عدده
3000
الفرسان والمدفعية تحت قيادة الميرالاي عباس وهبي بك عدده
2400
12900
وفي إبريل سنة 1883م خرج نيازي باشا وأركان حربه هكس باشا ومعهما 5600 جندي للإيقاع بمن بقي من العصاة مع أحمد الكاشف بالجزيرة، وكان عددهم قد تكاثف بعد عبد القادر باشا فلاقوهم في المرابيع وكسروهم شر كسرة، وقتلوا زعماءهم فانمحى بهذه الواقعة أثر الثورة من الجزيرة كما انمحى من عموم السودان، ولم يبق للمهدي شوكة خارج كردفان.
وقد ألح عبد القادر باشا ثانيا على الحكومة وهو في مصر عقب هذه الواقعة بترك المهدي وشأنه في كردفان إلى أن يظهر للناس كذبه أو تضيق به البلاد فيضمحل من نفسه، فقوبل إلحاحه بالإعراض أيضا، وأذن لهكس باشا بالزحف على المهدي في كردفان. فرد بأنه لا يتحمل مسئولية الحملة حتى تكون له القيادة العامة عليها، ولما تباطأت الحكومة المصرية في إجابته إلى طلبه هددها بالاستعفاء فأذعنت وجعلته القائد العام على الحملة ونقلت نيازي باشا محافظا على السودان الشرقي فخلا لهكس باشا الجو، وتوغل بهذا الجيش الكبير في صحاري كردفان حتى ضلوا الطريق ووقعوا في مخالب المهدي؛ فأفناهم ذبحا وقتلا في ساعات معدودة.
وبهذا الانتصار الكبير رجع للمهدي شأنه الأول فانتفضت أطراف السودان وعاد شعلة نار. وعلى أثر ذلك قررت الحكومة الإنكليزية إخلاءه، ولما لم تصادق وزارة شريف باشا على هذا الإخلاء حملتها على الاستعفاء، وجاءت وزارة نوبار باشا فصادقت عليه، وعين غوردون باشا لإخلائه وإخراج الجيوش المصرية منه، وكان فيه نحو الثلاثين ألفا، وحوصر غوردون باشا في الخرطوم إلى أن قتل وكان ما كان مما هو معروف ومشهور. فمن هو المسئول عن هذه النتائج السيئة؟ ومن ذا الذي أضاع السودان؟ أمصر التي أضاعته، أم السياسة الإنكليزية التي كانت مشرفة على مصر في هذا الحين؟ (3)
ثم ترك السودان، تفتك بأهله الفوضى والجهل والظلم والأوباء والحروب، فحصدتهم هذه الأوباء حصدا واصطلحت عليهم، وتركت البقية الباقية من أهله في جوع وعري.
وهذه العاقبة هي التي توقعها عبد القادر باشا حلمي لأهل كردفان لو بقي المهدي محصورا فيه. وعند ذلك جاءت أوامر إنكلترا بتجهيز حملة لاسترجاع السودان، وصدر القرار الوزاري بذلك في 13 مارس سنة 1896م. فاسترجع السودان بثلاث واقعات كبرى وبجيش يبلغ نيفا وعشرين ألفا تقريبا ولم يقتل منه إلا القليل. وكانت الخسارة في الواقعة الفاصلة - وهي واقعة أم درمان - من القتلى ثلاثة ضباط إنكليز واثنين من المصريين وأربعة وعشرين عسكريا إنكليزيا وسبعة وعشرين عسكريا مصريا، ولم تبلغ النفقات التي صرفت في هذا الفتح مليونا من الجنيهات، فهل كان ذلك يعجز مصر عن أن تقوم به وحدها؟
هذا هو مقال سمو الأمير. (5) كلمة لسموه عن مديرية خط الاستواء
نشرتها جريدة «الأهرام» في عدد يوم الاثنين 29 مايو سنة 1933:
مديرية خط الاستواء هي أهم مديريات السودان المصري وألزمها وأنفعها لمصر؛ لأن مخرج النيل من بحيرة ألبرت نيانزا المراد عمل السد فيه لجعل تلك البحيرة خزانا هو جزء من هذه المديرية التي ظلت في حكم مصر حتى آخر عهد أمين باشا الذي هو آخر مدير لتلك المديرية السودانية المصرية إلى نهاية الحكم المصري الفعلي للسودان.
وقد شمل الحكم المصري أيضا ثلثي شواطئ هذه البحيرة وأقام فيه المعاقل العسكرية التي بقيت حتى شاهدها ستانلي في سياحته المشهورة عندما توجه إلى هذه الجهة لتخليص أمين باشا ظاهرا، ولمحو الآثار الباقية لمصر بتلك المنطقة في الحقيقة. ثم توجه الكابتن لوجارد إلى هناك، واستخدم الجنود المصرية المتروكة فيها باسم الشركة البريطانية الأفريقية الشرقية، واستولى على أوغندة وعلى القسم الجنوبي من مديرية خط الاستواء، وبسطت الحكومة البريطانية حمايتها على هذه البلاد، ثم عقدت بعد ذلك مع مصر معاهدة سنة 1899م.
ولو احترمت هذه المعاهدة - كما لا تزال تدعي ذلك - لكان أول واجب عليها إرجاع هذه البلاد إلى السودان المصري وجعلها تحت إدارة حكومته، حيث إن هذه المعاهدة تشمل عموم الأراضي التي يتكون منها السودان المصري القديم، كما كان عليه قبل الثورة المهدية. ولكنها لم تفعل هذا الواجب ولم تراعه في تطبيق هذه المعاهدة لأنها كانت منذ زمن بعيد تطمح إلى امتلاك مديرية خط الاستواء المصرية الواقعة في أرجائها ينابيع النهر العظيم الذي يفيض على مصر الحياة.
وهذا لا يجعلنا نعتبر عملها الذي استندت فيه إلى القوة عملا شرعيا؛ لأن إنكلترا التي أخرجت مارشان من فاشودة بحجة أنها جزء من السودان ماكان ينبغي لها بعد ذلك أن تسلخ جزءا منه لنفسها. وهذه الحجة لا تزال قائمة عليها إلى الآن.
وكان قد تم بامتلاكنا هذه المديرية وضع يدنا على وادي النيل برمته من منابعه في منطقة بحيرات خط الاستواء إلى مصابه في البحر الأبيض المتوسط. فاغتصابها هذه المديرية بعد ذلك لا يفسر إلا برغبتها الشديدة في القبض على عنق مصر، لكي تصيرها مطيعة لأوامرها خاضعة لإرادتها باستمرار.
وتاريخ مطامع إنكلترا هذه يرجع إلى ما قبل احتلالها لمصر بزمن بعيد. ويؤيد ذلك المعلومات التي تلقاها الخديوي إسماعيل باشا والتعليمات التي أمد بها الكولونيل شايي لونج الذي كان قد تعين رئيس أركان حرب للجنرال غوردون في 20 فبراير سنة 1874م عند تعيين هذا الجنرال مديرا عاما لمديرية خط الاستواء في السنة عينها. وإلى القارئ ما رواه هذا الضابط في كتابه «حياتي في أربع قارات «ج1 ص670» قال: «لدى دخولي كان الخديوي إسماعيل يمشي بخطوات واسعة في قاعة الاستقبال وهو متوتر الأعصاب، وكان برفقتي تونينو بك التشريفاتي الثاني الذي أدخلني عنده فوجه إلي السؤال الآتي:
أرأيت الجنرال غوردون؟
فأجبت: نعم يا مولاي، ولقد قضيت معه أكثر الليل.
فأجاب الخديوي: حسنا جدا. والآن أعرني أذنك - لقد وقع الاختيار عليك لتكون رئيس أركان حرب لعدة أسباب أهمها المحافظة على المصالح المصرية. فهناك في لندرة يوشك أن تنظم حملة بقيادة رجل يقال له استانلي أمريكي الجنسية على ما يزعمون. والغرض من هذه الحملة - حسب الظاهر - نجدة الدكتور ليفنجستون.
أما الغرض الحقيقي منها فهو رفع العلم البريطاني على ربوع أوغندة. فتوجه أنت إلى غندكورو، وأسرع في الذهاب إلى أوغندة، ولا تضيع أوقاتك، واسبق حملة لندرة، وأبرم معاهدة مع ملك أوغندة، فتمسي مصر مدينة لك سرمديا بواجب الشكران معترفة بالجميل. اذهب وليكلل مسعاك بالنجاح إن شاء الله.»
وسافر الكولونيل شايي لونج عملا بهذه الأوامر إلى أوغندة، وأنجز مهمته بالكيفية التي قصها في كتابه «مصر ومديرياتها المضيعة ص24 و25». وإلى القارئ معرب مقاله:
لقد توصلت إلى إصابة الهدف السياسي الذي كانت ترمي إليه مأموريتي، ونجحت في ذلك إلى أبعد مما كنت أرجو، وقدمت للحكومة المصرية في 16 ديسمبر سنة 1874 تقريرا ذكرت فيه إبرام معاهدة مع الملك أمتزا
10
اعترف فيها بوضع مملكته تحت حماية مصر. وهذه المعاهدة بلغت لسمو الخديوي واتخذت أساسا للمذكرة الرسمية التي أصدرتها مصر وقررت بموجبها ضم جميع الأراضي الواقعة حول بحيرات «فيكتوريا وألبرت الكبرى»، وهذه المذكرة قد اختفت من دار المحفوظات بمصر.
والمذكرة التي يومئ إليها الكولونيل شابي هي تلك المذكرة التي أرسلها شريف باشا ناظر الخارجية إلى قناصل الدول الجنرالية بمصر، ومن جملتهم بحكم الطبع قنصل إنكلترا، ولقد جاء بعد تعداد المواقع الحربية المختلفة التي خاضت غمارها العساكر المصرية واحتلال تلك الأراضي ما يأتي:
وعلى ذلك قد تم إلحاق جميع البلاد الواقعة حول بحيرة فيكتوريا وبحيرة ألبرت بمصر، وفتحت البحيرتان وروافدهما ونهر السومرست للملاحة، وصارت ممهدة للاستكشافات التي يقوم بها غوردون باشا.
وإن في ذلك لأوضح دلالة على ما لمصر من حقوق في تلك الأقطار، وأقوى برهان على طموح أنظار الإنكليز إلى تملكها.
وفي عام 1876 قال غوردون باشا: إنه لما كان مديرا عاما لمديريات خط الاستواء - «راجع كتاب الكولونيل غوردون باشا في أفريقية الوسطى ص177» - أرسل نور أغا محمد - وهو الذي ترقى فيما بعد إلى رتبة أميرالاي وكان قائدا لجيوش المديرية - ومعه 160 جنديا؛ ليبتني محطة عسكرية في «أورندجاني» من أعمال أوغندة. ولكنه إجابة لطلب أمتيزا ذهب وابتناها في عاصمته «روباجا» «كامبالا» الآن، وزاد غوردون باشا على ذلك فقال: إنه ما دامت هذه هي رغبة الملك فسيترك ال 160 جنديا تعسكر في عاصمته . وفي استطاعته إذا حدثت الملك نفسه بإحداث قلاقل أن يأخذه أسيرا. وكانت كتابة غوردون باشا لهذه الأسطر في 2 أغسطس سنة 1876م.
وكان غوردون باشا قد نوى أن يسافر إلى «روباجا» قاعدة مملكة أمتيزا، ولكنه عدل عن هذا الرأي وقال «ص181» بتاريخ 18 أغسطس إنه غير هذه الفكرة، وأزمع على أن يرسل 90جنديا إلى نور أغا لتعزيز ال 160 جنديا السابق إرسالهم إلى «روباجا»، وأنه بضم هاتين القوتين إلى بعضهما يصير في هذه الجهة قوة كافية.
وهذا يظهر بكيفية لا يتطرق إليها الشك أن غوردون باشا كان يؤيد احتلال جنود مصر لعاصمة أوغندة تأييدا تاما، ويقرر أن ذلك الاحتلال أسمى في حكم الأمر الواقع.
وكان غوردون باشا قد بادر بإحاطة الخديوي إسماعيل بأنه احتل «أورندجاني» و«روباجا» عاصمة أوغندة.
وقد عثرنا في جريدة الوقائع المصرية بالعدد رقم 674 ص1 بتاريخ 10 سبتمبر سنة 1876 على التلغراف الذي أرسله غوردون باشا إلى الخديوي إسماعيل في هذا الشأن، فقد جاء في العدد المذكور ما نصه:
ورد تلغراف إلى المعية السنية من سعادتلو غوردون باشا في 2 أغسطس سنة 1876 يتضمن أن «الملك أمتيسا» «ملك أوغندة» طلب مني عساكر لأجل إقامتها في بندر حكومته، فأرسلت إليه مائة وخمسين عسكريا، ورتبت ثلاثين عسكريا في بلدة «أورندكاني» ومثلها في بلدة «بكبتيسه»، فكانت تلك الجهات والحالة هذه في حيزة الحكومة المصرية، وقد وصلنا إلى «مكانكو» في 27 جمادى الثانية سنة 1293 «20 يولية سنة 1876» بعد سفر سبعة أيام من «دوفلي»، والبحر هناك جيد صالح لسير السفن فيه بسهولة. وشطوطه معمورة بكثرة الناس فيه، وأراضيه صالحة للزراعة. وبعد ثلاثة أيام نتوجه إلى بلاد «مرولي» و«أرندكاني» و«أمتيسا». ويمكننا الوصول إلى سائر تلك الجهات بغاية الراحة التامة والسهولة. ا.ه.
وبلدة «مكانكو» الآنفة واقعة في فم بحيرة ألبرت نيانزا ومحل الخزان المزمع عمله في المستقبل.
وبعد هذا الفتح لم يبق غوردون باشا الحاميات المصرية بتلك الجهات، بل أمر في أواخر نفس هذا العام «1876م»، أي عند تركه خدمة الحكومة المصرية نظرا لانتهاء أجل عقد خدمته بسحب كافة الحاميات المصرية المقيمة في «أونيورو» و«أوغندة». وعلى ذلك أخليت المحطات الآتية:
فويرة وكيرتو وماسندي ومرولي وفاكوفيا وأرندجاني وروباجا.
وكان في خلال هذه المدة قد تلقى الخديوي إسماعيل رسالة غوردون باشا المنبئة باحتلال قاعدة أوغندة، فبادر بالإنعام عليه بالوسام المجيدي الأول. ولم يصل خبر هذا الإنعام إلى غوردون باشا إلا عند إزماعه الرحيل ، وبعد أن صدر أمره بإخلاء تلك المحطات، وقال «ص196»: إنه ارتبك في أمره وصار لا يدري كيف يفعل. وهذا أمر يفهم بالبداهة.
وعندما تعين أمين باشا مديرا لمديرية خط الاستواء أعاد احتلال قسم من هذه المحطات، ولكن لما تعين غوردون باشا حكمدارا عاما للسودان أمر بإخلائها ثانية، وفعلا نفذ الأمر، ولما زايل مركزه وتعين بدلا منه رؤوف باشا حكمدارا عاما للسودان رجع أمين باشا مرة أخرى واحتلها ولم يتركها إلا لما شبت نار الثورة المهدية، وذلك عندما أراد أن يلم شعثه ويحصر قوته المسلحة في محطات معينة.
ومن العجب أن غوردون باشا بعد أن احتل قاعدة أوغندة وكل هذه المحطات الأخرى يرجع فيخليها بعد برهة قصيرة جدا، لا سيما أن هذا الاحتلال تم بمحض موافقته وموافقة ملك هذه البلاد. ولم يكن هناك أي داع حربي يضطره إلى الإقدام على الإخلاء؛ لأن قوته العسكرية كانت باعترافه هو نفسه قد زادت عند نهاية خدمته.
ويقول في مؤلفه السابق «ص196» إنه اضطر أن يسحب جنوده من بلد أمتيزا بدون أن يذكر السبب في ذلك.
ومن رأيي أن السبب يرجع حتما إلى أن إنكلترا كانت تعارض في اتساع أملاك مصر في الجنوب مع أنه لم يكن لها في ذلك الوقت بتلك النواحي أية مصلحة، ولكنها كانت تنظر إلى المستقبل البعيد. وهذا ما يستخلص من شهادة رجل لا يمكن أن يعزى إليه الجنوح إلى أية محاباة لمصر.
وهذا الشاهد هو المحترم فلكن، وهو من المبشرين الإنكليز الذين أقاموا في أوغندة، وكان يكتب في ذلك العهد تقريبا أي عام 1879م. وهاك ما قاله في مؤلفه «أوغندة والسودان المصري ج1 ص324»:
ومما يؤسف له أنه لم يوضع حد لتعسف كباريقا ملك أونيورو واستبداده على أنه قد كان في حيز الاستطاعة الحيلولة دون هذه التعسفات وهذا الاستبداد قبل ذلك بزمن إذا لم تكن قد بدت معارضات شديدة في إنكلترا من جانب أولئك الذين يرون بعين الحسد والغيرة توسع مصر في ممتلكاتها جنوبا. ا.ه.
وأرى أن في هذا القول إيضاحا وتبيانا لكل ما التبس علينا في هذا الأمر؛ ذلك أنه لا بد أن يكون قد ورد إلى غوردون باشا بعد احتلاله تلك المناطق أمر بالتحذير من عواقب ما أقدم على عمله فبادر إلى إخلاء المحطات التي كان قد احتلها.
أما فيما يتعلق بإدارتنا للسودان فأية سيئة لم يعزوها لها، وأي نقد لم يوجهوه إليها، وأي لسان لم يسلقوها به؟! إني أربأ بنفسي عن أن أقول إنها كانت قد بلغت ذروة الكمال؛ لكنها لم تكن بالتحقيق رديئة أيضا إلى الدرجة التي صورتها بها بعض الدوائر التي لها مصلحة في أن تظهرها بهذا المظهر.
ومما لا مراء فيه أنه لم تقع في أرض ممتلكاتنا أعمال قسوة - إن لم أقل أعمال وحشية - كالتي حدثت في أراض أفريقية الخاضعة لنفوذ بعض الدول الأوربية.
ولا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا أيضا أن أغلبية الموظفين الذين كانوا يرسلون إلى السودان هم من المغضوب عليهم ومن الذين وقعت عليهم عقوبات يستوفونها هناك.
وإذا أضفنا إلى ذلك الشقات الشاسعة التي يتحتم قطعها، ووسائل النقل التي كانت في ذلك العهد والتي من شأنها أن تجعل من الصعوبة بمكان إيجاد مراقبة جدية على تلك الأرجاء القاصية البعيدة، كان لنا بحق أن ندهش لعدم حدوث مساوئ أكثر مما حدث. على أن هذه الحالة ما زالت تتحسن على مرور الأيام، فصارت تقل المفاسد تدريجيا حتى تلاشت في النهاية أو كادت.
ولكي أبرهن من جهة أخرى على أن إدارتنا لم تبلغ هذه المنزلة من الانحطاط، وأنها كانت بالأحرى أفيد للأقطار التي احتللناها فليس أمامي أكثر من أن أذكر شهادة شخصين لا يمكن أن يعزى إليهما التحيز أو المحاباة بأي وجه من الوجوه، وهما: الدكتور جونكر الروسي الذي أمضى سنين عديدة في أواسط أفريقية، والمحترم فلكن الذي أقام سنين طويلة في أوغندة، وإلى القارئ ما رواه لنا الأول والثاني:
قال الدكتور جونكر في مؤلفه «رحلة في أفريقية ج1 ص500» ما معربه:
ويرجع الفضل إلى المسلمين الذين تعزى إليهم المطاعن والمثالب في إلزام الزنوج بضرورة المعيشة في هدوء وسلام مع القبائل المجاورة لهم وبالإقامة على قدر الإمكان في دورهم وبزراعة حقولهم. وهذا العمل ينبغي أن نقدره حق قدره بدون أن نبخسه شيئا. ومما يشرف الحكومة المصرية وضع بلاد الزنوج تحت سيطرتها. وهذا الأمر مكنها من أن تفتح فيها بابا لانتشار المدنية في مستقبل الأيام، ومهما بلغ من ثقل النير الأجنبي فهو في الواقع ونفس الأمر أفضل للزنوج من حكم نفس المستبدين منهم، إذ إن حكم هؤلاء مصدر حروب لا نهاية لها يضيع في خلالها بعضهم البعض. ا.ه.
وقال المحترم فلكن في مؤلفه «أوغندة وسودان مصر ج1 ص324» ما معربه:
ويمكنني أن أقول - وأنا مطمئن الخاطر هادئ البال - عن تلك الأقطار الواقعة تحت الأحكام المصرية حيث يتولى السلطة أمين باشا - المدير الحالي لمديريات خط الاستواء - أن الأهالي يعيشون فيها في حال أرقى من التي كانوا يعيشون فيها تحت رعاية ملوكهم الهمج المستبدين. ا.ه.
وإن شهادة هذين الشاهدين كافية لدحض التهم التي وجهوها إلى إدارتنا.
وبعد فقد كانت النتيجة لاحتلالنا تلك الأقطار أن مهدنا الطريق وأعددناها - كما قال الدكتور جونكر - لانتشار المدنية في الزمن القادم، كأنما قد ألقيت على عاتقنا مهمة تمهيد طريق المدنية في ربوع أولئك القبائل المتبربرة غلاظ الأكباد وكسر صلابتهم.
فعرضنا أجسامنا لسهامهم المسممة، ووقعنا في مكامنهم المخيفة، واحتملنا وقاسينا الأخطار والآلام التي يلاقيها ممهدو سبل المدنية الأول لأجل أن يأتي غيرنا ويحتل محلنا ظلما وبكيفية غير مشروعة.
وهنا أكرر ما قاله الماجور ستيجاند الذي حكم تلك النواحي في العهد الجديد في مؤلفه «خط الاستواء» ص99 بصدد حكم الزنوج فيما بين الفترة الأولى والثانية، وهاك معربه:
كانت الأهالي في عهد الحكومة المصرية القديمة - كما يستنتج من التدابير الوقتية التي اتخذت في ذلك العهد - أكثر عددا وأحسن نظاما وترتيبا وأشد جنوحا للعداوة عن العهد الحاضر. أما الآن فمسألة الدفاع عن نقطة من النقط ضد السكان المقيمين تحت إدارتنا لا تقتضي تعبا ولا نصبا، حتى إنه يصعب أن يتصور الإنسان حالة كهذه. ا.ه.
فالأمر الوحيد الذي يمتاز علينا به خصمنا الآن ينحصر في قوته وضعفنا، وهذا الموقف يخوله أن يملي علينا إرادته ويعدها بمثابة شريعة يجب العمل بمقتضاها. غير أن هذا لا ينبغي أن يحول دون ثبات المصريين وتمسكهم بحقوقهم، ولا يجعلهم يفرطون في شيء منها حتى ولو اغتصبت منهم اغتصابا؛ لأنه لو سلك أحد منهم مسلكا مناقضا لذلك وفرط في تلك الحقوق يكون قد لوث سمعته وارتكب خيانة وطنه، واستحق السخط واللعنة من الأجيال الآتية.
وليس المطالب بذلك ولاة الأمور ومن بيدهم الحل والعقد فقط؛ بل الأمة جمعاء. نعم إننا لم نجد في الأمة إلى الآن مفرطا في حقوق مصر في السودان. ولكننا وجدنا مع الأسف الشديد أن المفرطين هم أولئك الذين يتولون مناصب الحكم، ويظنون أن بقاءهم بها متوقف على إرضاء الإنكليز، والسكوت عن حقوق مصر، والإغضاء عما يعمل في السودان وغير السودان، فيجرون البلاء على الأمة ويضيعون هذه الحقوق المقدسة العظيمة في مقابل منفعتهم الشخصية وتمتعهم بالحكم أياما معدودة، وهذا خسران ليس بعده خسران، وبيع بالوكس طالما رجعنا منه بصفقة المغبون.
وقد حدث أخيرا أن أقيمت حفلة في السودان بمناسبة انقضاء العام الحادي والعشرين على زيارة صاحبي الجلالة ملك وملكة الإنكليز له، فأرسل الحاكم العام برقية لجلالتيهما رفع بها فروض الإخلاص بالنيابة عن أهالي السودان، فجاء الرد من جلالة الملك جورج على هذه البرقية مبدوءا بهذا النص:
ليس من تحيات أشهى إلي من التحيات التي رفعتموها إلي من شعبي في السودان ... إلخ. إلخ.
وقد نشرت البرقيتين جريدة حضارة السودان بتاريخ 4 فبراير سنة 1933، ومرت بين سمع الحكومة المصرية وبصرها دون أن تحرك ساكنا أو تهتم بالأمر، مع أن هذا التصريح الخطير لم يحدث في سنة من السنين الماضية ولا في مناسبة من المناسبات الأخرى. وهي نغمة جديدة نخشى أن تجر وراءها أخطارا عظيمة.
وقد تنبهت إلى ذلك سيدة مصرية فوجدت الأمر جد خطير، ولفتت إليه أنظار بعض النواب ليسألوا الحكومة رسميا عن رأيها في هذا التصريح الجديد، وانتظرت فلم تجد شيئا من هذا، ومرت الأيام تتلوها الأيام دون أن يحتج أحد على ما جاء في هذه البرقية. وهكذا يسجل الإهمال علينا ما تستعصي معالجته، ويزداد به موقفنا في السودان غموضا، ويلقي على حقوقنا فيه حجبا كثيفة ما دمنا سائرين في هذا الإهمال.
فإذا تركنا هذه الأشياء تمر دون أن نظهر أي معارضة لها أفهمنا الإنكليز بسكوتنا عنها أننا راضون بها فيستغلون هذا الصمت على مر الأيام ليطبقوا علينا ماهو أشد وأنكى. هذا هو مقال سموه. (6) معرب مقال آخر لسمو الأمير عمر طوسون
أرسله سموه إلى رئيس تحرير جريدة التيمس في 3 يوليو سنة 1930 ردا على ما كتبه «سير رنيل رد»، واعتذرت هذه الجريدة عن نشره فيها، وها هو بعد الديباجة:
استرعت نظري منذ أيام ترجمة نشرتها الجرائد المحلية لرد سير رنيل رد على رسالتي المنشورة في عدد التيمس بتاريخ 12 يونيو، ولقد رغبت في الرد عليه، ولكني آثرت الاطلاع على الأصل الإنكليزي أولا. وهذا ما توافر لي الآن:
إنني أشكر لسير رنيل رد كلماته الرقيقة الموجهة إلى شخصي، وأرد على بيانه بما يأتي:
إني أعلم تمام العلم أن سياسة اللورد جرانفيل جاءت بعد حملة هيكس باشا، ولكن هذا لا يعني أنها لم توجد في ذهن الحكومة الإنكليزية في الوقت الذي احتل فيه الجيش البريطاني مصر. فما دامت الحكومة المصرية قد أظهرت لين العريكة والطاعة للنصائح - أو بمعنى أدق - لأوامر الحكومة البريطانية غير الرسمية، فلم تكن هناك ضرورة لجعل هذه السياسة رسمية وعلنية؛ لأن مسلكا كهذا لا يكون لزاما إلا في حالة المعارضة كالحالة التي أدت إلى استقالة شريف باشا عندما رفض الموافقة على ترك السودان.
حقيقة إن الكولونيل ستيوارت كان يرى - كما يقول سير رنيل رد - عدم الزحف على كردفان، وكان هذا هو رأي عبد القادر باشا أيضا. ومن المحزن أن هذا الرأي لم يؤخذ به ولم يتبع؛ إذ لو اتبع لما فقدت مصر السودان على الإطلاق.
وحقيقة - من الوجهة الرسمية - أيضا إن الحكومة البريطانية أعلنت أنه لم يكن لها شأن بالأعمال الحربية في السودان ولا بتعيين هيكس باشا. ولكن المظهر الرسمي للأشياء مضلل، ولا سيما في مصر لسوء الحظ. فمثلا كان اللقب الرسمي للورد كرومر «معتمد حكومة صاحب الجلالة البريطانية وقنصلها العام في مصر». ولكن كان لقبه غير الرسمي. «الحاكم المطلق لمصر» ومن كلمته قانون.
ولقد قرأت في الصحف في فرص مختلفة أسئلة تلقى في مجلس العموم على وزير الخارجية خاصة بمصر كان الجواب عليها «هذه مسألة تخص الحكومة المصرية»، فأي شخص يخدعه هذا الجواب الرسمي في حين أنه يعلم علم اليقين أن البلاد كانت - بصفة غير رسمية - تحت الحكم المطلق لقنصل إنكلترا.
فلماذا لا يكون هذا شاملا لتصريح الحكومة البريطانية الخاص بالسودان وتعيين هيكس باشا. فهو إنكار رسمي لوجود يد لها فيهما بينما هو عمل للعكس بصفة غير رسمية.
ولو كانت الحكومة الإنكليزية لا تريد شيئا من السودان فلماذا أرسلت الكولونيل ستيوارت في بعثة خاصة إلى تلك البلاد ليقدم تقريرا عن سير الأمور فيها. لم تكن هناك حاجة إلى مثل هذه البعثة لو أن التصريح كان صادقا.
أما فيما يختص بتعيين هيكس باشا فإن ما وقع هو كما يأتي:
بدأت الثورة المهدية قبل احتلال القوات البريطانية مصر، وكان عبد القادر باشا معينا حاكما عاما للسودان قبل هذا الاحتلال، وبوجود القوات المحلية تحت أمره استطاع أن يهدئ البلاد تقريبا، ولم يكن في أيدي المهدي من البلاد إلا كردفان. فلو أنه أمد بخمسة عشر ألف رجل من جيش هيكس باشا زيادة على القوات المحلية لأمكنه دون أدنى ريب أن ينتهي بحملته على الثورة على أتم نجاح.
بعد ذلك جاء الاحتلال الإنكليزي لمصر، وعلى أثره اضطرت مصر إلى استدعاء قائدها المنتصر الذي هو أحد أبنائها، والذي كان على وشك إنقاذها من إحدى الأزمات البليغة التي حاقت بها بدون حاجة إلى معونة أي عنصر أجنبي.
وحل محل القائد المصري قائد آخر إنكليزي وأركان حرب من الضباط الإنكليز. فهل يمكن جديا قبول هذه الحقائق على أنها حدثت من غير تدخل الحكومة الإنكليزية.
وبفرض أنه كان من الضروري وجود قائد إنكليزي ومعه أركان حرب من الضباط الإنكليز على رأس الجيش السوداني، فلماذا لم يفعل هذا قبل الاحتلال الإنكليزي لمصر.
والبرقيات التالية التي قرأتها في كتاب «خراب السودان» لمؤلفه هنري روسل في الصفحتين 36 و37 تؤيد وجهة نظري.
الصحيفة العاشرة في الملف رقم 197 - برقية من الجنرال هيكس إلى السير: أ. ماليت
الخرطوم في 23 يوليو سنة 1883
أرسلت اليوم إلى ديوان الجهادية استقالتي من مركزي في الجيش السوداني. ولقد فعلت ذلك وأنا متأسف، ولكني لا أستطيع القيام بأعباء حملة أخرى تحت هذه الظروف التي تشبه الظروف السابقة. سليمان باشا يقول لي إنه لا يفهم من برقية رئيس المجلس المؤرخة في 14 يوليو أنه ملزم بتنفيذ آرائي فيما يختص بنظام أو كيفية زحف أو هجوم الجيش الذي يستعد للتقدم نحو كردفان ما لم يوافق هو عليها. وهو يقول إنه لو نفذ آرائي من غير أن يوافق عليها فسيكون بذلك قد عمل في الواقع عكس التعليمات «التي صدرت إليه». ولما كانت أفكاري وأفكاره قد تضاربت في الحملة الأخيرة، وستكون أكثر من ذلك في حملة كردفان فلست بمستطيع تجاه ذلك إلا أن أستقيل. وفي الأيام الأخيرة في مناسبتين هامتين أهملت وجهات نظري.
أرجو أن يعرض الجنرال بيكر على سمو الخديوي أمر استقالتي، وأن يؤكد له أسفي لهذه الضرورة، وأبرقوا إلي بالرد.
الصحيفة الحادية عشرة في الملف رقم 197 من السير ماليت إلى الجنرال هيكس - برقية
القاهرة في 23 يوليو سنة 1883
سيستدعى سليمان باشا عند انتخاب حاكم جديد. نرجو عدم ذكر هذا إلى أن يتم رسميا، وآمل أن تكون هذه الترضية سببا في جعل واجبك أكثر سهولة عليك وأشد وضوحا. وسيكون علاء الدين قائدا اسميا.
الصحيفة الثانية عشرة في الملف رقم 297 من السير أ. ماليت إلى الجنرال هيكس - برقية
القاهرة في 27 مايو سنة 1883
تسلمنا اليوم برقيتك المؤرخة 23 الجاري، ولكني أرى عدم التعجل في استقالتك بما أن سليمان باشا سيستدعى كما ذكرت لك في برقيتي المؤرخة 23 الجاري.
فمما سبق يتضح كل الاتضاح أن البرقية الثانية أرسلت قبل تسلم الأولى.
ويقول مؤلف هذا الكتاب الذي هو بعيد كل البعد عن الترفق بالحكومة المصرية: وعلى ذلك فإنه يتضح تماما مما سبق أن سير أ. ب. ماليت قد ألقى التبعة على كاهل الحكومة المصرية، وهذا كما يظهر يدل على أن حكومة صاحبة الجلالة في هذا الوقت كانت مؤيدة للحملة المشئومة، وإلا لأشار بقبول استقالة الجنرال هيكس. ويبدو هذا المسلك مورطا لحكومة جلالة الملكة في سياسة متناقضة. فهم ينكرون على طول الخط أي مسئولية عن الأعمال في السودان، ومع ذلك يشجعون بطريق غير مباشر حملة لإخضاعه، وأظن أن في هذا الكفاية لتوكيد بياني.
وفي الختام أرد على ملاحظة سير رينل رد وهي: «إذا كان في الإمكان توجيه أي لوم إلى الحكومة الإنكليزية في ذلك الوقت، فهو من أجل أنها أصرت قبل الأوان على الانسحاب من السودان، فأقول: إنه لو تركت الحكومة المصرية وحدها في ذلك الوقت لمعالجة هذا الموقف؛ لما فقد السودان قط، ولما كانت هناك حاجة إلى إعادة فتحه.
وإني لآمل أن تجدوا متسعا لنشر هذه الرسالة في جريدتكم الغراء، واقبلوا شكري سلفا. (7) إنقاذ السودان - في كتاب القاضي بيير كرابيتس
ذكر القاضي الأمريكي كرابيتس أيضا شؤون مصر والسودان في كتابه «غوردون ومكافحة الرقيق الأبيض». حيث انتهى فيه عند مصرع غوردون في الخرطوم، وهو مؤلف كتاب «إسماعيل الخديوي المفترى عليه». وقد رد فيه على بعض ما عزي إلى الخديوي إسماعيل ردا قائما على تحليل الوقائع والموازنة بين أقوال المؤرخين. وألف أخيرا كتابه الثالث،
11
يتتبع فيه المساعي التي بذلت لاسترداد السودان وسير أحواله من سنة 1899 وما بعدها.
ويقول المؤلف: إن كتشنر الذي كان أبرز شخصية في استرداد السودان بعد كرومر ، إنما اتصل اتفاقا بالقائمين من الإنكليز على شؤون مصر. فقد كان ضابطا في القسم الهندسي في الجيش البريطاني وعهد إليه في الإشراف على مسح جزيرة قبرص، فلما نشبت ثورة عرابي، طلب إجازة مرضية وأتى إلى مصر، وكانت إجازته المرضية لا تتعدى أسبوعا، ولكن يظهر أن الضابط المهندس عجز - اتفاقا - عن اللحاق بالسفينة التي كان عليه أن يعود بها إلى قبرص. ويظهر أنه في خلال إقامته بالإسكندرية اتصل بأحد ضباط «الاستخبارات العسكرية» فلما تأخر عن عودته إلى قبرص أبرق أميرال الأسطول البريطاني إلى حاكم قبرص يطلب تمديد إجازة كتشنر فرفض هذا طلب الأميرال مصرا على وجوب احترام النظام. فكتشنر عاد إلى قبرص، ثم جاء إلى الحاكم طلب من الجنرال ولزلي من مصر يطلب فيه أن يسمح له بكتشنر وكذلك كان. ومن محاسن الصدف أن كتشنر كان مهندسا. فإن الحملة التي جردت لاسترداد السودان كانت تحتاج إلى عمل مهندس ينظم لها جميع وسائل التقدم ويكفل لها أسباب الشرب والغذاء والوقاية من الأمراض.
وقال في فصل عنوانه «تمويل الحملة»: لما تقرر إيفاد الحملة لاسترداد السودان نشأت مسألة المال الذي ينتظر إنفاقه في هذا السبيل. فلندن ذهبت إلى أن استرداد السودان مسألة مصرية بحتة، وأنه من العدل أن تنهض الخزانة المصرية بالنفقات المطلوبة، وأن ذلك في وسعها. ولكن يظهر أن لندن لم تلتفت حينئذ إلى أن مفتاح الخزانة المصرية، كان في أيدي لجنة دولية هي لجنة صندوق الدين. هنا نشأ صراع بين لورد كرومر وطائفة من أعضاء صندوق الدين على مسألة استعمال جانب من مال الحكومة المصرية في تمويل حملة السودان؛ ذلك أنه بعدما قر القرار على «حملة دنقلة» طلب من صندوق الدين أن يمنح 500 ألف جنيه من الاحتياطي العام لهذا الغرض فأقر الصندوق ذلك باتفاق أربعة أصوات على صوتين، وكان المعارضان مندوبي فرنسا وروسيا، فأقاما قضية في محكمة مصر المختلطة.
ثم ذكر المؤلف تفصيل الاتفاق على حكم السودان حكما ثنائيا باسم سمو خديوي مصر، ثم بعد مصرع السردار سنة 1924 والسعي لوضع اتفاق خاص بمياه النيل ومواد ذلك الاتفاق من ناحيتيها النظرية والعملية، ورأي الخبراء فيها باسطا وجهة نظر مصر في مسألة السودان بسطا شافيا، وكذلك وجهة النظر البريطانية: وفي آخر الكتاب ثلاثة فصول في السودان وزراعة القطن فيها، قال: إن هذه الزراعة غير ناجحة، وإن العامل الفاصل في مستقبل السودان، من ناحية بريطانيا، هو مستقبل مشروع الجزيرة. فهل يستأهل هذا المشروع كل هذا العناء؟ هل هو جدير بتأخير الاتفاق مع مصر على حسابه؟ يقول القاضي كرابيتس أخيرا في كتابه كلمة وردت في رسالة غوردون إلى أخته أن «السودان لن يكون من الوجهة العملية البريطانية عملا رابحا». (8) السودان: بقلم صاحب الدولة حسين باشا رشدي
12 (8-1) السودان حياة مصر
إنما السودان لهو الحياة بذاتها لمصر؛ لأنه منبع النيل. ومصر هي التي فتحت السودان في الأصل ولم تضن في هذا السبيل بأية تضحية بالرجال أو بالمال. وهذا الفتح بدأ على عهد محمد علي، وتم على عهد إسماعيل الذي ضم مناطق البحيرات الكبرى حتى منابع النيل وبحر الغزال وخط الاستواء، ثم سواحل البحر الأحمر حتى رأس غردفوي. وجعل الأوغندا تحت حماية مصر. ونال من الباب العالي إدارة سواكن وزيلع وملحقاتها، واتخذ لنفسه لقب خديوي مصر وصاحب نوبيا ودارفور وكردوفان وسنار. واعترفت الفرمانات السلطانية التركية لمصر بامتلاك هذه الأقاليم السودانية، واعترفت الدول بهذه الفرمانات ذاتها.
وفي سنة 1885، جلت الحكومة المصرية، تحت ضغط الحكومة الإنكليزية، عن أكثر هذه الأقاليم السودانية. ولكنها خرجت منها على نية العودة إليها ومع العزم الأكيد على احتلالها ثانية عند سنوح أول فرصة ملائمة. وهذا العزم واضح كل الوضوح من المستندات الرسمية المصرية، فوزارة شريف باشا فضلت الاستعفاء على قبول ترك السودان ولو تركا موقوتا.
وفي 9 ديسمبر 1894 أرسل رياض باشا إلى السير إيفلن بارنج مذكرة قال فيها:
لا يستطيع أي إنسان أن ينازع في أن النيل هو حياة مصر. وهذه حقيقة واضحة كل الوضوح لا تحتاج إلى مناقشة. وحيث إن النيل هو السودان فلا جدال في أن العلاقات والروابط التي تربط مصر بالسودان لا يمكن أن تقبل أي انفصال. وما مثلها في هذا التماسك إلا كمثل العلاقة التي تربط الروح بالجسد، وإذا تمكنت دولة من الاستيلاء على منابع النيل فإن هذا الاستيلاء يكون بمثابة حكم الإعدام على مصر.
فمن هذا كله يتبادر إذن إلى كل ذهن أن حكومة سمو الخديوي لا ترضى قط بحال من الأحوال باختيارها وبدون أن تكون مكرهة إكراها بمثل هذا التهجم على وجودها.
13
وفي الكتاب الأزرق الذي أصدره اللورد سالسبوري سنة 1898 عن مسألة فاشودة كتاب من بطرس باشا غالي وزير الخديوي قال فيه:
إن حكومة الخديوي - كما تعرف سيادتكم - لم يغب عن نظرها في حين من الأحيان العودة إلى استئناف احتلال الإقليم السودانية التي هي مصدر الحياة ذاتها لمصر. ومصر لم تنسحب من تلك الأقاليم إلا عقيب ظروف قوة قاهرة، وإن استعادة الخرطوم تفقد الغاية منها إذا لم يعد إلى مصر وادي النيل الذي ضحت مصر في سبيله الضحايا العظيمة.
ولمعرفة الحكومة المصرية أن مسألة فاشودة في هذا الأوان هي موضوع المكالمة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فهي «الحكومة المصرية» تكل إلي أن أطلب من سيادتكم أن تتفضلوا بحسن الوساطة لدى اللورد سالسبوري ليتم الاعتراف لمصر بحقوقها التي لا تقبل نزاعا، ولكي تعاد إليها الأقاليم التي كانت تحتلها حتى قيام ثورة محمد أحمد.
14
هذا وفي نظر أوربا ذاتها لم تفتأ تلك الأقاليم السودانية - التي تركت تركا موقوتا - معتبرة مصرية.
وإنا لنورد دليلا على صحة ذلك تصريحات عظماء الإنكليز ذاتهم بصدد حادثة فاشودة والمعاهد الإنكليزية الطليانية 1891-1894. (1)
في 12 أكتوبر 1898 صرح اللورد سالسبوري لسفير فرنسا «أن وادي النيل كان - ولا يزال - ملكا لمصر. وأن جميع العوائق وكل الانتقاص الذي أحدثه فتح المهدي وإخلاله في صفة هذه الملكية، قد زال بفعل انتصار الجيش الإنكليزي المصري في أم درمان.
15 (2)
قال اللورد روزبري في خطاب ألقاه في أبسون في 12 أكتوبر 1898: «نحن نعمل الآن لنرجع إلى مصر ما يؤلف - حسب تصريحات جميع الوزارات الفرنساوية - أرضا مصرية.
16 (3)
وأثبت اللورد كمبرلي في مأدبة أقيمت إكراما للورد كتشنر ما يلي:
أن الجلاء عن فاشودة لا يمكن أن يمس كرامة فرنسا؛ لأن الحكومة الفرنساوية ذاتها صرحت بأن الأراضي المختلف عليها هي ملك مصر.
17
ومن جهة أخرى أن البند الثاني من الاتفاق الإنكليزي الطلياني المبرم سنة 1891 و1894 نص فيه:
يكون للحكومة الطليانية في حالة اضطرارها للعمل قياما بحاجة موقفها العسكري أن تقبل كسلة والإقليم الملاصق لها حتى الأتبرة. إلا أنه يكون معروفا لدى الحكومتين أن كل احتلال عسكري مؤقت للأراضي الإضافية المعينة بهذا البند لا يلغي حقوق الحكومة المصرية على تلك الأراضي، فهذه الحقوق تظل موقوفة فقط إلى أن تتمكن الحكومة المصرية من استئناف احتلال المنطقة المشار إليها.
وعندما استعادت مصر الأقاليم السودانية التي كانت قد تركتها وقتيا عاونتها إنكلترا في ذلك ولكن:
أولا:
إن استعادة تلك الأقاليم تمت على حساب مصر وباسمها، وكانت إنكلترا تعمل بمعاونتها بوصف أنها حليفة بالواقع لمصر. وهذا ما يستنتج استنتاجا مقطوعا به من التصريحات المذكورة آنفا، ثم إن اللورد كتشنر - قائد الجيش المصري - صرح للقومندان مارشان في فاشودة بقوله: «إن التعليمات التي تلقاها تقضي بأن يعيد بسط «السلطة المصرية» على مديرية فاشودة، وأنه يحتج على رفع العلم الفرنساوي على «أملاك سمو الخديوي».
ثم كتب إليه بعد ذلك:
يجب علي أن أبلغك أني وقد رفعت اليوم العلم المصري على فاشودة بأن حكم هذه البلاد قد استعادته مصر ليدها نهائيا «راجع تقرير اللورد كرومر السنة الثالثة 1898.
الثاني:
إن القوات العسكرية التي استخدمت للاستعادة قد كانت من جانب المصريين 25 ألفا. أما التي كانت من جانب الإنكليز فقد كانت من بادئ الأمر 800 جندي، ولم يتجاوز عددها ألفي جندي.
الثالث:
إن نفقات الاستعادة 2400000 جنيه دفعت مصر ثلثيها. وإذا كانت إنكلترا قد تحملت الثلث فالخطأ ليس خطأ مصر ولكنه ناشئ من معارضة صندوق الدين التحكمية.
الرابع:
أن مصر وحدها دفعت منذ استعادة السودان نفقات الأعمال والمشروعات ما عدا خزان مكوار فبلغ ما أنفقته نحو 5600000 جنيه، ومصر وحدها هي التي دفعت العجز المتوالي في ميزانية السودان، فبلغ ما دفعته في هذا السبيل 5350000 جنيه.
الخامس:
منذ استعادة السودان تنفق مصر على عشرة آلاف جندي مصري في السودان للدفاع في الخارج ولمنع كل ثورة في الداخل، فتحملت مصر من وراء ذلك إنفاق 13 مليون جنيه، مع أن القوة الإنكليزية في السودان نحو ألف رجل لم تزد النفقة عليهم على مليوني جنيه.
إن مصر تحملت في سبيل السودان نفقة مالية كبيرة جدا كما تدل سجلات الحسابات، وقد تحملت هذه الأعباء رغم الديون المتراكمة عليها ، ورغم شدة حاجتها إلى الأموال لتقوم بالأعمال العمومية، لا سيما أعمال الري التي يحول بها ري الحياض إلى ري دائم، وقد كان بالإمكان إصلاح مليوني فدان لا تزرع الآن بنصف الأموال التي أنفقتها. •••
فالاستنتاج الطبيعي المعقول من كل ما تقدم هو أنه يجب اعتبار السودان جزءا من مصر لا يقبل التجزئة، حتى إن اتفاق 1899 ذاته لا يعارض ذلك؛ فإن ذلك الاتفاق يشرك إنكلترا مع مصر لا في السيادة على السودان، بل في الإدارة. وإذا كان العلم الإنكليزي قد ظل يخفق على السودان إلى جانب العلم المصري فمرجع ذلك إلى الاهتمام باتقاء العراقيل التي تنجم عن تنفيذ حكم الامتيازات هناك فتحول دون تقدم تلك البلاد.
وفي الواقع إن اتفاق 1899 قد تضمن ما نصه «من حيث إنه صار لازما اختيار طريقة للإدارة وسن قوانين للأقاليم المستعادة المذكورة»، وزاد على ما تقدم قوله: «ومن حيث إنه ظاهر ولأسباب عديدة يمكن أن تدار وادي حلفا وسواكن إدارة أفعل إذا ضمتا إلى الأقاليم المستعادة»، وبالفعل تم ضم حلفا وسواكن إلى الأقاليم المستعادة؛ حتى يكون الجميع خاضعا لنظام الحكم الذي قرره الاتفاق.
وهذه وادي حلفا، وهذه سواكن لم تجل عنها الجنود المصرية قط فضمهما إلى الأقاليم المستعادة يثبت أن ذلك الاتفاق ما كان يرمي إلا إلى الوجهة الإدارية، ولم يكن الغرض منه أن يخرج السودان من السيادة المصرية.
وتأييدا لهذا الإيضاح لاتفاق 1899 نستعين بحكم اللورد كرومر الذي هو بلا شك أصدق مفسر له؛ لأنه هو الذي وضعه، فإليك ما يراه القارئ في تقريريه لعام 1901 و1903.
ففي تقرير 1901 ما نصه:
ألاحظ في أعمال مجلس شورى القوانين الخاصة بالاعتمادات قوله: «إن المجلس يصادق على المصروفات المقترحة للسودان لأنه يعد السودان جزءا لا ينفصل عن مصر»، وهذا الرأي صحيح في الحقيقة؛ فإن نظام الحكم السياسي في السودان مقيد على كل حال بالاتفاق المعقود بين بريطانيا العظمى ومصر وموقع عليه في 19 يناير سنة 1899. ولما كان من المحتمل أن بعض أعضاء مجلس الشورى غير ملمين تمام الإلمام بفحوى ذلك الاتفاق فإني أنتهز هذه الفرصة لأبين أنه لم تكن هنالك نية أو رغبة عند صوغه في انتقاص حقوق مصر الشرعية. فقد كانت الأغراض الأساسية التي رمى إليها واضعو ذلك الاتفاق هي أولا ضمانة وجود حكومة صالحة للأمة السودانية، وثانيا اتقاء الارتباكات الخصوصية التي أوجدها أسلوب الحكم الدولي بمصر في السودان.
وفي تقرير 1903 قوله:
لقد سئلت أحيانا: لماذا لا تتحمل الخزانة البريطانية قسما من نفقات الإدارة في السودان ما دامت الراية البريطانية تخفق إلى جانب الراية المصرية على ربوعه؟ وهو سؤال طبيعي، ولكن الإجابة عليه سهلة جدا على جميع الواقفين على تاريخ اتفاق 19 يناير سنة 1899 الذي بموجب نصوصه أوجدت للسودان حالة سياسية خاصة. وذلك أن حكومته شكلت لغرض صريح، وهو إنقاذ السودان - وبناء على ذلك إنقاذ مصر - عند حكمها تلك المديريات من جميع تلك الأوضاع الدولية المعرقلة التي لها النصيب الأوفر في تعقيد الإدارة في مصر، ولولا هذا الاعتبار لما كان لرفع الراية البريطانية على الخرطوم - من وجهة النظر البريطانية - من سبب أدعى إلى رفعها على أسوان أو طنطا.
وفوق كل ما تقدم كيف كان بالإمكان أن يشرك اتفاق 1899 إنكلترا مع مصر في السيادة على السودان؟ فليس إرسال بعض الجنود الذين لم يتجاوز عددهم الألفين ولا إنفاق بعض المال القليل مما يسوغ مثل هذه الشركة. فإذا كان العون الاختياري يخول من ذاته حقا ما، فإن الواجب أن يكون لمصر حق في سوريا وفلسطين؛ لأنه بفضل رجال مصر وسككها الحديدية وموانيها وإمدادها الجيش الإنكليزي بالأكل والماء والمعدات من كل نوع سهل فتح تلك البلاد، وأنفقت مصر أكثر من أربعة ملايين جنيه من المال فوق الفرق في أثمان ما جمعه الجيش الإنكليزي، حتى إن هذا الفرق بلغ في القطن وحده الملايين دون حسبان الحبوب من كل صنف والمواشي التي نقصت الثلث مدة الحرب.
وقد اعترف المارشال اللنبي بقيمة المساعدة المصرية إبان حملة فلسطين وسوريا، وورد في تقرير اللورد ملنر قوله: «ليس من العدل إلا أن نذكر الخدمات التي أداها فيلق المتطوعة المصرية، فإن قيمتها كانت فوق التقدير، ولم تكن عنها مندوحة لفتح فلسطين.
إنه كان لمصر على إنكلترا دين أدبي لتساعدها على استعادة السودان. أو لم يكن إخلاء السودان بفعل ضغطها على مصر؟ ألم تكن إنكلترا بمثابة القيمة على مصر؟
فقد قال السير إدوارد غراي أمام مجلس النواب الإنكليزي في 28 مارس 1895: «إن إنكلترا تشغل من وجهة الدفاع عن مصالح مصر المركز الخالص للقيم، فمطالب مصر لم نسلم بها نحن وحدنا، بل سلمت بها أيضا وأثبتتها كل الثبوت الحكومة الفرنساوية.» •••
وفضلا عن أن النيل هو رباط الحياة بين القطرين، فإن هناك اعتبارات اقتصادية تربط السودان بمصر.
فالسودان بلاد لا تزال بكرا، وتجارته معدة للنمو، وحاصلاته للزيادة بسرعة؛ نظرا لسعة أراضيه وخصبها. فإذا كان له منفذ إلى البحر في پور سودان؛ فإن هذا الميناء لا يستطيع وحده تصريف تجارة هذه البلد عندما تنال بعض التقدم.
وفي مصر سيمر دائما شطر كبير من بضائع السودان، لا سيما إذا بدت المزاحمة في تجارة تلك البلاد، فإنه حينئذ تفضل الطريق الأخصر. وأكبر شطر من اتجار السودان هو الآن مع مصر. وسيظل دائما كذلك، ومصر هي في العالم من البلاد التي يزدحم سكانها، وهؤلاء السكان يزيدون زيادة سريعة، وقد أخذت أرضها تعجز عن أن تكفي هؤلاء السكان، وبعد بضع سنين تصبح هذه المسألة من المسائل الاجتماعية المتحرجة التي يقضى على السلالة الآتية حلها، فليس في الأرض مكان معد بذاته لقبول زيادة السكان في مصر غير السودان، فهو بلاد متاخمة لمصر وبلاد زراعية بحتة ومتصلة بمصر بروابط من كل نوع.
ومن جهة أخرى إن من المبدأ المسلم به من الجميع الآن، والذي كان مرشدا وهاديا لسياسة الإنسانية بعد الحرب الكبرى مبدأ الجنسية المنحصر في تأليف وحدات سياسية من الطوائف المتجمعة إذا كانت من عنصر واحد. وهذا المبدأ ينطبق على مصر والسودان؛ لأن غالبية السودان من العنصر العربي يتكلم لغة المصريين وله دين غالبيتهم ومتخلق بأخلاقهم. (8-2) بحث في حالة السودان السياسية: بقلم صاحب الدولة حسين رشدي باشا
إن اتفاق1899 - بين الحكومة المصرية والحكومة الإنكليزية - هو اتفاق في نظر المصريين باطل وفي نظر الإنكليز صحيح ترتبط مصر بأحكامه.
وتستند حجة المصريين في بطلانه إلى أن تركيا لم تقر ذلك الاتفاق. ثم يزيدون على ما تقدم: أن مصر ذاتها لم تقره برضاها ولم تسلم به إلا مكرهة مقسورة بقوة إنكلترا.
ويرد الإنكليز على هذه الحجة بأن اتفاق 1899 يربط مصر لأنها وقعته وإن لم تكن تركيا قد سلمت به. أما مسألة عدم تسليم تركيا فكل ما يقال فيه من الوجهة المصرية أن مصر تعاقدت على ملك الغير وفي هذه الحالة لا يكون للمغتصب - أي مصر - حق إنكار عقد التعاهد، بل إن هذا الحق لصاحب الحق المغتصب وهي تركيا. ويزيد في نقصان تمسك مصر ببطلان اتفاق 1899 أن عقد الاغتصاب الذي وقعته قد تأيد بعدول تركيا عن ادعاء أي حق لها على مصر.
وإذا كانت معاهدة سيفر لا تزال قيد التعديل فإن من المأثور أن التعديل المطلوب فيها يرمي إلى وجوه أخرى غير ذلك العدول عن حقها في مصر، وهو العدول الذي صار نهائيا.
أما الزعم بانفلات مصر من روابط اتفاق 1899 بحجة أن رضاها به كان مشوبا ومشوها بقوة الإكراه من جانب إنكلترا إكراها لم يكن بالإمكان دفعه، فهو ملابسة بين مبادئ الحق المدني ومبادئ الحق العام. وهذه معاهدات الصلح التي أكره المغلوبون على توقيعها بقوة الحديد والنار هل يجوز لهؤلاء ألا يحترموا أحكامها؟
والذي نعتقده نحن أن اتفاق 1899 لا يربط مصر للأسباب الآتية:
أن السبب الذي دعا إلى إبرام هذا الاتفاق هو الاهتمام بمنع تنفيذ الامتيازات في السودان، ووقاية مصر ولو في هذا الشطر من الأراضي المصرية من مساس نظام الامتيازات بسيادتها.
فهذا الاتفاق إذن قد عقد لمصلحة مصر لا لمصلحة إنكلترا، وفي الواقع إن إنكلترا لم يكن لها في ذاك الحين أية مصلحة خاصة من وراء ذلك الاتفاق؛ لأنها كانت تحكم مصر ذاتها.
فأية حاجة كانت بها لأن تبرم مع مصر اتفاقا يخولها إدارة السودان؟ فهل هي كانت تلقى من الحكومة المصرية مقاومة لا ترد وهي التي استطاعت أن تكره حكومة مصر على إخلاء السودان رغم إرادتها. لو أنها طلبت من الحكومة المصرية بقطع النظر عن كل اتفاق - وأمامنا السابقة في مسألة غوردون - أن تسلم حكم السودان إلى حاكم عام حتى ولو كان إنكليزيا تختاره إنكلترا وله السلطة المخولة الآن للحاكم العام؟ سؤال لا يجاب عليه بغير «لا».
إن تلغراف غرانفيل المشهور جعل للمشورة الإنكليزية صبغة الأمر، وجعل موقف الحكومة المصرية بين أمرين: إما الخضوع وإما الاستعفاء.
وكما أنه ليس ما يمنع أي شخص تعاقد مع آخر على مصلحة له من أن يتنازل عن تلك المصلحة، فكذلك مصر لا يمنعها مانع قانونا عن أن تعدل عن اتفاق 1899 إذا هي ارتضت أن تتحمل في السودان نظام الامتيازات أو أي نظام يقوم مقامه.
وهذا اللورد كرومر يعترف صريحا بتقريره عن الاتفاق بأن الغرض الوحيد منه هو إنقاذ مصر في السودان من عراقيل الامتيازات. نعم إنه أضاف إلى هذا الغرض غرضا آخر جعله في المقام الأول، وهو ضمانة الإدارة الحسنة لأهالي السودان، ولكن هذا لا ينقض بوجه من الوجوه مذهبنا.
هل النظام الأساسي النافذ في السودان بمقتضى اتفاق سنة 1899، أو بعبارة أخرى هل الحكم الإنكليزي المصري المزدوج هناك، يجعل لمصلحة السودان حقا مكتسبا تجاه مصر؟! إنهم إذا قالوا ذلك كان جوابنا القاطع: ليس للسودان شخصية ممتازة عن مصر. وإذا كانت له شخصية ممتازة فمصر لم تتعاقد مع السودان، ولكن ما الفائدة من الوقوف أمام هذه الافتراضات؟ فلنجابه الحقيقة وجها لوجه. والحقيقة هي - كما قلنا - أنه ليست للسودان شخصية خارجة أو منفصلة عن شخصية مصر. ومن هنا تنجم الاستحالة القانونية على السودان بأن يكتسب حقوقا تجاه مصر.
لقد قلنا ونكرر هنا القول: إن اتفاق 1899 لا يربط مصر من الوجهة القانونية، ولكن إذا وصلنا إلى العمل نجد أن مفاوضينا سيصطدمون بمقاومة شديدة من جانب إنكلترا العاضة بكل نواجذها على ذلك الاتفاق. وهذه الأموال الإنكليزية قد استخدمت - أو هي على وشك الاستخدام - في السودان، ومجال العمل الواسع في السودان - وهو بلاد خصبة لم تستثمر حتى الآن - ليتجلى أمام أصحاب الأعمال من الإنكليز، وخطأ الرأي العام الإنكليزي الذي يعتبر نصف السودان - إن لم نقل السودان كله - ملكا إنكليزيا، واهتمام الإنكليز بإنجاز الخط الحديدي الممتد من رأس الرجاء الصالح.
هذه كلها عوامل تحمل الحكومة الإنكليزية على أن تتفانى بالتمسك بذلك الاتفاق. فإذا فرضنا أنا توصلنا غدا إلى الاتفاق المرضي مع الإنكليز على التحفظات التي وردت في «التصريح لمصر» ولم يبق من وجه للخلاف إلا على السودان، فهل يقطع مفاوضونا المفاوضات من أجل ذلك؟
إن الجواب على هذا السؤال الخطير في مثل هذه الحالة يكون من حق البلاد، وبعبارة أخرى إنه يكون من شأن نواب الأمة الذين تستشيرهم الحكومة. ولكن إذا هم عقدوا العزيمة على أن لا يقبلوا في المسألة هوادة فلا يجوز بحال من الأحوال أن يكون مآل الحل جعل مركز مصر أدنى من المركز الذي يكون لها حسب اقتراح خطر لنا وكان في العزم نشره لولا حب التفادي عن ذلك الآن ولولا تساؤلنا: أليس الأفضل سياسيا الاحتفاظ بتبليغ هذا الاقتراح إلى المصريين وحدهم، لا سيما ممثلي الأمة ونوابها، وللحكومة وللمفاوضين في المستقبل.
وبمناسبة ذكر التحفظات الإنكليزية غير مسألة السودان نذكر عرضا أن لجنة الدستور الفرعية قد أزالت كل سبب كان يدعو إلى وجود واحد من تلك التحفظات، وهو تحفظ يمس مساسا خطيرا بالاستقلال؛ لأن أقل ما يرمي إليه تثبيت سيادة إنكلترا على مصر - ونعني بذلك: التحفظ الخاص بحماية الأقليات.
فإن تلك اللجنة - إذا صح ما لدينا من المعلومات - قد قررت أن تدمج في الدستور المصري المبادئ المسماة «بضمانات الأقليات »، وأعلنت عدم إمكان المساس بتلك المبادئ. فحماية الأقليات تكون مضمونة في نظام البلاد الأساسي والغرض الذي يرمي إليه التحفظ المحكي عنه قد أصبح محققا. وسيكون المفوضون المصريون - والحالة هذه - في أحسن مركز لإبعاد هذا التحفظ الممقوت إبعادا تاما، لا سيما وأنه يعد مطلبا جديدا من جانب الإنكليز؛ لأننا نعرف من مصدر موثوق به أنه لم يصدر مطلقا من المفوضين الإنكليز في خلال مفاوضات الصيف الماضي ما يؤخذ منه طلب اعتراف مصر لإنكلترا بحق حماية الأقليات بمصر. ا.ه.
معمل أبحاث سير لي ستاك باشا، الذي أنشئ بالخرطوم تخليدا لذكراه.
هوامش
الفصل السادس
بعد استعادة السودان
(1) منشور الحاكم العام لخاصة السودان وعامتهم «الحمد لله المحيط علما بكل شيء. وبعد فإن سمو الأمير خديوي مصر «عباس باشا حلمي الثاني» - حرسه الله - قد اختارني لأن أكون سردارا لجيشه وحاكما عاما للأقطار السودانية بعد اتفاقه مع دولة بريطانيا العظمى على ذلك، فعهد إلي في رئاسة الجيش وإدارة شؤون السودان وساكنيه، فلبيت الدعوة الشريفة، وحمدت الله على حسن عنايته والأمير على حسن ظنه وجميل ثقته، وعاهدت الخالق الذي بيده نفسي ونفوسكم أن أراقبه فيكم، وأنصح في خدمة الأمير، ولا أترك بابا يأتيكم منه الخير إلا فتحته، ولا منفذا يأتيكم منه الشر إلا سددته، وأن أشيد بيدي أركان العدل بينكم، وأنشر لواء الإنصاف فوق رؤوسكم، وأسأل الله أن يلهمني الصواب في أعمالي، ويعصمني من الخطأ والزلل، ويرشدني إلى انتقاء الأمناء من العمال والحكام لتتم رغائبي في الإصلاح ورغائبكم في النجاح.
ولما كان من الفروض الأولية أن أبلغكم إرادتي، وأنشر بينكم رغبتي، عمدت إلى إذاعة هذا المنشور فجعلته باكورة أعمالي؛ لتعلموا منه الغرض الذي أرمي إليه، والطريق التي أريد أن تسلكوا فيها.
اعلموا أن أساس الملك هو العدل، ولهذا لم تقم للسودان قائمة؛ لأن ملكه تأسس على الجور والاعتساف، واغتصاب الحقوق، وظلم الرعية، وانحراف الحكام عن جادة العدل، واتباعهم طرق الغواية والضلال، وعدم مراقبة الله، وترك الرفق بالعمل.
فأراد الله أن يسبغ عليكم رحمته بعد ذلك العذاب ، فأزال أولئك الظلام، ومحا أثرهم، وقوض ملكهم؛ فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، وخلف بعدهم رجالا ملأ قلوبهم رفقا وعدلا وهم حكامكم الآن. فأخلصوا لهم الطاعة ليخلصوا لكم العمل، وتيقنوا أنكم كالجسد وهم كالرأس، فلا يصلح الجسد إلا بصلاح الرأس، ولا يصلح الرأس إلا بصلاح الجسد.
ولقد صرفت عنايتي إلى انتخاب الحكام الأكفاء، وأمرتهم بالرفق وتنفيذ الأوامر العادلة التي أصدرها لخيركم وخير بلادكم، فعليكم بطاعتهم؛ لأن طاعتهم هي طاعتي، ومن عصاهم فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى أولي الأمر، ومن فعل ذلك فقد أغضب الله.
وإني أشهد الله أن من رأيت به اعوجاجا من هؤلاء الحكام قومته بسيف العدل. كما أني أشهد الله أن من رأيته منكم مخالفا أو مخاصما من غير حق رميت به إلى أقصى درجات العقاب ليصلح الرأس والجسد معا.
وقد بدأت بتشييد مساجدكم وإقامة شعائر دينكم المقدسة، وتسهيل طريق الحج إلى بيت الله الحرام. بعد أن حال بينكم وبينه أولئك الطغاة العصاة الذين استأصل الله شأفتهم.
فإذا تم ذلك عمدت إلى التجارة، فأوسعت لكم ميدانها، وأجريت لكم سيول خيراتها، وأرضعتكم لبانة ربحها، وفعلت كل ما تسمح به حالة الحكومة من تعديل ضرائبها وضرائب الأطيان، وأجر النقل في السكك الحديدية والمراسلات البريدية والتلغرافية، هذا مع السعي في توسيع نطاق ثروتكم لترتعوا في بحبوحة الراحة والأمن، وتذوقوا حلاوة العدل، وتنسوا مرارة الظلم السابق.
فإياكم ومخالفتي ومخالفة حكامكم، واعلموا أني بقدر ما أكون شفوقا لينا مع ذي الاستقامة منكم، أكون صارما شديدا على من يخالف أوامري ويعمل على إبطالها.
فطهروا قلوبكم وأخلصوا سرائركم، وضعوا ثقتكم بي والحكام الذين وليتهم عليكم، وانزعوا من نفوسكم الغل والضغائن، وانبذوا كل من كان مفسدا للعقائد عاملا على خراب البلاد مثيرا للفتن مسببا للقلاقل، فلقد بينت لكم طريق الهدى.
والله المسؤول أن يكون لي عونا على تنفيذ إرادة سمو الخديوي المعظم، وأن يمتعكم بالراحة والأمن والسعادة في ظل سموه. هذا وقد صفحت الحكومتان المصرية والإنكليزية، وصفح سموه، وصفحت عن سالف أعمالكم. فلا نؤاخذكم بما فات . ولي الأمل أن لا يفرط منكم بعد ما فرط من قبل، والسلام.»
تحريرا في أم درمان في 28 فبراير سنة 1900.
الموافق 28 شوال سنة 1317 (ونجت)
سردار الجيش المصري
وحاكم السودان العام (2) الموظفون بعد استعادة السودان
جعل كبار الموظفين ورؤساء المصالح والقضاة المدنيون والمديرون والمفتشون من الإنكليز.
وعين نفر من السوريين والمصريين في وظائف الترجمة والحسابات والسكرتاريات ووظائف الكتاب والباشكتاب أمثال سعيد شقير بك «باشا» مدير حسابات السودان، وطنوس شحادة في إدارة المخابرات، ورفائيل خليل، وأمين حداد، وفرج شحادة، ودلين زلال، وسليم مشعلاني، وسليم شميل، وصموئيل عطية «بك»، ونجيب كاتبة، ونسيب فيليبيدس.
ومن الأقباط شاهين جرجس بك سكرتير عربي السردار، وروفائيل خليل، وواصف جرجس، وقديس عبد الملك.
ومن المسلمين؛ الشيخ محمد شاكر قاضي قضاة السودان، والشيخ محمد هارون مفتش المحاكم الشرعية، وأحمد هدايت سكرتير مدير المعارف بالخرطوم. (3) حادث الحدود بين الخديوي وكتشنر باشا
اشتهر حادث سياسي خطير باسم حادث الحدود، ونذكره فيما يلي:
كان الخديوي عباس حلمي الثاني يثق بالمرحوم محمد ماهر باشا - وكيل الحربية وقتئذ وهو والد معالي علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي والدكتور محمود ماهر بك والدكتور أحمد ماهر عضو الوفد المصري والدكتور أمين ماهر - ثقة كبرى لحبه للوطن حبا جما. وكان هذا الحب يحمله على التألم من كل حادث يقع في الحربية يخالف مصلحة النظام العسكري. وكان كثير الاجتماع يومئذ بالخديوي. ثم إن الخديوي كان يجهر بانتقاداته في كل ما يراه مخالفا لمصلحة البلاد، سواء في شؤون الحربية أم غيرها. وفي ذات ليلة قال الخديو على مائدة الطعام: «سيرى السردار مني درسا قاسيا في الحدود.» فوشى به أحد الذين حضروا تناول الطعام على المائدة الخديوية عند كتشنر باشا سردار الجيش في ذاك الوقت.
فدبر الإنكليز أمرهم وانتظروا ما يأتي به الغد القريب، لا سيما وأن الخديوي كان عازما على زيارة الحدود وتفقد فرق الجيش المصري هناك.
وفي مساء يوم 9 يناير سنة 1894 سافر الخديوي عباس وفي معيته المرحوم ماهر باشا الذي كان الإنكليز يعدونه عدوا لهم. وهناك استعرض الجنود وأبدى ملاحظته على ما رآه بالأورطة الثانية على مسمع من الضباط الإنكليز؛ مما جعل كتشنر باشا يبلغ الخديوي بأن الضباط الإنكليز متذمرون من هذه الملاحظات العلنية على بعضهم، ويعدونها إهانة لهم جميعا، وأنهم عازمون على الاستقالة، ولا يسعه إلا عرض الأمر على قائد جيش الاحتلال والمعتمد الإنكليزي في مصر. فأفهمه الخديوي أن ما لاحظه على الجيش المصري هو حق له، وأن هؤلاء الضباط ليسوا في خدمته غير ضباط مصريين، وأنه لم يرد إهانة ضباط إنكليز قط. فتظاهر كتشنر باشا أمام الخديوي بالاقتناع وبعدول الضباط عن الاستقالة وبعدم إبلاغ هذه الحادثة إلى المعتمد الإنكليزي وقائد جيش الاحتلال. وعندئذ لم يهتم الخديوي بتبليغ حكومته ما جرى بينه وبين السردار. ولكن هذا كان قد أبلغها إلى المعتمد الإنكليزي الذي تحادث مع وزارة الخارجية. ولم يشعر المرحوم رياض باشا - رئيس الوزارة - الذي لم يحط علما بالأمر إلا والمعتمد الإنكليزي قد جاء بمطالب ثلاثة: (1)
ترضية الجناب العالي الخديوي للضباط الإنكليز ترضية رسمية بثنائه على نظام الجيش وضباطه قبل وصوله إلى العاصمة. (2)
عزل ماهر باشا من وكالة الحربية حالا. (3)
اعتبار الضباط الإنكليز الذين في الجيش المصري تابعين لجيش الاحتلال، وأن تناط الملاحظات عليهم بالقائد العام لذلك الجيش.
بوغت رياض باشا بهذه المطالب التي أصر يومئذ السير إفلن بارنج على إجابتها بلا تحوير وقبل وصول الخديوي إلى العاصمة. فما كان من المرحوم رياض باشا إلا أن أرسل تلغرافا إلى الخديوي يستفسره عن الحادثة. فأخبره الخديوي بأنه لم يحدث حدث يوجب السؤال والانشغال. ولكنه نظرا لإصرار المعتمد الإنكليزي على إجابة مطالبه، وخشية تعقد المسألة ووصول الخديوي إلى العاصمة قبل حلها، لم يسع رياض باشا إلا أن يبرح القاهرة ومعه حضرات النظار ما عدا تكران باشا - ناظر الخارجية - لمقابلة الخديوي في عودته فلقوه في بندر جرجا، فركبوا في معيته عائدين إلى العاصمة. وكانت المخابرات بين رئيس النظار وناظر الخارجية تلغرافيا بين كل محطة وأخرى. وفي ذاك الوقت كان ناظر الخارجية يراجع المعتمد الإنكليزي في تحوير تلك المطالب حتى وصل الركاب إلى مدينة الفيوم، وفي هذه المدينة أعلن الخديوي أنه راض عن نظام الجيش بأمر عسكري هذا نصه:
خطاب من الجناب الخديوي إلى السردار بحلفا
مدينة الفيوم في 26 يناير سنة 1894
قبل أن أبارح الوجه القبلي عائدا إلى مصر يهمني أن أكرر عظيم اهتمامي ووافر انعطافي نحو الجيش المصري الذي تفقدته في الحدود. ويهمني كذلك أن أثبت عظيم الامتنان الذي قد عبرت لك عنه من قبل بشأن حسن نظامه وترتيبه، ويروقني أن أهنئ الضباط، سواء المصريين والإنكليز الذين يقودونه، وأن أشاهد الخدم التي أداها الضباط الإنكليز في جيشي، وأرجوك يا سردار أن تبلغ هذا للضباط والجنود.
عباس حلمي
وبهذا قد أجيب الطلب الأول من المطالب الثلاثة. أما الطلب الثاني المتعلق بعزل المرحوم ماهر باشا فقد عدل بنقله من وظيفته إلى محافظ عموم القنال مع حفظ مرتبه الذي كان يتقاضاه في وكالة الحربية. وقد رفض الطلب الثالث، وهو إمرة جيش الاحتلال على الجيش المصري، رفضا باتا. (4) قضية التلغرافات
منذ زمان بعيد تشهد مصر قضايا سياسية هامة، يتتبعها الرأي العام في شوق واهتمام. من هذه القضايا قضية اشتهرت باسم «قضية التلغرافات»، والأصل فيها أنه كانت الحملة المصرية على السودان بقيادة السردار كتشنر باشا، وكان الاهتمام بأنباء الحملة عظيما. وكانت جريدة «المؤيد» معدودة يومئذ الجريدة الوطنية الحرة الجريئة، التي تحارب الاحتلال الإنكليزي وتقود المعارضة، وكان صاحبها ورئيس تحريرها المغفور له السيد علي يوسف - شابا أزهريا عصاميا طامحا يلتهب وطنية وجرأة - يكتب مقالات، عبروا عنها بأنها «تفعل في النفوس فعل السحر وتسري فيها مسرى الكهرباء». ويجب أن نعرف حالة الرأي العام المصري يومئذ، فقد كان غير راض عن سفر الحملة واشتراك الجنود الإنكليزية فيها لاستعادة السودان على الصورة التي أعيد بها ووضعت خطتها يومئذ. وكان هم «المؤيد» أن ينشر أنباء الحملة على السودان، بينما كانت تعد أنباؤها من المسائل السرية التي لا يكاشف بها الجمهور إلا بمقدار. وكان الجمهور متلهفا على أخبارها، وكان بين الموظفين من تدفعه وطنيته إلى نقل الأخبار الرسمية إلى «المؤيد» مساعدة له على مهمته الصحفية الوطنية، وكان مخبرو «مندوبو» المؤيد ممنوعين من دخول وزارة الحربية ومن مرافقة الحملة، بينما سمح لجرائد أخرى بمرافقة مندوبيها للحملة.
وقد حدث في يوم 26 يولية سنة 1896 أن ورد من السردار كتشنر باشا تلغراف على مكتب تلغراف الأزبكية إلى ناظر «وزير» الحربية، وأن موظفا بالمكتب اسمه «توفيق كيرلس أفندي»، اتهم بنقل نسخة من هذا التلغراف، وكان بالفرنسية، وكان عدد كلماته 566. وقد وجه هذا الاتهام إليه بعد أن وصلت النسخة إلى جريدة المؤيد، وكان من محرريها يومئذ حضرة الأستاذ محمد مسعود الكاتب المعروف والصحفي القديم، وكان يتولى ترجمة التلغرافات. فسلم إليه صاحب المؤيد هذا التلغراف فترجمه ونشره في جريدة «المؤيد» بعددها الصادر بتاريخ 28 يولية سنة 1896. وفي يوم 29 يولية سنة 1896، اطلع وزير الحربية على الترجمة المنشورة في «المؤيد» للتلغراف المذكور. فدهش أيما دهشة، وكانت قراءته للجريدة عند تأهبه للخروج من منزله إلى مكتبه بالحربية، فلما وصل إليه بحث عن التلغراف في الوزارة فأحضر إليه. فعلم أن التلغراف لم يسرق، ثم تأكد أنه لم تصل إليه يد إنسان آخر بعد وصوله إلى الحربية، ثم عهد إلى ملحم شكور بك من موظفي الحربية بإماطة اللثام عن كيفية وصول هذا التلغراف إلى جريدة «المؤيد»، فتوجه شكور بك إلى مكتب تلغراف الأزبكية لمعرفة الحقيقة، ولكنه لم يصل إلى نتيجة. وحفظت القضية.
السيد علي يوسف «باشا» مؤسس جريدة المؤيد وسيد السادات الوفاتية المتوفى في 25 أكتوبر سنة 1913.
وكان بين «المؤيد» وجريدة «المقطم» حرب قلمية، وكان «المؤيد» يتهم «المقطم» بأنه مؤيد للاحتلال الإنكليزي وخادم له، وبعد أن حفظ التحقيق، كتب «المقطم» مقالات يدعو فيها الحكومة إلى محاكمة صاحب «المؤيد» متهما إياه بأنه قد اشترك في إفشاء سرية التلغراف بنشره، ففتح باب التحقيق مرة ثانية.
واتهمت النيابة العمومية كيرلس أفندي والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد بأن المتهم الأول قد أفشى تلغرافا سريا ورد على مكتب تلغراف الأزبكية في يوم 26 يولية سنة 1896 من سردار الحملة المصرية بالسودان، إلى ناظر الحربية. وأن المتهم الثاني قد اشترك في إفشاء سرية هذا التلغراف بأن نشره في العدد الصادر من جريدة المؤيد بتاريخ 29 يولية سنة 1896 في حين أنه لم يطلع عليه أحد غير عمال التلغراف وناظر الحربية.
وطلبت محاكمتهما بالمادة 145 من قانون العقوبات. وعد صاحب المؤيد مشتركا مع المتهم الأصلي بمقتضى الفقرة الثانية من مادة «68» من القانون المذكور، وأحالتهم إلى جلسة الجنح بمحكمة عابدين الجزئية الأهلية التي انعقدت في يوم الأربعاء 4 نوفمبر سنة 1896.
ومما يذكر في صدد هذه القضية المشهورة أن التلغراف كان يحتوي على 566 كلمة، وأن شهودها بلغ عددهم 27 شاهدا بينهم ناظر الحربية وملحم شكور بك والمسيو ولد ملاحظ مكتب تلغراف الأزبكية وغيرهم من كبار الموظفين وصغارهم، وكان بينهم الصحفي الجريء المرحوم نجيب هاشم «مخبرا» بجريدة المؤيد، والدكتور فارس نمر وإسكندر شنودة، وإسكندر تادرس ونجيب راضي.
وقد اهتم الجمهور بهذه القضية أيما اهتمام في أثناء المحاكمة، فقد كانت المحكمة غاصة بجماهير غفيرة بينها نفر من عظماء الأمة. ولما كانت الساعة الثامنة صباحا من اليوم المحدد للمحاكمة انعقدت الجلسة برياسة حضرة القاضي محمود بك خيرت وعلي أفندي توفيق وكيل النيابة المنتدب. أما الدفاع فكان مؤلفا من الأستاذين إبراهيم الهلباوي بك محاميا عن توفيق أفندي كيرلس، والسيد أحمد بك الحسيني محاميا عن صاحب المؤيد.
ثم طلب الدفاع تأجيل القضية للاطلاع ونسخ الأوراق استعدادا للمرافعة؛ لأن أوراق القضية لم تحول إلى المحكمة إلا قبل الجلسة بثلاثة أيام فقط؛ مما جعل الدفاع لم يتمكن من الاستعداد للمرافعة؛ فأجلت القضية إلى يوم الأربعاء الموافق 18 نوفمبر سنة 1896. وفي هذه الجلسة سمعت المحكمة أقوال المتهمين، وشهادة الشهود، ومرافعة النيابة والدفاع ورد الدفاع على مرافعة النيابة. وفي الساعة السادسة من مساء يوم الخميس 19 نوفمبر سنة 1896 أصدر حضرة القاضي حكمه في الجلسة بحبس توفيق أفندي كيرلس ثلاثة أشهر بناء على إفشائه تلغراف السردار، وببراءة ذمته من تهمة إفشاء تلغراف للمقطم، وبتحمله ربع مصاريف الدعوى، وبراءة ساحة صاحب المؤيد من التهمتين لعدم وجود أدنى دليل على ثبوت إحداهما ضده.
مدينة الخرطوم.
ولقد علقت معظم جرائد الشرق والغرب على هذه القضية الغريبة، وتناولها البرلمان الإنكليزي بالمناقشة. (5) الكشاف والكشوفية في النوبة
جاء في الجزء الأول من هذا الكتاب أنه قد حكم بعض أقاليم السودان دولة من الكشاف. وبعد إعادة السودان ظل في النوبة أشخاص يعرفون بهذا الاسم. وقد ذكر حضرة الأستاذ محمد رمزي بك أن: لكلمة «الكاشف» جملة معان. فقد كانت تطلق قديما على «حاكم» الإقليم، ويقابلها في وقتنا الحاضر «مدير»، فكان يقال للحاكم «كاشف»، وللإقليم - كشوفية - كما يقال اليوم للحاكم الإداري في الأقاليم: مدير، وللإقليم الذي يديره مديرية.
وكانت مصر في عهد دولة المماليك مقسمة إلى أعمال - مديريات - وكان فيها كشوفيات، وهي كشوفية الإسكندرية، وكشوفية الوجه البحري ومقرها مدينة دمنهور، وكشوفية الوجه القبلي ومقرها مدينة أسيوط، ثم جعلت هذه الكشوفيات في عهد دولة المماليك البرجية نيابات، مفردها نيابة.
ولما تولى العثمانيون حكم مصر قسموها إلى كشوفيات، وجعلوا على رأس كل كشوفية - مديرية - كاشفا «مديرا».
ولما كانت بلاد النوبة السفلى مركز الدرما بين الشلال الأول والثاني بعيدة عن البلاد المصرية وقريبة من الحدود السودانية، ويتعذر على كاشف قوص - مدير قنا - أن يلاحظ أعمال ذلك الإقليم علاوة على أعمال كشوفيته، فقد جعلت بلاد النوبة السفلى كشوفية قائمة بذاتها يرأسها كاشف، وكان مقرها ناحية الدر والديوان. وفي سنة 1520م عين حسن قوصي الجركسي كاشفا على بلاد النوبة. وتولى الكشوفة بعده ولده ثم ولد ولده وذريتهم، فصاروا يتوارثون الوظيفة إلى أيام حكم الخديوي إسماعيل، حيث أصبحت بلاد النوبة قسما من أقسام مديرية إسنا. فعين لهذا القسم ناظرا أسوة بأقسام المديريات. فالأشخاص الذين يحملون إلى اليوم لقب كاشف هم من ذرية حسن كاشف المذكور.
كازينو الخرطوم.
الفصل السابع
السودان بعد اتفاق 1899
نفذ اتفاق 1899، فظل تعيين الحاكم العام للسودان وهو في الوقت نفسه سردار الجيش المصري بترشيح الحكومة البريطانية وباختيارها وبموافقة الحكومة المصرية واستصدارها أمرا عاليا أو مرسوما ملكيا. ولو أن الاتفاق لم يشترط أن يكون الحاكم العام بريطانيا إلا أنه كان بريطانيا دائما، وهذا ظاهر من كيفية إعادة السودان بقيادة إنكليزية ومن أن الحكومة البريطانية هي التي ترشح وتختار الحاكم العام. كذلك كان تعيين رؤساء المصالح والمديرين والمحافظين من البريطانيين. وكان الضباط المصريون في الجيش المصري يندبون في وظائف المأمورين وقليل منهم في وظائف المفتشين والوظائف المتوسطة كالقضاة ورؤساء الأقلام، والوظائف الكتابية موزعة بين الإنكليز والمصريين والسوريين والسودانيين وبعض الأجانب. (1) مجلس الحاكم العام أو الدستور السوداني
بمقتضى اتفاق سنة 1899 المبرم بين الحكومتين المصرية والإنكليزية لنظام الحكم في السودان، للحاكم العام للسودان سلطة مطلقة تشريعية وإدارية .
ولكن قيدت هذه السلطة منذ يناير سنة 1910 بإنشاء «مجلس الحاكم العام»
1
وهو يتألف برياسة الحاكم العام وعضوية: القائد العام لقوة الدفاع، والسكرتير القضائي، والسكرتير الإداري، والسكرتير المالي - وهؤلاء أعضاء بمقتضى قانون؛ أي بمقتضى وظائفهم.
وهناك أعضاء بمقتضى أوامر تصدر من الحاكم العام لأشخاص معينين، والأعضاء الذين صدرت أوامر بتعيينهم هم: مدير المعارف، ومدير الأشغال، ومدير المصلحة الطبية، ومدير الأمور الاقتصادية.
اختصاص المجلس: هو الميزانية - التصديق على القوانين - المشروعات العمومية - التنقلات الكبيرة والصغيرة - السلطة التشريعية والتنفيذية.
وكانت المسائل المتقدمة تصدر بتوقيع «الحاكم العام». ومنذ أنشئ مجلس «الحاكم العام»، أصبحت تصدر بتوقيع «الحاكم العام نفسه».
وأعضاء هذا المجلس كما هو ظاهر - من الموظفين البريطانيين في حكومة السودان، ولم يجلس فيه من غير البريطانيين رودولف سلاتين باشا - المفتش العام لحكومة السودان سابقا - وكان نمساويا برتبة اللواء في الجيش المصري، وقد أحيل إلى المعاش سنة 1898 في عهد اللورد كتشنر باشا، وأعيد إلى خدمة حكومة السودان في عهد ونجت باشا. وكان هناك منصب يسمى «نائب الحاكم العام»، وقد شغله سلاطين باشا إلى سنة 1914. وقد ألغي هذا المنصب، وفي غياب الحاكم العام عن منصبه في السودان في الإجازة ونحوها يعين أقدم عضو في مجلس الحاكم العام نائبا له، بقرار يصدر من الحاكم العام نفسه.
2 (2) الخديوي عباس في الخرطوم
وصل الخديوي عباس حلمي باشا إلى الخرطوم في 3 ديسمبر سنة 1901، وألقى السردار في اليوم التالي أمام سراي الخرطوم الخطاب التالي:
مولاي سمو الخديوي المعظم:
نحن سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام وصف ضباط وعساكر جيش سموكم المعظم مع الموظفين الملكيين والعلماء والعمد والمشايخ والأعيان في السودان وعموم سكان السودان، نسر بأن نقدم مع شعائر الولاء والإخلاص هذا الخطاب ترحيبا بتشريف سموكم المرة الأولى للسودان.
الخديوي السابق عباس حلمي باشا سنة 1905.
لقد نلنا أعظم الشرف بأن سموكم تجشمتم السفر الطويل الشاق من مصر لقضاء بضعة أيام في الخرطوم عاصمة السودان التي خربها الأشقياء الذين شقوا عصا الطاعة لحكومة سموكم بعد أن كانت عامرة زاهرة. وهي الآن تتدرج في الحضارة والعمران على مبادئ نؤمل أن ترقى بها رويدا حتى تصير عاصمة فاخرة ومركزا مهما لتجارة السودان. قد مضى الآن ثلاث سنين على انتشالها من يد ذلك الطاغية عبد الله التعايشي ببسالة جيش سموكم وجنود المملكة البريطانية العظمى.
الخديوي السابق عباس حلمي باشا سنة 1929.
أما وجود سموكم بيننا فقد ملأ قلوبنا مسرة وابتهاجا، فبالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جميع الحاضرين هنا اليوم والغائبين عنا في جهات السودان البعيدة الذين تمنعهم واجباتهم الهامة عن الحضور لتقديم واجب الترحيب والتعظيم لسموكم نتمنى لسموكم حياة مديدة مقرونة بالسعادة والفخار، ونسأل الله تعالى أن يبث في أنحاء بلاد سموكم طولا وعرضا روح الفلاح والسلام. (2-1) خطاب الخديوي
يا سعادة السردار وحاكم السودان العام، ويا حضرات الضباط والعساكر والموظفين وعلماء ومشايخ وأعيان وأهالي السودان كافة:
إني أشكر لكم الخطاب الذي حييتموني به، وأؤكد لكم بأني أعد من أعظم مسراتي رؤيتي إياكم في هذه البلاد الشاسعة التي قربتها منا سكة الحديد العجيبة التي ملأتني ارتياحا وابتهاجا.
الآن وقد رأيت هذه البلاد عرفت الصعوبات والمشقات التي لاقاها من كانت لهم يد في الحملات التي كانت نتيجتها محو سلطة عبد الله التعايشي وإعادة العدل والراحة والسكون في جميع أنحاء السودان.
العلمان الإنكليزي والمصري اللذان يخفقان الواحد بجانب الآخر هما إشارة إلى الحكومة المشتركة التي أخذت على عاتقها حماية الأهالي من الوقوع في شرك أهل الظلم والفساد وابتداء عصر هدوء وسعادة في هذه الديار.
ولقد سرني أيضا ما أشاهده من تقدم مدينة الخرطوم في العمران، وأعتقد أني سأحفظ لكم أحسن ذكرى لاحتفائكم بي في هذه الزيارة الأولى، وإنه ليشملني السرور كلما سمعت بتحسين أحوالكم وتقدمكم في الرفاهية التي أرى شواهدها بدت في كل الأرجاء.
هذا وإني أنعم الآن بكل ارتياح ببعض النياشين على بعض كبار علماء الدين، وسأنعم بها فيما بعد على الضباط والموظفين والأهالي الذين يعرض لي عنهم سعادة السردار والحاكم العام بناء على التقارير السنوية التي ترد له من المديريات.
ثم أكرر شكري لاحتفائكم بي احتفاء صادرا عن حسن نية وخلوص طوية.
وقد عاد سموه إلى مصر في ديسمبر سنة 1901. (3) زيارة اللورد كرومر
زار اللورد كرومر السودان لأول مرة سنة 1899، وزاره سنة 1902، وزاره سنة 1903. وقد أصبحت زيارة السودان تقليدا متوارثا يجريه كل ممثل للحكومة البريطانية في مصر.
تخطيط مدينة الخرطوم بعد إعادة السودان، وقد وضعها المهندس المصري محمد السعيد سماحة بك الذي كان مأمورا لتنظيم الخرطوم يومئذ، ثم مهندسا كبيرا في مصلحة المساحة أخيرا. حيث أحيل إلى المعاش وترى صورته هنا. (4) جريدة السودان
صدر العدد الأول من جريدة السودان في 24 سبتمبر سنة 1903، ومنحت الحكومة امتيازها إلى الدكتور فارس نمر وشريكيه أصحاب المقطم، وعين خليل ثابت أفندي «بك» من خريجي المدرسة الكلية السورية محررا لها.
والأستاذ خليل ثابت هو حضرة صاحب العزة خليل ثابت بك رئيس تحرير جريدة المقطم الآن. (5) وكالة حكومة السودان
لحكومة السودان في مصر وكالة تسمى وكالة حكومة السودان، مركزها الآن شارع توفيق.
واختصاصات هذه الوكالة هي: تشجيع السياحة للسودان - صرف جوازات السفر إليه - مساعدة المهاجرين السودانيين للعودة إلى بلادهم - رعاية العلاقات التي بين الحكومة المصرية والحكومة السودانية من مالية وحقوقية، والحقوقية هي تنفيذ الأحكام - القيام بالحسابات الجارية مع الجمارك - إعطاء بيانات وإرشادات عن السودان.
كانت وكالة حكومة السودان في أول عهدها مندمجة مع إدارة المخابرات في الجيش المصري، وكان السير ونجت باشا مديرا للمخابرات في أثناء الحملة المصرية بقيادة اللورد كتشنر باشا لاستعادة السودان - وكان ونجت باشا وكيلا لحكومة السودان في أثناء الحملة، ولما خلف سعادته اللورد كتشنر كسردار للجيش المصري وحاكم عام للسودان عين الكونت كليخن باشا - وكان لواء في الجيش المصري وابن خالة الملك إدوارد السابع والد ملك الإنكليز الحالي «الملك جورج الخامس» - وكيلا لحكومة السودان مع إدارة المخابرات بالجيش المصري من سنة 1901 إلى سنة 1903، وقد خلفه في منصبه اللورد إدوارد سيسيل، وكان لواء بالجيش المصري من سنة 1903 إلى سنة 1906، حيث عين مستشارا لوزارة المالية المصرية، وعين اللواء أوين باشا في منصب وكيل حكومة السودان ومدير المخابرات بالجيش المصري من سنة 1905 إلى 1908. وأوين باشا كان رئيسا للجنة المصرية التي تألفت للنظر في مسألة العقبة، وكان معه الفريق إبراهيم فتحي باشا ونعوم شقير بك، وانتهت أعمال اللجنة بعقد معاهدة مع الدولة العلية التركية التي اعترفت لمصر بملكية العقبة، ثم عين سير لي ستاك باشا بعد أوين باشا من سنة 1908 إلى سنة 1912، وستاك باشا هو الذي صار فيما بعد سردارا للجيش المصري وحاكما عاما للسودان، وقتل في نوفمبر سنة 1924، ثم عين الجنرال كلايتون باشا خلفا له من سنة 1912 إلى سنة 1920، حيث عين مستشارا لوزارة الداخلية المصرية، وكان يتولى منصب وكيل حكومة السودان عسكريون بريطانيون. ولكن منذ سنة 1920، وبعد كلايتون باشا فصلت الوكالة عن قلم المخابرات، الذي نقل إلى الخرطوم، وأصبح تعيين العسكريين ليس أمرا لازما، ثم تعين مستر مور وكيلا لحكومة السودان في مصر «وحضرته يعمل الآن مع سعادة محمد أحمد عبود باشا في شركة ثورنيكروفت وجياد السباق»، وبقي حتى سنة 1931. وفي سنة 1931 عين الكلونيل ريدار، وبقي إلى سنة 1933، وعين مستر «هملتون» من سنة 1933 إلى سنة 1935، وخلفه الوكيل الحالي حضرة مستر لاش في 25 فبراير سنة 1935.
وأكثر حضراتهم يجيدون اللغة العربية قراءة وكتابة.
وعلى ذكر مسألة العقبة نقول: إن إدارة سينا كانت تتبع قلم المخابرات بالجيش المصري في أثناء عدم وجود وزارة للخارجية المصرية. (6) لا امتيازات في السودان
لا توجد لحسن الحظ امتيازات للأجانب في السودان، وذلك أن اللورد كرومر - المعتمد البريطاني الأول في مصر عقب الاحتلال - كان شديد السخط على الامتيازات الأجنبية في مصر، وطالما طفحت تقاريره بالإنحاء عليها وبسرد حوادث مآسيها ووقائع ويلاتها، وقد نص اتفاق 1899 على عدم وجود امتيازات للأجانب.
ولذا يعد جميع نزلاء السودان من أية جنسية - متساوين أمام القضاء السوداني خاضعين لقوانينه وأحكامه. (7) لا قنصليات في السودان
وقد ترتب على عدم وجود امتيازات للأجانب، أن البلاد الأجنبية التي لها رعايا في السودان لم تنشئ قنصلية؛ ولذا ليس بالسودان قنصليات أجنبية. (8) قوانين السودان
صدرت قوانين كثيرة منذ استعادة السودان حتى اليوم من الحاكم العام بمعونة السكرتير القضائي، وعرضت القوانين على اللورد كرومر وعلى مجلس النظار المصري، ونشرت تباعا في الغازيتة السودانية. (8-1) الأمر الصادر بإنشاء مجلس الحاكم العام
3
ننشر فيما يلي نص الأمر الصادر بإنشاء مجلس الحاكم العام:
حيث إن الوفاق المعقود في 19 يناير 1899 بين حكومة جلالة المرحومة ملكة الإنكليز وحكومة سمو الجناب العالي الخديوي قد فوض إلى الحاكم العام الرياسة العليا العسكرية والملكية في السودان، ومنحه الاختصاصات المبينة فيه. وحيث إنه بمصادقة الحكومتين المشار إليهما قد استصوب إيجاد مجلس يشترك مع الحاكم العام في إجراء ما له من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية.
فقد صدر الأمر بما هو آت: (1)
يسمى هذا القانون قانون مجلس الحاكم العام سنة 1910. (2)
ينشأ مجلس يعرف بمجلس الحاكم العام يؤلف من أعضاء قانونيين هم المفتش العام والسكرتير المالي والسكرتير القضائي والسكرتير الملكي، ومن أعضاء إضافيين لا ينقص عددهم عن اثنين ولا يزيد على أربعة يعينهم الحاكم العام.
يكون تعيين الأعضاء الإضافيين لمدة ثلاث سنين، وتجوز إعادة تعيينهم، وإذا غاب أحد الأعضاء القانونيين بالإجازة أو تعذر عليه الحضور للمرض ناب عنه في المجلس، الموظف الذي يقوم مقامه في وظيفته بحكم القانون أو من طريق التناوب.
وإذا غاب أحد الأعضاء الإضافيين أو تعذر عليه الحضور كذلك فللحاكم العام أن يعين بدله مؤقتا. (3)
يرأس الحاكم العام جلسات المجلس، وفي حالة غيابه تكون الرياسة لأقدم عضو بين الحاضرين مع مراعاة أحكام المادة 13. (4)
للمجلس جميع السلطة المخولة له بمقتضى هذا القانون في نظر كافة المواد التي يجب إجراؤها بمعرفة الحاكم في المجلس بناء على نصوص هذا القانون أو أي قانون آخر. أما غير ذلك من المواد الأخرى التي قد تعرض عليه، فإنه ينظر فيها بصفة مجلس استشاري للحاكم العام. (5)
جميع القوانين واللوائح التي للحاكم العام إصدارها بمقتضى المادة الرابعة من وفاق 19 يناير 1899 يصير إصدارها بمعرفة الحاكم العام في مجلسه، ولا يسري هذا النص على ما للحاكم العام وحده إصداره من اللوائح بمقتضى السلطة الممنوحة له بنص معمول به. (6)
يقرر الحاكم العام في مجلسه الميزانية السنوية، ويمنح جميع الاعتمادات الإضافية، سواء كانت من الاحتياطي أو من الإيرادات العادية. (7)
يجري الحاكم العام في مجلسه جميع المواد التي يجب إجراؤها فيه بمقتضى أي قانون معمول به، أو على القواعد التي يقررها الحاكم العام في مجلسه. (8)
تتقرر المسائل التي يجريها الحاكم العام في مجلسه بأغلبية أصوات الأعضاء الحاضرين، مع مراعاة ما هو مدون في المادتين 9 و10. فإذا تساوت الأصوات كان الترجيح لجانب الرئيس، وتدون قرارات المجلس في سجل محاضره، مع بيان رأي كل عضو على انفراده، ولكل عضو خالف الأغلبية أن يطلب إثبات أسباب مخالفته في المحضر. (9)
للحاكم العام - سواء حضر الجلسة أو لم يحضرها - أن يخالف ما أقرته الأغلبية لأسباب تدون في محاضر المجلس، ويعتبر قراره هذا في هذه الحالة من جميع الوجوه كأنه قرار المجلس. (10)
للحاكم العام - سواء حضر الجلسة أو لم يحضرها - أن يوقف تنفيذ أي قرار من قرارات المجلس حتى يرفعه إلى السلطة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة الرابعة من وفاق 19 يناير 1899. (11)
للحاكم العام في مجلسه أن يسن قواعد لا تخالف هذا القانون تختص بضبط أعمال المجلس، وبيان محل اجتماعاته، وتعيين موظفيه، وتقرير واجباتهم. (12)
إذا غاب الحاكم العام بالإجازة أو تعذر عليه القيام بأداء وظيفته لمرض، وكذلك إذا خلت وظيفته تنتقل سلطته كلها إلى مجلس الحاكم العام إذا لم يكن هو قد عين نائبا عنه في وظيفته. (13)
للحاكم العام كلما كان بعيدا عن مجلسه أن يعين موظفا ينوب عنه في رياسته وفي ما له من السلطة كلها أو بعضها المتعلقة بالمجلس بمقتضى المواد السابقة. (14)
للحاكم العام كلما كان بعيدا عن مجلسه أن يباشر وحده ما للحاكم العام في مجلسه من السلطة كلها أو بعضها إذا أجيز ذلك بقرار من المجلس. (15)
لا يجوز تفسير أي نص من نصوص هذا القانون بما يفيد تخويل الحاكم في مجلسه سلطة لو كانت له وحده لجاءت مخالفة لنصوص اتفاق 19 يناير 1899 أو لأي اتفاق معقود حتى الآن بين حكومتي مصر والسودان. ا.ه.
ذلك هو نص القانون الصادر بإنشاء مجلس يساعد الحاكم العام.
اللورد كتشنر أوف خرطوم يفتتح كلية غوردون . •••
وهذه أسماء الأعضاء الأول في هذا المجلس عند بداية تأليفه: ونجت باشا رئيسا، وسلاطين باشا المفتش العام، وإدجار بونهام كارتر السكرتير القضائي، والكولونيل سير رادجار برنارد السكرتير المالي، والكولونيل فيبس السكرتير الملكي - أعضاء قانونيون بمقتضى وظائفهم.
والكولونيل آسير الإدجوتانت جنرال وميجر ويلكنسون مدير الزراعة والغابات، وجيمس كيري مدير المعارف، وتوتنهام المفتش العام لري السودان. أعضاء إضافيون.
هوامش
الفصل الثامن
حوادث السودان بعد استعادته
بعد إتمام إعادة السودان، ظهرت في بعض جهاته فتن محلية، قمعت وترتب على قمعها توطيد الحكم الحاضر في السودان. ونذكر من ذلك الحوادث التالية، مع العلم بأن الحوادث على الحدود الحبشية تكاد لا تنقطع بسبب غارة بعض العصابات الحبشية على الحدود وخطف الأطفال والنساء وغيرهن والاتجار بهن كرقيق ولسلب الماشية:
في سنة 1900:
نفي علي عبد الكريم من أقارب المهدي مع أتباعه لادعائه انتهاء أعمال التكليف منذ واقعة أم درمان فلا صلاة ولا صوم ... إلخ.
في سنة 1903:
ظهر في برنو محمد الأمين، وادعى أنه المهدي، وظهر بالعصيان في مركز الجمع في شرقي الكردفان، وقد قبض عليه الكولونيل ماهول وقتله شنقا بالأبيض.
في سنة 1904:
ظهر شخص يدعى محمد ود آدم، وادعى في «سنجه» عاصمة مديرية الفونج أنه النبي عيسى، وقتل ضابط البوليس، ولكنه قتل في إبريل سنة 1908.
ظهر عسر مالي ووقع حادث خطير - ذلك أن عبد القادر محمد إمام ود حبوبة من قبيلة الحلويين ومن رجال المهدي السابقين قتل مستر إسكوت مونجريف المفتش الإنكليزي، وقتل أيضا المأمور المصري في طوكر، وحرض الأهالي على الثورة. وقد أرسلت إليه قوة فرقت رجاله وشنق في مايو سنة 1908.
وقامت قبيلة من قبائل الدنكا «فرع جور في بلدة رومبيك» بمديرية بحر الغزال فقتل أفرادها مفتش المنطقة وبعص الجنود، فأرسلت إليهم الحكومة حملة بقيادة سير لي ستاك باشا فهزمتهم.
سنة 1905 - نوبة جبل الداير:
هو تل جنوبي الأبيض، وقد انضم سكانه إلى الدراويش، وقاوموا الحكومة المصرية القديمة. وبعد إعادة السودان رفضوا دفع الضرائب وأطلقوا النار على الجنود التي أرسلت إليهم لتحملهم على الدفع. وقد جرت سنة 1905 معارك صغيرة بين العرب والنوبة.
سنة 1906:
حدثت ثورة في تالودي، وقتل المأمور وضابط و38 جنديا من الأورطة الثانية عشرة.
وكثر غزو القرى السودانية على الحدود الحبشية، وقد دخلها الهليو مريام سنة 1906 وقتل 113 من الأهالي وخطف النساء والأطفال عند غزوته، وقتل هيلو وأعيد الأسرى.
سنة 1907 على حدود الكونجو البلجيكية:
انسحب حراس الكونجو البلجيكية من مواقعها في الجنوب الغربي لبحر الغزال.
سنة 1908:
لم تكن نياما في غربي دلنج قد خضعت للحكومة؛ بل أبت أن تعترف بها وأن تسلم الأسرى. فأرسلت إليها كتيبة في أكتوبر سنة 1908، وأخضعت جبل نياما.
قام «عبد القادر ود حبوبة» من قبيلة الحلويين ومن أتباع المهدي - في مركز المسلمية على النيل الأزرق - وقتل مستر «سكوت مونجريف» المفتش الإنكليزي والمأمور محمد شريف أفندي، فأرسلت الحكومة قوة إلى الثوار، وعند وصولها هجموا على معسكرها، وحدثت موقعة قتل فيها ضابطان إنكليزيان وثلاثة ضباط مصريين و35 جنديا مصريا، وقتل من الثوار 120، وفر قائدهم وأسر بعد أيام. وكان الفضل في كسب هذه الموقعة إلى المرحوم اللواء حسن توفيق بدر باشا كبير الياوران وإلى ضابط مصري اسمه زادة أفندي، انتحر بعد سنوات.
في سنة 1909 احتلال واداي:
احتل الفرنسيون مملكة وطنية كانت تحكم «واداي»، وتقع في غرب دارفور. وقد صححت الحدود بين «دارفور» و«واداي» بعد خلاف طويل، ولكنهم اعترفوا بأن دارفور جزء من السودان الإنكليزي المصري.
في سنة 1910:
استولت الحكومة السودانية بمقتضى اتفاقية سنة 1906 مع بلجيكا على 17 ألف ميل مربع من «اللادو».
وظهر في السنة نفسها النجم المذنب المسمى «هالي» في السماء. فأثار ظهوره الخرافات في جوارسنار . وأراد بعض التعايشة ونفر من القبائل الغربية الذين كانوا مقيمين حول رمش وفلاتة الشيخ طلحة، إثارة القلاقل. ولكن حركتهم قمعت في مهدها.
احتل الفرنسيون دارسولا. وأما دار مساليت فقد احتفظت باستقلالها وهاجمت الفرنسيين سنة 1910، كما احتل علي بن دينار دارتامه.
سنة 1911:
قبض على الملك جديل الذي هرب إلى الداير.
احتلت الجنود كربحوبحيت وحيبان.
سنة 1912:
ظهر في مركز تقلى من شرقي كردفان أحد دعاة المهدية السابقين ومن أنصار ود حبوبة في فتنة سنة 1908، وادعى أنه النبي عيسى. فأرسلت إليه قوة هزمته وقتلته.
النوير والدنكا والأنواك:
أرسلت في سني 1902 و1907و 1911 و1912 و1913 كتائب لاحتلال بعض البلاد التي تسكنها قبائل الزنوج من النوير والدنكا والأنواك. وقد أخضعت البلاد وطرد المشاغبون، ومنهم السلطان يانبيو في أزند جنوبي بحر الغزال.
تجريدة البير:
جاء في تقرير اللورد كتشنر سنة 1912، أنه كان الغرض من هذه التجريدة تأديب قبيلة البير؛ لأنها أغارت على قبائل الدنكة، وتمكين الحكومة من إنشاء إدارة مدنية فعالة في بلاد البير. فقاست التجريدة مشاق شديدة من قلة الماء والحبوب ومحاربتها للأعداء في بلاد مجهولة عندها. ولكنها فازت في قتالهم بقيادة الماجور دريك من الطوبجية الملكية، واضطرتهم إلى فتح باب المفاوضة في الصلح.
تجريدة الأنواك:
أرسلت هذه التجريدة للغرضين التاليين: (1)
توقيف تجارة السلاح والذخيرة، وتأديب الأنواك على غزوهم بلاد النوير أخيرا. (2)
الاستعلام عن أحوال تلك الجهات القبلية قصد تحديد حدودها في المستقبل، وكانت القوة التي اشتبكت بالقتال مؤلفة من 11 ضابطا إنكليزيا و21 ضابط مصريا و407 من العساكر بقيادة الماجور لفيسون من أورطة الهوسار الثامنة عشرة.
ففي 4 مارس زحفت من أكويو قاصدة أودنجو، وفي 15 منه التقت بقوة عظيمة شاكية السلاح من العدو، وقاتلتها قتالا شديدا في أجمة كثيفة، فهجم الأنواك عليها بجرأة عظيمة، ولكنهم انكسروا وولوا الأدبار بعد قتال شديد، واستحوذت القوة على أدنجو والقرى المحيطة بها. ومن الأسف أن هذا الانتصار اقترن بخسارة غير قليلة؛ فقد قتل في المعركة ضابطان بريطانيان و3 ضباط مصريون و43 من صف الضباط والأنفار. وجرح ضابط مصري و11 من صف الضباط والأنفار. ولكن القوة كلها أبدت ما لا مزيد عليه من البسالة وحسن النظام مع كثرة ما قاست من العطش الأليم والمشقات العظيمة والقتال الشديد.
هذا وإنه ... إلخ.
الإمضاء: كتشنر (1) احتلال دارفور
بعد واقعة أم درمان توجه علي دينار إلى الفاشر، وجلس على عرش أسلافه بصفته سلطانا على دارفور، وكان يدفع جزية صغيرة، ويرسل هدايا مع بعثة خاصة يوفدها من قبله إلى الخرطوم سنويا، وكان يقبل هدايا من آلات الموسيقى والبنادق.
وفي السنين الخمس الأولى بعد إعادة السودان كان السلطان علي بن دينار يتبادل الكتب الودية مع سلاطين باشا المفتش العام للسودان يومئذ. على أنه لم يكن يعير ملاحظات الحكومة التفاتا. وقد تبين أنه لا يسمح لأي موظف من قبل الحكومة بالدخول في بلاده، وأن أي أوروبي يجرؤ على دخولها فإن عودته لا تكون مؤكدة. وتبلغ مساحة دارفور 140 ألف ميل مربع، وقد دانت هذه المساحة لحكمه ما عدا البقارة في الجنوب الشرقي.
وقد أقام ابن دينار إدارة حكومية وفرض الضرائب، وكان له جيش من زنوج الفرتيت المنظمين والمسلمين، وكانت أكثر أسلحتهم فرنسية حصلوا عليها من طريق الصحراء الشمالية. وكل بندقية حفر عليها اسم السلطان ولقبه.
وكان يستخدم جواسيس كثيرين
1
أكفاء، وكان لا يثق بأحد، وكان يقمع كل حركة يشتبه فيها في الحال وبقسوة. وكان كبار موظفي حكومته من المماليك أو من الفور أعضاء البيت الملكي، وكانوا مخلصين له وأكفاء وأمناء. ولم يكن السلطان متعصبا دينيا، وهو مسلم طبعا. ولم يقبل رغبة السنوسي في إنشاء زوايا في دارفور، وكانت سراريه كثيرات، وكانت إرادته كل شيء، وكان مهيبا مطاعا. وقد قتل في سنة 1916 الأمير عرابي دفع الله الذين سلم إليه وخضع له في سنة 1902، وكان قتله بسبب الاشتباه في أنه حاول الاتصال بالحكومة السودانية. وكان حول دارفور في الحد الغربي دويلات المساليت وسولا وتامه يحكمها سلاطين، ولكنها كانت تخضع لدارفور وواداي إذا وجهت إليها قوات منهما.
في سنة 1909 احتل الفرنسيون واداي، ولكنهم اعترفوا بأن دارفور جزء من السودان الإنكليزي المصري. على أن الحدود كانت مبهمة بين واداي ودارفور.
احتل الفرنسيون دارسولا. وأما دار مساليت فقد احتفظت باستقلالها، وهاجمت الفرنسيين سنة 1910.
كان علي بن دينار يحقد على الفرنسيين الذين أصبحوا مجاورين له في واداي.
ولما أعلنت الحرب الكبرى وانضم الإنكليز إلى الفرنسيين كحلفاء، أصبح الإنكليز في نظره خصوما أكبر.
وقد اتصل كل من أنور باشا وأخيه نوري باشا في سنة 1915 بالسلطان علي بن دينار، وحرضه نوري باشا الذي كان يقود جيش السنوسي على الثورة على الإنكليز والحلفاء والانضمام إلى الخليفة في إستانبول. وطمع ابن دينار في أن يكون ملكا على السودان، وأن يبدأ باحتلال كردفان.
وقد شعرت الحكومة السودانية باستعداد ابن دينار. ووجهت إليه حملة بقيادة الليفتنانت كولونيل كيلي، وعددها يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف مقاتل من الجنود السودانية المشاة والهجانة والعرب والسود والطوبجية المصرية وبعض رجال المدفعية الإنكليز ومعهم أربعة مدافع مكسيم. وسارت الحملة إلى الفاشر التي تبعد عن الأبيض بمقدار 400 ميل. وقد ترك السلطان الحملة حتى دخلت حدود دارفور، وتمادت حتى بلغت حدود الفاشر. وقد تبين أن السلطان ومعه ألوف من المقاتلين فكروا في السير إلى جبل مرة. وفي 6 نوفمبر سنة 1916 التقى الميجر هاردستون ببعض رجال علي بن دينار: وقد تبين أن أكثر رجاله قد هجروه فانضم بعضهم إلى الحكومة السودانية والبعض الآخر دخل الكونجو الفرنسية. أما فلول جيشه فقد هجمت عليهم كتيبة من الحملة بغتة ليلا، وأصابت علي بن دينار برصاصة قتلته في الجنوب الغربي لجبل مرة.
واستولت الحكومة على دارفور وأنشأت بها إدارة وبوليس.
وكانت الحدود بين دارفور وواداي محل مفاوضات في باريس. وعقد اتفاق في 8 سبتمبر سنة 1919 بمقتضاه تركت دار تامه ودارسولا للفرنسيين، ودار مساليت ودار قمر للإنكليز. •••
وفي سبتمبر سنة 1921: قامت ثورة في مركز نيالا جنوبي دارفور، حيث قام فقيه يدعى عبد الله السحيني ادعى أنه النبي عيسى، وأثار حربا دينية، وكان معه الألوف المسلحة. وأرسلت إليه حملة من الفاشر، ومات المفتش ماك نيل وشاون ومعهما أربعة كتبة.
أسر الأمير محمود بن أحمد وهو بلباس المهدية.
وقد تمكن الضابط السوداني بلال رزق ومن بقي معه من الجنود الخمسين من إعادة احتلال مكاتب الحكومة. وقد شنق الفقيه الدعي في 3 أكتوبر سنة 1921. (2) أعمال البناء
بني كوبري على الأتبرة وفتح في 26 أغسطس سنة 1899، ومدت السكة الحديدية إلى الخرطوم، وتمت في 31 ديسمبر سنة 1899. وكانت الفكرة يومئذ مد السكة الحديدية بين حلفا وأصوان. (3) الرتب والنياشين
منحت الحكومة الإنكليزية كتشنر باشا لقب لورد، ويسمى اللورد كتشنر أوف خرطوم، ومنحت الكولونيل ونجت مدير المخابرات العام نيشان القديسين ميخائيل وجورج مع لقب سير . ومنحه الخديوي رتبة اللواء، وعين آدجو تانت جنرالا في الجيش المصري في 18 ديسمبر سنة 1898.
هوامش
الفصل التاسع
نظام الحكم في السودان والإدارة الوطنية
نظام الحكم في السودان يقوم على أساس اتفاق 1899، وقد تطور بالحوادث التالية له، واطراد تفوق النفوذ الإنكليزي، وبإنشاء مجلس الحاكم العام سنة 1910 والقوانين والمنشورات الكثيرة التي صدرت منظمة لقضائه وماليته وإدارته وتعليمه وحفظ الأمن فيه، والحكم في السودان هو نوع من الحكم المطلق؛ لأنه لا يوجد برلمان أو مجالس شورية.
وقد قلنا إن سياسة الإنكليز في حكم البلاد الخاضعة لهم ترمي إلى إقامة حكومات وطنية في صورة من الصور، على أن تكون خاضعة لهم. وقد رأينا أن أهم ما يتجه إليه ولاة الأمور الإنكليز في السودان تحقيق فكرة الإدارة الوطنية، وهي تجربة حكم بعض بلاد السودان بنظار القبائل والأعيان، بأن يعطوا سلطة قضائية، وبذلك تقل نفقات الحكم ويخف العبء عن الحكومة المركزية في الخرطوم.
وقد أسهب السير هارولد ماكمايكل السكرتير الإداري السابق لحكومة السودان في شرح «هذه الإدارة الوطنية» في كتابه «السودان الإنكليزي المصري».
ومجلس الحاكم العام يشبه على نوع ما مجلس الوزراء، والحاكم العام مرءوس للمندوب السامي البريطاني في القاهرة، الذي يحمل لقب «المندوب السامي في مصر والسودان». وفي السودان محاكم مدنية وجنائية وشرعية وأهلية. (1) القضاء في السودان في الفتح المصري الأول
كان اختصاص القاضي الشرعي عند الفتح الأول للحكومة المصرية للسودان يشمل جميع القضايا من المعاملات وأحكام الدماء والديات والأحوال الشخصية، وكانت هذه الأحكام تستأنف إلى مجلس يسمى مجلس الأحكام بمصر ثم قصر اختصاص القاضي الشرعي على النظر في الأحوال الشخصية في مذهب الإمام أبي حنيفة، وأنشئ مجلس يسمى المجلس المحلي للنظر في الخصومات المتعلقة بالمعاملات، وكانت أحكام هذا المجلس تستأنف لدى مجلس يسمى مجلس استئناف السودان، ويتألف من رئيس وأعضاء هم قاضي عموم السودان ومفتيان أحدهما مالكي والثاني حنفي، وأعضاء من الأعيان. وقد كان من أعضائه في عهد غوردون باشا أبو بكر الجركوك وإدريس بيك النور.
وقرارات هذا المجلس غالبا تنتهي بها الخصومات غير أنه إذا لم يقبل أحد الخصمين حكمه فله أن يرفع تظلمه إلى مجلس الأحكام بمصر وحكمه أو قراره نهائي. وكانت أحكام الدماء لا تقرر إلا بعد تصديق من سعادة حكمدار عموم السودان، ومثلها قضايا المنازعات التي يخشى أن تؤدي إلى فتنة تخل بالأمن العام. وأنشئت محاكم شرعية عديدة في المراكز ومقار المديريات: في كل محكمة قاض. وأكثر هؤلاء القضاة من أهالي السودان، وبعضهم كان يختار من مصر، وسواء أكان القاضي مصريا أم سودانيا، فقد كان يختاره قاضي عموم السودان ويعينه سعادة حكمدار عموم السودان. كما كان لكل مديرية مفت. أما قاضي عموم السودان ومفتي مجلس استئناف السودان وشيخ العلماء فكانوا يعينون بأمر خديوي مصر.
وعند سقوط الخرطوم في قبضة محمد أحمد المهدي في 9 ربيع الثاني سنة 1302 و26 يناير سنة 1885 كان قاضي عموم السودان هو الشيخ محمد خوجلي حتيك من أهالي بري ضاحية من ضواحي الخرطوم، تلقى علومه في الأزهر الشريف، وقتله الدراويش في واقعة فتح الخرطوم. وكان مفتي مجلس استئناف السودان الشيخ شاكر الغزي، وقد قتله الدراويش أيضا في واقعة فتح الخرطوم. أما شيخ العلماء وقتئذ فكان الفكي الأمين الضرير من أهالي جزيرة توتي، وهي جزيرة مقابلة لمدينة الخرطوم، وقد مات في أوائل حكومة المهدية، ولقب بالضرير لأنه ولد أكمه. (2) القضاء في حكومة المهدي أو الدراويش
كان القضاء في هذه الدولة لبداوتها بعيدا عن النظام والضبط. فالدفتر الذي كانت تسجل فيه القرارات والأحكام في حكم المصريين للسودان أصبح لا يوجد إلا في بعض المحاكم، وأصبح القضاة في خارج أم درمان ينظرون القضايا بغير ضبط لأقوال الخصوم ولا دفاتر تسجل فيها الأحكام، بل يفصلون فيها شفويا وأحيانا يعطون للمحكوم لهم كتابا يدون به الحكم ليكون مستنده في الحق الذي حكم به، وكانت الأحكام تنفذ فور صدورها شفويا.
وقد اتسعت سلطة القاضي في هذه الدولة فأصبح يفصل في القضايا التي تعرض عليه أيا كان موضوعها، إلا أن القضاء نفسه قد انحط بعد وفاة المهدي ولم يراع في الأحكام الحق والعدل والمطابقة للحكم الشرعي بل أصبحت إشارة أو كلمة تصدر من خليفة المهدي في أم درمان أو من الأمراء المرافقين للقضاة في خارجها واجبة الاتباع لا يصدر الحكم على خلافها، وإلا فإن القاضي لا يأمن على نفسه فضلا عن البقاء في منصبه. وفيما عدا ذلك كانت الأحكام يراعى فيها مذهب الإمام مالك أو ما نص عليه في منشور من منشورات المهدي.
ولقد غير المهدي لقب أكبر قاض في الدولة. فبعد أن كان يسمى بقاضي عموم السودان لقبه بقاضي الإسلام، وأسند هذا المنصب إلى الشيخ أحمد ولد جبارة من علماء الأزهر، وكان قد صحبه من جزيرة أبا إلى قدير، وجعل المهدي دونه قضاة ونوابا كثيرين، وهو أول من سمي بقاضي الإسلام. ولما قتل في واقعة الأبيض تولى القضاء بعده ولد حلاب أحد فقهاء النيل الأبيض ومات في حصار الأبيض فخلفه القاضي أحمد علي من فقهاء بني هلبه، فلم يكن شأنه في زمن المهدي كبيرا؛ لأن المهدي أقام النواب للفصل في القضايا الشرعية والأمناء للفصل في القضايا السياسية. فلما مات المهدي وخلفه في الحكم عبد الله التعايشي عزل الأمناء ثم النواب وجعل المحكمة واحدة برئاسة القاضي أحمد، وكان من أعظم المقربين عنده لاتباعه هواه ثم نكبه في آخر الأمر فجرده من جميع أمواله وزجه في السجن حتى مات جوعا سنة 1894، وبعده تولى قضاء الإسلام سليمان الحجاز من تجار بربر المتفقهين، فلم يمكث فيه إلا مدة قصيرة ثم خلفه الشيخ الحسين ولد الزهراء، وهو من قرية تدعى أم عظام في ضواحي المسلمية ومن متخرجي الأزهر المتفوقين ومن الشعراء النابغين، وكان قبل أن يتولى القضاء من عداد العلماء الذين عهد إليهم الخليفة بتدريس علم الميراث في مسجد أم درمان، ولما تولى القضاء وقف عند حد الشرع وقضى بعدة مسائل على خلاف ما أراد التعايشي فاغتاظ منه وحبسه وكبله بالحديد، ومنع عنه الطعام والماء إلى أن مات صبرا سنة 1895، وخلفه في منصب قاضي الإسلام أم بدى البقاري ثم الشيخ النذير خالد، فبقي إلى فتح أم درمان سنة 1898، وكان مدرسا في المعهد العلمي، وتوفي سنة 1930. وكانت دار المحكمة الشرعية في أم درمان في هذه الدولة قريبا من منزل الخليفة المجاور للمسجد الجامع في مكان يسمى الككر تجتمع فيها القضاة ورئيسهم قاضي الإسلام، وكل منهم ينظر فيما يقدم إليه من القضايا، ويستشير أصحابه فيما يحكم به إذا خفي عليه وجه الحكم، وكان لا يصدر الحكم في القضايا الكبرى إلا بعد أن يعرض على قاضي الإسلام ثم على الخليفة. وكان القضاء يتبع الإمارات، فكل أمير لناحية من النواحي البعيدة عن أم درمان كان يعين معه قاض لهذه الناحية يعتمد على الأمير في أحكامه، ولقد كثرت الرشوة في قضاة هذه الدولة إلا من عصمه الله. وأعظم قضاة هذه الدولة هو الشيخ محمد البدوي قاضي إمارة الجعليين الذي لم يطق تدخل الأمير الزاكي أبو فرار في أحكامه فخاصمه إلى الخليفة، وكان ذلك سببا في اعتزاله القضاء، وكان الشيخ محمد البدري المذكور من أكابر العلماء علما ودينا وورعا، تلقى علومه في الأزهر الشريف، وهو أول من تولى مشيخة العلماء في الدولة الحالية إلى أن توفي سنة 1911. ولنختم هذا الكلام بصورة حكم من أحكام ذلك العهد، وسببه أن الخليفة محمد شريف حامد خليفة الكرار، أي الخليفة الرابع، غضب من الخليفة التعايشي، وامتنع عن صلاة الجمعة معه لقتله بعض أقاربه. فأمر الخليفة القضاة أن يقضوا فيه بما يكون زاجرا له وعبرة لغيره، وقد وقع على هذا الحكم ستة وأربعون رجلا من أكابر دولة التعايشي وأهل شوراه، منهم قاضي الإسلام أحمد علي، وهذا نص الحكم:
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدا لمن جعل الاستقامة طريقا للسلامة، وشكرا لمن وفق ذوي البصائر إلى الوقوف على قدم الصدق فصاروا من أهل الكرامة، وخص أهل عنايته بأنوار هدايته فاستسلموا لقضائه، واستراحوا من الوقوع في هاوية الندامة، وحض على طاعة أولي الأمر بقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
لانتظام الحال والسلامة في يوم القيامة، وصلاة وسلاما على قطب دائرة الأصل النوراني ومنبع النبض الرحماني وأشرف النوع الإنساني ومعدن السر الرباني؛ سيدنا محمد الذي قصم بسيف الحق ظهر الخلاف، ومكن حسام الشرع من رقاب أهل الانحراف، وعلى آله وأصحابه الذين قوي في الله يقينهم فآمنوا بالغيب فانكشفت غياهب الشك عن بصائرهم فازدادوا إيمانا وتمكن دينهم.
وبعد، فإن الخليفة محمد شريف حامد قد بارز خليفة المهدي عليه السلام بالعداوة والعصيان والخلاف حتى تظاهر بالحرابة له، وشهر السلاح عليه، ولم يأل بإدخال الخلل في الدين وشق عصا المسلمين. فبعد هذا كله اجتمع جماعة المسلمين، وأحضروه بين أيديهم، وحلفوه على كتاب الله تعالى فحلف وعاهد على ألا يعود إلى مثل ما صدر منه، ثم جاء خليفة المهدي عليه السلام نادما على شنيع فعله فقبله مع ما ارتكبه من عظيم الذنب والخطيئة... وعفا عنه وقابله بالصفح والإكرام. ثم نقض العهد وعاد إلى الخلاف وإضمار السوء والإصرار على عدم الامتثال، فضلا عن كونه تاركا الجمعة والجماعة. فعند ذلك اجتمع أصحاب المهدي عليه السلام من قضاة الشرع الشريف وأمراء وعمد وأعيان وسألوه عن ذلك، فقابلهم بأقبح المقال، وتفوه بما يؤدي إلى سوء الحال، حتى قال: إن الغوث معه وفي حزبه وإن نصرة المهدية تحت قدمه، وإن الصحابة اعترضوا على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من سوء المقال. وما زالوا يراجعونه بالقول اللين الحسن، وتلوا عليه منشور المهدي عليه السلام في خليفته والمنشور الذي وجهه إليه خاصة أوامره فيه باتباع خليفته وعدم خروجه عن أوامره فعند ذلك أظهر التوبة والندم؛ فنظرا لما حصل منه من نقض العهد وعدم استمراره على التوبة السابقة اقتضى نظر أصحاب المهدي عليه السلام طبق الوجه الشرعي وضعه بالسجن تأديبا له، ولولا إظهاره التوبة عما حصل منه لكان جزاؤه أعظم من السجن، وقد ثبت جميع ذلك لدى أصحاب المهدي عليه السلام الآتي ذكر أسمائهم وأختامهم فيه أدناه، وجميعهم شهدوا عليه شهادة حق يؤدونها بين يدي أحكم الحاكمين والسلام.
سنة 1309ه (3) القضاء الشرعي في الحكومة الحاضرة
يختلف القضاء في هذا العهد عن سابقيه بالنظام التام وبالدقة في تحري الصواب في الأحكام وإزالة الخطأ، متى علم سواء طعن في الحكم أم لم يطعن فإن طعن فيه من أحد الخصوم وظهر خطؤه ألغي وأعيدت القضية لمحكمتها للفصل فيها بالطريق الشرعي، وإن كانت القضية صالحة للحكم حكم فيها بما يقتضيه المنهج الشرعي، وإن لم يطعن أحد الخصوم وتبين الخطأ ألغي الحكم إداريا. كما يختلف العنوان الذي يسمى به أكبر قاض في هذه الدولة عما كان من قبل إذ عهدنا فيما سبق أنه كان يسمى في المهدية بقاضي الإسلام وفي الحكومة السابقة عليها بقاضي العموم. أما في هذه الحكومة فيسمى بقاضي القضاة، وأول قاض للقضاة هو صاحب الفضيلة الشيخ محمد شاكر، وقد عين في 28 مارس سنة 1900 فعمل جهده في وضع أسس القضاء، واعتمد على اللوائح المعمول بها في مصر في ذلك العهد، فوضع في سنة 1903 ثلاث لوائح.
فضيلة الشيخ محمد شاكر أول قاض للقضاة في السودان بعد استعادته وكان آخر منصب تولاه وكيل مشيخة الأزهر.
الأولى:
لائحة تضم ترتيب المحاكم الشرعية مؤلفة من خمسين مادة بها، شروط انتخاب الموظفين لهذه المحاكم، واختصاص لكل من المحكمة العليا وسلطة المحاكم المركزية ومحاكم المديريات والمحافظات، كما تتناول منصب قاضي القضاة، والتنازع في الاختصاص بين محكمة شرعية وأخرى مدنية والمراقبة القضائية.
والثانية:
اللائحة النظامية للمحاكم، وهي مؤلفة من «124» مادة بين بها طريق رفع الدعوى ونظام الجلسات والأدلة الخطية ومحاضر الجلسات والمعارضة والاستئناف والتمييز والوراثات والمستندات الرسمية وغيرها. والدفاتر المستعملة في المحاكم دفترا دفترا والتنفيذ.
الثالثة:
لائحة الرسوم، وهي مؤلفة من عشرين مادة ومن جدول يوضح رسوم 49 إشهادا؛ ذكر في كل إشهاد المبلغ الذي يؤخذ عليه الرسم، ومقدار الرسم النسبي، وأقل رسم يؤخذ، والمطلوب منه دفع الرسم كما وضح به رسوم الصور وغيرها ورسوم القضايا.
وقد أصدر كثيرا من المنشورات والمذكرات القضائية لتوضيح سبل الحكم للقضاة. وعلى الجملة فقد حذا حذو القضاء المصري في ذلك العهد ولم يخالفه إلا في مسائل بسيطة قضت بها الحاجة أو الضرورة: منها أن قاضي المديرية منفرد تستأنف لديه القضايا التي يفصل فيها قاضي المركز، والعمل في مصر في ذلك العهد على غير ذلك، فقد كانت أحكام قاضي المركز تستأنف لدى هيئة تتألف من قاضي المديرية والمفتي والنائب. والذي دعا لذلك - على ما أظن - الاقتصاد الذي قضى بعدم تعيين مفت ونائب في كل مديرية. ومنها جعل القضاء من ثلاث درجات: ابتدائي واستئنافي ودرجة تسمى التمييز. والقضاء في مصر من درجتين فقط. والسبب في ذلك على ما يظهر إشراف محكمة التمييز التي تتألف من قاضي القضاة ومفتي السودان وأحد المفتشين، حتى يمكنها وضع الحق في موضعه وتعليم القضاة فيما يخطئون فيه لقرب عهدهم بالقضاء، ولأن الاستئناف ليس فيه الضمانات الكافية لأن ينظره قاض واحد كما قدمنا. ولما نقل الشيخ شاكر إلى مصر في 26 إبريل سنة 1904 خلفه في منصبه حضرة صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ محمد هارون، وبنقله لمصر أيضا سنة 1908م تولى هذا المنصب صاحب الفضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي - وهو شيخ الجامع الأزهر حالا - في أول أغسطس سنة 1908م، وقد جاء في تقرير الفيكونت كتشنر عن السودان سنة 1912 تحت عنوان «المحاكم الشرعية» ما يلي:
لا يزال الشيخ مصطفى المراغي قاضي قضاة السودان يتولى رئاسة المحاكم الشرعية بكمال الأهلية والمقدرة، وقد وضع حسب عادته تقريرا سنويا مفيدا، فالمحاكم الشرعية الآن تنتظم من محكمة عالية ومحكمة العموم و11 محكمة مديرية و34 محكمة مركز فيها 48 قاضيا و82 كاتبا ونحوه. وأكثر الذين تمس الحاجة إلى استخدامهم يؤتى بهم من مدرسة المعلمين في كلية غوردون، ويقول السكرتير القضائي في تقريره : إن هؤلاء المستخدمين يبرهنون بسلوكهم وعملهم على أن العناية التي بذلتها مصلحة المعارف في تعليمهم وتهذيبهم لم تذهب ضياعا.
حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر حاليا وثالث قاض لقضاة السودان.
كان فضيلة الشيخ المراغي قاضيا لمديرية دنقلا في سنة 1904. ثم نقل إلى مديرية الخرطوم في ديسمبر سنة 1906. وفي سبتمبر سنة 1907 وقع الاختيار على فضيلته ليكون رئيسا لمفتشي الدروس الدينية بوزارة الأوقاف، ثم عين قاضيا للقضاة سنة 1908، وظل يشغل منصب قاضي القضاة إلى شهر يوليو سنة 1919، حيث نقل رئيسا للتفتيش القضائي الشرعي في وزارة الحقانية، ثم عين رئيسا لمحكمة مصر الابتدائية الشرعية، ثم نائبا في المحكمة العليا الشرعية، ثم رئيسا لهذه المحكمة، إلى أن ولي هذا المنصب الخطير مرتين.
وهو من عائلة عريقة في العلم والتقوى، وكان المرحوم والده من كبار علماء الصعيد.
وفي عهد فضيلة الشيخ المراغي أحدث كثيرا من الإصلاح، فوضع في سنة 1912 لائحة جديدة للرسوم، ولائحة للمأذونين بينت شروط تعيينهم وواجباتهم وتأديبهم على المخالفات التي تصدر منهم، كما استبدل في سنة 1915 لائحتي الترتيب والنظام السالف ذكرهما بلائحة واحدة أسماها لائحة ترتيب ونظام المحاكم أدخل فيها كثيرا من الأنظمة، وما زال بها يصلح ما ظهر له وجه للإصلاح حتى نقل لمصر في 9 أكتوبر سنة 1919، فتولى بعده حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد أمين قراعة، وقد كان مفتشا في السودان من نوفمبر سنة 1914، وفي عهده صدرت إصلاحات مفيدة ومنشورات وتعليمات اقتضاها الحال. ولما نقل في 6 مايو سنة 1932 تعين بعده في هذا المنصب حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم، فأصدر كثيرا من المنشورات القضائية والنظامية، وأدخل في عهده تعديلات على لائحة المأذونين ولائحة ترتيب ونظام المحاكم، واستبدلت لائحة الرسوم بلائحة أخرى وما زال به إلى الآن. على أن الإصلاح في محاكم السودان من حيث اقتباس الأحكام المناسبة للعصر مما لم يكن في مذهب أبي حنيفة سبقت فيه السودان مصر بزمن بعيد، إذ أساس القضاء فيه أن يكون الحكم بالأرجح من آراء فقهاء الحنفية، إلا في المسائل التي يصدر فيها قاضي القضاة منشورات أو مذكرات قضائية فإنه يعمل بما ينص قاضي القضاة على العمل به من آراء فقهاء الحنفية أو غيرهم من أئمة المسلمين في التشريع. وعلى ذلك جرى العمل: فالطلاق لعسر النفقة أو للعيب، وطلاق زوجة المفقود إذا مضت مدة أربع سنين من حين رفع الأمر إلى القاضي ولم يعد الزوج ولم يظهر له خبر، والتفريق للشقاق والضرر بين الزوجين مما لم يؤخذ به في مصر إلا بالقانون نمرة 25 سنة 1920، والقانون 25 سنة 1929 قد شرع العمل بها والحكم على مقتضاها بمنشور أصدره قاضي القضاة سنة 1902.
صاحب الفضيلة الشيخ محمد أمين قراعة.
فضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم قاضي قضاة السودان حالا.
نعم إن محاكم السودان لم تجر على القول بعدم وقوع طلاق السكران والمكره، وعدم وقوع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه لا غير، وعلى القول بأن الطلاق المقترن بعدد لفظا أو إشارة لا يقع إلا واحدة، وعلى القول بأن كنايات الطلاق لا يقع بها الطلاق إلا بالنية، وأن كل طلاق يقع رجعيا إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول والطلاق على مال وغيره مما جرى عليه العمل في مصر سنة 1929 إلا في مارس سنة 1935. وسبب تأخير هذا التشريع إلى هذا العهد الظن بأن الأفكار في السودان لم تكن مستعدة لهذا التشريع قبل هذا التاريخ.
ويجمل بنا أن نقول: إن المحاكم الشرعية السودانية تتغذى الآن من خريجي القضاء الشرعي، وهو قسم من كلية غوردون يتخصص في العلوم الشرعية مدة خمس سنوات، ولا يقبل في هذه المدرسة إلا بقدر حاجة المحاكم، ويخضعون في امتحانهم في العلوم الشرعية للجنة يعينها قاضي القضاة أو من ينوب منابه. وعند تخرجهم يعينون «عمالا قضائيين» في المحاكم يتمرنون على الأعمال القضائية مدة ثلاث سنوات، ومتى برهنوا في هذه المدة على كفاءة تامة أصدر قاضي القضاة أمرا لقضاة المحاكم المعينين بها لندبهم للفصل في القضايا والوراثات التي هي من اختصاص قاضي المركز تمرينا لهم على القضاء، حتى إذا ما أسند إليهم القضاء في محكمة قاموا به على الوجه الأكمل، وأكبر رجال القضاء الشرعي الموجودين الآن ومن ثلاثة منهم تتكون المحكمة العليا الشرعية التي تستأنف لديها أحكام قضاة المديريات فيما هو من اختصاصهم، أو تتألف منهم محكمة التمييز التي تنظر في الأحكام التي تصدر من قضاة محاكم المديريات بعد مدة الاستئناف أو الأحكام التي تصدر منهم، وهي من اختصاص قضاة المراكز في مدة الاستئناف إذا رغبوا عن الاستئناف لدى قضاة محاكم المديريات أو بعد مضي مدة الاستئناف هم أصحاب الفضيلة:
الشيخ محمد نعمان الجارم
قاضي قضاة السودان
الشيخ أحمد السيد الفيل
مفتي السودان ونائب قاضي القضاة *
الشيخ أبو شامه عبد المحمود
مفتش المحاكم الشرعية
الشيخ عمر عطية
مفتش المحاكم الشرعية *
كان مرشحا ليكون قاضي القضاة إذا وافقت الحكومة المصرية على عدم تعيين قاض مصري فيها.
ونبين فيما يلي صيغة المنشورات الشرعية:
منشور شرعي نمرة 34
صادر في يوم الاثنين 14 شعبان سنة 1351 موافق 12 ديسمبر سنة 1932
الحضانة
مادة 1:
للقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى البلوغ، وللصغيرة بعد تسع سنين إلى الدخول إذا تبين أن مصلحتها تقتضي ذلك. وللأب وسائر الأولياء تعهد المحضون عند الحاضنة وتأديبه وتعليمه.
مادة 2:
لا أجرة للحضانة بعد سبع سنين للصغير وبعد تسع للصغيرة.
مادة 3:
لو زوج الأب المحضونة قاصدا بتزويجها إسقاط الحضانة فلا تسقط بالدخول حتى تطيق.
مادة 4:
على القضاة الحكم بما نص عليه في هذا المنشور من تاريخ صدوره.
قاضي قضاة السودان: محمد نعمان الجارم
حاشية
مذهب الإمام مالك في الحضانة أن حضانة النساء للصغير تكون إلى البلوغ وللصغيرة تكون إلى الزفاف. وعادات السودان أن البنت تكون مع أمها حتى إذا تزوجت يسكن الزوج معها في أول الزواج في بيتها ولا ينقلها منه. وقد روعي في المنشور مذهب الإمام مالك إذا كانت ثمت مصلحة للصغير في بقائه مع الحاضنة، كما روعي مذهب أبي حنيفة إذا كانت المصلحة في بقاء الصغير مع الأب أو غيره ممن لهم حق الحضانة.
منشور شرعي نمرة (41)
صدر من محكمة عموم السودان الشرعية في يوم الاثنين 20 ذي الحجة سنة 1353 الموافق 25 مارس سنة 1935م.
القواعد الآتية بعد موافقة جناب السكرتير القضائي لحكومة السودان للعمل بها في المحاكم الشرعية:
الطلاق (1)
لا يقع طلاق السكران والمكره. (2)
لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به العمل على فعل شيء أو تركه لا غير. (3)
الطلاق المقترن بعدد لفظا أو إشارة لا يقع إلا واحدة رجعية. (4)
كنايات الطلاق في مذهب الحنفية، وهي ما تحتمل الطلاق وغيره لا يقع بها الطلاق إلا بالنية. (5)
كل طلاق يقع رجعيا إلا المكمل للثلاث، والطلاق قبل الدخول، والطلاق على مال، وما نص على كونه بائنا في منشور قبل ذلك. أما التفريق بالطلاق بسبب اللعان أو العنة أو إباء الزوج عن الإسلام عند إسلام زوجته، فالحكم فيه على مذهب أبي حنيفة.
النفقة والعدة (6)
تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرا وعسرا مهما كانت حالة الزوجة. (7)
لا تسمع عند الإنكار دعوى الإرث بسبب الزوجة المطلقة توفي زوجها بعد سنة من تاريخ الطلاق.
دعوى النسب (8)
لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينها وبين زوجها من حين العقد. ولا لولد زوجة أتت بعد سنة من غيبة الزوج عنها ولا لولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق والوفاة. (9)
المراد بالسنة في المادتين 7 و8 هي السنة التي عدد أيامها «365» يوما.
المهر (10)
إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر فالبينة على الزوجة. فإن عجزت كان القول للزوج بيمينه إلا إذا ادعى ما لا يصح أن يكون مهرا لمثلها عرفا، فيحكم بمهر المثل، وكذلك الحكم عند الاختلاف بين أحد الزوجين وورثة الآخر أو بين ورثتيهما.
الهبة (11)
لا يشترط أن يكون قبض الهبة بإذن الواهب فللموهوب له أن يحوز الموهوب من واهبه بإذنه أو بغير إذنه. (12)
تبطل الهبة إذا تأخر حوزها حتى أحاط الدين بمال الواهب، ولو كان الدين حادثا بعد الهبة. (13)
إذا جن الواهب أو مرض قبل الحوز، فالهبة موقوفة؛ فإن صح من مرضه أو أفاق من جنونه إفاقة بينة فلا تبطل الهبة وله للموهوب الحوز حال الصحة والإفاقة. أما إذا اتصل المرض والجنون بالموت بطلت الهبة. (14)
هبة أحد الزوجين للآخر وهبة الأم لابنها الصغير متاعا من متاع البيت أو الحيوان تصح، إذا أشهد الواهب على الهبة ولو لم يرفع يده عن الموهوب لأن هذه الهبة لا تحتاج لحيازة. فمتى أشهد الواهب على الهبة وحصل المانع وهي في حوزه فلا يضر. (15)
تزيين الأب أو الأم ولده ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا بتعلية أو إلباس ثياب فاخرة أو باشتراء دابة له يركبها أو اشتراء كتب يحضر فيها أو سلاح يحترس أو يتزين به يكون هبة يختص بها دون الورثة إلا إذا أشهد أنه على وجه الإمتاع؛ لأن التحلية قرينة على التمليك. (16)
يستعمل بهذه الأحكام من تاريخ صدورها وفي الحوادث السابقة عليه إلا إذا اتصل بها القضاء.
قاضي قضاة السودان: محمد نعمان الجارم (4) أوامر عالية ومراسيم بتعيين الحاكم العام
أمر عالي خديوي - نحن خديوي مصر:
بناء على البند الثالث من الوفاق المعقود بين حكومة جلالة ملكة الإنكليز وحكومتنا.
أمرنا بما هو آت
عين الفريق لورد كتشنر أوف خرطوم وأسبال باشا سردار الجيش المصري حاكما عاما للسودان.
صدر بسراي القبة في 7 رمضان سنة 1316 / 19 يناير 1899.
نشر بالغازيتة السودانية الصادرة في 7 مارس سنة 1899.
عباس حلمي
أمر عال خديوي
نحن خديوي مصر
بناء على البند الثالث من الاتفاق الذي عقد بين حكومة جلالة ملكة بريطانية العظمى وحكومتنا في تاريخه 19 يناير سنة 1899 بالقاهرة.
أمرنا بما هو آت
قد تعين سعادتلو أفندم الفريق السير رجينلد ونجت باشا الحائز على نيشاني ميخائيل وجورج والحمام العلي الشأن ونيشان الامتياز وياور جلالة الملكة وسردار الجيش المصري حاكما عاما للسودان عوضا عن سعادتلو أفندم الفريق اللورد كتشنر أوف خرطوم وأسبال باشا الحائز نيشاني الحمام وميخائيل وجورج العالي الشأن الذي استعفي من هذه الوظيفة.
صدر في سراي عابدين العامرة بتاريخ 20 شعبان سنة 1317 الموافق 23 ديسمبر سنة 1899. «نشر بالغازيتة السودانية رقم 8 في 2 يناير سنة 1900.»
الإمضاء: عباس حلمي
تعيين
بناء على المادة الثالثة من الاتفاق المعمول به بين حكومة بريطانيا العظمى والحكومة المصرية بتاريخ 19 يناير سنة 1899 الخاص بإدارة السودان في المستقبل؛ قد تعين بناء على توصية حكومة صاحب الجلالة البريطانية السر جورج ستيوارت سايمز حاكما عاما للسودان خلفا للسر جون لورد مفي، وذلك بمقتضى الدكريتو الصادر من جلالة الملك فؤاد الأول بتاريخ 29 أكتوبر سنة 1933. «غازيتة الحكومة السودانية في 15 نوفمبر سنة 1933»
تعيين شرعي
1
تعطف صاحب المعالي الحاكم العام بتعيين صاحب الفضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم قاضيا لقضاة المحاكم الشرعية بالسودان.
الخرطوم في 21 إبريل سنة 1932. «غازيتة الحكومة السودانية عدد 561 في 15 مايو سنة 1932». (5) الإدارة الأهلية
قال ألين إيرلندي في كتابه «مناطق الشرق الأقصى» طبعة 1905 صفحة 71 بالإنكليزية:
مما يخطئ فيه الأوربيون في الشرق أنهم يعملون على نشر المدنية الغربية وإزالة الأساليب الوطنية، بدلا من استغلالها: يوجد طريقان تستطيع الحكومة أن تسلكهما - الأول هو أن تبدأ بالأشياء التي تجدها، نابذة ما هو خطر وظالم منها، مؤازرة ما هو صالح من عادات أهلها، تاركة النظام والتشريع للمناسبات. فإذا بدت حاجات جديدة كان لزاما على الحكومة أن تفحصها، وأن تهيئ لها من الإجراءات ما يتفق مع حالتها ومكانتها، بدلا من استيرادها من الخارج. ومن أجل أن لا تكون هذه الإجراءات مضادة للعادات الوطنية، يجب العمل على الفوز برضاء الأهالي قبل تنفيذها. حقيقة إن التقدم بهذه الوسيلة يكون بطيئا، وإن النظام المنشود لا يعد مقبولا من وجهة نظرنا. ولكنه يكون في الواقع هادئا وثابتا، وتكون الثقة في ازدياد، ولا يكون هناك شعور بنير أجنبي موضوع على أكتافهم. والطريقة الثانية هي اكتساح القديم وإدخال نظام يؤثره الأوربيون؛ كأن يوضع قانون للعقوبات على آخر طراز أو نظام للضرائب والبوليس مأخوذ عن الغرب بما فيه من مزايا ومبادئ. ومن غير التفكير في كيف ينطبق هذا على الظروف المحلية.
ويرى لورد لوجارد في كتابه «الانتداب» وآخرون من رجال الإدارة الأوربيين في أفريقيا الأخذ بالطريقة الأولى «على أنه إذا كان من الحكمة حكم الوطنيين على مقتضى أساليبهم مع تعديلها بحيث لا يطبق منها ما يعد مناقضا للإنسانية - فإن طبيعة النظم الوطنية تكون مثار البحث والتشاور - أليست هذه الأساليب مؤسسة على عناصر الوحشية والجهل، وإنه إذا أخرج منها العناصر المضادة للإنسانية فإن الباقي منها لن تكون له قيمة ويفقد انسجامه، كما أنه يتسائل من ذا الذي يحكم بمقتضى هذه الأساليب الوطنية وما هي مؤهلاته؟» •••
لقد نهجت الحكومة السودانية في العهد الأخير خاصة منهج الحكم بواسطة مشايخ القبائل
2
بإعطائهم سلطة قضائية وشيئا من السلطة التنفيذية «البوليسية»، وتقوم هذه الفكرة على أساس تخفيض نفقات الإدارة، وتخفيف المسئولية عن الحكومة المركزية، وإنشاء وحدات من القبائل، وإبعاد الكراهة للحكام الإنكليز أو المباشرين. ويقول مستر هارولد ماكمايكل - السكرتير الإداري السابق للحكومة السودانية وحاكم تنجانيقا - في كتابه «السودان الإنكليزي المصري» ص235: إن السوداني - سواء أكان عربيا أم لا دينيا، فإنه يؤثر الإداري الذي يتولى حكمه. فهو يثق به أكثر من سواه. ولكنه لن يمنحه الاحترام والتبجيل الذي يبديه لشيخ قبيلته، فإنه بحسب عقيدته يمقت من كل قلبه الأجنبي، ويعتقد فيه أنه لا يفهم دينه، وأن عاداته لا يقبلها الذوق.»
ويقول بنتام: «إذا كنت تريد أن تكسب قوما، فيجب عليك أن تجعلهم يعتقدون أنك تحبهم، وأن الطريقة المثلى هي أن تحبهم حبا صادقا.» ويقول ماكميكل: «إذا كان هذا القول حقا فإنه من جهة أخرى لا يمكن أن تؤسس المحبة على الجهل وسوء التفاهم. وعلى الإداري الذي يريد أن يكون ناجحا في إدارته أن يتجمل بالصبر وسعة الحيلة، وأن يبحث عن العادات الحسنة التي تكون مختبئة في الأساليب الوطنية، وأن يحاول بصبر أن يفهم أماني الوطنيين وآمالهم، وأن يبحث عن حاجاتهم، وأن يعرف لماذا يشعرون بها ويريدونها، قبل أن يشرع لهم. وقد وصل إلى هذا تمكن الإداري من استغلال الأساليب المحلية والعادات لما هو مفيد وسام.»
ويقول الأستاذ بولارد في الفصل السادس من الجزء الثاني من «تاريخ كامبردج الحديث»: «جميع الحكومات - سواء أكانت مدنية أم دينية - تقوم على أساس واحد، فليست قوتها في أنها توافق العقل والصواب والقانون. ولكنها تستمد قوتها من العادة ولا يكون الحكم ممكنا إذا أغفلت العادات التي تسبق القانون، والتي عندما تثبت في النفوس تصاغ بصيغة القانون. والقتل والاعتداء وجرائم الخيانة والسرقة والغش جرائم محتقرة عند الأوربيين والسودانيين على السواء.»
كانت أساليب نظام القبائل هي المتبعة في السودان قبل فتح محمد علي 1821. ولم يشأ الحكم المصري في السودان أن يتدخل في نظام القبائل، وقد ترك لمشايخها أكثر ماكان لهم من السلطة على أن ينفذوا الأوامر التي تصدر إليهم، وأن يحصلوا الضرائب، وعلى أن لا يقوموا بأي عمل مضر بمصالح الحكومة.
عندما أعيد فتح السودان، كان إدارته وحفظ الأمن فيه عسكريا، وكان لا يزال ماثلا لأذهان الحكام حوادث المهدية. وكان سلاطين باشا الذي عين مفتشا عاما للسودان محل ثقة الحاكم العام سير رجنالد ونجت باشا،
3
وكانت آراؤه محترمة ونافذة. ولكونه احتمل ضروبا من الأذى وصنوفا من الإرهاق والذل والهوان وهو في الأسر، ظل ذهنه مطبوعا بآثار ما عانى واحتمل، وظل يذكر الحوادث السابقة، وكان قد انتهى إلى عقيدة لم يتحول عنها، وهي أنه يجب أن لا يسمح لأحد من السودانيين أن يكون زعيما دينيا أو قبليا، وأن لا يسمح لأية شخصية في السودان أن تظهر وأن تنمو. وقد ظلت هذه الفكرة في أثناء وجود سلاطين باشا من سنة 1899 إلى 1914، حيث عاد إلى بلاده النمسا وقامت الحرب وترك منصبه.
ويقول مستر ماكميكل: «إنه وإن كانت هذه الفكرة صحيحة إلا أنه يجب الاعتراف بأن هناك حقيقة، وهي أنه ما دام للإنسان وجود على الأرض فسيوجد دائما رجال يبرزون، وإن بروزهم لا يكون غير معقول أو شيئا في غير محله. وفضلا عن ذلك فإن الناس يفضلون أن يكون لهم زعماء ولا ينتظر منهم أن يقنعوا بغير ذلك.»
وقد أحدثت الحرب ونتائجها تغييرا في الحكومات. وقد وجدت حكومة السودان أن من الضروري إحداث تغيير في طريقة حكمه. وقد جاء في تقرير سير لي ستاك - الحاكم العام للسودان - عن 1921: «لقد اتخذت خطوات كثيرة منذ ابتداء سنة 1921 لانتهاج سياسة مقتضاها السماح للوطنيين «أهالي السودان» بنصيب في إدارة شؤونهم ومساعدتهم على احتمال المسئوليات. وقد نفذت هذه السياسة بوسائل مختلفة لتحقيق هذا الغرض: فقد انتخب أهالي السودان وعينوا في بعض وظائف معينة ونيطت بهم أعمال إدارية مباشرة. ومن جهة أخرى وضع تشريع خول للمشايخ الوطنيين بعض السلطات على أفراد قبائلهم.» والتشريع المشار إليه قد وضع سنة 1921 وووفق عليه سنة 1929، ورئي أن تكون سلطة المشايخ بارزة في الميدان القضائي أكثر من السلطة التنفيذية، وثانيا أن الأمر الصادر بهذا وصف بأنه تنظيم لسلطة المشايخ، وذكر فيه أنه منذ زمن بعيد كان لمشايخ القبائل البجوية سلطة معاقبة رجال قبائلهم والفصل في المنازعات التي تقوم بينهم، وأنه قد رئي تنظيم استعمال هذه السلطات. وجعل أقصى ما يمكن الحكم به من الغرامة في الجرائم الكبيرة التي يفصل فيها الشيخ مع أعضاء محكمته غرامة أقصاها 25 جنيها إنكليزيا، والجرائم الصغرى رخص للشيخ أن يحكم فيها وحده بإذن من المدير، وأن يكون أقصى الغرامة عشرة جنيهات، ولم يرخص لهم بإصدار أحكام بالحبس، وقد نيط تنفيذ حكم الشيخ بواسطة الحكومة كما لو كان الحكم صادرا من محكمة قضائية عادية.
وفي سنة 1922 رئي القيام بتجربة في دار مساليت التي كان يحكمها سلطان من أهلها، والتي ضمت إلى السودان بمقتضى الاتفاق الإنكليزي الفرنساوي سنة 1919. ذلك بأن ترك لهذا السلطان أن يدير الشئون الداخلية لمملكته الصغيرة تحت إشراف «مقيم بريطاني» ومن جهة أخرى خول رئيس الشلك «ريت» في النيل الأعلى شيء من السلطة. وأنشئت محاكم من المشايخ في المديريات الجنوبية للفصل في القضايا المحلية القليلة الأهمية.
وقد واصلت الحكومة السودانية هذه التجارب وقال الحاكم العام في تقريره: إنه قد أصبح لثلثمائة شيخ للقبائل البدوية وشبه البدوية سلطات تؤيدها سلطة الحكومة. وفي سنة 1925 وضعت ميزانية خاصة للإدارة الأهلية بدار مساليت ومنح لريق الدنكة في بحر الغزال محكمة مشايخ. وصدر قانون المحاكم القروية عندما عين سير جوفري آرشر خلفا للسير لي استاك في يناير سنة 1925، وواصل تحقيق هذه السياسة، ولكنه استقال بسبب صحته، وعين في 18 أكتوبر 1926 سير جون مافي حاكما عاما للسودان، وقد كان قبلا حاكما للإقليم الشمالي الغربي بالهند. وقد قال سير جون في تقريره عن سنة 1927 إنه مقتنع بتوسيع الإدارة الأهلية وبتطبيق توصيات لجنة ملنر 1919 و1921 قد خول الأمر الصادر من مجلس الحاكم العام في سنة 1921 بأن يكون له تأليف «محاكم أهلية»، أي تؤلف من الأهالي في أي جهة، وأن يكون هناك نوعان من المحاكم: المحاكم العليا والمحاكم الصغرى، فالمحاكم العليا يعين رئيسها ونائب رئيسها وأعضاؤها التي تؤلف منها ويحد اختصاصها في العقاب وتختلف هذه السلطة، فهي أحيانا الحكم بالحبس لمدة سنتين والغرامة إلى مائة جنيه، وأحيانا بالحكم بالحبس لمدة شهر وغرامة خمسة جنيهات. أما في المحاكم الصغرى فتتراوح السلطة بالحكم بغرامة مبلغها جنيهان وعشرون جنيها مصريا. ولهذين النوعين من المحاكم اختصاص مدني واختصاص جنائي. وخول لمديري المديريات، بشرط موافقة الحكومة المركزية بأن يضعوا قواعد لسير هذه المحاكم وبأن يكون للمديرين والمفتشين حق مراجعة أي حكم تصدره محكمة أهلية، أو أن ينقلوا أية قضية إلى المحاكم العادية إذا رأوا ضرورة لذلك.
وفي سنة 1928 تقرر فتح اعتماد بإعطاء مكافآت أو مرتبات لرؤساء المحاكم ومشايخ القبائل مقابل الأعمال المنوطة بهم والنفقات التي عليهم آداؤها، مثل مرتبات السعاة والخدم ونفقات بناء دور لهذه المحاكم. وقد عدل قانون الإجراءات الجنائية؛ فقد أنشئت في المدن محاكم مثل هذه للفصل في الجرائم الصغيرة بمقتضى هذه العقوبات، وأعطي للمجالس الحكم بالحبس لمدة شهر والغرامة إلى خمسة جنيهات.
كذلك وسعت الإدارة الأهلية عن طريق السماح للمشايخ الأكفاء الموثوق بهم الرقابة على ميزانيات القبائل، وألفت جمعية تعاونية مدتها الحكومة بالمال تحت إشراف محكمة أهلية في طوكر بإدارة المال المخصص للسلف الزراعية للزراع في دلتا البركة، وقد جعلت قبائل البجة مع الهدندوة تحت مديرية كسلا بدلا من محافظة بور سودان.
وفي نهاية 1929 كان هناك 72 محكمة أهلية في شمال السودان سمعت أكثر من عشرة آلاف قضية.
وفي سنة 1931 صدر قرار بشأن القبائل اللادينية في الجنوب. كما صدر قرار آخر في صدد المحاكم الأهلية في الشمال حل محل التشريع السابق. (6) النظام القضائي في السودان (6-1) المحاكم الأهلية
أنشئت في السودان محاكم تشبه «محاكم الأخطاط» في مصر، وأسميت المحاكم الأهلية، وصدر بشأنها القانون نمرة 3 سنة 1932.
قانون المحاكم الأهلية سنة 1932 - نشر في غازيتة الحكومة السودانية عدد 558 في 15 فبرير سنة 1933.
وهو قانون لإلغاء سلطات المشايخ سنة 1918، وقانون المحاكم القروية سنة 1925، وقانون «تعديل» المحاكم القروية سنة 1930، وإعادة سنها معدلة.
قد سن حاكم السودان العام في مجلسه ما يأتي:
اسم القانون وبدء نفاذه (1) يسمى هذا القانون قانون المحاكم الأهلية سنة 1932، ويعمل به عند نشره في غازية حكومة السودان.
إلغاء (2-1) يلغي هذا القانون سلطات المشايخ سنة 1928، وقانون المحاكم القروية سنة 1925، وقانون «تعديل» المحاكم القروية سنة 1930. (2-2) جميع السلطات التي منحت، والأعمال التي عملت، والأحكام التي أصدرت، والأوامر أو التعيينات التي حصلت، واللوائح التي قررت بمقتضى أي القوانين التي قرر إلغاؤها بهذا القانون، والتي تكون نافذة المفعول مباشرة قبل اليوم الذي يعمل فيه بمقتضى هذا القانون تعتبر كأنها منحت وعملت وأصدرت وحصلت وقررت بمقتضى هذا القانون. (2-3) عندما ينفذ هذا القانون تعتبر جميع القضايا المعلقة في أي محكمة مؤسسة بمقتضى أي القوانين التي ألغيت بهذا كأنها شرع فيها بمقتضى هذا القانون، ويواصل السير فيها بمقتضاه. (2-4) في كل تشريع صادر قبل نفاذ هذا القانون أشير فيه إلى أي قانون ملغى بهذا تعتبر تلك الإشارة بالقدر الممكن موجهة إلى هذا القانون.
سريان القانون (3) يسري هذا القانون على كل السودان ما عدا مديريات أعالي النيل وبحر الغزال ومنجلا.
تعريف الألفاظ (4) تدل الألفاظ والعبارات الآتية في هذا القانون على ما يلي من المعاني ما لم يظهر لها الموضوع أو سياق الكلام معنى آخر.
يشتمل لفظ المفتش «مساعد المفتش». عبارة «موظف حكومة» تشتمل أي شخص مستخدم في الحكومة ما عدا: (أ)
صف ضباط وأنفار قوة دفاع السودان. (ب)
رجال البوليس من رتبة بتجاويش وأدنى. (ج)
الفعلة والمراسلات والحمالين وأية طوائف من الخدامين في أية مديرية أو مركز أو منطقة يقررها الحاكم العام بأمر ينشر في غازيتة حكومة السودان، ولكن تلك العبارة لا تشمل أي شخص في خدمة شيخ .
يشمل لفظ «شيخ» كل زعيم قبيلة أو إقليم منح سلطة على قبيلته أو جزء من مركز أو على قرية.
ويراد بلفظ «رئيس» كل شخص يرأس أية محكمة من المحاكم المؤسسة بمقتضى هذا القانون.
ويراد بعبارة «محكمة قانونية اعتيادية» أية محكمة مؤسسة بمقتضى قانون تحقيق الجنايات أو قانون القضاء المدني أو قانون محاكم السودان الشرعية سنة 1902.
أنواع المحاكم الأهلية (5) تكون في السودان أنواع المحاكم الأهلية الآتية: (أ) «محكمة شيخ» ويقصد بها محكمة يرأسها شيخ جالس مع أعضاء. (ب) «محكمة شيخ جالس في مجلس» ويقصد بها محكمة الشيخ الجالس مع الكبار . (ج)
محكمة قروية. (د)
محكمة شيخ جالس منفردا. (ه)
محكمة مخصوصة كالمنصوص في المادة 13.
إنشاء المحاكم الأهلية (6-1) يجوز للحاكم العام أن ينشئ محاكم أهلية في الأماكن التي يستنسبها. (6-2) تنشأ محكمة مخصوصة بالطريقة المبينة في المادة 13. (6-3) تنشأ محكمة قروية بأمر كتابي موقع عليه من المدير بموافقة الحاكم العام. (6-4) كل نوع آخر من المحاكم الأهلية ينشأ بأمر موقع عليه من الحاكم العام.
الأوامر القضائية بإنشاء المحاكم الأهلية (7-1) يعين في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهلية سلطاتها وحدود اختصاصها. (7-2) يجب أن يبين في الأمر اسم الرئيس، وإذا كانت محكمة شيخ فيبين أسماء الأشخاص المؤهلين للجلوس كأعضاء، ويجوز أن يبين بالنسبة إلى محكمة الشيخ الجالس في مجلس الكبار المؤهلون للجلوس مع الشيخ. (7-3) في محكمة الشيخ يجب أن يبين في الأمر الطريقة التي ينتخب بها الأعضاء المستعاضون والإضافيون وعدد الأعضاء الكافي لانعقاد المحكمة. (7-4) يجوز أن ينص في الأمر أن الرئيس مأذون له أن يحول سلطاته إلى الأشخاص المذكورين في الأمر، وما لم ينص على ذلك صراحة فلا يجوز للرئيس أن يحول سلطاته إلا بإذن كتابي من المدير، ولا يعطى ذلك الإذن إلا في ظروف استثنائية فقط. (7-5) يجب أن يصحب الأمر باللوائح الصادرة بمقتضى المادة 17. وإذا كانت محكمة قروية يجب أن يبين بتلك اللوائح تشكيل المحكمة وتعيين الرئيس. (7-6) يجوز أن يلغى الأمر بواسطة الحاكم العام، وتسحب السلطات الممنوحة بمقتضاه، إذا اقتنع أن تلك السلطات قد أسيء استعمالها.
اختصاص المحاكم (8-1) لكل محكمة أهلية الاختصاص الكامل والسلطة بالقدر المبين في هذا القانون أو في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة أو في اللوائح المصحوب بها ذلك الأمر، ويشترط أن لا تكون لمحكمة أهلية سلطة: (أ)
أن تسمع أية دعوى مدنية طرفاها غير داخلين تحت اختصاص المحكمة إلا برضاء الطرفين أو. (ب)
أن تسمع أية دعوى مدنية يكون أحد طرفيها داخلا تحت الاختصاص والطرف الآخر غير داخل إلا برضاء الطرف غير الداخل تحت الاختصاص أو. (ج)
أن تسمع أية دعوى مختصة بملكية أرض ما عدا دعوى قسمة أرض مسجلة بمقتضى قانون تسوية وتسجيل الأراضي سنة 1925 ومملوكة لشركاء إرث بحصص شائعة أو. (د)
أن تحكم في أية قضية جنائية يكون المتهم فيها موظفا في الحكومة أو. (ه)
أن تحكم في أية قضية جنائية يكون المتهم فيها رجل بوليس إلا برضاء المدير وإن كان المتهم صف ضابط أو عسكريا في قوة دفاع السودان فلا تحكم إلا برضاء قومندان القسم والمدير أو. (و)
أن تحكم في أية جريمة من الجرائم المبينة في الجدول الأول الملحق بهذا القانون.
ويشترط أيضا ألا تكون للمحكمة القروية سلطة: (ز)
أن تحكم في أية جريمة من الجرائم المبينة في الجدول الثاني الملحق بهذا القانون أو. (ح)
أن تسمع أي دعوى مدنية تزيد قيمة الشيء المتنازع فيه عن خمسة جنيهات مصرية ما عدا أمثال القضايا المذكورة في البند الشرطي (ج). (8-2) لا يؤول البند الشرطي (ج) من الفقرة (أ) بحيث يحرم المحكمة الأهلية من سماع قضية تتعلق بملكية النخيل. (8-3) في دعوى قسمة عقار مسجل تحت قانون تسوية وتسجيل الأراضي سنة 1925 ومملوك لشركاء في إرث بحصص شائعة للمحكمة الأهلية ذات الاختصاص على المنطقة التي يقع فيها العقار الحق أن تسمع وتفصل في تلك القضية بصرف النظر عن أن واحدا أو أكثر من الشركاء في الملك لا يقيم أو لا يقيمون ضمن دائرة اختصاص المحكمة أو غير داخل أو غير داخلين تحت اختصاصها.
القانون الذي يطبق (9-1) تطبق المحكمة الأهلية ما يأتي: (أ)
القانون الأهلي والعرف الساري في المنطقة أو في القبيلة التي تباشر المحكمة اختصاصها عليها، بشرط أن لا يخالف ذلك القانون الأهلي والعرف العدالة أو الفضيلة أو النظام. (ب)
نصوص أي قانون لا تكون جزءا من القانون الأهلي والعرف إذا أذن صراحة للمحكمة بمقتضى أمرها أو لوائحها أن تطبق النصوص. (9-2) يجوز للمحكمة الأهلية مع مراعاة الشروط المدونة في أمرها ولوائحها أن تحكم في الجرائم بالحبس أو الغرامة أو بهما معا. أو بالنسبة إلى الذكور فلها أن تحكم بما لا يزيد عن 25 جلدة بالسوط أو المقرعة. على أنه يشترط ما يأتي: (أ)
أن لا تحكم محكمة الشيخ الجالس في مجلس بالحبس. (ب)
أن تحكم المحكمة القروية بالغرامة فقط، وأن لا تتجاوز مقدار تلك الغرامة العشرة جنيهات مصرية.
وجوب حفظ محضر (10) يجب أن يحفظ محضر بالكتابة عن كل القضايا التي يحكم فيها بموجب هذا القانون.
ويجب أن يشتمل المحضر على ما يأتي: (أ)
اسم الرئيس. وإذا كانت محكمة شيخ أو محكمة قروية فيجب تدوين أسماء الأعضاء. (ب)
تاريخ ومكان سماع القضية. (ج)
أسماء طرفي القضية. (د)
أسماء الشهود الذين استجوبوا. (ه)
بيان موجز عن الوقائع. (و)
حكم المحكمة الذي يجب أن يوقع عليه الرئيس، وإذا كانت محكمة شيخ أو محكمة قروية فيجب أن يوقع عليه الأعضاء.
وجوب صدور الأحكام بالإجماع أو وجوب الموافقة عليها (11) لا يعد صحيحا حكم محكمة الشيخ أو حكم محكمة قروية لم يوافق عليه الأعضاء بالإجماع ما لم يصدق عليه المفتش، ولا يحصل هذا التصديق على حكم ما لم يكن أصدر بأغلبية أصوات المحكمة.
الاستئناف (12-1) يجوز أن تعطى المحكمة الأهلية - بموجب الأمر القاضي بإنشائها - سلطات استئنافية، وفي هذه الحالة يجب أن يبين في الأمر المحاكم الأهلية التي يجوز استئناف أحكامها إلى تلك المحكمة. (12-2) إذا نص على ذلك صراحة في اللوائح المرافقة للأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهلية فيكون هناك حق في استئناف قرار تلك المحكمة إلى المحكمة الأهلية الأخرى المبينة في لوائح المحكمة الأولى المذكورة. (12-3) إذا لم تشتمل اللوائح المرافقة للأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهلية على نص صريح بخصوص حق الاستئناف إلى محكمة أهلية أخرى، فلا يصح الاستئناف إلا برضاء المدير أو المفتش.
المحاكم المخصوصة (13-1) في أي الأحوال الآتية يجوز للمدير بموافقة الحاكم العام أن يعقد محكمة إذا رأى ذلك من صالح العدالة: (أ)
إذا كان المتهم أو المدعى عليه تابعا لاختصاص محكمة أهلية والمشتكي أو المدعي تابعا لاختصاص محكمة أخرى. (ب)
إذا كان المتهم نفسه شيخا. (ج)
إذا كانت الجريمة المزعومة ذات جسامة بحيث يظهر أن سلطات أية محكمة أهلية ذات اختصاص غير كافية للنظر والحكم فيها. (13-2) يسمي المدير الرئيس والأعضاء للمحكمة المخصوصة من الأشخاص المعينين بمقتضى البند 7 للجلوس في محكمة شيخ. (13-3) في الأحوال المبينة بالبندين (أ) و(ب) من الفقرة (1) يجوز أن تكون موافقة الحاكم العام المطلوبة بالفقرة «1» موافقة عمومية قابلة للإلغاء من قبله في أي وقت، ولكن في الحالة المبينة بالبند (ج) من الفقرة «1» يجب أن تكون هناك موافقة مخصوصة تتعلق بكل حالة. (13-4) سلطات المحكمة المخصوصة بالحبس لا يجوز أن تزيد: (1)
في الحالة المبينة بالبند (أ) من الفقرة (1) عن أقصى السلطات المقررة في الأمر لأي عضو من أعضاء المحكمة المخصوصة بصفته رئيسا لمحكمة أهلية. (2)
في الحالة المبينة بالبند (ب) من الفقرة (1) عن سبع سنوات. (3)
في الحالة المبينة في البند (ج) من الفقرة (1) عن عشر سنوات. (4)
لا يعتبر القرار ولا الحكم نهائيا في أية قضية جنائية حكمت فيها محكمة مخصوصة إلا بعد أن يؤيده المدير.
سلطة إعادة النظر (14-1) في أية قضية حكمت فيها محكمة أهلية غير المحكمة المخصوصة يجوز للمدير أو للمفتش بناء على طلب أي شخص له علاقة بالقضية أو من تلقاء نفسه أن يفعل ما يأتي: (أ)
أن يوقف أو يخفض أو يعدل بغير ذلك أي حكم أو قرار أو. (ب)
أن يأمر بإعادة سماع القضية أمام نفس المحكمة أو أمام أية محكمة أهلية أخرى مختصة بالنظر فيها أو. (ج)
أن ينقل إلى محكمته أية قضية إما قبل المحاكمة أو في أية درجة من درجات الإجراءات، سواء كان قبل أو بعد إصدار الحكم أو إعطاء القرار. (14-2) للمدير مثل هذه السلطات في أية قضية حكمت فيها محكمة مخصوصة.
القضايا المعلقة أو التي حكم فيها أمام محاكم أخرى (15) لا حق للمحاكم القانونية الاعتيادية بالنظر في أية مسألة - جنائية كانت أو مدنية - سبق الحكم فيها بموجب نصوص هذا القانون ما دام ذلك الحكم قائما، ولا يجوز لأية محكمة منشأة بمقتضى هذا القانون أن تحكم في أية قضية تنظر فيها أو قد نظرتها أية محكمة قانونية اعتيادية إلا برضاء تلك المحكمة.
التنفيذ (16-1) الحكم بالغرامة إذا أصدرته محكمة لها سلطة الحكم بالحبس يجوز تنفيذه بمقتضى حكم الحبس في حالة عدم دفع الغرامة بشرط أن لا يزيد مجموع مدة الحكم بالحبس في حالة عدم دفع الغرامة والحكم الأساسي بالحبس «إن وجد» كلاهما عن أقصى المدة التي للمحكمة الحكم بها. (16-2) تنفذ أحكام وقرارات المحاكم الأهلية بالطريقة المنصوص عليها في اللوائح المرفقة بالأمر القاضي بإنشاء المحكمة. (16-3) يجوز للمفتش أن يجري تنفيذ حكم أية محكمة أهلية بناء على طلب تلك المحكمة أو طلب الطرف المتظلم بنفس الطريقة التي ينفذ بها لو كان حكم أو قرار محكمة قانونية اعتيادية.
اللوائح (17-1) يصدر المدير لوائح ترافق الأمر القاضي بإنشاء المحكمة الأهلية لإرشاد المحكمة وتنفيذ نصوص هذا القانون.
لا يجوز أن تكون تلك اللوائح مخالفة لنصوص هذا القانون، ويجوز أن تنص على ما يأتي: (أ)
تحديد سلطات المحاكم الأهلية من حيث اختصاصها على الأشخاص والجرائم التي يجوز أن تحاكم فيها والعقوبات وأنواع أو قيمة القضايا التي يجوز أن تسمع وأية قيود أخرى يستنسبها المدير. (ب)
الإجراء بخصوص الاستئنافات. (ج)
الرسوم التي تدفع في المحاكم الأهلية. (د)
التصرف بالغرامات والرسوم التي تحصلها المحاكم الأهلية واستعمال تلك الغرامات والرسوم. (ه)
طرق السير في المحاكم الأهلية والإجراءات المتبعة فيها. (و)
تشكيل المحاكم القروية وتعيين أشخاص للرئاسة. (ز)
تعيين الكبار للجلوس مع الشيخ في المجلس. (ح)
الطريقة التي تنفذ بها قرارات المحاكم. (ط)
تنفيذ نصوص هذا القانون على العموم. (17-2) هذه اللوائح تكون خاضعة لموافقة السكرتير الإداري والسكرتير القضائي وبقدر ما لها من العلاقة بالتصرف بالرسوم أو إيراد آخر أو صرف أي مصاريف لم تقرر في الميزانية تكون خاضعة لموافقة السكرتير المالي.
الجدول الأول:
القتل، الجرائم ضد الحكومة أو التي تتعلق بالقوات العسكرية، الجرائم التي تتعلق بالاسترقاق، أي أنواع أخرى من الجرائم يجوز أن تستثنى على الخصوص في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة.
الجدول الثاني:
التهجم. الأذى. الإساءة الناشئ منها خسارة أو تلف بمقدار لا يزيد عن خمسة جنيهات مصرية. التعدي الجنائي. السب. المشاجرة. تلويث ماء مورد عام أو صهريج عمدا. السرقة أو الامتلاك الجنائي أو خيانة الأمانة لمال لا تزيد قيمته عن خمسة جنيهات مصرية.
الجرائم ضد أي قانون داخل صراحة في الأمر القاضي بإنشاء المحكمة بأنه قانون تدخل مخالفته ضمن اختصاص المحكمة.
أصدره حاكم السودان العام في مجلسه في اليوم الثاني والعشرين من شهر يناير سنة 1932. «الإمضاء» ر. ح هلارد سكرتير المجلس «الإمضاء» ج. ل. مفي الحاكم العام
تنفيذ الأحكام بين مصر والسودان
بمقتضى قانون تنفيذ الأحكام المصرية الصادر في 23 مايو سنة 1901، يجب على صاحب أي حكم مصري مدني أن يتوجه إلى السودان أو أن يعين وكيلا له فيه لدى المحكمة المدنية للحصول على حكم سوداني استنادا إلى الحكم المصري.
أما الأحكام الشرعية المصرية فإنها تنفذ في السودان مباشرة بغير حاجة إلى استصدار حكم في السودان؛ ذلك لأن القضاء الشرعي في السودان يسير طبقا للقضاء الشرعي في مصر، ولأن قاضي قضاة السودان هو قاض شرعي مصري كما هو معروف، وتسلم حكومة السودان إلى الحكومة المصرية كل متهم أو محكوم عليه من المصريين بمجرد طلب وزارة الحقانية المصرية.
وتنفذ الأحكام السودانية الشرعية بطريق إرسالها إلى وزارة الحقانية المصرية لتتولى التنفيذ.
والحكومة المصرية تعد كل سوداني فيها كالرعايا المصريين من وجهة التقاضي والمحاكمات الجنائية. (7) المحاكم المدنية والجنائية
قبل المهدية كان الحكم مباشرا؛ أي أن الذي يتولاه هم المأمورون والمديرون ورؤساء الأخطاط بغير تعيين أشخاص معينين إخصائيين يتولون القضاء.
في عهد المهدية: كان يتولى القضاء قضاة شرعيون وموظفون يشبهون المديرين سلطة، قابلون للنقل والعزل. وكانت أحكامهم تستأنف أمام مجلس القضاة في أم درمان، ويؤلف من عشرة قضاة يرأسهم قاضي القضاة. على أن المرجع الأخير كان للمهدي ثم لخليفته عبد الله التعايشي.
وكان هؤلاء القضاة يفصلون في جميع المنازعات ما عدا المسائل التجارية فهي من اختصاص المجلس التجاري المؤلف من عشرة تجار. وكان «وهبي» وهو مصري، كان مأمورا في بربر قبل الثورة المهدية يفصل في الجرائم الصغيرة.
بعد استعادة السودان: كان الحكم مباشرا، أي يتولى القضاء المديرون والمأمورون في المسائل المدنية والتجارية. والقضاة الشرعيون في مسائل الأحوال الشخصية.
وفي سنة 1919 أنشئت سلطة المشايخ «العمد»، فأصبحوا يحكمون في بعض القضايا، وتطور هذا النظام فأنشئت «محاكم أهلية»، ويرأس المحكمة الأهلية ناظر القبيلة أو الخط أو من يعينه الحاكم العام، ويكون معه أعضاء يختلف عددهم بحسب البلاد. كما هو مبين في القوانين السابقة في هذا الفصل.
المحاكم المدنية: توجد محاكم نظامية مدنية كالمحاكم الأهلية بمصر. وترفع إليها الدعوى بعريضة تلصق بها ورقة تمغة قيمتها ثلاثة قروش. ويذكر بها ملخص الدعوى والطلبات، وتقدم العريضة في اليوم التالي بالجلسة الساعة التاسعة صباحا. وفي هذه الجلسة يصرح القاضي للمدعي بالسير في الدعوى، فيحصل رسم عليها بنسبة 5٪ من قيمتها ابتدائيا واسمها «رسوم شكوى»، و5٪ أخرى واسمها «رسوم سماع»، وتحدد جلسة لسماع الدعوى، ويكون تحديدها بعد أسبوع على الأقل من تاريخ دفع الرسوم.
وهناك محكمة جنائية تسمى «محكمة بوليس».
ولغة المحاكم النظامية هي: الإنكليزية والعربية، غير أن الغالب أن تكون الأحكام وإعداد المحاضر بالإنكليزية.
تنفيذ الأحكام النظامية والشرعية: يكون تنفيذها بطريق عريضة من جديد، ويؤخذ عليها رسم 5٪ فيصدر القاضي أمره بالحجز. وينفذ الأوامر «المحضر»، وبعد ذلك ينفذ الحجز في سبعة أيام. والبيع يكون بناء على طلب الدائن، وبعد إعلان تاريخ البيع في موعد 14 يوما في حالة بيع منقولات وشهر في حالة العقارات. ولا يجوز بيع العقارات إلا بأمر من المدير.
وتنفذ المحاكم المدنية النظامية الأحكام الشرعية بالنفقات وتسليم الأولاد.
وتؤلف محكمة الاستئناف من ثلاثة قضاة. وأكثر القضايا الجنائية يفصل فيها رجال الإدارة ويقدم الاستئناف فيها للحاكم العام. وفي الجنايات في المحاكم الكبرى تستأنف الأحكام أمام المدير بواسطة السكرتير القضائي، الذي سلطته تماثل سلطة وزير الحقانية في مصر.
وتتألف محكمة عليا من جميع القضاة المدنيين الحاليين، ومحكمة الاستئناف من ثلاثة من أعضاء المحكمة العليا. أما في القضايا الصغرى فمحكمة الاستئناف تؤلف على الأرجح من قاضيين فقط.
وقد تمت مباني المحاكم في الخرطوم، وفتحها صاحب السمو الملكي دوق كبنوت في فبراير سنة 1908.
وأعدت الحكومة منازل للقضاة والموظفين في البلاد البعيدة كالرصيرص.
ومن محاكم السودان:
محكمة النائب القضائي. والمحامي العام. ومحكمة الخرطوم المدنية، ومحكمة الإفلاس بالخرطوم، ومحكمة الأراضي والتسجيل بالخرطوم، ومحكمة مركز الخرطوم. ومحكمة مركز أم درمان والتسجيل، ومحكمة الخرطوم التالية، ومحكمة ضابط بوليس الخرطوم، ومحكمة مديرية البحر الأحمر ومفتشون قضائيون، ومكاتب لتسوية الأراضي، ومحكمة واد مدني.
وقد زاول مصريون مهنة القضاء المدني في السودان، نذكر منهم حضرات صدقي خليل أفندي «بك»، والسيد العشري بك، والسبع بك، ومحمد حسن العشماوي بك «وكيل المعارف الآن»، وأحمد فؤاد بك.
ومن القوانين: العقوبات تحقيق الجنايات، قانون القضاء المدني، قانون محاكم السودان الشرعية، وتأديب الوطنيين، والعوائد الجليلة، والضرائب وأراضي الحكومة والبوليس، والقطن والبوليس والصحة.
وجاء في تقرير كرومر عن سنة 1906 ما يلي:
عين منذ زمن ليس ببعيد صدقي أفندي خليل «بك» أحد متخرجي مدرسة الحقوق مع قاض مصري آخر للفصل في القضايا الصغيرة في الخرطوم. وقال مستر بونهام كارتر: «قدم إلي صدقي أفندي خليل تقريرا يذكر فيه قصر المدة التي تفصل فيها القضايا الصغيرة في السودان والتأخير العظيم في القضايا في القطر المصري، ففي سماع هذه القضايا لا يبالغ بالاهتمام بالإجراءات الاصطلاحية. وأؤمل أن يكون مثل ذلك جاريا في قضايا السودان عموما. فإننا قد وضعنا قول السر جورج جل نصب عيوننا «وهو أن فائدة هذه الأمور الاصطلاحية التخلص من قبضة القضاة». وإنما أقول هذا القول لاعتقادي أن إجراءات المحاكم المصرية بطيئة جدا على غير جدوى. وأصرح باعتقادي أنه لا بد من مجيء يوم يظهر فيه للجمهور فضل النظام القضائي السوداني على المصري.
وكان القضاة المصريون يحملون شهادة مدرسة الحقوق الخديوية. ولا يوجد منهم أحد اليوم فقد نقلوا شيئا فشيئا في العهد الأخير إلى القضاء الأهلي.
على أن شهادة الدراسة الحقوقية ليست شرطا في التعيين في وظائف القضاة، فهناك مترجمون بالمحاكم أو موظفون عينوا قضاة مدنيين. وأكثر القضاة من الإنكليز، ويوجد نسيب البستاني أفندي قاضيا مدنيا لمحكمة واد مدني، وهو لبناني الأصل.
المحاماة:
عدد المحامين في الخرطوم خمسة: أحدهم إنكليزي، واثنان يونانيان واثنان أحدهما مصري والثاني متمصر. ولا يجوز للمحامي الغريب أن يترافع في السودان إلا بعد تصديق من الحاكم العام، وتصدر المحاكم النظامية أحكامها بسرعة والإجراءات سهلة. والعدالة فيها مكفولة أكثر من المحاكم الأهلية والقروية السودانية.
وقد أصدرت الحكومة في هذا العام تشريعا خاصا بمزاولة مهنة المحاماة بين خريجي الحقوق السودانيين. وأنشأت مدرسة حقوق الخرطوم لتخريج القضاة والمحامين. وقد نشر التشريع الخاص بها في الفصل الخاص بالتعليم في السودان. (8) مسألة قاضي قضاة السودان
4
منصب قاضي قضاة السودان هو أكبر منصب شغله ويشغله مصري في الحكومة السودانية. وقد عرضنا لرغبة الحكومة السودانية في الاحتفاظ به إلى أحد رجال القضاء الشرعي السودانيين «راجع الصفحات السابقة من هذا الجزء»، وذلك لمناسبة نقل فضيلة الشيخ محمد أمين قراعة من السودان إلى مصر.
وقد رأينا أن ننقل هنا ما جاء في «الوقائع المصرية» في عددها الصادر بتاريخ 21 إبريل سنة 1932 المرسوم التالي بعنوان مرسوم بشأن قاضي قضاة السودان، وهذا نصه:
نحن فؤاد الأول ملك مصر
بناء على طلب الحاكم العام للسودان، وبعد الاطلاع على قرار مجلس الوزراء في 30 مارس سنة 1932 وموافقة رأي ذلك المجلس، رسمنا بما هو آت:
المادة الأولى:
يخلى الشيخ محمد نعمان الجارم نائب محكمة طنطا الابتدائية الشرعية من وظيفته ليتولى منصب قاضي قضاة السودان.
المادة الثانية:
على رئيس مجلس الوزراء تنفيذ مرسومنا هذا.
بأمر حضرة صاحب الجلالة الملك: رئيس مجلس الوزراء إسماعيل صدقي.
فؤاد
صدر بسراي عابدين في 9 ذي الحجة سنة 1350 الموافق 15 إبريل سنة 1932. •••
وقد وافق مجلس الوزراء في جلسة 30 مارس سنة 1935 على تعيين فضيلة الشيخ محمد نعمان الجارم نائب محكمة طنطا الشرعية قاضيا لقضاة السودان على أن يعطى مرتبا سنويا مقداره 900 جنيه في السنة، ويزاوله في كل سنة مائة جنيه بحسبان خدمة السنة الواحدة في السودان مقابل سنة ونصف في مصر، وأن تكون إحالته على المعاش على قاعدة 1200 جنيه مصري.
وقد درست وزارة المالية طلبات فضيلة الشيخ الجارم لمعرفة الفرق بين راتبه في الخرطوم وراتبه في مصر لو بقي في المحاكم الشرعية وبين معاشه الذي يتناوله هنا بعد انتهاء مدة خدمته ومعاشه الذي يتناوله بعد انتهاء مدة الخدمة في السودان، وستحمل الحكومة المصرية الراتب مدة الخدمة والمعاش بعد الإحالة على المعاش.
هوامش
الفصل العاشر
ديون مصر على السودان
لقد احتملت مصر تضحيات كثيرة في فتح السودان وإقامة المدنية ونشر الحضارة فيه، وضحت بالمال وبدماء أبنائها حتى نقلت السودان من حياة بدوية صحراوية إلى حياة مدنية، فيها مدن وقصور ودواوين وجيش منظم وإدارة وبوليس.
وقد بلغت ديون مصر على السودان ملايين الجنيهات. وللأسف إنه لا يوجد إحصاء رسمي جامع لما دفعته مصر منذ فتح السودان في عهد محمد علي.
ويمكن أن يقال إجمالا: إن مصر كانت تسد نفقات الإدارة منذ عهد محمد علي، وكانت تدفع نفقات جيشها، حتى سحبه سنة 1924، وإنها أنشأت مباني كثيرة جدا تبلغ قيمتها ملايين الجنيهات، ومنذ سحب الجيش المصري في سنة 1924، تدفع مصر مبلغ 750 ألف جنيه لقوة دفاع السودان، فضلا عما تنفقه على مصلحة الري المصري في السودان، وفضلا عن مرتبات موظفي وزارة الأشغال والوزارات الأخرى حين كان لمصر موظفون مدنيون كثيرون.
وسنحاول فيما يلي أن ندون بيانا لبعض ديون مصر على السودان بعد استعادته. أما قبل هذا التاريخ فقد كان السودان معدودا جزءا من مصر، ولم يتيسر لنا إحصاء نفقات مصر في تمدينه وإدارته، وقد نستطيع ذلك في الطبعة الثانية إن شاء الله. •••
جاء في تقرير اللورد كرومر سنة 1899: «السودان هوة تبتلع الملايين كما يذوب الثلج في حر الشمس. فهو سبب وهن المالية المصرية وضعفها، وقد أنفقت فيه إنكلترا مبالغ طائلة، أملت استعادتها عند تصفية الحساب. ففي 4 أغسطس سنة 1884 قرر مجلس النواب «الإنكليزي» فتح اعتماد مبلغ 300000 جنيه لحملة ولسلي، لينقذ غوردون، فوصل هذا الاعتماد الضئيل إلى 11 مليون جنيه. وفي سنة 1896 وعدت الوزارة مجلس النواب بأنها لن ترتكب مثل هذه الهفوة مرة أخرى. فإذا ضمت السودان إلى أملاكها، فإنها تضاعف هذه الهفوة.» •••
وقد ورد في نص مشروع الاتفاق بين مصر وإنكلترا عن السودان سنة 1921 الفقرة الآتية وهي الفقرة (13):
مع الحرية بعقد اتفاقات جديدة في المستقبل تعديلا لاتفاق 1899 يتفق الفريقان المتعاقدان على أن تكون حالة السودان هي الحالة المترتبة على الاتفاق المذكور، وعلى ذلك يواصل الحاكم العام استعمال السلطة المخولة له بموجب الاتفاق المذكور بالنيابة عن الفريقين المتعاقدين.
وجاء بالمذكرات التي شرحت بها المواد الأساسية لنص المذكرة البريطانية ما نصه: «لما تباحثنا في الفقرة 13 من الاقتراحات اتفقنا على أن تفحص مسألة الديون التي على السودان في الوقت الحاضر بقصد تسويتها على أساس العدل والإنصاف، واتفقنا أيضا على أن يبحث ممثل الخزانة البريطانية مع ممثل وزارة المالية المصرية في هذه المسألة حالما تنفذ المعاهدة التي تعقد على أساس الاقتراحات.»
وقد رأى بعض الصحف أن يتكلم في ديون مصر على السودان فقال: إن هذه الديون تبلغ 15 مليون جنيه، فعقد حضرة صاحب السعادة محمد أبو الفتوح باشا فصلا في ذلك أرسله إلى «الأهرام» قال:
ذكرت جريدة المقطم في عددها الصادر يوم الأحد 11 الجاري تحت عنوان «ديون السودان» أن قيمة هذا الدين 15 مليون جنيه. ولما كان هذا الرقم بعيدا كل البعد عن حقيقة ما للحكومة المصرية من الديون على السودان، رأينا أن نوضح الحقيقة. وفي قبول حكومة إنكلترا مراجعة ديون مصر على السودان ربح عظيم لنا وحسنة كبرى من حسنات هذا الاتفاق. والمعلومات التي سأذكرها جزء من أبحاثي التي قمت بها حينما كنت مستشارا في الوفد الرسمي، وقد توصلت إليها من جداول الإحصاء السنوية التي تنشرها مصلحة الإحصاء المصرية.
إن ديون مصر على السودان تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول :
يتكون من المبالغ الداخلة في الميزانية الاعتيادية للحكومة المصرية.
ثانيا:
المبالغ المأخوذة من الاحتياطي.
ثالثا:
المبالغ التي ترتبت على وجود الجيش المصري في السودان.
وقد أضفنا إلى كل من مبالغ القسم الأول والثاني فائدة ثلاثة في المائة طبقا لتصريح وزير المالية المصرية أمام مجلس شورى القوانين إجابة للرغبة التي أبداها المجلس بتاريخ 18 ديسمبر سنة 1909 من وجوب أن يدفع السودان لمصر فوائد على دينها تعادل الفائدة التي تدفعها مصر لدائنيها.
وقد وضحنا هذه المبالغ الثلاثة في الجداول الآتية:
كشف رقم 1:
المبالغ التي أخذت من الميزانية المصرية المعتادة
سنة
أصل المبلغ
أرباح 3٪
1899
140613
4218
1900
134317
8374
1901
194545
14462
1902
267173
22911
1903
196063
29480
1904
193850
36180
1905
193006
43056
1906
253006
51938
1907
253006
61086
1908
253006
70509
1909
208000
78864
1910
198000
87130
1911
188000
95425
1912
163000
103178
من 1912 إلى 1921
000000
1076579
2835585
1783290
المجموع
4618975
وعلى ذلك يكون مجموع المبالغ التي أخذت من الميزانية العادية المصرية وفوائدها حتى سنة 1921 هو مبلغ 4618975.
كشف رقم 2:
المبالغ التي أخذت من الاحتياطي
سنة
أصل المبلغ
أرباح 3٪
1896
640305
19309
1897
654828
39430
1898
550378
57124
1899
564745
73980
1900-1901
208571
83557
1902
155417
89593
1903
146544
93677
1904
630392
115399
1905
704455
139995
1906
672242
164362
1907
991598
196342
1908
665607
222199
1909
645200
248221
1910
518866
280234
1911
132510
292216
1912
45728
302766
1913
43856
314165
1914
4989
1914 إلى 1921
000000
2349578
7986231
5081146
المجموع
13067377
كشف رقم 3: نفقات الجيش:
في حساب هذا الكشف راعينا المبالغ التي كانت تنفق على الجيش المصري قبل فتح السودان وقبل الاستعدادات التي عملت لهذا الفتح فلم نحسبها. وأضفنا على السودان فقط الفرق بين مصروفات الجيش حال وجوده بالسودان ومصروفاته قبل الفتح حال وجود أكبر قوة عسكرية منه. وللوصول إلى هذه الغاية أخذنا متوسط ميزانية الجيش من سنة 1883 إلى سنة 1892 فوجدنا هذا المتوسط 330383 جنيها مصريا. فحذفنا هذا المبلغ من الميزانية السنوية للجيش المصري من سنة 1899 سنة المعاهدة إلى سنة 1921، وأضفنا على السودان الباقي بعد خصم هذا المتوسط.
وتعمدنا عدم ذكر نفقات الجيش من سنة 1896 إلى سنة 1899؛ لأن هذه النفقات عملت لفتح السودان ولا يجوز إضافتها إلى هذه المبالغ.
وعلى الرغم من أن الجيش كان بأجمعه في السودان، فإن المصروفات التي أضيفت على السودان هي أقل من ثلث مجموع مصروفات الجيش المصري. ولو جرينا على تقسيم مصروفات الجيش المصري بين مصر والسودان بقياس عدد العساكر التي في كل منهما لكان على السودان أن يحتمل ميزانية الجيش كلها تقريبا.
وها هو كشف نفقات الجيش من سنة 1883 إلى سنة 1892 الذي جعلناه أساسا لاستخراج المتوسط:
سنة
جملة
1883
246914
1884
271279
1885
129310
1886
140936
1887
206063
1888
386138
1889
494551
1890
460977
1891
494300
1892
473356
3303824
كشف رقم 4:
المبالغ التي أخذت من الميزانية المعتادة
4608975
المبالغ التي اخذت من الاحتياط
12967577
النفقات العسكرية
17619521
المجموع
35196073
ملحوظة: جميع هذه المبالغ والأرقام مأخوذة من إحصائيات سنوية للحكومة المصرية.
لندن في 5 أغسطس سنة 1921
الإمضاء: محمد أبو الفتوح
وبين نفقات الجيش سنويا بعد رجوعه إلى السودان ولم نضف بحسابنا أي مبلغ من المبالغ التي أنفقت من سنة 1896 إلى سنة 1899، باعتبار أن الجيش كان يعمل في هذه المدة لاسترداد السودان.
ولا يمكن أن يقال: إن المبالغ المحوية على السودان في نفقات الجيش مبالغ فيها؛ لأنها لم تصل في سنة من السنين إلى ثلث مجموع نفقات الجيش مع أن الجيش تقريبا كله كان بالسودان، ويلاحظ أننا هنا لم نضف فوائد مطلقا إلى نفقات الجيش.
وقد أوقفنا هذا الحساب لغاية سنة 1921، فإذا أضفنا إلى ذلك الفائدة من سنة 1921 إلى الآن يكون مجموع الديون التي للحكومة المصرية على السودان 40005360ج.م وذلك بخلاف المبالغ التي صرفت من سنة 1921 للآن.
وهذه المبالغ لا يستهان بها لأنها تقرب من قيمة ثلثي الدين الذي على مصر إذا نظرنا لقيمته الحقيقية لا لقيمة أسهمه الاسمية.
النفقات العسكرية
سنة
الجملة
الجملة بعد المتوسط
أرباح 3٪
1899
741408
411025
12331
1900
723601
392218
24467
1901
660041
329657
35090
1902
557378
286995
42954
1903
610857
280474
52656
1904
624996
294613
63074
1905
657616
327233
71783
1906
724412
394029
85758
1907
748409
418007
100871
1908
805013
474630
118136
1909
820823
490440
136394
1910
863223
532840
156471
1911
910241
579858
178560
1912
950693
620310
202527
1913
979648
649265
228080
1914
221889
221889
260325
1914-1915
955341
624858
1915-1916
866095
535712
284206
1916-1917
929411
599028
210703
1917-1918
1208440
878057
346366
1918-1919
1615055
1423072
399449
1919-1920
1753455
1284672
449973
1920-1921
1890560
1560177
510277
13549070
4070451
المجموع
17619521 (1) بيان محمد شفيق باشا في مجلس النواب
يوم الأربعاء 24 محرم سنة 1352 رد معالي محمد شفيق باشا وزير الأشغال ونائب رئيس مجلس الوزراء بسبب غياب رئيسه إسماعيل صدقي باشا على سؤال من النائب فهيم القيعي، بالبيان التالي:
في سنة 1909 وضعت وزارة المالية بيانا بالأموال التي أنفقت في سبيل السودان منذ سنة 1899، ونشرته في الحساب الختامي. واستمر نشر هذا البيان سنويا إلى أن أصدر مجلس الوزراء بتاريخ 15 يناير سنة 1925 قرارا بوقف هذا النشر إلى أن يتم البحث في أساس طريقة وضع الحساب ومراجعة مشتملاته.
وكانت هذه المسألة موضوع اهتمام الوزارات التي تعاقبت من سنة 1924 إلى الآن توطئة لوضع اتفاق بشأنها مع سائر المسائل التي تتناولها المفاوضة مع الحكومة البريطانية.
أما مقدار الأموال التي يشتمل عليها البيان المشار إليه فقد بلغ في آخر السنة المالية 1922-1923: 14258000ج.م، منها 5515000ج.م للسلف التي منحت للأعمال المتعلقة بنمو السودان و5324000ج.م للإعانات التي كانت تمنح سنويا لسد عجز إيراداته و3 ملايين و419000 جنيه للمصاريف العسكرية المختصة به.
وإني أودع سكرتارية المجلس كشفا ببيان هذه المبالغ سنة سنة.
هذا هو البيان الذي قدمه رئيس الوزراء بالنيابة. أما الكشف الذي أشار إليه هنا فهذه صورته.
بيان السلف المعطاة للسودان لأجل الأعمال المتعلقة بنموه والإعانات الممنوحة سنويا لسد عجز إيراداته.
السنوات
السلف المعطاة لأجل الأعمال المتعلقة بنمو السودان
الإعانات الممنوحة سنويا لسد عجز إيرادات السودان
المصاريف العسكرية الخاصة بالسودان الداخلة في ميزانية وزارة الحربية
جنيه
جنيه
جنيه
1899 -
444887 -
1900 -
457892 -
1901
121352
417179 -
1902
142832
389721 -
1903
129110
389721 -
1904
621863
379763 -
1905
750213
379763 -
1906
698640
379763 -
1907
921598
379763 -
1908
637768
379763 -
1909
645200
335000 -
1910
518866
325000 -
1911
132510
360000 -
1912
45728
335000 -
1913
43856 -
179481
1914 (الثلاثة أشهر الأولى)
4989 -
44870
1914-1915 - -
179481
1915-1916 - -
179481
1916-1917 - -
179481
1917-1918 - -
422764
1918-1919 - -
445691
1919-1920
170000 * -
329481
1920-1921 - -
464403
1921-1922 - -
477947
1922-1923 - -
515725
المجموع
5584525
5353215 †
3418805 *
سددت حكومة السودان من هذا المبلغ 70000 جنيه لغاية سنة 1922. †
سددت حكومة السودان من هذا المبلغ 29000 جنيه لغاية سنة 1922. (2) بيان للدكتور محجوب ثابت
جدول يبين مجموع المصروفات التي أنفقتها مصر من عام 1899-1912 على السودان
السنة
الإعانة المالية السنوية
مصروفات خصوصية وسلفيات من مال الاحتياطي
الملكية
الحربية
المجموع
1899
156000
266068
422068
1900
134316
282862
417179
1901
194545
222634
417179
123352
1902
267173
122548
389721
142832
1903
196063
193658
389721
129110
1904
193850
185913
379763
621863
1905
193006
186757
379763
750213
1906
253006
126757
379763
689640
1907
253006
126757
379763
921598
1908
253006
126757
379763
637768
1909
208000
127000
335000
645200
1910
198000
127000
325000
518866
1911
188000
172000
360000
1912
163000
172000
335000
2850971
2438711
5289683
5180442
ملاحظة:
وقفت مصر هذه الإعانة المالية سنة 1913 مقابل استيلاء السودان الرسوم الجمركية على البضائع الواردة باسمه.
ولو حسبنا الفوائد المركبة لتلك المبالغ لهالنا الأمر، وزد على ذلك المبالغ الآتية:
2000000 جنيه النفقات التي خصصت لإخلاء السودان ذلك الإخلاء الذي حتمته السياسة الإنكليزية بالرغم من معارضة وزارة شريف باشا مما تراه مفصلا في كتاب ملنر «إنكلترا في مصر».
2500000 نفقات إعادة السودان من سنة 1896-1899.
6400000 سلفة من سنة 1917 مقدمة لحكومة السودان لإقامة مضخات رافعة للمياه لري 19000 فدان بمديريتي دنقلة وبربر. (3) مصلحة الأشغال العسكرية
تحدث سعادة اللواء محمد لبيب الشاهد باشا مع مجلة الدنيا المصورة الصادرة بتاريخ 27 يوليو سنة 1930 عن المنشآت التي أنشأتها مصلحة الأشغال العسكرية التابعة للجيش المصري، فإذا هي: سراي الحاكم العام. دواوين المالية. والحربية. والحقانية. والداخلية. والزراعة والبريد والتلغراف ومساكن لكبار الموظفين الإنكليز. ومكاتب تسجيل الأراضي. ومخازن مصلحة الصحة. المطبعة الأميرية. قشلاقات سعيد وإسماعيل وتوفيق وعباس بضواحي الخرطوم، وثلاث قشلاقات كبرى بالخرطوم بحري للطوبجية، خمسة قشلاقات للجيش الإنكليزي. مساكن لضباتهم. مخازن الأسلحة والمهمات والجبخانة والبارود. طابية الدفاع الكبرى. مخازن المهمات والورش. قشلاق قسم الأشغال العسكرية. ورش مخازن قسم الأشغال الملكية. السجن العمومي، وكلية غوردون، جامع الخرطوم، مساكن لصف الضباط الإنكليز. مخازن تعيينات الجيش المصري. مخازن وورش مصلحة وابورات النيل والمراكب. رصيف أمام مدينة الخرطوم. مستشفى الجيش. مديرية الخرطوم. مساكن لكبار موظفيها. إدارة المصلحة البيطرية ومستشفاها. قشلاقات البيادة بأم درمان. قشلاق البيادة الراكبة.
هذا في الخرطوم وحدها، وهناك منشآت أخرى في حلفا وبربر وأبي حمد والعطبرة وشندى وخورشمبات وود مدني وكسلا والقضارف وسواكن وبورسودان والأبيض والنهود وبارة والدلنج وتالودي والدويم والتوفيقية والسوباط والبيبور وبلاد دارفور وبحر الغزال ومنجلا.
وكان جنود أورطة السكة الحديدية، وهي أكبر أورط الجيش المصري، يسهرون على صيانة السكك الحديدية ويتعهدونها بالإصلاح كلما دمرتها السيول أو جرفتها الرياح أو غمرتها الرمال، متحملين في ذلك حرارة القيظ وزمهرير البرد وعصف الزوابع وقصف الرعود وويلات الهبوب.
الفصل الحادي عشر
الطرق الصوفية
انتشرت الطرق الصوفية في السودان انتشارا واسعا وأكثرها انتشارا الطريقة الميرغنية. وأنصارها يؤمنون بمشايخهم وخلفائهم، ويخلصون لهم، ويبذلون أموالهم وحياتهم في سبيلهم، ويجب أن يلاحظ أنه ليس في السودان زعامة سياسية وطنية بالمعنى المفهوم في مصر، وأن النفوذ الظاهر هو النفوذ الديني؛ ولذا قامت الثورة المهدية - كما رأينا - على أساس الدعوة الدينية.
وإنه وإن تكن قد انتشرت في السودان طرق كالطريقة الإدريسية والقادرية والشاذلية وسواها، إلا أن كل هذه الطرق وافدة على السودان وليس في السودان قاطبة طريقة أسست من عربي سوداني سوى الطريقة الإسماعيلية، أعني طريقة الشيخ إسماعيل بن عبد الله - الولي الكردفاني. وقد نشأت هذه الطريقة في عهد الحكم المصري الأول بالأبيض، وكان صاحبها متطرفا بالطريقة الختمية في أول أمره، ثم أسس طريقته بإذن صحيح بحضرة شيخه الشيخ محمد عثمان المرغي شيخ الطريقة الختمية، وقد انتشرت هذه الطريقة بسرعة البرق في جميع أنحاء السودان، وخاصة في كردفان وأم درمان ودنقلا، وهي الطريقة الوحيدة التي كانت قائمة أيام المهدية لاحترام المهدي لها، وهي أمتن طريقة من حيث مؤلفات مؤسسها الذي جمع بين علمي الشريعة والحقيقة في عصر كان يعد مظلما: فقد نيفت مؤلفات الشيخ إسماعيل على الخمسين كتابا في علمي الشريعة والحقيقة، ولم يطبع منها إلا القليل جدا، بل ما يعد غير مذكور بالنسبة لمؤلفاته. ومؤلفاته تمتاز بأنها محكمة فنية بليغة الأسلوب على خلاف ما يشاهد في أشعار المتصوفين بالسودان. ومن أشهرها كتاب مشارق الأنوار الذي لم يطبع إلى اليوم، فحرم الناس من علمه الغزير، وهو يتكلم عن السموات السبع والأرضين السبع، ثم إن أسرة صاحب هذه الطريقة أشهر الأسر في السودان علما وصلاحا ولم يصبها من عسف المهدية وظلمها إلا الاحترام، وتجد حظوة السيد المكي الشيخ إسماعيل الولي عند الخليفة والمهدي مذكورة في تاريخ السودان. وقد عد علماء هذه الأسرة وصلحاؤها فزادوا على الستين، ومن أشهر علمائها السيد أحمد الشيخ إسماعيل الولي، وهو أزهري وأول من درس بالأزهر من السودانيين. وقد وفد على السودان، وكان له أثر ظاهر في العلم الذي انتشر بعد على يد تلامذته. وقد أنكر على المهدي دعوته وحاربه مع جيوش الحكومة المصرية حتى قتل شهيدا مع ابنه، ومنهم السيد الباقر ابن الشيخ إسماعيل المدرس بجامع الخرطوم في صدر هذه الحكومة إلى أن توفاه الله عام 1918، ومنهم السيد إسماعيل بن السيد أحمد المذكور مفتي السودان سابقا «بهذه الحكومة» ومنهم الشيخ إسماعيل عبد القادر ابن بنت الشيخ إسماعيل الولي وهو أزهري، ومنهم السيد محمد السيد الباقر المدرس بجامع أم درمان اليوم، ومن هيئة كبار علمائه المبرزين وأقدرهم، وكثير غير هؤلاء، حتى إنهم عرفوا بالسادة، فهناك لا يطلق هذا الاسم على أسرة بأكملها صغيرهم وكبيرهم سواهم.
وهنا أذكر أن الشيخ عبد الله أبا المعالي تلميذ الأمير، وهو أزهري جليل جاء إلى السودان، واجتمع برؤساء أهل الطرق فيه، فأنكر عليهم كلهم حتى وصل إلى الشيخ إسماعيل المذكور، ففتح له على يده في خلال أسبوع أو أقل، ولذلك امتدحه بجميع أبحر الشعر حتى قال في بعض قصائده الكثيرة:
وإذا سطوت فلا معارض ينتمي
وإذا رحمت فأنت إسماعيل
أبديت ما لم يبده من قد مضى
يا من يزين بكفه التقبيل
والشيخ عبد الله أبو المعالي المذكور وقائل هذا الشعر هو الذي امتدحه الشيخ البولاقي عند مروره ببولاق فقال في شطر بيت له مشيرا إليه:
شرفت به بولاق والبولاقي
فمن هنا يتضح لك مكانة مؤسس الطريقة الإسماعيلية. أما كتبه التي لم تنشر فإنه لم يسبقه على مثلها إلا أمثال الشيخ محي الدين بن العربي، ولعل الناس يفاجأون بها في يوم من الأيام فيعلموا شيئا عن عظم صاحبها. والشيخ إسماعيل المذكور عباسي نسبا ونسبه محفوظ وذريته الآن نحو أربعة الآلاف نفس، وأما أتباعه فهم فوق الحصر. (1) الطريقة الميرغنية
الطريقة الختمية الميرغنية: أنشأها السيد محمد عثمان الميرغني العالم الصوفي الحنفي، ولد بمكة ونشأ بها واتصل بكثير من علماء مكة وفي مقدمتهم السيد أحمد بن إدريس الذي نشأ في المغرب. وكان اتصاله به عند زيارته لمكة لأداء فريضة الحج. ثم أسس الطريقة الختمية الميرغنية على أصول طرق خمس، ورمز إليها بكلمة «نقش جم»، فالنون للنقشبندية، وهي طريقة شيخه سيدي أحمد بن إدريس، والقاف للقادرية التي مؤسسها سيدي عبد القادر الجيلاني، والشين للشاذلية ومؤسسها سيدي أبو الحسن الشاذلي، والجيم للجنيدية ومؤسسها السيد الجنيدي، والميم للميرغنية وهي طريقة جده السيد عبد الله الميرغني المحجوب المدفون بالطائف.
حضرة صاحب السماحة الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني.
ودعيت بالطريقة الختمية؛ لأن شيخها وصل في سلوكه إلى رتبة الختم، وهي مرتبة عند الصوفية لا يصل إليها إلا عارف «ولي» في كل قرن.
ثم أراد السيد محمد عثمان الكبير السفر إلى مصر، فنزل في ميناء القصير بمديرية قنا، ومنها نزل إلى قرية الزينية بمركز منفلوط، وبعد أن أقام بها سافر إلى السودان، وأقام في بلاد كثيرة، وكان يتردد بين بلاد السودان والحجاز، وتزوج من بنات بعض أمراء السودان، ومنهن والدة السيد محمد الحسن جد السير علي الميرغني الزعيم السوداني المشهور.
وقد ترك السيد محمد عثمان بالسودان ثمانية أولاد، وهم السيد محمد سر الختم والد السيد محمد سر الختم الميرغني الشهير بمصر المدفون بتكية باب الوزير، والسيد محمد الحسن جد السير السيد علي الميرغني، والسيد جعفر الميرغني الكبير، وهو جد السيد جعفر الزعيم الحالي في الأريتريا والصومال، والحبشة، والسيد هاشم الميرغني والد الشريفة علوية بالأريتريا والشريفة مريم بسنكات، والسيد إبراهيم تاج الختم، والسيد المحجوب الباب، والسيد التاج، والسيد خالص النور. ودفن أكثرهم بالسودان. (1-1) انتشارها في السودان
وكان تأسيس الطريقة الميرغنية في آخر سلطنة الفونج. واشتهرت في التاكا «كسلا» بين الحلانقة وبني عامر والحباب، وفي دنقلة بين النوبيين والشايقية والكبابيش والبشارين والعبابدة. وقد ولد مؤسس الطريقة ودفن في مكة. (1-2) انتشار الطريقة بمصر
أول من نقل الطريقة الميرغنية من الحجاز إلى مصر سيدي أبو حريبة المدفون بالدرب الأحمر، وقد اتصل بشيخ الطريقة عند زيارته بمكة لأداء فريضة الحج، ولازمه عامين، ثم أجازه بنشر طريقته بمصر، واشتهر أتباعه ومريدوه بطريقة أبو حريبة. وشيخ سجادة الطريقة الميرغنية الآن هو السيد محمد أبو بكر الميرغني. والطريقة منتشرة بسائر مديريات الوجهين البحري والقبلي والمحافظات، وللطريقة تكية بالقاهرة بشارع باب الوزير، وبها ضريح السيد محمد سر الختم والسيد محمد عثمان الأقرب وكثير من أشراف المراغنة. وتكية بالإسكندرية. وبكل تكية مسجد. وللطريقة خلفاء.
والطريقة الميرغنية في السودان هي أوسع الطرق الصوفية انتشارا وأرفعها مقاما، وتمتاز الطريقة الميرغنية في أذكارها وأورادها وسائر مظاهرها بخلوها من البدع كالطبل والزمر والتصفير وسائر ما طرأ على طرق الصوفية من التحريف.
وجميع أذكارها وأورادها ترجع إلى كتاب الله وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم
بالأسانيد الصحيحة.
وللسيد محمد عثمان الكبير مؤلفات كثيرة، منها تفسير القرآن المسمى بتاج التفاسير. وقد تكرر طبعه، وفي الحديث وعلم المصطلح والتوحيد والتصوف والصلوات والأوراد ومن المدائح النبوية الشيء الكثير. وكان له في كل علم قدم، وله أوراد خاصة وراتب ينظم أذكار أتباعه صباح مساء، وله شرح يرجعه إلى أصول السنة، وهي متداولة.
وانتشرت الطريقة في بعض مقاطعات الهند الإسلامية بسبب زيارة السيد جعفر للهند.
وهي منتشرة باليمن بسبب زيارة السيد محمد سر الختم، وقد تزوج فيها، كما انتشرت في البلاد الإسلامية.
ورجال الطريقة الميرغنية في جميع أطوارهم بعيدون عن شهوة الحكم، مشهورون بالهدوء والسكينة والبعد عن المشاغبات. وقد ظلوا موالين للحكومة في أثناء الثورة المهدية. (2) طرق أخرى في السودان
القادرية. السمانية. الشاذلية. الإسماعيلية. التيجانية. الأحمدية. الرفاعية. البيومية. البراهمة، نسبت إلى سيدي إبراهيم الدسوقي. (2-1) الشريف يوسف الهندي
هو الزعيم الديني الثالث من زعماء السودان، وهو ابن الحسيب النسيب الشريف يوسف الهندي ابن الشريف محمد الأمين بن الشريف يوسف الهندي من سكان رهد النيل الأزرق.
صاحب السيادة الحسيب النسيب الشريف يوسف الهندي.
الفصل الثاني عشر
حوادث مصر في السودان
واصلت حكومة السودان حكم البلاد على النهج الذي أسلفنا الكلام عليه، وظل النفوذ الإنكليزي يتوطد في البلاد السودانية، بينما يضعف النفوذ المصري الرسمي ، ببطء وتدريجيا.
على أن حوادث مصر كانت تلقى صدى في السودان. فلقد كان الجيش المصري وموظفون مدنيون مصريون كثيرون يعملون في السودان كموظفين منتدبين من الحكومة المصرية. أو عاملين في الحكومة السودانية، وكان مع رجال الجيش والموظفين أسرهم. وكانت حركة النقل بين مصر والسودان لا تنقطع، وكان الكثير من المصريين في السودان والسودانيين مشتركين في الصحف المصرية.
كما أنه كانت هناك علاقات تجارية بين مصر والسودان؛ ولذا كانت حوادث مصر تسمع وتقرأ ويعلق عليها في السودان، هذا من الوجهتين الاجتماعية والتجارية وشيء من الوجهة السياسية «الكلامية». على أن الحكومة السودانية كثيرا ما منعت دخول الصحف العربية إلى السودان.
ومن الوجهة السياسية كان المصريون لا يفتأون ينادون في كل مناسبة ببطلان اتفاقية سنة 1819، ولكن توطيد دعائم الاحتلال في مصر وزيادة النفوذ الإنكليزي فيها وطرده لكل نفوذ أجنبي، وخاصة النفوذ الفرنسي، قد ألهى المصريين في الواقع عما كان يجري في السودان، فحوادث مصر الداخلية كانت كثيرة ومزدوجة، كسياسة كرومر، والخلاف بينه وبين الخديوي عباس، ونشوء أحزاب سياسية جديدة، الحزب الوطني بزعامة المغفور له مصطفى كامل، ولسان حاله جريدة اللواء وزميلتان لها إحداهما فرنسية والأخرى إنكليزية، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية ومؤسسه ورئيسه المغفور له السيد علي يوسف «باشا»
1
صاحب جريدة «المؤيد» التي كان لها شأن عظيم في مستهل الحركة الوطنية الأولى وفي العالم الإسلامي، وكان لصاحبها حوادث كثيرة تحدث بها الرأي العام. وكان لها في وقت من الأوقات مشتركون كثيرون في السودان. ثم حزب الأمة ورئيسه المغفور له محمود سليمان باشا والد حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين. وكانت الجريدة لسان حال حزب الأمة ورئيس تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد بك مدير الجامعة المصرية.
وقد لعب الخديوي «عباس حلمي الثاني» دورا سياسيا كبيرا،
2
فكانت له بطانة وأنصار وجواسيس. وقد ولي الحكم في 26 مارس سنة 1892 خلفا لوالده، وكانت سنه قد بلغت 18 سنة هجرية، ولكنها لم تبلغ الثامنة عشرة ميلادية.
ومن حوادث مصر حادثة دنشواي، ومشروع مد أجل امتياز شركة قناة السويس.
وكانت مصر لا تني تطالب بالدستور، وكان طلبة الحقوق الخديوية وغيرهم يؤلفون المظاهرات تحت رعاية الحزب الوطني ونادي المدارس العليا، الذي كان من أركانه حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا، للمطالبة بالدستور، وكان في مصر مجالس شورية: الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين ومجالس المديريات. ثم ألغيت الجمعية العمومية ومجلس الشورى، وألفت الجمعية التشريعية بديلا منها. وقد أثار قانون تأليفها كثيرا من التعليقات، وانتخب الزعيم الخالد المغفور له سعد زغلول باشا وكيلا منتخبا لها، وعين المغفور له عدلي يكن باشا وكيلا لها، إذ كان لها وكيلان أحدهما منتخب والثاني معين.
وكانت الصحف الوطنية تسمي «سعدا» كبير الأحرار، وكانت مواقفه ومواقف أصدقائه في المجلس تثير تعليقات الصحف العربية والأفرنكية.
وقد تطير اللورد كتشنر إذ كان معتمدا لإنجلترا في مصر وقنصلها العام من «تطرف جماعة سعد».
هوامش
الفصل الثالث عشر
عهد الحماية والسلطنة في مصر
في سنة 1913 كان سمو الخديوي السابق عباس حلمي باشا كثير النشاط، وقد أثار هذا النشاط غضب اللورد كتشنر، الذي عين في مصر خلفا للسير جورست، والذي عد هذا النشاط موجها ضد الإمبراطورية البريطانية وتآمرا مع أعدائها، ونصح بانتهاز الفرصة لخلعه.
وكان من عادة الخديوي أن يصطاف في الأستانة «استانبول»، وقبل سفره سنة 1914 زار كثيرا من البلاد، واحتفل به الأعيان، وبعد وصوله إلى الأستانة بأيام، أطلق طالب مصري بالأستانة اسمه محمود مظهر النار على الخديوي في 25 يولية سنة 1914 فجرحه في فكه الأيسر، وسافرت من مصر وفود لتهنئة سموه بنجاته. وفيما كانت الوفود تؤدي هذه المهمة، كانت أوروبا مشغولة بحادث اغتيال ولي عهد النمسا من شاب صربي، فاشتعال الحرب الكبرى، حيث دخلت إنكلترا فيها في 4 أغسطس سنة 1914 وأعلنت مصر حيادها. وفي 5 نوفمبر سنة 1914 أعلنت إنكلترا الحرب على تركيا، وأعلن في 2 نوفمبر سنة 1914 سير جون ماكسويل قائد جيش الاحتلال الإنكليزي أن مصر تحت الأحكام العرفية الإنكليزية. (1) الانقلاب السياسي وإعلان الحماية
في صبيحة يوم 18 ديسمبر سنة 1914 نشر الإعلان الآتي في الجريدة الرسمية والجرائد السيارة، وعلق على الجدران في الأماكن الظاهرة للعيان في جميع بلدان القطر وعواصم مديرياته، وهذا نصه:
إعلان
يعلن ناظر الخارجية لدى حكومة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر إلى حالة الحرب التي سببها عمل تركيا، قد وضعت بلاد مصر تحت حماية جلالته، وأصبحت من الآن فصاعدا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية.
وبذلك قد زالت سيادة تركيا عن مصر، وستتخذ حكومة جلالته كل التدابير اللازمة للدفاع عن مصر وحماية أهلها ومصالحها.
وهكذا بهذا الإعلان - إذا قبلته الدول وأقرته - أصبح موقف مصر الدولي اليوم غيره بالأمس؛ إذ تكون بحكم القانون الدولي حرة طليقة من كل تبعة لأية دولة أخرى، إنما هي تحت حماية جلالة ملك بريطانيا العظمى «حماية اقتضتها حالة الحرب التي سببها عمل تركيا.
بهذا الإعلان وقع انقلاب سياسي خطير، وحار الناس ماذا يفعلون، وأقدمت السلطة العسكرية على اعتقال الكثيرين من رجال الحزب الوطني والشبان، وعطلت كثيرا من الصحف ووضعتها تحت الرقابة، ونفت بعضهم إلى ملطة.
ولما أعلنت الحماية قال المصريون إنها باطلة؛ لأن الحماية هي عبارة عن عهد أو ميثاق يبرم بين حكومتين إحداهما باعتبارها ذات شخصية ممتازة مستقلة، يكل للأخرى التصرف ببعض حقوقها الداخلية والخارجية مقابل قيامها بالدفاع عنها من الاعتداء الداخلي والخارجي الذي قد تتعرض له. وعلى الحامي مساعدة المحتمي به ومعاونته في تدبير شؤونه وإصلاح أحواله وإنماء ثروته وحماية مصالحه. «فالحماية إذن يجب أن تكون مبنية على رضى الحامي والمحتمي، ولا يمكن أن تكون مبنية على رغبة أحد الفريقين وإرادته فحسب. ومع ذلك فإن الحكومة المصرية لم تعلن أنها راضية عن الحماية؛ لذا لم تتم أركانها قانونا.»
وقد تحدث عطوفة حسين رشدي باشا قائم مقام الخديوي ورئيس مجلس النظار إلى مراسل جريدة «الديلي كرونكل» فقال:
إن المنافع التي عادت على البلاد من حسن الإدارة البريطانية لا تحصى ولا تعد. وكل مصري تهمه مصلحة بلاده وارتقاؤها يسلم بهذا ويرجو أن تدوم الرابطة بين الأمتين إلى ما شاء الله. وما دام قنال السويس حلقة الاتصال بين أجزاء الإمبراطورية وطريقا لازما للإنكليز فمن الطبيعي أن ترتبط بريطانيا العظمى ومصر بأشد روابط الصداقة والوداد. وزد على ذلك أننا أمة ضعيفة نحتاج إلى صديق قوي يصون أملاكنا من كل اعتداء، ويكون على جانب من الارتقاء والحرية حتى يتيسر لنا أن نسير بإرشاده في معارج الحرية. فبذلك المقام الذي يليق بنا في مصاف الدول، وهذه الشروط متوفرة في إنكلترا. فإن عندها من القوة ما يمكنها من الدفاع عن قطرنا، ولها من معاملة البلاد التي تماثل شؤونها شؤون القطر المصري تقاليد عطف وحرية، ويهمها أن يرتع الشعب الذي يخترق قنال السويس بلاده في بحبوحة الهناء والرخاء.
ثم تكلم عطوفته عن مستقبل مصر فقال:
إنه يجب ضرورة أن نضع لمصر منذ الآن نظاما يكون بمثابة أساس متين مأمون يستطيع أن يقوم بالبناء الذي يريد الجميع إنشاءه. على أن مصر لا تنتظر الآن أن تقطع مسافات واسعة في وقت قصير، بل تؤمل السير خطوة خطوة، وأول ما نتوق إليه أن نرى جمعيتنا التشريعية - التي ليس لها الآن إلا رأي استشاري - تتمتع بالرأي القطعي في الشؤون الداخلية؛ فإن ذلك يساعد على التقدم تدريجيا، وفي ذلك تحقيق لآمالنا وتمكين للروابط التي تربطنا ببريطانيا العظمى.
ثم ختم عطوفته الحديث بالثناء على «ما تركه اللورد كتشنر من آثار الخدمات الجليلة التي أداها للبلاد. (2) خلع الخديوي عباس - وتولية السلطان حسين
في صبيحة يوم 19 ديسمبر سنة 1914 صدر الإعلان التالي بالجريدة الرسمية ونشر في الجرائد السيارة وعلق على الجدران في القاهرة والإسكندرية، وفي جميع أنحاء القطر في الأماكن الظاهرة للعيان:
إعلان
يعلن ناظر الخارجية لدى حكومة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر لإقدام سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق على الانضمام لأعداء الملك قد رأت حكومة جلالته خلعه من منصب الخديوية. وقد عرض هذا المنصب السامي مع لقب سلطان مصر على سمو الأمير حسين كامل باشا أكبر الأمراء الموجودين من سلالة محمد علي - فقبله.
فلما قبل الأمير حسين كامل العرش صدر الإعلان السابق ذكره. وفي اليوم نفسه وجه المستر ملن شيتهام إلى سموه التبليغ الآتي الذي تشرح فيه الحكومة البريطانية الأسباب التي أدت إلى هذا الانقلاب السياسي.
ياصاحب السمو
كلفني جناب ناظر الخارجية لدى ملك بريطانيا العظمى أن أخبر سموكم بالظروف التي سببت نشوب الحرب بين جلالته وبين سلطان تركيا، وبما نتج عن هذه الحرب من التغيير في مركز مصر.
كان في الوزارة العثمانية حزبان أحدهما معتدل لم يبرح عن باله ما كانت بريطانيا العظمى تبذله من العطف والمساعدة لكل مجهود نحو الإصلاح في تركيا ومقتنع بأن الحرب التي دخل فيها جلالته لا تمس مصالح تركيا في شيء ومرتاح بما صرح به جلالته وحلفاؤه من أن هذه الحرب لن تكون وسيلة للإضرار بتلك المصالح لا في مصر ولا في سواها. أما الحزب الآخر فشرذمة جنديين أفاقين لا ضمير لهم أرادوا إثارة حرب عدوانية بالاتفاق مع أعداء جلالته معللين أنفسهم أنهم بذلك يتلافون ما جروه على بلادهم من المصائب المالية والاقتصادية. أما جلالته وحلفاؤه فمع انتهاك حرمة حقوقهم، قد ظلوا إلى آخر لحظة وهم يأملون أن تتغلب النصائح الرشيدة على هذا الحزب؛ لذلك امتنعوا عن مقابلة العدوان بمثله حتى أرغموا على ذلك بسبب اجتياز عصابات مسلحة للحدود المصرية ومهاجمة الأسطول التركي بقيادة ضباط ألمانيين ثغورا روسية غير محصنة.
ولدى حكومة جلالة الملك أدلة وافرة على أن سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق قد انضم انضماما قطعيا إلى أعداء جلالته منذ أول نشوب الحرب مع ألمانيا، وبذلك تكون الحقوق التي كانت لسلطان تركيا وللخديوي السابق على بلاد مصر قد سقطت عنهما وآلت إلى جلالته.
ولما كان قد سبق لحكومة جلالة الملك أنها أعلنت بلسان قائد جيوش جلالته في مصر أنها أخذت على عاتقها وحدها مسئولية الدفاع عن القطر المصري في الحرب الحاضرة، فقد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد بعد تحريرها، كما ذكر، من حقوق السيادة وجميع الحقوق الأخرى التي كانت تدعيها الحكومة العثمانية.
فحكومة جلالة الملك تعتبر وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري جميع الحقوق التي آلت إليها بالصفة المذكورة. وكذلك جميه الحقوق التي استعملت في البلاد مدة سني الإصلاح الثلاثين الماضية. وقد رأت حكومة جلالته أن أفضل وسيلة لقيام بريطانيا العظمى بالمسئولية التي عليها نحو مصر أن تعلن الحماية البريطانية إعلانا صريحا، وأن تكون حكومة البلاد تحت هذه الحماية بيد أمير من أمراء العائلة الخديوية طبقا لنظام وراثي يقرر فيما بعد.
بناء عليه قد كلفتني حكومة جلالة الملك أن أبلغ سموكم أنه بالنظر لسن سموكم وخبرتكم قد رئي في سموكم أكبر الأمراء من سلالة محمد علي أهلية لتقلد منصب الخديوية مع لقب «سلطان مصر». وإنني مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحة عند عرضي على سموكم قبول عبء هذا المنصب أن بريطانيا العظمى أخذت على عاتقها وحدها كل المسئولية في دفع أي تعد على الأراضي التي تحت حكم سموكم مهما كان مصدره. وقد فوضت لي حكومة جلالته أن أصرح بأنه بعد إعلان الحماية البريطانية يكون لجميع الرعايا المصريين أينما كانوا الحق في أن يكونوا مشمولين بحماية حكومة جلالة الملك.
وبزوال السيادة العثمانية تزول أيضا القيود التي كانت موضوعة بمقتضى الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم وللحق الذي لسموكم في الإنعام بالرتب والنياشين.
وأما فيما يختص بالعلاقات الخارجية فترى حكومة جلالته أن المسئولية الحديثة التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها تستدعي أن تكون المخابرات من الآن بين حكومة سموكم وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر.
1
وقد سبق لحكومة جلالته أنها صرحت مرارا بأن المعاهدات الدولية المعروفة بالامتيازات الأجنبية المقيدة بها حكومة سموكم لم تعد ملائمة لتقدم البلاد. ولكن من رأي حكومة جلالته أن يؤجل النظر في تعديل المعاهدات إلى ما بعد انتهاء الحرب.
وفيما يختص بإدارة البلاد الداخلية علي أن أذكر سموكم بأن حكومة جلالته طبقا لتقاليد السياسة البريطانية قد دأبت على الجد بالاتحاد مع حكومة البلاد وبواسطتها في حماية البلاد الحرية الشخصية وترقية التعليم ونشره وإنماء مصادر ثروة البلاد الطبيعية، والتدرج في اشتراك المحكومين في الحكم بمقدار ما تسمح به حالة الأمة في الرقي السياسي. وفي عزم حكومة جلالته المحافظة على هذه التقاليد. بل إنها موقنة بأن تحديد مركز بريطانيا العظمى في هذه البلاد تحديدا صريحا يؤدي إلى سرعة التقدم في سبيل الحكم الذاتي، وستحترم عقائد المصريين الدينية احتراما تاما كما تحترم الآن عقائد نفس رعايا جلالته على اختلاف مذاهبهم، ولا أرى لزوما لأن أؤكد لسموكم بأن تحرير حكومته لمصر من ربقة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الأستانة لم يكن ناتجا عن أي عداء للخلافة، ولا علاقة له البتة بالروابط السياسية التي بين مصر والأستانة، وأن تأييد الهيئات النظامية الإسلامية في مصر والسير بها في سبيل التقدم هو بالطبع من الأمور التي تهتم بها حكومة جلالة الملك مزيد الاهتمام، وستلقى من جانب سموكم عناية خاصة. ولسموكم أن تعتمدوا في إجراء ما يلزم لذلك من الإصلاحات على كل انعطاف وتأييد من جانب الحكومة الإنكليزية. وعلي أن أزيد على ما تقدم أن حكومة جلالة الملك تعول بكل اطمئنان على إخلاص المصريين ورويتهم واعتدالهم في تسهيل المهمة الموكولة إلى قائد جيوش جلالته المكلف بحفظ الأمن في داخل البلاد ومنع كل عون للعدو.
السلطان حسين كامل «الأول» أول سلطان لمصر بعد إلغاء الخديوية.
وإني أنتهز هذه الفرصة فأقدم لسموكم أجل تعظيماتي. (3) رأي عباس في انتخاب عمه السلطان حسين
ولما وقع الانقلاب كان سمو الخديوي السابق عباس موجودا في «فينا» عاصمة بلاد النمسا نازلا في فندق «إمبريال»، فلما وصل النبأ إلى حاشيته تهيبوا إبلاغه لسموه، لكن سعادة أحمد شفيق باشا لما رأى ترددهم وجد أن من الواجب عليه أن يوقفه على الحقيقة، فأطلع سموه على نبأ اختيار سمو الأمير حسين - وهو عم سموه - سلطانا على مصر. فلما علم بهذا النبأ لم يزد على قوله: «في محله».
ومما يروى عن سموه أنه في الوقت الذي أعلنت فيه الحرب بين تركيا والحلفاء كان يحس بما سيجري من الانقلاب والتغيير، خصوصا وأنه كان يعلم بعداء كتشنر له، وآية ذلك أنه رفع يده وقبلها ثم قال: «اللهم لك الحمد. لقد حكمت ثلاثا وعشرين عاما وهو زمن ليس بالقليل، فلك الشكر!»
حسين رشدي باشا رئيس الوزارة المصرية في سني الحرب ورئيس لجنة الدستور سنة 1922 ورئيس مجلس الشيوخ في سنتي 1926 و1927. (4) تثبيت وزارة رشدي باشا
هذا وعلى أثر التبليغ الذي وجهه القائم بأعمال الوكالة البريطانية بمصر إلى عظمة السلطان صدرت الإرادة التالية إلى صاحب الدولة حسين رشدي باشا الذي كان في الوقت ذاته قائم مقام الخديوي
2
ورئيسا لمجلس نظاره، ولم يتخل رسميا عن هاتين الصفتين:
عزيزي رشدي باشا
إن الحوادث السياسية التي وقعت في هذه الأيام أدت إلى بسط بريطانيا العظمى حمايتها على مصر وإلى خلو الأريكة الخديوية.
وبهذه المناسبة أرسلت الحكومة البريطانية إلينا رسالة نبعث بصورتها إليكم لنشرها على الأمة المصرية موجهة فيها ندائها إلى ما انطوى عليه فؤادنا من عواطف الإخلاص نحو بلادنا لكي نرتقي عرش الخديوية المصرية بلقب سلطان. وستكون السلطنة وراثية في بيت محمد علي طبقا لنظام يقرر فيما بعد.
ولما كان لنا بعد أن وقفنا حياتنا كلها اليوم على خدمة بلادنا أن يكون الإخلاد إلى الراحة من عناء الأعمال مطمح أنظارنا إلا أننا بالنظر إلى المركز الدقيق الذي صارت إليه البلاد بسبب الحوادث الحالية قد رأينا مع ذلك أنه يتحتم علينا القيام بهذا العبء الجسيم، وأن نستمر على خطتنا الماضية فنجعل كل ما فينا من حول وقوة وقفا على خدمة الوطن العزيز.
هذا هو الواجب المفروض علينا لمصر ولجدنا المجيد محمد علي الكبير الذي نعمل على تخليد الملك في سلالته.
3
وبما فطرنا عليه من الاهتمام بمصالح القطر سنوجه عنايتنا على الدوام إلى تأييد السعادة الحسية والمعنوية لجميع أهاليه، مواصلين خطة الإصلاح التي بدأ العمل فيها. لذلك ستكون همة حكومتنا منصرفة إلى تعميم التعليم وإتقانه بجميع درجاته وإلى نشر العدل وتنظيم القضاء بما يلائم أحوال القطر في هذا العصر. وسيكون من أكبر ما نعنى به توطيد أركان الراحة والأمن العام بين جميع السكان وترقية الشؤون الاقتصادية في البلاد.
وأما الهيئات النيابية في القطر فسيكون من أقصى أمانينا أن يزيد اشتراك المحكومين في حكومة البلاد زيادة متوالية.
ونحن، على ثقة في سبيل تحقيق هذا المنهاج، سنجد لدى حكومة صاحب الجلالة البريطانية خير انعطاف في تأييدنا. وإننا لموقنون بأن تحديد مركز الحكومة البريطانية في مصر تحديدا واضحا مما يترتب عليه إزالة كل سبب لسوء التفاهم يكون من شأنه تسهيل التعاون بين جميع العناصر السياسية بالقطر لتوجيه مساعيها معا إلى غاية واحدة.
وإننا لنعتمد على إخلاص جميع رعايانا لتعضيدنا في العمل الذي أمامنا.
ولوثوقنا بكمال خبرتكم وبما تحليتم به من الصفات العالية، واعتمادا على وطنيتكم نطلب منكم مؤازرتنا في المهمة التي أخذناها على عاتقنا، وندعوكم بناء على ذلك إلى تولي رئاسة مجلس وزرائنا وإلى تأليف وزارة تختارون أعضاءها لمعاونتكم، وتعرضون أسماءهم على تصديقنا العالي.
ونسأل الله - جلت قدرته - أن يبارك لنا جميعا فيما نبتغيه من نفع الوطن وبنيه.
19 ديسمبر سنة 1914
حسين كامل
فرد صاحب الدولة
4
حسين رشدي باشا على عظمته بما يلي:
مولاي
أقدم لسدة عظمتكم السلطانية مزيد الشكر على ما أوليتموني من الشرف السامي إذ تفضلتم علي بأمركم الكريم الذي فوضتم به إلي تأليف هيئة الوزارة.
نعم إنني كنت وكيلا عن ولي الأمر السابق. ولكنني مصري قبل كل شيء، وبصفتي مصريا قد رأيت من المفروض علي أن أجتهد تحت رعايتكم السلطانية في أن أكون نافعا لبلادي. فتغلبت مصلحة الوطن السامية التي كانت رائدي في كل أعمالي على جميع ما عداها من الاعتبارات الشخصية.
لهذا فإني أقبل المهمة التي تفضلت عظمتكم السلطانية بتفويضها إلي. ولما كان زملائي بالأمس الموجودون الآن بمصر متشربين بنفس هذه العواطف، وهم لذلك مستعدون للاستمرار على معاونتهم لي فإنني أتشرف بأن أعرض على تصديقكم العالي رفق هذا، مشروع المرسوم السلطاني بتشكيل هيئة الوزارة الجديدة.
وإنني بكل احترام وإجلال لعظمتكم السلطانية.
حسين رشدي (5) المرسوم السلطاني بتأليف الوزارة
حسين رشدي باشا: الرياسة والداخلية. أحمد حلمي باشا: الزراعة. عدلي يكن باشا: المعارف. إسماعيل صدقي باشا: الأوقاف. إسماعيل سري باشا: الأشغال والحربية والبحرية. ثروت باشا: الحقانية. (6) وفاة السلطان حسين
وفي أوائل شهر أكتوبر سنة 1917 ساءت حالة صحة عظمة السلطان، واضطر إلى ملازمة فراشه. وفي يوم 9 أكتوبر وافاه القدر المحتوم بقصر عابدين. (7) السلطان أحمد فؤاد الأول
واختير حضرة صاحب السمو الأمير أحمد فؤاد سلطانا لمصر. خلفا للفقيد. واحتفل بجلوس «عظمته» على العرش في صباح يوم 10 أكتوبر سنة 1917 ووجه سير ونجت
5
ممثل إنكلترا في مصر يومئذ الكتاب التالي إلى عظمة السلطان:
يا صاحب العظمة السلطانية
بأمر جناب وزير الخارجية لحكومة صاحب الجلالة البريطانية أتشرف بأن أعرب لعظمتكم عن فائق الأسف الذي شمل حكومة جلالة الملك حينما وصل إلى علمها نعي المغفور له صاحب العظمة السلطانية حسين كامل الذي أكبرت الأمة المصرية جميعها إخلاصه لكل ما فيه خيرها إخلاصا لا يعتريه فتور وقدرته حق قدره. فكانت وفاته لديها كارثة وطنية.
6
وإنني أتشرف بإبلاغ عظمتكم السلطانية انعطاف حكومة جلالة الملك لما أصاب شخصكم الكريم من دواعي الحداد. هذا وإني مكلف في الوقت نفسه بأن أحيط علم عظمتكم بأنه لما كان نظام الوراثة على عرش السلطنة المصرية لم يوضع للآن، وكنتم عظمتكم بعد طبقة البنين، الوارث الشرعي المتعين تبعا لوراثة العرش السامي. على أن يكون لورثتكم من بعدكم، حسب النظام الوراثي الذي سيوضع بالاتفاق بين حكومة صاحب الجلالة البريطانية وبين عظمتكم.
وأن حكومة صاحب الجلالة البريطانية تريد أن تجدد لعظمتكم بهذه المناسبة التأكيدات التي أعطتها لسلفكم عند ارتقائه العرش. وهي مقتنعة أن في استطاعتها أن تعتمد، في العمل مع عظمتكم، على تلك الصداقة التي كانت شعارا لحكم السلطان المرحوم وعادت ثمراتها على البلاد بازدياد الرفاهية والتقدم، ذلك الأمر الذي له من المكانة في نفس الحكومة البريطانية ما لا تقل منزلته لدى عظمتكم.
حضرة صاحب الجلالة الملك أحمد فؤاد الأول ملك مصر - وأول من لقب بهذا اللقب في تاريخ مصر الحديث، وهو ابن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي.
وإني أنتهز هذه الفرصة فأقدم لعظمتكم السلطانية أجل احتراماتي.
القاهرة في 9 أكتوبر سنة 1917
رجنالد ونجت (8) استمرار وزارة رشدي باشا في الحكم
وبهذا التغيير انحلت بطبيعة الحال هيئة الوزارة. ولكن عظمة السلطان أحمد فؤاد الأول أثبت تأليفها. وهنا نورد نص الرسالتين الرسميتين المتبادلتين في نفس اليوم بين عظمته وبين صاحب الدولة حسين رشدي باشا بهذا الشأن:
عزيزي حسين رشدي باشا
يعلم رعايانا أنه بسبب وفاة سلفنا وأخينا المحبوب المغفور له السلطان حسين الأول الذي اختطفته المنية قبل الأوان وملأت القلوب حزنا عليه قد تولينا بالاتفاق مع الدولة الحامية عرش السلطنة المصرية على أن يكون هذا العرش من بعدنا لورثتنا طبقا للنظام الوراثي الذي سيوضع بالاتفاق بيننا وبينها.
منذ ثلاث سنوات كانت حدود بلادنا يظهر أنها مهددة، وكانت ثروتها الزراعية توشك أن تصاب في مصادرها، ولقد لبى سلفنا رحمه الله، نداء الواجب وتفانى في إخلاصه لمرافق البلاد، فلم يتردد في حمل أعباء السلطنة مع ما كان يحف بها من المصاعب. واعتمادا على ولاء رعاياه وعلى تأييد الدولة الحامية وقف نفسه مدة هذه السنوات الثلاث على تنفيذ المنهاج الذي اختطه في المرسوم الصادر منه إلى دولتكم عند ارتقائه عرش السلطنة، وقد صار وضع أسس تعميم التعليم وبحث موارد ثروة البلاد والشروع في الوسائل التمهيدية التي من شأنها إحلال مصر في مكانة الكرامة اللائقة بها في العالم الذي سيتجدد على أثر انعقاد الصلح.
ونحن اليوم ننشد ذلك الولاء نفسه من رعايانا في ظروف هي أكثر يمنا وتوفيقا. فقد زالت الأخطار التي كان يظهر أنها تهدد بلادنا، وعادت ثروة القطر إلى ما كانت عليه. وبقي علينا أن نخصص أنفسنا بالاشتراك مع نواب الأمة اشتراكا يزداد على الدوام لإتمام تنفيذ ذلك المنهاج الذي اختطه سلفنا. وأن نحقق في جميع الفروع الإصلاحات التي من شأنها ضمان التقدم المادي والأدبي في بلادنا.
ولما كنا على يقين من خبرتكم ومن صفاتكم السامية، فإننا نوجه إلى عهدتكم مهمة تأليف الوزارة.
ومن الله نلتمس الإعانة على ما نحن قوامون عليه من العمل.
فؤاد
هوامش
الفصل الرابع عشر
حوادث مصر والسودان بعد الهدنة
أعلنت الهدنة بين الحلفاء والألمان وحلفائهم في يوم الاثنين 11 نوفمبر سنة 1918، وفي مسائه طلب حضرة صاحب المعالي سعد زغلول باشا من الوكالة البريطانية تحديد ميعاد ليقابل هو وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك «باشا» السير ونجت، فحدد لهم يوم الأربعاء 13 نوفمبر سنة 1918 الساعة 11 أفرنكي صباحا.
وقد أصبح 13 نوفمبر يسمى عيد الجهاد الوطني. ولما أعلن تأليف الوفد المصري بادر أعضاء الجمعية التشريعية بالتوقيع على صيغة التوكيل التالي، وتبعهم أعيان البلاد ومحاموها وتجارها ... إلخ.
كان إعلان الهدنة مقرونا بشروط مستر ويلسون - رئيس الجمهورية الأمريكية - التي في مقدمتها: حق كل شعب في تعيين مصيره. (1) صيغة التوكيل للوفد المصري
نحن الموقعين على هذا، الأعضاء بالجمعية التشريعية. قد أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا. وعلي شعراوي باشا. وعبد العزيز فهمي بك. ومحمد علي بك «علوبة باشا». وعبد اللطيف المكباتي بك. ومحمد محمود باشا. وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارونهم، في أن يسعوا بالطرق السلمية، في استقلال مصر استقلالا تاما. تطبيقا لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب. (2) استقالة وزارة رشدي باشا
استقالت وزارة رشدي باشا الثانية في 21 إبريل سنة 1899، وخلفتها وزارة محمد سعيد باشا الإدارية. (3) أعضاء الوفد المصري
وقد انضم إلى الوفد آخرون، ووضع قانون للوفد كانت مادته الأولى: «تألف وفد باسم الوفد المصري من حضرات سعد زغلول باشا وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك ومحمد علي بك وعبد اللطيف المكباتي بك ومحمد محمود باشا وأحمد لطفي السيد بك وإسماعيل صدقي باشا وسينوت حنا بك وحمد الباسل باشا وجورج خياط بك ومحمود أبو النصر بك ومصطفى النحاس بك والدكتور حافظ عفيفي بك.»
الفقيد العظيم الزعيم الخالد المغفور له سعد زغلول باشا رئيس الوزارة المصرية في سنة 1924 - وسميت وزارة الشعب - ورئيس مجلس النواب في سنة 1927 حيث توفي إلى رحمة الله في بيت الأمة في 23 أغسطس سنة 1927، وكانت لوفاته رنة حزن عميق.
حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد المصري الذي فاوض وهو رئيس للوزارة المصرية مستر هندرسون - وزير الخارجية البريطانية - سنة 1930، وقطعت المفاوضة إلى اليوم بسبب عدم قبول الحكومة البريطانية النص المقترح لحل مسألة السودان في المعاهدة.
وكان لتطور الحوادث منذ نوفمبر 1918 حتى الآن أثر في ضم أعضاء وفي حدوث انشقاق في الوفد المصري، فضلا عن وفاة الكثير من أعضائه رحمة الله عليهم، مما ليس هنا المجال لبيان تفاصيله. وإنما حسبنا أن نذكر أن الوفد المصري يتألف من حضرات:
حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا رئيسا.
حضرة المجاهد الكبير الأستاذ مكرم عبيد سكرتيرا.
حضرات الأعضاء المحترمين: الأستاذ محمود فهمي النقراشي. الدكتور أحمد ماهر. مصطفى بكير بك. الأستاذ محمود بسيوني. علي سالم بك. محمود الأتربي باشا. محمد الشناوي بك. أحمد حمدي سيف النصر بك. كامل صدقي بك. عبد السلام فهمي محمد جمعة بك. إبراهيم سيد أحمد بك. الدكتور حامد محمود. (4) اعتقال سعد وصحبه إلى مالطة
وقد واصل الوفد نشاطه، فأرسل عشرات البرقيات إلى الدول بالاحتجاج على منعه من السفر. وفي 8 مارس اعتقلت السلطة العسكرية البريطانية في مصر المغفور له سعد باشا ومعه حضرات محمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقي باشا في ثكنة قصر النيل، وأرسلتهم مخفورين إلى بورسعيد حيث أقلتهم باخرة إلى مالطة.
انتشر النبأ في العاصمة، وبدأت الثورة المصرية في 9 مارس سنة 1919، وخربت السكك الحديدية والمواصلات التلغرافية، وقامت مواكب المظاهرات والطلبة، وأصبح الجامع الأزهر مركزا لاجتماع المتظاهرين وخطب المتحمسين. (5) الإفراج عن سعد وصحبه
الفيكونت إدموند اللنبي المندوب السامي البريطاني لمصر والسودان من سنة 1919 حتى سنة 1920.
استدعت الحكومة الإنكليزية السير ونجت من مصر، وعينت اللورد اللنبي مندوبا ساميا فوق العادة، فأصدر في 7 إبريل البلاغ الآتي، حيث وزعته الطائرات ليلا:
الآن وقد عاد النظام بنجاح عظيم. فبالاتفاق مع حضرة صاحب العظمة السلطان، أعلن أنه لم يبق حجر على السفر، وأن جميع المصريين الذين يريدون السفر تكون لهم مطلق الحرية.
وقد قررت علاوة على ذلك أن كلا من: سعد زغلول باشا وإسماعيل صدقي باشا ومحمد محمود باشا وحمد الباسل باشا، يطلقون من الاعتقال، ويكون لهم كذلك حق السفر.
ففرحت الأمة المصرية بذلك وعدت ذلك اليوم يوم عيد وأفراح، وخرجت السيدات المصريات المبرقعات لأول مرة ينتظمن المظاهرات هتافا للحرية والاستقلال التام لمصر والسودان وحياة سعد والوفد. (6) سفر الوفد إلى باريس
وسافر أعضاء الوفد يوم 11 إبريل سنة 1919 من مصر إلى باريس، وانضم سعد وصحبه إلى زملائهم في الطريق وسافروا معا.
وتألفت لجنة الوفد المركزية في مصر، برياسة المغفور له محمود سليمان باشا، وكان المرحوم إبراهيم سعيد باشا وكيلا لها، وبعد إبعادهما رأسها المغفور له مرقس حنا بك «باشا» - نقيب المحامين - وقد حدث لأول مرة حادث لا مثيل له، وهو إضراب موظفي الحكومة جميعا تقريبا في 10 إبريل سنة 1919، واستمر الإضراب حتى آخر الشهر.
واستقالت في 21 إبريل سنة 1919 وزارة حسين رشدي باشا. وتألفت في التاريخ نفسه وزارة المرحوم محمد سعيد باشا برياسته مع الداخلية، ومن إسماعيل سري باشا للأشغال والحربية والبحرية، ويوسف وهبة باشا للمالية، وأحمد ذو الفقار باشا للحقانية، وعبد الرحيم صبري باشا للزراعة، وأحمد زيور باشا للمعارف، والمستشار محمد توفيق نسيم بك «باشا» للأوقاف.
الفصل الخامس عشر
لجنة ملنر والوفد المصري
ظل الوفد المصري في باريس يواصل جهوده بالخطب والمقالات والنداءات والاحتجاجات، وأوفد سعادة «دولة» محمد محمود باشا إلى أمريكا، واتصل بعضو الشيوخ الأمريكي مستر فولك الذي اتفق مع الوفد على أتعاب في سبيل الدفاع عن القضية المصرية في أمريكا.
ثم أذاعت شركة روتر ما يأتي:
لندن في 22 سبتمبر سنة 1919. أعلن رسميا أن لجنة التحقيق المعهود إليها البحث في الاضطرابات الأخيرة في مصر وفي شأن الحكومة القائمة في مصر مؤلفة من اللورد ملنر رئيسا ومن السر رنل رود والجنرال السر جون سيمون مكسويل والجنرال السر أدين توماس. والمستر ج. أ. سبندر. رئيس تحرير «وستمنستر غازيت». والمستر ث. ج. ب. هورست المستشار القضائي في وزارة الخارجية أعضاء.
قاطعت الأمة المصرية، تحت إشراف الوفد المصري ولجنته المركزية، لجنة ملنر، وقامت المظاهرات ضدها، واستقالت وزارة سعيد باشا احتجاجا على وصول اللجنة، وقبلت استقالتها في 19 نوفمبر سنة 1919، وخلفتها وزارة يوسف وهبة باشا، وكان فيها محمد توفيق نسيم باشا، وكانت مؤلفة من: يوسف وهبة باشا للمالية، وأحمد زيور باشا للمواصلات، ومحمد توفيق نسيم باشا للداخلية، ويحيى إبراهيم باشا للمعارف، وإسماعيل سري باشا للأشغال والبحرية، وأحمد ذو الفقار باشا للحقانية، ومحمد شفيق باشا للزراعة، وحسين درويش باشا للأوقاف. (1) مهمة لجنة ملنر
في 13 نوفمبر سنة 1919 أقيم أول احتفال بذكرى 13 نوفمبر سنة 1918. في 15 سنة 1919 نشرت دار الحماية في مصر البلاغ الرسمي التالي عن مهمة لجنة ملنر:
إن سياسة بريطانية العظمى في القطر المصري هي المحافظة على حكومته الذاتية تحت الحماية البريطانية، وإنشاء نظام حكومة ذاتية تحت رياسة حاكم وطني. وغرض بريطانيا العظمى الدفاع عن مصر من كل خطر خارجي أو من تدخل أي دولة أجنبية، وغرضها في الوقت نفسه تأسيس نظام دستوري تحت إرشاد بريطانيا العظمى على قدر الحاجة. والنظام الذي يمكن عظمة السلطان ومعالي وزرائه وحضرات مندوبي الأمة في دوائرهم الخاصة من الاشتراك في إدارة الأمور المصرية. وذلك على أسلوب يزيد فيه نفوذهم على مرور الأيام. وعليه فقد قررت حكومة جلالة الملك إرسال لجنة إلى مصر مهمتها تقرير نظام الحكم للوصول إلى تلك الغاية. وبعد أن تستشير اللجنة عظمة السلطان ومعالي وزرائه وأصحاب الرأي من المصريين تباشر الأعمال الأولية اللازمة قبل وضع قانون الحكومة المستقبلة، وليس من اختصاص اللجنة أن تشتغل بوضع شكل الحكومة على مصر. فإن مهمتها أن تدرس الأحوال درسا دقيقا، وتبحث عن أصحاب الشأن في البلاد في الإصلاحات اللازمة، وأن تقترح نظام الحكم الذي يمكن تنفيذه فيها في النتيجة. فالمأمول أن يكون ذلك بالموافقة التامة مع عظمة السلطان ومعالي الوزراء الكرام. (2) الوفد السوداني في لندن
عقب عقد الهدنة وبعد سفر الوفد المصري إلى باريس للمطالبة بالاستقلال التام لمصر والسودان من مؤتمر الصلح - سافر وفد سوداني برياسة حضرة الحسيب النسيب السر السيد علي الميرغني وعضوية حضرات الحسيب النسيب السر السيد عبد الرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي - أكبر الزعماء الدينيين في السودان، وأصحاب الفضيلة الشيخ أحمد الطيب هاشم مفتي السودان، والشيخ أبو القاسم هاشم شيخ العلماء، والشيخ إسماعيل الأزهري مفتش المحاكم الشرعية، والشيخ علي التوم ناظر قبائل الكبابيش، والشيخ إبراهيم موسى ناظر قبائل الهدندوة، والشيخ عوض الكريم أبو سن ناظر قبائل الشكرية، والشيخ إبراهيم محمد ناظر قبائل الجعليين. ورافقهم مستر ويليس مدير المخابرات وصمويل عطية بك وكان الغرض الرسمي من سفر الوفد تقديم التهاني لجلالة ملك الإنكليز لانتصاره على الألمان وعقد الهدنة.
وقد ألقى السيد الميرغني خطابا باللغة العربية في حضرة جلالة الملك جورج، وألقى السير ونجت الذي حضر الزيارة ترجمة للخطاب، ومجمله أنهم حضروا بالنيابة عن الشعب السوداني لتقديم التهاني بانتصار الحلفاء وقد رد جلالة الملك بالشكر. (الوفد السوداني في لندن سنة 1919) من اليمين: الجالسان: الشيخ أحمد الطيب هاشم. والسر السيد علي الميرغني. الواقفان: عن اليمين الشريف يوسف الهندي، والسر السيد عبد الرحمن المهدي.
ثم قدم السيد عبد الرحمن المهدي سيفا كان للمغفور له والده، وأنعم جلالته بنياشين مختلفة على أعضاء الوفد. وقد رد جلالته في المقابلة نفسها بكتاب بخط جلالته وتوقيعه بأنه يرد إليه هذا السيف إلى السيد عبد الرحمن لكي يستعمله في خدمة الحكومة السودانية.
صمويل عطية بك - رئيس القلم العربي بوكالة حكومة السودان بالقاهرة. (3) وصول لجنة ملنر وسفرها
وصلت اللجنة في صباح الأحد 7 يناير سنة 1920 إلى بورسعيد ومنها إلى القاهرة، حيث اتخذت فندق سيميراميس مقرا لها. وواصلت أبحاثها.
واتصلت ببعض الوزراء والكبراء، ولكنها لقيت مقاطعة إجماعية لها. وفي 6 مارس صدر البلاغ الرسمي التالي:
رسمي - قد أنجزت لجنة ملنر أبحاثها في مصر، وأجلت إتمام عملها الذي ستعود إليه في لندن بعد عيد الفصح لإعداد تقريرها.»
واستقالت وزارة يوسف وهبة باشا. وتألفت وزارة محمد توفيق نسيم باشا في 21 مايو سنة 1920 محتفظا لنفسه بالرياسة والداخلية، ومن زيور باشا للمواصلات، وذي الفقار باشا للحقانية. ومحمد شفيق باشا للأشغال، وحسين درويش باشا للأوقاف، وتوفيق رفعت باشا للمعارف، ومحمود فخري باشا للمالية، ويوسف سليمان باشا للزراعة.
ودعت لجنة ملنر الوفد المصري للمفاوضة معه، وبدأت المفاوضات في لندن في 9 يونية سنة 1920.
واعتقلت السلطة العسكرية عبد الرحمن فهمي بك - سكرتير لجنة الوفد المركزية - وآخرين في أول يوليو سنة 1920.
الفصل السادس عشر
السودان في مشروعات الاتفاق
(1) في مشروع ملنر
جاء ذكر السودان في مشروعات الاتفاق بين مصر وإنجلترا. فورد ذكره في مشروع الاتفاق الذي وضعته لجنة ملنر وورد في تقرير اللجنة الذي أذيع في سنة 1921 ما يلي: (1-1) السودان
إن المشروع الذي تتضمنه المذكرة يتناول مصر فقط، ولا ينطبق على السودان - البلاد التي تختلف كل الاختلاف عن مصر في أوصافها وتركيبها وكون حالتها السياسية محدودة تحديدا جليا في الاتفاق الإنكليزي المصري المبرم في 19 يناير سنة 1899
1
وليست كحالة مصر التي لا تزال غير معينة. فلهذه الأسباب أخرجنا السودان عمدا من مناقشاتنا كلها مع الوفد. وكان ذلك مفهوما دائما عند أعضائه، ولكن منعا للخطأ وسوء الفهم بمصر في غاية مناقشاتنا ومداها، دفع اللورد ملنر الكتاب التالي إلى عدلي باشا يكن لما أرسل إليه المذكرة، وهو:
18 أغسطس سنة 1920
عزيزي الباشا
بخصوص الحديث الذي جرى بيننا أمس أعود فأقول مرة أخرى إنه ليس بين أجزاء المذكرة التي أنا مرسلها إليك الآن جزء بقصد تطبيقه على السودان كما هو ظاهر من المذكرة نفسها، ولكني أرى - اجتنابا لكل خطأ وسوء فهم في المستقبل - أنه يحسن بنا أن ندون رأي اللجنة، وهو أن موضوع السودان الذي لم نتناقش فيه قط نحن وزغلول باشا وأصحابه خارج بالكلية عن دائرة الاتفاق المقصود لمصر، فإن البلدين يختلفان اختلافا عظيما في أحوالهما، ونحن نرى أن البحث في كل منهما يجب أن يكون على وجه مختلف عن وجه البحث الآخر.
إن السودان تقدم تقدما عظيما تحت إدارته الحالية المؤسسة على مواد اتفاق 1899، فيجب - والحالة هذه - أن لا يسمح لأي تغيير يحصل في حالة مصر السياسية أن يوقع الاضظراب في توسيع نطاق تقدم السودان وترقيته على نظام أنتج مثل هذه النتائج الحسنة.
على أننا ندرك من الجهة الأخرى أن لمصر مصلحة حيوية في إيراد الماء الذي يصل إليها مارا في السودان، ونحن عازمون أن نقترح اقتراحات من شأنها أن تزيل هم مصر وقلقها من جهة كفاية ذلك الإيراد لحاجتها الحالية والمستقبلة.
الإمضاء: (ملنر)
العنوان: «حضرة صاحب المعالي عدلي باشا يكن»
وقالت اللجنة:
ويجمل بنا في هذا المقام أن نورد بالإيجاز الأسباب التي نرى أنها تقضي باستحالة تسوية مسألة السودان على المبادئ التي يراد تسوية المسألة المصرية عليها، ونشير في الوقت عينه إلى الخطة العامة التي يلوح لنا أنها أصلح من سواها لسد حاجات السودان الحالية فنقول:
إن الأكثرية الكبرى من أهل مصر متجانسة بالنسبة إلى سواها. أما السودان فمقسوم بين العرب والسود، وفي كل من هذين الجنسين الكبيرين أجناس وقبائل يختلف بعضها عن بعض اختلافا عظيما ويضاد بعضها بعضا كثيرا. أما عرب السودان فيتكلمون باللغة التي يتكلم بها أهل مصر وتجمع بينهم لغة الدين، والإسلام آخذ في الانتشار في السودان حتى بين الأجناس غير العربية من أهله. وهذه المؤثرات تلطف ما بين أهالي البلدين من التضاد والتنازع، ولكنها تقوى عليه بعد ما زادت تذكار سوء الحكم المصري الماضي قوة وشدة.
أما الروابط السياسية التي تربط السودان بمصر في فترات مختلفة من الزمان الماضي، فكانت دائما روابط واهية، فإن الفاتحين المصريين اجتاحوا أقساما من السودان بل السودان كله، ولكن مصر لم تخضع السودان قط إخضاعا حقيقيا، ولا أدغمته فيها وجعلته بعضا منها بمعنى من المعاني، وكان فتحها له في القرن الماضي نكبة كبيرة على البلدين معا، وانتهى أمره بفتنة المهدي التي قلبت السلطة المصرية رأسا على عقب في أوائل العقد الثاني من ذلك القرن، ولم يبق للسلطة المصرية أثر في السودان مدة أكثر من عشر سنوات إلا في مقاطعة صغيرة حول سواكن، فاضطرت بريطانيا العظمى من جراء ذلك الفشل أن تجرد عدة حملات أنفقت عليها أموالا طائلة لنجدة الحاميات المصرية والدفاع عن مصر التي كانت عرضة لسيل عصابات المهدي الجارفة، واستلمت الأيدى البريطانية زمام حكومة السودان فعلا منذ فتحت القوات البريطانية والمصرية البلاد بقيادة قواد بريطانيين في سنة 1896-1898، وبات السودان تحت الحماية البريطانية المصرية في سنة 1899؛ لأن الحاكم العام وإن كان يعينه سلطان «وسابقا خديوي» مصر، فالحكومة البريطانية هي التي ترشحه، وكل مديري المديريات وكبار الموظفين هم من البريطانيين، فتقدم السودان تقدما عجيبا ماديا وأدبيا تحت رعاية الحكومة المنظمة هذا النظام؛ لأننا إذا حسبنا حساب كل ما تقتضيه بساطة هذه القضية، وهي إدخال المبادئ الأولية لحكومة منظمة متمدنة إلى بلاد أهلها لا يزالون في أول عهد السذاجة حكمنا أن النجاح العظيم الذي نجحته بلاد السودان في المدة الطويلة التي كان فيها السر رجينلد ونجت حاكما عاما عليها يعد أمجد صفحة في تاريخ الحكم البريطاني على الشعوب المتأخرة. أما الحكومة الحالية فمقبولة ومحبوبة عند أهل السودان. والسلام والتقدم مخيمان على تلك البلاد إلا فيما ندر.
غير أنه وإن تكن مصر والسودان بلدين ممتازين أحدهما عن الآخر وارتقاؤهما يكون على منهاجين مختلفين، فلمصر مع ذلك مصلحة عظيمة جدا في السودان، وهي أن النيل الذي يتوقف عليه وجود مصر وكيانها يجري مسافة مئات من الأميال في بلاد السودان، فمن أهم الأمور لمصر منع أي تحويل لماء النيل يمكن أن يقلل مساحة أراضيها الزراعية الحالية التي تبلغ مساحتها حوالي مليوني فدان، وتصير قابلة للزراعة إذا خزن ماء النيل وزاد ما يرد منه للري عما هو عليه الآن. وقد كانت كمية المياه التي يأخذها السودان رأسا من النيل قليلة حتى الآن، ولكن كلما زاد عدد سكان السودان احتاجت بلادهم إلى ماء أكثر لأجل تقدمها. وقد يفضي ذلك إلى التضارب بين مصالحهم ومصالح أهل مصر، ولكن الأمل وطيد أنه إذا حفظت مياه النيل جيدا ووزعت كذلك كفت لري كل الأطيان التي يمكن أن تحتاج إلى الري، سواء كانت في مصر أو في السودان، ولكن التحكم بمياه النيل وضبطها للري مسألة أعظم مكان من الأهمية والقضايا التي تنطوي تحت ذلك - فنية كانت أو غير فنية - صعبة ومعقدة جدا بحيث يقتضي في رأينا تعيين لجنة دائمة من خبيرين من الطبقة الأولى، وأيضا من رجال ينوبون عن كل البلدان التي لها علاقة بهذا الأمر، وهي مصر والسودان وأوجندا لتحل كل المسائل التي لها مساس بالتحكم بماء النيل وضبطه، ولتضمن توزيع الماء بالقسط.
ولتجاور مصر والسودان ولاشتراكهما في المصلحة في النيل يحسن أن تكون بينهما رابطة سياسية على الدوام، ولكن هذه الرابطة لا يمكن أن تكون صورتها خضوع السودان لمصر. فبلاد السودان قابلة للتقدم والارتقاء حسب مقتضى أوصافها واحتياجاتها مستقلة بنفسها. ويحق لها أن تكون كذلك أيضا. ولم يحن الوقت بعد لتعيين الحالة السياسية التي تكون عليها في آخر الأمر، ويكفيها لقضاء أغراضها في الوقت الحاضر الحالة التي عينت لها باتفاق سنة 1899 بين بريطانيا العظمى ومصر، حيث ينص على الصلة السياسية اللازمة بين مصر والسودان من دون تأخير السودان عن الترقي والتقدم مستقلا عن مصر.
والضرورة تقضي الآن بأن يكون السودان كله تحت سلطة واحدة عليها، ولكن لا يستحسن أن ينحصر الحكم كله في حكومة مركزية، بل الواجب إلقاء مقاليد إدارته بقدر الإمكان إلى حكام من الوطنيين
2
حيثما وجدوا تحت المراقبة البريطانية؛ نظرا لاتساع أرجائه واختلاف طبع أهله وأخلاقهم، فالحكومة البيروقراطية المركزية لا تلائم السودان على الإطلاق. وإنما تلائمه اللامركزية، واستخدام العناصر الوطنية، حيث يستطاع لقضاء الأعمال الإدارية البسيطة التي تحتاج البلاد إليها في الحالة التي هي عليها من التقدم؛ لأن ذلك يقلل نفقاتها، ويزيد في كفاءة رجالها وحسن إدارتها، والموظفون الآن من أهل البلاد لا يزالون قلال العدد في جنب الذين يؤتى بهم من مصر، وهؤلاء لا يحبون الخدمة في السودان، ولكن هذه الصعوبة ستزول كلما تقدم العلم في السودان وزاد عدد الذين يصيرون كفئا من أهله لتقلد الوظائف الرسمية. والواجب في الوقت عينه الانتباه الكلي إلى أمر التعليم حتى لا يرتكب فيه الخطأ الذي ارتكب في مصر بإدخال نظام إليها لا يؤهل التلامذة لعمل يذكر سوى الأعمال الكتابية والوظائف الإدارية الصغيرة، وتخريج جمهور كبير يفوق الحاجة من الذين تطمح أبصارهم إلى الاستخدام في الحكومة، فليس في السودان مجال لجيش من صغار المستخدمين؛ ولذلك يجب أن يتوجه التعليم بحيث يربي في السودانيين القابلية والميل إلى الأعمال الأخرى كالزراعة والصناعة والتجارة والهندسة، إذ حاجة تلك البلاد الآن هي إلى الترقي المادي، وفي وسعها الاستغناء عن نظام إداري على غاية من الإتقان.
إن القواعد العسكرية التي لا تزال تستخدم في السودان كبيرة جدا. نعم إن وجود جيش كبير في تلك البلاد كان لازما لإتمام فتحها ولاستتباب السكون فيها، ولكنا نرى أن الزمان قد حان لإعادة النظر في مسألة القوات العسكرية
3
في البلاد وتنظيمها وتخفيف العبء المالي الواقع على عاتق مصر من إبقائها هناك، ثم إن وظيفة الحاكم العام على السودان
4
والقائد العام للجيش المصري لا تزالان مجتمعتين في شخص واحد، وكانت الأسباب التي تقتضي ذلك وجيهة في الماضي؛ ولكن لا يمكن الدفاع عنه إذا أريد أن يكون كذلك دائما، ولذلك يجب تعيين حاكم عام ملكي عند سنوح أول فرصة.
ويقال بالإجمال إن الغرض الذي ترمي إليه السياسة البريطانية يجب أن يكون إخلاء جانب مصر من كل مسئولية مالية للسودان، وتقرير العلاقات بين البلدين في المستقبل على قاعدة تضمن ارتقاء السودان ارتقاء مستقلا ومصالح مصر الحيوية في ماء النيل. فلمصر حق لا ينازع فيه في الحصول على إيراد كاف مضمون من الماء لري أراضيها الزراعية الحالية، وعلى نصيب عادل من كل زيادة في إيراد الماء يتيسر للبراعة الهندسية أن تأتي بها، فإذا صرحت بريطانيا العظمى رسميا باعترافها بهذا الحق، وأنها عاقدة النية على المحافظة عليه في كل حال من الأحوال سكنت بذلك روع المصريين وخففت عنهم القلق المستحوذ عليهم من هذا القبيل، ورأينا أن هذا التصريح يفي بالغرض المقصود إذا تم في الوقت الحاضر. ا.ه. (2) في مشروع كرزن
فيما يلي ترجمة مذكرة بنصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر؛ مشروع كرزن، تاريخه 15 نوفمبر سنة 1921: (2-1) السودان
حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر ولدوام مورد المياه تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي، أو أن تقدم بدلا من ذلك لحكومة السودان إعانة مالية
5
تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين.
تكون كل القوات المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام.
وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه النيل، ولهذا الغرض قد تقرر أن لا تقام أعمال ري جديدة على النيل أو روافده جنوبي وادي حلفا بدون موافقة لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء يمثل أحدهم مصر والثاني السودان والثالث أوغندا. (2-2) رد عدلي باشا
وقد ورد في رد الوفد الرسمي المصري برياسة عدلي يكن باشا في صدد مسألة السودان ما يلي:
أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث، فلا بد لنا فيها من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا. فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حق السيادة الذي لا نزاع فيه وحق السيطرة على مياه النيل. (3) في تصريح 28 فبراير سنة 1922
ننشر فيما يلي نص التصريح:
بما أن حكومة جلالة الملك - عملا بنواياها التي جاهرت بها - ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين مصر أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية، فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية: (1)
انتهت الحماية البريطانية على مصر. وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة. (2)
حالما تصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات «إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية» نافذ الفعل على جميع ساكني مصر تلغى الأحكام العرفية التي أعلنت في 2 نوفمبر سنة 1914. (3)
إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي هذه الأمور، وهي: (أ)
تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. (ب)
الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو بالواسطة. (ج)
حماية المصالح الأجنبية في مصر وحماية الأقليات. (د)
السودان.
وحتي تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه الآن. (4) مفاوضات ماكدونالد وسعد سنة 1924
سافر حضرة صاحب الدولة المغفور له سعد زغلول باشا - رئيس الوزارة المصرية - إلى لندن حيث جرت بينه وبين مستر ماكدونالد رئيس الوزارة الإنكليزية - وكانت أول وزارة للعمال في إنكلترا - مباحثات في أكتوبر سنة 1924، في سبيل عقد معاهدة بين مصر وإنكلترا. ولكن المباحثات قطعت، وكان من أسباب قطعها مسألة السودان. (4-1) بيان الكتاب الأبيض
وقد أذاعت الحكومة البريطانية في يوم الثلاثاء 7 أكتوبر سنة 1924 الكتاب الأبيض الإنكليزي عن المحادثات المصرية البريطانية مع سعد باشا جاء فيه بخصوص السودان ما يلي:
أما في شأن السودان فإنني ألفت النظر إلى بعض البيانات التي فاه بها زغلول باشا بصفته رئيس مجلس الوزراء أمام البرلمان المصري في الصيف في 17 مايو. ويؤخذ مما علمته في هذا الصدد أن زغلول باشا قال: إن وجود قيادة الجيش المصري العامة في يد ضابط أجنبي وإبقاء ضباط بريطانيين في هذا الجيش لا يتفق مع كرامة مصر المستقلة، فإبداء مثل هذا الشعور في بيانات رسمية من رئيس الحكومة المصرية المسئول لم يقتصر على وضع السردار السر لي مستاك باشا في مركز صعب، بل وضع جميع الضباط البريطانيين الملحقين بالجيش المصري أيضا في هذا المركز.
ولم يفتني أيضا أنه قد نقل لي أن زغلول باشا ادعى لمصر في شهر يونية الماضي بحقوق ملكية السودان العامة، ووصف الحكومة البريطانية بأنها غاصبة.
فقال زغلول باشا: إن الأقوال السابقة التي قالها لم يكن مرددا فيها صدى رأي البرلمان المصري فقط؛ بل رأي الأمة المصرية أيضا. فاستنتجت من ذلك أنه ما زال متمسكا بذلك المركز. على أن الأقوال التي من هذا النوع لا بد أنها أثرت في عقول المصريين المستخدمين في السودان وفي عقول السودانيين في الجيش المصري، فكان من جراء ذلك أنه أصبح يلوح أن الإخلاص للحكومة المصرية أمر يختلف عن الإخلاص لإدارة السودان الحالية ولا ينطبق عليه. وكانت النتيجة من ذلك أن الأمر لم يقتصر على تبدل تام في روح التعاون الإنكليزي المصري الذي كان سائدا في السودان، بل وجد الرعايا المصريون المستخدمون في حكومة السودان مشجعا جعلهم يقدرون أنفسهم دعاة لنشر آراء الحكومة المصرية، وتكون النتيجة أنه إذا استمرت هذه الحال بالرغم من وجود أي اتفاق يصبح وجودهم في السودان تحت نظام الحكم الحالي مصدرا للخطر على الأمن العام.
وقد وعدت في أثناء محادثاتنا الأولى أن أكون صريحا جدا مع زغلول باشا، ولم أترك في نفسه أدنى شك في أثناء تلك المحادثة وفيما بعدها عن الموقف الذي اضطرت الحكومة البريطانية إلى وقوفه في شأن مصر والسودان.
إلى أن قال: «ويؤخذ من كل ما جرى لي من المحادثات مع زغلول باشا في مسألة السودان أن هذه الأحاديث لم تظهر سوى إصراره على موقفه الذي صرح به في أقواله العمومية، فلا بد لي من التمسك بالبيانات التي فهت بها في هذا الموضوع في مجلس النواب، ويجب أن لا يبقى شك في ذلك لا في مصر ولا في السودان، وإذا كان هنالك شك فإنه لا يفضي إلا إلى الاضطراب. وفي خلال ذلك يظل الواجب العملي في حفظ النظام في السودان ملقى على عاتق الحكومة البريطانية، وهي تتخذ جميع التدابير اللازمة لهذا الغرض، فإنها منذ ذهبت إلى هناك وضعت على عاتقها تعهدات أدبية بإيجاد نظام إداري جيد، فهي لا تسمح بأن يزول هذا النظام، وهي تعد مسئولياتها وديعة في يدها للشعب السوداني، ولا يمكن أن تترك السودان إلا عندما تتم عملها.
إن الحكومة البريطانية لا ترغب في تشويش الاتفاقات الحالية، ولكن يجب عليها أن تصرح بأن الحالة الحاضرة التي تسمح للموظفين الملكيين والضباط العسكريين أن يتآمروا ضد النظام المدني - هي حالة لا تطاق.
فإذا لم تقبل الحالة الحاضرة بإخلاص وتظل قائمة إلى أن يوضع اتفاق جديد، فإن حكومة السودان تخل بواجبها إذا سمحت لمثل هذه الحال أن تستمر ولم تغفل الحكومة البريطانية قط عن الاعتراف بأن لمصر بعض المصالح يجب أن تضمن وتصان، وأهمها هو ما يتعلق بنصيبها في مياه النيل، وبإرضاء ما قد يكون لها من المطالب المالية من حكومة السودان، فالحكومة البريطانية كانت - وما زالت - مستعدة لصيانة هذه المصالح بطريقة مرضية لمصر.
وعاد المغفور له سعد زغلول باشا من لندن، ووصل الإسكندرية على الباخرة الفرنسية «سفنكس» في الساعة السادسة من صباح يوم الاثنين 20 أكتوبر سنة 1924.
وقد استقالت الوزارة السعدية في يوم 23 نوفمبر سنة 1924. (5) مشروع سير أوستين تشمبرلين سنة 1927
وسافر المغفور له عبد الخالق ثروت باشا سنة 1927 إلى لندن، حيث جرت مباحثات تفصيلية بين الفقيد وبين سير أوستين شمبرلين تمخضت عن مشروع سير أوستين شمبرلين، وقد جاء فيه عن السودان ما يلي:
المادة الثالثة عشرة:
تعترف الحكومتان المتعاقدتان بأن أوفى ضمان لصيانة مصالحهما، ولا سيما مصالح مصر في مجاري النيل العليا هو استمرار سيادتهما المشتركة في السودان.
وكلاهما متفقتان على أن تتخذا كقاعدة لتحديد نصيب مصر في مياه النيل الأبيض والنيل الأزرق النتائج التي وردت في تقرير لجنة النيل المؤرخ 12 مارس سنة 1926 وفي الاتفاق الذي عقد في أول مايو سنة 1926 بين ممثلي مصلحتي الري في مصر والسودان. ويمنح ممثلو مصلحة الري المصرية التسهيلات اللازمة لمراقبة المعاهدات المتعلقة بأعمال قناطر سنار، كما أنه تكون لهم حرية الوصول إلى البيانات الخاصة بذلك لتتحقق من أن توزيع المياه جار طبقا للقواعد التي وضعت في التقرير المذكور. وتمنح حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية الحكومة المصرية كل مساعدة ممكنة؛ لتمكينها من القيام لمصلحتها الخاصة وعلى نفقتها وبوجه يتفق مع مصالح السلطات المحلية ذات الشأن بأعمال الحفظ المنصوص عليها في ذلك التقرير، وتتحمل الحكومة المصرية نفقات كل عمل تكميلي ودفع كل مبلغ نقدي تدعو الحاجة إليهما باعتراف الطرفين تعويضا للمصالح المحلية من كل تلف أو تفكك ينجم عن الأعمال المشار إليها.
ويستمر حضرة صاحب الجلالة ملك مصر؛ نظرا لاهتمامه بحفظ السلام في ربوع السودان وعلى حدود مصر الجنوبية - في دفع حصته الحالية في نفقات الإدارة في السودان إلى أن تقرر الحكومتان المتعاقدتان أن الحال يدعو إلى إعادة النظر في هذه الترتيبات. (5-1) مشروع ثروت باشا سنة 1927
وضع ثروت باشا مشروعا ورد فيه عن السودان ما يلي:
المادة الحادية عشرة:
مع الاتفاق على تأجيل تسوية مسألة السودان إلى مفاوضات تجرى فيما بعد، ويكون لكل من الطرفين المتعاقدين فيها تمام الحرية في تقرير حقوقه، توافق الحكومتان منذ الآن على الرجوع إلى الحالة التي كانت قائمة قبل سنة 1924، وعلى أن تتخذ كقاعدة لتحديد نصيب مصر في مياه النيل الأبيض والنيل الأزرق والنتائج التي وردت في التقرير الذي وضع مع ما أدخل عليها من التعديل بناء على طلب وزارة الأشغال العمومية المصرية، وعلى الاعتراف نحو الحكومة المصرية في اتخاذ كافة تدابير المراقبة اللازمة؛ لتكفل توزيع المياه طبقا للقواعد التي وضعت في التقرير المذكور، وعلى أن تقدم لها كل التسهيلات للقيام على نفقتها بجميع أعمال الري على مجرى النيل التي أشار إليها ذلك التقرير في مصلحة مصر.
وقد عرضت نتيجة المحادثات سنة 1928 على كل من الوفد المصري وهيئته الوفدية البرلمانية وحزب الأحرار الدستوريين بصفتهما متآلفين يومئذ، إذ كانت الوزارة مؤلفة منهما - وقد رفض المشروع رفضا باتا. ثم استقال ثروت باشا وتألفت وزارة برياسة دولة النحاس باشا. (6) مشروع هندرسون
سافر حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا - رئيس الوزارة يومئذ - في صيف عام 1929 إلى لندن. وفي أثناء وجوده فيها أبدى مستر هندرسون - وزير الخارجية في وزارة العمال الثانية - رغبته في المفاوضة مع مصر، ووضع مقترحات تضمنت المبادئ التي ترى الحكومة البريطانية تأسيس معاهدة عليها.
نص المادة الخاصة بالسودان في هذه المقترحات كما يلي:
مادة 13:
مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل تعديلا لاتفاق سنة 1899، يتفق الفريقان المتعاقدان على أن تكون حالة السودان هي الحالة المترتبة على الاتفاق المذكور، وعلى ذلك يواصل الحاكم استعمال السلطة المخولة له بموجب الاتفاق المذكور بالنيابة عن الفريقين المتعاقدين.
وتبودلت المذكرات التالية في هذا الشأن:
المذكرة البريطانية
يا صاحب الدولة:
لما تباحثنا في الفقرة 13 من الاقتراحات اتفقنا على أن تفحص مسألة الديون التي على السودان في الوقت الحاضر بقصد تسويتها على أساس العدل والإنصاف. واتفقنا أيضا على أن يبحث ممثل الخزينة البريطانية مع ممثل لوزارة المالية المصرية في هذه المسألة حالما تنفذ المعاهدة التي تعقد على أساس الاقتراحات.
مذكرة مصرية
يا صاحب السعادة:
ردا على مذكرة سعادتكم بتاريخ هذا اليوم، أتشرف بإثبات اتفاقنا على مسألة الديون التي على السودان سيفحصها ممثلان عن الخزينة البريطانية ووزارة المالية المصرية بقصد تسويتها على أساس العدل والإنصاف.
مذكرة بريطانية
يا صاحب الدولة:
من الملائم أن نسجل الاتفاق الذي قد انتهينا إليه بشأن الطرق التي بمقتضاها نجعل الاتفاقات الدولية منطبقة على السودان.
والاتفاقات التي سيكون من المرغوب تطبيقها عل السودان ستكون بالطبع ذات صيغة فنية وإنسانية. ففي الحالة التي يتم فيها إمضاء أي اتفاق من هذا النوع من مصر وبريطانيا العظمى ويراد تطبيقه على السودان، فإن المندوبين البريطاني والمصري يبديان معا في الوقت الملائم تصريحا كتابيا فحواه أن توقيعهما المشترك بالنيابة عن مصر والمملكة المتحدة يقصد به أن يشمل السودان، وأنه «في الحالة التي يجب فيها التصديق على الاتفاق» متى تم إيداع الوثيقة التي تتضمن هذا التصديق من جانب جلالة ملك مصر ومن جلالته البريطانية يصبح هذا الاتفاق ساريا على السودان طبقا لشروطه.
فإذا لم يعمل مثل هذا التصريح، فالاتفاق لا يصبح ساريا على السودان إلا بطريقة الانضمام التي سيشار إليها فيما بعد.
وفي الحالة التي يعمل فيها مثل هذا التصريح لا يذكر السودان ذكرا خاصا في مستندات التصديق.
وفي بعض الحالات التي ينص فيها الاتفاق على الانضمام اللاحق، ويكون من الملائم أن يسري الاتفاق على السودان بهذه الطريقة، يتم الانضمام بوثيقة مشتركة يوقعها من مصر وبريطانيا العظمى مندوبان يعينان لهذا الغرض.
أما طريقة إيداع وثيقة الانضمام فيتفق عليها في كل حالة بين الحكومتين ، وفي هذه الأحوال لا يكون ثمة محل للتصديق.
وفي المؤتمرات الدولية التي تجري فيها المقاضاة بشأن أمثال هذه الاتفاقات يظل المندوبان المصري والبريطاني على اتصال من أجل أي عمل يتفقان على أنه من المرغوب فيه لمصلحة السودان.
مذكرة مصرية
يا صاحب السعادة:
أتشرف بإبلاغ فخامتكم أنني تسلمت مذكرتكم بتاريخ هذا اليوم بشأن طريق تطبيق الاتفاقات الدولية على السودان مما قد يرغب في تطبيقه على تلك البلاد، وأني أؤيد ما جاء فيها بشأن التفاهم الذي انتهينا إليه.
مذكرة بريطانية
يا صاحب الدولة:
في أثناء محادثاتنا الأخيرة أعربتم دولتكم عن الأمل بأنه عند تنفيذ المعاهدة تعاد الجنود المصرية إلى السودان. فإذا نفذت المعاهدة بالروح الودية التي تفاوضنا بها في الاقتراحات كما ترجو بإخلاص حكومة جلالته البريطانية ببريطانيا العظمى وشمالي أرلندا، فإن الحكومة تكون مستعدة لأن تفحص بروح العطف الاقتراح بشأن عودة أورطة مصرية إلى السودان في الوقت الذي تسحب فيه القوات البريطانية من القاهرة.
مذكرة مصرية
يا صاحب السعادة:
أتشرف بإبلاغ سعادتكم وصول مذكرتكم بتاريخ هذا اليوم، الخاصة بعودة أورطة مصرية إلى السودان، وقد أخذت علما بموقف جلالته البريطانية في هذا الشأن.
محمد محمود
مذكرات عبد الحميد بدوي باشا
وفي أثناء بحثنا في مسألة السودان، وقفنا على أن لحضرة صاحب السعادة الدكتور عبد الحميد بدوي باشا - رئيس قضايا الحكومة - مذكرات قانونية مهمة في مفاوضات كرزون - عدلي سنة 1921 وفي مفاوضات ثروت - كرزون سنة 1927 وفي أحاديث هندرسون - محمد محمود سنة 1929. (7) رأي الأمير عمر طوسون في المقترحات
حادث مراسل جريدة «الأهرام» الخاص بالإسكندرية حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون حول مقترحات هندرسون ومسألة السودان. وقد نشرت الجريدة المذكورة الحديث بتاريخ 19 أغسطس سنة 1929.
قال مراسل «الأهرام» السكندري:
بعد أن نشر مشروع الاتفاق قصدت غير واحد من أهل المراكز الكبرى وكبار رجال الأحزاب، وسألتهم هل في الاستطاعة محادثتهم في أمر هذا الاتفاق. فاعتذر الوفديون بقولهم: إنهم - نزولا على إرادة صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا - لا يستطيعون التكلم في الظروف الحاضرة، ولا يبيحون لأنفسهم إبداء الرأي إلا بعد أن تتغير الأحكام الحاضرة. وقال لي كبير من الأحرار الدستوريين: الكلمة لصاحب الدولة رئيس الحكومة، والرأي لمجلس إدارة الحزب بعد عودة الرئيس. فوجهت النظر إلى الأمير عمر طوسون وهو - كما يعلم القراء والشعب المصري عامة - غير مقيد برأي حزب أو جماعة. وقد برهن في مواقفه العديدة على صراحة تامة في إبداء ما يراه لمصلحة الوطن. وعرضت على سموه التكرم بحديث يجلو الموقف وينير المسألة إزاء امتناع أهل الأحزاب المختلفة عن إعلان رأيهم، فتنازل سموه ولبى طلبي، وأذن لي بنشر الحديث الآتي عن لسانه.
سألت سموه عن رأيه في اقتراحات وزارة المستر مكدونلد التي رضي رئيس الوزارة المصرية أن تكون أساسا لمعاهدة تعقد بين مصر وإنكلترا.
فأجاب سموه: إنني أبديت في حديثي الأخير معكم أن الوقت لم يكن مناسبا للمفاوضة والحياة النيابية معطلة. ولا زلت أقول هذا القول رغم ظهور مشروع الاتفاق الأخير، ورغم اعتقادي فيه أنه أفضل مشروع قدمته إنكلترا لمصر إلى الآن؛ إذ لو حصلت المفاوضة والبلاد محكومة بحكومة نيابية، لجعلت المفاوض المصري أقوى منه وهي محكومة بغير هذه الحكومة. ولم أقل هذا القول في حينه إلا لهذه الغاية التي نظرت فيها إلى مصلحة مصر دون أي اعتبار آخر. فالمفاوض الذي تزوده الأمة بثقتها وتمده بقوتها، أصلح لهذا الشأن ممن لا يستمد القوة إلا من نفسه، وهذا من البداهة بحيث لا تصلح المجادلة فيه.
أما وقد حصل ما حصل وجاءنا دولة رئيس الوزارة بهذا المشروع الذي يفضل جميع ما سبقه من المشاريع، وأصبحنا به أمام أمر واقع، فالواجب يقضي بشكره والثناء على نتيجة جهوده، ولذلك لا يسعني إلا أن أشكره بل وأهنئه على حظه الحسن، وهذا هو رأيي في هذا المشروع إجمالا.
فرجوت سموه التفصيل، وسألته زيادة البيان.
فتفضل سموه وأجابني بقوله: إن هذا المشروع حسن في جملته، وهو من حيث مصر مقبول بعد أن تفسر بعض نقطه الغامضة وتحدد تحديدا دقيقا حتى تكون بمأمن من التأويل الذي هو عادة في مصلحة القوي. وهذه وظيفة البرلمان الذي سيعرض هذا المشروع عليه فيضع له من التحفظات ما يجعله أقرب إلى مصلحة مصر، مثل قصر معونتنا لإنكلترا على أن تكون داخل حدود بلادنا، وتقدير قيمة الثكنات التي تلزمهم للمحافظة على قناة السويس بمبلغ معين من المال، إلى غير ذلك مما يجعلنا بمنجاة من تحمل ما لا طاقة لنا بتحمله، ويدنينا مسافة أخرى من الاستقلال الصحيح في شؤوننا الداخلية والخارجية.
وأما من حيث السودان، فإن هذا المشروع هو المشروع الذي تناول مسألتة دون المشاريع السابقة التي أرجأت مسألة السودان إلى اتفاق آخر فيما عدا ضمان إنكلترا لنصيب مصر فيه من الماء، ولكنه مع ذلك لم يخط بنا نحو حقوقنا إلا خطوة قصيرة جدا، فأرجعنا فيه إلى اتفاقية سنة 1899، وهي اتفاقية أبنت بطلانها فيما كتبته عن السودان من قبل؛ لأنها كاتفاقية الوصي مع القاصر على مافيه المصلحة له والضرر لمحجوره. ومع أننا لا نعترف بهذه الاتفاقية المجحفة بحقنا الشرعي في السودان، فإن هذا المشروع لم ينلنا ما نرمي إليه وما يستفاد من نصوصها التي قالت إنكلترا ولا زالت تقول: إنها تحترمها. وقالت وزارة العمال أخيرا: إنها متمسكة بها هي واتفاقية القنال.
وإن كل مطلع على المادة (13) من مشروع الاتفاق الأخير ليدهش أعظم الدهش مما جاء بعد ذلك في هذا المشروع تفسيرا لرجوع الحالة في السودان إلى اتفاقية سنة 1899، وجوابا على خطاب رئيس الوزراء بشأن رجوع الجيش المصري إلى السودان بناء على هذه الاتفاقية، ألا وهو قول وزير الخارجية الإنكليزية:
إذا نفذت المعاهدة بالروح الودية التي تفاوضنا بها في الاقتراحات كما ترجو، بإخلاص، حكومة جلالته البريطانية ببريطانيا العظمى وشمالي أرلندا، فإن الحكومة تكون مستعدة لأن تفحص بروح العطف الاقتراح بشأن عودة أورطة مصرية إلى السودان في الوقت الذي تسحب فيه القوات البريطانية من القاهرة.
فإذا كان هذا هو تفسير المادة (13) المتعلقة بعودة السودان إلى ما كان عليه حسب اتفاقية سنة 1899 ونحن بعد لم نبرم الاتفاقية الأخيرة فماذا، إذا، يكون تفسيرها بعد إبرامها؟
إن إنكلترا إذا كانت صادقة النية في احترام اتفاقية سنة 1899 فعليها:
أولا :
أن ترجع السودان المصري إلى ما كان عليه قبل الثورة المهدية، وترجع إليه ما سلخته من مديرية خط الاستواء القديمة؛ أي المنطقة التي سيقام فيها خزان بحيرة ألبرت نيانزا وهي النصف الجنوبي من تلك المديرية، وأعظم مركز لحياة مصر والسودان لما تحتوي عليه من موضع هذا الخزان الخطير الذي يتحكم في مجرى النيل.
فقد سلخت إنكلترا هذه المنطقة الحيوية لمصر والسودان معا في أثناء الثورة المهدية، وضمتها إلى أوغندة، وعدتها معها من الأملاك التابعة للتاج الإنكليزي رأسا. وقد أبنت ذلك تفصيلا فيما كتبته عن السودان ونشر في جريدة الأهرام الغراء سنة 1921. وقد قلت في آخر ما كتبته هناك:
وإذا أدرك المصريون القيمة التي لهذه النقطة وارتباطها بحياتهم علموا أنها أهم من الدلتا، وفضلوها عليها، ولم يسعهم بعد أن يغفلوا عن المطالبة بحقوقهم فيها واعتبارها جزءا غير قابل للانفصال عن السودان المصري الذي هو جزء من الديار المصرية لا يتجزأ.
وأثبت أيضا أنها من أملاك مصر فيما أرسلته إلى دولة رئيس الوزراء على أثر خطبته التي أذيعت بتاريخ 14 نوفمبر سنة 1928.
ثانيا:
أن تجيز تعيين وكيل للحاكم العام، وأن يكون تعيين الاثنين لمدة خمس سنوات، وأن يكون أحدهما مصريا والآخر إنكليزيا يعني أنه عندما يكون الحاكم العام إنكليزيا يكون الوكيل مصريا وبالعكس.
ثالثا:
أن تكون وظائف السودان مناصفة بين المصريين والإنكليز أيا كانت درجتها أو نوعها ما عدا الوظائف المشغولة بالسودانيين.
رابعا:
أن يكون عدد الجنود المصرية والإنكليزية متساويا.
هذا هو أقل ما يمكن أن يتحقق به معنى الشركة بين مصر وإنكلترا في السودان، وهذا أدنى ما يجب الحصول عليه لمصر في السودان بمقتضى اتفاقية 1899.
وإنني لا أرى أننا نخسر كثيرا إذا ضحينا بشيء من حقوق مصر في مقابل حصولنا على حقوقنا في السودان، ولكن يظهر لي أن الإنكليز يريدون منا أن نضحي بالسودان في سبيل مصر. وهم يعرفون أننا إذا رضينا ذلك وجاز على عقولنا، فقد ضحينا بالاثنين معا من حيث لا ندري؛ لأن السودان من مصر روحها، وهي بدونه جثة هامدة.
أما ارتكاننا على روح العطف وعد رجوع الجيش المصري إلى السودان اقتراحا يفحص بهذه الروح، ثم مسخ هذا الجيش وتفسيره بأورطة مصرية، وتقييد عودتها إلى السودان بالوقت الذي تسحب فيه القوات البريطانية من القاهرة، فتلك أمور تنذرنا من الآن بأن الإنكليز ليسوا خالصي النية حتى في اتفاقية سنة 1899 الباطلة في نظرنا، والتي لا تزال إنكلترا إلى الآن تدعي أنها تحترمها وتقيم الدليل على التمسك بها بإيداعها في سجلات جمعية عصبة الأمم.
ولما أتم سموه بيانه الجلي شكرته بلسان قراء «الأهرام» وانصرفت.
ولست أريد أن أعلق على هذه التصريحات الخطيرة والرأي فيها لنواب الأمة وشيوخها. ولهم مطلق الحرية في درسها وفحصها قبل عقد البرلمان أو بعده. ا.ه. (8) مفاوضات ربيع سنة 1930
اشترطت الحكومة البريطانية - حين عرض مقترحات هندرسون - أن تعرض على برلمان مصري منتخب انتخابا حرا.
6
فاستقال دولة محمد محمود باشا بعد عودته إلى مصر في آخر سبتمبر فتألفت وزارة المغفور له عدلي يكن باشا، التي قامت بإجراء الانتخابات، وفاز الوفد المصري بأغلبية كادت تنعقد إجماعا، وتألفت الوزارة النحاسية الثانية في أول يناير سنة 1930، وتلقت دعوة من الحكومة البريطانية على يد مندوبها السامي يومئذ سير برسي لورين، ولبت الدعوة، وأعطى البرلمان للوزارة النحاسية تفويضا لإجراء المفاوضات، وسافر الوفد الرسمي من القاهرة يوم 20 مارس سنة 1930 وقد صحبه المؤلف. وعقد مؤتمر في صالة لوكارنو بوزارة الخارجية.
وكان افتتاح المؤتمر المصري الإنكليزي في يوم الاثنين 31 مارس سنة 1930. وألقى مستر هندرسون وزير خارجية إنكلترا خطبة، ورد عليه حضرة صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد الرسمي المصري.
استمرت المفاوضات بين التفاؤل والتشاؤم، حتى قطعت يوم 8 مايو سنة 1930 بسبب الخلاف على مسألة السودان.
ومن الكلمات المأثورة التي قالها دولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا بعد رجوعه إلى فندق هايدبارك بلندن وإعلان قطع المفاوضات:
لن أرضى أن أبيع السودان بالمنح التي عرضوها علينا في مصر.
وقال الأستاذ مكرم عبيد لمندوب «الأهرام»:
إن الاقتراح البريطاني يمكن تفسيره بإيجاز. أنهم يريدون منا أن نتخلى عن السودان، وأن نوقع بيدنا التنازل عنه، ولن نوافق على هذا. وها نحن نعود إلى بلادنا بضمير مستريح، ولا نأسف على ما حدث. (9) مفاوضات 1930 في الكتاب الأبيض الإنكليزي
أذاعت الحكومة البريطانية في يوم 22 مايو سنة 1930 الكتاب الإنكليزي الأبيض عن مفاوضات المفاوضين الإنكليز والمصريين في لندن، وقد جاء به تحت عنوان «الباب الثاني - مشروع هندرسون - محمد محمود» ما يأتي: (13):
مع الاحتفاظ بحرية إبرام اتفاقات جديدة في المستقبل معدلة لاتفاقات سنة 1899 يتفق الطرفان المتعاقدان على أن يكون مركز السودان هو المركز الذي ينشأ من الاتفاقات المذكورة، وبناء على ذلك يظل الحاكم العام يباشر بالنيابة عن الطرفين المتعاقدين، السلطات التي خولتها الاتفاقات المشار إليها .
وجاء أيضا في الكتاب المذكور تحت عنوان «مشروع المعاهدة الأخير - نصوص المواد المتفق عليها» ما يأتي:
المادة الحادية عشرة:
هي عين المادة الثالثة عشرة من مشروع محمد محمود مع إضافة أن الطرفين المتعاقدين يوافقان على أن مركز السودان هو المركز الذي ينشأ من الاتفاقات المشار إليها «من غير إجحاف بحقوق مصر ومصالحها المادية.» ا.ه. (10) المفاوضات في الكتاب الأخضر المصري
7
وكان في عزم الوزارة النحاسية إصدار الكتاب الأخضر عن المفاوضات الأخيرة، ولكنها لم تتمكن من ذلك بسبب الأزمة الدستورية التي واجهتها بعد عودة الوفد الرسمي من لندن، مما يترتب عليها تقديم استقالتها يوم 17 يونية سنة 1930 وقبولها يوم 19 يونية، وتأليف وزارة إسماعيل صدقي باشا.
والذي نعرفه - وقد أتيحت لنا الفرصة لمصاحبة الوفد الرسمي في سفره وفي مفاوضاته - أن الكتاب الأخضر يتضمن تفاصيل هامة وجلية عن مفاوضات ربيع سنة 1930، ولا سيما فيما يتعلق بشأن السودان وموقف المندوبين البريطانيين والوفد الرسمي منها.
على أن عدم نشر الكتاب الأخضر، لا يحول دون جلاء موقف الوفد الرسمي من مسألة السودان، فنقول: إن الوفد الرسمي قد عني بمسألة السودان عناية كبيرة لم ترد في جميع المفاوضات السابقة، فأعد ثلاث مذكرات: مذكرة مالية تبين ديون مصر على السودان وتضحياتها فيه، و(2) مذكرة اقتصادية تبين العلاقات التي بين مصر والسودان والتي هي نتيجة لتوحيد نهر النيل بينهما، فجعل الشعب السوداني والشعب المصري شعبا واحدا، وجعل حدود مصر الطبيعية جنوبا ممتدة إلى السودان نفسه، وأصبح توفير ماء الري لمصر في حاجة إلى إنشاء مشروعات لمصر في السودان، وعدد سكان مصر في ازدياد، ولا مجال للعدد الزائد منهم إلا الهجرة إلى السودان، الذي هو منفذ طبيعي لهم، والسودان نفسه في حاجة إلى الأيدي العاملة المصرية، و(3) المذكرة القانونية تبحث في اتفاقية 1899، المطعون في صحتها والمنادى ببطلانها، وإنه على فرض التسليم جدلا بأنها معاهدة نافذة، فإنه مما لاشك فيه أنها غامضة، وإنه لما كانت المعاهدات تنقسم إلى قسمين
Traité-loi
أو
Traité Statut
معاهدة غير موقوتة بمدة، ومعاهدة محددة بوقت تنتهي عنده
Traité-contrat ، فإن اتفاقية 1899 تعد من الصنف الأول؛ لأنه لم يعين لها مدة. وتطبيقا لقواعد القانون الدولي تكون المعاهدات «الأبدية» أو غير المحددة بمدة - عرضة للمناقشة فيها ولإدخال التعديل عليها بتغيير الظروف؛ لأن هناك شرطا ضمنيا في هذه المعاهدات وهو أنها قابلة للتعديل تبعا للظروف.
وحيث إن مصر قد تغير مركزها السياسي، إذ كانت عند عقد اتفاقية سنة 1899 تابعة للسيادة التركية ومحتلة بالجيش الإنكليزي وخاضعة لسلطانه، وأصبحت الآن دولة مستقلة ذات سيادة باعتراف إنكلترا ذاتها، فقد وجدت ظروف جديدة تدعو للتغيير في معاهدة سنة 1899.
أما ما حدث في سنة 1924 من طرد الجيش المصري من السودان وتأليف قوة الدفاع فيه، فهو يعد من أعمال العنف والإكراه من جانب واحد، ولا يجوز أن تترتب عليها نتيجة قانونية.
وأخيرا تناقش الوفد الرسمي والمندوبون البريطانيون في وضع نص مقبول لمسألة السودان، وقد قضى هذا النص بأن يترك البحث في شأن تعديل اتفاقية 1899 لمفاوضات تجري بين الفريقين بعد سنة. وقد قبل المندوبون البريطانيون عرض هذا النص على مجلس الوزراء البريطاني، فاجتمع هذا المجلس، وقرر رفض الاقتراح وأن يبقى النص الوارد في مشروع هندرسون كما هو.
عند ذلك قطعت المفاوضات أو «وقفت» كما عبر عنها رسميا! (11) رأي مستر لويد جورج
وقال المستر لويد جورج في حديثه المنشور بالعدد 16424 من «الأهرام» الصادرة في 28 أغسطس سنة 1930.
لقد كان للمصريين - قبيل احتلال الإنكليز - السلطة التامة في السودان ، ولكنهم أساءوا السياسة والإدارة بدرجة دعت السودان إلى طردهم فقد كانوا دخلاء ظالمين!
هوامش
الفصل السابع عشر
السودان في الدستور المصري
ألفت وزارة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا في سنة 1922 لجنة لوضع الدستور، وكان الزعيم سعد وبعض صحبه في المنفى في سيشيل، وفرغت اللجنة من مهمتها، وتلقت في أثناء اجتماعها ما يلي: (1) كتاب للأمير عمر طوسون
إلى حضرة صاحب الدولة رئيس لجنة الدستور العمومية حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا.
إن لجنة الدستور التي ترأسونها دولتكم يجب أن يكون عملها مطابقا لرغبات الأمة. ومسألة السودان من أمهات المسائل الشاغلة للرأي العام المصري، وكان الواجب على الوزارة الحاضرة أن تحصل على الاعتراف ببطلان اتفاقية السودان سنة 1899، وتجعل حل هذه المسألة من الشروط الأساسية التي لا يمكن تشكيل الوزارة قبل البت فيها.
ولكن إذا كان هذا قد فات الوزارة مع مزيد الأسف، فلا يصح أن يفوت دولتكم وحضرات إخوانكم أعضاء لجنة الدستور.
لذلك جئت بخطابي هذا مذكرا دولتكم بوجوب اعتبار السودان ضمن حدود البلاد كما كان قبل الاحتلال، ووجوب تشكيل مجلس نوابنا من المصريين والسودانيين على حد سواء حتى يجلس نواب إخواننا سكان السودان المصري مع زملائهم سكان الوجهين البحري والقبلي ويعمل الجميع للمصلحة المشتركة التي لا انفصام لها أبدا.
واقبلوا فائق احترامي.
3 مايو سنة 1923 (2) السودان في مشروع لجنة الدستور
جاء في مشروع الدستور الذي وضعته لجنة الدستور في صدد السودان ما يلي:
مادة 29:
الملك يلقب بملك مصر والسودان.
مادة 145:
تجري أحكام هذا الدستور على المملكة المصرية جميعها عدا السودان، فمع أنه جزء منها يقرر نظام الحكم فيه بقانون خاص.
ولما علم المندوب السامي اللورد اللنبي بذلك لفت نظر دولة ثروت باشا إلى أن هذين النصين يخالفان اتفاقية 1899، وقد استقالت وزارة ثروت باشا قبل أن تصدر الدستور، وتألفت وزارة حضرة صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا، وعندما أرادت إصداره وفيه هذان النصان، وجهت الحكومة البريطانية بلاغا تهديديا ورفعته إلى جلالة الملك. فاضطرت الوزارة النسيمية إلى تقديم الاستقالة، وفيما يلي نص استقالتها :
استقالة نسيم باشا بسبب السودان
مولاي
مرت على البلاد ظروف عدة أثناء تطورها السياسي وهي تتوقع في كل يوم حكومة تطأ بها الطريق السوي. فلما شرفني مولاي أنا وزملائي بخدمة الأمة؛ قبلنا العمل على تحقيق آمالها التي جعلت أمانة بين أيدينا.
ولما كانت البلاد تجتاز دورا من أدق أدوارها لحل جملة من مسائلها العامة المعلقة بمؤتمر لوزان وإعلان الدستور والفصل في قانون التضمينات توطئة لإلغاء الأحكام العرفية وما يترتب عليها، أقدمنا على بحث هذه المسائل، وابتغينا الوسائل ملتمسين الخطى مبتدئين بمسألة لوزان التي تشعبت فيها آراء الناس بشأن التمثيل والممثلين. ولما لم تكن قد وصلت إلى الحكومة المصرية دعوة رسمية لحضور هذا المؤتمر سعت وزارة الخارجية المصرية على أثر تسلمنا إدارة البلاد للحصول على هذه الدعوة لدى الدول ذات الشأن في بعث هذه الدعوة. ولكنها لم توفق ولم يقبل البروجرام الذي قبلت هذه الحكومة أن تدخل المؤتمر على مقتضاه.
وفي أثناء هذه المفاوضات كانت اللجنة التشريعية تفحص مشروعي قانون الانتخاب والدستور، فلما فرغت منهما رفعتهما إلى الحكومة فبحثتهما وأزالت من قانون الانتخاب بعض عبارات، وأدخلت على بعض النصوص تعديلا، وكان من وراء ذلك عدم حرمان المنفيين والمعتقلين أو المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية البريطانية بأحكام وفي جرائم معينة من التمتع بحقوق الانتخاب. ولم ينقص من الدستور ما يمس بحقوق الأمة، بل أبقت فيه ما يتعلق باشتراكها في الحكم اشتراكا فعليا، وتركت لها الإشراف ومسئولية الوزارة أمام مجلس النواب، ولقد كان محل البحث والتعديل إلى آخر لحظة. وهو على وشك الصدور مطابقا لغيره من دساتير الأمم المتمدنة لولا ما صادفته الحكومة من اعتراض الحكومة الإنكليزية على النصين الواردين فيه بشأن السودان طالبة تحرير أحدهما وقصر الآخر على تلقيب الملك بملك مصر وليس بملك مصر والسودان. وقد كان البحث مقصورا في أول الأمر على المادة 145، وقد اقتضى تبادل الرأي فيما تقدم إلى مناقشة طويلة أبنت في غضونها بالحجج القانونية والأدلة الفعلية الناهضة على وجوب الاحتفاظ بنص المشروع، وكان من أهم ما لاحظته أن المادة 145 المقصودة بتبادل الرأي لا تنطوي على شيء ما، يخالف الحالة السائدة الآن فيما يتعلق بالسودان من جهتي الواقع والقانون، بل إن كل ما تحتويه إنما هو مجرد تقرير ما لمصر من الحقوق الشرعية بدون إدخال تغيير على الحالة الراهنة.
وفي نهاية الأمر اقترحت دار المندوب السامي نصا جديدا طرح على بساط البحث والمناقشة فبعد تحويره تحويرا طفيفا حاز الموافقة أبلغ إلى وزارة الخارجية.
وخلاصة ما ورد فيه أن الدستور يتناول تطبيقه الأقطار المصرية ما خلا السودان بشرط ألا يمس هذا الاستثناء بسيادة مصر على السودان ولا بحقوقها الأخرى فيه، ثم جدت مناقشة تلقيب الملك بملك مصر والسودان، وعرضت وزارة خارجية بريطانيا العظمى نصين آخرين يقضي أحدهما بحذف لقب ملك مصر والسودان وقصره على ملك مصر، والآخر بتعديل المادة 145 تعديلا جوهريا. ولما كان ذلك ماسا بحقوق البلاد، ما وسعني قبوله ولا تحمل مشئوليته، وقدمت مذكرة لفخامة المندوب السامي مبينا وجهة النظر والأسانيد في هذا الموضوع. ولكن مع الأسف الشديد لم تصادف قبولا لدى الحكومة الإنكليزية التي قدمت أخيرا لجلالتكم مذكرات شديدة ما كانت حكومتكم تتوقع صدورها، خصوصا وقد كانت المفاوضات دائرة بينها وبين دار المندوب السامي بروح الوفاق والوئام. فلما اطلعنا على هذه المذكرات لم أقبل تحمل تبعتها، وعرضت في الحال على جلالتكم استقالتي، ولما كان المركز خطرا والوقت المضروب للإجابة على هذه المذكرات معدودا بالساعات صار مدة ريثما يجتمع بقية الوزراء في الصباح.
ولقد جرت مخابرات بين الحكومة ودار فخامة المندوب السامي كانت نتيجتها وضع نصين ورد فيهما أن هذا اللقب يقرر وقت الفصل النهائي في نظام السودان بواسطة الممثلين المفوضين، وأن تطبيق الدستور لا يمس حقوق مصر في السودان، ورفع فخامة المندوب السامي النصين إلى وزارة خارجية إنكلترا منتظرا الرد الذي لم يصل بعد.
ونظرا لما أكده فخامة المندوب السامي في هذه المذكرات التي قدمها لجلالتكم بأن الحكومة البريطانية لا ترغب قط في أن تتعرض لحقوق مصر في السودان، ولا لحقوقها في مياه النيل، وصرح أنه إذا لم تقبل وجهة نظر حكومته في أربع وعشرين ساعة؛ فإن الحكومة البريطانية تسترد كامل حريتها في العمل بإزاء الحالة السياسية في السودان ومصر، وأورى بأنها تلجأ عند الضرورة إلى أي تدبير تراه مناسبا.
ونظرا للأخطار الجسيمة التي تستهدف لها البلاد في الحال من جراء هذا الإنذار في حالة الرفض القطعي عند حلول الميعاد، وما كانت تدعو إليه الحالة والظروف، تلافت الحكومة الأمر ووافقت على أن تكتب لجلالتكم بقبول هذين النصين المراد وضعهما في الدستور الذي لم يرفع لجلالتكم إلى الآن، ريثما يرد رد الحكومة الإنكليزية، وقد مضى ميعاد الأربع والعشرين ساعة المفروضة لوصوله.
بقيت الوزارة غير قابلة إلى آخر لحظة محدودة للرد المطلوب من مصر، وهي إذا أجابت نداء الواجب نحو العرش، فإنها أجابت أيضا من أول الأزمة إلى الآن واجبها نحو البلاد، فقدمت استقالتها قبل أن تسجل في الدستور ما وافقت جلالتكم عليه تحت تأثير الحوادث محافظة على العرش في أحرج المواقف وعلى حقوق البلاد.
أما قانون التضمينات الذي علقت الحكومة الإنكليزية عليه رفع الأحكام العرفية التي تئن منها البلاد منذ تسع سنوات شاكية آلامها وشدة وطأتها كل هذا الزمن، فقد تباحثنا أيضا فيه وطلبنا لإقراره من الكفالات والضمانات ما يحفظ حقوق البلاد من الوجهتين المدنية والجنائية. وقد خطونا في هذا السبيل خطوات واسعة، ولكننا وقفنا وسط الطريق لاستطلاع رأي الحكومة الإنكليزية فيما حددنا من الطلبات الخاصة بحفظ الحقوق المصرية ذلك من جهة ولعدم إتمام البحث من جهة أخرى. ولقد جعلنا للمنفيين والمسجونين والمعتقلين حظا كبيرا من تفكيرنا وقسطا من أعمالنا وطلباتنا من أول توليتنا الحكم، بل وفي كل فرصة كانت تسنح فيحدث ما يحول دون إتمام النجاح تارة، ولتعلق بعض الحالات على إنهاء تلك المسائل العامة أو بعضها تارة أخرى.
وما رجونا من وراء جهادنا جزاء ولا شكرا، وتحملنا ألم السكوت ونقد الناقدين ريثما تنتهي المفاوضات إلى نتيجة حسنة. وما وهنت - يوما - إرادتنا ولا نفوسنا عن العمل؛ لأننا ما كنا نبغي المحال، بل نسعى جهدنا لتحقيق آمال بلادنا وللتوفيق بين مصالح قومنا ومصالح غيرنا، مؤملين إدراك النجاح، فلما أبطأ علينا نزعت يدي من ولاية الحكم قبل أن يتم شيء بلا تثريب علينا، سائلين الرحمن أن يكلأ جلالتكم عنايته، وأن يهيئ للأمة حكومة قديرة على تحقيق أمانيها، فتتبوأ في مجلس الحكم مقاما محمودا، راجيا قبول استقالتي، ولا زلت لجلالتكم العبد الخاضع والخادم الأمين.
صباح الاثنين 5 فبراير سنة 1923
الإمضاء: محمد توفيق نسيم (3) قبول الاستقالة
وقد تلقى حضرة صاحب الدولة محمد توفيق نسيم باشا الإرادة الملكية الصادرة بقبول استعفاء دولته وحضرات زملائه الوزراء من مناصبهم، وهذا نص كتاب جلالة الملك بقبول الاستقالة:
عزيزي محمد توفيق نسيم باشا
اطلعنا على كتاب استقالة دولتكم المرفوع إلينا بتاريخ 5 فبراير الحاضر، فكان أسفنا لاستقالتكم عظيما لما نعلمه عنكم من شرف القصد والإخلاص، ولحسن مساعيكم في خدمة البلاد.
وإنا لشاكرون لكم ولحضرات زملائكم تلك الخدم الجليلة التي قمتم بها للأمة والوطن في عهد وزارتكم، وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم بذلك.
فؤاد
صدر بسراي عابدين في 13 جمادى الثاني سنة 1341 في 9 فبراير سنة 1923 رقم 16 سنة 1923.
ثم أسندت رياسة الوزارة التي خلفت وزارة حضرة صاحب الدولة نسيم باشا إلى حضرة صاحب الدولة يحيى إبراهيم باشا، وصدر المرسوم الملكي بتأليف الوزارة في 15 مارس سنة 1923.
وفيما يلي اقتراح وزارة نسيم باشا المشار إليه في كتاب استقالته:
الأول:
أن المادة الأولى التي تنص على أن ملك مصر هو ملك «مصر والسودان» ترفع منها الآن كلمة «السودان» إلى القرار الذي يصدره البرلمان المصري بعد مفاوضات يقوم بها مندوبون ينتخبهم البرلمان ويفوض إليهم المفاوضة في تقرير مركز السودان نهائيا.
الثاني:
المادة الثانية (145) أن حذف «كلمة السودان جزء من مصر» وتطبيق قواعد الدستور على مصر لا يمس ما لمصر من الحقوق بالسودان.
وكانت استقالت وزارة نسيم باشا في 5 فبراير 1923 نشر كتاب قبول الاستقالة في 9 فبراير 1923. (4) وزارة يحيى باشا والدستور
وخلفتها وزارة يحيى باشا التي أعلنت الدستور في 19 إبريل 1923 الساعة 10 ليلا، وجاء فيه ما يلي:
المادة الأولى:
مصر دولة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة ملكها لا يجزأ ولا ينزل عن شيء منه، وحكومتها ملكية وراثية، وشكلها نيابي.
المادة 159:
تجري أحكام هذا الدستور على المملكة المصرية بدون أن يخل ذلك - مطلقا - بما لمصر من الحقوق في السودان.
الفصل الثامن عشر
حوادث السودان سنة 1924
زاد اهتمام الرأي العام المصري بأمر السودان في سنة 1924 لمناسبة دعوة الحكومة البريطانية «وزارة ماكدونالد والعمال» لوزارة المغفور له الزعيم الخالد سعد زغلول باشا سنة 1924 للمفاوضة، وقد كثر تحدث البرلمان والصحف والجمهور عن السودان، وتألفت في البرلمان لجنة للسودان برياسة حضرة صاحب العزة أحمد حمدي سيف النصر بك، وشعرت مصر لأول مرة بأنها تحيا حياة حرة مستقلة، وأن أمرها بيدها، وكان لهذا صداه في السودان؛ إذ نشطت جمعية اللواء الأبيض، ثم جمعية الاتحاد السوداني، وتألفت المظاهرات وهتفت بحياة سعد، وهو ما رآه السودان لأول مرة بعد سكون عميق فيما مضى.
وقلقت الحكومة السودانية لهذه الظواهر، وخشيت اضطراب الأمن، وزاد في عمق الحوادث، فشل مفاوضات سعد - ما كدونالد، ثم مقتل السردار سيرلي ستاك، وترتب على ذلك إلغاء المدرسة الحربية بالسودان وسحب الجيش المصري وتأليف قوة الدفاع عن السودان، وإجراءات أخرى ما زالت قائمة إلى اليوم.
وقد أصبح في عنق المؤرخ الصادق أن يدون هذه الأحداث بقدر ما وصل إليه جهده وفي طوق كتابه؛ ولهذا ندون الحوادث فيما يلي: (1) السودان ومعرض ومبلي
في سنة 1924 أقيم في ومبلي بإنجلترا معرض عظيم. وتقرر اشتراك السودان فيه، وكان المغفور له سعد زغلول باشا رئيسا للوزارة، فأرسل إلى السير لي ستاك الحاكم العام للسودان البرقية التالية:
وصل إلى علمي أن السودان سيمثل رسميا في معرض الإمبراطورية البريطانية الذي سيفتتح قريبا في ومبلي، أرجو إفادتي على أي قاعدة دعي السودان للاشتراك في هذا المعرض الخاص بالمستعمرات، وكيف قبلتم أن تشتركوا فيه من غير إذن الحكومة المصرية!!
فتلقى من اللورد اللنبي المندوب السامي بمصر خطابا بأن حاكم السودان العام. أخبره بتلغراف دولته بشأن تمثيل السودان في معرض ومبلي، وأنه أرسل تلغرافا بطلب المعلومات من حكومته عن جلية الأمر ومتى ورد إليه الرد أخبر دولته به حال وصوله. فأرسل المغفور له سعد باشا التلغراف الآتي إلى حاكم السودان:
بعثت إليكم بتاريخ 30 إبريل الماضي برقية لم ترسلوا الرد عليها، ولقد أخبرني اللورد اللنبي أنكم خاطبتموه بخصوصها، وحيث إن المسائل التي كلفتكم بها من شأنكم دون سواكم لنعلقها بأعمال هي من خصائصكم، فإني ما زلت في انتظار الرد منكم، وأرجو أن لا يتأخر الرد زيادة عما مضى.
وفي اليوم نفسه أرسل دولته تلغرافا إلى عبد العزيز عزت باشا وزير مصر المفوض في لندن؛ ليحتج بشدة لدى الحكومة البريطانية «أولا: على كون الحكومة البريطانية أقدمت على دعوة السودان رأسا ورسميا للاشتراك في معرض خاص بالمستعمرات بدون علم الحكومة المصرية وتخطيا لها، وثانيا: على أن قبول حاكم السودان العام وقع بدون إذن سابق من الحكومة المصرية، وفي الأمرين اعتداء صارخ على حقوق مصر وعمل غير ودي موجه للحكومة المصرية». وقد ورد الرد تلغرافيا من الحاكم العام للسودان إلى دولة رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 12 مايو سنة 1924، وهذا نصه:
آسف أشد الأسف لتأخر الرد على تلغراف دولتكم الرقيم 30 إبريل، وقد أبلغت المعلومات التي طلبتموها دولتكم إلى المندوب السامي الذي هو الطريق المعتاد للمخاطبة بين الحكومة المصرية وحكومة السودان عملا بالإجراءات المتبعة. وكنت أظن أن فخامته أبلغ دولتكم المعلومات المطلوبة إلى أن وصلني تلغرافكم الرقيم 10 مايو. على أني علمت أنه قام بذلك الآن.
وإني أقدم اعتذاري على ما بدا من عدم اللياقة في تأخير الرد على برقية دولتكم؛ الأمر الذي يرجع إلى هذا الفهم الخاطئ. وهو ما آسف له كل الأسف.
وبتاريخ 12 مايو 1924 كذلك تلقى سعد باشا من اللورد اللنبي خطابا يقول فيه:
يلزمني أن أبين لدولتكم أن السير لي ستاك جرى في إحالة طلب دولتكم إلي طبقا للتقاليد المعمول بها. فقد كانت القاعدة المقررة في الماضي أن التخاطب بين الحكومة وحكومة السودان إنما يكون عن طريق المندوب السامي؛ لذلك فإني أظن أنكم توافقون على أن ما صنعه السير لي ستاك لم يكن فيه أي مساس بالحكومة المصرية.
وأخبره في الخطاب نفسه بالمعلومات التي تلقاها من حكومته عن دعوة السودان لمعرض ومبلي، وفيها يقول:
إن هذه الدعوة وجهت منذ أكثر من سنتين من سكرتارية تنظيم المعرض لأهميته التجارية. ونظرا لأن كثيرا من الأموال الإنكليزية تشتغل في الأعمال التجارية بالسودان، وصلت الدعوة عن طريق المندوب السامي، وأجابها حاكم السودان عن الطريق عينها للإجراءات المعمول بها، وإن الحكومة البريطانية لم يكن ليخطر لها أن تطلب أخذ رأيها إذا وجهت الحكومة المصرية دعوة لحكومة السودان لتشترك في معرض تجاري شبيه بهذا يعقد في مصر. وقد سبق أن قبلت حكومة السودان مباشرة ودون رجوع إلى دار المندوب السامي أو الحكومة البريطانية ما عرضته الحكومة المصرية من تخصيص حجرة لمعروضات السودان في المكتب المصري للتجارة والصناعة بالقاهرة، وذلك في نيويورك سنة 1920، ومن جهة أخرى فإن معرض ومبلي ليس وقفا على الإمبراطورية، بل إن فيه أشياء أخرى متنوعة ذات فائدة عامة، مثل صورة لمسجد فارسي ونماذج لشلالات نياجرا، ومعرض من التيبت، وأخيرا فإنه موصوف في الخرائط والكتالوجات المعروضة في القسم الخاص بأفريقيا الشرقية باسم السودان الإنكليزي المصري، ولذلك لا محل لتساؤل الزائرين للمعرض عن اشتراك السودان فيه.
وقد رد عليه سعد باشا في 9 يونيو سنة 1924 بكتاب جاء فيه:
لقد أوضحت للمستر كار قبل سفره بالإجازة، وبعده للمستر فرنس أثناء الكلام معهما في هذا الشأن أنه من الصعب التسليم بأن تكون دار المندوب السامي واسطة التخاطب الطبيعية بين الحكومة المصرية وحاكم السودان العام، فإن اتفاقية 19 يناير سنة 1899، ولو أنه ليس هنا مجال مناقشة أصلها ولا تحديد معناها، إلا أنه من الواضح أنها تتعارض في معناها وفي مبناها مع النظرية المذكورة في خطاب فخامتكم، وفي الحقيقة إنه يتضح جليا من نص المادة الثالثة من الاتفاقية المذكورة أن حاكم السودان العام موظف يعينه ملك مصر، ويستمد سلطته من هذا التعيين ذاته. وتنص المادة الرابعة صراحة على أن كل إعلان للقوانين والأوامر واللوائح يجب أن يبلغ في الحال إلى المعتمد البريطاني في القاهرة وإلى رئيس مجلس النظار سمو الخديوي المعظم .
وبناء عليه فإن الطريق الطبيعي الوحيد للتخاطب بين الحكومة المصرية وحاكم السودان العام إنما هو الطريق المباشر، وهذا ما قصده واضعو اتفاقية سنة 1899.
وفعلا كانت الحكومة المصرية وحاكم السودان العام يتخابران مباشرة في غضون المدة التي تلت توقيع الاتفاق.
ففي سبتمبر سنة 1899 وصل إلى الحكومة المصرية من الحاكم العام للسودان رأسا مشروعان بقانونين للعمل بهما في السودان مصحوبان برجاء من الحاكم العام للسودان إلى رئيس مجلس النظار أن يؤيدهما أمام المجلس، ففعل ثم أرسل تلغرافا إلى الحاكم العام يخبره بالمصادقة على المشروعين بعد إدخال تعديلات معينة في نصوص الأوامر التي تنص على سريان العمل بهما في السودان .
وقد رد الحاكم العام في الحال معربا عن شكره ومؤكدا بأنه سيعمل بالتعديلات التي وضعها مجلس النظار.
وبما أنه لم يحدث بعد اتفاقية سنة 1899 إمضاء أي اتفاق آخر مغاير لها، فلا يكون هناك أي مبرر لاتباع طريقة أخرى للمخابرة بيننا وبين حاكم السودان العام.
أما من جهة تمثيل السودان بمعرض ومبلي فقد بينت أنه بالنظر إلى الظروف التي حدث فيها لا يمكن أن يبرره الحكم الثنائي في إدارة السودان الداخلية، كما أوضحت أنه ما كان يوجد لدى الحكومة المصرية أي اعتراض على أن يمثل السودان في معرض صناعي أو تجاري بحت. وليس هذا حال معرض ومبلي، ولذلك احتججت على تمثيل السودان في معرض المستعمرات البريطانية.
ولا شك أنه كان يسرني ألا يكون تمثيل السودان في هذا المعرض إلا في نفس الموضع الذي وضعه فيه تمثيل العجم والولايات المتحدة وتيبت في المعرض المذكور.
ولست في حاجة لأن أزيد على ما تقدم. إني آسف لأن هذا الحادث وقع ونحن على أبواب المفاوضات.
نعم إن مسألة السودان كلها سيدور البحث عليها بيني وبين المستر ماكدونالد، ولكن من واجبي أن أحتج على كل عمل أعتبره ماسا بحقوق مصر. (2) وزير مصر في لندن والسودان
كان سعادة عبد العزيز عزت باشا وزير الخارجية الحالي وزيرا مفاوضا لمصر في لندن سنة 1924، وقد أدبت جمعية الشرق الأدنى والأوسط بلندن مأدبة عشاء تكريما لسعادته في ليلة 2 مايو سنة 1924 بفندق سفواي بلندن.
وكان بين الحاضرين أغا خان وألفيكونت كودراي ومعتمد بولونيا وتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وإيران وسيام والسفير الألماني ورجال المفوضية المصرية واللادي بويل التي كانت تستقبل المدعوين واللادي هيلانة بروكلهرست والأستاذ ألن جاردنر وقرينته واللورد لامنجتون واللورد هدلي واللورد كلفورد أوف شدلاي والسر جون فوستر فريزر والسر ديان ملكولم ميلريت والسر جورج ماكولي.
وقد خصص لهذه الحفلة خطيبان هما اللورد جلايشن رئيسها ومستر أرثر بونسنباي أحد أعضاء مجلس النواب.
وقد ألقى سعادة عبد العزيز عزت باشا في الحفلة الخطاب التالي:
أقدم شكري إلى الجميع من صميم الفؤاد على ما أبدوه من الشعور القلبي في الإجابة على نخب مولاي صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم وأقابل بالحمد والثناء ما نلته من الشرف بدعوتي هذه الليلة، وأشكر لحضرة النبيل اللورد جلايشن رئيس المأدبة ولحضرة صاحب المقام الجليل مستر بونسباي ما تلطفا به من القول ولأعضاء جمعية الشرق الأدنى والأوسط مساعيهم التي لا تعرف الملل في تعزيز التفاهم بين بريطانيا وبلادي. وإني أشعر أن نجاح هذه المساعي يعود الفضل فيه إلى الود الأكيد والعواطف القلبية التي تستقبلون بها ممثلي الشرق الأدنى والأوسط، وأعد هذا الاجتماع - وأنا واثق أن مواطني يوافقونني - شاهدا على الصداقة الموجودة الآن بين بريطانيا ومصر - هذه الصداقة التي تحتاج إليها البلدان كل الاحتياج.
إنني لم تضعف ثقتي قط بتقاليد بريطانيا القائمة على الحرية، والتي شادت عليها بريطانيا عظمتها الحقيقية. وهذا ما حملني على أن أبقى مطمئنا حتى في أظلم الساعات في تاريخنا الحديث، وما ذلك إلا لأنني كنت واثقا أن العدالة لن تفارق الروح البريطانية، فلم يهزني كل ما حدث؛ لأنني كنت على يقين أنه لا بد من أن يأتي يوم يبادر فيه الشعب البريطاني نفسه إلى إنجاز العهود التي قطعتها بريطانيا لمصر. وإنني الآن سعيد إذ أرى هذا اليوم قد دنا، وأن بريطانيا نفسها قد مدت إلينا يدها بإخلاص شأن الرجل الشريف الذي يعرف قيمة الصديق، فأؤكد لكم أننا نصافح هذه اليد وقلوبنا تفيض إخلاصا لأننا نعرف أن مصر تحتاج إلى صديق مخلص بين الأمم. ونحن موقنون أنه إذا تأكدت صداقة بريطانية ففي وسع وادي النيل بأسره أن يواجه المستقبل بثقة عظمى.» (2-1) مصر والسودان
كانت مصر - وما زالت - منذ عهد محمد على الكبير مؤسس الأسرة الحالية المالكة، راغبة كل الرغبة في التوصل إلى تفاهم مع الدول الغربية، وقد صافحت - بوافر الشكر - كل يد مدت إليها بإخلاص لمساعدتها على تحولها إلى دولة عصرية. والتاريخ شاهد كيف تمكن محمد علي الكبير من تثبيت ملكه وإصلاح مصر وإدخال الأساليب المدنية إلى وادي النيل بأسره. وليس من المجهول عندكم أنه قد تأسست في عهده الزاهر إدارة عصرية عادلة وأمرعت أراضي السودان، وتأسست المعامل حتى أعالي النيل الأزرق، وهكذا فتح وادي النيل للحضارة الغربية.
وفي الوسع أن نرى ما توقعه ذلك الرجل العظيم بأعماله ووصفه اللورد روزمري فيما بعد بقوله: «إن النيل هو مصر ومصر هي النيل.» بما رواه الدكتور ريشارد لبسيوس حوالي سنة 1842 مؤكدا أن محمد علي كان شديد الرغبة في إرسال البعثة إثر البعثة إلى أن يعثر على جميع منابع النيل الأبيض. ولكن تحقيق هذا المشروع الجليل قد ترك لينجزه حفيده إسماعيل الذي أدرك الحقيقة التي فاه بها دلكاسه السياسي الفرنسوي المشهور مشبها البلاد بعضو طبيعي حائز في داخله على خصائص النمو وطرائقه وحدوده التي يستطيع ضمنها وحدها أن يبلغ التقدم الصحيح، فإكراه أي بلد على تسليم قسم حيوي من كيانها العضوي لا يمكن أن ينتهي عاجلا أو آجلا إلا بمأساة لا مرد لها.» (2-2) عهد إسماعيل
وقد كتب مراسل جريدة التيمس في مصر سنة 1876 يقول:
إن في مصر حركة تقدم عجيبة، فقد بلغت من التقدم في سبعين سنة كما تقدمت بلدان كثيرة أخرى في خمسمائة سنة، وبعد هذا بسنتين ألقى مستر مستر فرنسيس كوب خطبة في جمعية الفنون نقلتها جريدة التيمس في شهر مارس سنة 1878 أشار فيها إلى عهد إسماعيل فقال: «من الأعمال المجيدة التي يخلدها التاريخ لهذه الأسرة الخديوية إلغاء النخاسة من الأقطار الحاكمة فيها». وقد أصاب إسماعيل بقوله: «إن بلدي لم تعد من أفريقيا، فنحن الآن جزء من أوروبا.»
فأعظم ما نسعى ونطمح إليه هو أن نجدد مجد مصر ونعيد بناءها على أساس حديث ونجعلها جديرة بشهرتها القديمة، فتنة لجميع ناظريها رحبة الصدر لجميع زائريها ممتنة لجميع الذين ساعدوها على السير في سبيل التقدم والتجدد، وبهذا نبلغ الغاية المنشودة التي سعى إليها محمد علي الكبير.
إننا قد نلاقي بعض العقبات في سبيلنا، ولكن أية دولة في هذا العالم الذي هو الآن في دور التحول والتبدل تستطيع أن تكون بمعزل عن المصاعب رغم المساعي الخارقة التي يبذلها أعظم رجال الدول الآوربية . فإذا وقع لمصر مثل هذه الأمور فهي ترجو أن ينظروا إليها بعين التساهل، متذكرين أن البداية صعبة في كل شيء، وأن الأمة التي تشعر بواجبها وتتوق إلى تحمل نصيبها من المسئولية؛ لتكون عاملا من عوامل السلم والوفاق، تستحق التشجيع، وتكون جديرة بأن ينظر إليها باحترام. (2-3) مبادئ الإنصاف
ليس من الممكن الحصول على السلم والرخاء إلا على أساس الإنصاف والإخلاص، وهذا المبدأ هو أعز المبادئ لقلب العنصر الإنكلسكوني. أو ليس هذا هو نفس المبدأ الذي بشر به كونفشيوس وبوذا وموسى وعيسى ومحمد؟ إن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان في الشرق والغرب. إن المبدأ البريطاني القائم على الإنصاف هو أسمى ما تدور عليه أحوال الأمل بذلك - فإنني واثق أن منافعه لا تتناول بريطانيا ومصر فقط، بل أستطيع أن أؤكد أن العالم كله يستفيد من تفاهم ودي دائم بين الأمتين؛ لأن مصر تصبح وهي مستقلة مسالمة حلقة اتصال معنوية للوفاق والإخاء الصحيح بين الشرق والغرب. (2-4) تمهيد السبيل للمفاوضات
وهل لي أن أقول على ذكر الإنصاف كم هي الفوائد التي يستفيدها الفريقان اللذان سيجريان المفاوضات بالنيابة عن البلدين لو امتنعت الصحف والجمهور عن المجازفة في إيجاد جو يثير الريب والشكوك وينجم عن النظر إلى أي أمر بنظارة ملونة؟
وبما أنني أعلق اهتماما عظيما على اجتماعنا هذه الليلة، فسأبسط لبني قومي مقاصدكم الشريفة، وأنا واثق بأن مصر كلها تقدر موقف جمعيتكم حق قدره، ويكون جلالة مولاي الملك العظيم أول من يقدر حسن نيتكم وصفاء سريرتكم، ولن يفوت زغلول باشا رئيس حكومتنا أن يلاحظ بسرور عظيم ما جرى من التقدم نحو تحسين التفاهم بين بلدينا.
فعسى أن نحتفل في المستقبل القريب بالتاريخ السعيد الذي تعقد به معاهدة بين إنكلترا ومصر تسجل بها صداقة وسلم دائمان شريفان بين البلدين مؤسسان على الاحترام وحسن النية المتبادلين.
تعرف أن مصر تحتاج إلى صديق مخلص بين الأمم، ونحن موقنون إذا تأكدت صداقة بريطانيا ففي وسع وادي النيل بأسره أن يواجه المستقبل بثقة عظمى. (3) خطبة أخرى لعزيز عزت باشا
وألقى عبد العزيز عزت باشا وزير مصر المفوض خطبة في مأدبة أدبتها له جمعية القطن في منشستر ظهر يوم 4 يونيو سنة 1924 فافتتحها بإبداء الشكر والامتنان للإكرام الذي لقيه من الجمعية بدعوته لزيارة منشستر وقال: «إن جلالة مولاي المعظم المحبوب لا بد أن يقدر الإكرام الذي يقابل به ممثله في إنكلترا حق قدره»، ثم تكلم فيها عن مسألة السودان فقال:
فالمصالح إذن تقرب ما بيننا وهي سياسية واقتصادية معا. فالضرورة تقضي على مصر بأن تزيد إنتاجها من القطن. ويجب أن تكون إنكلترا في حالة تخولها أن تشتري محصولنا، ولكي تبلغ مصر تلك العناية يجب أن لا يعيقها ولا يعرقل سيرها الذين تدخلوا في شأنها وكان تدخلهم - ولا شك - لمساعدتها كما قالوا في وعودهم وعهودهم الصريحة، بل يجب أن يتركوها حرة تتقدم ضمن حدودها الجغرافية الطبيعية التي هي حق لها. وأعني بالحدود الجغرافية الطبيعية وادي النيل كله الذي تتألف منه من منابعه إلى البحر المتوسط وحدة كاملة لا تقبل التجزئة. فالمصلحة الحيوية والجغرافية والاقتصادية والفنية والحربية التي هي جسم عضوي قائم بنفسه تأبى انفصال أي عضو من الأعضاء التي يتألف منها هذا الجسم. وهذه حقيقة يعرفها ويعترف بها جميع رجال الدولة عندكم.
إن مصر لا تطلب شيئا خارجا عن هذه الحدود، ولا تستطيع أن تستغني عن أي عضو من جسمها السياسي أو الاقتصادي.
وقبلما نظر مؤسس الأسرة المصرية الحالية المالكة محمد علي الكبير جد صاحب الجلالة مولاي الملك فؤاد المعظم إلى حالة البلاد وتعهدها بعين عنايته وحول أنظمة الري من حالتها الطبيعية إلى حالتها الفنية الراقية، كان المزارعون يحصلون على ما يحتاجون إليه من المياه بوسائل فطرية بسيطة للمزروعات الصيفية أو لمزروعات الفيضان، ولم يكن القطن من بين هذه المزروعات. فقضت حكمة المصلح الكبير بإدخال زرع القطن إلى مصر بعد إتقان وسائل الري، فكان منبع الثروة لمصر وجعلها على اتصال وثيق بلانكشير. وأصبحت أيضا تحتاج كل الاحتياج إلى المهندس البارع لخزن المياه وتنظيمها وتقديم ما يحتاج إليه محصول القطن منها، فانصرف الاهتمام إلى إنشاء مشروعات عظمى من الأحواض والقناطر والسدود، وتم إنشاء كثير منها حتى الآن، وما زال الباقي تحت الإنشاء. ومشروعات الري هذه منتشرة على طولي مجرى النيل: وجميعها متوقف بعضها على البعض الآخر ومتصل بعضها بالآخر؛ مما يقضي بجعلها تحت سيطرة سلطة واحدة وإدارتها. ومن الواضح أن هذه السلطة التي تدير بيدها مصالح حيوية خطيرة تستطيع أن تقوى على فعل كل شيء. فكل خطأ ترتكبه عن عمد أو غير عمد في تنفيذ سيطرتها التي توزع بها ماء الحياة على النفوس يؤدي إلى عواقب مهلكة تصيب أرواح الشعب الخاضع لتلك السيطرة وأملاكه.
إنكم تعرفون - ولا شك - أهمية السلسلة الفقرية للهيكل الجسدي. وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام مهمة. فإذا حرم الجسم من أحد هذه الأقسام؛ بل من جزء يسير منها أصبح مشلولا طول الحياة.
ويمكن أن تقسم مصر أيضا إلى ثلاثة أقسام: السودان والنوبة ومصر السفلى؛ فإذا تدخلتم قهرا في أي من هذه الأقسام الثلاثة فإنكم تشلوننا. ولكن إذا سعيتم إلى حرماننا من قسم حيوي كالسودان فإن حياتنا برمتها تبيد.
إن رجال السياسة يرسمون خطوطا على الخرائط ويلونونها بألوان مختلفة ويلعبون بالألفاظ وفاقا لما تصوره لهم مخيلاتهم، ولكن الطبيعة تأبى أن تتقيد بشيء من ذلك، ولا تلبث في كل حين أن تثبت وجودها.
وليس ثمت مجال للاختلاف في أن تسلم قلب مصر ومنبع دم الحياة الذي يجري في عروقها يفضي إلى شل لأعصابها وتعريضها للاعتلال والفناء. ولكن مصر واثقة بأن اتضاح حقوقها المقدسة سيزيل جميع الاختلافات في شأن سيادتها العملية المطلقة في السودان. وهذه السيادة العملية على إحدى مقاطعاتها الطبيعية التي تحتوي حاجاتها من المياه تخول مصر أن تكون قوية بمركزها متقدمة بنشوئها ونشاطها ثابتة في شؤونها السياسية، وبذلك تكون عاملا عظيما للسلام في مجتمع الأمم.
إن مصر المتمتعة بالثقة والعطف من جميع الشعوب الأوروبية عامة ومن بريطانيا خاصة تستطيع أن تقيم الدليل على أنها تخدم الإنسانية بأسرها خدمة لا شك فيها.
إن مصالحكم في وادي النيل هي مصالح تجارية واقتصادية. أما نحن فمسألتنا فيه مسألة حياة أو موت. فمصر بلاد لا ترويها الأمطار. ولا بد لنا أيضا من أن نهتم لمسألة سكانها الذين يزداد عددهم على الدوام، فهؤلاء السكان لا يحتاجون إلى العمل وتوفير وسائل العيش فقط في الوقت الحاضر، بل إلى منفذ ينفذون إليه في المستقبل.
إن لكم مستعمرات عديدة يستطيع أن يهاجر إليها الذين يزيدون عما تحتمله بلادكم من السكان، أما نحن فلنا سوداننا الذي هو إحدى مقاطعاتنا، وهو يحتوي على أراض شاسعة تكون منفذا طبيعيا شرعيا يجلو إليها الذين يزيدون من سكان مصر ويستثمرونها. ومن الطبيعي أن يذهب السكان الذين يزيدون في قسم من مملكة واحدة إلى قسم منها، حيث يكونون بين قوم منهم يدينون بدينهم ويتكلمون لغتهم ويعيشون في مثل مناخهم. وعلينا أن نضع موضع الاهتمام بنوع خاص أن معظم الأراضي المجاورة صحراء قاحلة.
فإذا كنتم توافقونني على رأيي وتنظرون إلى مصالح مصر الحيوية بما تنظرون به إلى المصالح البريطانية من حسن النية متمسكين بمبادئ حرية التجارة وحرية التبادل التي نشرتها منشستر قبل كل مدينة أخرى في العالم الذي طالما ظهرت عليه دلائل حب الذات، ففي وسعنا حينئذ أن نوفق بين مصالح بلدينا على المبادئ المقبولة التي تبنى عليها المصالح التجارية والاستقامة والصداقة.
لقد اعتادت الشعوب في هذا الزمن - وياللأسف - أن يتجر بعضها بالبعض الآخر بدلا من بذل تضحيات متقابلة توجد جوا تسود فيه الثقة والعلاقات الودية المنتجة على المصالح. وقد أظهرت الحرب العمومية وما عقبها من قلب التجارة بأسرها رأسا على عقب أن جميع المخاصمات التي سارت إلى أقصى مداها وأهلكت النسل وبددت الثروة الوطنية، ليست مما تستثمر فيها الأموال استثمارا صالحا؛ لأن القوات المبيدة التي أطلقتها أحقاد الشعوب المختلفة قد أوقعت المشروعات التجارية في الفوضى والاضطراب، وأصابت الشعوب نفسها بمثل ذلك. فالسياسة العملية الصحيحة هي التي تقضي بأن يوضع رأي الفريق الآخر موضع النظر، وأن تحقق المقاصد الأساسية التي تلغيها الشعوب الأخرى. فجميعها تود أن تعيش وتتقدم بانية مستقبلها على قواعدها الوطنية الخاصة.
ولا تزهو الحياة وتتقدم إلا عندما تدرس المصالح المتقابلة درسا وافيا. وهذه الحقيقة الجوهرية كانت - وما زالت - معدودة من بين المبادئ التي تنادي بها مدينة منشستر الممتازة.
ويجب أن تذكروا أنكم تعاملون في مصر شعبا قديما فخورا بماضيه غيورا على مستقبله متحدا لبلوغ النجاح وللقيام بالعهود التي تفرضها عليه المعاهدات، راغبا في أن ينشئ معكم صلات تجارية واقتصادية قائمة على الاستقامة مقدما على ذلك جميع الضمانات التي تنطبق على الشرف والكرامة بين الشعوب المتحاربة. (4) السودان في برلمان 1924
صرح المغفور له سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء بمجلس النواب المنعقد يوم الاثنين 22 يونية سنة 1924
1
بالتصريح التالي، بمناسبة بعض الحوادث التي جرت في السودان وقتئذ.
كلمة المغفور له سعد زغلول باشا
أيها السادة
تحركت مسألة السودان اليوم ولم تكن الحكومة مستعدة لأن تقول رأيها فيها، ولكني مع ذلك يمكنني أن أصرح لحضراتكم بأن الحكومة تشارككم كل المشاركة في شعوركم بالنسبة للسودان «استحسان وتصفيق طويل»، بل تنظر بعين المقت لكل عمل من شأنه أن يفصل السودان عن مصر «تصفيق».
والإجراءات التي تتم الآن في السودان - كما قال حضرة العضو المحترم عبد الرحمن الرافعي بك - على نوعين:
الأول:
وثائق تكتب واجتماعات تعقد لإظهار الولاء للحكومة الإنكليزية والرغبة عن الحكومة المصرية.
والثاني:
هو منع الذين يريدون أن يقدموا ولاءهم للحكومة من الحضور هنا.
فأما القسم الأول وهو عقد الاجتماعات أو اختلاس الثقة لأجل إعلان الامتنان من الحكومة الإنكليزية، فهذا نصرح هنا وفي كل مكان بأنه باطل، ولا يعتبر حجة علينا «تصفيق».
إذا قدمت هذه الأوراق أمام أي محكمة أو أي هيئة وحصل التمسك فيها، فلسان مصر يقول: إنها أوراق باطلة لأنها لم تؤخذ بالحرية المطلقة، وإنه يجب قبل التمسك بها أن يكون السودان خاليا من كل حكومة أجنبية «تصفيق استحسان».
أنا في تصريحي هذا منضم إليكم فيما أعلنتم من أن هذه الوثائق وهذه الأوراق وهذه الاجتماعات لا قيمة لها مطلقا، وهذا كاف «أصوات بدون شك».
وأما فيما يتعلق بالقسم الثاني ألا وهو منع السودانيين المخلصين. وكلهم - فيما أظن - مخلصون لنا ممتنون من حكمنا راغبون في بقائنا بالسودان كإخوان لهم وبصفة بلادهم جزءا لا يتجزأ من مصر. فهذه الإجراءات تعلن بصفتنا حكومة. وبصفتنا مجلس نواب. نعلن لجهات الاختصاص استنكارنا لما يكون صحيحا منها واحتجاجنا عليها «تصفيق».
وأنا ممتن من أن لكم بهذه الوزارة ثقة تامة بأن تتخذ جميع ما في وسعها لحفظ حقوق مصر في السودان «تصفيق».
والآن أجيب حضرة العضو المحترم أحمد رمزي بك على قوله «ماذا تفيد المفاوضات في هذا الجو المضطرب»، نعم إن المفاوضات في جو مضطرب ربما لا تفيد، ولكن يجب علينا ألا نكتفي بالكلام فيما بيننا، بل يجب أن نعلن أمام كل إنسان، سواء كان إنكليزيا أو غير إنكليزي بأن لنا حقوقا في السودان نريد استخلاصها «تصفيق».
فإذا تمكنت من الذهاب إلى المفاوضة فلا أقول: إن السودان غير مملوك لنا؛ بل أقول: إنه ملكنا، وإنه جزء لا يتجزأ من مصر، ويجب أن يرد لنا «تصفيق». وأقيم الدليل على هذا، والدليل تعلمونه حضراتكم ويعلمه كل واحد منا ويحفظه كل مصري. فإن نجحنا فبها ونعمت، وإلا وإلينا الاحتجاج وعملنا كل ما يعمله شعب مهضوم الحقوق لاستخلاصها «تصفيق».
أنا لا أخشى المفاوضة فهي محادثات كسائر المحادثات أباشرها واثقا بنفسي وواثقا بأني لا أقبل نتيجة من نتائجها إلا إذا كانت متفقة مع حقوقكم وأمانيكم «تصفيق».
واذا كنت أرى دخولي فيها لا يضيع علينا حقا ولا يكسب غيرنا حقا ضدنا أدخل فيها وأكون قد خدمت بلادي بهذا الدخول، ولكني لا أخرج منها إلا ظافرا بحقوقنا كلها أو حافظا حقوقنا كلها «تصفيق».
ولا يمكنني أن أصرح لكم الآن بأن وقت المفاوضات قد دنا أو لم يدن؛ لأنه يوجد أمور تتوقف عليها المفاوضة. فإذا تمت هذه الأمور وتحققت دخلت المفاوضات مزودا بثقتكم ومعتمدا على الله في نجاحها. ا.ه. (5) قرار المجلس
ثم تلا السكرتير النائب نص اقتراحين: الأول مقدم من حضرة النائب المحترم الأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي، وهذا نصه:
على أثر التلغراف الذي ورد لمجلس النواب من الوفد السوداني الذي عزم على الحضور إلى مصر للإعراب عن ولاء السودانيين لمصر وتمسكهم بالارتباط بها، وعلى أثر الأنباء الواردة من السودان عن المناورات المصطنعة التي يقصد منها الاعتداء على حقوق مصر والسودان - يعلن المجلس عطفه على السودانيين جميعا لتمسكهم الوثيق بارتباطهم بمصر، ويعلن استنكاره للمناورات المصطنعة التي يقوم بها دعاة الاستعمار في السودان، ويعلن تمسك الأمة المصرية بمبدئها الخالد، وهو أن السودان جزء لا يتجزأ من مصر.
والاقتراح الثاني مقدم من حضرتي راغب إسكندر أفندي وحسين هلال بك وهذا نصه:
بعد سماع التصريحات الحكيمة التي أبداها حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء بخصوص الإجراءات غير الشرعية القائمة في السودان للسعي في فصل السودان عن مصر يكرر المجلس ثقته التامة بالوزارة، ويطلب الانتقال إلى جدول الأعمال.
فوافق الأعضاء على الاقتراحين بالإجماع.
وقد ورد تلغراف على رياسة مجلس النواب جلسة 19 يونيو سنة 1924، وهذا نصه:
الخرطوم في 17 يونيو.
نحتج باسم الأمة السودانية ونسخط مر السخط على سياسة التطويق التي استعملت لمنع الوفد من السفر لعرض وثائق ولاء السواد الأعظم من الأهلين لمليك البلاد، ونطلب بإلحاح تدخل الحكومة في الأمر بكل ما أوتيت من إقدام وعطف لإيقاف ضروب التنكيل، وإن الأمة المصرية قاطبة مسئولة أمام التاريخ عن كل نازلة تحل بخدام العرش المصري أينما كانوا. وأن سفينة يدير دفتها سعد يستحيل أن تصطدم بصخر مهما كانت الزوابع والظلام. الإمضاءات.
وفي تلك الآيام وصل إلى حضرة صاحب العزة أحمد حمدي سيف النصر بك رئيس لجنة السودان البرلمانية وقتئذ هذا التلغراف:
قبض على الملازم الأول زين العابدين أفندي أمس مساء وهو في الخرطوم. (6) مقتل السردار لي ستاك
بينما كان الفريق السر لي ستاك باشا سردار الجيش المصري والحاكم العام للسودان خارجا من مكتبه في وزارة الحربية، قاصدا إلى منزله في الساعة الثانية بعد ظهر يوم الأربعاء 19 نوفمبر سنة 1924 أطلق عليه «أفندية» مجهولون عدة طلقات نارية من مسدسات كانوا مسلحين بها.
وقد أصيب السردار برصاصة في بطنه وبرصاصتين أخريين في يده ورجله، وأصيب الكابتن كامبل ياوره برصاصة في صدره، كما أصيب السائق - وهو إنكليزي - برصاصة في فخذه، وقد توفي السردار متأثرا بجراحه في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخمسين من مساء يوم 20 نوفمبر سنة 1924. (7) الاحتفال بجنازته
وفي الساعة العاشرة والدقيقة العاشرة من صباح يوم السبت 22 نوفمبر سنة 1924 أطلق سبعة عشر مدفعا من حديقة الأزبكية إيذانا بخروج النعش من الكنيسة الإنكليزية بشارع فؤاد الأول، وتحية له.
وبدئ الموكب بثلة من فرسان البوليس الإنكليزي، تليها كوكبة من فرسان الجيش المصري، ثم مدفعية جبلية مصرية، ثم بلوك من الأورطة السابعة المصرية المشاة تتقدمها موسيقاها عليها شارة الحداد، ثم كوكبة من فرسان الجيش الإنكليزي، فمدفعية إنكليزية، فكوكبة أخرى من الفرسان الإنكليز، فمدفعيتان إنكليزيتان، فأورطة من المشاة الإنكليزية منكسة البنادق، وعلى علمها شارة الحداد، وعلى موسيقاها السواد، وهي تعزف في مسيرها نغما محزنا، ففرقة من سلاح الطيران الإنكليزي، فجميع ضباط البوليس المصري، فضباط البحرية المصرية، فجميع ضباط الجيش المصري بأقسامه، فضباط البوليس المصري الإنكليز، فحكمدار بوليس الإسكندرية وضباطه المصريون والإنكليز، فضباط الجيش البريطاني، فضباط فرقة الطيران.
فنعش الفقيد على مركبة مدفع تجرها ستة من الجياد الصافنات، ويتقدمها فارسان إنكليزيان، وقد لف النعش في علم بريطاني، وعليه إكليل من الأزهار وقبعة الفقيد، ووراءه ضابطان بريطانيان يحمل أحدهما على يديه وسادة من الحرير منضدة عليها نياشين، فجواد الفقيد، فجموع المشيعين وفي مقدمتهم فخامة المارشال اللنبي وإلى يمينه حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء نائبا عن حضرة صاحب الجلالة الملك، فحضرات أصحاب السمو الأمراء، فحضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد زغلول باشا وإلى يمينه حضرة صاحب المعالي أحمد زيور باشا رئيس مجلس الشيوخ، وإلى يساره حضرة صاحب المعالي أحمد مظلوم باشا رئيس مجلس النواب، فحضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء بملابسهم الرسمية جميعا، فوزراء الدولة المفوضون، فالقناصل فأعيان الجالية البريطانية ومندوبو الجاليات الأجنبية، فمندوبو المصارف والشركات. فأعضاء مجلس الشيوخ والنواب، فوكلاء الوزارات، فمحافظ القاهرة ومدير الجيزة، وهيآت المحافل الماسونية، فرؤساء مصالح الحكومة، فالمستشارون الملكيون، فحضرات العلماء، فالرؤساء الروحيون، فرئيس محكمة الاستئناف الأهلية ومستشاروها، فرؤساء المحاكم وقضاتها، فالنائب العمومي ورجال النيابة، فنقابة الصحافة المصرية، فرجال القضاء الشرعي، فموظفو الوزارات والمصالح، فالأعيان والتجار، وكانت أسراب من الطائرات الإنكليزية تحلق في الجو في أثناء سير الموكب متابعة إياه في سيره ومنتشرة في جو القاهرة.
وقد اجتاز الموكب ميدان الأوبرا فشارع قصر النيل فميدان سليمان باشا فميدان الإسماعيلية، وكان في هذا الميدان عدد كثير من السيارات المسلحة، فوصل الموكب إلى المقبرة الإنكليزية في الساعة الثانية عشرة.
وحمل النعش ثمانية من الجنود الإنكليز، ومن ورائهم فخامة المارشال اللنبي. وبعد أداء صلاة الجنازة أطلقت المدافع تحية وتكريما للفقيد.
وقد بلغ عدد الأكاليل التي أهديت نحو مائة كان من أجملها الإكليل الذي أرسله حضرة صاحب الجلالة الملك.
هذا وقد عطلت يوم تشييع الجنازة البنوك والمحال التجارية الكبيرة، وأغلقت جميع المخازن التي مر بها الموكب، وكانت كلها منكسة الأعلام، كما نكست الأعلام المرفوعة على دور الحكومة ومصالحها. (8) الإنذار البريطاني عن مقتل السردار
في مساء 22 نوفمبر سنة 1924 زار اللورد اللنبي بملابسه الرسمية في جمع عسكري بريطاني رسمي جنوده سواري ملأوا شارع مجلس النواب، دولة سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء في مكتبه بالمجلس، وتلا الإنذار التالي بالإنكليزية، وسلمه إلى سعد باشا:
القاهرة في 22 نوفمبر سنة 1924
إلى صاحب الدولة سعد زغلول باشا إلخ ...
يا صاحب الدولة
أقدم لدولتكم من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية البلاغ التالي:
إن الحاكم العام للسودان وسردار الجيش المصري الذي كان أيضا ضابطا في الجيش البريطاني قد قتل بكيفية فظيعة في القاهرة.
فحكومة جلالة الملك تعد مقتله هذا الذي يعرض مصر كما هي محكومة الآن لازدراء الشعوب المتمدينة، نتيجة طبيعية لحملة عدائية ضد حقوق بريطانيا العظمى وضد الرعايا البريطانيين في مصر والسودان. وهذه الحملة القائمة على إنكار الجميل إنكارا مقرونا بعدم الاكتراث للأيادي التي أسدتها بريطانيا العظمى لم تثبط من جانب حكومة دولتكم. وقد أثارتها هيئات على اتصال وثيق بهذه الحكومة.
وقد أفهمت حكومة جلالة الملك دولتكم منذ أكثر من شهر إلى العواقب التي لا بد من أن تنشأ عن هذه الحملة إذا لم توقف. ولا سيما فيما يتعلق بالسودان. ولكن هذه الحملة لم توقف. والآن لم تعرف الحكومة المصرية كيف تمنع اغتيال حاكم السودان العام، وأظهرت أنها غير قادرة على حماية أرواح الأجانب أو أنها قليلة الاهتمام بهذه الحماية.
فبناء على ذلك تطلب حكومة جلالة الملك من الحكومة المصرية: (1)
أن تقدم اعتذارات كافية وافية عن الجناية. (2)
أن تتابع بأعظم نشاط وبدون مراعاة للأشخاص، البحث عن الجناة، وأن تنزل بالمجرمين - بدون مراعاة لأشخاصهم وأعمارهم - أشد العقوبات. (3)
أن تمنع من الآن فصاعدا وتقمع بشدة كل مظاهر شعبية سياسية. (4)
أن تدفع في الحال إلى حكومة جلالة الملك غرامة قدرها نصف مليون جنيه. (5)
أن تصدر في خلال أربع وعشرين ساعة الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السودان مع التعديلات التي تنشأ عن ذلك وتعين فيما بعد.
الفيكونت أدموند هنري اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر والسودان من 1919-1925. (6)
أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من 300000 فدان إلى عدد غير محدود على نسبة ما تقتضيه الحاجة. (7)
أن تعدل عن كل معارضة لرغبات حكومة جلالة الملك في الشؤون المبينة بعد فيما يتعلق بحماية المصالح الأجنبية في مصر.
وفي حالة عدم تلبية هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة جلالة الملك على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسودان.
وإني أنتهز هذه الفرصة؛ لأؤكد لدولتكم مرة أخرى احترامي الفائق. «الإمضاء» اللنبي فيلد مارشال المندوب السامي
يا صاحب الدولة
إلحاقا ببلاغي السابق أتشرف بإعلام دولتكم من قبل حكومة صاحب الجلالة البريطانية أن مطالبها الخاصة المتعلقة بالجيش في السودان وحماية مصالح الجانب في مصر هي كما يأتي: (1)
بعد ما يسحب الضباط المصريون والوحدات المصرية البحتة للجيش المصري تحول الوحدات السودانية التابعة للجيش المصري إلى قوة مسلحة سودانية تكون خاضعة وموالية للحكومة السودانية وحدها وتحت قيادة الحاكم العام العليا، وباسمه تصدر العرائض «البراءات للضباط».
سير لي ستاك. (2)
إن القواعد والشروط الخاصة بخدمة الموظفين الأجانب الذين لا يزالون في خدمة الحكومة المصرية، وتأديبهم وخروجهم من الخدمة ، وكذلك الشروط المالية لتسوية معاشات الموظفين الأجانب الذين اعتزلوا الخدمة، يجب أن يعاد النظر فيها طبقا لرغائب حكومة جلالته. (3)
من الآن إلى أن يتم اتفاق بين الحكومتين بشأن حماية المصالح الأجنبية في مصر تحافظ الحكومة المصرية على مركز المستشار المالي والمستشار القضائي. وتحترم سلطتهما وامتيازاتهما كما نص عليها عند إلغاء الحماية، وتحترم أيضا النظام والاختصاصات التي للمكتب الأوروبي في وزارة الداخلية كما حددت بالقرار الوزاري، وتنظر بعين الاعتبار الوافي إلى المنشورات التي يمكن أن يقدمها مديره العام فيما يتعلق بالشؤون الداخلة في اختصاصه.
وإني أغتنم هذه الفرصة لأؤكد لدولتكم مرة أخرى احترامي الفائق.
28 نوفمبر سنة 1924
المندوب السامي
الإمضاء: اللنبي فيلد مارشال (9) بلاغ رسمي
في 25 الجاري تلقت الحكومة بواسطة فخامة المندوب السامي البريطاني تلغرافا واردا من الضباط وضباط الصف والجنود بالطوبجية المصرية في الخرطوم ذكروا فيه أنه صدر لهم أمر نائب حاكم السودان العام بمغادرة السودان في الحال، وأن الجنود البريطانية قد أحاطت بهم من كل جانب. وأضافوا إلى ذلك أن ذخيرتهم وهي عشرون خرطوشة لكل بندقية ومقدار قليل للمدافع كانت غير كافية للدفاع ضد قوات كبيرة مسلحة بمقادير لا حد لها من الذخيرة، فضلا عن أن مستودعات الذخيرة المصرية ما زالت من يوم فتح السودان تحت يد السلطات البريطانية، ولكنهم أصروا على أن لا يغادروا السودان إلا بأمر جلالة الملك أو يموتوا عن آخرهم بعد أن يستنفذوا ذخيرتهم.
ولما اطلع مجلس الوزراء على هذا التلغراف تفاوض مليا في الأمر، وقرر في جلسة خاصة ضرورة الإسراع إلى منع سفك الدماء بغير جدوى وتجنب كل عمل من شأنه المساس بحقوق البلاد. وقد عهد مجلس الوزراء - بناء على ذلك - إلى وزير الحربية في توجيه الرسالة الآتية إلى الضباط وضباط الصف والجنود بالجيش المصري في السودان:
عهدنا فيكم الشجاعة والولاء، ولا يداخلنا أي شك في أنكم مستعدون جميعا لإراقة آخر نقطة من دمائكم في خدمة جلالة الملك وفي سبيل الوطن. على أننا نأمركم بأن تكفوا عن مقاومة الإجراءات التي اتخذها نائب حاكم السودان العام لإخراجكم بالقوة من الأراضي السودانية، فإنه ليس من وراء هذه المقاومة سوى سفك الدماء بغير جدوى، وبما أن الحكومة المصرية قد احتجت احتجاجا صريحا على هذا العمل الذي نفذ بالقوة القاهرة، فعودتكم لا يترتب عليها أي مساس لا بحقوق الوطن ولا بشرفكم العسكري.
والغرض من هذه التعليمات الصادرة من وزير الحربية اللواء صادق يحيى باشا لا من جلالة الملك، كما زعمت وكالة روتر، إنما هو منع سفك الدماء بغير جدوى ودفع كوارث جديدة عن الوطن.
وقد أرسلت الحكومة المصرية برياسة حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا ردا طويلا مسهبا عن الإنذار البريطاني مع وزير خارجية مصر في يوم 23 نوفمبر سنة 1924. ومضمون هذا الرد هو إنكار مسئولية الحكومة في حادث السردار وإجابة بعض الطلبات ورفض البعض الآخر.
فأرسل المندوب السامي الكتاب التالي ردا على رد الحكومة المصرية:
حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء
ردا على رسالة دولتكم بتاريخ اليوم؛ أتشرف بأن أبلغكم أنه نظرا إلى رفض الحكومة المصرية تلبية مطالب حكومة جلالة الملك الواردة في الفقرتين الخامسة والسادسة من بلاغي المقدم أمس أرسلت التعليمات إلى حكومة السودان بما يلي:
أولا:
أن تخرج من السودان جميع الضباط المصريين والوحدات المصرية المحضة في الجيش المصري مع التغييرات المعينة التي تترتب على ذلك.
ثانيا:
أنها مطلقة الحرية في زيادة المساحة التي تروى في الجزيرة من 300 ألف فدان إلى حد غير محدود وفاقا لما تقضي به الحاجة.
وستعلمون دولتكم، في الوقت المناسب، العمل الذي ستتخذه حكومة جلالة الملك، نظرا إلى رفض دولتكم قبول المطلب السابع الخاص بحماية مصالح الأجانب في مصر.
وإني أسجل أن الحكومة المصرية قد قبلت فيما قبلته من المطالب، المطلب الرابع. فحكومة جلالة الملك تنتظر أن يدفع لي مبلغ نصف مليون جنيه قبل ظهر الغد.
وإني أنتهز الفرصة لأجدد لدولتكم وافر احترامي الأكيد.
اللنبي. فيلد مارشال: المندوب السامي
وفي الساعة العاشرة قبل ظهر يوم الاثنين 24 نوفمبر سنة 1924 وقع حضرة صاحب السعادة علي الشمسي أفندي «باشا» وزير المالية تحويلا ماليا بمبلغ 500 ألف جنيه قيمة التعويض الذي طلبته الحكومة البريطانية في إنذارها، والذي قررت الحكومة المصرية دفعه ورفعه إلى حضرة صاحب الدولة سعد باشا، فأرسله إلى دار المندوب السامي مع الكتاب الآتي:
يا صاحب الفخامة:
ردا على مذكرتكم المؤرخة أمس وإلحاقا بمذكرتنا المؤرخة 22 الجاري أتشرف بأن أرسل إليكم طي هذا تحويلا على البنك الأهلي المصري بمبلغ خمس مئة ألف جنيه.
2
أما فيما يتعلق بالإجراءات المبينة في الفقرتين الأولى والثانية من مذكرة فخامتكم، فإن الحكومة المصرية تتمسك بجميع ما أبدته من التصريحات في المذكرة المؤرخة 22 الجاري، وتحتج احتجاجا صريحا على ما اتخذته حكومة صاحب الجلالة البريطانية من القرارات، وهي ترى أن لا مسوغ لها، وتعتبرها مناقضة لما لمصر من الحقوق المعترف بها - وتفضلوا فخامتكم بقبول عظيم احترامي.
رئيس مجلس الوزراء
سعد زغلول (10) احتلال جمارك إسكندرية
أرسل المندوب السامي البريطاني قبل ظهر يوم الاثنين 24 نوفمبر سنة 1924 الكتاب الآتية ترجمته إلى رئيس الوزارة المصرية:
حضرة صاحب الدولة إلخ ...
بالإشارة إلى الكتاب الذي أرسلته إليكم أمس أتشرف بأن أبلغ دولتكم أنه كتدبير أول أعطيت التعليمات إلى قوات جلالة ملك بريطانيا بأن تحتل جمرك إسكندرية.
وإني أنتهز هذه الفرصة لأكرر لكم عهود احترامي الفائق.
اللنبي فيلد مارشال، المندوب السامي
وقد احتلت الجنود الإنكليزية الجمارك فعلا. وقد رفع حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء كتابين إلى جلالة الملك يطلب فيهما الاستعفاء، وهما:
1
مولاي
أتشرف بأن أرفع لجلالتكم أني لم أقبل مسئولية الوزارة إلا لخدمة البلاد وتنفيذا لمقاصدها السامية، ولكن الظروف الحالية تجعلني عاجزا عن القيام بهذه المهمة الخطيرة؛ ولهذا أرجو من مكارم جلالتكم أن تتفضلوا بقبول استعفائي مع زملائي من الوزراء، وإني وإياهم مستعدون على الدوام للعمل على ما يرضيكم أدام الله علينا نعمة رعايتكم العالية وأدامكم مؤيدين بالعز والإقبال، وموضع كل إكبار وإجلال.
23 نوفمبر سنة 1924
شاكر نعمتكم: «سعد زغلول»
2
مولاي
تشرفت من يومين بأن عرضت لجلالتكم شفها عزمي وعزم زملائي على الاستقالة، وشرحت الأسباب التي حملتنا عليها. وفي الساعة 6 من مساء أمس قدمت عريضة الاستعفاء وألححت في قبولها. وطوعا للأمر الكريم انتظرت إلى اليوم، وعقب التشرف بهذه المقابلة فورا وردني خطاب من فخامة اللورد اللنبي ينبئني فيه بأنه أعطى أوامر لحكومة السودان:
أولا:
أن تخرج من السودان جميع الضباط المصريين والوحدات المصرية المحضة في الجيش المصري مع التغييرات المعينة التي تترتب على ذلك.
ثانيا:
أنها مطلقة الحرية في زيادة المساحة التي تروى في الجزيرة من 300000 فدان إلى ما لانهاية.
وزاد بأنه سيبلغ الحكومة في الوقت المناسب العمل الذي ستتخذه حكومته لحماية مصالح الأجانب في مصر، وبأنه يطلب دفع مبلغ الخمسمائة ألف جنيه قبل ظهر اليوم، فأرسلت الحكومة إلى فخامتة تحويلا على البنك الأهلي بهذا المبلغ مصحوبا بكتاب يشتمل على الاحتجاج ضد هذه التصرفات.
ثم تشرفت بمقابلة جلالتكم، وكررت الالتماس بقبول الاستعفاء. وعقب خروجي من حضرتكم الشريفة تلقيت خطابا من جنابه بأن أول عمل اتخذته حكومته هو أن أمرت قوة عسكرية بريطانية باحتلال جمارك الإسكندرية.
إزاء هذه الاعتداءات المتكررة على استقلال البلاد وحقوقها لا يسعني إلا الإلحاح على جلالتكم لتتفضلوا بالإسراع في قبول الاستعفاء؛ لأن هذا فيما أري قد يكون خير وسيلة لوقاية البلاد من الشرور المتوالية.
ولا زلت الداعي على الدوام بالتوفيق لجلالتكم والشاكر لنعمتكم.
24 نوفمبر سنة 1924
سعد زغلول (11) قبول استقالة الوزارة السعدية
عزيزي سعد زغلول باشا:
اطلعنا على كتاب دولتكم المرفوع إلينا بتاريخ 23 نوفمبر سنة 1924 المتضمن استقالتكم من مهمتكم. وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم إخلاصكم وما أديتموه من الخدمات أثناء قيامكم بأعباء منصبكم.
صدر بسراي عابدين في 27 ربيع الثاني سنة 1343 / 24 نوفمبر سنة 1924 رقم 76 سنة 1924.
فؤاد
وقد تألفت خلفا للوزارة السعدية وزارة برياسة حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا وزيرا للداخلية وللخارجية مؤقتا، وأحمد محمد خشبة بك «باشا» وزيرا للمعارف العمومية وللحقانية مؤقتا، وعثمان محرم بك «باشا» وزيرا للأشغال العمومية، ومحمد السيد أبو علي باشا وزيرا للزراعة، ومحمد صدقي باشا وزيرا للمالية، ونخلة جورجي المطيعي بك «باشا» وزيرا للمواصلات، ومحمد صادق يحيى باشا وزيرا للحربية والبحرية. (12) المكاتبات المتبادلة بين وزارة دولة زيور باشا ودار المندوب السامي
1
من المندوب السامي إلى حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا رئيس مجلس الوزراء.
ياصاحب الدولة ردا على سؤالكم أتشرف بإحاطتكم علما بأن الطلبات التي يصح لي معها أن أشير على حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية بالجلاء عن جمرك الإسكندرية فيما لو قبلتها الحكومة المصرية هي: (1)
تقبل الحكومة المصرية إحالة الموظفين الأجانب الذين تسري عليهم أحكام المواد 4 و7 و8 من القانون رقم 28 لسنة 1923 في التواريخ التي ستحدد طبقا للاختيار الذي سيخول لهم الحق في إبدائه قبل 15 يناير سنة 1925.
ولا يجوز أن تكون هذه التواريخ سابقة لأول إبريل سنة 1925 ولا لاحقة للتاريخ السابق تقريره لخروج أولي الشأن أو لتاريخ أول إبريل سنة 1927. (2)
تتعهد الحكومة المصرية في استعمال كل نفوذها لدى بلدية الإسكندرية وبذل كل مساعدة ممكنة لها بقصد مساواة موظفي البلدية الأجانب بموظفي الحكومة المصرية ومجالس المديريات والمجالس البلدية والمحلية فيما يتعلق بأحكام القانون رقم 28 سنة 1923 والبندين الأول والثالث من هذه المذكرة. (3)
في حالة استعمال هؤلاء الموظفين لحق الاختيار المنصوص عليه في البند الأول، يمنح الموظفون منهم - الذين لم يكن لهم بعد حق في المعاش ولكنهم قد يكتسبون هذا الحق إذا ظلوا في الخدمة لغاية أول إبريل سنة 1927 - معاشا يقوم مقام المكافآت المنصوص عليها في قانون المعاشات، ويحسب هذا المعاش طبقا للقواعد المقررة في المادة السادسة عشرة من ذلك القانون كما عدلت فيما بعد ولكن بدون مراعاة لأحكام المادة العشرين التي تشترط خدمة خمس عشرة سنة يحسب عنها المعاش. وفي هذه الحالة يخفض في الملحق رقم 2 من القانون رقم 28 سنة 1923 عامل مدة الخدمة إلى 6. (4)
يسري حكم المادة 20 من القانون رقم 28 سنة 1923 على كل موظف أجنبي من موظفي الحكومة يكون في المعاش أو يحال في المستقبل إلى المعاش. ويقرر لذلك مدة معقولة للاختيار. (5)
يوضع قلم الموظفين الأجانب وموظفوه كما هو منظم الآن تحت المراقبة الإدارية للجنة تؤلف من المستشار المالي رئيسا ومن عضوين أحدهما أجنبي. (6)
تراعي الحكومة المصرية مراعاة تامة رأي المستشار المالي فيما يطرأ حتى أول إبريل سنة 1927 من الخلاف الجوهري بشأن شروط خدمة الموظفين الأجانب أو شروط إحالتهم على المعاش. (7)
يعترف باستقلال
Autonomie
المستشارين المالي والقضائي فيما يتعلق بمكتبيهما ضمن حدود القوانين واللوائح. (8)
تقبل الحكومة المصرية نص البند الثالث من المذكرة الثانية التي أرسلت إلى سلف دولتكم بتاريخ 22 نوفمبر الماضي.
وإني أغتنم هذه الفرصة لأجدد لدولتكم فائق احترامي.
القاهرة في 30 نوفمبر سنة 1924
الإمضاء: اللنبي فلد مارشال السامي
2
إلى حضرة صاحب الفخامة المندوب السامي البريطاني
يا صاحب الفخامة:
أتشرف بإحاطة فخامتكم علما بأني تسلمت المذكرة التي تكرمتم بإرسالها إلي في هذا اليوم، وذكرتم فيها المطالب الثمانية التي علقت حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية إخلاء جمرك الإسكندرية على قبول الحكومة المصرية لها.
وأتشرف بأن أخبر فخامتكم بأن مجلس الوزراء قد فوضني في إبلاغ فخامتكم أن الحكومة المصرية قبلت هذه الشروط بأكملها بدون قيد، مذعنة في ذلك إلى حكم الضرورة ومدفوعة بالرغبة الأكيدة في المسألة وحق التفاهم.
وتفضلوا يا صاحب الفخامة بقبول فائق احترامي.
القاهرة في 30 نوفمبر سنة 1922
رئيس مجلس الوزراء
الإمضاء: أحمد زيور
3
إلى حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا رئيس مجلس الوزراء
عزيزي الرئيس
رغبة في اجتناب كل تفسير يؤدي إلى تجاوز الغرض الذي ترمي إليه الفقرتان 6 و7 من مذكرة حضرة صاحب الفخامة المندوب السامي المؤرخة في هذا اليوم بشأن سلطة المستشارين المالي والقضائي، أتشرف بأن أعطي دولتكم الإيضاحات الآتية:
تأمل حكومة حضرة صاحب الجلالة أن تراعي الحكومة المصرية بتمام الاعتبار وبروح المودة، في علاقاتها ذات الصفة شبه السياسية مع هذين المستشارين، كل رأي يبديه أحد هذين الموظفين ضمن حدود اختصاصاته. وعلى أنه من المفهوم أن لا يكون لسلطتهما أي مساس بما على الوزارة من المسئولية الدستورية.
ومن البدهي أنه لا يجوز أن يترتب على هذه الإيضاحات ما يضر بالتحفظات ذات الصبغة السياسية والصبغة العامة التي سبق أن أبدتها حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية.
وتفضلوا يا عزيزي الرئيس بقبول مزيد التحيات.
القاهرة في 30 نوفمبر سنة 1924
الإمضاء «كلارك كار»
4
إلى جناب المستر كلارك كار المستشار بدار المندوب السامي
عزيزي المستر كار
تسلمت كتابكم المؤرخ 30 نوفمبر سنة 1924 الذي تكرمتم بأن أعطيتموني فيه التصريحات الآتية اجتنابا لكل تفسير يؤدي إلى تجاوز الغرض الذي ترمي إليه الفقرتان 6 و8 من مذكرة حضرة صاحب الفخامة المندوب السامي المؤرخة في ذات اليوم فيما يتعلق بسلطة المستشارين المالي والقضائي.
تأمل حكومة حضرة صاحب الجلالة أن تراعي الحكومة المصرية بتمام الاعتبار وبروح المودة، في علاقاتها ذات الصفة شبه السياسية مع هذين المستشارين كل رأي يبديه أحد هذين الموظفين ضمن حدود اختصاصاته. على أنه من المفهوم ألا يكون لسلطتهما أي مساس بما على الوزراء من المسئولية الدستورية.
ومن البدهي أنه لا يجوز أن يترتب على هذه الإيضاحات ما يضر بالتحفظات ذات الصبغة السياسية والصبغة العامة التي سبق أن أبدتها حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية. وقد أحطت علما بهذه الإيضاحات وأثبتها.
وتفضلوا يا عزيزي المستر كار بقبول مزيد التحيات.
القاهرة في أول ديسمبر سنة 1924
رئيس مجلس الوزراء
الإمضاء: أحمد زيور (13) القبض على الجناة في مقتل السردار
وقد ألقي القبض على عبد الفتاح عنايت الطالب بمدرسة الحقوق، وعبد الحميد عنايت الطالب بمدرسة المعلمين العليا، وإبراهيم موسى الخراط بالعنابر، ومحمود راشد أفندي المهندس بالتنظيم، وعلي إبراهيم محمد البراد بالعنابر، وراغب حسن النجار بمصلحة تلغراف الحكومة، وشفيق منصور أفندي المحامي، ومحمود أحمد إسماعيل الكاتب بوزارة الأوقاف، ومحمود صالح سواق سيارة أجرة؛ متهمين بالتآمر على قتل السردار. وأحيلوا إلى محكمة جنايات مصر برياسة أحمد عرفان باشا.
وقد صدر الحكم في الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد 7 يونية سنة 1925، وهو يقضي بإعدام المتهمين الثمانية وبحبس محمود صالح سائق السيارة التي فر فيها الجناة بعد ارتكاب الجريمة سنتين مع احتساب مدة الحبس الاحتياطي وكانت تزيد على ستة أشهر. وكان يمثل النيابة سعادة محمد طاهر نور باشا النائب العام يومئذ ووكيل الحقانية اليوم، وقد أبدلت الأشغال الشاقة المؤبدة من حكم الإعدام بمرسوم ملكي بالنسبة لعبد الفتاح عنايت، ولا يزال إلى اليوم في تنفيذ العقوبة، ورفضت محكمة النقض الطعن في الحكم.
هوامش
الفصل التاسع عشر
جمعية اللواء الأبيض
قلنا: إن حوادث مصر في سنة 1919 وما تلاها، وفي ضمن ذلك مفاوضات ملنر والخلاف بين الزعيم سعد والمغفور له عدلي يكن باشا سنة 1921 ومفاوضات كرزون، كان لها صدى في السودان، وبينا أسباب ذلك، وقد وجدت هذه الحوادث في بيئة الشبان الموظفين السودانيين نفوسا مستعدة لمشايعة الحركة الوطنية المصرية، والهتاف معها بحياة الملك فؤاد وسعد باشا والوفد والاستقلال التام لمصر والسودان.
على أنهم قد رأوا أن هذه المشايعة القلبية غير كافية؛ ومن ثم اتجهوا إلى تكوين هيئة ذات برنامج. وكان ذلك بتأليف جمعية اللواء الأبيض، التي ظهر نشاطها ووجودها مع نشاط مصر بتأليف الوزارة السعدية واجتماع البرلمان المصري سنة 1924 ودعوة وزارة العمال الإنكليزية الأولى سعدا للمفاوضة.
وقد أنشئت الجمعية. وتألفت الهيئة التنفيذية للجمعية برياسة الملازم أول علي عبد اللطيف وسكرتيريه المرحوم عبيد الحاج الأمين مترجم سابق بمصلحة السجون السودانية بالخرطوم، وعضوية صالح عبد القادر وحسن شريف وحسن صالح الموظفين يومئذ بمصلحة البوستة والتلغراف بالخرطوم.
ومن أعضاء آخرين منهم: المرحوم المهندس السوداني محمد سر الختم بالري المصري بالخرطوم، وعلي ملاسي ووهبة إبراهيم الموظفين بالبوسته والتلغراف، وعبيد صالح إدريس بالجمارك، والشيخ عمر دفع الله التاجر بأم درمان، ومحمد المهدي الخليفة نجل التعايشي، وعرفات محمد عبد الله، وعثمان محمد هاشم.
وهناك أعضاء سريون خفيت أسماؤهم، وكان أكثرهم من موظفي الحكومة السودانية. وقد وضعوا برنامجا لجمعيتهم، ويتلخص في المجاهرة بتأييد المصريين في موقفهم بطلب الاستقلال التام لمصر والسودان.
وأنشئت فروع للجمعية في بورسودان، والأبيض، وواد مدني وعواصم أخرى. وكان القصد من تأليف الجمعية وحركتها معارضة حركة أخرى ظهرت في السودان لتوقيع عرائض ضد المصريين وبطلب فصل السودان عن مصر. وقد جمعت الجمعية عرائض ثقة بتأييد المصريين، وأرسلت العرائض إلى القاهرة مع الملازم أول زين العابدين عبد التام ومحمد المهدي الخليفة. ولكن الحكومة قبضت عليهما في حلفا في أثناء سفرهما إلى القاهرة وأعادتهما إلى الخرطوم، أما العرائض فقد تمكنا من تسليمها إلى موظف مصري كان يرافقهما. وكان ذلك تأييدا لسعد باشا لمناسبة اقتراب مفاوضاته، وكان من مظاهر نشاط الجمعية احتجاجات في الجرائد المصرية والإنكليزية على الحكومة السودانية. وأنشئت فروع للجمعية في العطبرة وحلفا وبورسودان ومروى وواد مدني. وقد جهدت الحكومة السودانية عندئذ في منع هذه الحركة، فعمدت إلى نقل أعضائها، وهم من الموظفين بها إلى جهات بعيدا عن الخرطوم.
بعد ذلك أخذت الجمعية تجاهر بنشاطها، فوزعت منشورات ونظمت مظاهرات هتفت بحياة سعد باشا وبنداءات أخرى. فقبضت الحكومة على المتظاهرين وحاكمتهم، وأصدرت المحكمة الجنائية بالخرطوم أحكاما مختلفة منها سجن «علي عبد اللطيف» لمدة ثلاث سنوات بتهمة التحريض على المظاهرات وبسجن الآخرين لمدة ستة أشهر بتهمة التظاهر. وذلك في شهر يوليو سنة 1924.
وفي بورسودان حدثت مظاهرات وحكم على قائدي المظاهرة وهم: علي ملاسي، بالسجن لمدة ثلاث سنوات لإلقائه خطابا باللغة الهدندوية واللغة العربية، واتهم بالتحريض على المظاهرات والعصيان، وحكم بحبس كل من وهبة إبراهيم «من أقباط السودان» بمصلحة البوسته، ومحمد عبد المنعم زايد بالسكة الحديد، وأحمد صبري زايد بالجمارك، «وهما مصريان ولدا في السودان»، وعبيد صالح إدريس بالجمارك، وقبض على صالح عبد القادر وكيل جمعية اللواء الأبيض ببورسودان.
تنبهت الحكومة إلى حركة الجمعية ونشاطها، وبثت العيون والأرصاد لمنع استفحال أمرها. ومن ذلك القبض على أعضاء الجمعية البارزين وسجنهم ومحاكمتهم بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم. وذلك في شهر أغسطس سنة 1924. (1) عصيان من طلبة المدرسة الحربية بالخرطوم
كان عدد طلبة المدرسة الحربية السودانية بالخرطوم 60 طالبا، وكان قومندان المدرسة البكباشي بيز واليوزباشي حسن حسني الزيدي «مصري» - الآن قائمقام. - وقومندان الأورطة الثامنة - والمدرسون عبد الرحمن فهمي وإبراهيم شعبان، وهما مصريان، والملازم أول إبراهيم محمد حسن وهو ضابط «سوداني».
في الساعة السابعة صباحا يوم 9 أغسطس سنة 1924 خرج طلبة المدرسة في مظاهرة عسكرية مسلحة، وطافوا بثكنات الجيش المصري بالخرطوم، هاتفين بحياة الملك فؤاد وسعد باشا وعلي عبد اللطيف.
وعندما علمت الحكومة بأمر المظاهرة، صدرت الأوامر إلى الأورطة الإنكليزية المعسكرة في الخرطوم، بمحاصرة المدرسة والاستيلاء على الجبخانة.
فلما عاد الطلبة إلى المدرسة الساعة الحادية عشرة صباحا أمرهم اللواء مكاون باشا قومندان قسم الخرطوم بتسليم أسلحتهم. فأبوا تسليمها. وتوسط آباؤهم فحملوهم على تسليم السلاح. فسلموه وقبضت الحكومة على ستة طلبة اتهموا بقيادة المظاهرة والتحريض عليها، وأودعوا سجن ثكنات الجيش المصري، حيث كانت الأورطة الرابعة منه معسكرة بالخرطوم.
وقبض على سبعة من تلامذة الصفوف، وأودعوا سجن قسم الأشغال العسكرية بالخرطوم بحري. وصدرت الأوامر لبقية الطلبة بالعودة إلى دروسهم. ولكنهم لم يذعنوا. وشرطوا لعودتهم الإفراج عن زملائهم. ودخلوا بالمدرسة، ولكنهم استمروا مضربين عن تلقي دروسهم. وكانوا ينادون بهتافات مختلفة. واستمر الحال على هذا النحو عشرين يوما، ثم نقلوا إلى باخرتين نيليتين أمام كلية غوردون رستا في وسط النهر بعيدا عن الشاطئ تحت حراسة بولوك من الأورطة الثالثة المصرية حتى أواسط سبتمبر. ثم أودعوا السجن العمومي بالخرطوم بحري. وأفرج عن بعضهم بغير محاكمة، وحكم على الباقين كل بالسجن لمدة ست سنوات في يوم 11 نوفمبر سنة 1924. (2) الهياج في السجن في 24 نوفمبر سنة 1924
وفي 24 نوفمبر سنة 1924 حصل هياج في السجن؛ ذلك أن طلبة الحربية أودعوا سجن «كوبر» بالخرطوم مع المعتقلين السياسيين والعاديين. وقد طبقت عليهم لائحة السجون، ومنها إعطاؤهم طعام السجن وخبزه، فأضرب الطلبة عن ذلك الطعام، وطلبوا أن يقدم إليهم طعام مدرستهم كما كان الحال في أثناء اعتقالهم في السفن وقبل الحكم عليهم. فرفضت إدارة السجن طلبهم. وكانت الأغلال محكمة في أرجلهم وأرجل المعتقلين السياسيين. وقد حاولت إدارة السجن أن تضع الأغلال في أيدي الطلبة الحربيين علاوة على أرجلهم عقابا لهم على عدم إذعانهم للائحة السجن فهاجوا وتمردوا وكسروا الأبواب وهي من الخشب، بواسطة الجرادل الموضوعة في الزنزانات للشرب ولقضاء الحاجة، وكان ذلك صباحا عقب اغتيال السير لي ستاك بالقاهرة. فلما تسامع المعتقلون السياسيون الخبر وسمعوا الصياح فعلوا مثلهم وانضموا إليهم. وخرج الجميع هاتفين متظاهرين في ساحة السجن. فأغلق حراس السجن أبواب السجن الخارجية، وانتشروا في أعلى السور، وحضرت قوة من الجيش الإنكليزي حاصرت السجن وكسر المسجونون السلاسل والأغلال وورش السجن، واستولوا على أقمشة السجن واستعملوه في اللباس وفي غطاء الرأس وفي الالتحاف. والتجأوا في إعداد إطعامهم إلى مخزن علف البهائم، وصنعوا من ذرته بليلة كانت غذاءهم لمدة تسعة أيام.
وكان الطلبة المسجونون يتصلون بجنود الجيش المصري وضباطه الذين كانت ثكناتهم على مقربة من السجن، بواسطة إشارات الرايات العسكرية، وكانوا يعلمون أخبار المدينة بهذه الطريقة كما كان يعلم الجيش المصري أخبار المسجونين، وقد صادرت القوة الإنكليزية عربة كانت مرسلة من الضباط المصريين إلى المسجونين، وكانت تحمل إليهم صنوف الغذاء.
وقد يئس المسجونون عندما علموا بمقتل السردار، وأمر الجيش المصري بإخلاء مواقعه والعودة إلى مصر وتنفيذ الأمر، فأذعنوا وصاروا مكبلين بالأصفاد في أيديهم وأرجلهم، ثم نقل من بينهم عشرون مسجونا إلى ثكنات الجيش الإنكليزي بالخرطوم، وهم الذين عدوا زعماء للثائرين، الذين كان عددهم 80 مسجونا سياسيا مضافا إلى 58 من طلبة المدرسة الحربية و137 من المسجونين العاديين المحكوم عليهم بعقوبات لارتكابهم جنايات.
وكان تمرد الطلبة في السجن يوم 24 نوفمبر سنة 1924.
وحاصر البوليس السجن. وانضم المسجونون السياسيون الآخرون والمسجونون العاديون إلى الطلبة. وعلموا يوم أول ديسمبر سنة 1924 فقط بمقتل السردار وبالأمر الذي صدر بسحب الجيش المصري من السودان، وذلك عندما شاهدوا الجنود المصرية تركب القطار إلى مصر وتخلي المواقع. وقد حاصر الجيش الإنكليزي السجن.
وفي فبراير حوكم المتهمون في حادثة السجن، واتهموا بمحاولة قلب النظام المقرر شرعا. وحكم عليهم بعقوبات مختلفة أقلها السجن لمدة تسعة أشهر مع الأشغال الشاقة كنقل المواد البرازية والأتربة.
هدأت الحالة في السودان عقب ذلك، وأخذت الحكومة السودانية تفرج عن المسجونين قبل انتهاء المدد في مناسبات.
وحوكموا على تمردهم داخل السجن، وصدرت الأحكام عليهم في 30 فبراير سنة 1925 بسجن محمد المهدي خليفة 7 سنوات وعبيد الحاج الأمين بست سنوات، وبسجن ستة آخرين بينهم ثلاث طلبة لمدة خمس سنوات، وتراوحت الأحكام الأخرى بين 3 سنوات و9 شهور. (3) قضية المؤامرة الكبرى (3-1) محاكمة أعضاء اللواء الأبيض والمتظاهرين
حوكم أعضاء جمعية اللواء الأبيض وآخرون بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم، وحكم بسجن علي عبد اللطيف لمدة سبع سنوات مضافة إلى ثلاث سنوات سبق الحكم بها عليه في يوليو سنة 1924، وبقية الأعضاء بين الحبس لمدة ثلاث سنوات وستة شهور ، بينهم خمسة مصريون، حكم بحبس أحدهم - أحمد أمين مترجم الأورطة التاسعة السودانية - لمدة سبع سنوات، وبحبس أحمد المليجي وحامد عوضين سعفان وأحمد المنياوي وأحمد نجيب بمدد أخرى. وقد قضى أحمد أمين خمس سنوات في سجن الخرطوم بحري. وأما الباقون فأبعدوا إلى مصر عقب الحكم عليهم بنحو شهر. وأكثرهم الآن موظفون بالحكومة المصرية. (3-2) مظاهرات الأورط السودانية
قامت الأورطة السودانية الثانية عشرة المعسكرة في ملاكال في 21 سبتمبر سنة 1924 بمظاهرة سلمية غير مسلحة، وهتفت بحياة الملك فؤاد وسعد باشا، وبسقوط الظلم، فنقلت ونقل من الملاكال أربعة ضباط، وهم الملازمون الثانون علي البنا، ومحمود الثدي «سودانيان»، وعزيز حيدر، وعبد العزيز شريف، وهما «مصريان».
وفي 15 ديسمبر حدث في الأورطة الثالثة عشرة السودانية في «واو» أن احتج الضباط السودانيون والمصريون بالأورطة على عدم إقامة العلم المصري الأخضر الجديد بدلا من العلم الأحمر السابق. فنقل هؤلاء الضباط إلى جهات مختلفة في السودان ومصر، وأنزل أحمد فوزي من ملازم أول إلى ملازم ثان، ووبخ محمود رأفت. (4) الأورطة العاشرة السودانية في ثالودي (النوبة)
صدرت الأوامر للضباط المصريين في الأورطة العاشرة السودانية بالسفر إلى مصر في 24 نوفمبر سنة 1924 وبتسليم السلاح. فأبوا تسليمه وعصت الأورطة أوامر الضباط الإنكليز. ورافق الضباط السودانيون الضباط المصريين في سفرهم إلى مصر. ولكن أعيد السودانيون عند أسوان إلى السودان.
وظل الموقف حرجا بين 24 نوفمبر حتى 28 نوفمبر، حيث وصلت جنود سودانية من الأبيض فاحتلت المعسكر، وسافر الضباط المصريون إلى مصر. (5) الأورطة الحادية عشرة
منذ شهر يوليو سنة 1924 ندب كثير من الضباط السودانيين من أورطهم للخدمة في الخرطوم وأم درمان. وعند صدور الأمر للجيش المصري بالانسحاب من السودان، أظهر الضباط السودانيون رغبتهم في مرافقة المصريين في سفرهم إلى مصر. واجتمع جنود سودانيون مع ضباطهم السودانيين، وهم المرحوم الملازم أول سليمان محمد والمرحوم الملازم الأول عبد الفضيل ألماظ، والملازم الثاني المرحوم حسن فضل المولى، والملازم الثاني علي البنا، والمرحوم الملازم الثاني ثابت عبد الرحيم، والملازم السيد فرح وكانوا بلوكا، أي 120 جنديا وستة ضباط، وفي أثناء مسيرهم في شارع غوردون ومعهم سلاحهم للانضمام إلى الجيش المصري بالخرطوم بحري، تصدى لهم الجيش الإنكليزي عند المستشفى العسكري بشارع غوردون بالقرب من كوبري النيل الأزرق. وأمر قومندان قسم الخرطوم الجنود بالعودة. فلم يذعنوا. فأطلق الجيش الإنكليزي الرصاص على الجنود السودانيين للتهديد. فرد البلوك السوداني. وبقيت الحركة 24 ساعة. ومات الضابط عبد الفضيل ألماظ. وهرب بعض الجنود إلى بلادهم بجبال النوبة. وقبض على الآخرين وأفرج عنهم. أما الباقي فحكم على خمسة منهم وهم: سليمان محمد، وحسن فضل المولى، وثابت عبد الرحيم، وعلي البنا بالإعدام، نفذ الحكم على الثلاثة الأولين، واستبدل الحكم بالنسبة لعلي البنا بالسجن 15 سنة.
واختفى الضابط السيد فرح، وأفرج عن حضرة علي البنا أفندي، ووصل في هذا العام إلى القاهرة، وقد تقرر تعيينه في وظيفة كتابية في مصلحة الأملاك الأميرية بمصر بعد سجنه لمدة عشر سنوات، قضى منها خمسة في سجن الخرطوم، وخمسة في سجن واو، وكان بسجن واو علي عبد اللطيف وعبيد الحاج الأمين، الذي توفي في 5 يوليو سنة 1932 متأثرا بالحمى السوداء، ومحمد المهدي خليفة أفرج عنه سنة 1935، ومحمد عيد النجيت قضى سنة ونصفا في واو، وأفرج عنه سنة 1931، أما علي عبد اللطيف فقد مرض بقواه العقلية وهو الآن في سجن المجاذيب. (6) جمعية الاتحاد السوداني
أنشئت في أغسطس سنة 1924 جمعية الاتحاد السوداني برياسة أحمد أمين المصري المترجم وأعضاء من الضباط السودانيين بالمعاشات والخدمة، ومحمد أحمد راشد مترجم «مصري»، كان يطبع المنشورات. وتألفت هذه الجمعية بعد القبض على جمعية اللواء الأبيض. وقد حكم على أحمد أمين بالحبس سبع سنوات، وبسجن محمد أحمد راشد لمدة سنتين، وقد أفرج عنه بعد شهرين.
ولقد وجه مستر لالسبوري، العضو في البرلمان الإنكليزي، إلى وزير الخارجية البريطانية في مجلس النواب البريطاني السؤال الآتي يوم 18 مارس سنة 1925:
كم عدد الأشخاص الذين اعتقلتهم السلطة البريطانية في السودان في الأشهر الستة الماضية بتهم سياسية؟ وكم عدد الذين أخرجوا من السودان، وما هي التهم التي اتهموا بها؟ وهل من بينهم موظفون في الحكومة؟ وهل يريد الوزير أن ينشر أسماء الموظفين الذين أبعدوا والذين اعتقلوا ونوع التهم الموجهة إليهم؟
فأجابه مستر تشمبرلن وزير الخارجية بما يلي:
قبض على أربعة وتسعين شخصا بتهم تعاقب عليها قوانين السودان منذ وقعت اضطرابات شهر أغسطس الماضي «أي في سنة 1924». وكانت للتهم علاقة بهذه الاضطرابات. وأعيد إلى مصر، في المدة ذاتها، مائة وخمسة وعشرون شخصا كانوا حميعهم تقريبا موظفين في حكومة السودان. وسبب إعادتهم هو أن وجودهم في السودان كان خطرا على الراحة العامة. وقد سويت علاقاتهم وفاقا لشروط خدمتهم فنالوا ما يستحقونه من المعاشات أو المكافآت، كما كانوا قد انقطعوا عن العمل بسبب المرض، ولكنهم لو حكم عليهم في محكمة تأديب أو محكمة نظامية لما نالوا شيئا.
وليس لدي المعلومات المطلوبة في القسم الأخير من السؤال.
الفصل العشرون
الجيش المصري
(1) في عهد محمد علي
لم تعرف مصر في عهدها الحديث جيشا نظاميا يحمل اسم مصر إلا منذ عناية محمد علي الكبير بتأليف جيش مصري منظم تنظيما جديدا. وقد أخذ يسعى لذلك منذ سنة 1820، وكان جيش محمد علي قبل ذلك «باشبوزق» أي جنودا غير نظاميين. وقد حاول محمد علي قبل سنة 1820 تدريب جيش منظم فلم يفلح؛ لأن الجنود تمردوا.
ولقد كان بالجيش المصري أرناؤود وأتراك، وكان الضباط منهم ومن الجراكسة، وكان المنظمون فرنسيين. أنشأ محمد علي المدرسة الحربية الأولى في أسوان سنة 1820، وجعل الكولونيل سيف
1
مديرا لها، وأرسل إليه مماليك، وبلغ عدد التلاميذ ألفا دربهم فصاروا بعد ثلاث سنوات ضباطا نظاميين بعد أن حاولوا التمرد في أثناء تعليمهم. واتجه محمد علي إلى تجنيد السودانيين، ففتح السودان ودرب عشرين منهم في بني عدي «المعروفة الآن باسم بني عديات - مركز منفلوط - وهي بلد المؤلف» - فدربوا هناك ولم تنجح التجربة مع السودانيين، فقد أصابهم الموتان لعدم موافقة الجو لهم. فاتجه محمد علي إلى تجنيد المصريين. وتألفت سنة 1823 الأورط الست الأولى، وكان الضباط المماليك المتخرجون من مدرسة أسوان ضباطا لها. ثم أنشأ معسكرا عاما في الخانكة كان به حوالي 25 ألفا من الجنود النظاميين، وأنشئ المستشفى العسكري في أبي زعبل، ثم مدرسة الطب ثم المدرسة الحربية للمشاة. وأنشئت سنة 1825 مدرسة إعدادية للتعليم الحربي بقصر العيني وطلبتها 500 يلتحقون بعد تخرجهم بالمدارس الحربية والبحرية: ومدرسة المشاة بالخانكة ثم بدمياط ثم في أبي زعبل، ومدرسة الفرسان بالجيزة، ومدرسة المدفعية بطرة، ومدرسة أركان الحرب بالخانكة، ومدرسة الموسيقى العسكرية، والمدرسة البحرية بالإسكندرية، ومصانع الأسلحة والمدافع بالقلعة. ومعمل صب المدافع بمصانع الترسانة. ومخازن البارود والقنابل في سفح المقطم. وأنشأ بالحوض المرصود بالقاهرة معمل البنادق سنة 1831 لصنع البنادق، ومعمل البارود في المقياس بالروضة. وأصبحت معامل البارود ستة في القاهرة، والبدرشين، والأشمونين، والفيوم، وأهناس، والطرانة.
وكانت ملابس الجنود بسيطة تتألف من الطربوش الأحمر، وصدار، وبنطلون «سروال واسع يشد بتكة عند الوسط، ويربط على الركبة برباط الساق «القلشين»، ويتمنطق الجنود على خواصرهم بحزام، وملابس الشتاء من الجوخ. وفي الصيف من القطن السميك. ويلبس الفرسان والطوبجية والحرس صدارا أزرق وغيرهم صدارا أحمر. أما ملابس الصيف لأسلحة الجيش كلها فهي بيضاء، ويلبسون «مراكيب» ولا يختلف لباس الضباط عن لباس الجنود إلا في نوع الجوخ والتطريز واللون الأحمر، وكان الجندي يتناول 15 قرشا في الشهر، والأنباشي 25، والجاويش 30، والباشجاويش 40، والصول 60، والملازم الثاني 250، والملازم الأول 350 قرشا، واليوزباشي 500، والصاغ 1200، والبكباشي 2500، والقائمقام 3000، والميرالاي 7000، والمير لواء 11000 قرشا، والمير ميران 12500.
وأنشأ محمد علي ديوان الجهادية «وزارة الحربية»، وكان نظام الجيش المصري وفق نظام الجيش الفرنسي، وأنشأ الطوابي والحصون الكثيرة . وبلغ الجيش في أول حكم محمد علي عشرين ألفا «غير نظاميين». وفي سنة 1833 بلغ 194032 منهم 25143 بحريين بحسب ما ورد في كتاب البارون بوالكونت
2
و159300 بحسب إحصاء مسيو مانجان.
وبلغ عدد الجيش في سنة 1839 - 235880 من جنود نظامية وغيرها وطلبة وعمال ملحقين بالجيش - وقد ورد هذا الإحصاء في كتاب الدكتور كلوت بك «لمحة عامة إلى مصر». كان من ذلك في السودان 11560.
واهتم محمد علي بالأسطول منذ سنة 1810. وقد أحصى مانجان قطعه فبلغت 28 سفينة حربية منها 10 بوارج كبيرة و6 فرقاطات وأربع سفن كورفيت وأربع «إبريق» وأربع أخرى، وأحصى كلوت بك العدد سنة 1840 فبلغ 32 قطعة، وذكر إسماعيل سرهنك باشا في كتابه إحصاء سنة 1843. فبلغ العدد 36 قطعة. (2) الجيش في عهد إسماعيل
بلغ عدده 89088 حسب إحصاء سرهنك باشا في كتابه يضاف إليه 30 ألفا في السودان. (3) في عهد توفيق
ثم قيدت الحكومة العثمانية عدد الجيش بعد عهد إسماعيل بمقدار 18 ألف جندي، وقامت الثورة العرابية احتجاجا على معاملة الضباط الشراكسة، وألغى الإنكليز جيش عرابي، ثم أنشئ جيش جديد، وقد أرسلت فلول جيش عرابي مع حملة هكس. (4) بعد الاحتلال الإنكليزي
ودرب الجيش المصري من جديد في عهد الاحتلال بقيادة جرانفيل باشا وكتشنر باشا ثم ونجت باشا. (5) الضباط السودانيون
رقى اللورد كتشنر الممتازين من الجنود السودانيين الشبان بالجيش المصري ضباطا بعد استعادة السودان، ثم أدخل أبناء الجنود الممتازين المتقدمين في السن المدرسة الحربية بالعباسية، ثم أنشئت المدرسة الحربية بالخرطوم في مايو سنة 1905، وتخرج منها ضباط سودانيون، وأغلقت سنة 1924 بسبب حوادث تلك السنة.
أما الآن فيرقى الضباط من تحت السلاح في قوة الدفاع عن السودان. وفي هذا العام رئي اختيار بعض خريجي كلية غوردون؛ ليتعلموا الفنون العسكرية لمدة سنتين ونصف في فرق قوة الدفاع كجنود ثم يرقون إلى رتبة الملازم الثاني.
وقد أنشئت كلية غوردون سنة 1903، وأنشئت بعدها المدرسة الحربية في السودان سنة 1905، وكان التعليم فيها مجانيا مع دفع مرتبات للطلبة، وكان الغرض من إنشائها تخريج ضباط سودانيين يعينون في الأورط السودانية التي تؤلف جزءا من الجيش المصري، الذي كانت الحكومة المصرية تدفع مرتباته ونفقاته لكل من كانوا به من ضباط إنكليز ومصريين وسودانيين، وجنود مصرية وسودانية.
وقبل إنشاء المدرسة الحربية، ألحق كتشنر باشا بعض الطلبة السودانيين بالمدرسة الحربية بالقاهرة، وبتخرجهم منها، وبتخرج زملائهم من بعدهم في المدرسة الحربية السودانية بالخرطوم أخذ عدد الضباط السودانيين في الأورط السودانية في الازدياد حتى أصبح أكثر ضباطها من السودانيين تقريبا وقوادها من الإنكليز وباقي الضباط بين مصريين وبريطانيين.
ومما هو جدير بالذكر أن جنود الأورط السودانية كانت لا تستطيع الحياة العسكرية بغير وجود نسائهم معهم، ولذلك كان بجانب معسكر الجنود السودانيين يقوم معسكر لنسائهم. وتعين فيه قوموندانة هي زوجة لقوموندان معسكر الرجال، ويأخذن تعيينا كما يأخذ الجيش نفسه، وهن يتبعن رجالهن في المعارك، ويحضرن الطعام لهم ويزغردن احتفاء بهم، ويمتزن بالشجاعة، ويتباهين بالأبطال الشجعان من أزواجهن، ويحتقرن الأزواج الجبناء. (6) حادث سحب الجيش المصري
كانت الأورط المصرية في سنة 1924 ترابط بين حلفا والخرطوم وكسلا، بينما كانت الأورط السودانية تعسكر في أعالي النيل وعند بحر الغزال وسنار ومنجلا.
وكان للجيش المصري بالخرطوم أورطتان من البيادة، وهما الرابعة وقومندانها القائمقام محمد يحيى بك «باشا»، والأورطة الثالثة بالخرطوم بحري وقومندانها القائمقام عثمان صدقي بك، والطوبجية وهي مؤلفة من أربع بطاريات، وضباطها مصريون، وقائدها الميرالاي أحمد رفعت بك، ومن قسم الأشغال العسكرية وعدد جنوده حوالي 900.
وكان توزيع الجيش المصري بما فيه من الأورط السودانية كما يلي:
في الخرطوم: الأورطة الرابعة المصرية، وقسم الأشغال العسكرية، والحملة القبلية «مصرية وسودانية»، وهي مؤلفة من 4 بلوكات. وموسيقى البيادة السودانية، والمدرسة الحربية ومدرسة ضرب النار «سودانية مصرية» بها ضابطان بريطانيان وضابطان مصريان وضابطان سودانيان، والقسم الطبي والقسم البيطري ومدرسة الإشارة.
في الخرطوم بحري: الأورطة الثالثة المصرية. والحملة الميكانيكية. والطوبجية المصرية مؤلفة من 4 بطاريات وبلوكين محافظة وقسم الأسلحة والمهمات، وقسم الأشغال والأورطة 12 سودانية بالملاكال، و13 سودانية في واو، و11 و14 سودانية في واد مدني، و10 سودانية في تالودي. وفرقة العرب الشرقية سودانية ومركزها القضارف. والطوبجية المصرية في كسلا. والهجانة السودانية في الأبيض، وفرقة العرب الغربية ، ومعها طوبجية سودانية ضباطها مصريون في الفاشر. وفرقة خط الاستواء في منجلا والبيادة الراكبة والسواري السودانية في شندي.
وكان اليمين الذي حلفه الضباط المصريون والسودانيون بالولاء لملك مصر، بينما كان الضباط البريطانيون يحلفون للملك جورج.
وكان في مصر سبع أورط مصرية، وفي السودان عدا الأورطتين المصريتين ست أورط سودانية - اثنتان في أم درمان وواحدة بالملاكال - وواحدة بواد مدني وواحدة في تالودي «النوبة» وواحدة في واو كما تقدم.
وقد وصلت أوامر المندوب السامي البريطاني «اللورد اللنبي» إلى الخرطوم في 23 نوفمبر سنة 1924 بوجوب إخلائها من الأورط المصرية وعودتها إلى مصر.
وقد حدد يوم 24 نوفمبر سنة 1924 لجلاء الجيش المصري عن السودان.
وقد نيط بالحامية البريطانية بالخرطوم والأورط السودانية بأم درمان التي كان عليها ضباط بريطانيون وسودانيون تنفيذ هذا الأمر.
ولكن الضباط السودانيون لم يقبلوا تنفيذ المهمة.
وقال الضباط المصريون بالخرطوم: «لا ننزل من السودان إلى مصر إلا بأمر من ملك مصر، الذي هو الرئيس الأعلى للجيش المصري، والذي حلفنا له يمين الطاعة؛ ولذا نرفض الانسحاب ما لم يصل إلينا أمر الانسحاب من الحكومة المصرية نفسها.»
وكان الموقف دقيقا، وكان وزير الحربية صادق يحيى باشا، فندب المرحوم الميرالاي محمد أمين هيمن
3
بك فسافر على طائرة إنكليزية من القاهرة إلى الخرطوم يحمل إلى الجيش أمرا بالعودة.
فوصل ومعه الأمر في منتصف ليلة 27 نوفمبر، واستقل الجيش القطار في صباح يوم أول ديسمبر سنة 1924 وعاد إلى مصر. (7) الجنود السودانية تؤازر الجيش
وكان في الخرطوم في الوقت نفسه نحو بولك من الأورط السودانية. فتجمع جنوده ورجاله وتظاهروا واقتحموا المخازن وأخذوا البيارق، وقابلهم محافظ الخرطوم، وأعلنوا لديه انضمامهم إلى الأورطة الثالثة المصرية. ولم يلبوا دعوته إلى السكينة وقد التقوا في مسيرهم بنطاق من الجنود البريطانية.
وكان الجنرال هدلستون نائبا للسردار فأنذرهم بأن يعودوا وأن ينفضوا، فرفضوا، فأمر بإطلاق النار عليهم، فردوا على القوة عند الاسبتالية العسكرية، وقتلوا بعض الجنود الإنكليزية، وتحصنوا في الاسبتالية، ثم أخذوا يهربون منها ليلا.
وقد حاولت جماعات من الأورط السودانية اقتحام الكوردون فلم تفلح.
وقد قبلت الأورطة الرابعة المصرية في 24 و25 نوفمبر - وكانت معسكرة بالخرطوم نفسها - السفر إلى مصر عن طريق بورسودان، وسافرت فعلا من غير مقاومة أو معارضة.
أما الأورطة الثالثة والطوبجية بالخرطوم فقد أبت الإذعان لأمر نائب الحاكم العام للسودان. حتى وصل إليها الأمر المشار إليه، فسافرت صباح يوم أول ديسمبر سنة 1924 من الخرطوم بالسكة الحديد.
كان من نتيجة ذلك كله: (1)
خروج الجيش المصري كله من السودان وعدم عودته إلى الآن. (2)
إغلاق المدرسة الحربية السودانية بالخرطوم. (3)
حل الأورط السودانية التي تقدم الكلام عليها وإحالة الضباط السودانيين إلى المعاش. (4)
تأليف قوة الدفاع. (7-1) الأورط السودانية
تألفت في الجيش المصري بقيادة كتشنر باشا الأورط السودانية، هي الأورط 9 و10 و11 و12 و13 و14. وكانت كثرتهم في بداية الأمر من العبيد «الشلوك والدنكا » جندهم اللورد كتشنر، وكانوا من الدراويش، وكان منهم جنود في مصر، وكان واجبا أن يكون الضابط الوطني في خط الاستواء زنجيا، وفي فرقة العرب الشرقية مصريا أو سودانيا عربيا. أما في فرقة العرب الغربية فلا شرط.
وكان مجموع ضباط الجيش 763 ضابطا و17609 جنود عند فتح السودان. (8) الخدمة السرية
الخدمة السرية هو فرع من فروع الاستخبارات عند الحكومات جميعا من أجل جيوشها وأساطيلها. ومهمته جمع المعلومات المفيدة للدولة. وقد يستخدم مكتب الخدمة السرية الجواسيس والرجال والنساء والغلمان، للوقوف على الاختراعات الحربية الجديدة، أو أسرار العدو، والوثائق والرسوم والخارطات وبيانات عن الجيوش والذخائر والحصون والمعاقل، ويحتمل موظفو المكتب عناء ويتعرضون لأخطار ومفاجآت.
ويوجد مكتب آخر مهمته مقاومة التجسس الذي ينظمه العدو في دواوين الحكومة وفي مراكز الجيش والبوليس والأندية والفنادق والثكنات. (9) إدارة الاستخبارات الحربية
مهمتها الوقوف على نيات العدو، وأخباره، ومواقعه، ونظمه، وعدد قواته وأسلحته، وموارده، وأخلاق قواده وضباطه وجنوده، وروح جيش العدو المعنوية.
قال فردريك الكبير ملك بروسيا: «إذا تمكنا دائما من الوقوف على خطط العدو قبل شروعه في تنفيذها فإننا نتفوق عليه ولو كان أقوى منا.» وقال المارشال فون درغولتز: «أليس لدى الإنسان دليل أقرب إلى العقل، يهتدي به عند إصدار قراراته في الشؤون الحربية من أعمال العدو المزمعة وإجراءاته المحتمل وقوعها.»
وتؤخذ المعلومات لإدارة الاستخبارات من مطبوعات الحكومة وجرائدها الرسمية متضمنة إحصاءات وقرارات وقوانين وكتب الفنيين العسكريين والمؤلفات الأهلية وأخبار الصحف. ومعلومات الجواسيس. والعادة أن الحكومات - وخاصة وزارات الحربية - تعد خططا حربية وتضع لها خرطا. ويعمل الجواسيس للحصول على هذه الخرط بأي ثمن ولو كانت الحياة نفسها.
وتجمع هذه المعلومات في زمني السلم والحرب. ومن القواعد المتبعة في الحرب جمع المعلومات من فرق الاستطلاع والطائرات وأهالي البلاد والفارين والأسرى، وبالمراصد والتصوير، وبالوقوف على طبوغرافية الأرض وبمعرفة طبيعتها، وسهولها وحزونها.
وكان الإمبراطور نابليون يعتمد على ضابط واحد هو الكولونيل ماكليه دالب، وكان رجلا مدهشا يستطيع أن يعرف أرقام وحدات العدو وأماكنها وقوادها.
وكان قلم مخابرات الجيش المصري مندمجا مع وكالة السودان ثم انفصل عنه، وأنشئ قلم مخابرات خاص للحكومة السودانية في الخرطوم، ثم جعل في محله إدارة للأمن العام. (10) الجيش المصري بعد انسحابه
أصبح الجيش المصري بعد سحبه من السودان وبعد إلغاء الأورط السودانية يتألف من 550 ضابطا و11800 عسكري تقريبا، وتجند العساكر من رعايا الحكومة المنصوص عنهم في الأمر العالي الصادر في 5 نوفمبر سنة 1902 الذين يبلغون من العمر ما بين 19 و27 سنة اللائقين للخدمة العسكرية، إلا إذا صار إعفاؤهم منها بسبب من الأسباب الموضحة في الأمر العالي المذكور ملخصه فيما بعد: (أ)
يعفى من الجندية مستخدمو الحكومة الداخلون في هيئة العمال وبعض مستخدمين مخصوصين من مستخدمي الحكومة الآخرين، وأولاد الضباط وأولاد العمد والمشايخ الموظفين وكذلك المنفصلين عن الخدمة بشرط أن يكونوا خدموا عشر سنوات ولم يرفتوا تأديبيا أو لجريمة ارتكبوها.
إخوة الضباط الموجودين بالخدمة بالجيش أو بالاستيداع (مادة 44 من قانون القرعة العسكرية). (ب)
الأبناء الوحيدون، أكبر أبناء الأب الميت، أكبر أبناء الأب العاجز عن اكتساب معيشته أو البالغ سن الستين، أكبر الأبناء للأم الأرملة أو التي طلقت ولم تتزوج، بشرط ألا يكون لها أب أو أخ أو شقيق يستطيع القيام بمعيشتها.
وكل شخص يقضي عليه قانون الأحوال الشخصية الخاضع له أن يساعد في نفقة واحد أو أكثر من أجداده.
الأخ التالي لأخيه المجند بالاقتراع أو التالي لأكبر الأبناء غير القادر على التكسب نيابة عن والده المتوفى أو غير القادر على التكسب لنفسه.
الطلبة في جميع المعاهد الدينية وبعض المدارس الصناعية. (ج)
بعض الموظفين الدينيين بما فيهم العلماء والمشايخ والأئمة والفقهاء والقسس إلخ.
ويحق لكل شخص أن يعفى من ملزوميته بالخدمة العسكرية في نظير دفعه بدلا نقديا بحسب الفئات المبينة بعد: (أ)
عشرين جنيها مصريا في أي وقت قبل اقتراعه أو إذا كان معافى وزال سبب إعفائه، وذلك خلال ثلاثة أشهر من تاريخ زوال الإعفاء. (ب)
أربعين جنيها مصريا لمن يحضر أو يندب أحدا عنه للحضور أمام مجلس الاقتراع، وذلك في أي وقت بعد إدراج اسمه في كشوف الاقتراع وقبل فرزه طبيا. (ج)
مائة جنيه لمن يكشف عليه طبيا، وذلك في أي وقت بعد الكشف الطبي وقبل التجنيد.
كشف عن بيان أنواع علامات الوحدات المختلفة بالجيش المصري
الوحدة أو السلاح
الاسم
العلامات
مركز رياسة الجيش
مركز رياسة الجيش
علامة أركان حرب من جوخ أحمر على طرفي ياقة السترة وعلامة ذراع للضباط
قسم القاهرة
قسم القاهرة
ق. ق على الكتف للعساكر
اللواء البيادة الأول
اللواء البيادة الأول
ل1 على الكتف للعساكر
اللواء البيادة الثاني
اللواء البيادة الثاني
ل2 على الكتف للعساكر
اللواء البيادة الثالث
اللواء البيادة الثالث
ل3 على الكتف للعساكر
السواري
السواري:
أورطة سواري عدد 2
أورطة سواري
س على الكتف
الطوبجية
الطوبجية:
بطارية (بغالي) عدد 4
بطارية (بغالي)
ط على الكتف
بلوك المحافظة عدد 1
بلوك المحافظة
بطارية سيارات مدفع الماكينة عدد 1
بطارية سيارات مدفع الماكينة
الأورط البيادة:
البيادة (11 أورطة)
الأولى
رقم الأورطة على الكتف
الثانية
الثالثة
الرابعة
الخامسة
السادسة
السابعة
الثامنة
التاسعة
العاشرة
الحادية عشرة
الطيران الحربي
الطيارون
أجنحة أخضر وذهبي على الصدر الشمال
العساكر
أجنحة أخضر وأصفر على الأكتاف (تابع) كشف عن بيان أنواع علامات الوحدات المختلفة بالجيش المصري
الوحدة أو السلاح
الاسم
العلاقات
الموسيقات
الموسيقات:
البيادة المصرية
البيادة المصرية
هارب على الذراع
إدارة السجن
إدارة السجن
س. ح على الكتف
إدارة الأشغال العسكرية
إدارة الأشغال العسكرية
م. ع على الكتف
بلوك المهندسين
بلوك المهندسين
م. ع على الكتف
مصلحة التعيينات
مصلحة التعيينات
ثلاث وردات نحاس أصفر متصلة بساق منحن على الكتف
الحملة الميكانيكية
الحملة الميكانيكية
ح.م على الكتف
القسم البيطري
القسم البيطري
حدوة على الذراع
مصلحة الأسلحة والمهمات
مصلحة الأسلحة والمهمات
أ.م على الكتف
القسم الطبي
القسم الطبي
قمرة ونجمة على الذراع
إدارة القرعة العسكرية
إدارة القرعة العسكرية
ق على الكتف
المدرسة الحربية بالقاهرة
المدرسة الحربية بالقاهرة
أسبلايط مجدولة قصب للصف ضباط وحمراء لسائر الطلبة على الكتف
وللجيش مفتش عام هو الفريق سبنكس باشا، ومعه مساعد اللواء فوربس باشا، والمفتش هو القائد العام الفعلي، وجلالة الملك هو القائد الأعلى - وكان للجيش سردار ألغي منصبه بعد سحب الجيش من السودان. وكان قواد الآورط المصرية ضباطا بريطانيين يندبون من الجيش الإنكليزي أو الهندي حتى سنة 1922؛ إذ أعلن الاستقلال فأصبحوا مصريين وفي كل أورطة سودانية 4 بريطانيين برتبة البكباشي عدا القائد، وكان عدد جنود الأورطة المصرية 800 والسودانية 850، وبلغ عدد الضباط والجنود السودانيين من جميع الأسلحة 14500 في سنة 1924، وبلغ المصريون 9300. ومراكز الجيش المصري الآن في مصر كما يلي: أسوان. منقباد «أسيوط». العباسية والمعادي «القاهرة». الدخيلة «الإسكندرية». السلوم. العريش. (10-1) العلم المصري
العلم الأهلي المصري يتألف من هلال وثلاث نجوم بيضاء على أرضية خضراء وطرفا الهلال تتجهان للجهة التي ليس بها العمود.
أما البيارق لجميع أفرع الجيش فتكون من صوف أخضر بهلال وثلاث نجوم بيضاء في وسط البيرق وسيفين متقاطعين من لون أبيض في الزاوية العليا اليسرى.
الرتب في الجيش المصري
الرتبة المصرية
الرتبة الإنكليزية التي تعادلها
علامات الرتب
مشير
فيلد مارشال
تاج ونجمتان وسيف وعصا متقاطعان
سردار
كومندر إن شيف
تاج ونجمة وسيف وعصا متقاطعان
فريق
لفتننت جنرال
تاج وسيف وعصا متقاطعان
لوا
ميجر جنرال (أو) بريجادير جنرال
نجمة وسيف وعصا متقاطعان
ميرالاي
كولونل
تاج وثلاث نجوم
قائمقام
لفتننت كولونل
تاج ونجمتان
بكباشي
ميجر
تاج ونجمة
صاغقول أغاسي
أدجو تانت ميجر *
تاج
يوزباشي
كابتن
ثلاث نجوم
ملازم أول
لفتننت
نجمتان
ملازم ثان
سكند لفتننت
نجمة واحدة
صول تعليم
سرجنت ميجر
أربعة شرائط معكوسة فوقها تاج على الذراع الأيمن من أسفل
صول تعيين
كوارتر ماستر سرجنت
أربعة شرائط معكوسة فوقها نجمة على الذراع اليمنى من أسفل
باشجاويش
كومبني سرجنت ميجر
أربعة شرائط فوقها تاج على القسم العلوي من الذراع اليمنى وبعض الأحيان على الذراعين
بلوك أمين
كومبي كوارتر ماستر سرجنت
ثلاثة شرائط فوقها نجمة على القسم العلوي من الذراع اليمنى وأحيانا على الذراعين
جاويش
سرجنت
ثلاثة شرائط على القسم العلوي من الذراع اليمنى
وكيل جاويش
لنس سرجنت
ثلاثة شرائط على القسم العلوي من الذراع اليمنى
أونباشي
كوربورال
شريطان على القسم العلوي من الذراع اليمنى
وكيل بلوك أمين
لنس كوربورال كلرك
شريط واحد فوقه نجمة على القسم العلوي من الذراع اليمنى وأحيانا على الذراعين
وكيل أونباشي
لنس كوربورال
شريط واحد على القسم العلوي من الذراع اليمنى
نفر
برايفت
لا شيء
برجي
ترميتر
بوري
ترومبيتجي
درامر
طبلة
بلطة جي
بايونير
بلطتان متقاطعتان *
لا توجد رتبة بالجيش الإنكليزي تعادل هذه. (11) قوة الدفاع عن السودان
منذ فتح السودان وبعد استعادته كان الجيش المصري منوطا به حفظ النظام في السودان، وكانت الحكومة المصرية تجند أفرادا من الزنوج أو العبيد وتضمهم إلى قوات الجيش المصري.
وبعد فتح السودان كان في الجيش المصري أورط سودانية هي الأورط التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة كما تقدم وكان في أول الأمر ضباطها من المصريين.
الفريق. ش. س. بتلر باشا ح. ن. م. ج وح. ن. ا القائد العام لقوة دفاع السودان.
وكان السودانيون العرب أنفسهم يجندون كما فعل المهدي والدراويش، وكان هؤلاء العبيد يأخذون من قبائل الشلك والدنكا والنوبة.
وبعد استعادة السودان جند سردار الجيش المصري اللورد كتشنر باشا العبيد الذين كانوا مع الدراويش.
واتجه رأي ولاة الأمور الإنكليز إلى إنشاء مدارس في السودان لتخريج ضباط وموظفين سودانيين.
يرجع تاريخ إنشاء فرق العرب التي تتألف منها الآن قوة الدفاع السودانية إلى تسلم الحكومة السودانية «كسلا» من إمرة إيطاليا، بعد استعادة السودان، فإن الإيطاليين كانوا قد ألفوا من الأهالي فرقة من الباشبوزق، وهي فرقة غير نظامية ونصف عسكرية وتلبس ملابس بالسراويل ولها عمائم، فاستبقت الحكومة السودانية هذه الفرقة في كسلا. وفي أثناء الحرب الكبرى من سنة 1914 بدأت الحكومة السودانية في تأليف هذه الفرق، وقد عززتها بعد حل الأورط السودانية.
ومما يذكر هنا أن الجندي السوداني في الأورط المنحلة كان يجوز له البقاء في الخدمة العسكرية لمدة عشر سنوات أو 15 سنة، وكانت الحكومة المصرية تدفع له مرتبا أكثر من مرتب الجندي المصري.
وتقدر قوة الدفاع السودانية كلها بنحو 7 آلاف جندي يضاف إليها ملحقون وعمال وتعليمهم العسكري - أي تعليمهم حمل السلاح - يزيد على تعليم الخفراء عندنا قليلا. (11-1) الجيش الإنكليزي
أما الجيش الإنكليزي فيتألف الآن من أورطتين. وعند البلاغ الذي وجهه اللنبي في نوفمبر سنة 1924 إلى وزارة المغفور له سعد زغلول باشا سافرت أورطة إنكليزية من مصر إلى بورسودان.
هذا ومع الأورطتين الإنكليزيتين طوبجية ودبابات وسلاح طيران، وتوجد أورطة في الخرطوم وأورطة في أركويت. تتبادلان هذين الموقعين كل ستة أشهر.
من قوة الدفاع. (11-2) أمر الحاكم العام
في 17 يناير سنة 1925، وفي حفلة رسمية أذاع الحاكم العام للسودان المنشور الآتي بيانه ننقله عن جريدة «حضارة السودان» وهذا نصه:
عملا بالسلطة العسكرية والملكية السامية والمخولة لي بمقتضى شروط تعييني، أنا السر جفر فرنسيس آرتشر حامل نيشان القديسين ميخائيل وجورج من درجة فارس حاكم السودان العام أعلن ما يأتي:
بما أنه بسبب انسحاب الجيوش المصرية من السودان قد أصبح من الضروري إنشاء قوة للسودان. وبما أنه من المرغوب فيه إزالة ما قد يوجد في أذهان الضباط من أهالي السودان الذين خدموا في الجيش المصري والمزمع نقلهم قريبا إلى قوة السودان من الارتياب من أجل مراكزهم، فبناء على ما تقدم أعلن الآن ما يأتي:
أولا:
تسمى القوة الجديدة المراد إنشاؤها كما تقدم «جيش دفاع السودان»، وتدين بالولاء لحاكم السودان العام.
ثانيا:
يعين الحاكم العام ويعزل جميع الضباط، وتمنح جميع البراءات باسمه.
ثالثا:
بما أن الحكومة المصرية غير قادرة، بعد الآن، على استخدام ضباط الجيش المصري الذين هم من أهالي السودان، فسيقبل من جميع هؤلاء الضباط من أرى فيهم الجدارة في خدمة «جيش دفاع السودان» بموجب الشروط المنظمة لإصدار البراءات في هذا الجيش، والتي ستبلغ في هذا اليوم إلى أولئك الضباط.
رابعا:
عند إصدار البراءات الجديدة تتولى حكومة السودان مسئولية الرواتب والمعاشات والمكافآت المستحقة الآن لأولئك الضباط بمقتضى شروط الخدمة في الجيش المصري.
إمضاء حاكم عام
وننقل هنا ما نشرته جريدة التيمس في 23 مارس سنة 1925 لمكاتبها العسكري. فقد جاء فيه ما يلي:
يتقدم تنظيم قوة الدفاع السودانية تقدما حسنا، ويستمر إدخال عدد من الضباط فيها. وقد أخذ نحو ألف ضابط من القوات المعسكرة في مصر والسودان ، ويبلغ عدد الجند في الوحدات البريطانية ستة عشر ألفا، أي بزيادة ألفين. وجرت هذه الزيادة بإضافة أورطتين إلى هذه الوحدات، وستنضم أورطة الملاحة التاسعة المعسكرة في فلسطين إلى الخيالة في القاهرة، وكذلك أورطة الرماحة الثانية عشرة، وتحلان محل الألاي الموجود هناك. ولكن هذه التنقلات لا تجري مباشرة. (11-3) مناطق قوة الدفاع
المنطقة الشمالية:
الخرطوم وملحقاتها: وبها السواري والحملة الميكانيكية وفرق المهندسين والبطاريات المدرعة.
السواري في شندي. والحملة والبطاريات بالخرطوم بحري، وفرقة المهندسين في أم درمان، ومركز التعليم الشمالي في أم درمان.
المنطقة الجنوبية:
الرياسة في توريت وموزعة على مراكز خط الاستواء وبحر الغزال.
المنطقة الشرقية:
بها فرقة العرب الشرقية في كسلا والقضارف والقلابات.
المنطقة الغربية:
بها فرقة العرب الغربية وموزعة على الفاشر ونيالا والجنينة.
المنطقة الوسطى في الأبيض:
وموزعة على مراكز مديرية كردفان: الأبيض وبارة والدلنج وكادوجلي.
ولا يوجد الآن في واو وملاكال - أي في جنوبي السودان - سوى بولك خط الاستواء وعدد 150. ونقل إلى تالودي قسم من الهجانة السودانية في الأبيض وفي أم درمان فرقة المهندسين فقط بعد أن كانت بها أورطتان سودانيتان.
من الأورط السودانية بالجيش المصري بالسودان. (11-4) المقاتلون في قوة الدفاع
يلبس الجنود غير النظاميين الذين تتألف منهم قوة الدفاع لباسا طويلا من الكاكي وجبة من الكاكي وحزاما أخضر وعمامة من كاكي ونعال. وهم غير نظاميين. مرتب الجندي 210 قروش، ويعطى علاوة إلى 60 قرشا، ثلاث سنوات، ثم تجدد خدمته ثلاث سنوات، وهكذا حسب الظروف. (11-5) الأورطة المصرية بالمكسيك
من اليمين الصف الأول: شارلي جلياردو بك مؤسس متحف بونابارت مصر، والقائمقام صالح حجازي بك. من اليمين الصف الثاني: اليوزباشي إدريس النعيم، والصاغ فرج والي، والبكباشي عبد الله سالم. انظر الجزء الأول.
ويقول سير هارولد ماكميكل في كتابه: «السودان الإنكليزي المصري» ص161:
ظلت وزارة الحربية المصرية يتقلدها وزير الأشغال العمومية مدة عشرين سنة، وكان الوزراء راضين بأن تكون الشؤون العسكرية في يد السردار. ولكن منذ تصريح 28 فبراير سنة 1922 فصلت الحربية عن الأشغال، وأصبح يتقلد وزارة الحربية وزير مستقل بها. وقد ظل وزراء الحربية بعد التصريح مدة سنتين يعنون باستشارة السردار في كل مسألة ذات أهمية، مع عدم التعرض له في أعماله التنفيذية. وكل ما طرأ من التغيير في مدة السنتين التاليتين لصدور التصريح، أن سلطة السردار فيما يتعلق بتعيين من يحل محل الضباط الإنكليز في الجيش عند خلوا أماكنهم - لا تنفذ إلا بعد عرض قرارات السردار على مجلس الوزراء.
على أن مجيء وزارة وفدية في فبراير سنة 1924 كان من نتيجة جعل وزارة الحربية في يد وزير «المرحوم حسن حسيب باشا» جهر صراحة بأنه الرئيس الحقيقي للجيش، وأن جميع المسائل حتى لو كانت أهميتها ثانوية، يجب أن تعرض عليه. وقد أيد الوفد هذه الخطة. وتبع ذلك سياسة، كان مرماها إضعاف سلطة السردار والهبوط بالنظام. وكانت مسألة تعيين ضباط إنكليز في الوحدات «الأورط» السودانية هي أهم ما دار عليه الحديث بين الوزير «الوفدي» والسردار «سير لي ستاك» قبل مقتله مباشرة.
وقد أصبح واضحا الوضوح كله أن الاعتراف بمصر كدولة مستقلة ذات سيادة، ومن ثم تحرير سياستها من الرقابة البريطانية، قد أدخل في شروط الاتفاق الثنائي «اتفاقية سنة 1899» عاملا جديدا، وأصبح لزاما على حكومة السودان أن يكون لها الإشراف التام على الحامية العسكرية في السودان ، وأن يعترف لهذه الحكومة بذلك نظريا. وقد تم ذلك بتأليف قوة الدفاع عن السودان. (11-6) صفة قوة الدفاع في نظر مصر
أصدر مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 4 فبراير سنة 1935 القرار الآتي:
بعد الاطلاع على كتاب وزير الحربية إلى وزير المالية بتاريخ 21 يناير سنة 1925 متضمنا الاستفهام عن الكيفية التي تحرر بها ميزانية وزارة الحربية للسنة المالية المقبلة 1925-1926 فهل تكون حسب وضعها وترتيبها الحاليين أم توضع على قسمين أحدهما للجيش المصري والآخر للقوة السودانية؟ وهل في هذه الحالة تبين مصروفات القوة الأخيرة كالمتبع إلى الآن أم جملة واحدة.
وعلى مذكرة وزارة المالية إلى مجلس الوزراء المؤرخة أول فبراير سنة 1925 وهي تتضمن اقتراحات هذه الوزارة في الموضوع المشار إليه.
وعلى كتاب فخامة المندوب السامي البريطاني إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 26 يناير سنة 1925 الذي يذكر فيه أن نفقات قوة الدفاع السودانية ستتحملها حكومة السودان.
ولما كانت الحكومة المصرية تعتبر أن الجيش الموجود في السودان. إنما هو جزء من الجيش المصري مكلف بالدفاع عن الأقاليم السودانية. تلك الأقاليم التي ما زالت مرتبطة بمصر ارتباطا لا انفصام له أوضح ذلك رئيس مجلس الوزراء في كتابه إلى المندوب السامي البريطاني بتاريخ 25 يناير سنة 1925.
قرر مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة في 4 فبراير سنة 1925 أن تبقى ميزانية وزارة الحربية للسنة المالية المقبلة 1925-1926 كما كانت في السنة الحالية 1924-1925 تماما من غير زيادة. على أن يبين في الميزانية تفصيلا ما يخص الجيش الذي في مصر وما يبقى من المبلغ المدرج في الميزانية يخصص جملة واحدة للجيش الذي في السودان. (11-7) الإمضاء عن السودان
أذاعت عصبة الأمم بلاغا في يوم 13 مايو سنة 1925 تقول فيه: إن «السر أوسي ستيري» المزود بسلطة تامة من حكومة السودان قد أمضى، باسم السودان في يوم 11 مايو الحالي الاتفاق والبروتوكول اللذين وضعهما مؤتمر الأفيون الثاني في جنيف مع الاحتفاظ بإبرامهما. (11-8) اعتماد 750 ألف جنيه لقوة الدفاع
كان اعتماد 750 ألف جنيه في ميزانية وزارة الحربية المصرية لقوة الدفاع عن السودان مثار خلاف ومناقشات في البرلمان والصحف، ونعتقد أن هذه المناقشات لم تنته بعد.
ويقول سير ماكميكل في كتابه ص...
وإذا كانت مصر تدفع مبلغ ال 750 ألف جنيه من ميزانيتها «بصفة نفقات حربية للسودان» ويوافق البرلمان عليها بهذا الوصف، فإن قبول حكومة السودان لهذا المبلغ ليس على هذا الأساس؛ لأن حكومة السودان تستعمله كجزء من الإيرادات العامة للحكومة. ا.ه. (11-9) في برلمان سنة 1926
في أثناء نظر مجلس النواب سنة 1926 ميزانية وزارة الحربية، قامت ضجة في المجلس حول طلب الموافقة على اعتماد مبلغ 750000 جنيه لمصروفات الجيش بالسودان، وطلبت لجنة المالية بالمجلس الموافقة على هذا الاعتماد تمكينا للعلاقة الدائمة بين مصر والسودان.
وقد كان رجال الحزب الوطني أشد الأعضاء معارضة، فقد خطب الدكتور عبد الحميد سعيد في الأعضاء طالبا عدم الموافقة على دفع هذا المبلغ إذا لم يرجع الجيش للسودان كما كان.
ووجه الأستاذ محمد فكري أباظة ثلاثة أسئلة عن هل لدى وزارة الحربية بيان بتفصيل الأوجه التي يصرف فيها هذا المبلغ. وهل في وسع وزير الحربية أن يقرر أن له الإشراف التام على حركات الجيش وقياداته وما يوقع على أفراده من جزاءات، حتى نعرف في أي سبيل نصرف مبلغا هائلا كهذا، أم الأمر بعكس ما تقدم فنصرفه على شيء مجهول تمام الجهل؟
فأجاب وزير الحربية قائلا: «ليس لدينا تفصيل للأوجه التي يصرف فيها مبلغ ال 750000 جنيه. كما أنه ليست لنا سلطة على حركات قوة الدفاع السودانية.
ولكن إذا أردتم حضراتكم معرفة الكيفية التي تقرر بها دفع هذا المبلغ فإني على استعداد لبيان حقيقة الموضوع:
في أوائل سنة 1925 وصل إلى دولة رئيس الحكومة السابق خطاب من دار المندوب السامي يخبره فيه بأن قوة الجيش المصري السودانية «لأن جيشنا كان قبل ذلك الوقت ينقسم إلى قسمين، وهما الجيش المصري الأصلي وجيش آخر يقال له: الجيش المصري السوداني؛ أي أنه مكون من فرق سودانية ولو أنه مصري» ستحل وتحل محلها قوة الدفاع السودانية، وستقوم حكومة السودان وحدها بالإنفاق عليها. وقد رد دولة زيور باشا في مارس سنة 1925 بخطاب أتلوه على حضراتكم وهو:
حضرة صاحب الفخامة
أخبرتموني فخامتكم في كتابكم المؤرخ 26 يناير أن الحكومة السودانية ستحمل نفقات قوة الدفاع السودانية.
وقد سبق لفخامتكم في 22 نوفمبر سنة 1924 أن أبلغتم سلفي أن الوحدات السودانية بالجيش المصري ستحول إلى قوة مسلحة سودانية، وأرسلتم إلي مع كتابكم المؤرخ 25 يناير نص منشور أصدره حاكم السودان العام بتأليف تلك القوة.
ولم يفتني في هذه المناسبة أن أقرر في جوابي المرسل إلى فخامتكم في ذات اليوم تحفظات مصر القانونية، وأن أؤكد في الوقت نفسه بصفة خاصة أن الحكومة المصرية تعتبر أن الظروف العارضية التي قضت بعودة الجنود المصرية البحتة، وكذلك الظروف الخاصة بتأليف قوة الدفاع السابق ذكرها، كل هذه لا يمكن أن تؤثر في حل مسألة نظام السودان النهائي، تلك المسألة المحتفظ بها للمفاوضات المقبلة، كما أنها لا يمكن أن تضعف ما بين مصر والسودان من الروابط التي لا انفصام لها.
تلك هي وجهة نظر الحكومة المصرية؛ لذلك أتشرف بأن أحيط فخامتكم علما بأنه لما كانت الحكومة مصممة على صيانة تلك الروابط القوية، ولما كانت لا يسعها التخلي عن مسئولية الدفاع عن السودان، فهي ترغب في إثبات مصلحتها الدائمة في تأدية هذا الواجب باستمرارها على الاشتراك في الدفاع عن الأراضي السودانية.
ولهذا الغرض كان مجلس الوزراء قد قرر أن يخصص للنفقات العسكرية في السودان كل ما يبقى من ميزانية وزارة الحربية بعد خصم المصروفات العسكرية في القطر المصري. ولما كان مشروع ميزانية الحكومة المصرية للسنة المالية 1925-1926 قد تم إعداده فيما يتعلق بمصروفات وزارة الحربية وظهر أن الباقي يبلغ سبعمائة وخمسين ألف جنيه مصري قرر مجلس الوزراء أن يضعها جملة بعد موافقة البرلمان تحت تصرف الحكومة السودانية لحساب النفقات العسكرية السابق ذكرها.
وتفضلوا إلخ ...
وصل هذا الخطاب إلى فخامة المندوب السامي
4
في 12 مارس سنة 1925 فرد عليه في اليوم نفسه بالخطاب الآتي:
حضرة صاحب الدولة
أتشرف بأن أعلم دولتكم أني تسلمت الكتاب المرسل إلي بتاريخ اليوم، والذي تكرمتم فيه بإخباري عن رغبة الحكومة المصرية في الاشتراك في نفقات حكومة السودان.
وقد أحطت حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية علما برغبة الحكومة المصرية.
وبالرغم من الإجراءات التي اضطرت الحكومة البريطانية إلى اتخاذها بحكم حوادث السنة الماضية فإنها أبقت السيادة المشتركة التي أوجدها الاتفاق المعقود في سنة 1899 بين بطرس باشا واللورد كرومر، ولذلك فهي تقرر أن قيام الحكومة المصرية بهذه المشاركة في النفقات إنما هو حق وعدل، وتوافق على أن يحدد قيمة ما تدفعه لهذا الغرض بمبلغ سبعمائة وخمسين ألف جنيه.
وتفضلوا إلخ ...
هذا كل ما جرى في هذه المسألة، وقد ظهر لحضراتكم السبب في تقدير المبلغ ب 750000 جنيه.
وبعد مناقشات طويلة قدم أحمد رمزي بك الاقتراح التالي:
أن المجلس يصدق على مبلغ هذا الاعتماد مؤقتا - من غير أن يعتبر «بضم الياء» هذا التصديق قبولا بما حدث في نظام السودان من التغيير ولا اعترافا بحق للسودان على مصر. ولا إقرارا ببراءته من الديون التي لها عليه. وبشرط أن يكون لها الحق دائما في مناقشة أساس هذا المبلغ ومقداره ومدته.
5
فوافق المجلس على الاقتراح، ولم يخالفه سوى الأستاذ مصطفى محمود الشوربجي والأستاذ محمد فكري أباظة والدكتور عبد الحميد سعيد. (11-10) في برلمان سنة 1927
وفي أثناء نظر المجلس في مسألة مصاريف الجيش في السودان في سنة 1927 قدم الأستاذ محمد فكري أباظة اقتراحا هذا نصه:
أطلب حذف هذا المبلغ وهو 750000 جنيه،
6
ولكن المجلس قرر بالأغلبية الموافقة على رأي اللجنة المالية، أي إبقاء المبلغ. (11-11) في برلمان سنة 1928
وعند نظر مجلس النواب ميزانية وزارة الحربية عام 1928 خطب الدكتور محجوب ثابت مؤيدا رأي اللجنة المالية قائلا: إن صرف هذا المبلغ يؤيد حقنا في السودان، ويضمن لنا ما أنفقناه من ملايين الجنيهات وما بذلناه من مهج الرجال وكبار القواد من يوم استرجاع السودان إلى الآن.
فعارض هذا الرأي رجال الحزب الوطني، وخطب فريق منهم وهم حضرات محمد حافظ رمضان بك، والدكتور عبد الحميد سعيد، وعبد العزيز الصوفاني، ومحمد فكري أباظة.
وبعد مناقشة حادة قرر رئيس الجلسة إقفال باب المناقشة بموافقة أعضاء المجلس. وقد قدم اقتراحان من حضرتي محمد فكري أباظة وعبد العزيز الصوفاني بطلب حذف مبلغ ال 750000ج.م من مشروع ميزانية وزارة الحربية المقال عنه بأنه مصاريف الجيش في السودان.
فقرر المجلس بأغلبية أعضائه رفض الاقتراح والموافقة على رأي اللجنة.
7 (11-12) في برلمان سنة 1934
ألقى وزير الحربية والبحرية المصرية في مجلس النواب في أثناء نظر المجلس في ميزانية وزارة الحربية والبحرية لسنة 1934-1935 بيانا عن مبلغ 750000 جنيه التي ترسل لحكومة السودان كل عام باسم «قوة الدفاع السودانية» جاء فيه ما يأتي:
8 «أما عن مسألة مبلغ ال 750000 ألف جنيه، فأظنها لم تعرض على حضراتكم بالتفصيل قبل الآن، وسأفصل هذه المسألة، وأتناول كل ما شمله بحث هذا الموضوع.
وللكلام عن هذا المبلغ يجب أن نتكلم عن العلاقات المالية بين مصر والسودان، ثم عن أساس الالتزام بدفع هذا المبلغ:
تنقسم المبالغ التي كانت تدفعها الحكومة المصرية لحكومة السودان إلى ثلاثة أنواع: (1)
السلف المعطاة لحكومة السودان من أجل الأعمال المتعلقة بنمو السودان. (2)
الإعانة الممنوحة لحكومة السودان لسد عجز الإيرادات، أي لموازنة الميزانية. (3)
مصروفات الجيش في السودان.
وليست كل المصروفات التي تنفق على الجيش تلزم بها حكومة السودان، ولكن الجيش عندما كان جميعه في السودان - سواء في ذلك الجيش المصري البحت أو الأورط السودانية الملحقة به - كانت له نفقات تزيد على نفقاته لو كان في مصر، فكانت الحكومة المصرية تحسب على نفسها النفقات التي يتكلفها الجيش في السودان لو كان في مصر، أما الفرق بين نفقاته في مصر وبينها في السودان فكانت تتحمله حكومة السودان، وقد بلغ سنة 1924 - 374492 جنيها. أما النفقات العادية فكانت تتكفل بها الحكومة المصرية.
ولما وقعت حوادث السودان سنة 1924 كتب المندوب السامي لسعد زغلول باشا يقول له بأن: «الوحدات السودانية للجيش المصري ستحول إلى قوة سودانية مسلحة».
وفي 25 يناير سنة 1925 أبلغ المندوب السامي زيور باشا نص الإعلان الذي أصدره الحاكم العام للسودان عن التكوين الجديد لتلك القوى.
وفي اليوم نفسه قدم زيور باشا للمندوب السامي مذكرة يحتج فيها على هذا التصرف، ويحتفظ بحقوق مصر على السودان قال فيها:
إن الحكومة المصرية تعتبر أن الظروف الطارئة التي أدت إلى عودة الجيوش المصرية البحتة، وإلى تكوين قوة سودانية، لا يمكن أن تؤثر على حل مسألة النظام النهائي للسودان - تلك المسألة المحتفظ بها للمفاوضات المستقبلة - كما أنها لا تضعف الروابط التي لا تنفصل والتي تربط السودان بمصر.
وفي 12 مارس سنة 1925 كتب زيور باشا للمندوب السامي يشرح له ما تقدم ويضيف إليه ما يأتي:
وعليه أتشرف بأن أحيط علم فخامتكم بأن الحكومة المصرية - التي قر رأيها على المحافظة على تلك الروابط القوية، والتي لا يمكنها النزول عما عليها من مسئولية الدفاع عن السودان - تريد تأييد حقها الذي لا يمكن النزول عنه في هذه المهمة، وذلك بأن تستمر في الاشتراك في الدفاع عن الأراضي السودانية.
لذلك كان مجلس الوزراء قد قرر أن يخصص للمصروفات العسكرية في السودان ما يبقى من ميزانية وزارة الحربية بعد استنزال المصروفات العسكرية التي تنفق في مصر.
وحيث إن مشروع ميزانية الحكومة المصرية للسنة المالية 1925-1926 قد وضع عن مصروفات وزارة الحربية، وقد ظهر منه أن ذلك الباقي يبلغ 750000 جنيه.
فقد قرر مجلس الوزراء أن يضع - بعد موافقة البرلمان - جميع هذا المبلغ تحت تصرف الحكومة السودانية للمصاريف العسكرية السابق ذكرها.
فأجاب المندوب السامي في نفس اليوم على هذه المذكرة بالعبارة الآتية:
أتشرف بإحاطة دولتكم علما أني تسلمت المذكرة المؤرخة بتاريخ اليوم التي تبلغوني فيها رغبة الحكومة المصرية بأن تشترك في مصاريف حكومة السودان.
وقد أخذت حكومة جلالة الملك البريطانية علما بذلك، ورغما من الإجراءات التي اضطرت حكومة جلالة الملك إلى اتخاذها بسبب حوادث العام الماضي، فإنها أبقت السيادة المشتركة التي أوجدتها اتفاقية بطرس - كرومر.
ولذلك نرى من العدل أن تقوم الحكومة المصرية بهذا الاشتراك، ونوافق على أن يحدد بمبلغ 750000 جنيه.»
ويتبين من الخطاب الأول ومن المذكرتين أن أساس التزام الحكومة المصرية بدفع مبلغ ال 750000 جنيه هو أن الحكومة المصرية رأت في سنة 1924 أن حقوقها في السودان كانت مهددة فسعت إلى هذا الالتزام لإقرار حقوقنا في السودان، وهذا أمر لا شك فيه. •••
عندما نظرت ميزانية وزارة الحربية والبحرية بمجلس النواب عام 1934 ثارت ثائرة بعض النواب، وطلبوا وقف دفع مبلغ ال 750000 جنيه، وقال صاحب الدولة إسماعيل صدقي باشا:
لقد تكلم بعض حضرات الخطباء عن مساع بذلت سنة 1932 لإجراء تخفيض في هذه المنحة التي تمنحها مصر للسودان. فبيانا للأمر أقرر أن هذه المساعي بذلت فعلا، وكانت المبررات التي تقدمت بها حكومة ذلك العهد إلى دار المندوب السامي هي هذه الاعتبارات التي شرحتها لحضراتكم، بجملة في أن الأزمة التي أصابت ميزانيتنا، وخطة الاقتصاد التي ألجأتنا هذه الأزمة إلى اتباعها، لا بد أن يكوم لهما أثرهما في تخفيض مبلغ ال 750000 جنيه، كما شمل التخفيض جميع اعتمادات الميزانية، وقد أجاب المندوب السامي بأنه يخشى ألا تحتمل حالة السودان إدخال أي نقص في هذا المبلغ، ووعدني بأنه سيتصل بحكومة السودان، ليعرف منها المقدار الذي يمكن تخفيضه. فسافر فخامته إلى السودان ثم عاد منه، وقال لي: إنه بحث مع جناب الحاكم العام فوجد أن الحالة في السودان سيئة؛ لأن محصول القطن كان قليلا جدا في تلك السنة فلا يتسنى للحكومة هناك والحالة هذه أن تخفض من ميزانية الإيرادات شيئا مطلقا. ومصر، باعتبارها الشقيق الأكبر للسودان، مصر تلك الأمة التي عطفت دائما على السودان ومرافقه، لا تقبل أن تقوم بإجراء كالإجراء الذي عرض على دار المندوب السامي، وقت محنته.
9
وقد وافق المجلس على اعتماد مبلغ ال 750000 جنيه. (11-13) رأي الأمير عمر طوسون
حدث سمو الأمير عمر طوسون وكيل «المقطم» السكندري حول مبلغ النفقة على قوة الدفاع السودانية حديثا نشرته الجريدة المذكورة في يوم 23 مايو سنة 1934، وها هو:
قال وكيل المقطم السكندري:
اهتم الرأي العام بما دار من الجدل والمناقشة في مجلس النواب وعلى صفحات الصحف، وبما كتبه المقطم تعليقا على تلك المناقشات عن المال الذي تدفعه الحكومة المصرية لحكومة السودان باسم قوة الدفاع السودانية. وما برحت هذه المسالة موضوع الأحاديث في الأندية والدوائر الخاصة مما حملني على استجلاء رأي صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون في هذه القضية الخطيرة، ولسموه آراء سديدة في جميع المواقف الوطنية، ولا سيما السودانية منها. فلا غرو أن يكون لرأيه في هذه المسألة شأن كبير عند الرأي العام المصري. فتشرفت بمقابلته، وبعد التحية أدرك سموه بغيتي من هذه الزيارة المبكرة فلم يحملني كبير مشقة في التمهيد لمحادثته في هذا الموضوع، وصارحني برأيه بكل جلاء ووضوح، وهذه خلاصة الحديث:
سألت سموه: هل قرأتم ما نشرته الصحف عن مبلغ النفقة على قوة الدفاع السودانية وما علقت به على ما دار في مجلس النواب من المناقشة؟
فأجاب: نعم قرأته، واطلعت على كل ما قيل فيه، وأنا لست على رأي القائلين بقطع هذه المعونة عن السودان، ولكني أرى أنها يجب أن تكون بقدر حاجة هذه القوة لا أكثر ولا أقل. فإذا نقصت القوة في المستقبل أو زادت يجب أن تنقص أو تزيد تبعا لأحد هذين الأمرين.
الجيش المصري من عهد محمد علي إلى الآن كما قدره الأمير عمر طوسون
السنة
عدد الجيش البري بضباطه
مقدار النفقة عليه
إيرادات الحكومة بالجنيه
1833
88272
600000
2525275
1839
130402 - -
1874
90720
700000
9911968
1880
12000
360000
8561622
1933
12288
815913
32075000 (12) سلاح الطيران في السودان
قال لورد لويد المندوب السامي البريطاني الأسبق في كتابه:
والسودان مثلا طريق جوي كثيرا ما اجتازته الطائرات؛ فإذا ما ارتقت وسائل النقل الجوي فمن المحتم أن يصبح السودان طريقا ثابتا متصل الحلقات للنقل الجوي، وإلى اليوم ظل السودان يناهض فكرة استخدام سلاح الطيران كوسيلة رئيسية من وسائل الدفاع وإقرار السلام في ربوعه، وهي الفكرة التي قامت لتأييدها حجج واعتبارات قوية جدية، فقد اقترح قبل الآن استخدام هذا السلاح باعتباره وسيلة ميسورة يتسنى بها القيام بكل ما تؤديه القوات البرية بكفاءة أكبر وأكثر صلاحية، كما يمكن ربطه بأعمال الإدارة المدنية ربطا محكما وثيق الحلقات. ولكن إلى الآن ظلت هذه المشروعات والاقتراحات تجد اعتراضا؛ لأنه وإن كان العمل الذي يؤديه سلاح الطيران في بلاد مثل السودان هو في الواقع كبير القيمة خطير الشأن فلا ينبغي مع ذلك الغلو في تقدير قيمته؛ إذ هو مهما قيل في مدح مزاياه لا يزال أداة مساعدة للقوات البرية.
وقد شرح الحاكم العام للسودان هذه النقطة شرحا حسنا في رسالة له كان من واجبي أن أبعث بها إلى وزير الخارجية، وفيها وصف الوجه الصحيح من استخدام سلاح الطيران قائلا:
لو أن لنا سلاح طيران كافيا صالحا في الخرطوم، ومعدات برية تناسبه في مواضع متعددة منتشرة، لحملنا هذا على أن نعتقد أن المهدوية أولا، وهي ذلك الخطر الشديد، وإن ظل هاجعا كامنا، لن تستطيع اكتساحنا من جهة الغرب إذ يمكننا في هذه الحالة أن نحطم مراكز تجمعها ونشتت شملها، وهي في أثناء تعبئتها في مخافرها النائية، فلا تقع في المستقبل نكبات كالتي وقعت لحملة هيكس باشا ولبيكر باشا في سنة 80، ولا يكون حصار كحصار الخرطوم؛ إذ يصبح من المستحيل بفضل عيون سلاح الطيران وأرصاده وأسلحته تكرار تلك المجازر والجوائح التي كانت تقترفها تلك القبائل المتهوسة في الدين، كما تصبح المسائل المتعلقة بالدفاع الداخلي سهلة بسيطة.
وثانيا: إن الطبقات الصغيرة من الشباب المتعلم في الخرطوم وأم درمان والمدن الأخرى التي أقل منها شأنا أولئك الذين أعاروا آذانهم فيما مضى لمروجي الفتنة من المصريين يدركون غدا بذكائهم مبلغ ما يستطيع سلاح الطيران أن يفعله. فإن التأثير الذي يحدثه هذا السلاح في عقول هذه الطبقة من الأهلين هو إلى حد كبير من أفضل مزاياه وأعماله في سبيل إقرار الحالة السياسية وتوطيدها.
وثالثا: إن الحاميات النائية التي تتألف منها قوة الدفاع عن السودان تصبح مرتبطة الأجزاء متصلة اتصالا وثيقا بمركز الرياسة العامة والعالم الخارجي بهذه الوسيلة السريعة من وسائل المواصلات، ويصبح خطر النزعات الثورية وانتقاض الجنود السودانية على النظام قليلا ما أمكن.
ورابعا: أن يكون سلاح الطيران في جميع الطوارئ الشديدة والأزمات الفجائية الجسيمة هو الوسيلة السريعة للاتصال والتحري والتحقيق، وبذلك يتيسر اتخاذ التدابير العاجلة.
وقد استطرد الحاكم العام بعد هذا في رسالته مبينا أن مشكلة الإدارة الملكية - أي المدنية - في مناطق السودان النائية التي لا يزال أهلها في شبه جاهلية أو همجية هي من صعاب المشاكل وأكثرها تعقدا وأدعاها إلى الأخذ بمنتهى الحذر والتبصر واللباقة والكياسة في تناولها؛ إذ كلما كانت تقوم المتاعب فيما مضى ببعض تلك المناطق كان الأمر يقتضي معالجتها برا بإيفاد قوة استكشافية تعمل بحذر ودقة على أمل الاتصال بالثائرين لإقرار صلات حسن التفاهم بين الحكومة وبينهم لكي يمكن بذلك توثيق الروابط الحسنة من البداية، ولهذا الاعتبار الخطير ينبغي للسلطات أن تتوخى اختيار أهدافها وأغراضها، وأن تستخدم سلاح المشاة في الملاحم البرية.
وقد استطاع الحاكم العام أن يصور حججه ووجوه نظره أحسن التصوير من المشاهدات الأخيرة والتجارب الفعلية، فقد حدث أن سرب الطيارات الذي أنشئ أخيرا على سبيل التجربة وجعل مركزه الخرطوم لم يلبث عقب وصوله أن كلف الاشتراك في عمليتين من العمليات الحربية تختلف إحداهما عن الأخرى وإن كانت كل واحدة منهما من نوع الأعمال الحربية التي كثيرا ما يقتضي الأمر من الحكومة معالجتها، فقد حدث في مديرية أعالي النيل أن مشعوذا يحترف الطب بالسحر وهو من قبيلة اللاونوير ويدعى «جويك وندنج» دأب عاما كاملا على إظهار العداء للحكومة وتحديها والمجاهرة بالاستخفاف بسلطتها فترة طويلة حتى أصبح يخشى أن تسري عدواه إلى سائر أفراد القبيلة، ولم تفلح مساعي المفتش في الاتصال بذلك الرجل وحمله بالمسالمة على الكف عن موقفه العدائي، فاضطر الأمر في هذه الحالة إلى وجوب الالتجاء إلى تدابير عسكرية حياله، ففي 13 ديسمبر سنة 1927 جاءت التقارير تفيد بأن أتباع هذا الساحر المتطبب المتمرد على الحكومة يبلغون أربعة آلاف نفس، وأن بعض الجماعات المعادية منهم يقيمون بجوار قرية تدعى نيرول، وأن القوة العسكرية التابعة للحكومة قد عسكرت بتلك القرية في 15 ديسمبر، وقد قامت الطائرات بعدة غارات تمهيدية على سبيل الإرهاب فقط في مبدأ الأمر، ولكنها لم تلبث أن قامت بإلقاء القنابل على مراكز تجمع هذه الفصائل المعادية فحطمت مقاومتها المنظمة.
وقد قال الحاكم العام منوها بعمل سرب الطيران في هذا الحادث: إنه أدى مهمته بمنتهى الكفاية والسرعة، ولكن الدروس التي تؤخذ من هذا العمل لا تزال هي الدروس نفسها التي سبق وصفها في رسالته؛ إذ لم يتحقق هل أتى تعاون سلاح الطيران في ذلك العمل بأية نتائج سريعة مباشرة، وإن تأثيره المعنوي كان هو وحده المحقق الذي لا شك فيه، وكان خليقا بأن يصبح عاملا له خطره وقيمته في الموقف بإزاء الثوار المتمردين.
أما العمليات الحربية الأخرى التي استعين فيها بسرب الطيران عقب قدومه إلى السودان، فقد كانت موجهة أيضا إلى جزء آخر من قبائل النوير قتلوا بتحريض بعض زعماء الكبتن فرجسون مفتش المركز، وأدى قتله إلى فتنة عامة وتمرد بين العشائر الأخرى في القبيلة، وإن كان المرجح أن التمرد لم يكن مقصودا لذاته، بل كان لمجرد التخلص من ضابط كان لمعرفته الواسعة بالمركز وسكانه من المحتمل كثيرا أن يحرج زعيم القبيلة ويعمل على مضايقته.
وقد ظن الثوار أنهم بالانسحاب إلى مستنقعات إقليمهم سيحتمون احتماء تاما من عقاب الحكومة وتأديبها، ولهذا جاءت غارة سلاح الطيران عليهم وهم في عقر ديارهم مفاجأة تامة مؤلمة: فقد حاصرتهم القوات البرية وحاصرت ماشيتهم وأنعامهم، وراحت الطائرات في الوقت نفسه تصب عليهم مدرار قنابلها، فلم ينقض يومان على هذه الحال أو ثلاثة حتى تحطم روحهم المعنوي كل التحطم، وأدركوا أن ما نزل بماشيتهم كان عقابا لهم عما جنته أيديهم وجزاء على طيشهم. وكل هذا بفضل تعاون سلاح الطيران، فهو الذي يقبل عقاب العصاة سريعا ومثمرا.
ولكن الطائرات - كما أشار الحاكم العام وبين في شرحه - اتخذت من الثوار هدفا عاما، بينما راحت البيادة تتصيدهم في المستنقعات، ولولا ذلك لما كان إلى الوصول إليهم من سبيل.
وفي ذلك يقول الحاكم العام ما نصه:
ولم يكن هذا الهدف واضحا فقط للطائرات، لكنه كان هدفا من عناصر قبيلية لا يكون قذفها بالقنابل وهي حاشدة باعثا على وخز الضمير؛ إذ كانت الضرورة تقضي بأن يكون العقاب سريعا وصارما لأولئك الذين اشتركوا في جريمة قتل ضابط بريطاني أو كانت راضية عن هذا الجرم مشتركة فيه بالشعور. ا.ه.
اللورد جورج لويد المندوب السامي البريطاني الأسبق لمصر والسودان من 1925-1929.
هوامش
الفصل الحادي والعشرون
النيل يوحد بين مصر والسودان
لما كان النيل هو العلاقة الطبيعية بين مصر والسودان، وهو مصدر الحياة ومرجع السياسة والحكم فيهما في عصور مختلفة - فقد آثرنا أن نعقد هذا الفصل لبحث هذا النهر:
النيل نهر من أهم أنهار العالم وثانيها طولا إذ يبلغ طوله من أقصى منبعه عند بحيرة تنجانيقا إلى البحر الأبيض المتوسط 6500 كيلو متر أو ما يزيد على الأربعة آلاف ميل، ولا يضارعه في الطول غير نهر المسيسيبي مع فرعه الميسوري؛ إذ يبلغ طولهما 4200 ميل تقريبا.
ويفوقه الكثير من الأنهر في كمية الماء، ولكن لا يفوقه منها نهر من الوجهة العلمية، ومن المحتمل أن يكون القليل من الأنهر قد درس بتفصيل مثله إلا أن تنائي بعض الأجزاء من حوضه وصعوبة الوصول إليها ترك الكثير من المعلومات عنه غير مجموع.
ويشغل حوضه مسطحا يقرب من 29000 كيلومتر مربع أو ثلاثة أعشار القارة الأوربية وكثير من هذه المساحة العظيمة لا يمد النهر بالإيراد المائي.
ويمتد حوضه من خط عرض 4° جنوبا إلى خط عرض 31° شمالا، ويشمل جزءا من إقليم تنجانيقا «أفريقيا الشرقية الألمانية سابقا» وكنيا والكونغو البلجيكي والحبشة، وما يقرب من كل مستعمرة أوغندا كلها والسودان ومصر. ويشمل حوضه زيادة على ذلك بحيرة فيكتوريا التي هي أكبر بحيرة عذبة في نصف الكرة الشرقي ومدينة القاهرة، وهي أكبر مدينة في أفريقيا وجبل الرونزوري، «ويبلغ ارتفاعه 5120 مترا أو 16800 قدم»، وهو ثالث جبال أفريقيا ارتفاعا.
ويشمل حوض النيل لاتساع مداه طولا وارتفاعا الكثير من مختلف المناخ، وكذا الكثير من مختلف الأحياء النباتية والحيوانية.
فمن نباتاته ما هو من نوع نباتات جبال الألب، وهي تنمو في أعالي جبال كينيا وجبل الراونزوري الذي يغطي الجليد قممه على الدوام، ومنها أيضا الغابات الاستوائية الكثيفة بصعيد البحيرات وحشائش الفيلة الطويلة المنتشرة في أكثر أراضي أوغندا وغابات سفانا القليلة الأشجار التي توجد في الجزء الجنوبي من الحوض والنباتات الكثيفة التي تنمو بالمستنقعات الاستوائية وغابات أواسط السودان ذات الأشجار الشوكية والنباتات الضئيلة التي تنمو في الصحراء المكونة للجزء الشمالي من الحوض، وبحوض النيل زيادة على ذلك المحصولات الوافرة التي تزرع في القطر المصري.
أما حيوانات الجزء الجنوبي من الحوض فتنتظم الكثير من الأنواع ، وأكثرها شيوعا: الفيل والجاموس والأسد والفهد والغزال العوام والتياتل ذوات الألوان المختلفة، والكثير من أنواع الخيول القصيرة وتياتل جنوب أفريقية، وعجل البحر، وغزال الأحراش، والغزال العادي، والخنزير البري، والقردة، وعلاوة على ذلك فالمنطقة غنية بطيورها، وأكثرها شيوعا الطيور المائية وجوارح الطير وطيور الصيد التي منها الغرغر والقطا.
ومن حيواناته الزاحفة: التمساح، وهو منتشر في البحيرات والأنهر والكثير من أجناس السحالي والأفاعي، وكذا تكثر فيه الأسماك.
ويقطن حوض أعالي النيل الكثير من الحشرات المؤذية والوبائية، وعلى الأخص الناموس، وفي بعض الجهات يوجد ذباب تسي تسي وغيره من أنواع الذباب القارص التي تسبب الأوبئة التي تصيب الإنسان والحيوان. ولا يمكن الاحتفاظ بالماشية في بعض جهات الجزء الجنوبي، فلا وسيلة للنقل غير استخدام الحمالين، وقد أغنى عنهم النقل الميكانيكي في الجهات التي بها طرق ممهدة. (1) وصف حوض النيل
ينقسم حوض النيل إلى الأقسام الآتية: (1)
النيل الأعظم من مصب العطبرة إلى البحر. (2)
العطبرة. (3)
النيل الأزرق وروافده. (4)
النيل الأبيض، وينقسم إلى: (أ)
السوباط. (ب)
بحر الجبل. (ج)
بحر الغزال. (د)
صعيد البحيرات.
والمنطقة من شمال العطبرة بقليل إلى قرب مدينة القاهرة تكاد تكون عديمة الأمطار إلا في تلال البحر الأحمر.
وتنحصر النباتات بجميع أنواعها في جزء ضيق بالقرب من النهر وما بعد عن ذلك فهو صحراء. والوادي في هذه المنطقة عادة ضيق وواضح الحدود ومحصور بين تلال الصحراء. ويتسع الوادي شمال القاهرة فيكون دلتا مصر الخصبة. والملاحة ميسورة في النيل مدة جزء من السنة من البحر حتى وادي حلفا حيث يقع الشلال الثاني جنوبها مباشرة، وكثيرا ما تعيق الشلالات الملاحة من وادي حلفا إلى الخرطوم التي تبعد عن البحر 3070 كيلومترا نهرا. وينبع نهر العطبرة من الجزء الشمالي من الحبشة، وبالرغم مما به من كميات الماء الوافرة إبان أغسطس وسبتمبر فإنه يأخذ في النقصان من ديسمبر إلى يونية حتى يصبح بركا متناثرة.
ويمتد سهل السودان الواسع جنوبا من شمال نهر العطبرة حيث تحده نجاد الحبشة شرقا وصعيد البحيرات والأراضي المرتفعة الفاصلة بين حوضي نهري النيل والكونغو جنوبا. أما الحد الغربي فهو أكثر تدرجا وحدوده من الأراضي المرتفعة ليست بمثل هذا الوضوح.
وتظهر تلال منعزلة في السهل لكنها قليلة ومتباعدة.
وينبع النيل الأزرق من بحيرة تانا بصعيد الحبشة على ارتفاع 1850 مترا، ويجري النهر بعد تركه البحيرة في واد يتزايد في العمق تدريجيا حتى يشبه الهوة في بعض الأماكن إلى أن يصل إلى سهول السودان جنوب الروصيرص، ويتصل به في هذا الجزء الكثير من النهيرات التي تجري كالسيول، وأهمها الديديسا والدابوس، ولا يعرف عنهما إلا القليل. والنيل الأزرق سهل الملاحة من الروصيرص شمالا لمدة من السنة، ويتصل به في جزئه الأسفل الدندر والرهاد من الحبشة، ويمدانه بكمية معتدلة من المياه في الفيضان، ولكنهما يجفان بعد ذلك فيصبحان كالعطبرة بركا متوالية، وتحمل جميع الأنهر الآتية من صعيد الحبشة كمية من الطمي إبان الفيضان. وتبعد بحيرة تانا عن مدينة الخرطوم 1620 كيلومترا نهرا.
ويتحد النيل الأزرق مع النيل الأبيض عند الخرطوم.
ويستمد النيل الأبيض ماءه من السوباط وبحر الزراف وبحر الجبل وبحر الغزال. ويتكون السوباط من رافد البارو الذي ينبع من صعيد الحبشة وروافد البيبور الذي يستمد ماءه من الحبشة ومن منحدرات صعيد البحيرات، ويشمل حوض السوباط مساحات شاسعة تتحول إلى مستنقعات في فصل الأمطار. وتتيسر الملاحة فيه زمان الفيضان حتى جمبيلا على رافد البارو بالحبشة وإلى ما بعد أكوبو على رافد البيبور.
ويبدأ بحر الزراف من المستنقعات التي في بحر الجبل، وقد وصل بحر الزراف ببحر الجبل بقناتين صناعيتين، ويجري جزؤه بين الأسفل ضفتين منتظمتين. أما جزؤه الأعلى فيجري في مستنقعات.
ويجري النيل الأبيض بين ملتقى السوباط وملتقى بحر الغزال من الغرب إلى الشرق، ويستمد بحر الغزال مياءه من المنحدرات الشمالية لخط تقسيم المياه بين النيل والكونغو الذي ينحدر منه الكثير من المجاري إلى سهول السودان، حيث تكون مستنقعات يتبخر منها كل ما يصلها من المياه، فلا يجري منها في بحر الغزال غير النزر اليسير. ويطلق اسم بحر الجبل على المجرى الأساسي للنيل الأبيض من الجنوب، وهذه التسمية أطلقها العرب ، وقد كانوا أول من أبحر فيه. وتجاوره المستنقعات الواسعة على الجانبين في الجزء الأسفل من مجراه، وتعرف بمنطقة السد، وتمتد شمالا من بور إلى بحيرة نو، وكثيرا ما سدت الأعشاب الطافية بحر الجبل في سنة 1903 حتى كانت الملاحة فيه أحيانا مستحيلة؛ ولذا سميت بمنطقة السد، وإذا نظرنا إلى منطقة السد من فوق سطح مركب بخار لرأينا مستنقعا مترامي الأطراف به عشب البردي وأم الصوف والأمباتش والبوص الطويل. وربما رأينا القليل من الأشجار عن بعد، وهي دليل على وجود أراض مرتفعة جافة. ويتوقف مسطح المستنقعات على ارتفاع منسوب النهر. وهو يختلف كثيرا من عام لآخر. ومجراه في شمال منجلا ليس محصورا في قناة واحدة؛ نظرا لما يخترقه من مجاري المياه والبرك. ومنطقة المستنقعات هذه سبب خسارة فادحة في الماء.
منطقة السدود، حيث الأعشاب ومساحات ماء قليلة العمق في بحر الجبل والزراف والغزال.
ويمكن رؤية تلال جنوب منجلا على بعد. وتنقطع الملاحة عند الرجاف التي تبعد عن الخرطوم 1760 كيلومترا، ويجري النهر من الرجاف إلى نمولي على حدود أوغندا في واد ضيق تعيق سيره شلالات أشدها تأثيرا شلالات فولا جنوب نمولي مباشرة، والإقليم ذو مرتفعات ومنخفضات، لكنه يرتفع تدريجيا شطر صعيد البحيرات.
أما فوق نمولي فبحر الجبل أو نيل ألبرت، كما قد يدعى أحيانا، سهل الملاحة حتى بحيرة ألبرت، وبهذه المنطقة بعض المستنقعات، وتصب في النيل بين بحيرة ألبرت والرجاف نهيرات كثيرة. وبالرغم مما تمد به النهر من كميات الماء الوافرة في فصل الأمطار فإن أغلبها يجف باقي السنة، أي من ديسمبر إلى مارس.
وتتكون أعالي النيل الأبيض من مجموعتين من الأنهر إحداهما تصب في بحيرة ألبرت، وتشمل بحيرتي جورج وإدوارد، والأخرى تصب في نيل فيكتوريا، وتشمل بحيرتي فيكتوريا وكيوجا.
ويمكن القول إجمالا إن لهاتين المجموعتين مميزات مختلفة:
فمجموعة بحيرة فيكتوريا تشمل مساحات واسعة من المستنقعات، وأكثر نهيراتها مستنقعات.
أما مجموعة ألبرت أو مجموعة وادي الرفت، فأغلبها أنهر جبلية تستمد ماءها من سلسلة جبال الرونزوري أو منحدرات وادي الرفت، ونسبة مساحة المستنقعات فيها صغيرة.
ووادي الرفت العظيم من أهم مظاهر أواسط أفريقية، وهو يمتد مع ما يعترضه من العقبات إلى وادي الأردن. والبحر الأحمر جزء منه. وينقسم جنوب حوض النيل إلى فرعين: الغربي منهما ويشمل بحيرات تنجانيقا وكيفو وإدوارد وجورج وألبرت، ويمتد شمالا على طول بحر الجبل. أما الفرع الشرقي من وادي الرفت فيمتد شمالا مخترقا مستعمرة كنيا، ولا يدخل في حوض النيل.
وتفصل جبال موفومبيرو بحيرات كيفو وتنجانيقا عن حوض النيل، وهي سلسلة براكين تمتد عبر وادي الرفت، وتحيط به، ويبلغ ارتفاع أعلى قممها 4500 متر. ويكون ما يتسرب من ماء الجزء الشمالي لهذه السلسلة منبع ماء مجموعة ألبرت، بينما يتسرب ماء الجانب الآخر إلى الكونغو. وبين فرعي وادي الرفت الهضبة التي تشمل بحيرة فيكتوريا، ومتوسط ارتفاعها 1300 متر فوق سطح البحر. وهذه الهضبة ليست بمستوية السطح ، وتكاد تكون ملأى بالتلال في كل جهة، وهي على العموم تلال مستديرة ليست وعرة ولا كبيرة الانحدار. وبحيرة فيكتوريا هي منخفض قليل الغور في هذه الهضبة. ويبلغ أكبر عمق سير فيها 70 مترا.
وتأخذ الهضبة في الانخفاض تدريجيا إلى الشمال حتى سهول السودان، حيث يتصل بها بحر الجبل عند الرجاف.
وفي الشرق ترتفع الأرض تدريجيا شطر المنحدر الشرقي لوادي الرفت، وتكاد تكون الحد الشرقي لحوض النيل.
أما شمالا فالحد الشرقي سلاسل جبال تمتد حتى الحد الفاصل بين بلاد الحبشة وأوغندا. والجزء المهم في هذه الجبال هو تلال شيرانجاني «يزيد ارتفاعها على 3000 متر» وجبل إلجون «4310 أمتار» وجبل دباسيان «3060 مترا» وجبل ماروثو «3050 مترا»، وهضبة مورنجول «يزيد ارتفاعها على 2000 متر».
وعلى ذلك فحوض النيل يحوي جبلين من أكثر جبال أفريقية ارتفاعا، وهما جبل الرونزوري، وتبلغ أعلى قمة فيه 5120 مترا، وجبل الجون وارتفاعه 4310 أمتار، وفي حده الجنوبي الغربي جبل كاريسمبي، وهو أعلى جبال موفومبيرو، ويبلغ ارتفاعه 4500 متر.
أما الحد الغربي لحوض النيل فمكون من المنحدر الغربي للجزء الغربي من وادي الرفت، وليس الحد بين مجموعتي ألبرت وفيكتوريا واضحا؛ فإن المستنقع نفسه قد يكون منبعا لأنهار بعضها من مجموعة ألبرت والبعض الآخر من مجموعة فيكتوريا، فنهر النكوسي مثلا الذي يصب في بحيرة ألبرت ونهر كافو الذي يصب في نيل فيكتوريا ينبعان من مستنقع في هضبة بحيرة فيكتوريا. وهناك ما لا يقل عن اتصالين من هذا القبيل بين مجموعتي ألبرت وفيكتوريا.
والبحيرات سبب ضياع قدر عظيم من الماء في كل من جزأي حوض أعالي النيل بالتبخر من سطحها. ومع ذلك فإنها تفي بالغرض في تسوية ماء النيل الأبيض. كما أنها أهم مورد يمد مصر بالماء إبان انخفاض النيل. ولولاها لكان ماء النيل إبان انخفاضه قليلا جدا، وليست هناك طريقة لزيادة التسوية في ماء النيل إلا عمل موازنة على ماء البحيرات بانتظام حتى تصل إلى درجة يمكن معها جعل ماء السنين الطيبة يزيد على ماء السنين الشحيحة. وعلى كل فيجب قبل وضع مشروع نهائي من هذا القبيل دراسة حوض أعالي النيل درسا وافيا، كما يجب ابتكار طريقة تقلل من خسارة الماء الفادحة في منطقة السد.
ويبلغ طول بحيرة ألبرت نحو 175 كيلومترا، وعرضها 45 كيلوا، وتقرب مساحتها من 5300 كيلومتر مربع، وهي على ارتفاع 620 مترا فوق سطح البحر، وأهم الأنهار التي تمدها بالماء هو نهر السمليكي الذي ينبع من بحيرة إدوارد ويصب غرب جبل الرونزوري.
وتبلغ مساحة بحيرة إدوارد 2200 كيلومتر مربع، وهي أعلى من بحيرة ألبرت بما يقرب من الثلاثمائة متر، وتصب فيها جملة نهيرات لا يعرف عنها إلا القليل من وجهة الأبحاث المائية. أما بحيرة جورج فصغيرة ولا أهمية لها.
وتمتد بحيرة فيكتوريا مسافة ° من خطوط العرض، ويخترقها خط الاستواء، ويبلغ طولها من بورت بل شمالا إلى موانزا جنوبا 315 كيلومترا، ويبلغ اتساعها في أعظم أجزائها عرضا 275 كيلومترا. ومساحتها 69000 كيلومتر مربع، ومتوسط عمقها أربعون مترا، وأعظمه 70 مترا، وساحلها على العموم كثير التعاريج والتلال وبها جزر كثيرة. وأهم نهيراتها نهر كاجيرا، وأقصى منابعه عند خط العرض 4° جنوبا قريبا من بحيرة تنجانيقا بالأراضي البلجيكية على ارتفاع 2000 متر. أما نيل فيكتوريا، وهو المنفذ الوحيد للبحيرة فيخرج منها عند جنجا فوق شلالات ريبون، ثم يجري في واد عميق فوق جملة شلالات، وتتعذر فيه الملاحة لمسافة. ثم يخترق الطرف الشرقي لبحيرة كيوجا، وهي متسع من الماء قليلة الغور ذات ألسن تسدها نباتات المستنقعات.
أما بعد بحيرة كيوجا فالملاحة ممكنة بنيل فيكتوريا إلى نقطة يلتوي عندها نحو الغرب، ثم يعترض مجراه بعد ذلك الكثير من الشلالات حتى يبلغ شلالات مورتشيسون، حيث يدخل بعد ذلك بقليل الجزء الشمالي من بحيرة ألبرت. (2) الأبحاث المائية
إن أغزر سقوط أمطار حوض النيل يقع على صعيد البحيرات وفي الحبشة، ويقل على العموم من الجنوب إلى الشمال، ثم يتزايد ثانية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ويقرب متوسط سقوط الأمطار في صعيد البحيرات من 1300 مليمتر في العام بالرغم من اختلافه في مختلف الجهات إلى أن يبلغ حده الأعلى، وهو 1800 مليمتر، ويبلغ متوسط ما يسقط بصعيد بلاد الحبشة 1080 مليمترا. أما متوسط سقوط الأمطار من شمال العطبرة إلى بضع كيلومترات من مدينة القاهرة فهو أقل من 25 مليمترا سنويا. وقد ينعدم تماما في بعض السنين. ويبلغ متوسط سقوط الأمطار على ساحل البحر الأبيض المتوسط 150 مليمترا.
ويبلغ سقوط الأمطار نهايته العظمى في الجزء الجنوبي من صعيد البحيرات في شهر إبريل ونهايته تتحول إلى نهاية عظمى واحدة في سهول السودان في شهري يولية وأغسطس.
وقد تسقط الأمطار بصعيد البحيرات في أي وقت من السنة، ولكن باتجاهنا شمالا يتميز الفصلان: فصل الرطوبة وفصل الجفاف.
ويمكن القول إن سقوط الأمطار يحدث في منطقة تتبع سير الشمس شمالا وجنوبا متأخرا شهرا أو شهرين، ويعزى أصل الكثير من أمطار حوض نهر النيل إلى الجزء الجنوبي من المحيط الأطلسي.
ويمكننا تقسيم ماء النيل إلى قسمين: قسم تحمله نهيرات تنبع في الحبشة، والآخر يأتي به بحر الجبل من صعيد البحيرات. ولا يتسرب الكثير من الأمطار التي تسقط بالسودان إلى النيل؛ لأن أكثرها إما أن يتبخر أو تمتصه النباتات في موقع سقوطه، ويعزى هذا إلى استواء أكثر أراضي السودان.
وأهم أنهر الحبشة هي النيل الأزرق والعطبرة والبارو، ولها مميزات أنهر الجبال؛ إذ ترتفع ارتفاعا سريعا في فصل الأمطار مع تغييرات كبيرة، وتحمل كميات عظيمة من الماء، أما بعد فصل الأمطار فيقل جريانها في سرعته كما يحدث عادة في العطبرة وفي الرهاد والدندر، إذ يقف جريان الماء فيها لمدة تزيد على نصف السنة، وتجف مجاريها إلا في برك منعزلة، وماء هذه الأنهر تكون في أثناء الفيضان مشبعة بالطمي مما يجعل خزنها في الخزانات من أصعب الأمور.
ويستمد النيل الأعظم أكثر مائه من النيل الأزرق الذي يبلغ معدل تصرفه عند مدينة الخرطوم 1640 مترا مكعبا في الثانية بين سنة 1912 و1933، ولكن معدل تصرفه في شهر أغسطس 5690 مترا، ثم يتناقص حتى يبلغ 100 متر مكعب في الثانية من شهر إبريل.
أما في شهر سبتمبر الذي يبلغ فيه النيل الأعظم أعلاه، فإن نسبة ما يستمده من الماء على التقريب كالآتي:
69٪ من النيل الأزرق، و17٪ من النيل الأبيض، ويأتي المجرى الأصلي للنيل الأزرق من بحيرة تانا، لكنه لا يستمد ماء كثيرا منها؛ لأن متوسط التصرف من البحيرة يبلغ 120 مترا مكعبا في الثانية.
ويبلغ الفرق بين أعلى وأقل منسوب للنيل الأزرق عند الروصيرص التي هي أبعد نقط القياس عليه نحو تسعة أمتار. أما في رافد العطبرة عند خشم القربة فإن متوسط فرق المنسوبين يقرب من خمسة أمتار.
ويبين الجدول الآتي في الصفحة التالية متوسط التصرف الشهري في بعض المحطات المهمة في حوض النيل، وقد بني على التصرفات المقيسة بالرغم من استعمال مناسيب النيل في بعض الأحيان بوضع الأوساط العديدة للتصرفات المقيسة:
بحر الغزال.
معدل المتوسطات الشهرية لتصرف النيل ونهيراته الرئيسية بالمتر المكعب في الثانية سنة (1912-1933)
النيل ونهيراته
يناير
فبراير
مارس
إبريل
مايو
يونيو
يوليو
أغسطس
سبتمبر
أكتوبر
نوفمبر
ديسمبر
المتوسط السنوي
النيل الرئيسي عند أسوان خلف الخزان
1110
940
760
710
800
1020
1710
6300
7820
5460
2800
1480
2580
النيل الرئيسي عند وادي حلفا *
1400
1020
740
590
560
730
1860
7130
8490
5680
3000
1880
2760
نهر العطبرة عند الفم
30
640
2060
1380
280
70
20
380
النيل الرئيسي عند الخرطوم †
1240
900
700
610
700
1100
2600
6270
6740
4420
2410
1660
2460
النيل الأزرق عند الخرطوم ‡
340
210
140
100
170
490
2070
5690
5580
3020
1190
580
1640
النيل الأبيض عند الخرطوم
910
690
560
530
550
620
580
620
1140
1390
1220
1090
830
النيل الأبيض عند الملاكال
810
650
580
530
580
750
910
1050
1160
1240
1230
1110
890
نهر السوباط عند حلة دوليب
320
180
120
100
160
340
490
610
700
760
780
630
430
النيل الأبيض - السوباط - المستنقعات §
490
470
460
430
420
410
420
440
460
480
450
480
460
بحر الجبل عند منجلا
750
700
680
720
870
840
910
1030
1070
1040
950
830
870
جزء بحر الجبل الذي يصل منجلا من بحيرة ألبرت
750
700
670
660
670
680
690
710
730
770
790
800
720
النسبة المئوية بين بحيرة ألبرت
100
100
99
92
78
81
76
69
69
74
83
96
83
نيل فيكتوريا بعد بحيرة كيوجا ||
670
620
600
620
690
740
760
780
780
790
780
740
710
نيل فيكتوريا عند شلالات ريبون
590
580
590
640
720
730
680
640
620
600
600
610
630 *
في السنوات من 1925-1933 قد عمل حساب تأثير الموازنة عند قناطر سنار. †
في السنوات من 1925-1933 قد عمل حساب تأثير الموازنة عند قناطر سنار. ‡
في السنوات من 1925-1933 قد عمل حساب تأثير الموازنة عند قناطر سنار. §
ويشمل بحر الغزال الذي يتراوح تصرفه من - 12 إلى 95 مترا مكعبا في الثانية. ||
هذا المعدل هو للسنين 1913-1933 بعد حذف سنة 1914.
وبمقارنة المتوسطات السنوية نرى من الجدول أن النهر يفقد جزءا من الماء من العطبرة فصاعدا شمالا، وكذا يفقد النيل الأبيض جزءا بين الملاكال والخرطوم.
ويتبين من الجدول أن النيل الأبيض هو أهم مورد للماء في طور انخفاض النيل الذي يصبح في هذه الفترة عاجزا عن سد حاجات الري لمصر فتضاف إلى مائه كمية من الماء المخزون في خزان أسوان. ويحجز هذا الماء على الأخص في شهري ديسمبر ويناير، ويصرف منه من إبريل إلى يولية، وفي كلتا الحالتين تحدد حال النهر هذه المواعيد التي تختلف من سنة إلى أخرى.
ويرى من الجدول الطريقة العامة لموازنة الخزان بمقارنة تصرفات وادي حلفا وأسوان. وأول استعمال لخزان أسوان بعد تعليته كان في فترة 1912-1913. ومن هنا يتضح أن الفترة المذكورة في الجدول هي منذ تعلية الخزان.
ويمد النيل الأبيض مصر في أشد الشهور انخفاضا بما يقرب من 80٪ من كمية الماء. فيبلغ تصرفه نهايته العظمى عند الخرطوم في شهر أكتوبر بمعدل 1390 مترا مكعبا في الثانية، ويعيق ارتفاع النيل الأزرق السريع تصرف النيل الأبيض فيحفظ ماؤه ويملأ جزء منه واديه إلى أن تطلق حين انخفاض النيل الأزرق. ويرى تأثير ذلك بمقارنة تصرفات النيل الأبيض عند الملاكال والخرطوم من يولية إلى أكتوبر. وقد أقيم خزان جبل أولياء على النيل الأبيض قريبا من الخرطوم لحجز هذه الكمية من الماء زمنا أطول لمد مصر بها في زمن التحاريق.
ولتصرف النيل الأبيض مصدران: (1)
السوباط الذي يختلف متوسط تصرفه من 780 مترا مكعبا في الثانية في شهر نوفمبر إلى 100 متر مكعب في الثانية في إبريل. (2)
تصرف بحر الزراف وبحر الجبل، وهو ثابت تقريبا طول السنة، ولو أنه يختلف قليلا من سنة إلى أخرى.
ويتكون نهر السوباط من التقاء نهري البارو والبيبور أمام محطة الناصر بقليل، والجزء الأعظم من تصرف السوباط يأتي به نهر البارو من بلاد الحبشة، وتستمد نهيرات جيلا وأكوبو وخور مكواي - التي هي أهم فروع البيبور - ماءها من الحبشة أيضا، ومعظم فروع البيبور الباقية تأتي من منحدرات صعيد البحيرات، ولكنها لا تمده إلا بجزء يسير من الماء.
ويبلغ تصرف السوباط حده الأعلى عند المصب في أكتوبر ونوفمبر. أما في نهيرات الحبشة فيبلغ هذا الحد في سبتمبر. وسبب هذا التأخر هو أن المساحات الكبيرة من الأرض المستوية يغمرها النهر ثم يعود بعض الماء منها إلى النهر فيما بعد.
وقد غمر الماء مساحات شاسعة بين السوباط، ونجد الحبشة، وصعيد البحيرات، وبحر الجبل في فيضان سنة 1917 الغزير. وبلغ التصرف عند مصب السوباط في هذه الفترة غايته في شهر فبراير سنة 1918، بينما كان أعظم تصرف عند جميلا على البارو في سفح نجد الحبشة قبل منتصف أكتوبر.
ويمكن عد بحر الزراف شعبة لبحر الجبل؛ لأنه ينبع من مستنقعات شرق بحر الجبل ويتصل به بقناتين حفرتا بالكراكات في سنتي 1910 و1913، فماؤه مستمد من بحر الجبل.
أما بحر الغزال فيمد النيل الأبيض بقدر يسير من الماء بالرغم من اتساع مساحة حوضه الغزير الأمطار. وأكبر تصرف قيس في مصب بحر الغزال هو 90 مترا مكعبا في الثانية وقد يجري أحيانا في الاتجاه المضاد، أي من النيل الأبيض إلى بحيرة تو. أما نهيرات خط تقسيم مياه نهري النيل والكونغو، فتجري في سهول السودان، حيث تكون مستنقعات يضيع أغلب مائها بالتبخر وبامتصاص النباتات لها.
ويعادل تصرف بحر الجبل والزراف وبحر الغزال الفرق بين تصرف النيل الأبيض عند الملاكال وتصرف مصب السوباط؛ ولذا سمي هذا المجموع في الجدول تصرف المستنقعات.
واذا أهملنا ما يأتي به بحر الغزال؛ فإن جميع الماء الذي يجري ويصل إلى أطراف المستنقعات يأتي من البحيرات العظمى ومن منحدرات صعيد البحيرات مارا بمنجلا، ولا يصل إلى نهايات المستنقعات من التصرف المار بمنجلا إلا نصفه، وهي نسبة متغيرة، ففي السنين العالية تزيد النسبة المئوية للضائع وتقل حين انخفاض النيل.
وللمستنقعات تأثير آخر، وهو إعاقة جميع التغييرات عدا الرئيسية منها، وإطالة الزمن الذي تستغرقه تغيرات التصرفات بمنجلا ليكون تأثيرها محسوسا في نهاية المستنقعات. ويبلغ هذا الزمن من ثلاثة إلى أربعة شهور، ولكنه يقل حينما تكون المناسيب واطئة جدا عند جفاف جزء كبير من المستنقعات.
وإذا راعينا الفترة التي يستغرقها سير الماء نجد أن التصرف الشهري عند نهاية المستنقعات لا يزيد بحال من الأحوال على كمية الماء المارة بمنجلا، وعليه فقد كانت المستنقعات دائما سببا في ضياع الماء، ولم تكن كخزانات في وقت من الأوقات.
وبهذه المناسبة ندون فيما يلي أقل تصرفات السنتين 1922 و1923:
المتوسط الشهري للتصرف بالمتر المكعب في الثانية
منجلا
المستنقعات - الملاكال - السوباط
1921-22
1922-23
1922
1923
ديسمبر
440
400
فبراير
370
360
يناير
400
370
مارس
320
290
فبراير
370
330
إبريل
290
280
مارس
370
320
مايو
290
300
إبريل
400
350
يونية
300
330
ويتصل الكثير من النهيرات ببحر الجبل بين منجلا وبحيرة ألبرت، وتمده هذه النهيرات في فصل الأمطار بقدر وافر من الماء، وكلها سيول جارفة سريعة الارتفاع والهبوط. وما تأتي به من الماء من ديسمبر إلى مارس ضئيل لا يستحق الذكر أما مورد بحر الجبل المستمر فهو البحيرات التي تمده على المتوسط بنحو 80٪ من كمية مائه السنوية.
أما المعلومات عن نظام بحيرتي فيكتوريا وألبرت فقليلة جدا، وعليه فكل ما يستنتج منها تجريبي. وقد بحث الدكتور ه. أ. هرست المعلومات الحالية في تقرير نشر عن حوض صعيد بحيرات النيل، وطبع بالمطبعة الأميرية سنة 1925 ملخصه ما يأتي:
أهم نهيرات بحيرة فيكتوريا هو نهر كاجيرا، وتأتي النهيرات الشرقية والجنوبية بكميات وافرة من الماء في فصل الأمطار، لكنها عديمة الأهمية زمن الجفاف. أما نهر كاتونجا الواقع بالجهة الغربية فهو ما تبقى من مجموعة أنهر كبيرة، ولكن ما يمد به البحيرة من المياه قليل؛ لأن بواديه مستنقعات البردي التي تعيق سير المياه - ومستنقعات الوديان هذه من مميزات مساحات عظيمة من أوغندا. ويقترب خط تقسيم المياه من البحيرة في شمالها، فتتجه المياه شمالا إلى بحيرة كافو وكيوجا. ونظرا لاتساع مساحة بحيرة فيكتوريا التي تبلغ
مساحة حوضها، ونظرا لصغر النسبة المئوية لماء الأمطار المتسربة إليها، فإن أهم العوامل تأثيرا على نظامها هو ما يسقط على سطحها من الأمطار مباشرة وما يتبخر منه. وهذه العوامل تقدر بأربعة أضعاف العوامل الأخرى، أي ما ينحدر من حوضها وما يصب في شلال ريبون.
ولا يعرف تصرف نيل فيكتوريا إلا بالتقريب، ولكن يتضح من المعلومات الموجودة أن التصرف يتساوى على التقريب أمام بحيرة كيوجا وخلفها من الجدول السابق.
وقد يحتمل أن تكون بحيرة كيوجا منبع خسارة في النصف الأول من السنة ومنبع زيادة في النصف الثاني. على أن كلا من الزيادة والنقصان عادة قليل الأهمية.
وتأثير ذلك على نيل فيكتوريا هو تأخير موعد النهاية العظمى والنهاية الصغرى. والنهاية العظمى أمام بحيرة كيوجا تحصل في يونية والصغرى في يناير وفبراير ، بينما النهاية العظمى خلف بحيرة كيوجا تكون من أغسطس إلى نوفمبر، والصغرى في مارس.
أما في حالة بحيرة ألبرت فإن متوسط ما يدخلها من ماء نيل فيكتوريا يقرب من ضعف ما يتسرب من حوضها وما يخرجه منها نيل ألبرت أو بحر الجبل يزيد بقدر الثلث عما يدخلها من مياه نيل فيكتوريا ويبلغ التبخر
هذه المقادير، بينما يبلغ ما يسقط عليها من الأمطار مباشرة خمسها، وتحدث النهايتان العظمى والصغرى متأخرتين شهرا على التقريب عن حصولهما بنيل فيكتوريا.
وما تقدم هو نتائج عامة استخلصت من المعلومات الحالية القليلة عن المباحث المائية لصعيد البحيرات، وتحتاج للتأكيد ولزيادتها بأرصاد تفصيلية تؤخذ باستمرار في سنين كثيرة. وهو ما يقوم به الري المصري في السودان. •••
أما ما سجل من مناسيب النيل في مصر فيرجع إلى سنين عديدة، ولكن القديم منها عن سنة 1872 غير مستوف؛ إذ ليس به إلا مناسيب مبعثرة. وتوجد مجموعة للنهايات العظمى والصغرى للمناسيب عند القاهرة من سنة 641 إلى سنة 1450 ميلادية تكاد تكون كاملة. ومما يلفت النظر في هذه المعلومات أن الفيضانات كانت أعلى من المتوسط في مدة طويلة تقرب أحيانا من الخمسين عاما، وأقل منه في فترات أخرى، كما يحتمل حدوث فيضانات منخفضة جدا بين مجموعة من الفيضانات العالية وبالعكس. وقد فحصت هذه السجلات للوقوف على هل كانت الفيضانات العظيمة دورية وقد استنتجت منها أطوارا قصيرة. وتطمس الاختلافات معالمها لدرجة تصبح معها عملية التنبؤ عديمة الفائدة.
وتوجد علاقة بين الأحوال الجوية لجنوب المحيط الطلسي وبين فيضان النيل، ولكن لم يتيسر حتى الآن عمل تنبؤ عن الفيضان يمكن الاعتماد عليه في الأغراض العملية. وعلى كل فقد يمكن في يوم من الأيام بتقدم علم الظواهر الجوية، وبالوقوف بالتفصيل على حقيقة العامل الذي ينشأ عنه الفيضان أن يستنتج تنبؤ دقيق عن حال الفيضان قبل حدوثه ببضعة أشهر. وتزداد قيمة هذا التنبؤ بازدياد مناطق الري في وادي النيل.
ويمكن عمل تنبؤات يعتمد عليها في حال انخفاض النيل قبل حدوثه ببضعة أشهر، ففي شهر ديسمبر مثلا يمكن عمل تنبؤات عن حالة النيل على العموم بمصر لغاية شهر مايو. ولكن ابتداء الأمطار في صعيد الحبشة يجعل هذه التنبؤات بعد هذا الميعاد غير مؤكدة، وكذلك يمكن عمل تنبؤات لمدد قصيرة مبنية على حساب التصرفات والمناسيب الأمامية بدرجة عظيمة من التحقيق.
وتعمل تنبؤات من هذا القبيل باستمرار؛ لتساعد على وضع برنامج الري ولملء خزان أسوان وتفريغه. (3) المناخ
إن اتساع مدى حوض النيل ارتفاعا وعرضا ينشأ عنه اختلاف عظيم في المناخ، وللحوض على وجه التقريب ثلاثة أقسام رئيسية من المناخ، وهي منطقة البحر الأبيض المتوسط، والمنطقة الصحراوية، والمنطقة الاستوائية. وحدود هذه المناطق ليست معينة، ولكن يمكن القول على وجه التقريب إن منطقة البحر الأبيض المتوسط تشتمل على الدلتا، وتمتد مسافة قصيرة في صعيد مصر، وإن المنطقة الصحراوية تشمل جزءا من صعيد مصر وشمال السودان، وتمتد تقريبا حتى العطبرة، وإن المنطقة الاستوائية هي ما بقي من الحوض.
وأهم ما بني عليه هذا التقسيم هو الدورة الجوية، وللقسم الاستوائي أحوال متعددة من حيث سقوط الأمطار والرطوبة ودرجة الحرارة، وهي العوامل المباشرة في التأثير على الحياة فيه. ومميزات النصف الشمالي من هذا الحوض درجة الحرارة، وانخفاض درجة الرطوبة ، وقلة الأمطار، ويندر وجود الماء بعيدا عن الأنهار في فصل الجفاف حتى في سهول جنوب السودان.
ولتوزيع الضغط الجوي أربعة فصول يمكن تسميتها بالشتاء من نوفمبر إلى مارس، والصيف من يونية إلى سبتمبر، مع فترتي انتقال قصيرتين بينهما.
ويتمركز الضغط المرتفع على الصحراء الكبرى مدة فصل الشتاء، وتكون رياح وادي النيل جزءا من الرياح التي تدور حوله. وللضغط المرتفع مركز آخر فوق أواسط آسيا. وتخترق أفريقية منطقة من الضغط المنخفض محورها يقرب من شمال خط الاستواء، وتهب على العموم رياح شمالية على وادي النيل حتى خط الاستواء، ويعيق هذا الدوران العام الانخفاضات الجوية التي تسير على البحر الأبيض المتوسط من المغرب إلى الشرق، فتكثر الرياح الجنوبية في الوجه البحري شتاء. وفي فبراير حين يكون تأثير الضغط المنخفض على البحر الأبيض المتوسط واضحا تكون الريح السائدة على مصر من الساحل حتى مدينة القاهرة جنوبا متجهة نحو الجنوب الغربي، ويكون الريح العام شماليا بين خطي العرض 30° و20° شمالا على مدار السنة.
وفي التوزيع الصيفي تتكون منطقة منخفضة الضغط فوق الشمال الغربي للهند بانحدارها على العموم من الغرب إلى الشرق. أما في الجزء الشمالي من الحوض فتهب باستمرار رياح شمالية. وفي النصف الجنوبي تكون الرياح على العموم جنوبية غربية تحمل معها الندى الذي يسقط أمطارا في جنوب السودان والحبشة.
وعلى العموم توجد منطقة قليلة الضغط ذات خطوط ضغط متساوية مغلقة في أثناء فترتي الانتقال فوق أواسط السودان تدور حولها الرياح، بينما تهب رياح شمالية على الجزء الشمالي من الحوض، وأكثر ما يتوقف عليه اتجاه الريح في صعيد البحيرات هو شكل المكان الطبوغرافي.
ويمكن القول على وجه التقريب بأن طقس النصف الشمالي من الحوض في أثناء الصيف أكثر انتظاما من طقس الشتاء، والأمر بالعكس في الجزء الجنوبي.
ويبين الجدول الآتي الظواهر الرئيسية لتوزيع درجة الحرارة:
معدل درجة الحرارة بالسنتيجراد
المرصد
الإسكندرية
الجيزة (القاهرة)
وادي حلفا
الخرطوم
الملاكال
منجلا
عين تيبه
المتوسط السنوي
19,9
19,5
24,4
28,2
26,3
26,1
21,5
أعلى متوسط شهري
الشهر
أغسطس
يولية
يولية
يونية
إبريل
مارس
فبراير
المقدار
25,9
26,7
13,6
33,1
29,7
28,4
22,2
أقل متوسط شهري
الشهر
يناير
يناير
يناير
يناير
أغسطس
يولية-أغسطس
يولية
المقدار
13,5
10,8
14,4
21,4
14,6
24,3
20,4
أعلى متوسط النهاية العظمى
الشهر
أغسطس
يولية
يونية
يونية
مارس
مارس
يناير-فبراير
المقدار
30,8
35,3
41,3
41,8
39,0
37,3
36,7
أقل متوسط النهاية الصغرى
الشهر
يناير
يناير
يناير
يناير
ديسمبر
يناير
يولية-أغسطس
المقدار
10,4
5,4
7,7
14,9
17,6
19,5
16,4
متوسط المدى اليومي
يناير
8,2
13,6
16,3
15,1
17,7
17,5
9,3
يولية
7,3
15,9
17,9
14,0
9,8
10,9
8,3
وتحدث أقصى درجات الحرارة في شمال السودان، ولو أن درجات الحرارة المرتفعة تحدث في كل مكان ما عدا الأراضي المرتفعة. أما في مصر فقد كانت أعلى درجة حرارة سجلت حديثا هي 51 سنتيجراد في أسوان، وأقل درجة هي: 4 سنتيجراد في الجيزة. وقد سجلت درجة 52,5° سنتيجراد في السودان في وادي حلفا و55,5° سنتيجراد في طوكر. إلا أن الأخيرة مشكوك فيها. وأقل درجة حرارة سجلت في السودان هي −2° سنتيجراد في وادي حلفا.
أما على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، فإن مدى الفروق السنوي واليومي أقل مما هما عليه في الداخل، ويزيد هذان المديان في مصر العليا وفي شمال السودان، ويؤثر عليهما فصل الأمطار جنوبا عن ذلك، ولو أن المدى اليومي يظل كبيرا في فصل الجفاف لغاية نمولي على حدود أوغندا والسودان.
معدل النسبة المئوية للرطوبة النسبية
بالمرصد
المتوسط السنوي
أعلي منسوب شهري
أقل منسوب شهري
الشهر
المقدار
الشهر
المقدار
الإسكندرية
72
يولية
77
فبراير
70
الجيزة (القاهرة)
69
ديسمبر
81
مايو ويونية
55
وادي حلفا
32
ديسمبر
49
يونية
20
الخرطوم
30
أغسطس
55
إبريل
15
الملاكال
58
أغسطس
86
فبراير
24
منجلا
69
يولية وأغسطس
84
يناير
48
بوكوبا (بحيرة فيكتوريا)
80
إبريل
89
يولية
71
وأهم ما يلفت النظر من الظواهر الجوية من حيث الرطوبة انخفاضها في الجزء الشمالي من السودان، ويقل متوسطها من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الداخل حتى قرب مروى عند خط عرض 18° شمالا، حيث يبلغ المتوسط السنوي 22٪. ومروى بلا ريب من أجف بقاع العالم، وكثيرا ما سجلت بها نسب الرطوبة تقرب من الصفر، وكثيرا ما تبلغ نسبة الرطوبة 5٪ في القطر المصري والسودان من ساحل البحر الأبيض المتوسك إلى مسافة جنوب الخرطوم في الربيع وفي أوائل الصيف.
ويزيد المتوسط السنوي من مروى فما بعدها لسقوط الأمطار، ولكن تقل الرطوبة جدا في فصل الجفاف من أواسط السودان جنوبا حتى الملاكال، وترتفع درجة الرطوبة قرب بحيرة فيكتوريا على طول السنة.
وقد يحدث سقوط الأمطار إلى حد ما. والجدول الآتي يزيد الشرح بيانا:
معدل سقوط الأمطار بالملليمتر
المرصد
المجموع السنوي
أعلى متوسط شهري
أقل متوسط شهري
الشهر
المقدار
الشهر
المقدار
الإسكندرية
192
ديسمبر
60
يونية، يولية، أغسطس
صفر
الجيزة «القاهرة»
30
يناير
7
يولية، أغسطس، سبتمبر
صفر
وادي حلفا - - - -
صفر
الخرطوم
157
أغسطس
70
نوفمبر إلى فبراير وإبريل
صفر
الملاكال
887
أغسطس
205
ديسمبر إلى فبراير
صفر
منجلا
954
يولية
138
يناير
2
عين تيبه
1498
إبريل
257
يناير
66
المسافة بين بحيرة فيكتوريا وبين أهم الأماكن الواقعة على النيل ومقدار ارتفاعها عن سطح البحر
الأماكن
الموقع
المسافة من شلالات ريبون (بالكيلومتر)
ارتفاع أوطأ سطح تصله المياه عن منسوب سطح البحر (بالمتر)
شلالات ربيون
بحيرة فيكتوريا
صفر
1134 *
ماسندي بورت
نيل فيكتوريا
225
1030
شلالات مارتشزون
نيل فيكتوريا
385
664 †
بحيرة ألبرت
بحيرة ألبرت
416
619
وادلاي
بحيرة الجبل
477
618
نيمولي
بحيرة الجبل
626
614
جوندو كورو
بحيرة الجبل
808
452
منجلا
بحيرة الجبل
845
442
بور
بحيرة الجبل
973
421
بحيرة نو
النيل الأبيض
1592
388
التوفيقية
النيل الأبيض
1724
385
الملاكال
النيل الأبيض
1738
384
الدويم
النيل الأبيض
2354
374
الخرطوم
النيل الأبيض
2556
372
نهر العطبرة
النيل
2877
342
أبو حمد
النيل
3129
308
كريمة
النيل
3361
241
وادي حلفا
النيل
4089
115
أسوان (المدينة)
النيل
4438
83
الأقصر
النيل
4655
68
قنا
النيل
4717
64
جرجا
النيل
4839
57
أسيوط
النيل
4982
45
القاهرة
النيل
5384
15
قناطر الدلتا (الأمام)
النيل
5407
14
فم رشيد
النيل
5643
صفر *
أمام الشلالات. †
أمام الشلالات.
المسافة بين بحيرة تانا وبين أهم الأماكن الواقعة على النيل الأزرق ومقدار ارتفاعها عن سطح البحر
الأماكن
المسافة من بحيرة تانا
ارتفاع أوطأ سطح يصله الماء عن منسوب سطح البحر
بالكيلومتر
بالمتر
بحيرة تانا .
1844
فازوغلي
875
477
الروصيرص
975
440
سنجا
1175
415
سنار
1265
407
واد مدني
1411
389
الكاملين
1245
381
الخرطوم
1617
372 (4) مصر والنيل
قال سعادة الباحث الفاضل أمين سامي باشا:
إن الديار المصرية بما هو قائم بها من صفة العتاقة البليغة وفضيلة الثبات العجيبة والتؤدة الغريبة التي كانت توصلت بها إلى أعلى درجات الحضارة، وحصلت على نهاية صلاح الحال والتحسين كانت غنية عن اقتباس النور من الغير، وليست محتاجة إلى سواها في اكتساب مناهج الخير،
1
وهذا يطابق ما وصفها به موسى، وهيرودوتس، وديودرس الصقلي، واسترابون، وابن مارسين أوكلمنوس الإسكندري.
ورغما عن العواصف والتخريب وتغيير الدول على مصر، فإنها لا تزال حافظة على مميزاتها الخصوصية. فقد وجهت عناية الفراعنة الذين قاموا بأمر شئونها منذ مبدأ مدنيتها الزاهرة الباهرة إلى ما يأتي:
أولا:
حفظ مجرى النيل واتقاء كل الغوائل التي كانت تعترض سيره كالرمال التي أهلكت جيوش الفرس وألوف الجنود التي قادها هكس باشا لمقاومة ثورة المهدي وإنجاء غوردون فإنه للآن لم يعثر لها على أثر، إذ غمرتها الرمال في مكان لا يعلمه إلا الله، وقد قرر مجلس النظار في 24 مايو سنة 1884 اعتبار الخدمة العسكرية والملكية معدومين، واعتبار وفاتهم من 29 فبراير سنة 1884، وأن يكون ترتيب المعاش لهؤلاء وهؤلاء ابتداء من أول مارس سنة 1884. تلك الرمال التي كانوا يعانون في إزالتها أشد العذاب لم ينجهم منها إلا الحيوان، الذي له أكبر فائدة، وهو الأستاذ الأول للإنسان؛ فقد تعلم طرق الادخار ونظام الجيوش وترتيبها والحروب، وهو النمل. كما استفاد منه أحد ولدي آدم الذي لم يقبل منه ما قبل من أخيه القربان، وكما استفاد أيضا تعلم علم الجسور والقناطر من الحيوان المسمى بالكستور، وهو المعروف بالجندباوستز، وهذا الحيوان هو الذي وجه نظر المصريين القدماء إلى إقامة الهرم الأكبر؛ فإنهم لما رأوا هجرة السمان إلى بلادهم وقت هبوب الرياح الشديدة من الشمال الغربي، وأنها ترفع أحد جناحيها كالقلع وتحرك الآخر كالمقذاف وتترك نفسها معها حتى تقطع البحر المتوسط الإسكندري فتصل منهوكة القوى إلى أماكن استراحتها، فكانوا يقيمون أغصانا تتكون تحتها كثبان من الرمال تقف عليها لتستريح، ومثل السمان القلق
2
المسمى عند الفرنج سيجوفي، فمصيفه الجهات الشمالية الباردة من أوروبا، وشتاؤه وطنه الأصلي من أفريقية، فيسمع صوته جهة الأهرام وغيرها، فبمشاهدته تكون كثبان الرمال تحت تلك الأغصان.
وكان لزاما عليهم أن يذوقوا من العذاب ألوانا في تطهير مجرى النيل من هذه الرمال التي كانت تطمر مجراه الذي كان بالقرب من مكان الهرم الحالي. قام بفكرهم أنهم إذا أقاموا هدفا يمنع الرمال من طمر مجرى النهر استراحوا من العذاب المستمر ، فأقاموا الهرم الأكبر ذا السطوح المائلة التي إذا سقطت عليها الرمال كانت زاوية السقوط مساوية زاوية الانعكاس، وليس في سطح أي جسم آخر تتوفر تلك المزية، وشيدوه وعانوا في تشييده ما عانوا، وأبدعوا هندسته، وتفننوا في تجميله بما وصلت إليه معارفهم الهندسية والفلكية، حتى إنهم أحكموا الفتحة البحرية التي في منتصف أسفل تلك الوجهة على امتداد محور العالم، وجعلوا الفتحة القبلية في أعلى السطح المقابل تدخل منها أشعة ضوء الشعرى
3
على جثمان من سيدفن في هذا المكان، وضلع الهرم 1000 شبر، وكل شبرين ذراع، وهو من الآثار المصرية العجيبة التي تدهش الأبصار؛ فقد هرم الدهر وهو فتى، وتعاقبت عليه العصور وتوالت الدهور وهو باق يشهد بناؤه بعلو درجات المتقدمين، وينطق ببراعة من كانوا بمصر من المهندسين، بوضعه يمكن تعيين الجهات ومعرفة الفصول والانتقالات.
فهذه هي أهم البواعث على تشييد الهرم ، وليس كما يقولون إنه أنشئ ليكون مدفنا، نعم قد دفن فيه منشئه، ولكن هو كما يحصل الآن فيدفن منشئ أحد المساجد أو الجوامع فيها كما حصل في عهد ساكن الجنان إسماعيل باشا؛ إذ دفن الشيخ العروسي شيخ الجامع الأزهر في مسجده الذي هو في الشارع الممتد من باب البحر إلى باب الشعرية. وكثيرا ما وجدت مساجد سمح بدفن منشئها فيها، ولكنها قبل كل شيء هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
4
وبإنشاء ذلك الهرم استراح الناس من العذاب الأليم الذي كانوا يعانونه كل عام في إزالة الرمال الكثيرة التي كانت تعوق سير النيل، وبذلك آمنوا طريقه، واتخذ سيره نحو الجهات البحرية، وتولدت من ذلك أرض فسيحة سميت بهدية النيل، وعلى منوال هرم الجيزة عملت أهرام أخرى من الحجر واللبن، ولكن كلها في الجهة الغربية من النيل لا في الجهة الشرقية التي كلها أحجار وجبال. أما الجهة الغربية فهي منافس تنسف منها الرمال.
ولو وفق الباحثون من المتأخرين لما قالوا كما قال دوربك مفتش المدارس والمكاتب في مقدمة كتابه «التعليم في مصر»: «أو لقد قدر ما حل من العذاب الجسدي لهؤلاء الألوف من البشر الذين كانوا كقطيع من الحيوان بذلوا النفس والقوى في تشييد الآثار العظيمة التي تسمى بالأهرام.»
ولو علم المأمون سر إنشاء الهرم لما أقدم على الأمر بهدمه عند حضوره سنة 190ه، ولكن لم يتيسر إلا إزالة الجزء العلوي منه.
ثانيا:
إنشاء خزانات في مجرى النيل لادخار مياهه وصنع سيالة في كل خزان تفيض منها إلى ما بعدها مياه بقدر معلوم، «ومما يوجب إعمال الفكر أنه يوجد فيما فوق وادي حلفا على القرب من القرية المسماة سحنة - وهذه مسألة فيها نظر - صخور وعرة المرقى رأسية الوضع على حرف النيل توجد عليها كتابات بالقلم المصري القديم منقوشة على ارتفاع سبعة أمتار فوق ما تبلغه المياه إذا وصلت إلى أعلى درجة من الزيادة الآن. ومن ترجمتها يعلم أن النيل كان في عصر العائلة الملوكية الثانية عشرة والثالثة عشرة إذا بلغ أقصى زيادة يصل إلى موضع النقش من تلك الصخور. وإذا صح ذلك فإن النيل من قبل هذا العصر بأربعين قرنا من الزمن يبلغ عند الشلال الثاني أكثر مما يبلغه في عصرنا هذا من الارتفاع بسبعة أمتار. ولعل السبب في اختلاف ارتفاع مياه النيل وما اعتنى بعمله فراعنة الدولة المتوسطة من الأعمال الجسيمة في ماء النيل بقصد الامتناع من غائلته، والانتفاع بزيادته، وللتحصن من غارات أعدائهم الذين كانوا يتهجمون عليهم من السودان يجعل هذا الشلال حصنا طبيعيا ومانعا قويا من نزول سفنهم إليه وشن الغارة عليهم.
ولما سافر سير صمويل باكر بحملته التي أعدها له ساكن الجنان إسماعيل باشا خديوي مصر، وكانت برياسة الميرالاي رءوف بك، أراد أن يجتاز بحملته ومعداتها وسفنها سيالة الشلال، فاستلزم الحال وقوف الحملة مدة عام حتى أزيلت بعمال من بلاد إسنا،
5
وهكذا يجرؤ كل انسان لا يدرك سر ما هو مجسم أمامه على هدم كل أثر نافع.
ثالثا:
إعداد مصرف للنجاة من طغيان ماء النيل عند الفيضانات العالية ليفيض منها على جهة الواحات وما بعدها إلى مريوط ليكسب تلك الأراضي خصوبة، فتنبت حب الحصيد والنخيل والأعناب . وقد قال هيردوت:
إنه بسبب حدوث اختلافات مذهبية بين كهنوت ذلك الوادي وكهنوت مصر، وطول عهد تلك الاختلافات اضطر الطرفان إلى تحكيم الإله آمون للفصل فيها، فاجتمعوا تحت الإله آمون الذي هو من حجر الجرانيت الذي تستقبل مسامه الندى ليلا. وعند حرارة الشمس نهارا يحصل أزيز تسمع منه أصوات، فاعتقد كهنوت وادي النيل بأن ذلك مقبع لكهنوت إقليم الواحات وما جاورها، ولكن الآخرين رأوا أن هذا مما يوجب انحطاطهم في أعين سكان واديهم فأصروا على استمرار الخلاف، فاضطر الأولون إلى الاستعانة بقوة الحكام على عدم سريان المياه في المصرف وأغلقوه ولكن بدون إحكام، فكانت المياه في مدة الفيضان تظهر منه كالنافورات تتسرب في كل عام، فتظهر في امتداد البحر الذي بلا ماء.
وقد بحث هذا الموضوع المرحوم محمود الفلكي باشا بحثا مستفيضا ودون فيه ما يؤكد رواية هيردوت، وتوسع فيما يتعلق بما كان في مريوط من آثار العماوية والخير والكروم، وما كان يعمل منها، وحياض العصير وغير ذلك. فلو درس هذا الموضوع درسا دقيقا وأعيد مجرى البحر الذي بلا ماء لأفاد في تصريف ما يزيد من مياه الفيضان في سنة كالتي نحن فيها بدلا من ضياعها في البحر الأبيض المتوسط.
وزيادة على ما قدمناه فإن بلاد القطر كانت منشأة على مرتفعات عالية، سواء في الوجه القبلي والبحري، وكانت السكان تسر بالفيضانات العالية لتكسب الأرض خصبا يغنيها عن التسميد. وإنما كان يؤلمهم أن يتأخر هبوط النيل إلى شهر بؤونة.
وفي عهد ساكن الجنان محمد علي باشا شرع في عمل الري الصيفي وأحكام الحوش في الوجه القبلي؛ فأدى ذلك إلى تمكن الناس من إزالة البلاد العالية، واستعملت الأتربة التي كانت تحت تلك المباني كسماد بالتدريج عندما توفرت لديهم وسائل الري الصيفي في عهده، فصرنا لا نرى تل أتريب ولا تل بسطة ولا تل حوين ولا تل راك ولا تل مسمار ولا ولا ... إلخ من التلول القديمة لا في الوجه القبلي ولا في الوجه البحري، وتلا ذلك تنظيمات أخرى في الري حتى أنشئ الخزان وقناطر أسيوط ونجع حمادي، مع تعلية الخزان للمرة الأولى والثانية، وأدخلت مشروعات من بحري أسيوط إلى الجيزة.
ومع هذا فقد توصلوا إلى ما اعترف به الأوربيون من أن مصر هي المنبع الأول للعلوم والفنون ومهد الهندسة وتخطيط البلدان والزراعة والكتابة. وبينما هم يحترمونها ويقدسونها التقديس الواجب لوطن الشرائع والنظامات السياسية والكهنوتية والرموز الدينية، وبينما هم يعجبون بآثار عمارتها وبهياكلها ومدافنها وأهرامها ومسلاتها وتماثيلها التي منها أبو الهول، وبينما حب العلوم يحملهم على مطالعة كلماتها السرية المرسومة على ذلك الكتاب الحجري الهائل الذي فتحت صفحاته منذ ألوف من السنين من مبدأ الشلالات التي عند أفواه النيل نرى أن أهل الشرق كانوا فيما مضى لا يرون في تلك الهياكل وتلك القصور الملوكية القديمة وفي تلك التماثيل الفخمة وفي أبي الهول إلا خضراء سحرية على كنوز مدفونة. وما تلك الكتابة الرمزية إلا إشارات سرية تعلم الناس طرق استخراج الذهب واستكشاف المال المخبأ فيها.
ولقد شاركت أوروبا الشرق زمنا في الاعتقاد بتلك الأوهام، وسألت تلك الأحجار عن أسرار الحجر الفلسفي، وأنكرت المعنى المخبأ وراء سر الكمياء التي استعارتها القرون الوسطى من مصر، على أن تعليم الزراعة التي تحيل ماء النيل ذهبا قد حلت تلك القضية حلا طبيعيا.
ولقد مس مصر قحط في عهد فرعون يوسف. ويؤخذ من كتاب «جينيزس» أن سني الرخاء السبع ابتدأت في سنة 1715م، ثم تلتها السبع الشداد «انظر سورة يوسف».
وهذا ما كانت عليه حالة مصر في عهد دولة الرومان:
في أيام القنصلين سيلانوس
Silanus
ونوربانوس
Norbanus
ذهب جيرمانيكوس
Germanicus
إلى مصر بحجة الاشتغال بأعمال هذه الولاية، ولكن غرضه في الواقع كان موجها إلى درس ما فيها من المخلفات القديمة والآثار العتيقة، فأمر بفتح الأهراء الأميرية وأنقص أسعار الحنطة، وصنع أمورا كثيرة مما يروق العامة ويرضيها، وكان يمشي على قدمه وبغير حرس، وكان يتزيا بزي الأغارقة في ملبسه متشبها في ذلك ببليوس ثيبون (Publius Seipion)
الذي ذكر المؤرخون عنه أنه سلك هذا المسلك في جزيرة صقلية عند اشتداد نار الوغى فيها أثناء محاربة القرطاجيين .
وكان ذلك السلوك وذلك التزيي سببا في توجيه العتاب بألفاظ رقيقة من طباريوس (Tibere)
إلى جيرمانيكوس، ولكنه عنفه تعنيفا شديدا على ذهابه إلى الإسكندرية خلافا لما تقتضي به الأوامر التي أصدرها القيصر أغسطس (Auguste)
محتما فيها وجوب الاستئذان من صاحب الأمر.
ذلك لأن أغسطس في أثناء توليته زمام الأحكام أصدر جملة أوامر خصوصية، منها منع أعضاء مجلس الشيوخ «السناتور» وأكابر الفرسان الرومان من النزول إلى ساحل مصر بغير إذنه، فقد كان يخشى أن يرى إيطاليا في قحط وجوع من فعل أي إنسان يقبض على تلك الولاية التي هي مفتاح البر والبحر، والتي يتأتى الدفاع عنها بقليل من الأجناد ولو كان المغيرون عليها في جيوش كثيفة.
ولما سافر جيرمانيكوس إلى أعلى النيل زار أقرب منابعه، وزار الآثار العظيمة لمدينة طيبة القديمة، وترجم له أحد القسيسين ما عليها من الكتابات الهيروغليفية التي تنبئ بعظمة هذه الدولة القديمة وأنه كان يعسكر بطيبة 700000 جندي أخضع بهذا الجيش الملك رعمسيس الكبير بلاد ليبية والحبشة ومدية والفرس وما جاورها، وكذلك البلاد التي يقطنها السوريون والأرمن حتى وصل إلى البحر الأسود. ويعلم من هذه الكتابة أيضا مقدار الجزية التي ضربت على الأمم المغلوبة على أمرها والنقود الفضية والذهبية والأسلحة والخيل والعاج والبخور والهدايا التي أهديت للمعابد والحبوب الكثيرة ولوازم المعيشة التي كانت ترد إلى مصر من جميع الأمم.
ولما تسلم عمرو بن العاص من المقوقس عامل الدولة الرومانية في مصر الذي كان على حربها وخراجها، وظهرت جيوشه على جيوش الروم في عدة مواضع، وتضمنت معاهدات الصلح أن ينقاد المصريون للفاتحين كل الانقياد، وأن يدفعوا لهم الخراج والجزية، وتكفل لهم عمرو بن العاص بحفظ حريتهم الدينية، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم، وضمن لهم المساواة في العدل والإنصاف، هنالك ولاه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على الزكاة والحرب وقيس بن أبي العاص قاضيا. هذا والبلد في ذلك العهد محفور الأنهار معقود الجسور عندما تسلموه من الرومان وخمير العمارة فيه.
وفي سنة 25ه صرف عمرو بن العاص عن مصر بعد أن أسس فيها حكومتها ونظم إدارتها وأقام فيها ميزان العدل، وجبى عمرو الجزية من مصر في هذه السنة فكانت اثني عشر ألف دينار. وبما أن الجزية كانت دينارين على كل شخص ذكر قادر على العمل بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة فأكثر لغاية الستين سنة، فيكون المكلفون بالدفع ستة ملايين، وهو يعادل ثلث السكان بمصر وقتئذ، فيكون عددهم إذ ذاك ثمانية عشر مليونا.
ومما يفيد في هذا الموضوع:
البيان التفصيلي للحوادث التي ارتبطت بأمر النيل حسب السنين الميلادية
سنون لم يحصل فيها فناء وحصل فيها غلاء:
891، 903، 963، 964، 965، 966، 967، 968، 969، 970، 997، 1007، 1052، 1055، 1184، 1294، 1373، 1403، 1420، 1450، 1461.
سنون لم يحصل فيها وفاء ولم ينوه المؤرخون بحصول أي شيء فيها:
769، 944، 962، 1006، 1082، 1091، 1297.
سنون حصل فيها غلاء بسبب تقصير النيل:
1694، 1722، 1783، 1784.
سنون حصل فيها غلاء وقحط وفناء بسبب الشراقي:
1056، 1059، 1060، 1061، 1062، 1063، 1064، 1065، 1068، 1069، 1070، 1071، 1072، 1073، 1074، 1181، 1186، 1191، 1192، 1193، 1200.
سنون حصل فيها شراقي لعدم علو النيل إلا في آخر أيام الفيضان لمدة قصيرة:
1891، 1893، 1897، 1898، 1900، 1901.
سنون حصل فيها انحطاط مياه النيل تسبب عنه تخلف شراق بكمية كبيرة:
1877، 1887، 1899، 1902، 1904، 1905، 1907، 1913.
سنون تأخر الوفاء فيها ولكن لم ينوه المؤرخون بحصول شيء فيها:
1338، 1449، 1808، 1810.
سنون كان فيها شحيحا ولم ينوه المؤرخون بحصول شيء فيها:
1502، 1807.
سنون حصل فيها وفاء عادي:
863، 1073، 1075، 1076، 1077، 1078، 1079، 1080، 1081، 1083، 1084، 1086، 1087، 1176، 1180، 1240، 1273، 1296، 1298، 1299، 1305، 1313، 1321، 1322، 1325، 1331، 1337، 1397، 1405، 1412، 1413، 1415، 1416، 1423، 1424، 1425، 1427، 1429، 1430، 1431، 1433، 1434، 1437، 1438، 1442، 1443، 1444، 1445، 1446، 1447، 1448، 1451، 1452، 1454، 1455، 1456، 1458، 1460، 1462، 1463، 1464، 1465، 1466، 1467، 1469، 1470، 1471، 1472، 1473، 1474، 1475، 1478، 1479، 1481، 1483، 1486، 1487، 1488، 1489، 1490، 1491، 1492، 1493، 1498، 1500، 1501، 1503، 1504، 1506، 1507، 1508، 1509، 1510، 1511، 1512، 1513، 1514، 1515، 1516، 1777، 1779، 1780، 1781، 1785، 1786، 1787، 1788، 1789، 1790، 1793، 1794، 1798، 1799، 1801، 1802، 1804، 1805، 1806، 1811، 1812، 1813، 1814، 1815، 1816، 1817، 1847، 1848، 1875، 1876، 1879، 1881، 1883، 1884، 1885، 1886، 1887، 1889، 1890، 1892، 1894، 1895، 1896، 1903، 1906، 1908، 1909، 1910، 1911، 1912، 1914، 1915، 1916، 1917، 1918، 1919، 1920، 1921، 1922، 1923، 1924، 1925، 1926، 1927، 1928، 1929، 1930، 1931، 1932، 1933.
سنون حصل فيها وفاء وروى بعض الأراضي ولم ينوه المؤرخون بحصول أي شيء فيها:
1005، 1420.
سنون حصل فيها وفاء وسرعة هبوط تسبب عنه غلاء:
1008، 1123، 1124، 1201، 1230، 1231، 1263، 1295، 1304، 1309، 1327، 1338، 1351، 1352، 1363، 1426، 1428، 1468، 1484، 1485، 1496، 1704، 1791، 1792، 1803.
سنون حصل فيها وفاء وسرعة هبوط ولم ينوه المؤرخون بحصول أي شيء فيها:
1505، 1873، 1880، 1882.
سنون كان فيها النيل عاليا ولم يحصل من علوه ضرر:
1149، 1183، 1232، 1329، 1359، 1382، 1389، 1391، 1395، 1421، 1439، 1440، 1934.
سنون كان النيل فيها عاليا وحصل منه ضرر:
1874، 1878.
السنة التي حصل فيها غرق تسبب عنه قحط وفناء:
1303.
سنون حصل فيها غرق تسبب عنه إتلاف الزروع والمساكن:
1088، 1164، 1182، 1343، 1360، 1371، 1383، 1409، 1422، 1477، 1622، 1778، 1800، 1809، 1818، 1819، 1820، 1874.
السنة التي عظمت فيها مياه النيل في 4 بؤونة وحصل منه غرق:
1441.
السنة التي بكر النيل فيها في نصف بؤونة:
1718.
سنون نوه المؤرخون بأنها كانت خصبة:
971، 972، 1023، 1515، 1317، 1571. (5) تطورات نهائية الفيضان (من أول التاريخ الهجري الموافق سنة 622م لغاية الآن)
في المدة من سنة 622م إلى سنة 721م كان أعلى فيضان 23 قيراطا و19 ذراعا، وكان ذلك في سنة 671م في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وكان العامل على مصر مسلمة بن مخلد.
وفي المدة من سنة 722م إلى سنة721م كان أعلى فيضان 13 قيرطا و8 ذراعا، وكان ذلك في سنة 740، وسنة 741. وسنة 742م في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان العامل على مصر حنظلة بن صفوان للمرة الثانية في السنتين الأوليين، وفي السنة الثانية جعفر بن الوليد للمرة الثانية.
وفي المدة من سنة 822م إلى سنة 921م كان أعلى فيضان 1 قيراط و18 ذراعا في سنة 912، وسنة 913م في خلافة جعفر المقتدر والحاكم تكين بن عبد الله.
وفي المدة من سنة 922م إلى سنة 1021م كان أعلى فيضان 8 قراريط و19 ذراعا في سنة 1019م في خلافة القادر بالله والحاكم بمصر الحاكم بأمر الله.
وفي المدة من سنة 1022م إلى سنة 1121 كان أعلى فيضان 1 قيراط و19 ذراعا في سنة 1106م في خلافة المستظهر بالله الحاكم بمصر منصور أبو علي الآمر بأحكام الله.
وفي المدة من سنة 1122 إلى سنة 1221م كان أعلى فيضان 18 قيراطا و18 ذراعا في سنة 1172م في خلافة صلاح الدين الأيوبي في دولة الأكراد.
وفي المدة من سنة 1222م إلى سنة 1321م كان أعلى فيضان 23 قيراطا و18 ذراعا في سنة 1280م في مدة الملك المنصور سيف الدين قلاوون.
وفي المدة من سنة 1322م إلى سنة 1421م كان أعلى فيضان 24 ذراعا في سنة 1360م في مدة الملك الناصر أبو المحاسن حسن للمرة الثانية.
وفي المدة من سنة 1422م إلى سنة 1521م كان أعلى فيضان 21 قيراطا و20 ذراعا في سنة 1440 في مدة الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جمقمق، وكذلك في سنة 1442م في مدة هذا الملك.
وكذلك في سنة 1477م في مدة الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قايتباي المحمودي.
في المدة من سنة 1522 إلى سنة 1621م كان أعلى فيضان 9 قراريط و24 ذراعا في سنة 1593م في سلطنة السلطان مراد خان الثالث وولاية أحمد حافظ باشا.
في المدة من سنة 1622م إلى سنة 1721م كان أعلى فيضان 24 ذراعا في سنة 1622م وسنة 1624 في سلطنة السلطان مراد خان الرابع. الأولى في ولاية الوزير مصطفى قره باشا، والثانية في ولاية الوزير مصطفى باشا قره الحميدي.
وكذلك في سنة 1697م في مدة سلطنة السلطان مصطفى خان الثاني وولاية حسين البشناقي باشا.
في المدة من سنة 1727م إلى سنة 1821م كان أعلى فيضان 12 قيراطا و24 ذراعا في سنة 1728م في مدة سلطنة السلطان محمود خان العثماني وولاية مصطفى باشا.
وكذلك في سنة 1756م في مدة سلطنة السلطان عثمان بن أحمد وولاية علي حكيم زاده باشا للمرة الثانية.
في المدة من سنة 1822م إلى سنة 1921م كان أعلى فيضان 12 قيراطا و22 ذراعا في سنة 1874م في مدة سلطنة السلطان عبد الحميد وولاية ساكن الجنان إسماعيل باشا.
في المدة من سنة 1922م إلى سنة 1934م كان أعلى فيضان 4 قراريط و24 ذراعا في سنة 1934 في عهد جلالة الملك فؤاد الأول. ا.ه. (6) بعض معلومات القبط عن منابع النيل
قال الأستاذ توفيق إسكاروس ما يلي:
المفهوم أن الرحالة الإنكليزي جنس بروس أف كنارد
Janos Bruce of Kinnaird
وصل إلى مصر سنة 1768 قاصدا الشخوص إلى بلاد الحبشة، وكان ذلك في أيام نفوذ علي بك بلوط، فألقى رجال الجمرك بالإسكندرية القبض على أمتعته، فاستصدر المعلم رزق مدير الجمارك آنئذ أمرا من علي بك بالإفراج عنها بغير دفع رسوم جمركية ، ثم جهزه بكتاب من البطريرك لملك ملوك الحبشة بالتوصية عليه في مأموريته العلمية، وكان موجودا مدة إقامته في القاهرة في بابليون بمصر القديمة.
وحدث في سنة 427ه سنة 1036م حينما توفي الخليفة الظاهر وتولى ابنه المستنصر بالله مكانه لم يرتفع النيل سنين متوالية، فتعطل الزرع وقلت المحصولات، وكثر الغلاء حتى بلغ ثمن الإردب الواحد من القمح مبلغا عظيما؛ وإذ علم المستنصر بأن مصدر زيادة النيل من بلاد الحبش دعا إليه البطريرك وهو إذ ذاك الأب ميخائيل الملقب بالجبس، وبعثه إليه بهدية سنية برسم النجاشي، ولدى وصوله قابله باحتفال عظيم وسأله عن قدومه فأعلمه بما حل بمصر وأهلها من الضنك والجوع بسبب نقص زيادة النيل، وأنه أتى ليستعين به على إيجاد طريقة لمنع هذه الغوائل عن البلاد وأهلها، وقدم له هدية المستنصر، فأمر الملك بفتح سد في إحدى الجهات التابعة لبلاد الحبش؛ فجرت المياه منه إلى أرض مصر، وزاد النيل في ليلة واحدة ثلاثة أذرع، واستمرت الزيادة حتى رويت البلاد وزرعت الأراضي فارتفع الغلاء، وفي أثناء وجوده بتلك الصقاع بذل جهده في تمكين عرى العلاقات بين المستنصر وملك الأحباش، فكانت هذه خدمة أخرى قام بتأديتها للخليفة غير الخدمة التي أرسله من أجلها؛ فنال بذلك رضاءه وأحسن إليه وبالغ في إكرامه. ا.ه. (7) عيد النيروز
قال الأديب سامي تادرس بشاي ما يلي:
تحتفل الطائفة القبطية الكريمة بالنيروز، وهو رأس السنة المصرية القديمة وسنة الشهداء التي اتخذها المصريون مبدأ لتاريخهم من سنة 284 ميلادية، وهي سنة الضحايا الكبرى التي جاهد فيها الأقباط بثبات عجيب أدهش الإمبراطور دقلديانوس الذي أعمل السيف والنار، واستخدم كل وسائل التعذيب في الأقباط ليحملهم على ترك المسيحية والعودة إلى الوثنية، فأبوا إجابته إلى ما طلب.
وإذا أقبل النيروز اليوم فإنه يأتي مملوءا بالذكريات التي تثير الأشجان، غير أنها ذكريات تعتز بها الكنيسة القبطية. وإذا كان الشرق بلد الشهداء فتكون الديار المصرية البلاد التي استشهد فيها أكبر عدد من الشهداء، حتى لقد قالت السيدة «بوتشر» الإنكليزية - مؤلفة كتاب تاريخ الأمة القبطية وكنيستها: «إن وجود قبطي أرثوذكسي إلى الآن يعد من عجائب الدنيا السبع.»
ولا شك في أن الأقباط الذين يعرفون لشهدائهم قيمتهم وقدرهم لا يتركون يوم النيروز يمر دون أن يتجاذبوا أطراف الحديث في سيرتهم الطاهرة، فيذكرون أولئك الشهداء الذين تشبثوا بعقيدتهم وصبروا على كل ما أصابهم من أجلها؛ لأنهم كرهوا أن يدينوا بدين الرومان الباطل، وأنفوا أن يذعنوا لهم في عالم الجسد وعالم الروح وصمدوا لهم حتى أصبح دينهم دينا لروما عاصمة الدولة الرومانية، وسلطوا أيدي الرومان على معابد الرومان يهدمونها بأيديهم كما هدموا من قبل معابد المصريين المغلوبين، ويذكرون أيضا أن دماء أولئك الشهداء التي سفكت حبا بالسيد المسيح هي بدار الكنيسة.
انتشرت الديانة المسيحية انتشارا عظيما تبعا لتعاليمها السامية ليس فقط في أملاك الدولة الرومانية ومستعمراتها، بل في روما نفسها عاصمة الدولة ومقر الإمبراطورية، وذلك لأسباب كثيرة أهمها:
أولا:
ضعف الدين الروماني الوثني الذي كان فيه طقوس وتقاليد منافية للعقل، وكان الغرض من تلك الطقوس والتقاليد اتقاء شر الآلهة واستجداء خيرها.
ثانيا:
ضعف تأثير التعاليم الفلسفية التي قام بنشرها فلاسفة الرومان، ولكنها لم تنفذ إلى قلوب العامة، ولم تبلغ منها ما يمكن أن يبلغه دين كالدين المسيحي يعلم الوحدانية وحب الله والناس، ويقدر المساواة بين الخلق جميعا. غير أن انتشار المسيحية لم يرق حكومة الدولة الرومانية ولم ترض عن ذلك معتقدة بأن الدين الجديد ينقض الأسس التي قام عليها المجتمع الروماني، وأن مبادئ هذه الديانة تهدد مبادئ كيان الإمبراطورية وتحض على الفوضى؛ فعمدت إلى اضطهاد منتحليها، فضلا عن أنها وجدت أن المسيحيين لم يتظاهروا بالإغراق في الولاء لها، ولم يشتركوا في الحفلات الوثنية، ولم يقدموا القرابين للأباطرة إظهارا لخضوعهم ودلالة على ولائهم، ورفضوا أن يعبدوا تماثيل الأباطرة المنصوبة في المعابد؛ إذ كانت هذه العبادة فرضا على الجميع؛ فعدت الحكومة هذا الرفض خيانة وعصيانا، وحملها ذلك على اضطهاد المسيحيين وعدهم فئة خارجة على الجماعة.
وكانت المسيحية قد دخلت الديار المصرية في القرن الأول للميلاد على يد مرقس الرسول - مؤسس الكنيسة القبطية أو الكرازة المرقصية - الذي استشهد في الإسكندرية، فوجدت في مصر أرضا خصبة؛ إذ كانت أول أرض قوي شأنها فيها ودخل فيها أناس كثيرون، وكان عدد أتباعها يزداد كل يوم، كما كان اعتقادهم فيها يقوى شيئا فشيئا؛ إذ فقدت العبادات الوثنية القديمة سلطانها على عقولهم، خصوصا أنهم وجدوا في الدين الجديد عقيدة الحياة الأخرى - وهي من أعظم عقائد المصريين منذ عهد الفراعنة. كما أنهم كانوا شعبا مستعبدا له في تعاليم المسيحية سلوى.
وفي سنة 274 ميلادية تولى الإمبراطور دقلديانوس فسادت السكينة في مصر وغيرها من أملاك الدولة الرومانية، غير أنها لم تستمر طويلا، بل انقلبت إلى اضطرابات شديدة بسبب اضطهاده للمسيحيين؛ فقد كان وثنيا كارها للمسيحية، ورغب أن تضعه الرعية موضع الألوهية؛ ليضمن بذلك حياته وملكه فلم يخضع لإرادته المسيحيون خصوصا في مصر.
وحدث أن والي دقلديانوس في مصر خرج عن طاعته، فسار إليه دقلديانوس وحاصر الإسكندرية ثمانية أشهر ثم فتحها عنوة، وأطلق الجنود فيها يقتلون وينهبون، وأحرقوا منها قسما كبيرا. وحدث أيضا أن قصر دقلديانوس بمدينة نيقوميديا اشتعلت فيه النار سنة 1303، فاتهمت الحكومة المسيحيين بحرقه، فثار دقلديانوس وأخذ يتوعد المسيحيين وينذرهم بالويلات التي سيلحقها بهم، خصوصا لما رأى المستعمرات الرومانية تسعى لتنال استقلالها، ولا سيما بعد تدينها بالدين المسيحي، وأفهمه رجاله أن السبب في هذه الاضطرابات في أملاك الإمبراطورية وعدم خضوع الشعوب له إنما منشؤه الديانة المسيحية التي تدين لإله قدير وتطيعه وتقول إنه أعلى من الإمبراطور الروماني وأرفع، وتنكر أن هذا الإمبراطور نائبه.
ومما جعله يزداد حقدا على المسيحية والمسيحيين أن المنجمين والعرافين الذين دعاهم مرارا لينبئوه بما يكون في مستقبله قالوا إنه يعسر عليهم إغراء الأرواح على مجاوبتهم وإظهار ما يخبئه القدر ما دام قصر الإمبراطور مفعما بجماعة المسيحيين الكفرة الذين يمنع وجودهم في القصر تجلي الأرواح وظهورها.
فعزم حينئذ دقلديانوس على محاربة المسيحية في جميع أنحاء مملكته وعلى محوها من وجه البسيطة والقضاء عليها قضاء مبرما لا تقوم لها قائمة بعده. ولكنه بدأ بمقاومتها أولا في مصر؛ لأنه لقي من المصريين مقاومة شديدة فقد أبوا أن يخضعوا للظلم والاستبداد، فكثرت الفتن الداخلية والثورات على الرومان، فكانت مصر مصدر مشكلات جمة للدولة الرومانية.
وبدأ الاضطهاد في فبراير سنة 303 فسار الوالي بموكب حافل إلى كنيسة نيقوميديا الكبرى يصحبه جم غفير من الموظفين وحاملي الفؤوس، فكسروا الأبواب، وأحرقوا جميع كتب الكنيسة، ثم أخذ العمال في هدم الكنيسة حتى دكوا معالمها. وفي غد ذلك اليوم صدر منشور إمبراطوري بمحو الدين المسيحي، وهذا نصه: (1)
يجب هدم جميع الكنائس وإزالتها من الوجود. (2)
يجب إحراق كل الكتب المقدسة. (3)
جميع المسيحيين الموظفين في خدمة الحكومة لا يكتفى بفصلهم، بل يحرمون من حقوقهم الوطنية أيضا لكي يتسنى لأعدائهم أن يذيقوهم أنواع العذابات وأشكال القسوة. (4)
كل المسيحيين غير الموظفين يصيرون عبيدا أرقاء.
وحينما علق المنشور في الأسواق والأماكن العمومية وازدحم الناس لقراءته، اقتحم شاب مسيحي جريء القلب شديد المنكب، الجمهور المزدحم، وتقدم ليقرأ المنشور، فلما علم بما فيه غضب من تدخل الرومان في أمور الديانة، ومد يده بسرعة عظيمة وتناول منشور العاهل الروماني ومزقه تمزيقا ونثره في الهواء، وفعل ذلك بغاية الشجاعة والحزم؛ فألقوا القبض عليه وأذاقوه من العذاب ألوانا شتى، ثم جردوه من ثيابه ووضعوه في نار خفيفة ليطول عذابه إلى أن توفي. فكان أول من وقف في وجه دقلديانوس واستشهد وضحى بنفسه في مصر في عهده. وعرف ذلك الشاب فيما بعد باسم الشهيد ماري جرجس.
ثم أخذ ذلك الطاغية ورجاله القساة يعذبون كل من يعلن أنه مسيحي، وراح كثير منهم شهداء حتى قدر بعضهم الذين استشهدوا في عشر سنوات من إصدار هذا المنشور في مصر بنحو مائتي ألف شخص.
وإنه يعسر على الكاتب البليغ أن يصف مقدار ما تجرعه الشهداء من ضروب العذاب، فكانوا يلبسونهم جلود الحيوانات ويسلمونهم إلى الكلاب الكلبة الجائعة والحيوانات المفترسة في ملاعبهم، فيرى الناظر في أقل من لمح البصر أجساما وقد قطعت إربا إربا. أو يخدشون أجسامهم ويسلخون جلودهم حتى يموتوا. أو يدهنونهم بالصمغ وما شاكله من المواد الملتهبة ثم يربطونهم بالأشجار أو بأعمدة من الخشب ليكونوا عبرة للشاهدين وعرضة لسخط الناظرين وإهانتهم، ثم يجعلون عند دخول الليل من أجسام أولئك الشهداء مشاعل حية يطوفون بها في الشوارع، وكانوا يستعملون نور ذلك الحريق كمشاعل لإضاءة موائد الإمبراطور وحاشيته يأكلون عليها ما طابت له نفوسهم، أو يستعملونه كمصابيح بشرية لإضاءة الحدائق والبساتين المخصصة لتنزه العامة، أو يعلقونهم بالمسامير على خشبة الصليب، أو يذبحونهم ذبح الأنعام في الطرقات. واستخدموا طريقة فظيعة لتعذيبهم وقتلهم؛ فقد كانوا يقربون غصنين قويين من شجرتين متجاورتين فيربطون بهما الشهيد ربطا محكما، ثم يفكون الغصنين فيفترقان. وحينئذ تتفرق أضلاع الشهيد وأشلاؤه في قسوة شنيعة. أما النساء فكانت تربط إحداهن في رجليها وترفع في الهواء بعد أن يخلعوا عنها ملابسها ويكشفوا كل جسمها ، وتظهر أمام جمهور المتفرجين بمظهر تنفر منه الإنسانية وتأباه النفوس الأبية. وحينما كان الجلادون والقائمون بأمر القتل والتعذيب يتعبون كانوا يلقون الشهداء في أتون من نار حامية.
ومما هو جدير بالذكر أن استشهاد أولئك الأبرار البسلاء لم يكن استشهاد المرغم. بل كان بمحض اختيارهم وإرادتهم ومحبتهم لكنيستهم وخالقهم. فلذلك كانوا يلاقون الموت بثغر باسم مستشهدين في سبيل دينهم ما دام مؤسس دينهم قد مات شهيدا على الصليب في سبيل تعاليمه، عالمين أنه بضيقات كثيرة، ينبغي أن يدخلوا ملكوت السموات. ولما كان يصدر عليهم الحكم النهائي بالموت كانوا يقابلون هذا الحكم بفرح وتهليل، ويرتلون أغاني الحمد والشكر لله الذي أهلهم لأن يموتوا لأجله.
ومما يدعو إلى الدهش حقا أن بعض المسيحيين والوثنيين كانوا يدفعون أنفسهم للاستشهاد في وسط تلك المجازر التي قام بها دقلديانوس وغيره من أباطرة الرومان في سبيل الدين المسيحي، فكان لا يحكم على شخص منهم بالإعدام حتى يندفع آخرون من كل مكان ويعترفون بأنهم مسيحيون معتقدون بأن كل وسائل التعذيب والموت في سبيل دينهم أمور هينة بجانب الإكليل الذي سيوضع على هاماتهم بجانب ملكوت الله الذي يرثونه بعد مماتهم.
وقد استشهد في أثناء تلك المجازر في ذلك العصر عدد كبير من كبار الأقباط وقديسيهم وقديساتهم، نذكر منها «مينا» المعروف باسم ماري مينا، والقديسة كاترينة التي تعلقت بالمسيحية فأغضبت أهلها الوثنيين، وانتهى الأمر بإعدامها. ومن بين الذين ألح عليهم الإمبراطور - في الارتداد - القديسة دميانة المشهورة، فقد كانت هذه القديسة من ضحايا ذلك العصر المشؤوم، وكان أبوها مديرا مصريا في إحدى مديريات القطر المصري محترما في قومه ذا مكانة عند الإمبراطور، وبنى لابنته دميانة ديرا على بعد ساعتين عن بلقاس اعتزلت فيه للعبادة، ولما أصدر دقلديانوس منشوره كان في الدير أربعون راهبة، فطلب الإمبراطور من أبيها أن يجاهر بالوثنية فأرسلت دميانة إلى أبيها تستعطفه بأن يرفض رفضا باتا ما طلب منه، فعمل بمشورة ابنته؛ فاستعمل الإمبراطور معه نفوذه الشخصي ليقنعه بأن يذبح للأوثان؛ لأنه لم يكن يود هلاك خادم أمين مثله في بلاد عمها الاضطراب والقلاقل وكثر فيها أعداء الإمبراطور. غير أن والد دميانة أصر على رأيه فاستشاط غضبا منه ومن ابنته، فألقى القبض على دميانة وراهباتها الأربعين، وأمرهن أن يسجدن للأوثان فامتنعن؛ فأخذ يعذبهن تعذيبا قاسيا. ولكنهن لم يعدلن عن رأيهن فأمر بقطع رؤوسهن وما زال ديرهن قائما حتى اليوم.
وقد كانت مذابح دقلديانوس لمسيحيي مصر أعظم المذابح وأفظعها، فتركت أثرا كبيرا في نفوس المصريين، حتى إنهم سموا عصره بعصر الشهداء.
ولم تصنع أمة في الأرض مثل ما صنع المصريون لأولئك الشهداء الذين ذهبوا في سبيل عقيدتهم. فهي قد جعلت ذكرى شهدائها تاريخا لها تحسب عليه كل يوم من أيامها وكل عام من أعوامها. فقولنا: سنة 1651 قبطية معناه: مرور هذه السنين على تلك الأيام المشؤومة، وتذكار تمسك الشهداء بالمسيحية.
ولا ريب في أن اضطهاد دقلديانوس للأقباط وغيرهم من المسيحيين كان من أكبر الأسباب لانتشار الديانة المسيحية ونموها؛ لأن قساوة أولئك الظالمين أفناها الدهر. وأما دماء الشهداء فقد صارت زرعا لمسيحيين آخرين. أي إن الاضطهاد لم يأت بالغرض المقصود منه؛ لأن المسيحيين ازدادوا تمسكا بدينهم، وأخذ الناس يعجبون بشجاعتهم وصبرهم وتحملهم للأذى؛ فدخلوا في دينهم أفواجا حتى زاد عدد المسيحيين على عدد الوثنيين.
ولما أتى قسطنطين الأكبر في سنة 313م رأى أن يعترف بالديانة المسيحية جهارا، فجعلها دين الحكومة والأمة؛ لأنها دين الكثرة، وانتحلها، وعطل الأشغال في أيام الآحاد، وهدم الهياكل الوثنية، وبنى الكنائس، وكان المسيحيون حتى ذلك العهد يقيمون الصلاة في الكهوف والدياميس. وفي سنة 378 تولى الإمبراطورية الرومانية «تيودوسيوس» فعمم الدين المسيحي في أنحاء الإمبراطورية الرومانية، بأن حتم التمذهب به، ونهى عن الوثنية فحرم عبادة الأوثان وأغلق معابدها، وأخذت الحكومة تضطهد الوثنيين، وعلى ذلك أنشئت كنائس كثيرة أشهرها كنائس روما والإسكندرية وأورشليم وأنطاكية والقسطنطينية، وكثر بناء الأديرة والصوامع؛ فتوطدت دعائم المسيحية وأصبحت عنصرا من عناصر الحضارة الأوربية الحديثة. ا.ه. (8) بعض معلومات العرب عن منابع النيل
قال المغفور له أحمد زكي باشا ما يأتي:
البحيرتان المعروفتان الآن باسم فيكتوريا نيانزا وألبرت نيانزا قد كان لجغرافيي العرب فضل السبق بمعرفتهما وبوصفهما. وهذا ابن فضل الله العمري آخر من كتب عنهما، فقد ألمح إليهما في سنة 745ه (1236م) في كتابه الممتع الحافل الموسوم ب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)، وذكر عنهما ما أيده بعده بخمسة قرون ونصف قرن رواد الإفرنج الذين وصلوا إليهما بفضل مصر وبمال مصر ورجال مصر. وهذا كلامه عنهما بالحرف الواحد: «إن النيل ينصب عشرة أنهار من جبل القمر المتقدم الذكر. كل خمسة أنهار شعبة. ثم تتبحر تلك العشرة الأنهار كل خمسة أنهار تتبحر بحيرة بذاتها. ثم يخرج من البحيرة الشرقية منها بحر لطيف يأخذ شرقا على جبل قاقولي ويمتد إلى مدن هناك ثم يصب في البحر الهندي. ثم يخرج من تينك البحيرتين ستة أنهار من كل بحيرة ثلاثة أنهار. ثم تجتمع تلك الستة الأنهار في بحيرة متشعبة.» ثم أفادنا أن هذه البحيرة تسمى عند بعضهم «البطيحة» وأن فيها تضريسة جبل يفرق بها الماء نصفين.
النيل عند خزان سنار.
خزان سنار «مكوار».
هذا وقد عرفنا نقلا عما حدثه به أقضى القضاة شرف الدين أبو الروح عيسى الزواوي أن الأمير أبا دبوس بن أبي العلى أبي دبوس «ووالده آخر سلاطين بر السعدوة من بني عبد المؤمن» حدثه أنه وصل إلى هذه البطيحة في أيام هربه من بني عبد الحق ملوك بني مرين القائمين الآن «أي في عهد المؤلف سنة 745ه.
وروى لنا أيضا أن الشيخ الثبت سعيد الدكالي - وهو ممن أقام بمالي خمسا وثلاثين سنة مضطربا في بلادها مجتمعا بأهلها) حدثه بما نصه:
والمستفيض بلاد السودان أن النيل في أصله ينحدر من جبال سودتبان على بعد كأن عليها الغمام. ثم يتفرق نهرين يصب أحدهما في البحر المحيط إلى جهة بحر الظلمة الجنوبي «يشير إلى نهر النيجر المعروف عند العرب بنيل السودان، والآخر يصل إلى مصر حتى يصب في البحر الشامي.
وروى ابن فضل الله العمري عن ذلك الشيخ قوله أيضا:
ولقد توغلت في أسفاري في الجنوب مع النيل فرأيته متفرقا على سبعة أنهر تدخل في صحراء منقطعة، ثم تجتمع تلك الأنهر السبعة وتخرج من تلك الصحراء نهرا واحدا مجتمعا. كلا الرؤيتين في بلاد السودان. ولم أره لما اجتمع بالصحراء؛ لأننا لم ندخلها إذ لم يكن بنا حاجة إلى الدخول إليها.
هذا وقد كان للملك الصالح نجم الدين الأيوبي ولع بمعرفة منابع النيل، فلما وصل إليه ما حاوله السلف دون أن يظفروا بفائدة أراد أن يذلل العقبات التي تحول دون تلك الغاية، فاشترى عبيدا صغارا من الزنوج ومن شاكلهم واختارهم من الحلب الذين لم يستعربوا، ثم سلمهم لصيادي السمك والبحارة ليعلموهم صنعة البحر وصيد السمك، ورسم بأن يكون قوتهم من السمك لا غير، وقرر أنهم متى مهروا في ذلك تصنع لهم مراكب ليركبوا فيها ويأتوه بخبر النيل. ذكر ذلك صاحب مطالع البدور ومنازل السرور المطبوع في القاهرة «صحيفة 74 و75 من الجزء الثاني».
والظاهر أن هذا المشروع لم يتم نظرا للاضطرابات التي وقعت في مصر في ذلك الوقت أولا بسبب هجوم الصليبيين تحت قيادة لويس التاسع ملك فرنسا المعروف بالقديس لويس، والذي يسميه مؤرخو مصر (ريدافرنس
Reade France )، وثانيا لسبب انقراض الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك. وهذا المشروع قد تم بفضل إسماعيل خديوي مصر الكبير في هذا العهد الجديد.
أردت أن أنشر هذه الصفحة المطوية من مآثر الدول الإسلامية في مصر، حتى لا يقول قائل بأن الأجداد لم يعرفوا شيئا عن النيل أو أنهم لم يعنوا بمصدر الحياة في مصر. وفوق كل ذي علم عليم. ا.ه.
أحمد زكي باشا
خزان أسوان. (9) الفيضانات العالية والمتوسطة والواطئة
يقول المهندس كامل بخاتي بك:
إذا جارينا الدورة الشمسية لمدة الثلاث والثلاثين سنة من سنة 1869 قلنا إن الفيضانات العالية انتهت سنة 1901 أو ما يقاربها، أي سنة 1898، وخلفتها الفيضانات، الواطئة وهي تنتهي في سنة 1933، وعلى ذلك تكون سنة 1934 هي مبدأ الفيضانات العالية المتتالية التي تعلو مناسيبها 93 مترا بأسوان.
والآن نورد حدود الفيضانات الواطئة والمتوسطة والعالية والخطرة.
فأوطأ فيضان عرف في مصر هو في سنة 1913، وكان مقاسه في أسوان 90,11، وتصرفه 419 مليون متر مكعب في اليوم.
أما أعلى فيضان فكان في سنة 1878، وكان مقاسه 94,15، وتصرفه 1280 مليون متر مكعب في اليوم.
فالفيضان المتوسط هو 419 + 1280 = 1699 مقسوما على اثنين، أي 849 مليونا، وهو يطابق منسوب 92,66 خلف أسوان، وهذا ما يعبر عنه بالفيضان المتوسط، فإن زاد عن ذلك دخل في دور الفيضانات العالية، حتى إذا وصل تصرفه من 1064 مليون متر مكعب في اليوم إلى 93,48 خلف أسوان يدخل في حالة الخطر، وقد وصل في سنة 1934 إلى93,37، فكان قريبا جدا من الخطورة في أوطأ درجاتها.
نهر النيل عند الشلال الثاني.
وبناء على هذا التعريف الجديد نذكر السنين التي مرت من سنة 1869 إلى سنة 1933. وكانت فيضاناتها متوسطة، أي للحد المفروض وهو 92,66، والفيضانات الواطئة المعروفة الدورة الزمانية.
السنة
مقياس أسوان
1873
92,66
حد المتوسط
1877
91,40
1878
92,08
1799
91,68
1902
91,72
الحد الفاصل بين الفيضانات العالية والواطئة
1904
91,97
1905
91,90
1907
91,48
1911
92,68
حد المتوسط
1912
92,05
1913
90,11
أوطأ المتوسط
1915
91,18
1918
91,99
1919
92,22
1920
92,29
1923
92,46
1924
92,62
حد المتوسط
1925
91,74
1926
92,38
1928
92,08
1928
92,29
1930
92,48
1931
92,62
حد المتوسط
1932
92,70
حد المتوسط
1933
92,59
حد المتوسط
فببحث هذا الجدول يرى:
أولا:
أن الفيضانات التي مرت على القطر المصري من سنة 1869 إلى سنة 1901 كانت كلها عالية ما عدا فيضانا واحدا متوسطا في سنة 1873 وثلاثة فيضانات واطئة.
ثانيا:
أنه من سنة 1902 إلى سنة 1933 مر اثنان وعشرون فيضانا، منها ستة في حد المتوسط وستة عشر واطئة وأحد عشر عالية، ولكنها كانت في علوها دون الدورة الأولى.
وعلى هذا فالدورة الأولى جاء الفيضان عاليا فيها 29 مرة من 33، وفي الدورة الثانية جاء واطئا اثنين وعشرين مرة من 33، فحينئذ لا يسعنا الآن إلا تصديق الأمر الواقع، وهو أن الدورة الأولى تختلف عن الدورة الثانية التي بدأت من سنة 1912، واستمرت إلى سنة 1933 بفيضاناتها العالية كما أن هذه بفيضاناتها المتوسطة والواطئة.
أعني ولو جاءت الأرصاد الآن من الروصيرص تشير إلى هبوط في مقياس النيل الأزرق، فإن هذا لا يغير في النظرية شيئا، فإنه يعد نيلا متوسطا من السنين العالية في الدورة الزمنية الخاصة بها. ا.ه.
أوراق البايبرس «البردي» في بحر الجبل.
هوامش
الفصل الثاني والعشرون
اتفاق بين مصر وإنكلترا سنة 1929
ننشر فيما يلي نص الاتفاق الذي عقد بين الحكومة المصرية «ممثلة في وزارة حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا» والحكومة الإنكليزية ممثلة في «اللورد جورج لويد» مندوبها السامي البريطاني عن ضبط ماء النيل وتوزيعه بين مصر والسودان. (1) مذكرة رئيس الوزارة إلى المندوب السامي
يا صاحب الفخامة: (1)
تأييدا لمحادثاتنا الأخيرة أتشرف بأن أبلغ فخامتكم آراء الحكومة المصرية فيما يختص بمسائل الري التي كانت موضع مباحثاتنا.
إن الحكومة المصرية توافق على أن البت في هذه المسائل لا يمكن تأجيله حتى يتيسر للحكومتين عقد اتفاق بشأن مركز السودان. غير أنها مع إقرار التسويات الحاضرة، تحتفظ بحريتها التامة فيما يتعلق بالمفاوضات التي تسبق عقد مثل ذلك الاتفاق. (2)
من البين أن تعمير السودان يحتاج إلى مقدار من مياه النيل أعظم من المقدار الذي يستعمله السودان الآن.
ولقد كانت الحكومة المصرية دائما - كما تعلم فخامتكم - شديدة الاهتمام بعمران السودان وستواصل هذه الخطة، وهي لذلك مستعدة للاتفاق مع الحكومة البريطانية على زيادة ذلك المقدار بحيث لا تضر تلك الزيادة بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية في مياه النيل، ولا بما تحتاج إليه مصر في توسعها الزراعي، وبشرط الاستيثاق بكيفية مرضية من المحافظة على المصالح المصرية على الوجه المفصل بعد في هذه المذكرة. (3)
وبناء على ما تقدم تقبل الحكومة المصرية النتائج التي انتهت إليها لجنة مياه النيل في سنة 1925 المرفق تقريرها بهذه المذكرة، والذي يعتبر جزءا لا ينفصل من هذا الاتفاق. على أنه نظرا للتأخير في بناء خزان جبل الأولياء الذي يعتبر - بناء على الفقرة الأربعين من تقرير لجنة مياه النيل - مقابلا لمشروعات ري الجزيرة. ترى الحكومة المصرية أن تعدل تواريخ ومقادير المياه التي تؤخذ تدريجيا من النيل للسودان في أشهر الفيضان كما هو مبين بالبند 57 من تقرير اللجنة بحيث لا يتعدى ما يأخذه السودان 126 مترا مكعبا في الثانية قبل سنة 1936. وأن يكون من المفهوم أن الجدول المذكور في المادة السابق ذكرها يبقى بغير تغيير حتى يبلغ المأخوذ 126 مترا مكعبا في الثانية، وهذه المقادير مبنية على تقرير لجنة مياه النيل؛ فهي إذن قابلة للتعديل كما نص على ذلك في التقرير. (4)
ومن المفهوم أيضا أن الترتيبات الآتية ستراعى فيما يختص بأعمال الري على النيل: (1)
أن المفتش العام لمصلحة الري المصرية في السودان أو معاونيه أو أي موظف آخر يعينه وزير الأشغال تكون لهم الحرية الكاملة في التعاون مع المهندس المقيم بخزان سنار لقياس التصرفات والأرصاد كي تتحقق الحكومة المصرية من أن توزيع المياه وموازنات الخزان جارية طبقا لما تم الاتفاق عليه.
وتسري الإجراءات التفصيلية الخاصة بالتنفيذ والمتفق عليها بين وزير الأشغال ومستشار حكومة السودان، من تاريخ الموافقة على هذه المذكرة. (2)
ألا تقام بغير اتفاق سابق مع الحكومة المصرية أعمال ري أو توليد، ولا تتخذ إجراءات على النيل وفروعه أو على البحيرات التي ينبع منها، سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، يكون من شأنها إنقاص مقدار الماء الذي يصل إلى مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على وجه يلحق أي ضرر بمصالح مصر. (3)
تلقى الحكومة المصرية كل التسهيلات اللازمة للقيام بدراسة ورصد الأبحاث المائية (هيدرولوجيا) لنهر النيل في السودان دراسة ورصدا وافيين. (4)
إذا قررت الحكومة المصرية إقامة أعمال في السودان على النيل أو فروعه أو اتخاذ أي إجراء لزيادة مياه النيل لمصلحة مصر، تتفق مقدما مع السلطات المحلية على ما يجب اتخاذه من الإجراءات للمحافظة على المصالح المحلية. ويكون إنشاء هذه الأعمال وصيانتها وإدارتها من شأن الحكومة المصرية وتحت رقابتها رأسا. (5)
تستعمل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى وشمال أيرلندة وساطتها لدى حكومات المناطق التي تحت نفوذها لكي تسهل للحكومة المصرية عمل المساحات والمقاييس والدراسات والأعمال من قبيل ما هو مبين في الفقرتين السابقتين. (6)
لا يخلو الحال من أنه في سياق تنفيذ الأمور المبينة بهذا الاتفاق قد يقوم من وقت لآخر شك في تفسير مبدأ من المبادئ أو بصدد بعض التفصيلات الفنية أو الإدارية، فستعالج كل مسألة من هذه المسائل بروح من حسن النية المتبادل. فإذا نشأ خلاف في الرأي فيما يختص بتفسير أي حكم من الأحكام السابقة أو تنفيذه أو مخالفته ولم يتيسر للحكومتين حله فيما بينهما، رفع الأمر لهيئة تحكيم مستقلة. (5)
لا يعتبر هذا الاتفاق بأي حال ماسا بمراقبة وضبط النهر، فإن ذلك يحتفظ به لمناقشات حرة بين الحكومتين عند المفاوضة في مسألة السودان.
وإني أنتهز هذه الفرصة لأجدد لفخامتكم فائق احترامي.
القاهرة 7 مايو سنة 1929
رئيس مجلس الوزراء: محمد محمود (2) رد فخامة المندوب السامي
ياصاحب الدولة
أتشرف بأن أخبر دولتكم بأني تسلمت المذكرة التي تكرمتم دولتكم بإرسالها إلي اليوم. (1)
ومع تأييدي للقواعد التي تم الاتفاق عليها كما هي واردة في مذكرة دولتكم، فإني أعبر لدولتكم عن سرور حكومة جلالة الملك من أن المباحثات أدت إلى حل لا بد أنه سيزيد في تقدم مصر والسودان ورخائهما. (2)
وإن حكومة جلالة الملك بالمملكة المتحدة لتشاطر دولتكم الرأي في أن مرمى هذا الاتفاق وجوهره هو تنظيم الري على أساس تقرير لجنة مياه النيل، وأنه لا تأثير له على الحالة الراهنة في السودان. (3)
وفي الختام أذكر دولتكم أن حكومة جلالة الملك سبق لها الاعتراف بحق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل، وأقرر أن حكومة جلالة الملك تعتبر المحافظة على هذه الحقوق مبدأ أساسيا من مبادئ السياسة البريطانية، كما أؤكد لدولتكم بطريقة قاطعة أن هذا المبدأ وتفصيلات هذا الاتفاق ستنفذ في كل وقت أيا كانت الظروف التي قد تطرأ فيما بعد.
وإني أنتهز هذه الفرصة لأجدد لدولتكم فائق احترامي.
القاهرة في 7 مايو سنة 1929
لويد المندوب السامي (3) تقرير لجنة مياه النيل
أما تقرير لجنة مياه النيل الذي يعتمد عليه في هذا الاتفاق فسببه أنه كان مقررا أن تكون مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة 300 ألف فدان، فلما قتل السردار ورد في الإنذار الذي أرسل إلى الحكومة المصرية زيادة المساحة إلى مقدار غير محدود، فأجاب سعد باشا على ذلك أن هذه المسألة سابقة لأوانها، فرد اللورد اللنبي أنه أرسل تعليمات إلى حكومة السودان يطلق لها فيها الحرية في زيادة المساحة التي تروى بالجزيرة إلى حد غير محدود تبعا لما تقضي به الحاجة. ولما تولى زيور باشا رياسة الوزارة أرسل إلى اللورد اللنبي مذكرة قال فيها : «إن الإجراءات المنوه عنها بمذكرة 23 نوفمبر أحدثت في البلاد أشد المخاوف، وإن الحكومة المصرية كانت في جميع المفاوضات في الماضي متمسكة أشد التمسك بحقوقها بمياه النيل.» ولفت نظره إلى إعادة النظر في مسألة ري الجزيرة.
فأجابه اللورد اللنبي أن حكومة جلالة الملك تحت تأثير هذه الاعتبارات ودليلا على حسن مقاصدها تأمر حكومته بعدم تنفيذ التعليمات السابقة، وأن تشكل لجنة من الاختصاصيين تكون مأموريتها درس المسألة ووضع القواعد التي يمكن بمقتضاها تنظيم حالة الري بطريقة تراعى فيها مصالح مصر حق المراعاة وبدون اعتداء على حقوقها الطبيعية والتاريخية.
وهكذا تألفت اللجنة من المستر كنتر كريموز والمستر ماكجريجور وعبد الحميد سليمان باشا. (3-1) تأليف اللجنة
في 17 فبراير بدأت اللجنة أعمالها، وزارت قناطر الدلتا وأقلام مصلحة الطبيعيات، ثم زارت سد رشيد، وانتقلت بعد ذلك إلى الصعود في النيل، فكانت لها رحلة بحث تناول فيما تناول سد سنار وترع الجزيرة، والمكان الذي سيقام فيه سد جبل الأولياء وخزان أسوان وقناطر إسنا، والمكان الذي اختير لإقامة قناطر نجع حمادي والحياض المجاورة لسوهاج.
وفي خلال رحلاتها، وأثناء انعقاد جلساتها بالقاهرة، كانت تفحص الكثير من أرصاد مصلحة الطبيعيات ومصلحة الري، وتقابل عدة من كبار الموظفين في مصر وفي السودان، فتتبين آراءهم في الأمور ذات الصلة بمهمتها حتى إذا رجع أعضاؤها إلى القاهرة - وكان ذلك في آخر مارس - عكفوا على الإحصائيات يفحصون منها ما أعد لهم، ويطلبون غيره من المعلومات التي رأوا وهم يبحثون أن لا مناص من الوقوف عليها.
في هذه الفترة الدقيقة أخذت صحة رئيس اللجنة تبعث القلق في النفوس، ووجد جنابه عناء شديدا في مباشرة عمله، ثم اشتدت عليه الوطأة فتوفي في 21 مايو.
استدعى مرض الرئيس وموته وقف أعمال اللجنة وهي على وشك الفراغ من مهمتها، فعولت الحكومتان على تكليف المندوبين عنهما أن يستأنفا البحث الذي عطلته يد القدر زمنا، وأن يقدما التقرير النهائي. (3-2) تقرير اللجنة
بدأت اللجنة تقريرها بنظرة تاريخية عن ري السودان فقالت:
لما استقرت أمور السودان بعد فتحه في سنتي 1896-1898 احتاج إلى طلمبات لري مساحات يسيرة فيه فرخص له بإقامة هذه الطلمبات بعد موافقة الحكومة المصرية، ثم زادت على توالي الأيام مساحة الأراضي التي خولت هذا الحق. ومن الطلمبات ما ركب لتجربة زراعة القطن، ومنها ما جعل لزراعة الحبوب.
وليس من المساحات الواسعة في السودان ما هو قابل للري الصناعي سوى الجزيرة، وهي منطقة مثلثة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض، رأسها عند الخرطوم، وتمتد جنوبا إلى سكة الحديد من سنار إلى كوستي. أما ما عدا هذه المنطقة من أراضي السودان فهو مما يروى بالأمطار ومما لا يقبل الري الصناعي. فكر في إمكان ري جزء من هذه الجزيرة منذ سنة 1905، وفي سنة 1913 أعد مشروع لري 100000 فدان منها بواسطة ترعة تستمد ماءها من التصرف الطبيعي للنيل الأزرق، مع إنشاء قنطرة عند مكوار للوصول إلى المناسيب المطلوبة، وكان الرأي إذ ذاك أن المشروع يمكن من زراعة القطن دون الإضرار بمصر. لكن تبين من زيادة الخبرة بأمور الزراعة ومن تقصير النيل على خلاف العادة في فيضان سنة 1913-1914 بطلان هذا الرأي، وثبت أنه لابد في المشروع من خزان، وأن الاقتصار على قنطرة موازنة لا يجدي نفعا. أما إذا أنشئ الخزان فيمكن زيادة المساحة إلى 100000 فدان دون حاجة إلى أخذ مياه النهر في دور انخفاضه. وهذه الزيادة في المساحة ضرورية لتغطية الزيادة في نفقات الخزان. وقد أفرغ المشروع في قالب جديد روعيت فيه هذه الاعتبارات، غير أن الحرب حالت دون الاستمرار فيه.
وكانت الحكومة المصرية في الوقت نفسه تفكر في سد على النيل الأبيض عند جبل الأولياء لغرضين؛ كبح جماح الفيضانات العالية التي يخشى إضرارها بمصر، وتخزين المياه لتنتفع بها مصر في فصل الصيف، وهو مشروع أخرته الحرب أيضا وإن نفذ فعلا شيء منه في سنة 1917 وما بعدها إلى سنة 1920.
ولقد قابلت مصر استئناف العمل في هذين المشروعين بعد الحرب بمناقشات علنية عنيفة وانتقاد مر، وكانت حملاتها في هذا السبيل موجهة على الأخص إلى الطعن في صحة المعلومات التي أسست عليها المشروعات، فكانت النتيجة أن ألجئت الحكومة المصرية في يناير سنة 1920 إلى تكوين لجنة للتحقيق عرفت بلجنة مشروعات النيل، وكان أعضاؤها ثلاثة اختارتهم حكومة الهند وجامعة كمبردج والولايات المتحدة، وجعل اختصاص هذه اللجنة إمداد الحكومة المصرية بالرأي في المشروعات التي وضعتها وزارة الأشغال العمومية تبقى بها زيادة ضبط ماء النيل ضبطا يعود بالفائدة على مصر والسودان، وطالبت الحكومة اللجنة بمعالجة المسائل الآتية على الأخص، وهي: (أ)
فحص المعلومات الطبيعية التي أسست عليها المشروعات وإبداء الرأي فيها. (ب)
صلاحية الطريقة التي بها يقسم بين مصر والسودان ما يترتب على هذه المشروعات في أدوار تنفيذها من زيادة في كمية المياه الممكن الانتفاع بها. (ج)
إبداء الرأي فيما تتحمله مصر وما يتحمله السودان من نفقات المشروعات ونفقات اللجنة. والمشروعات التي نحن بصددها مبينة في كتاب نشرته الحكومة المصرية عنوانه «ضبط النيل»، وهي السدان اللذان تقدم ذكرهما، وقنطرة في الوجه القبلي، ومشروع الاحتفاظ بمياه النيل في منطقة السدود وخزانات البحيرات الكبرى.
نشر تقدير لجنة مشروعات النيل في سنة 1921 فقرر صحة المعلومات التي اتخذت أساسا للمشروعات وأشار بتنفيذها. غير أن الحكومة المصرية قررت في مايو سنة 1921 أن يقف العمل في سد جبل الأولياء وما يتبعه لما رأت من جسامة النفقات التي قدرت له. أما حكومة السودان فأخذت برأي اللجنة وقررت المضي في مشروع ري الجزيرة.
ولم تستطع الأغلبية في لجنة مشروعات النيل أن تشير بشيء في إشكال تقسيم الماء الذي لا يزال مباحا، ولم يكن للجنة رأي في هذا الإشكال سوى ما أبداه مستر كوري العضو الأمريكي في اللجنة. على أن آراءه لم يعمل بها.
ولما رأت الحكومة البريطانية الحال التي أدت إلى تشكيل لجنة مشروعات النيل تعهدت في فبراير سنة 1920 بألا تزيد مساحة المنزرع في الجزيرة على الثلاثمائة ألف فدان إلا برأي الحكومة المصرية. وبهذا القيد نفذ مشروع ري الجزيرة. (4) الموقف الحاضر
يتكون القسم المعجل من المشروعات المبينة في كتاب (ضبط النيل) من ثلاثة مشروعات هي: (أ)
سد جبل الأولياء، والغرض منه زيادة الماء الذي تنتفع به مصر. (ب)
سد مكوار أو سد سنار على التسمية الحالية، وتتبعه ترع تروي 300000 ألف فدان في الجزيرة. (ج)
قنطرة عند نجع حمادي.
فالمشروعان الأول والثالث لم ينفذ منهما شيء لأسباب هي: الحرب أولا ثم الصعوبات المالية وغير المالية.
ثانيا: أما المشروع الثاني فتم واستعمل في يولية سنة 1925، وزادت نفقاته كثيرا عما كان مقدرا لها. فحكومة السودان وهي المسئولة عن عواقبه المالية راغبة في زيادة المساحة التي يرويها هذا المشروع كي تقلل من خطر التعرض لفشله ماليا وتوجد لمصادر الثروة في السودان مجالا أوسع.
كان من أهم الاعتبارات في برنامج هذه المشروعات الثلاثة وجوب إنجازها، بحيث تستعمل كلها في آن واحد، لكن الأمر الذي لا مندوحة لهذه اللجنة أن تواجهه هو: أن حكومة السودان قد فرغت من أعمال الري الصناعي اللازم لثلاثمائة ألف فدان في الجزيرة، وتريد أن تخطو بعد ذلك خطوة أخرى. على حين أن مصر لم توفق بعد إلى تنفيذ نصيبها من برنامج المشروعات الأول، غير أن الحكومة المصرية قد قطعت في الفترة التي انقضت منذ عطلت أعمال اللجنة شوطا لا بأس به في سبيل تنفيذ مشروعاتها؛ إذ أقرت سد جبل الأولياء وإنشاء قناطر نجع حمادي، وخطت خطوة في سبيل تنفيذ مشروع السدود.
أما فيما يتعلق بالثلاثمائة ألف فدان فقد تغيرت الحالة بالمكاتبات التي دارت بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية في سنة 1924 وسنة 1925. ومن هذه المكاتبات المذكرتان الأخيرتان اللتان أعقبهما تكون هذه اللجنة، وتجدهما في الذيل من هذا التقرير.
بهاتين المذكرتين فكت القيود التي وضعت في سنة 1920 لتحديد الثلاثمائة ألف فدان على أن يبحث من جديد عن طريقة لتسوية مسألة التوسع في ري أراضي الجزيرة. (5) اختصاص اللجنة
كانت مهمة لجنة مشروعات النيل في سنة 1920 فحص مشروعات معينة وإبداء الرأي فيها، ومن هذه المشروعات ما كان العمل جاريا فيه، ومنها ما كان موضع النظر في وزارة الأشغال العمومية. أما اللجنة الحالية فلم تبلغ مهمتها هذا المبلغ من التخصص؛ إذ لم يطلب منها سوى أن تقترح أسلوبا للري تراعي فيه كل المراعاة حقوق مصر ومصلحة مصر. فهي على هذا قد أطلقت من كل قيد في اختيار ميدان عملها وتحديد وجهة أبحاثها ومدى هذه الأبحاث والمنهج الذي تسلكه في وضع قراراتها.
إن المعلومات المجتمعة في كتاب ضبط النيل والمشروعات التي بحثت فيه قد تناولت مجالا واسعا جدا هو ما يمكن أن يصل إليه الري من التقدم إذا نفذت سلسلة من المشروعات فيما بين البحيرات الأفريقية الكبرى والبحر الأبيض المتوسط، وتصدت للمنتظر في المستقبل البعيد كما تصدت للميسور في زمن قريب. وقد أيدت لجنة مشروعات النيل ذلك كله. أما اللجنة الحالية فلم تتعرض لمثل هذا التوسع الذي يأباه ضيق الوقت المحدد لها ولم تر أنها مطالبة بالخوض في القواعد التي تتبع في قسمة الماء بين الفريقين المنتفعين به، بل اقتصرت على بسط الاعتبارات التي كانت رائدها في استنباط آرائها.
إن السوابق نادرة في هذه المسألة، مسألة قسمة الماء، والعرف فيها غير مطرد، وهذه اللجنة لا تعرف نظاما عاما متبعا ولا عرفا مقررا يمكن أن يجعل قاعدة للفصل في مسألة الماء الذي يشترك في الانتفاع به وحدات عدة. على أن الحالة التي نحن بصددها لا تخلو من عوامل خاصة بين تاريخية وسياسية وفنية من شأنها أن تجعل القواعد المتبعة في غير النيل غير صالحة في حالة النيل والتقيد بها غير وجيه. ولما تأملت اللجنة الأحوال التي اكتنفت تشكيلها، ونظرت في ماضي المسألة التي تعالجها وفي دورها الحالي، استقر رأيها على أن تجعل غايتها إعمال الحيلة في استنباط تسوية ممكنة التنفيذ لا تغفل ما يلزم لحالة الري القائمة الآن، ولا تتعارض مع برنامج التوسع الذي تسمح به الحالة الراهنة والحالة التي تجد في المستقبل القريب، على ألا يكون في هذه التسوية مساس ما بالحالة في المستقبل البعيد.
هذه التسوية ترمي إلى تفسير المذكرة التي أشرنا إليها في الفقرة الأولى من هذا التقرير بعبارات فنية بينة لا يتسرب إليها غموض. وقد جاء في تلك المذكرة أن الحكومة البريطانية مع عظيم اهتمامها بتقدم السودان لا تنوي مطلقا الافتئات على ما لمصر من الحقوق التاريخية والطبيعية في مياه النيل، تلك الحقوق التي تعترف بها اليوم كما كانت تعترف بها في الماضي سواء بسواء.
واللجنة كلها أمل أن آراءها التي تتمشى فيها هذه الروح، والتي لم تكن إلا بعد استيعاب الموضوع من الوجهات الفنية تكون - إذا صحت العزيمة على الوئام والتعاون - أساسا مقبولا لتقدم الري في المستقبل وضمانه إلى الأبد لكل ما هو قائم الآن من الحقوق المكتسبة. (6) مشروع ري الجزيرة
قد بينا من قبل أن أهم ميدان لترقية الري في السودان هو أراضي الجزيرة، وعلى ذلك فالأحوال المحيطة بمشروعات الري في هذه المنطقة لها صلة ذات شأن بالمسألة التي نيطت باللجنة لتسويتها؛ لذا آثرت اللجنة قبل الاستمرار في أبحاثها أن تقول في هذا المشروع كلمة تتحرى فيها شيئا من التفصيل.
الغرض من هذا المشروع ري مساحة من الأراضي الصالحة للزراعة قدرها 300000 فدان ثلثها يزرع قطنا في مدة أولها يولية وأغسطس، وآخرها لا يكون بعد 15 إبريل، وثلث آخر يزرع مواد غذائية من أغسطس وسبتمبر إلى نوفمبر في حالة زراعة الذرة وإلى يناير في حالة زراعة اللوبيا. أما الثلث الباقي فيبقى بورا، ومن 16 إبريل إلى 15 يولية تكون الأرض خالية من الزراعة، ولا يحتاج إلى الماء إلا للقدر اللازم للأهالي في معيشتهم وللقطن دون سائر الحاصلات الزراعية الشأن الأكبر، سواء من وجهة الماء اللازم له ومن وجهة الثمرات الاقتصادية للمشروع.
من 16 يولية إلى 31 يولية يرفع منسوب ترعة الجزيرة تدريجيا من الحد اللازم للأهالي إلى الحد اللازم للري، وفي هذه الفترة عينها يرفع منسوب الخزان بالضرورة. ومن 31 يولية تستمد الترعة ماءها حسبما تقتضي الزراعة، ويكون أقصى تصرفها 84 مترا مكعبا في الثانية، وفي شهر نوفمبر يرتفع الماء في الخزان حتى يصل إلى منسوب التخزين المقرر، وفي هذه الحالة يكون استمداد الماء من النهر بمقدار بمقدار 150 مترا مكعبا في الثانية، وذلك لمدة 30 يوما، وينتهي ري اللوبيا أثناء النصف الأول من يناير ويقتصر الري على القطن وحده. بني هذا المشروع على التقديرات المدونة في كتاب ضبط النيل، وهي تدل على أن الماء اللازم لري زراعة القطن في تلك المنطقة يمكن أخذه من النيل الأزرق لغاية 18 يناير دون إضرار بمصر حتى في الفيضانات الشاذة في تقصيرها كفيضان سنة 13-1914. أما بعد 18 يناير فلا مناص من أخذ الماء اللازم لري القطن من الخزان؛ لهذا روعي في وضع المشروع أن يكون في الخزان كمية المياه التي يتطلبها (حسب التقدير ومع مراعاة الضائع) ري القطن إلى 15 إبريل وحاجة الأهالي من 15 إبريل إلى 15 يولية.
وثم قيد آخر غير ما تقدم من القيود الخاصة بالوقت الذي يستمد فيه الماء من التصرف الطبيعي للنيل الأزرق وبكمية هذا الماء، ذلك القيد هو تحديد الأرض التي تزرع في الجزيرة بثلاثمائة ألف فدان بمقتضى التعهد الذي قدمناه في الفقرة (15) من هذا التقرير. فلا تبين بالفعل أن المقنن المائي أقل مما قدر أولا لما كان سبيل إلى الانتفاع بالماء الفائض في زيادة المساحة المنزرعة.
مشروع الجزيرة. (7) اعتبارات عامة للجنة
جرت العادة في مصر من قديم باعتبار السنة الزراعية فصلين كل منهما نحو ستة أشهر في أحدهما يستعمل في الري كل تصرف النيل الطبيعي مضافا إليه الماء المخزون في أسوان، وفي هذا الفصل يسد كل من فرعي النيل متى سمحت الحالة بذلك. وفي الثاني ينساب ماء النيل في البحر الأبيض بمقادير كبيرة جامدة بضعة شهور.
وقد وضع مشروع ري الجزيرة الذي تم في يونية سنة 925 بحيث لا يستمد الماء من التصرف الطبيعي إلا في الفصل الثاني من فصلي الزراعة في مصر، وبحيث يستمده من خزان سنار في زمن انخفاض النيل. هذه القاعدة تقرها اللجنة، وقد سلم بها رجال حكومة السودان، وهم في هذا الفصل لا يتشبثون إلا بالماء اللازم لري مساحات يسيرة بالطلمبات عملا باتفاق قديم أقرته الحكومة المصرية. على هذا رأت اللجنة أن تكون فاتحة أعمالها تقسيم السنة تقسيما دقيقا إلى فصلين، مسترشدة في ذلك بتدبير الأحوال الحاصلة في أول الفيضان وآخره، وهما الوقتان اللذان فيهما تتغير الأحوال.
فإذا قسمت السنة على هذا النحو أصبح من الميسور أن تستأثر مصر في شهر الانخفاض بكل التصرف للنيل إذا ما كان منه حق للسودان بحكم نظام الطلمبات المتفق عليه كما قدمنا، ثم ينظر في إيراد الماء أثناء الباقي من السنة للاهتداء إلى القدر الذي يصح أن يكون للسودان، مع مراعاة ما تحتاج إليه مصر في توسعها الزراعي، ويبقى أمام اللجنة النظر في موضوعين أقل شأنا هما الري بالطلمبات وري الحياض في السودان ووضع القيود لها.
تلك هي الخطة العامة التي التزمتها اللجنة في تكون آرائها، ولا غنى في هذا المقام عن بيان بضع قواعد وأساليب بحث اتبعتها اللجنة وهي تعالج بالفعل المسألة المطروحة أمامها، فنقول: إن العملية الأساسية هي تقسيم السنة إلى فصلين وعلى الأخص تحديد الوقت الذي يكف فيه السودان عن أخذ الماء من التصرف الطبيعي للنهر عند سنار. ولقد ذهب كتاب (ضبط النيل) إلى أن يكون هذا الوقت متفقا مع البدء في تفريغ خزان أسوان، فوضع خزان سنار ليمد ترعة الجزيرة بالماء اللازم لها بعد 18 يناير، وهو التاريخ الذي يقابل في أسوان البدء في تفريغ الخزان في سنة 1913-1914، وهي سنة الانخفاض الخارق للعادة. ولقد أقرت أغلبية اللجنة هذه الطريقة، غير أنها أشارت بجواز تغيير هذا التاريخ تبعا لحالة النيل في كل سنة على أن يكون ذلك بعد يوم 18 يناير عادة، رأت اللجنة ذلك أولى من جعل التاريخ المذكور ثابتا لا يتغير تبعا لحالة الفيضان في سنة 1913-1914، وقد كانت حالة شاذة.
ليس من رأي هذه اللجنة اعتبار وقت البدء في تفريغ خزان أسوان مقياسا صحيحا للدلالة على انتهاء مدة زيادة التصرف على المطالب، فقد يجوز مع انتهاء مدة هذه الزيادة ألا يبدأ بتفريغ الخزان، بل يحتفظ بمائه زمنا ما توقعا لشدة الحاجة إليه فيما يلي من الشهور. لهذا الاعتبار رأت اللجنة ألا تأخذ بهذا المقياس، بل تأخذ بانتهاء مدة الزيادة فعلا حسبما يعلم من تصرف الترع والموازنة على قناطر الدلتا وإقامة سد دمياط وسد رشيد.
فكرت اللجنة فيما إذا كانت تبني آراءها على الحالة الشاذة التي كانت في سنة 1913-1914، أو على معدل مجموعة من السنين ، أو تضع مقياس تدرج بمقتضاه يقدم التاريخ الذي نحن بصدده ويؤخر تبعا لحالة كل سنة، ونظرت إلى أرصاد الفيضانات فرأتها تتناول أكثر من 960 سنة ليس فيها سوى أربعة فيضانات بلغت من التقصير مبلغ فيضان سنة 1913-1914. ومع تسليمها بعدم إغفال مثل هذه الفيضانات لاحتمال حدوثها لا ترى اتخاذها أساسا يبنى عليه مشروع ما، وكذلك ترى أن العمل بجدول التدرج لا يخلو من تعقيد، وأن التغيرات التي تعتري مناسيب النيل ليست من الخطورة بحيث تأبى التقيد بتاريخ وسط يصطلح عليه، فقررت الأخذ به وتطبيقه على السنين المنخفضة لترى ما يترتب عليه من نتائج. ولم يفت اللجنة التسليم بالحاجة إلى ترتيب خاص للفياضانات التي تكون من قبيل فيضان سنة 1913-1914.
ولقد فكرت اللجنة فيما إذا كان ينبغي لها وهي تعالج مسألة التوسع في ري السودان أن تجمع إلى اعتبار المساحات التي تروى اعتبار كمية الماء التي تستعمل في أوقات معينة، فلقد سبق - كما قدمنا في الفقرة 26 - تحديد مساحة المنزرع في الجزيرة بثلاثمائة ألف فدان مع القيود التي توجبها بطبيعة الحال سعة الخزان ويقتضيها تحديد الوقت الذي فيه يتسنى أخذ الماء من المنصرف الطبيعي ومقدار هذا الماء.
لكي تتسنى معالجة هذا الموضوع على الوجه الصحيح يجب أن تكون الأرصاد المتعلقة به مبنية على المواسم ومقادير الماء، فلا بد إذن من تدوين الأرصاد المتعلقة بتشغيل الخزان وكمية الماء التي تستمدها الترعة الرئيسية يوميا؛ لأن هذه الأوقات ومقادير الماء هي خير ما يستأنس به في فرض القيود التي لا غنى عنها في ضبط العمل بأية طريقة يهتدي إليها كنتيجة لاقتراحات اللجنة.
أما تحديد المساحة، فلن يكون وسيلة لضبط الماء المستمد من النهر إلا إذا اشترط معه التقيد بأنواع الزراعة وبدورة زراعية خاصة، ثم إن تحديد الزراعة يجر إلى فروض لا بد فيها من التوسع في التقدير وأخذ بالأحوط. وهذا التوسع وما ينطوي تحته من حيطة يستلزمها الشك في سعة الخزان وفي الماء الضائع وفي الماء اللازم لكل نوع من أنواع الزراعة يحول دون انتفاع السودان انتفاعا كاملا بمياه كبيرة الفائدة، فهو يؤثر في السودان أثرا غير صالح دون أن يعود على مصر بفائدة، ومن ثم كان تحديد المساحة ما لم تقدر عن سعة، مدعاة للإسراف في الري، وبديهي أن الإسراف فيه لا يكون في مصلحة المنتفعين به.
أخذت اللجنة بتلك الاعتبارات، فاستقر رأيها على أن تجعل الأوقات ومقادير الماء أساسا لمقترحاتها دون أي أساس آخر، وهي مقتنعة بأن جهات الاختصاص لا تلقى عناء في استنباط الوسائل التي بها يضبط سحب الماء من النهر ومن الخزان، وبشرط إيجاد هذه الوسائل لا ترى اللجنة من الوجهة الفنية حاجة إلى تقييد مساحة المنزرع علاوة على تقييد مقادير الماء، فإن المعروف من تقاليد الري يجعل في تحديد الأوقات ومقادير الماء الضمانات الكافية. أما إن مست الحاجة إلى التقيد بمساحة المنزرع كما حصل من قبل، فإن ذلك يكون راجعا إلى أسباب لا تدخل في اختصاص اللجان الفنية.
بقيت مسألة لم يكن للجنة بد من التفكير فيها وهي تضع خطة البحث في الموضوع الذي من أجله شكلت؛ ذلك أن الجزء الأكبر من أرض الصعيد يروى بطريقة الحياض، وأكثر اعتماده على منسوب الفيضان الطبيعي، ولا يعتمد على القناطر إلا قليلا. فكل ماء يستنزفه السودان إبان الفيضان يحدث لا محالة في هذا المنسوب أثرا يتبعه ضرر بري الحياض المصرية ، فالتسليم بأن لهذه الحياض حقا مطلقا في مناسيب الفيضان غير منقوصة يستلزم حتما تحريم ماء الفيضان على السودان.
جال بخاطر اللجنة تلقاء هذه الحالة أن من المتعذر إرجاء كل تحسين في ري السودان إلى أجل غير مسمى أو الاندفاع بلا روية في هذا التحسين والغلو في استمداد الماء اللازم له على ما فيه من تعريض حياض الصعيد لضرر بليغ. لهذا رأت ألا يتشبث بمناسيب الفيضان إلى حد إغفال تقدم الري في السودان، بل يقتصر في التمسك بها على القدر اللازم لتحديد مدى هذا التقدم وسرعة السير فيه.
ومما ساعد اللجنة على الأخذ بهذا الرأي ما قررته الحكومة عقب تشكيل اللجنة من بناء قنطرة أخرى في الوجه القبلي وما قررته بعد ذلك من إقامة سد جبل الأولياء لانتفاع مصر به، فإن إنجاز هذين المشروعين يجعل مناسيب الفيضان أقل أهمية لحياة مصر مما لو اقتصر الأمر على مشروعات السودان.
وهناك مسألة أخرى عامة تستدعي أن يفصل فيها توطئة للبحث المستفيض في الموضوع الذي تعالجه اللجنة - هذه المسألة هي هل سد جبل الأولياء يكون حكمه حكم ترعة الجزيرة سواء بسواء من حيث الأولوية في الحق وإن لم يكن الأول في السبق لعدم إنجاز شيء منه حتى الآن، ولما كان سد جبل الأولياء وترعة الجزيرة من أول الأمر حلقتين من سلسلة مشروعات واحدة، فقد رأت اللجنة أن لا يكون لمشروعات الجزيرة ميزة على جبل الأولياء في الانتفاع بالزيادة في إيراد الماء بل يسوى بينهما في حق الأسبقية، وينتج عن ذلك الرأي أن السودان ينبغي له أن لا يألو جهدا في تسهيل مهمة إقامة سد جبل الأولياء. وقد افترضت اللجنة أن هذا التسهيل من جانب السودان كائن.
وختاما نظرت اللجنة فيما إذا كان حتما لزاما أن يبقى لمشروع الجزيرة الحق الذي قرره له كتاب (ضبط النيل) في مقدار الماء الذي يأخذه وشروط أخذه، فلقد كان محتملا أن بحث اللجنة في الإحصائيات التي تناولها (ضبط النيل) وفي إحصائيات السنين التي انقضت منذ ابتكر المشروع يقضي إلى آراء مغايرة للآراء المثبتة في ذاك الكتاب، لكن هذا المشروع لم يقرر إلا بعد بحث مستفيض من جانب رجال الري في مصر ومن جانب لجنة مشروعات النيل، وارتبطت حكومة السودان بتعهدات قامت على أساس الحصة التي قررها المشروع، ومن ثم بدا للجنة أن الإقدام على النقص في كمية الماء اللازم لهذا المشروع يجر إلى عواقب لا تدخل في اختصاصها وهي هيئة فنية. على أن القواعد التي بني عليها المشروع قد دل تمحيصها بالأساليب التي جرت عليها اللجنة على أن ليس هناك كبير خلاف بين النتائج التي أفضى إليها بحث هذه اللجنة والنتائج التي توصل إليها من قبل. (8) في الإحصائيات
من المناسب قبل الخوض في تمحيص الإحصائيات أن نشرح بالإيجاز ماهية ما لدينا من الأرصاد، ونبين بعض عوامل لها دخل في التقديرات المبينة على هذه الأرصاد. (8-1) الأرصاد المائية
إن مناسيب النيل عند القاهرة أعلاها في السنة وأدناها مدونة معروفة من سنة 641 ميلادية إلى 1415 ميلادية، ثم من سنة 1737 ميلادية إلى الوقت الحاضر لا في فترة واحدة، فهذه المناسيب إذن تتناول أكثر من 960 سنة، ولها قيمتها في بيان دورة السنوات الشحيحة، ولقد بدئ برصد مقاييس النيل عند أسوان والقاهرة في سنة 1870 مع رصد مقدار التصرف أحيانا، ومنذ سنة 1903 لا تزال المناسيب أمام الخزان وخلفه، ومقدار فتح عيونه ترصد كل يوم، ولقد قدرت تصرفات النهر في السنين الأولى بواسطة تقنين فتحات هذه العيون، وهذا التقنين قد بلغ الآن مبلغا عظيما من الضبط، وكذلك توزيع الماء عند قناطر الدلتا يعمل بطريقة التقنين منذ سنة 1919، والمقادير الإحصائية يتحرى فيها على الدوام التوقي من دقة الرصد وتهذيب أساليبه، حتى إن هذه الدقة، وهذه الأساليب قد بلغت الآن مبلغا عظيما من الإتقان، فيمكن الركون إلى تلك الإحصائيات، ولا سيما ما كان منها خاصا بالسنين السبع الأخيرة. (8-2) مدة انتقال الماء
إن طول النيل وقلة انحدار مجراه يجعلان لزمن انتقال الماء شأنا جديرا بالاعتبار في كل ما يتعلق بتقدير مياهه، ولا بد من أن يكون زمن انتقال الماء هذا دائما على بال الباحث في هذا التقدير، فإذا رصدت للنهر حالة معينة في سنار مثلا لزم حساب الوقت الذي فيه يبدو أثر هذه الحالة قبل أن ترتب عليها أي نتيجة. فالخلاصة أن لا بد من اعتبار الزمان والمكان في رصد حالات النهر، وليلاحظ أن زمن الانتقال غير ثابت، بل يعتريه التغير طبقا لحالة النهر.
ولقد قامت مصلحة الطبيعيات بحساب زمن انتقال الماء بين الأماكن المختلفة عندما طلبت اللجنة ذلك، وهذا الحساب مبين في الذيل «ب»، ومنه يتضح أن زمن انتقال الماء من سنار إلى قناطر الدلتا في بدء الفيضان وانتهائه قدر كما يأتي:
في يناير وفبراير 340000 يوما. وفي يوليو وأغسطس 260000 يوما.
أما عند البحث في حالات خاصة كحالات السنين الشحيحة، مثلا فإن حساب زمن الانتقال اللازم لفحص هذه الحالات يقدر تقديرا خاصا أساسه المعلومات المناسبة له. (8-3) الماء الضائع
قدر كتاب «ضبط النيل» (انظر صحيفة 253 من النسخة العربية) أن 124 وحدة من الماء عند الخرطوم تنقص بالانتقال حتى تصير عند أسوان 100 وحدة فقط، واللجنة لا ترى من الضروري ولا من الميسور في فحص الموضوع الذي بين أيديها أن تعتبر ما يضيع بالانتقال حين تنظر فيما يكون لأخذ الماء عند سنار من أثر في حالة الماء في مصر، بل تؤثر اللجنة الذهاب إلى أن الماء الذي يؤخذ عند سنار يبدو في مصر أثره كله مع افتراض أنه لا ينقص بالانتقال، وقد يتيسر يوما في المستقبل أن يحسب هذا الضائع بالانتقال حسابا يكون أدنى إلى الصواب، كما يجوز أن يكون لهذا الضياع شأن أكبر من شأنه الحالي، وإذن يكون ثمت وجه للاعتداد به عند اللزوم. (8-4) تقسيم السنة
إن الفكرة الجوهرية المنطوية عليها آراء اللجنة هي كما سبق بيانه تقسيم السنة إلى فصلين في أحدهما تستمد ترعة الجزيرة الماء من تصرف النهر الطبيعي، وفي الآخر تستمده من الماء المخزون، وتترك التصرف الطبيعي لمصر خاصة، ولهذا لم تعد اللجنة القواعد التي قررها كتاب «ضبط النيل»، وأقرتها لجنة مشروعات النيل، لكنها في معالجة الموضوع، وفي بيان النتائج سلكت مناهج غير التي سلكها، وجعلت أهم أركان بحثها فحص الأحوال التي تصحب ظهور الفيضان وانقضاءه، أي حين يربو ماء النيل إبان الزيادة على المطلوب منه، وحين يقل إبان الانخفاض عن ذلك المطلوب، وأكثر هذا الفصل من التقرير قد خص لهذا الفحص وإبداء نتائجه وما يبنى عليها من الآراء. (8-5) زيادة النيل - يوليو وأغسطس
الحالة الحاصلة عند قناطر الدلتا في إبان الزيادة مبينة بالرسم رقم 1 الوارد في الذيل (ح) من التقرير، وهي مبنية على التصرف خلف قناطر الدلتا ومنحنيات النهر، هي عن معدل السنين من سنة 1912 إلى 1925 وعن سنة 1913 الشحيحة على خلاف العادة وعن سنة 1915 التي فيضانها أردأ الفيضانات في مدة 14 سنة إذا استثنينا سنة 1913. وقد روعي مقدار الماء الذي استعمل في الري خلف القناطر. وفي هذا الوقت وبين تأثير خزان سنار حسب برنامج الموازنة المبين بالجدول رقم 5 الوارد في صحيفة 87 من كتاب ضبط النيل، وروعي في بيان هذا التأثير زمن انتقال الماء، وهو كما قدمنا يتغير تبعا لحالة الفيضان.
يتضح من الرسم أنه في السنين المعتادة، وحين يبدو في قناطر إسنا أثر سحب الماء عند سنار يكون الماء الذي ينساب في فرعي النيل 150 مليون متر مكعب في اليوم تقريبا، ويكون أثر السحب عند سد سنار ضئيلا لا أهمية له ولو كان هذا السحب في سنة 1915 لما أضر بمصر وإن استشعرت أثره. ولو كان في سنة 1913 لاقتضى أخذ الماء من النهر قبل استقرار الزيادة من الفيضان بنحو 10 أيام، فالنتيجة التي تستخلص من هذا الرسم هي أن الترتيب الذي يقول عنه كتاب «ضبط النيل» مناسب بشرط أن تتأخر زيادة النيل عن وقت مجيئها في سنة 915، وذلك الترتيب يقضي أن تبدأ ترعة الجزيرة يوم 16 يوليو في أخذ الماء من النهر عند سنار بالمقادير المقررة. أما في السنين الأقل فيضانا من سنة 915 فيحتاج إلى الماء اللازم للري في مصر.
تقدم في الفقرة 41 أن اللجنة تشعر أنها إذا تصدت للتقليل من كمية الماء الذي سبق تخصيصه لهذا المشروع، والذي من أجله ارتبط أحد الفريقين بتعهد تكون قد تخطت حدود اختصاصها. أما مسألة تأخير فتح ترعة الجزيرة أياما في سني تأخير زيادة النيل فللجنة فيها نظر آخر. ذلك أن الماء في هذا الوقت يكون مطلوبا في مصر، ولا سيما في زراعة الذرة، وهذه ينبغي التبكير بها كي يجود المحصول. كذلك في الجزيرة يستحسن التبكير بزراعة القطن، والمعقول أن السودان في كل سنة تتأخر فيها زيادة النيل يقاسم مصر كل ضرر ينجم عن تأخر وقت الزراعة.
هذا الجدول أثبت في هذا التقرير وجعل الذيل «د».
إن حالة الفيضان في سنة 1915 يمكن أن تعتبر أردأ الحالات التي يلائمها العمل بالترتيب المقرر في كتاب «ضبط النيل»، كما يمكن اعتبار فيضان سنة 1913 أردأ فيضان ممكن، وقد يكفي في تحقيق الغايات التي تتوخاها اللجنة - تدرج يعمل به في تأخير فتح ترعة الجزيرة بنسبة تقصير الفيضان عما وصل إليه في سنة 1915، ومثل هذا الجدول يمكن استنباطه من الأرقام الواردة في الذيل «ه» من ذيول هذا التقرير، وهذه الأرقام تدل على أنه في سنة 1915 وسنة 1913، وفي التاريخ الذي يمكن فيه للسودان سحب الماء يبلغ مجموع تصرف النيل الأزرق وتصرف النيل الأبيض معا 142 مليون متر مكعب يوميا، ومعدل التصرف 160 مليونا أخذا بالأحوط أن لا تستمد ترعة الجزيرة ماءها من التصرف الطبيعي إلا بعد أن يبلغ معدل التصرف في خمسة أيام 160 مليونا في اليوم في سنار وملكال مع تقديم تاريخ ملكال عشرة أيام.
والواقع أن اللجنة وإن قدمت هذا الاقتراح من باب توخي العدل والمساواة في المعاملة لا تعتقد أن مصر يلحقها ضرر يذكر إذا جرى العمل في مشروعات السودان على النحو المبين في كتاب «ضبط النيل» بلا نظر إلى حالة الفيضان. ثم إن اللجنة كما قدمنا لا تميل إلى التعقيد الذي قد يجر إلى استعمال جدول التدرج، غير أنها ترى حالة الفيضان في هذه المسألة بالذات عاملا ذا أثر مباشر كما ترى العمل بهذا الجدول سهلا، وهي لا تتوقع صعوبة ما في العمل به عند الحاجة إليه وهي نادرة. لهذا تشير باتباع هذه الطريقة إذا بدا لجهات الاختصاص أن لا تتقيد بالتاريخ الثابت وسهولة العمل به. (8-6) الفيضان
إذا استقرت زيادة النيل في النصف الثاني من يونية كما قدمنا بقي النظر في مقدار المياه - إن وجدت - التي يمكن أن يأخذها السودان علاوة على المقادير المقررة لمشروع الجزيرة في كتاب «ضبط النيل» دون أن يترتب على اختصاص السودان بها الإضرار بمصلحة مصر أو الخروج عن القواعد التي تأخذ اللجنة بها. هذا وفي الرسم رقم 2 و3 و4 بيان كمية المياه التي تنساب في البحر الأبيض في السنين المعتادة، وفي سنة 1915 وسنة 1913، وهما أقل السنين فيضانا، وفي هذه الرسوم أيضا بيان تأثير ترعة الجزيرة وملء خزان سنار وخزان جبل الأولياء. وقد وصل إلى علم اللجنة أن وزارة الأشغال العمومية قد وافقت على تفصيلات مشروع هذا الخزان بعد تنقيحه، هذا غير أن اللجنة لم تعلم ما هي التفصيلات على وجه التحقيق.
وعلى هذا فما في الرسوم من بيان لملء الخزان هذا إنما هو افتراض من اللجنة الغرض الأكبر منه إظهار مقدار سعته بالنسبة لمقدار الماء الميسور في هذا الوقت. ولما كان ماء النيل الأبيض خاليا من الطمي فملؤه ممكن في أي وقت خلافا لخزان أسوان وخزان سنار.
ترى اللجنة أن ما يزداد على نصيب السودان من الماء ينبغي أن يكون بقدر معتدل، وإن كان الماء غير مستعمل كثيرا في هذا الفصل. وإنما رأت ذلك لسببين: أولهما أن الضائع من المياه في سنار وجبل الأولياء مشكوك في مقداره الآن، ولا سبيل إلى تقديره بالدقة إلا بعد تشغيل الخزانين سنة أو سنتين، والثاني تأثير المناسيب في حياض مصر، وقد نظرت اللجنة في هذا الموضوع بدقة وأعدت الذيل «و» من ذيول هذا التقرير لتبين به هذا الأثر الذي أحدثه عند السودان أخذ 100 متر مكعب و50 مترا مكعبا و200 متر مكعب أثناء فيضانات السنين 1911 و1913 و1915 و1918. وقد كانت كلها فيضانات شحيحة، ولم يحسب الأثر الذي يحدثه ملء خزان جبل الأولياء بعد تعديله، ولكن من الواضح أن أثر هذا الخزان في مصر يكون أكبر كثيرا من أثر سحب المياه عند سنار حسب التقدير الحالي.
ومن الاعتبارات ذات الشأن التي لها دخل في هذه المسألة أن مياه الري اللازمة لترعة الجزيرة لا تبلغ حدها الأقصى في أغسطس وسبتمبر، أي في وقت بلوغ الفيضان أقصاه، كما يؤخذ من تجارب الري بالطلمبات والقطن في السودان أن يزرع في أواخر يولية وأوائل أغسطس، ونظرا لهطول الأمطار في هذا الوقت لا يحتاج إلى الرية الثانية إلا في أواخر سبتمبر. أما زراعة المواد الغذائية فتأتي بعد القطن. وعلى هذا فترعة الجزيرة مهما بلغ أقصى التصرف المقرر لها في زمن الفيضان لا يأخذ في الواقع إلا مقدارا أقل من هذا التصرف في وقت ملء الحياض في مصر .
من المسلم به أن خزان جبل الأولياء ومشروع الجزيرة يترتب عليهما حتما انخفاض المناسيب في الصعيد، وهذا يستتبع صعوبة في ملء الحياض، وسيكون لهذين المشروعين مثل هذا التأثير في حياض السودان، واللجنة غير ميالة إلى أن تخوض غمار البحث في هذه المناسيب لتقرر إلى أي حد يمكن اعتبار المحافظة عليها حقا مقررا.
على أن هذه المسألة قد تناولتها اللجنة على اعتبار أنها هيئة من المهندسين دعيت للاستئناس برأيها في مسألة عملية، وهي على هذا الاعتبار ترى أن ما يكون في النيل الأعلى من أعمال هندسية لتحسين الري والاحتفاظ بالماء يجب ألا يتغير إلى أجل غير مسمى بمسألة مناسيب التصرف الطبيعي في النيل الأدنى، وأن السودان يجب أن يتقيد في تحسين ريه لسرعة محدودة حتى يتيح لمصر فرصة اللحاق به، وهذا يكون بإنجاز الأعمال التي جعلت من نصيبها في البرنامج الأصلي.
ومع مراعاة ما جاء في الفقرة السابعة ترى اللجنة مستطاعا في زمن الفيضان أن تؤخذ عند سنار المقادير الإضافية المبينة بالجدول الآتي على أن يكون أخذها من أول أغسطس؛ فإن أول أغسطس عند سنار يقابل تقريبا 25 أغسطس عند قناطر الدلتا، وفي هذا التاريخ تكون زيادة الفيضان قد توطدت وترع الوجه البحري قد وصلت إلى منسوبها الكامل، وتشير اللجنة بأن يكون أخذ هذه المقادير الإضافية تدريجيا بقدر لا يزيد على ما في الجدول الآتي:
أقصى التصرف مقدرا بالمتر المكعب في الثانية
السنة
المقرر في البرنامج الأول «ضبط النيل»
المقدار الإضافي المقترح
المجموع
25-26
84 ...
84
26-27
84 ...
84
27-28
84 ...
84
28-29
84 ...
84
29-30
84
12
96
30-31
74
24
107
31-32
84
36
120
32-33
84
48
132
33-34
84
60
144
34-35
84
72
156
35-36
84
84
168
ملاحظة: أقصى التصرف 84 مترا مكعبا في الثانية في أغسطس وسبتمبر وأكتوبر ونوفمبر و85 مترا مكعبا في ديسمبر.
ترى اللجنة أن ملء خزان سنار في مثل سنة 1913 قد يحتاج فيه إلى الخروج عن الخطة المقررة في كتاب «ضبط النيل» إذا كانت ترعة الجزيرة تأخذ المقادير الإضافية التي تقترحها، وأن ينظر بدقة في برنامج ملء خزان أسوان في جميع السنين التي من هذا القبيل، ثم يعدل طبقا للحالة، ولا تتوقع اللجنة صعوبة في تطبيق هذه الطريقة على خزان سنار.
ومقادير المياه اللازمة لملئه صغيرة بالنسبة إلى مقادير خزان أسوان، ولا ترى ضرورة لأن تقترح طريقة خاصة لهذا. بل تؤثر التخلي عنه إلى جهات الاختصاص تنظر فيه عند الحاجة. (8-7) انخفاض النيل - يناير وفبراير
خصصت اللجنة وقتا طويلا في النظر فيما إذا كان 18 يناير هو اليوم الذي يصح جعله حدا لانتهاء زيادة النيل، وحاولت الاهتداء إلى تاريخ صحيح كما ترى في الذيل «ز» وبيان التواريخ المرافقة له، مسترشدة بمطالب الترع وتناقص مقادير الماء المار في قناطر الدلتا وسد رشيد ودمياط.
يمكن صرف النظر عن السنين الماضية البعيدة؛ إذ لا يصح الركون إليها وتطبيق حالتها على الأحوال الحاضرة، ولا يمكن اعتبار سنة 1917-1918؛ لأنها كانت خارقة للعادة إذا استمر الفيضان طول فصل الصيف، وإذا جعلنا السنين الباقية مجموعتين تبين لنا أن الزيادة انقطعت في التواريخ المبينة بعد:
تواريخ قناطر الدلتا
التواريخ المقابلة لها في سنار
21 فبراير
8 يناير
21 فبراير
8 يناير
ففي المجموعة الأولى من السنين، وهي التي تدلنا على الأحوال الحاصلة عند تهيئة مشروع الجزيرة تأتي الطريقة التي تتبعها بتاريخ عند سنار هو نفس التاريخ الذي ارتآه واضعو المشروع، أي 18 يناير. لكن المجموعة الثانية تقضي أن هذا التاريخ 8 يناير.
ولكيما يزيد الموضوع تمحيصا دعت اللجنة الدكتور هرست مدير مصلحة الطبيعيات، ومستر بوتشر مدير قناطر الدلتا إلى البحث في أصول هذا الوقت من السنة، على أن يستقل كل منهما عن الآخر ويتبع أصلح الطرق في رأيه، وطلبت منهما أن يختبرا صحة هذا التاريخ الذي قرره كتاب «ضبط النيل» 18 ياير. ثم ينظرا إلى أي تاريخ يسمح ما يفصل من الماء بعد تشغيل جبل الأولياء بأن تعطى الجزيرة المقادير الإضافية التي تراها اللجنة ميسورة في فصل الفيضان، والغرض من مراعاة تأثير جبل الأولياء التمشي مع الرأي الذي تضمنته الفقرة 4، وهو البحث عن وجود الماء الكافي لجبل الأولياء وما يتبعه من توسيع نطاق الرأي في مصر قبل أن تعطى الجزيرة نصيبها من الماء.
ولقد بنى دكتور هرست بحثه على أرقام سنة 1920، وهي من حيث الماء في شهر فبراير أقل السنين الست من سنة 1919-1920 إلى سنة 1924-1925، وتجد الطريقة التي اتبعها والنتائج التي اهتدى إليها مبينة في الذيل (ح) والرسم رقم 5 الموافق له. ورأي مستر هرست هو أن ترعة الجزيرة في الأحوال الحاضرة - أي بغض النظر عن خزان جبل الأولياء - يمكن أن تعطي المقادير المقررة لها في «ضبط النيل»إلى 22 فبراير في قناطر الدلتا، وهو يقابل 20 يناير في سنار، فإذا اعتبر خزان جبل الأولياء دون مقدار الضائع كان هذا التاريخ 12 يناير في سنار، ويكون 8 يناير إذا عمل حساب هذا الضائع. أما المقادير الإضافية للجزيرة فقد رأت اللجنة إمكان إعطائها للسودان إلى أول يناير في سنار إذا غض النظر عن الضائع، وإلى 27 ديسمبر إذا عمل حساب هذا الضائع.
أما مستر بوتشر فقد اتبع طريقة غير هذه، وهي موضحة في الذيل (ي)، أساسها معدل السنوات الست من سنة 1918 إلى 1919 إلى سنة 1923-1924، والأرصاد في هذه السنين كما قدمنا غاية في التفصيل والصحة، ومما يجدر التنبيه له مقارنة هذه السنين بمعدل عدد من السنين أكبر، والذيل (ي) يدل على أن معدل كمية الماء في ديسمبر ويناير من هذه السنوات الست يعادل 91 في المئة من نظيره في العشرين سنة الأخيرة، كما يدل على أن السنوات الست كلها أقل من معدل العشرين سنة، ورأي اللجنة أن هذه السنوات تصلح أساسا للتقدير.
لا تعلم اللجنة الطريقة التي تتبع في الانتفاع بالماء المخزون في جبل الأولياء، ورأى مستر بوتشر أن هذا الماء يزيد في ماء مصر أثناء الصيف نحو 22 في المائة، فافترض مثل هذه الزيادة في الماء اللازم كمصر في غير فصل الصيف أيضا، والشك قائم في وقوع ذلك بالفعل، لكن لا نزاع في أن هذا الافتراض يجعل التقدير في مصلحة مصر. وعند تشغيل كل من خزان سنار وخزان جبل الأولياء يوجد في الماء ما يسد المطالب كلها إلى 10 فبراير، وهو يقابل 7 يناير في سنار، كما يدل عليه الرسم رقم 6 المعمول به في هذا التقدير، ويبقى بعد ذلك 40 مليونا، وهي الآن تنساب في البحر.
وفي هذا الرسم أيضا بيان الأثر الذي يحدثه سحب مقدار إضافي من الماء قدره 80 مترا مكعبا في الثانية بعد سحب المقرر لترعة الجزيرة بمقتضى كتاب (ضبط النيل)، وبعد زيادة المنزرع من أراضي مصر على أثر إنشاء جبل الأولياء، ولا يغيبن عن الأذهان أن هذا القدر الإضافي يمكن سحبه إلى 5 فبراير في قناطر الدلتا، وهو ما يقابل 2 يناير في سنار دون التعدي على الماء المستعمل للآن في الري، ويبقى بعد ذلك تصرف قدره 75 مليون متر مكعب للملاحة في مصر وقت سد ترعها.
لبيان الحالة في هذا الفصل من السنة وعلاقتها من حيث الوقت بالحالة في سنار بطريقة أخرى قد أعد الرسم رقم 7، وفيه التصرف اليومي لفرعي النيل في يناير وفبراير في السنوات 1913-1916 و1920-1923، وهي أقل السنين فيضانا. كذلك بين فيه مقادير الماء الذي يخزن في أسوان. فالرسم إذن يصور الحالة في هذا الفصل تصويرا لا بأس بمبلغه من الكمال، وقد أثبت فيه أيضا التاريخان 31 ديسمبر و28 يناير، كلاهما عند سنار، وروعي في إثباتهما ما يلائم من زمن انتقال الماء.
وليلاحظ أن كلا من التقدير المذكور في الفقرة «60» فيما يتعلق بالسنين الماضية البعيدة والتقدير الأول الذي عمله مستر هرست، كلاهما ينزع إلى تأييد الترتيب الذي جعل ترعة الجزيرة يستمد الماء من النهر إلى 18 يناير. وفي كل من هذين التقريرين قد غض النظر من تأثير خزان جبل الأولياء، على حين أن ما جاء بالفقرة 40 من أن مشروع الجزيرة لا يختص بأولوية في الحقوق يقتضي أن لا يقل جبل الأولياء، وأن يعمل حساب المشروعين معا. في هذه الحالة يكون التاريخ على حساب مستر هرست 8 يناير. واللجنة وإن أخذت بالرأي الذي أبدته في الأولوية لا تقبل أن تذهب إلى حد القول بتطبيق هذا الرأي على الماضي، وجوب تعديل أساس كل مشروع ثم تبعا لما يجد من قاعدة أو معلومات أو طريقة تقدير.
ولنرجع إلى تقدير مستر بوتشر، ويوجه النظر إلى أهمية إقامة السدين في هذا الوقت من السنة. هذه العملية تستدعي مقادير عظيمة من الماء بها يبقى في فتحة السد تيار يكفي لسد ماء البحر عن مجرى النهر. والسد الآن يكون في فبراير في أغلب السنين، لكن تشغيل خزان جبل الأولياء ومشروع الجزيرة ستنجم عنهما زيادة الماء المأخوذ من النهر، ولم يقم السدان قبل موعد إقامتهما الآن، فلا مندوحة عن أن تؤخذ المقادير اللازمة لصد ماء البحر من الماء المخزون.
ومتى بكر بإقامة السدين أمكن الانتفاع بالماء المستعمل الآن في صد ماء البحر في شؤون الري في هذا الوقت، والواقع أن هذا القدر داخل في ال 140 مليونا التي ذكرناها في الفقرة 64 وقلنا إنها في متناولنا بعد 7 يناير (تاريخ سنار)، وهو التاريخ الذي فيه أثر تعجيز الماء عن المطلوب. والترتيب المقرر في (ضبط النيل) يقتضي أن يكون لمشروع الجزيرة من ماء النهر 69 مليونا أو ما يقرب من أن يكون بالضبط نصف ال 140 مليونا التي في يدنا، وعلى هذا فيتغير زمن إقامة السدين، وهو على تقدير مستر بوتشر يصحب التوسع في الري لا محالة. لا يكون القسط الأول من الماء اللازم للجزيرة مستمدا من الماء المستعمل الآن في ري مصر، وإن كان هذا القسط يؤخذ من تصرف النهر حتى 18 يناير، واللجنة ترى في هذا التقدير تأييدا للرأي القائل بعدم تغيير التاريخ الذي تقرر، وهو 18 يناير فيما يتعلق بمشروع الجزيرة.
أما التاريخ الذي إليه يمكن سحب المقادير الإضافية فنتائج البحثين متفقة فيه اتفاقا لا بأس به؛ إذ هو في أحدهما 28 ديسمبر وفي الثاني 2 يناير (سنار)، ورأي اللجنة أن يبقى سحب المقادير الإضافية إلى 31 ديسمبر، ويهمنا في هذا المقام أن نبين أن التطهير وغيره من الأعمال تقتضي في مصر سد الترع كل سنة قبل نهاية ديسمبر، وفتحها في أوائل فبراير. أما التواريخ التي فيها فتح الترع فعلا فتتوقف على الفراغ من الأعمال التي لأجلها سدت الترع. وسد الترع هذا ضروري في كل سنة، ولا بد من حصوله في هذا الفصل لأن أحوال القطر تأبى حصوله في غيره؛ فهو إذن من أخص مظاهر الري في مصر. وفتح الترع بعد سدها كما قدمنا هو الذي يعلل سرعة اختفاء زيادة الماء في مصر في فبراير، كما يعلل حصول نقص الماء في تاريخ يكاد يكون ثابتا. لهذه الاعتبارات ترى اللجنة أن ترعة الجزيرة لا تأخذ من ماء النهر مقدارا ما إضافيا بعد الوقت المقابل لفتح الترع في مصر.
إن الترتيب الذي بمقتضاه تستمد ترعة الجزيرة المقادير المقررة لها في (ضبط النيل) من تصرف النهر الطبيعي إلى 18 يناير، ولا تستمد مقادير إضافية بعد 31 ديسمبر. هذا الترتيب قد يزداد وضوحا إذا تبين الحد الذي لا يتعداه السودان في سحب الماء من النهر في يناير بكميات الماء من غير اعتبار ليوم 18 يناير بالذات. ولقد قررت (ضبط النيل) للسودان 117 مليون متر مكعب إلى 17 يناير، والذي تراه اللجنة أن لا يأخذ السودان في شهر يناير أكثر من هذا المقدار على أن لا يستأنف أخذ الماء من التصرف الطبيعي للنهر حتى 1 يولية كما بينا في الفقرة 49. وعلى هذا فمن أول يناير إلى 15 يوليو يقتصر السودان على أن يأخذ من التصرف الطبيعي - وهو النهر - 117 مليون متر مكعب خلاف المقادير القليلة التي ترفع بالطلمبات، وفي هذا الوقت من السنة تستأثر مصر بما يكاد يكون جميع الباقي من التصرف الطبيعي، وهو على حسب الذيل «ك» يصل إلى نحو 13000 مليون متر مكعب عدا ما هو مخزون بأسوان وجبل الأولياء، وبتأمل الموضوع بعد هذا البيان تقل بالنسبة لمصر أهمية تحديد يوم من أيام يناير لا يتعداه السودان في سحب المقدار المقرر له في (ضبط النيل)، وهو 4,5 ملايين متر من النهر يوميا، لكن تحديد هذا اليوم كبير الأثر بالنسبة للسودان الذي ليس له من مورد في فصل الانخفاض في خزان سنار سوى نحو 500 مليون متر مكعب، وال 117 مليونا المقررة له من التصرف الطبيعي والمقدار القليل المخصوص للطلمبات.
قد فكرت اللجنة بعناية فيما إذا كانت تقترح ترتيبا خاصا يعمل به في سني التقصير الشديد التي تشبه سنة 1913-1914، وفطنت إلى أن الجزيرة إذا لبثت في مثل تلك السنة تستمد ماء ريها من التصرف الطبيعي إلى 18 يناير، فالسودان على حسب طريقة التقدير المتبعة في هذا التقدير يكون لحد ما قد استمد حاجته من ماء تحتاج إليه مصر. فلكي يحتاط للسنين التي من هذا القبيل لا بد من اتخاذ مقياس أو دليل يهتدى به في أحوالها الخارقة للعادة، فيعطى للسودان حصته بمقتضى جدول مدرج، كما توضع طريقة للتنبؤ بهذه الأحوال قبل وقوعها.
فكرت اللجنة في ترتيبات مختلفة، وبحثت فيها مع مصلحة الطبيعيات، ثم نظرت إلى ضآلة مقادير المادة التي هي موضوع بحثها وإلى ندرة السنين الشحيحة، وإلى أن الحكومة المصرية قد أقدمت نهائيا على خطة معينة لزيادة الانتفاع بمياه النيل، فرأت تلقاء ذلك كله أن مثل هذا إن وضع لا يكون محققا للفائدة، بل هو يجر إلى عناء في التنبؤ بالمستقبل من أحوال الفيضان، ويفتح باب خلاف وتشاد، ثم يحتمل أن لا يرجع إليه قط، واللجنة إذا أخذت بالحقائق الثابتة والاعتبارات العامة المبينة في الفقرة 41 لا تقترح تغييرا ما في الخطة الأولى التي تجيز أن تستمد ترعة الجزيرة من التصرف الطبيعي للنهر إلى 18 يناير مقادير الماء التي تكررت لها من أول الأمر في كتاب (ضبط النيل).
لكن الاعتبارات المبينة في الفقرة 41 لا تسري على المقادير الإضافية، واللجنة لم تجد بدا من أن يكون للسنين الشحيحة دخل في الآراء التي تبديها، ولو جر ذلك إلى جدول التدرج ومتاعب العمل به، وإن هناك فرقا كبيرا بين أخذ الماء عند سنار في الثمانية عشر يوما الأولى من يناير وبين أخذه في ديسمبر؛ لأن المأخوذ في يناير قد يؤثر في كمية مياه الري اللازمة لمصر، على حين أن المأخوذ في ديسمبر لا يشعر بأثره في مصر إلا في وقت سد الترع، وهو وقت انسياب الماء في البحر الأبيض، وليس فيه مصلحة تراعى إلا مصلحة الملاحة. فالمقياس الذي يستأنس به عند التفكير في تحديد التاريخ الذي فيه ينبغي الكف عن سحب الماء الإضافي من التصرف الطبيعي، هو أثر هذا السحب في الملاحة في مصر.
لا وجود لتقدير حاسم في بيان كمية الماء التي يمكن اتخاذها حدا أدنى لما تطلبه الملاحة في وقت ما و(ضبط النيل) يقدر لها في يناير مقدارا من الماء يتراوح بين 1500 و2300 مليون خلف أسوان، وتقرير الأغلبية في لجنة مشروعات النيل يشير بجعل المقدار اللازم للملاحة 1500 مليون. وبمقتضى الترتيب المقترح في تقريرنا هذا يكون هذا المقدار كما جاء في الفقرة 56 هو 75 مليونا في اليوم، أي 2300 في الشهر في الأحوال التي تقل بعض الشيء عن المتوسط، ولا سبيل إلى التمسك بهذا الحد الأدنى حتى في أردأ السنين، فلقد نزل التصرف في يناير سنة 1914 إلى 40 مليونا في اليوم عند قناطر الدلتا بل إلى أقل من ذلك.
ولقد اهتدت اللجنة إلى ترتيب آخر لطريقة بحث غير الطريقة التي تقدم ذكرها؛ ذلك أن التصرف الطبيعي للنهر كما هو ظاهر من الرسم رقم 6 بمعدل مليون متر مكعب في اليوم في آخر يناير عند القناطر يقابله آخر ديسمبر هو على وجه التقريب 14 مليونا في اليوم، وعلى هذا فكل ما وقع في مصر في السنين الماضية يقع مبكرا بأربعة عشر يوما، وإذن يمكن الاتفاق على جدول تدرج بمقتضاه يقدم تبعا لطبيعة الموسم تاريخ الكشف عن سحب المقادير الإضافية حتى يصير هذا التاريخ في السنين التي تشابه سنة 1913-1914 يوم 18 ديسمبر بدل 31 ديسمبر، وهو اليوم المحدد للسنين المعتادة.
يمكن اعتبار مجموع التصرف الطبيعي في أسوان في شهر ديسمبر مقياسا يستدل به على حالة النيل، ولدينا لتحديد الأحوال التي يسري عليها تاريخ 31 ديسمبر تقديران؛ أحدهما الوارد ذكره في الفقرة 63 يدل على أن هذا التاريخ كان ينبغي أن يكون 28 ديسمبر في سنة 1919-1920، والثاني التقدير الوارد ذكره في الفقرة 62، وهو يدل على أن هذا التاريخ 2 يناير، ولقد كانت جملة التصرف في ديسمبر من سنة 1919-1920، 4410 مليونات كما هو ظاهر من الذيل (ي). أما في السنوات الست التي اتخذت أساسا للتقدير الثاني، فقد بلغ معدل التصرف 4860 مليونا، وإنه يناسب أن تجعل بداية جدول التدرج الذي تقترحه نحو 4700 مليون، ونهايته 2800 مليون، وهي جملة التصرف في سنة 1913-1914، فيكون التاريخ الذي يجعل حدا لاستمداد السودان القدر الإضافي، أي 80 مترا مكعبا في الثانية هو 31 ديسمبر في جميع السنين الشحيحة يقدم التاريخ بنسبة 3 أيام عن كل 400 مليون من الفرق 4700 مليون، ومقدار التصرف الفعلي للنهر في ديسمبر.
قد لا تخلو المقادير المترتبة على جدول التدرج هذا من تقريب يسير، لكن هذا الجدول قد استنبط من المعلومات التي بين أيدينا، وبني على الاعتبار الوحيد الذي يمكن مراعاته في هذا الفصل من السنة، وهو مطالب الملاحة غير الممكن تحديدها على وجه الدقة، وهذا الجدول يتفق مع الأرصاد، ويحقق غاية ترمي إليها اللجنة، وهي وضع نظام لماء السودان يمكن أن يتمشى مع طوارئ هذا الفصل التي لا يصح أن يسلم منها أحد الطرفين. وهذا سيضطر السودان إلى الاستمرار في السحب من النهر إلى آخر ديسمبر، على أن يرد ما زاد عن حقه فيما بعد حين يتسنى الحكم على حالة السنة.
لدينا اعتراضان خطيران على جدول التدرج هذا: الأول أنه قد يفتح باب الخلاف في الأرقام التي بني عليها، وقد يكون التقيد بتاريخ ثابت لا يحتمل الخلاف خيرا من الأخذ بطريقة إذا استحسنت من الوجهة النظرية فهي قابلة من الوجهة العملية لأن تجر إلى تشاد بين الفريقين الآخذين بها، والثاني - وهو يعزز الأول - أن جدول التدرج هذا مبني على التصرف الطبيعي في أسوان، ومتى كان على النيل قبل أسوان خزانان آخران يشتغلان، فإن تقدير التصرف الطبيعي في أسوان يكون أمرا عسيرا تدخل فيه عدة عوامل غير يقينية، لكن جدول التدرج مع ذلك كله هو خير وسيلة ترى فيها اللجنة ضمانة لتشغيل ترعة الجزيرة فيما يتعلق بالتوسع الزراعي على النحو الذي يلائم السنين الشحيحة. (9) الري بالطلمبات وري الحياض في السودان
قدمنا في فقرة من الفقرات الأولى من هذا التقرير أن ما يروى بالطلمبات وما يروى بطريقة الحياض من أراضي السودان قليل المساحة لا يعد في موضوع بحثنا عاملا من العوامل الكبيرة. لكنه مع هذا ينطوي على اعتبارات لها قيمة، وقد فكرت اللجنة فيها عاما، ولا سيما في موضوع الري بالطلمبات.
قبل سنة 1904 رخص للسودان - بعد موافقة الحكومة المصرية - بإدارة طلمبات تكفي لري 2000 فدان ريا دائما. ولما أنشئ خزان أسوان في تلك السنة زيدت تلك المساحة 10000 فدان، ثم زيدت 10000 أخرى بعد تعلية الخزان في سنة 1912؛ وإذن تكون جملة الأرض المسموح بريها بالطلمبات ريا دائما 22000 فدان، غير أن هناك شيئا من الخلاف في حقيقة مساحة هذه الأراضي منشؤه أن بعض المستندات قد يؤخذ منها أن ال 10000 فدان التي أبيح ريها عند إنشاء الخزان يدخل فيها ما كان مسموحا بريه قبل ذلك، على حين أن غيرها من المستندات قد يؤخذ منه أن هذه ال 10000 فدان هي المسموح بريه بعد إنشاء الخزان خاصة. نعم إن الفرق بين الاعتبارين ليس بذي شأن كبير. ولكن من رأي اللجنة أن تتفاهم جهات الاختصاص في هذه المسألة تجنبا للخلاف في المستقبل.
ولقد أبدى المندوب البريطاني في اللجنة رأيا في هذه المسألة، وهو أنه يصح قياسا على ما كان في الماضي أن لا ترى الحكومتان البريطانية والمصرية ما يمنع من زيادة المساحة التي تروى بالطلمبات ريا دائميا 20000 فدان بعد أن يتم سد جبل الأولياء. لكن هذه مسألة غير هندسية لا تكاد تدخل في موضوعات بحثنا على ما بينا من أمرها في فقرة سابقة من هذا التقرير، فالبحث فيها يثير مسألة أخرى هي: هل للسودان - بسبب موقعه الجغرافي لا غير - حق السحب في التصرف الطبيعي للنيل في وقت تعجيزه.
ومما ينبغي التنبيه له أن الري الدائمي يجر - لا محالة - إلى أخذ الماء في وقت انخفاض النهر، ومع أن مساحة ما يروى فعلا في فصل الصيف كانت دائما أقل كثيرا من المساحة المرخص بها فإن هذا الاقتراح يبيح للسودان سحب مياه تنتفع بها مصر الآن، ولكن اللجنة امتنعت من أن تبدي رأيا قاطعا، ورأيها: أن تسوية هذه المسألة من غير تدخل هيئة فنية أمر ليس بعزيز على الحكومتين البريطانية والمصرية؛ نظرا لضآلة المقادير التي يقتضي ذاك التوسع المحدود في الري الدائمي بالطلمبات أخذها من النيل في زمن انخفاضه.
وفوق هذا الري الدائمي الذي ذكرنا أبيح للسودان - بأمر من وزارة الأشغال المصرية - أن يرفع الماء بالطلمبات من 15 يولية إلى آخر فبراير (باعتبار تاريخ السودان) من غير تحديد المساحة، وحتى وقتنا هذا بلغ المنزرع بمقتضى هذه الإباحة نحو 160000 فدان. ولقد دل تمحيص الحالات الراهنة - كما هي مبسوطة في هذا التقدير - على أن موسم الفيضان - وهو الموسم الملحوظ في تلك الإباحة - لا يمكن اعتباره ممتدا إلى ما بعد نهاية ديسمبر (تاريخ سنار). وعلى هذا فالرفع بالطلمبات في زمن الفيضان، ينبغي طبقا للقواعد التي أخذت بها اللجنة أن يقف في هذا التاريخ، ولكن الأحوال الزراعية تجعل الري بالطلمبات قليل الجدوى إذا قيد بهذه القيود، ومن ثم لم تجد اللجنة مندوحة عن النظر في وضع خطة للري النيلي بالآلات في السودان يعمل بها في المستقبل، وتراعى فيها القواعد المأخوذ بها في هذا التقرير والأحوال الراهنة لمياه النيل.
الحل القريب تعويض الماء الذي يستعمل للري النيلي بالطلمبات بماء من المخزون في سنار، والتعديل في طريقة تشغيل الخزان يأتي بكمية إضافية يمكن تخصيصها لهذا الغرض، وهي غير داخلة في المقادير المقررة لمشروع ري الجزيرة. ولقد كانت الخطة الأولى لتشغيل ترعة الجزيرة - وقد بينا هذه الخطة من قبل - أن تبقى جارية من 15 إبريل إلى 15 يولية، وتستمد من مياه الخزان الماء اللازم للأهالي في المنطقة المنزرعة، ولا بد في هذه الحالة إذن من أن يبقى منسوب الخزان بطبيعة الحال عند الحد اللازم لإمداد ترعة الجزيرة بهذا القدر من الماء، ومنسوب الترعة بالنسبة لمنسوب النهر الطبيعي يقتضي في هذه الحالة أن يحبس في الخزان على الدوام نحو 150 مليون متر مكعب من الماء، ولو أن الماء اللازم للأهالي يرفع بالطلمبات لأمكن إطلاق هذا القدر المحبوس في الخزان ليجري في النهر ويعوض ما يؤخذ منه بالطلمبات بعد انتهاء موسم الفيضان، أي بعد آخر ديسمبر (تاريخ سنار).
ولا بد من حبس هذا القدر ثانية في النهر في شهر يولية حتى يتسنى إعداد ترعة الجزيرة للموسم القادم، والرسم رقم (1) يدل على أنه في الفيضانات العادية أو العالية لا يوجد أثر ذو بال في حالة المياه بمصر وفي الزمن القابل. وفي سني الفيضان المتأخر كثيرا يمكن تأخير البدء بالموازنة في خزان سنار على حسب الترتيب المقترح في الفقرة 51 كي يعيد المقدار المسحوب قليلا يمكن إغفاله، وهذا ليس بعزيز على جهات الاختصاص، واللجنة تشعر بأن ما يطرأ أحيانا من الحالات الشاذة يجب أن لا يتخذ ذريعة لنبذ الوسائل التي تلائم الأحوال المعتادة ولا تأباها السنون الرديئة، وعلى هذا فالذي تراه اللجنة أن الطلمبات التي تعمل في موسم الفيضان إلى آخر فبراير يمكن أن يستمر التوسع التدريجي في الترخيص بها كما كان الحال في الماضي ما دام الماء الذي ترفعه بعد آخر ديسمبر يمكن تعويضه بالكيفية المتقدمة. (9-1) ري الحياض في السودان
في السودان حياض مساحتها نحو 80000 فدان. لكن لا يغمر منها إلا جزء يسير.
هذه الحياض - فيما هو معلوم - غير صالحة لتحسين يذكر، وليس لها من الوجهة الزراعية كبير قيمة. ذلك أن أراضيها عالية وطبيعتها تأبى ملأها من الترع الآخذة من النيل على مسافات بعيدة كما هو الحال في مصر. هذه الحياض سينالها شيء من الضرر بسبب سحب الماء عند سنار وجبل الأولياء. لكن القضايا التي تقدمت عند الكلام في حياض مصر تصدق هنا، واللجنة لا تعد ري حياض السودان ركنا كبيرا من أركان الموضوع الذي تعالجه، ولا تجد داعيا لأن تدلي بآراء فيه خاصة. (10) الخلاصة والكلمة الختامية
يمكن تلخيص أهم آراء اللجنة فيما يأتي: (أ)
يجب أن تختص مصر بالانتفاع بتصرف النيل الطبيعي من 19 يناير إلى 15 يولية (تاريخ سنار)، مع مراعاة ما سيذكر بعد عن طلمبات السودان. (ب)
لترعة الجزيرة أن تبدأ باستمداد مائها من التصرف الطبيعي للنهر في يوم 16 يولية على أن يرفع منسوبها حتى يصل في 31 يولية إلى منسوب الري المقرر طبقا للجدول الذي وضع لهذا الغرض في كتاب (ضبط النيل)، والمثبت هنا في الذيل «د»، بشرط أن يكون معدل مجموع التصرف عند سنار وملاكال قد وصل إلى 160 مليون متر مكعب في اليوم أثناء الخمسة الأيام السابقة، مع تقديم تاريخ ملاكال عشرة أيام. (ج)
من أول أغسطس إلى 31 ديسمبر يمكن لترعة الجزيرة أخذ المقادير الآتية بعد من النهر، مع التزام التدرج المبين بالجدول الوارد في الفقرة 57 من هذا التقرير، وهذه هي المقادير:
من أول أغسطس إلى 30 نوفمبر 168 مترا مكعبا في الثانية.
من أول ديسمبر إلى 31 ديسمبر 160 مترا مكعبا في الثانية.
وبشرط أن جملة التصرف الطبيعي للنهر في ديسمبر عند أسوان إذا قلت في أي سنة عن 4700 مليون متر مكعب تؤخذ من التصرف الطبيعي 80 مترا مكعبا في الثانية أثناء شهر ديسمبر كله، والباقي يؤخذ من التصرف الطبيعي إلى تاريخ يتقدم عن آخر هذا الشهر بمقدار ثلاثة أيام لكل 400 مليون متر مكعب تنقصها جملة التصرف الطبيعي في تلك السنة عن ال 4700 مليون متر مكعب. (د)
لترعة الجزيرة أن تأخذ في شهر يناير أكثر من القدر الذي قرره لها كتاب (ضبط النيل)، أي 80 مترا مكعبا في الثانية، من أول الشهر المذكور إلى 15 منه، و52 مترا مكعبا في الثانية من 16 إلى 18 من هذا الشهر، فتكون جملة المقرر لها 117 مليون متر مكعب. (ه) (تمام ملء خزان سنار ورفعه من المنسوب اللازم لملء الترعة إلى منسوب التخزين المقرر يكون في نوفمبر طبقا للبرنامج المقرر في كتاب ضبط النيل. (و)
كل توسيع في الري بالطلمبات أثناء الفيضان يقوم به السودان إلى آخر فبراير يجب اعتبار مائه مستمدا من خزان سنار بعد 31 ديسمبر، وبعبارة أخرى يطلق من الماء المخزون في هذا الخزان على سبيل التعويض لمصر مقدار من الماء يساوي بالحساب المبني على المعلومات الأكيدة ما استعمله السودان في زيادة المساحة المنزرعة، ويجب تشغيل خزان سنار بكيفية تضمن تدبير هذا القدر اللازم لتعويض مصر. (ز)
بعد آخر فبراير يقتصر عمل الطلمبات في السودان على الري الدائمي المبين بالفقرة 81. (10-1) الكلمة الختامية
تتوقع اللجنة مس الحاجة من وقت لآخر إلى إعادة النظر في المسائل التي تناولها التقرير، وهي ترى احترام كل نظام للري قائم أمرا لازما عند كل نظرة مستقبلة في هذه المسائل، وترى على الأخص وجوب أن لا يعدو السودان في استمداد الماء من التصرف الطبيعي في يناير ال 117 مليون متر مكعب المقررة له في كتاب (ضبط النيل) عدا ما هو مقرر الآن من حقوقه في الري بالطلمبات. أما سوى ذلك من مطالبه إلى يولية فيكون تدبيره من ماء الخزان أو غيره من أعمال تدبير المياه.
ولقد قدرت اللجنة حق القدر احتمال حاجة مصر في المستقبل بسبب توسيع نطاق ريها إلى أعمال ري تنشأ في السودان وما جاوره كأوغندا وكينيا وتانجانيقا. وعند اللجنة أن لمصر من هذه الناحية أن تعول على المساعدة التامة تلقاها من القائمين بالأمر في السودان فيما يتعلق بالمشروعات فيه ومن الحكومة البريطانية فيما يتعلق بما جاوره من الأقطار.
لم تأل جهدا في التماس قاعدة للري عملية التطبيق ولا في توقع ما قد ينشأ في المستقبل من صعاب، ولا في الاحتياط لهذه الصعاب ما أمكن الاحتياط. وهي لا يفوتها أن المستندات لا تخلو من نصوص قد تكون عند التطبيق غامضة لا يسهل تأويلها، ولا أن المسائل التي هي من قبيل مقادير الماء الذي يجري في نهر أو ترعة، أو يمر من عيون خزان أو يضيع بالتبخر أو التشرب لا يمكن أن تسلم من خلاف في حقيقة أمرها. ولكن اللجنة لا ترى في مهمتها اقتراح طريقة خاصة يستأنس بها في مثل ذاك الغموض والخلاف، بل يخيل إليها أن ذلك لا يدخل في اختصاص هيئة فنية. لكنها تحب أن تثبت هذا المقام رأيا - وتثبته بقوة - ليس للاتفاقات مهما أحكمت واحتيط في نصوصها للخلاف أن تحجب عن الفريقين الثقة والتعاون وما لهما من شأن خطير في كل ما له صلة بالنيل ومياهه.
وختاما؛ ترجو اللجنة توجيه النظر إلى أهمية المثابرة على دراسة هذا النهر وتدوين الإحصائيات عنه تدوينا منظما. وإننا نرى نظاما مائيا محكما قائما، وبقاؤه على الدوام قادرا على أداء الغرض المقصود منه أمر ضروري لا غنى عنه فيما يجد من تحسين الري. وفي تنفيذ النظم المقترحة في هذا التقرير على الوجه الصحيح، بل لا غنى عنه في تنفيذ أي أنظمة أخرى يمكن استنباطها .
تحريرا بالقاهرة في 21 مارس 1926.
إمضاء
المندوب المصري: عبد الحميد سليمان
المندوب البريطاني: ر. م. ماكجريجور (10-2) رأي الأمير عمر طوسون
في كتاب إلى حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا بالاعتراض على ما جاء في خطبته التي ألقاها بالمنصورة من أن منطقة السدود يقع بعضها في السودان وبعضها في الأملاك البريطانية. نشرته الجرائد المصرية بتاريخ 16 نوفمبر سنة 1928، وها هو:
حضرة صاحب الدولة محمد محمود باشا رئيس مجلس الوزراء.
اطلعنا على خطبة دولتكم بالمنصورة، ولفت نظرنا منها قولكم عند ذكر جبل الأولياء: «ولقد درست وزارة الأشغال هذا الموضوع من مدة بعيدة، واسترشدت في درسها بكبار الفنيين حتى انتهت إلى وضع برنامج شامل لتحقيق مطالب الري تضمن إقامة خزان بمنطقة جبل الأولياء في السودان، وشق قناة لتحويل مجرى النيل من منطقة السدود التي يضيع فيها كثير من الماء في غير جدوى، وهذه المنطقة يقع بعضها في السودان وبعضها في الأملاك البريطانية، ثم خزان بحيرة ألبرت الواقعة في الأملاك البريطانية» - إلى أن قلتم - «ولو سلمنا بنظرية القائلين بوجوب وقف أعمالنا على النيل الخارج عن الحدود المصرية لتمشى حكم هذا التعطيل ليس على جبل الأولياء فقط لوقوعه في السودان الذي لا ننكر سيادتنا عليه. بل تتناول بالأولى مشروعات أعالي النيل بما فيها منطقة السدود الذي تقدمت وزارة الأشغال للقيام بالأعمال فيها بطلب مليون ومائة ألف جنيه في سنة 1925، وأقرها مجلس الوزراء على هذا الاعتماد، كما أقره البرلمان في سنة 1926 في حين يعلم الجميع أن من هذه المنطقة ما يقع في السودان المصري، ومنها ما يقع في الأملاك البريطانية.
هاتان هما النقطتان اللتان لفتتا نظرنا بنوع خاص في خطبة دولتكم؛ ذلك أن منطقة السدود المذكورة جميعها داخلة ضمن حدود السودان المصري القديم حسب ما كان عليه قبل الثورة المهدية، وكذلك مخرج النيل من بحيرة ألبرت نيانزا المراد عمل السد فيها لجعل تلك البحيرة خزانا هو أيضا جزء من مديرية خط الاستواء المصرية، ظل محكوما بمصر حتى آخر عهد أمين باشا، وهو آخر مدير لتلك المديرية السودانية المصرية إلى نهاية الحكم المصري الفعلي للسودان. وقد شمل الحكم جزءا من شواطئ هذه البحيرة، وأقام فيه المعاقل العسكرية التي بقيت حتى شاهدها ستانلي في سياحته المشهورة عندما توجه إلى هذه الجهة لتخليص أمين باشا ظاهرا ولمحو الآثار الباقية لمصر بتلك المنطقة في الحقيقة. ثم توجه الكابتن لوجارد إلى هناك، واستخدم الجنود المصرية المتروكة فيها باسم الشركة البريطانية الأفريقية الشرقية، واستولى على أوغندة والقسم الجنوبي من مديرية خط الاستواء، وبسطت الحكومة البريطانية حمايتها على البلاد. ثم عقدت بعد ذلك مع مصر معاهدة سنة 1899. ولو احترمت هذه المعاهدة كما تدعي لكان أول واجب عليها إرجاع هذه البلاد وجعلها تحت إدارة حكومة السودان، حيث إن هذه المعاهدة تشتمل عموم الأراضي التي يتكون منها السودان المصري القديم كما كان عليه قبل الثورة المهدية. ولكنها لم تفعل هذا الواجب ولم تراعه في تطبيق هذه المعاهدة، وهذا لا يجعلنا نعتبر عملها الذي استندت فيه إلى القوة وحدها عملا شرعيا. فإن إنكلترا التي أخرجت مارشان من فاشودة بحجة أنها جزء من السودان المصري ما كان ينبغي لها بعد ذلك أن تسلخ جزءا منه لنفسها، وهذه الحجة لا تزال إلى الآن باقية. وإننا كتبنا إلى دولتكم هذا محافظة على حقوق مصر وبيانا للحقيقة. وتفضلوا دولتكم بقبول مزيد سلامنا.
14 نوفمبر سنة 1928
الإمضاء: عمر طوسون (10-3) النيل في عهد قدماء المصريين
يقول الأديب محسن عبد الفتاح حسين :
كان قدماء المصريين يطلقون على نهر النيل اسم «حابي» “Hapi” ، وهم لم يعرفوا مكان منبعه الحقيقي، وكانوا في تراتيلهم وتسبيحاتهم إلى إله النيل يصفونه ب «الإله المختفي» و(غير المرئي)، وأن مكانه السري غير معروف. والنهر الذي يشرف عليه هذا الإله (وهو نهر النيل) كانوا يعدونه جزءا من النهر أو المحيط السماوي الكبير الذي تسير عليه قوارب إله الشمس كل يوم. وكانوا يعتقدون أن هذا النهر السماوي يحيط بجميع بقاع الأرض، ولكنه ينفصل عنها بسلسلة من الجبال، وأن على ناحية من هذا النهر يوجد عرش أوزيريس تبعا لنص من نصوصهم الدينية، وبجانبه فتحة في سلسلة الجبال ينحدر منها فرع من النهر السماوي ويسيل على الأرض، وكانوا يقولون: إن المكان الذي يظهر فيه النيل هو عند الشلال الأول، ولكن في العصور الأخيرة من عهدهم كانوا يقولون: إن النيل يرتفع وينبع من بين جبلين قريبين من جزيرة أنس الوجود، وقد أسمى هيرودوتس هذين الجبلين (كروفي) و(موفي)، وهذان الاسمان محرفان عن الأصل المصري وهو (كور حابي) و(مو حابي)، ومعناهما على الترتيب (كهف حابي) و(ماء حابي).
وكان قدماء المصريين يطلقون على كل من نهر النيل وإله النيل الاسم (حاب) أو (حابي)، الذي كان ينطق في العصور الأخيرة (حوفي) أو (أوفي)، ومعناهما معروف. أما في عصور الأسر الأولى فكان إله النيل يسمى (حابور)، ومعناه (حابي الكبير).
والاسم (النيل) الذي يعرف به نهر القطر المصري ليس من أصل مصري، ولكنه في الغالب مأخوذ من الكلمة السامية «نهر، نهال» التي حرفها الإغريق إلى نهيلوس بالإغريقية وفيلوس باللاتينية، ومنها جاءت كلمة النيل.
ولمعرفة اعتقاد المصريين في قوة إله النيل تقرأ هذه التسبيحات - المقدمة لنهر النيل - وهي مكتوبة على ورقة من البردي محفوظة في المتحف البريطاني:
لك الإكرام يا حابي، إنك تظهر لكي تجعل مصر تعيش، إنك تروي الحقول التي خلقها رع، وتمد جميع الحيوانات بالحياة، وعندما تنزل من السماء فإنك تمد الأرض بالمياه بدون انقطاع، إنك صديق الخبز وكل ما يشرب، إنك تمد الحبوب بالقوة وتجعلها تنمو وفيرة، إنك تملأ كل مكان بالعمل - إنك سيد السمك، إنك خالق الحنطة والشعير، إنك حامي الفقير والمحتاج، وأنت إذا قهرت في السماء فإن الآلهة ترتمي على وجوهها ويهلك الرجال وتموت النساء، وعندما تظهر على الأرض فإن صيحات الفرح تملأ الهواء ويصبح جميع الناس سعداء؛ لأن كل شخص سينال طعامه، وكل سن ستمد باللحم «أي إن الإنسان سيكون غنيا حتى إنه سيأكل اللحم»، وأنت الذي تملأ مخازن المنازل بالأطعمة ومخازن الغلال بالحبوب، وتساعد الفقير والمحتاج، إنك أنت الذي تجعل الحشائش تنمو وتجعل كل إنسان غير محتاج للآخر.
وفي قطعة أخرى من هذه التسبيحة أيضا قالوا: إن الإله غير ممثل في تمثال، وإن صوره ليست مرئية «فليس هناك مكان كبير يسعه. وأنت لا تقدر أن تعمل له صورة «أي تتخيله» في قلبك». وهذه الكلمات ترينا سبب قلة تماثيل هذا الإله. وفي الحقيقة إن تماثيل إله النيل، كبيرة أو صغيرة، نادرة جدا.
أما من حيث عبادة النيل فقد كان هناك احتفالان مهمان. أولهما في شهر يونيو، ويسمى «ليلة الدمعة
Qorb en Hatiu »؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن في مثل هذا الوقت من السنة تبكي إيزيس ذاكرة نحيبها وندبها الأول على جثة زوجها وأخيها أوزيريس، فتسيل دموعها في النهر فتسبب زيادة مياهه وارتفاعها، وهكذا ينشأ الفيضان. وهذه العقيدة كانت لا تزال موجودة حتى بضع سنين مضت، ولكن في شكل معدل، فكان المصريون - إلى منتصف القرن الماضي - يقيمون احتفالا في اليوم الحادي عشر من شهر بؤونة «17 يونيو» يسمى «ليلة النقطة». ففي هذه الليلة كانوا يعتقدون أن هناك نقطة تسقط في النيل وتسبب زيادة مياهه وفيضانها. أما الاحتفال الثاني فكان في منتصف شهر أغسطس، وهو ما يماثل الآن احتفال «العقبة» أو «قطع الخليج». فكانوا يبنون في الخليج سدا من التراب يبلغ ارتفاعه 23 قدما، وعندما يصل منسوب مياه النيل إلى هذا العلو، يأتي العمال قبيل شروق الشمس في اليوم التالي لوصول المياه إلى 23 قدما، ويزيلون قليلا من التراب من على قمة السد، ثم يؤتى بقارب يركب فيه البعض ويجرفون تجاه السد الذي يكون قد ضعف لإزالة قليل من التراب من على القمة، فينكسر وينقطع فتمر مياه النيل بقوة جارفة أمامها السد. وهذا الاحتفال يشبه الاحتفال الذي يقوم به أهالي رأس البر ودمياط تمام الشبه.
ولم يكن النيل طبعا يرتفع كل سنة الارتفاع المطلوب، فكانت تنشأ من ذلك التحاريق وتتسبب المجاعات عنها. ففي عصر الملك زوسر - من الأسرة الثالثة - حدث أن انخفض النيل سبع سنوات، فنشأت من ذلك مجاعة هائلة نتج عنها أن الجار كان يسرق جاره، وكان الشبان لا يقدرون على السير، والرجال الأقوياء يسقطون على الأرض من شدة الجوع، والعجائز يتمددون على الأرض على ظهورهم منتظرين الموت، وتقول قطعة الصخر المنقوش عليها هذه القصة: إن الملك زوسر كتب إلى حاكم إقليم الشلال الأول، لأنهم - كما ذكرت - كانوا يعتقدون أن النيل يرتفع من هناك، يطلب منه أن يسأل الإله خنوم
Khnum ، إله الشلال، لماذا يسمح بحدوث هذه الأشياء؟ وتستمر النقوش فتقول: إن الملك زوسر عول أخيرا على زيارة جزيرة أنس الوجود، حيث قابله الإله خنوم الذي قال له: إن سبب انخفاض النيل هو أن الناس أهملوا عبادة آلهة الشلال. فوعده الملك بأنه سيعنى بذلك، وأنه سيأمر بتقديم القرابين إلى المعابد بانتظام. وقد وفى الملك بعهده؛ فارتفع النيل وغطى الأرض وسبب ازدياد ثروة البلاد. وهذه الرواية مأخوذة من نقوش على قطعة حجر من عصر البطالسة وجدت في جزيرة عند الشلال الأول. ا.ه.
الفصل الثالث والعشرون
الخزانات
ترتب على مشروعات النيل وتنظيم توزيع ماء الري بين مصر والسودان، التفكير في إنشاء خزانات على النيل، فأنشئ من الخزانات: (1)
خزان أسوان وتمت تعليته مرتين. (2)
خزان سنار «مكوار سابقا»، وقد تقررت تعليته قريبا. (3)
خزان جبل الأولياء ويتم بناؤه في سنة 1937. (4)
مشروع خزان بحيرة ألبرت. (5)
مشروع خزان تانا. والأخيران في دور التفكير والبحث والمفاوضة والتمهيد، ولم يوضع لهما تصميم معين، ومن باب أولى لم يبدأ فيهما.
وقد اكتنفت السياسة هذه المشروعات، وكان أشد مظاهر ذلك هو خوف المصريين من أن يتخذ بناء خزانات مصرية أو سودانية للإضرار بالري المصري، أو أداة لإكراه مصر على ما تأباه.
ونتكلم هنا على منطقة السدود، ومشروع خزان ألبرت. ومشروع خزان تانا. وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب نسهب الكلام على خزان سنار، وخزان جبل الأولياء، وخزان أسوان؛ لأننا زرنا هذه الخزانات، فنحن نكتب عن معاينة لا عن علم فقط.
يقول أحد المهندسين: «إن فكرة التخزين قديمة في مصر، وترجع إلى عهد الفراعنة، فقد عنوا بتنظيم التخزين، واختاروا له المنخفض الذي تشغله الآن مديرية الفيوم. وقد أطلق الإغريق على هذا الخزان اسم بحيرة «موريس» (راجع تاريخ مصر للعلامة السر ملندرس ستري ج1 ص20 إلى سنة 204».
وقام قدماء المصريين كذلك بإنشاء خزانات في وديان السيول في الصحراء الشرقية وفي شبه جزيرة سينا لتخزين مياه الأمطار والسيول، والانتفاع بها في سقي بعثات التعدين وعمال المحاجر «راجع كتاب علم الآثار المصرية للعلامة جاستون مسبيرو صفحة 39-41». وكان الرومانيون يخزنون ماء الأمطار في آبار في الصحراء الغربية.
ولما ولي المغفور له محمد علي باشا أمر مصر اهتم بتخزين المياه، فأنشأ خزانا في مديرية البحيرة على أرض واسعة لا تزال تسمى أرض الخزان، وهي الآن ملك للأمير عمر طوسون، وكان الغرض من هذا الخزان تغذية ترعة المحمودية في الصيف، فلما أنشئت طلمبات العطف بطل استعمال هذا الخزان.
واهتم المغفور له محمد علي باشا كذلك بإنشاء خزانات للنيل لزيادة الإيراد الصيفي، وكلف لينان باشا كبير مهندسيه البحث عن مكان خزان «موريس» وإمكان إعادته، فلما وجد لينان باشا التكاليف كثيرة اقترح إنشاء سد على النيل عند جبل السلسلة «راجع مذكرات لينان دي بلفون صفحة 397-420-88».
ولما احتل الإنكليز مصر أحضروا إليها نخبة من مهندسيهم الذين كانوا في الهند لإصلاح الري، وقد وجدوا أمامهم اقتراحين لتخزين المياه، وهنا يصح أن ندع السير ويلكوكس يتكلم، فقد قال في كتابه «الري في مصر صفحة 424 الطبعة الثانية» ما يأتي:
في سنة 1880 (أي قبل دخول الإنكليز مصر) اهتم الكونت دي لامون الفرنسي بمسألة الخزانات، فاقترح إنشاء سد على النيل عند جبل السلسلة لتخزين المياه إلى جنوبه، أي في سهل كوم أمبو، وقدر التكاليف بأربعة ملايين من الجنيهات، وذلك عدا التعويضات، وقدر كمية المياه التي يسعها هذا الخزان بنحو سبعة مليارات من الأمتار المكعبة.
وفي سنة 1882 اقترح المستر كوب هويتوس الأمريكي إنشاء خزان في وادي الريان (الذي يقع في الصحراء الغربية إلى جنوب الفيوم)، أي في الوادي الذي سبق للينان باشا أن ذكره ورسمه في خريطته.
ولما نجح الإنكليز في إصلاح قناطر الدلتا وجعلها قادرة على تغذية الرياحات وترع الوجه البحري في الصيف بفضل تهيئة المال اللازم لذلك، بدأوا يدرسون المشروعين اللذين أسلفنا ذكرهما في أثناء كلام السير ويلكوكس، ولكن الأمر انتهى إلى حفظهما لاختلاف الآراء فيهما، ويرجع الفضل في بيان قيمة هذين المشروعين من الوجهة الفنية إلى بعض كبار المهندسين المصريين في ذلك الوقت مثل سالم باشا وغيره.
وإلى هذا الوقت لم تكن فكرة التخزين في مجرى النهر قد أخذت حظها من الوجود. وقد كان في الإمكان أن تقف فكرة التخزين في ذاتها أمدا بعيدا لولا أن هيأ الله لمصر مهندسا فرنسيا هو المسيو برومب - العضو بمجلس إدارة السكك الحديدية المصرية - فلفت نظر المهندسين الإنكليز إلى التخزين في مجرى النهر ذاته، وكان هذا الاقتراح هو مفتاح الفرج، وفي ذلك يقول السير ويلكوكس في كتابه الذي أسلفنا ذكره صفحة 425 ما يأتي:
في سنة 1889 اقترح المسيو برومب - العضو بمجلس إدارة السكك الحديدية المصرية - استخدام مجرى النيل نفسه للتخزين ما دامت لا توجد سهول منخفضة متصلة بالنيل وتصلح للتخزين.
وقد رحب المهندسون الإنكليز بهذا الاقتراح، وعينوا السير ويلكوكس لدراسة مجرى النيل في بلاد النوبة لتعيين أفضل موقع للسد الذي ينشأ على النيل للتخزين، وقد عين أربعة من المهندسين المصريين مع السير ويلكوكس لهذا الغرض، نذكر منهم المرحومين محمد بليغ (بليغ باشا فيما بعد)، ومحمد صابر، وعبد الرحمن رشدي، وعبد الله حسين.
وقد انتهت هذه الدراسة باختيار رأس شلال أسوان باعتباره أحسن موقع للسد. (1) خزان أسوان وإنشاؤه وتعليته
وهنا يبدأ دور خزان أسوان من حيث إنشاؤه وتعليته. وضع السير ويلكوكس مشروعا لإنشاء السد. وفي سنة 1894 استدعيت لجنة دولية لفحص هذا المشروع، وكانت مؤلفة من ثلاثة أعضاء؛ أحدهم إنكليزي، وثانيهم فرنسي، وثالثهم إيطالي. وقد قدمت اللجنة تقريرين لأنها لم تجمع على رأي واحد، فقد انضم العضوان الإنكليزي والإيطالي الواحد إلى الثاني، وانفرد العضو الفرنسي برأي قدم به تقريرا مستقلا أخذ بأهم ما فيه بعد ذلك عند التفكير في حماية مجرى النهر من سقوط مياه الخزان؛ لأنها أحدثت تآكلا في الصخر.
وقد أدخل تقرير الأكثرية تعديلات مهمة على مشروع السير ويلكوكس.
وفي سنة 1898 بدئ بإنشاء الخزان، وأبعد المهندسون المصريون عنه ليستقل المهندسون الإنكليز بفخره، وشملت هذه الخطة المهندسين الأربعة الذين قاموا بنصيب كبير في دراسة النيل وعمل ميزانيته مع السير ويلكوكس. وقد انتهى العمل في الخزان وافتتح سنة 1902، وبلغت تكاليف إنشائه أربعة ملايين ونصف مليون من الجنيهات، ولكنه ما كاد يستخدم حتى ظهرت عيوب في بنائه، واقتضى الحال عمل «فرشة» خلفية له انتهى العمل فيها في سنة 1907، وقد بلغت تكاليف هذه «الفرشة» 2827000 جنيه، وكان إنشاء هذه الفرشة تنفيذا للملحوظة التي كان قد أشار إليها العضو الفرنسي في لجنة 1894.
ولم يكد العمل ينتهي من «الفرشة» حتى ظهرت فكرة التعلية الأولى، فاضطر المهندسون الإنكليز إلى إزالة جزء من «الفرشة» حتى يتمكنوا من عمل التعلية، وقد بلغت تكاليف التعلية الأولى مليونا ونصف مليون من الجنيهات.
وهنا يصح أن ننقل رأي السير ويلكوكس في هذه التعلية. فقد قال في الطبعة الثالثة من كتابه السالف الذكر صفحة 742 ما يأتي: «وقد حدثت شروخ بسيطة وشقوق في البناء الجديد ففرغت اللحامات لتمر فيها مياه الرشح بعد تغطيتها «بكحلة كاذبة».»
واستدعى الأمر ترميمات كثيرة حتى ثبت البناء كما هو مدون في تقارير وزارة الأشغال من سنة 1912 إلى سنة 1916.
أما التعلية الأخيرة، فإن تاريخها لا يزال عالقا بالذاكرة، ولا يزال ماثلا للأعين أن اللجنة الدولية التي دعيت لدرس التعلية الثانية في سنة 1928 لم تأخذ برأي السير ماكدونالد - مستشار الخزان الفني - في طريقته الفنية للتعلية، ولا برأي المستر بكلي الذي كان معهودا إليه بتحضير مشروع التعلية (راجع تقرير اللجنة الدولية ص4 الذي نشرته الحكومة المصرية)، وكان الرأي السائد في اللجنة هو رأي المستر كوبر العضو الأمريكي. ومما هو جدير بالذكر أن وزارة الأشغال أخذت عهدا على السير ماكدونالد أن ينفذ التصميم الذي وضعته اللجنة الدولية حين تعيينه مستشارا فنيا للتعلية. (1-1) منطقة السدود
ألقى الدكتور هيرست - مدير مصلحة الطبيعيات - محاضرة علمية بجمعية الفنون الملكية بلندن عن منطقة السدود ننشرها فيما يلي:
إن المقصود بالسدود هنا تلك النباتات الطفيلية والحشائش وأشجار البردي التي تعوق انحدار الماء في بعض فروع النيل الأبيض. وهي كثيرة وكثيفة في المنطقة الواقعة بين خطي عرض 6 و10، حيث يجري بحر الجبل وبحر الظراف وبحر الغزال ونهر بيبور وبعض فروعه. وهي تنمو كذلك في طريق النيل في أوغندا، بيد أن انتظام الملاحة في الوقت الحاضر في بحر الجبل والظراف والغزال تجعل تماسك هذه العشاب نادرا. وقد كانت في الماضي تلتف حول بعضها وتنمو وتتكاثف؛ فتعيق الملاحة شهورا كما قال سير صموئيل بيكر.
و(منطقة السدود) تطلق الآن على الإقليم المليء بالمستنقعات الذي يحف ببحر الجبل وبأعالي بحر الظراف فيما بين بحيرة «نو» و«وبور» على خط عرض 6، ويجوز أن ندمج فيها كذلك إقليم المستنقعات الذي يحف ببحر الغزال، وإقليم بيبور الذي لبعض نهيراته صفات ومميزات بحر الجبل وبحر الغزال.
لم يكن أعالي النيل الأبيض معروفا قبل أن تجوسه البعثات التي أرسلها من مصر المغفور له محمد علي باشا فيما بين سنة 1839 وسنة 1842. وقد أنشئت بعد ذلك في تلك المناطق محاط تجارية، وأتم السياح الأوربيون اكتشاف ذلك الإقليم بالتدريج إلى أن كانت ثورة المهدي، فامتنع السودان على المكتشفين في المدة بين سنتي 1882 و1898، ولم يكن معروفا في ذلك الوقت عن نظام فروع النيل وأهمية النيل الأزرق والنيل الأبيض إلا النزر اليسير.
وقد أورد سير هنري لبونز في كتابه (جغرافية النيل) كل ما كان معروفا عن حوض النيل حتى سنة 1905. وإنه لمن دواعي سروري أن يكون رئيس هذا الاجتماع هو سير هنري ليونز نفسه. الذي كان في مقدمة الذين ارتادوا هذا الإقليم من العلماء الباحثين.
وصف منطقة السدود
يخرج مجرى النيل الأبيض من بحيرتي فيكتوريا وألبرت في سهول أفريقيا الوسطى، ثم ينحدر في الوديان المسطحة التي يتكون منها السودان الجنوبي. وهناك يلتقي ببحر الغزال ثم بنهر السوباط الذي يستمد أكبر كمية من مائه من مرتفعات الحبشة.
وأكثر فروع النيل تفيض بشدة في موسم الأمطار. ويضعف انحدارها أو يكاد أن يتلاشى في موسم الجفاف. وبعض الفروع يفيض في الوديان فيكون المستنقعات، ونظرا لانتظام سيل الماء من البحيرات ترى أن بحر الجبل يختلف اختلافا كليا عن سائر فروع النيل، حيث لا يطرأ عليه تغيير كبير في موسمي الفيضان أو الجفاف. وإلى هذا الانتظام ثم إلى إمكان صيانة الماء من الانسياب في المستنقعات بإقامة السدود على البحيرات يرجع الفضل في أهمية بحر الغزال إلى كل مشروع يراد به الانتفاع بجميع ماء النيل.
وتقع أبعد منابع بحر الجبل في بقعة جبلية جميلة قريبة إلى بحيرة (ليفو) وأقرب إلى (الكاب) منها إلى (القاهرة)، ومن هذه البقعة ينبع أيضا نهر (كاجيرا) الذي هو أهم نهر يصب في بحيرة إدوارد التي يربطها نهر (سمليكي) ببحيرة ألبرت.
وفي هذا الإقليم توجد قمم «رونزوري» التي يبلغ ارتفاع أعلاها 5120 مترا، وتوجد المنطقة الوحيدة في طول حوض النيل التي تعلوها الثلوج باستمرار.
وكمية الماء التي يستمدها النيل من ذوبان الثلوج قليلة الأهمية. على الرغم من أن بعض المؤلفين قد ذكروا أن النيل يستمد ماء الفيضان من ذوبان الثلوج في الحبشة؛ لأن الحبشة في الواقع لا توجد بها ثلوج دائمة بكمية تستحق الذكر.
هذا وتوجد خمس بحيرات في منطقة بحر الجبل هي بحيرات جورج وإدوارد وألبرت في الوادي الغربي. وبحيرة فيكتوريا وكيوجا في الوادي الشرقي. والحوض الأساسي لهذا النهر يخرج من بحيرة فيكتوريا عند شلالات (ريبون)، ويمر بنهاية بحيرة كيوجا (حيث يوجد إقليم منخفض كثير المستنقعات)، ثم يهبط إلى بحيرة ألبرت عند شلالات مرشيزون حيث ينحدر مستوى النهر انحدارا عظيما.
وثمة فرع آخر يتكون من نهيرات وادي (ريفت) التي تصب في بحيرات إدوارد وجورج وألبرت.
أما البحر الأساسي فإنه يستمر في حوض تحف به المستنقعات حتى يصل إلى حدود السودان عند منيول، ومن ثم ينحدر سريعا مسافة 160 كيلومترا حتى يصل إلى (ريجاف) بالسودان.
وفي المنطقة بين بحيرة ألبرت وريجاف يتلقى النهر أمواه فروع كثيرة سريعة تفقد أهميتها في موسم الجفاف.
وفيما بين ريجاف والخرطوم «وهي مسافة 1750 كيلومترا»، يظل النيل الأبيض صالحا للملاحة طول السنة.
وانحدار الأرض بعد ريجاف عظيم ويسبب تآكل ضفتي النهر بين ريجاف وبور، وبسبب هذا التآكل قد اختفت وتلاشت مدينة «كبرو» التي كانت مركزا حكوميا هاما أثناء احتلال البلجيكيين لمنطقة «لادو» ويتأثر مجرى النهر بعد «بور» بالأعشاب أكثر مما يتأثر بالتآكل.
هذا ومجرى بحر الجبل وبحر الغزال يحف بهما المستنقعات الكثيرة. ومساحة هذه المستنقعات تختلف باختلاف موسم الأمطار.
ففي موسم سنة 1917 مثلا الذي امتاز بغزارة أمطاره، ترامت هذه المستنقعات حتى وصلت إلى بحر العرب. أما مواسم الجفاف الشديد كموسم سنة 1922، فإن المستنقعات لا تشمل غير مناطق ضيقة على ضفتي النهر.
وعندما تنهمر الأمطار تنمو في الوديان حشائش كثيفة ترتفع إلى 5 أقدام أو ستة أقدام. وتجعل السير والنقل مستحيلا. وعندما ينقطع انهمار المطر تجف هذه الحشائش، وغالبا ما يشعل فيها الأهالي النيران قبل موسم الأمطار التالي.
وقد قامت شركة المساحة الجوية بلندن بتصوير منطقة بحر الجبل، وهي الآن بسبيل وضع خرائط لهذه المنطقة، وسوف تستفيد من جهود هذه الشركة بالحصول على معلومات جديدة صحيحة عن هذه المنطقة لم يكن يتسنى لنا الحصول عليها بأية وسيلة أخرى. فاللشركة الشكر على اضطلاعها بهذه المهمة الشاقة الخطيرة في إقليم بلقع موحش.
ويخرج بحر الظراف من المستنقعات الواقعة شرقي «شامبي»، ثم يستقيم في مجراه مسافة مائة كيلومتر فلا تحف به مشتنقعات تذكر، وقد أوصل ببحر الجبل بواسطة قناتين مهدتا بواسطة الكراكات في سنتي1910 و1913 بقصد الحصول من المستنقعات على أكبر كمية من الماء.
والنبات الذي ينمو أكثر من غيره شمال شامبي هو نبات البردي: فترى النهر ينساب هناك كأنما من بين جدارين من شجر ذلك النبات.
ويتحد بحر الجبل وبحر الغزال عند بحيرة «نو»، وينحدران شرقا حيث يعرفان بعد ذلك باسم النيل الأبيض، وتحف المستنقعات بالنيل الأبيض إلى قبيل اتصاله ببحر الغزال، وهناك يستقيم مجراه في حوض جاف الضفتين.
وبحر الغزال نهر بطيء يستمد ماءه من نهيرات أهمها نهر «جور» ونهر «لول»، وهما يحملان إليه كميات وافرة من الماء. أما النهيرات الأخرى فإنها تختفي في المستنقعات.
ونهر «جور» صالح للملاحة في المدة بين يوليو وأكتوبر، وهو يستخدم في نقل كميات كبيرة من البضائع من مدينة «واو» عاصمة مديرية بحر الغزال ، غير أن البحارة يعانون كثيرا من جراء ضيق النهر، ثم من جراء انحرافه المفاجئ في بعض المواقع.
المناخ
ومناخ جنوب السودان خاضع لموسم الأمطار في المدة بين إبريل وأكتوبر، ثم لموسم الجفاف من نوفمبر إلى مارس من كل عام، وكمية الأمطار في مختلف الوديان تتراوح بين 800 و1000 ملليمتر. وتبلغ درجة الحرارة أقصى ارتفاع في شهر مارس. وأقصى هبوط في يولية وأغسطس، ولا توجد هناك برودة بالمعنى المفهوم؛ لأن درجة الحرارة تتراوح بين 31 مئوية في شهر يولية ودرجة 38 في شهر مارس.
وموسم الأمطار في جنوب السودان هو أبدع المواسم جميعا من حيث المناخ، ولكنه للأسف يجعل النقل والتنقل غاية في الصعوبة، حيث يضطر الإنسان في أكثر المناطق أن يجتاز المسافات الشاسعة سيرا على قدميه. والسير يكاد يكون مستحيلا في بعض الجهات نظرا لطبيعة الأرض وكثرة المستنقعات. وفي الجنوب الأقصى حيث لا يمكن استخدام وسائل النقل الميكانيكية لا يجد الإنسان مناصا من استخدام الآدميين للنقل بسبب كثرة ذباب «تسي تسي» الذي يفتك بالدواب فتكا ذريعا.
النباتات
ونباتات المستنقعات في أعالي النيل كثيرة ومحيرة لمن لا يعرف علم النبات. فالبردي مثلا كثيف جدا في بحر الجبل، ولكنه قليل جدا في بحر الغزال. وتوجد في بعض المناطق حشائش طويلة كثيفة تعيق الملاحة، كما توجد في مناطق أخرى حشائش عائمة ذات أنواع مختلفة، وقد لا يكون مضيعا للوقت أو المال أن يتوفر الإنسان على دراسة طبائع النباتات في تلك المناطق لمعرفة النوع الذي يمكن إنماؤه على الشواطئ لمنع التآكل.
على أن أضرار هذه الحشائش والنباتات ليست كبيرة كما كانت منذ ثلاثين عاما حين كانت تسد بحر الجبل وترغم البعثات العلمية والاستكشافية عل قضاء الشهور الطويلة في محاولة إزالتها. ولعل أهم هذه النباتات هو البردي وتلك الحشائش العائمة التي أتينا على ذكرها. فإنها تتماسك في بعض الأحيان حتى تحجز الماء فيخرج النهر من مجراه الطبيعي. وقد تعددت هذه الظاهرة في المدة بين سنة 1863 وسنة 1903.
وقد حاول الكثيرون استثمار هذه النباتات، ولا تزال توجد بمقربة من بحيرة «نو» بقايا مصنع أريد به - ولا شك - الانتفاع بتلك الحشائش؛ إذ لا ريب في أنه يمكن صنع الورق والبوتاس والوقود والكحول وغير ذلك كله من النباتات غير المحدودة التي تنمو في منطقة السدود. بيد أن غلاء أجور نقل المواد الأولية والمنسوجات من شأنه أن يقضي على مستقبل كل مشروع صناعي.
على أنه لما كان ثمن البترول مرتفعا جدا في جنوب السودان وأواسط أفريقيا، فإنه من الممكن استنباط وقود جديد من تلك النباتات كالكحول مثلا. ومن رأيي أن مشروعا كهذا قد يوتي أكله ويصبح من المشروعات التجارية الهامة.
الحيوانات
توجد في أعالي النيل مجموعة عجيبة من الحيوانات الضخمة والصغيرة. فأنت تستطيع دائما أن ترى قطعان الفيلة حول بحر الغزال وفي «ريجاف»، وتستطيع أن ترى التماسيح والغزلان والوعول، وقد يسعدك الحظ فترى أسدا. وقد شهدت في إحدى سياحاتي جميع هذه الأنواع كما شهدت الحمار البري، والفهد، ووحيد القرن.
وأما الأسماك فكثيرة، وبينها ما يزن مائتي رطل، وأكثرها يزن 20 رطلا أو ما يقرب من ذلك، غير أنه من الصعب اصطيادها بغير الشباك التي يستعملها المصريون.
والطيور كذلك كثيرة، ولكنها ليست أكثر من الهوام التي تضايق الإنسان أشد المضايقة، وفي منطقة السدود نوع من الذباب يلدغ الإنسان ويؤلمه، ولكنه لا ينقل إليه الجراثيم كما يفعل ذباب «تسي تسي» الذي يحمل جرثومة مرض النوم ويصيب به الإنسان والحيوان على حد سواء.
وذباب «تسي تسي» غير موجود قطعا في وديان السودان، ولكنه كثير في بحيرات الكنغو، وقد عملت الحكومة على إبادته من حوض النيل، فلم يعد ذلك الوباء الذي طالما فتك بالأهلين منذ أعوام.
السكان
وتقطن وديان تلك المناطق قبائل الدنكا والنوبر والشيلوك، وهم قوم رحل إلى حد ما؛ لأنهم يقيمون حيث تنمو الحشائش، ويرحلون حين تجف، وهم في موسم الجفاف يهاجرون إلى المستنقعات فيعيشون حولها، وكل ثروة هؤلاء القوم هي قطعان الماشية التي يرعونها، والقليلون جدا منهم يعيشون في البقاع الجافة الغربية من المستنقعات، ويصطادون السمك أو «جاموس البحر» الذي يقطعونه شرائح ويجففونها في الشمس .
أما في المناطق المحيطة بالأحراش والأدغال، فإن القوم يشتغلون بالفلاحة، فيزرعون الأذرة والبطاطس وأكثر القبائل ميلا إلى الزراعة هي قبيلة الدنكا.
ورجال النوير والدنكا والشيلوك نحاف القامة، طوال السيقان، يعيشون عراة الأبدان إلا من خيوط من الخرز تستر عوراتهم، أما النساء المتزوجات فيرتدين مآزر من الجلود يمضغونها حتى تكتسب شيئا من النعومة والليونة.
المياه
كنت أريد أن ينصب كلامي على منطقة السدود دون سواها، ولكن أرى لزاما علي عند تذكر خصائص المياه وطبيعتها في تلك المنطقة أن أتناول المصادر التي يستمد منها النيل ماءه.
نرى من خريطة نهر النيل أن كمية الماء التي تنصب في هذا النهر من فروعه تقدر بمليارات الأمتار المكعبة كل عام، وأن النيل الأزرق يمده ب 57 في المائة من هذه الكمية، ويمده النيل الأبيض ب 29 في المائة، وعطبرة ب 14 في المائة.
ويستمد النيل الأبيض نصف مائه من الحبشة، وبذلك تكون الحبشة مصدر 80 في المائة من مجموع ماء النيل، والجزء الأكبر من هذه الكمية يجد سبيله إلى النيل في المدة بين يولية وأكتوبر، ويكون محملا بالطمي، وإلى هذا الطمي الذي يحمله النيل إلى مصر منذ آلاف السنين - وربما ملايين السنين - يرجع الفضل في خصوبة وادي النيل.
أما النيل الأبيض فيستمد ماءه من المستنقعات ومن نهر السوباط، ومنه يستمد النيل ماءه في الوقت الذي ينحدر فيه منسوبه، وماء النيل الأبيض لا يحمل عادة شيئا من الطمي.
بقيت كمية الأربعة عشر مليارا من أمتار الماء التي يستمدها النيل من بحر الغزال وبحر الجبل وبحر الظراف.
فأما بحر الغزال فيمد النيل بماء لا يقل عن نصف مليار من الأمتار المكعبة، ويذهب من مائه هباء خمسة عشر مليارا بسبب التبخر، وبقية الأربعة عشر مليارا يستمدها النيل من بحر الجبل وبحر الظراف، وهذان النهران يفقدان من مائهما أربعة عشر مليارا «أي ضعف الكمية التي يسعها خزان أسوان بعد تعليته» تسيل في الوديان والمستنقعات.
المشروعات
أرى من الضروري أن أتكلم عن نظام الري في مصر قبل أن أتناول موضوع المشروعات التي يمكن القيام بها في أعالي النيل.
إن السنة في مصر تنقسم إلى قسمين: الأول من فبراير إلى يونية، وخلال هذه المدة يتعين إعداد النهر بالمزيد من الماء لكفاية حاجة الأراضي الزراعية. والثاني من أغسطس إلى ديسمبر. وفي هذه المدة تزيد كمية الماء عن حاجة الزراع. أما شهر يناير فتغلق فيه الترع لتطهيرها، ولا تكون ثمة حاجة إلى الماء لغير الملاحة.
ففي موسم الجفاف يرتفع منسوب النيل بفضل ما يخزن في «خزان أسوان» في المدة بين نوفمبر ويناير عندما يكون الماء صافيا وخاليا من الطمي بقدر الإمكان؛ ذلك لأنه من المقرر حتى الآن أن الماء المحمل بالطمي لا يمكن تخزينه بغير تعريض الخزانات لخطر الامتلاء بالطمي. وعليه فقد جرت العادة أن يؤجل ملء خزان أسوان إلى أن يصفو الماء.
وهناك مشروعان هامان يختصان ببحر الجبل أحدهما إقامة سد عند مخرجه من بحيرة ألبرت بقصد إنشاء خزان يسع 20 مليارا من الأمتار المكعبة، والآخر يرمي إلى الاستفادة بقدر الإمكان من ماء المستنقعات في منطقة السدود شبكة من الترع، وهذان المشروعان يتمم كل منهما الآخر، ولا يزال كلاهما في المهد، والمقصود بخزان بحيرة ألبرت الاحتفاظ بماء الفيض الشديد لسنوات الجفاف، ولما كانت جوانب هذه البحيرة مرتفعة فإن كمية التبخر لا ينتظر حينذاك أن تتجاوز نسبتها الحالية إلا قليلا.
وثمة مشروع آخر يراد به إنشاء ترعة في جنوب نهر «بور» بقصد تخفيض فيض نهر السوباط إلى النسبة التي تكفل عدم ضياع مائه. بيد أن هذا المشروع يتطلب كثيرا من الجهد قبل أن يؤتي ثماره.
أما المشروع الأخير فيتلخص في إقامة سد على بحر الجبل عند الجميزة، وتوصيله إلى نهر فيفينيو «فرع البيبور»، وبذلك لا يذهب الماء ضياعا في المستنقعات، بل ينصب في النيل الأبيض عن طريق السوباط.
وهناك مشروعات أخرى كثيرة وضعها مكتب مصلحة الري المصرية في السودان، وسوف تطرح هذه المشروعات على بساط البحث عندما يظهر ما يدعو إلى الحصول على المزيد من ماء النيل الأبيض.
أما خزان أسوان فسيصبح من الضروري بعد تعليته التبكير في ملئه. ولقد قرر المهندسون المنوطون بأعمال الري في مصر أن يتحاشوا خطر الطمي على هذا الخزان، وفكروا في مشروع لتلافي طمي النيل الأبيض. فكان مشروع خزان جبل الأولياء خير كفيل، وسيقام هذا الخزان على النيل الأبيض على بعد 25 ميلا جنوب الخرطوم. وسيملأ في مواسم ارتفاع الفيضان.
وثمة مشروع آخر كان موضع بحث ودراسة هو مشروع خزان بحيرة «تانا» الذي تستفيد منه مصر والسودان على السواء، وسيملأ هذا الخزان كذلك في موسم الفيضان. بيد أن الشطر الأخير من الوقت اللازم لملئه يصادف الشطر الأول من الوقت اللازم لملء خزان أسوان بعد تعليته، ومن هذا يتبين أن ملء هذه الخزانات جميعا يتطلب نظاما ودقة، ويستلزم تحديد الوقت المبكر لملء خزان أسوان من الماء غير المحمل بالطمي. ولهذا الغرض قد أعدت العدة لإجراء تجربة سوف تكون أهم تجربة من نوعها. فإذا ثبت أنه يمكن ملء خزان أسوان في بداية الفيضان بغير تعريضه لخطر الطمي، فإن الرأي في جميع المشروعات المقترحة قد يتبدل نهائيا ويصبح من الممكن درس مشروع إنشاء خزان أكبر في أسوان. ا.ه
الدكتور هيرست (2) بيانات أخرى
وقد أرسلت في سنة 1924 وزارة الأشغال العمومية إلى وزارة الخارجية لتبليغها إلى الحكومة البلجيكية بشأن مشروع تحويل بحيرة ألبرت إلى خزان للنيل والأعمال التي يتطلبها هذا المشروع في جزء يقع في بلاد الكونغو البلجيكية. وقد وقفنا على بيانات تفصيلية عن هذا المشروع منذ بدء التفكير فيه، ويؤخذ من هذه البيانات أن سير وليم جارستن كان أول من أشار باستعمال بحيرة ألبرت خزانا للمياه؛ إذ رأى من مقارنة المطالب المائية اللازمة في المستقبل للقطر المصري بمقادير الإيراد المتيسر في السنوات الشحيحة أنه يتبين أن الكمية الإضافية اللازمة لا يمكن تخزينها في أي بقعة من حوض النيل عدا بحيرة ألبرت، حيث يتسنى ادخار الكمية الكافية ادخارا اقتصاديا.
وتبلغ مساحة هذه البحيرة نحو 5500 كيلومتر، فإذا ارتفع منسوب مياهها مترا واحدا كان ذلك معادلا لتخزين 5500 مليون متر مكعب. ولما كانت جروف البحيرة تكاد تكون قائمة فإن مساحة سطحها لا تزداد بدرجة عظيمة بارتفاع منسوب مياهها، ولذلك لا يترتب على هذا الارتفاع زيادة يعتد بها في خسائر التبخر حتى لو ارتفع المنسوب سبعة أمتار أو ثمانية كما هو مقترح.
وتقدر النفقات اللازمة لإنشاء الخزان عند مخرج البحيرة بما لا يتجاوز مليوني جنيه مصري. وأما إنجازه فيرى أن يتم قبل سنة 1940.
وقد قال سير مردوخ مكدونالد مستشار وزارة الأشغال سابقا: «إنه لا فائدة من تخزين كميات كبيرة من المياه في بحيرة ألبرت إذا لم يضمن توريدها إلى مصر في المكان والزمان المناسبين، ولهذا يجب إنشاء قناة تخترق الغياض الهائلة بمنطقة السدود؛ لأنه إذا اكتفي بإطلاق المياه المخزونة من بحيرة ألبرت إلى مجرى النيل الحالي؛ لتسرب معظمها إلى الغياض وتبدد هناك، ويوجد الآن في أعالي مسايل النهر مجرى صالح للغرض المنشود، وكذلك الحال في أسافل مسايل النيل الأبيض. أما في منطقة السدود فلا يوجد مجرى واف بالغرض، وهنا يراد إنشاء القناة المقترحة.»
وكان السير وليم جارستن أول من أشار باستعمال بحيرة ألبرت خزانا للمياه، وقد رسم الخطط الأساسية للبحث والاستقصاء في هذا الشأن، وتقدم بعده مسيو ديبوي بأعمال البحث والتجارب مرحلة عظيمة، وواصل هذا العمل كذلك مستر توتنهام.
ويتبين من هذا أن مشروع تحويل بحيرة ألبرت إلى خزان النيل يتطلب مشروعين آخرين أولهما إنشاء القناة التي تخترق الفيافي بمنطقتي السدود، وثانيهما إنشاء قناطر الموازنة، وقد قال سير مردوخ مكدونالد عن هذين المشروعين:
لا يزال الأمر يقتضي عمل ميزانيات شاقة عن الأرض والماء قبل اختيار التخطيط الصحيح من بين تخاطيط مختلفة، ولذا كان تقدير النفقات مبنيا على التخمين، ولكن المعتقد أن مبلغ 15 مليون جنيه مصري كاف للوفاء بنفقات قناة السدود وما يلزمها من قناطر الموازنة.»
ثم قال:
ويستدل من المباحث الحديثة التي قام بها موظفو مصلحة الري على إمكان اختيار طريق آخر للقناة فيه تخفيض عظيم للنفقات المقدرة آنفا، ولكن يحسن الآن اعتماد النفقات على التقدير الأكبر، وذلك إلى أن يتم قياس المناسيب اللازمة ووضع الأرقام والبيانات المحددة. أما إنجاز هذا العمل فيجب أن يكون حوالي سنة 1940 في نفس الوقت الذي يتم فيه سد بحيرة ألبرت.
ويقولون في وزارة الأشغال إن نتائج هذه المشروعات الثلاثة هي:
أولا:
منع ضياع في منطقة السدود منعا كليا في السنوات المنخفضة وجزئيا في السنين الآخرى.
ثانيا:
الاحتفاظ في بحيرة ألبرت بما كان يضيع في منطقة السدود من المياه حتى يتسنى إطلاقها في قناة السدود فيما بعد أثناء السنة ذاتها أو ادخارها بمثابة احتياطي لحاجة مصر في سنة ثانية دون أن يفقد منها شيء غير الخسائر المعتادة أثناء الجريان.
ثالثا:
تدبير وسيلة للتخلص من المياه الزائدة عن الحاجة أثناء الفيضانات العالية؛ إذ يصبح من المتيسر استبقاء الماء منحدرا في الوادي بحيث يمكن زيادة كميتها ونقصها حسب مطالب الزراعة في مختلف المواسم.
وعلى هذه النتائج الثلاث هناك نتيجة رابعة ولكنها عرضية، وهي حرمان الغياض من جانب عظيم عن المياه التي تتسرب إليها، وربما أدى ذلك إلى تصغير مساحتها كثيرا.
أما المكان الذي ينشأ فيه سد بحيرة ألبرت فهو حاجز من الصخر يوجد على بعد خمسين كيلومترا من مصب البحيرة في نيل ألبرت - وهو الاسم الذي يطلق على مسيل النهر في تلك الجهة - ويقولون في وزارة الأشغال إنه إذا تم ذلك أصبح من المتيسر التحكم في منسوب البحيرة على ارتفاع سبعة أمتار أو ثمانية، وإن كل متر من هذا الارتفاع يعادل نحو 550 مليون متر مكعب من الماء المدخر، وبذلك يكون الخزان معدا لنحو أربعين مليون متر مكعب من الماء.
وقال سير مردوخ مكدونالد: «إن بحيرة ألبرت يمكن تحويلها بلا كبير صعوبة لاستخدامها في هذه الغاية.» ثم قال عن المشروعات الثلاثة التي نحن بصددها: إن «كل ما لدينا من المعلومات يدل على أنها قابلة للتنفيذ وصالحة لإخراجها إلى حيز العمل، ولا غرو فإنها تمني بشكل جلي تدبير الكميات العظيمة من المياه اللازمة لمصر، كما أنها لا تشتمل على شيء من المشروعات البنائية التي لم تجرب في كثير من البلاد، زد على ذلك أنها كلها مبنية على الاستنتاج من المعلومات الثابتة ، وليست قط مبنية على شيء من النظريات التي لم تؤيد بالاختبار».
وختم سير مكدونالد كلامه عن هذه المشروعات الثلاثة بقوله: «إن منطقة السدود ستحرم في بعض السدود حرمانا باتا من المياه التي تساعد على إنماء ما فيها من مختلف النباتات، وإن ما يصلها من الماء في السنين الأخرى لن يتجاوز القدر الزائد عن الحاجة، وهذه المنطقة مترامية الأطراف وأراضيها بالنظر إلى موقعها ومناخها ومياه أمطارها أثمن من أن تترك مستنقعات على الدوام، فالمنتظر في المستقبل أن تصرف المياه عن جانب عظيم منها بحفظ جزء من المياه الزائدة عن الحاجة في خزان بحيرة ألبرت.
ومما سيساعد يومئذ على إتمام هذا التصرف مباشرة أعمال الموازنة على بحيرة فيكتوريا؛ حتى يتسنى منع مياه هذه البحيرة العظيمة من الانحدار إلى بحيرة ألبرت في الفترة الحرجة من موسم الفيضان، فإن مجرد ارتفاع بسيط في منسوب بحيرة فيكتوريا يعادل تخزين مليارات كثيرة من الأمتار المكعبة، ومتى حكم التوفيق بين عملي البحيرتين معا أصبح من المتيسر استجماع كل المياه التي تضيع الآن سدى بمنطقة السدود في سني الفيضانات العالية، ومن ثم تزول المستنقعات من تلك البقاع تماما، وإذا كان من المحتمل أن تصبح هذه البقاع أرضا مثمرة، وليس هناك ما يحمل على الارتياب في أنها سوف تتحول إلى إقليم ذي مراع خضراء أو مزارع نافعة أو غابات فسيحة بدلا من بقائها كما هي الآن غياضا وبيئة لا ينمو فيها إلا البردي والبعوض. وعليه فسيشهد السودان القاصي وأوغندا - حيث تقع بحيرة ألبرت - تعديلا فيما لهما من التأثيرات في مياه النيل، فيستمر الحسن منها وهو تخفيف وطأة الفيضانات العالية.
هذه هي البيانات التي رأينا نشرها عن مشروع تحويل بحيرة ألبرت خزانا للنيل؛ لتكون مرجعا لكل من يريد البحث في هذا الموضوع الخطير. (3) مشروع خزان تسانا
وكلت حكومات السودان والحبشة ومصر إلى شركة هويت الهندسية الأمريكية في عمل الأبحاث والمساحات لإنشاء القناطر على مخرج بحيرة تسانا، وإقامة طريق من السودان إلى أديس أبابا عاصمة الحبشة مارا ببحيرة تسانا.
قد اعتمدت وزارة الأشغال المصرية منح تلك الشركة خمسين ألف جنيه كنفقات لأعمالها التمهيدية. (3-1) مطامع الدول في الحبشة
بريطانيا العظمى وإيطاليا وفرنسا هي الدول التي تحيط مستعمراتها بالحبشة من جميع الجهات وتنافس على تمزيقها، وقد أبرمت عدة معاهدات ثلاثية بين الدول الثلاث وثنائية بين فرنسا وإنكلترا تارة وبين إنكلترا وإيطاليا تارة أخرى، لتنظيم استعمار تلك الإمبراطورية الواسعة: (1)
الإنكليز يحيطون الحبشة بمستعمراتهم الآتية: السودان المصري وكينيا وأوغندا والصومال البريطاني. (2)
الإيطاليون يتاخمون الحبشة بمستعمرتي الإرترية والصومال الإيطالي. (3)
الفرنسيون يتاخمون الحبشة بمستعمرة جيبوتي المعروفة بالصومال الفرنسي، ومنها يمتد خط السكة الحديدية الرئيسي بالحبشة من أديس أبابا إلى ميناء جيبوتي، وهو أهم طريق للتجارة.
الاتفاقات الدولية
الاتفاق الإنكليزي الفرنسي الإيطالي عقد في 12 ديسمبر سنة 1906، وبمقتضاه تحدد سرا بين الدول الثلاث مركز كل دولة في الحبشة ومناطق نفوذها ومصالحها الإقليمية، واتقاء لإيغار صدور سائر الدول وذرا للرماد في أعين الحبشان تضمنت ديباجة هذا الاتفاق توكيد استقلال الحبشة والمحافظة على وحدتها والحيلولة دون وقوع الاضطرابات فيها. فإذا وصلنا إلى المادة الرابعة من هذا الاتفاق انتهينا إلى بيت القصيد، وضبطنا السادة الثلاثة في حالة التلبس، تضمنت المادة الرابعة تقسيم المصالح الاقتصادية في الحبشة بين الدول الثلاث، وإذا قلنا المصالح الاقتصادية في الحبشة قلنا كل شيء، وهذه المصالح تتلخص في إطلاق يد كل دولة في المناطق الحبشية المتاخمة لمستعمراتها.
ومن الغريب أن الفقرة الأولى تتضمن أن مصالح بريطانيا العظمى ومصر في حوض النيل الأزرق تتناول بصفة رئيسية تنظيم مياه هذا النهر وروافده.
لهذا أتمنى أن تعود وزارة الأشغال المصرية فيما عسى تستطيع مصر أن تفيده من هذا الاتفاق الثلاثي الدولي الخطير في حوض النيل الأزرق ومنابعه، وتتضمن المادة التاسعة من هذا الاتفاق على أن الدول الثلاث قد اتفقت على أن كل مشروع بإنشاء سكة حديدية في غرب أديس أبابا تنفرد إنكلترا به، كما أن مشروع إنشاء سكة حديدية لربط مدينة بنادر في الصومال الإيطالي بإرترية الإيطالية تنفرد بالإشراف عليه والاستئثار به إيطاليا... أما فرنسا فقد استأثرت عمليا بخط جيبوتي أديس أبابا.
وتقدم هذا الميثاق الثلاثي اتفاق بين الحبشة وإنكلترا تم في 28 أغسطس سنة 1904، تضمن ترخيص النجاشي منليك للإنكليز بإنشاء سكة حديدية من الصومال البريطاني إلى حدود السودان المصري، بشرط أن توافق على ذلك كل من فرنسا وإيطاليا، ولهذا السبب نشطت إنكلترا إلى عمل ذلك الميثاق الثلاثي في عام 1906 كما تقدم؛ لتأمن كل عقبة في طي المستقبل.
والواقع أن الإنكليز قد سهروا على رعاية مصالحهم، وقد حوت المادة الثالثة من هذا الاتفاق أنه لا يجوز إقامة أعمال على النيل الأزرق وبحيرة تسانا ونهر السوباط من شأنها أن تمس جريان المياه بغير موافقة الحكومة البريطانية وحكومة السودان، ومن المهم أيضا أن نذكر بأن المادة الخامسة تضمنت الترخيص لبريطانيا العظمى بإنشاء خط حديدي عبر بلاد الحبشة ليربط السودان بأوغندا (كنيا).
وأوضح أن هذا الاتفاق الخطير قد خول الإنكليز حق التدخل في إقاليم الحبشة، وأنشأ لإنكلترا حقا صريحا في مسائل الماء والسكك الحديدية ببعض مناطق الحبشة، وهذا مما أكسب الإنكليز نفوذا عظيما لتوطيد الاستعمار البريطاني في شمال أفريقيا.
وقد حفز هذا النشاط الإنكليزي ساسة فرنسا إلى منافسة جديدة في الحبشة؛ فقد نشطت حكومة فرنسا إلى إقناع حكومة النجاشي بإبرام معاهدة في سنة 1912 ترخص لفرنسا بحق إنشاء سكة حديدية تمتد من جيبوتي إلى هرر إلى أنطوطو إلى إقليم كافا إلى النيل الأبيض، وفيه كسب متبادل للحبشة ولفرنسا، ولكن هذا المشروع لم ينفذ حتى الآن.
غير أن حكومتي إنكلترا وإيطاليا تحالفتا على الغنيمة حلفا جديدا.
ايطاليا وإنكلترا
دخلت إيطاليا الحرب العظمى مع الحلفاء، فوعدتها إنكلترا في وثيقة رسمية مؤرخة في لندن سنة 1915 بالمادة 13 أنه في حالة الانتصار واتساع ممتلكات بريطانيا وفرنسا على حساب ألمانيا، فإنه يرخص لإيطاليا بتوسيع مستعمراتها وتمديد حدودها في ليبيا «يعني حدود طرابلس على حساب مصر» وفي مستعمرتي الأرترية والصومال الإيطالي.
وفي سنة 1920 حصل اتفاق بين لورد ملنر والسنيور شيالوجا بمنح إيطاليا 90 ألف كيلومتر مربع في ليبيا شرقا تستغرق جغبوب، ونص على تخويل إيطاليا حق تمديد مستعمرتيها المجاورتين للحبشة مقدارا بمقدار 116000ك.م في الأرترية و2000ك.م في الصومال.
واقترحت إيطاليا على إنكلترا أن تتعاقد سويا على تنظيم مصالحهما العليا بالحبشة، وتتلخص في الجانب الإنكليزي في إنشاء قناطر على بحيرة تسانا، وعمل طريق من السودان إلى البحيرة، وللجانب الإيطالي إنشاء خط حديدي يخترق غرب الحبشة بين الأرترية والصومال مارا غربي أديس أبابا، وتخويل إيطاليا حقوق الامتياز على غرب الحبشة، ودخلت هذه المفاوضات الجديدة إلى دور تبادل الوثائق في المدة من 14 إلى 20 ديسمبر سنة 1925، ولا تزال إيطاليا ماضية في مهمتها الاستعمارية بالحبشة. أما الإنكليز فقد اعترضهم منذ عام 1927 عامل دولي جديد، ذلك هو ظهور الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب الحبشة.
أمريكا بالحبشة وتسانا
ليس لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية مستعمرات بالحبشة، ولكنها مع ذلك تتمتع بنفوذ كبير لدى حكومة النجاشي بفضل ما حبا الله الأمريكيين من حب حرية الغير، وتشبعهم بالعدالة في تبادل المنافع، وفضلا عن هذا فإن الأمريكيين يسيطرون على جانب عظيم جدا من تجارة الحبشة، وتكاد جلود الحيوان تستأثر أمريكا باستيرادها من الحبشة، وهي من أعظم ثروات الحبشة.
وقد عن لبعض الأمريكانيين أن يقدموا للرأس طفرى في عام 1927 مشروعا جليل الشأن مؤداه اتخاذ بحيرة تسانا خزانا للمياه لتنظيم الري ببعض أقاليم الحبشة، ثم توليد الكهرباء عند مخرج البحيرة لإنارة كثير من مدائن الحبشة وإقامة صناعات كبرى، هذا فضلا عن إمكان بيع الماء من خزان تسانا إلى حكومة السودان لري الجزيرة الموعودة، وطربت حكومة الحبشة بهذه المقترحات الدسمة، وكان أمامهما عقبتان؛ الأولى سياسية لأنها تخشى معارضة إنكلترا لتدخل أمريكا، والثانية مالية.
وقد عقدت إنكلترا لحكومة السودان قرضا مقداره خمسة عشر مليون جنيه بفائدة خمسة في المائة، ومن سنة 1920 وحكومة السودان ماضية في استعمار أرض الجزيرة بإنشاء خزان سنار وترع ومصارف وآلات وحقول قطن من هذا القرض. وقد صرف القرض والشركات الإنكليزية مع حكومة السودان يعولان في استثمار القرض وتغطيته على التوسع في زراعة القطن السكلاريدس بالجزيرة، وقد عجز خزان مكوار عن سد حاجات التوسع الزراعي بالجزيرة باعتراف جميع المهندسين في السودان، وأصبح مشروع الجزيرة متوقفا نجاحه على إنشاء خزان بحيرة تسانا، فهو العلاج الأوحد.
لهذا أشفقت إنكلترا من استئثار أمريكا بإنشاء الخزان لمصلحة الحبشة، فأقامت الصحف البريطانية ضجة كبرى حول النفوذ الأمريكي في سنة 1927، وردد البرلمان المصري صوته داعيا إلى إيقافه على حقائق مجرى الأمور وعلى صون مصالح مصر.
ولا حاجة بنا إلى إعادة تفاصيل تلك الضجة، وإنما نذكر أن سير أوستين شمبرلين - وزير الخارجية البريطانية يومئذ - لوح لحكومة الحبشة في خطاب بمجلس النواب البريطاني في 15 نوفمبر سنة 1927 بتعهدات منليك بإعطاء حكومتي إنكلترا والسودان حق الأولوية في إنشاء خزان بحيرة تسانا، وذلك في سنة 1912، ثم صرح بأن الرأس تفري قد أنهى إليه الممثل البريطاني في أديس أبابا بوجوب احترام حقوق إنكلترا.
وبهذا أخذ المشروع يسير في اتجاه جديد يرضي الأسد البريطاني. وأذعنت حكومة الحبشة، وفي مقابل ذلك كفلت لها الحكومة الإنكليزية بأنه عندما يحين الوقت لإنشاء خزان تسانا توفق إنكلترا بين مصالح الحبشة وأمريكا وإنكلترا والسودان. فأصبحت المشروعات كما يلي:
المشروع: (1)
القناطر تقام على مدخل البحيرة لتدبير مياه للري الصيفي لأراضي الجزيرة بالسودان، وطبعا ما دام السودان في حاجة إلى هذه المياه فيستأثر بها. (وحسب مصر تعلية خزان أسوان لكفاية جميع حاجاتها المائية عشرات السنين. بل إلى نهاية القرن العشرين).
فخزان تسانا إذن للسودان وحده ولا شريك له في الغنيمة. (2)
الطريق من السودان إلى البحيرة هو جزء من المشروعات الإنكليزية المرخص بها من إيطاليا وفرنسا، وبالمثل الطريق إلى العاصمة أديس أبابا، فهو طريق تجاري وسياسي وحربي. (3)
الحبشة تستفيد من الطريقين، وتستفيد من استخدام العمال الحبشان، وتستفيد أدبيا وماديا من وجود الخزان في بلادها، فذلك من عوامل الرخاء. (4)
أمريكا: يعهد أولا إلى شركة هويت الأمريكية بالأعمال التمهيدية والمساحات للمشروع كله، وبعد ذلك تعهد إليها بالاتفاق مع بعض الشركات الإنكليزية على تنفيذ المشروع. (4) مؤتمر أديس أبابا
ليس مشروع خزان بحيرة تانا الذي نحن بصدد القيام بالأبحاث الخاصة به إلا حلقة في سلسلة أعمال مصر المائية على النيل، وليست دراسته بواسطة وزارة الأشغال العمومية حديثة العهد كما يصورها بعضهم، بل إنها ترجع إلى سنة 1904، حيث ذهبت أول بعثة هندسية برياسة السير ويليام جارستون - وكيل وزارة الأشغال العمومية في ذلك العهد - إلى مناطق البحيرات الاستوائية لدراسة منابع النيل الأبيض وروافده. كما ذهبت في الوقت نفسه بعثة المستر ديبوي إلى أعالي النيل الأزرق وبحيرة تانا وما حولهما.
كذلك أوفدت في سنة 1915-1916 بعثة برياسة المستر بكلي ومعه بعض موظفي حكومة السودان، للقيام بأبحاث استكشافية أخرى لطبيعة البحيرة «تانا» وجمع بعض الأرصاد الهيدروليكية، وقد كلفت هذه البعثة الخزانة المصرية نحو 6000ج.م.
وفي المدة من سنة 1920 إلى سنة 1924 ذهبت بعثة أخرى مؤلفة من بعض موظفي الحكومتين المصرية والسودانية، وعرفت ببعثة «جرابهام» لقياس تصرفات البحيرة وعمل مساحة لمخارجها، وكلفت هذه البعثة خزانة مصر حوالي 35000ج.م.
إلى جانب هذه البعثات الخاصة، فإن تفتيش ري السودان الذي أنشئ سنة 1905 ثابر على دراسة أرصاد لنهر النيل وتصرفاته وواصل أبحاثه الفنية طوال هذه السنين، كما أن وزارة الأشغال العمومية قامت أيضا بإيفاد الاختصاصيين في مختلف السنين لإتمام هذه المباحث، فمن ذلك إيفاد الدكتور هرست مدير مصلحة الطبيعيات إلى السودان في السنوات العشر الأخيرة ست مرات، ذهب أثناءها إلى أعالي النيل الأبيض ومسايله المتعددة، وكذلك النيل الأزرق ويوغندا وتانجانيقا وبحر الغزال وغيرها، وذلك للأغراض العملية الفنية التي تعتمد عليها في دراسة مشاريعها وتنفيذها.
تلك فذلكة تاريخية فنية، لم تر اللجنة بدا من سردها؛ ليعرف القاصي والداني أن تخزين المياه حياة مصر في جميع أدوارها ، وأنه كان جاريا وفقا لحاجاتها، وأنها لم تدخر سعيا في هذا السبيل، حتى ترامت أبحاثها المائية إلى أقاصي النيلين الأبيض والأزرق، طمعا في زيادة مواردها المالية، وتوصلا إلى أقصى غايات الانتفاع بها، وهي لا تضن في ذلك بجهد ولا مال. (4-1) خزان بحيرة تانا
بينا فيما سلف أن الحكومة المصرية تابعت أبحاثها ودراساتها للنيل ومسايله العليا منذ استقرت الأحوال في السودان حوالي نهاية القرن الماضي، وأنها تكبدت من النفقات في هذا السبيل مبالغ باهظة - تقدرها وزارة الأشغال بنحو تسعة ملايين من الجنيهات - وهي تشمل نفقات البعثات المختلفة وميزانية تفتيش ري السودان، وما ينفق على أسطولها المائي الكبير في تلك البقاع، وقياسا على ذلك لا يعد مبلغ ال 50000ج.م المقدرة للقيام بالأبحاث التي نحن بصددها شيئا مذكورا إذا ما قورن بهذه التكاليف التي صرفت في المباحث المختلفة التي قامت بها مصر في سبيل تنمية مواردها المائية والاحتفاظ بجميع ما تجود به منابع النيل، كلما ساعدتها الهندسة المائية ومكنتها الأحوال المائية.
وقد تابعت اللجنة دراسة الموضوع للتحقق من وجهتين:
الأولى:
هل الخزان المزمع إنشاؤه ببحيرة تانا يكون حلقة في سلسلة المشاريع المائية اللازمة لمصر؟
الثانية:
هل كمية المياه المنتظر الحصول عليها تبرر فتح الاعتماد المطلوب للمباحث؟
أما النقطة الأولى فقد تكفل بالرد عليها دولة صدقي باشا في المجلس بتاريخ 18 يناير سنة 1933 حيث قال:
والذي لفت النظر إلى بحيرة تانا هو أن المشروع الذي يلي عمليات التخزين القائمة الآن هو مشروع منطقة السدود، وهذه المنطقة لم ينته بعد فحص طريقة استخدامها أو تنظيمها. والشواهد كلها تدل على أن مشروع هذه المنطقة سيكلف خزانة الدولة مقدارا كبيرا من المال، بينما دلت المباحث التي جرت بشأن خزان تانا على أن هذه البحيرة هي من أليق المناطق لعملية التخزين ومن أكثرها استعدادا لإمداد مصر بما تحتاجه من المياه في أقصر وقت وبأقل ما يمكن من المياه الفائدة والنفقات.
النقطة الثانية: علم من المباحث التي أجريت أن كمية المياه الممكن الحصول عليها بعد إنشاء خزان تانا تبلغ نحو 2800 مليون متر مكعب يصل منها إلى مصر حوالي 2200 مليون متر مكعب، كما عرف أن نسبة مياه بحيرة تانا إلى النيل الأزرق توازي 8٪ من مجموع إيراده، وهو يقدر بنحو 70٪ من مياه النيل جميعها.
وقد يعترض بعض بأن هذا القدر من المياه لا يتفق مع ما قدر له من النفقات، غير أن هذا القول على وجاهته الظاهرية لا يتفق وحقيقة الواقع، إذ إن حاجة مصر إلى مياه النيل الأزرق وبحيرة تانا تشتد في فصل التحاريق، وتكاد تلتمس مصر كل قطرة من المياه تجود بها المنابع في ذلك الوقت. ومن هنا تتضح لنا أهمية هذه الكمية بالنسبة لمصر، وخاصة إذا لاحظنا أن تعلية خزان أسوان الأخيرة التي قدرت لها ملايين الجنيهات لا ينتظر أن تزيد كمية المياه التي تأتي بها على 2500 مليون متر مكعب في أحسن سني الفيضان.
كذلك رأت اللجنة أن تقف على تاريخ فكرة إنشاء خزان على بحيرة تانا، والأدوار التي مرت به منذ أثير في سنة 1926، وسنتناوله بالتفصيل فيما يلي: (1)
في صيف سنة 1926 ذكرت التلغرافات أن هناك اتفاقا أبرم بين حكومات إنكلترا وإيطاليا والحبشة خاصا ببحيرة تانا، وقدم عن ذلك سؤال في البرلمان على أثر ما عم الخواطر من القلق، وقد أجاب المرحوم ثروت باشا بأن الحكومة جادت في العمل على الوقوف على جلية الأمر، وأنها لا تني في المحافظة على حقوق البلاد.
وفي سنة 1929 عقد في أديس أبابا مؤتمر من مندوبين ثلاثة، أحدهم إنكليزي يمثل السودان، والثاني يمثل شركة وايت التي وقع عليها اختيار جلالة إمبراطور الحبشة لدراسة المشروع، والثالث مندوب يمثل حكومة الحبشة.
وفي نهاية تلك السنة، اكتفت الحكومة المصرية بطلب الوقوف على ما دار من المباحثات في هذا الشأن. (2)
ظلت المسألة واقفة عند هذا الحد، حتى إذا ما أسندت الأمور إلى الحكومة الخالية وسارت في مشاريعها العامة، ومنها المشآت المائية على النيل لم تتوان في الاهتمام بالأمر وحسن التأهب له، وأخذت في مخابرة حكومة الحبشة حتى حملتها على دعوتها إلى الحضور في مؤتمر أديس أبابا الذي عقد في فبراير من السنة الحالية.
تلقت الحكومة الدعوة فبادرت إلى وضع التعليمات اللازمة لمندوبها في المؤتمر المذكور، وهي تعليمات محددة واضحة وغاية في الحكمة السياسية وبعد النظر، فوق ما بها من الاستمساك بحقوق مصر في النيل الأزرق وبحيرة تانا، مع المحافظة على رعاية الجوار وحسن العلائق، واتفق على أن يكون ممثلا مصر والسودان في صف واحد، وأهم هذه التعليمات ما يأتي: (1)
أن يوضح مندوبا مصر والسودان أن لا حاجة بهما الآن للمشروع، ولكنه مع ذلك يهمهما. (2)
أن تعرض الحكومة المصرية رغبتها في إتمام المباحث الهندسية حتى يمكن الوقوف على تكاليف الأعمال الإجمالية، وخاصة النقط الآتية: (أ)
إمكان رفع منسوب المياه بالبحيرة بمقدار 1,5 متر بدون إلحاق أي ضرر. (ب)
التخطيط النهائي وتكاليف الطريق من البحيرة إلى أديس أبابا. (ج)
التخطيط النهائي وتكاليف الطريق من البحيرة إلى حدود السودان. (3)
أن يوضح مندوبا مصر والسودان بجلاء أن الحكومتين المصرية والسودانية لا توافقان على أي مشروع إلا إذا تضمن إنشاء طريق من السودان إلى البحيرة. (4)
أن تعرب الحكومة المصرية عن استعدادها لدفع تكاليف هذه المباحث. (5)
ألا يوجد مانع من الموافقة على أن تقوم شركة هوايت الهندسية بعمل هذه المباحث، وأن يكون للحكومتين المصرية والسودانية الحق في الاتصال المباشر مع الشركة لتقرير النقط الفنية متى رؤيت ضرورة لذلك. (6)
أن يوافق المندوبان على أن تتحمل مصر التكاليف بما فيها الطريق من حدود السودان في حدود القيمة المقدرة، وهي 130000 دولار تقريبا.
صدرت هذه التعليمات لمندوبي مصر والسودان معا، وبناء على هذا التفاهم سافرا وكانا جبهة واحدة؛ لأنهما يمثلان وادي النيل والمنتفعين من النيل الأزرق ومنابعه.
وكان من الطبيعي في نظر حكومة الحبشة - ومشروع الخزان إنما هو لمنفعة مصر والسودان - أن تطلب إليهما القيام بدفع النفقات اللازمة للمباحث، ولهذا قبلت الحكومتان ذلك، وقامت حكومة السودان فعلا في سنة 1929 بدفع تكاليف المباحث التي قامت بها شركة هوايت في تلك السنة، وتبلغ حوالي 80000 درلار، وأظهرت مصر استعدادها لتحمل نفقات المباحث التي رأتها لازمة لاستكمال المعلومات الفنية، وتقدر بنحو 159000 دولار أمريكي ، واستجماع هذه البيانات لازم لمصر من وجهتين:
الأولى:
أجمعت آراء البعثات العلمية والفنية التي زارت بحيرة تانا، على أنه من الضروري توسيع مجرى مخرج المياه للتمكن من تخفيض سطح المياه في البحيرة قبل هطول الأمطار، فإذا ما هطلت المطار، وهي بارتفاع نحو متر ونصف المتر، وكان مخرجها مقفلا بالخزان المطلوب إنشاؤه، فإن سطح المياه بالبحيرة لا يعلو على أعلى منسوب وصل إليه، وحينئذ ينتفي الضرر على الكنائس والمعابد، فإذا تبين أنه ممكن تعلية مياه البحيرة هذا المتر والنصف فوق أعلى منسوب تصل إليه الآن من غير إلحاق ضرر ما بالمباني المقدسة، فيكون من مصلحة مصر عدم تعميق مجرى المخرج، وبذلك يتوفر نحو نصف مليون جنيه.
الثانية:
يجب لمعرفة قيمة تكاليف هذا الخزان أن يكون تحت يد الحكومة المصرية جميع البيانات والميزانيات والخرط، وكافة المباحث المتعلقة بالبحيرة والطريقين السابق ذكرهما. (4-2) مؤتمر أديس أبابا
في أواخر يناير 1933 سافر مندوبا مصر والسودان إلى بلاد الحبشة، ووصلا إلى أديس أبابا في أوائل فبراير، وفي نيتهما - كنص التعليمات - استجماع ما ترغب حكومة الحبشة في الإدلاء به من البيانات المتعلقة بالموضوع، غير أن مندوب الحكومة الحبشية لم يتقدم بشيء من ذلك، واقتصرت أعمال المؤتمر على أن تقدمت مصر والسودان معا بمذكرة أهم ما احتوت عليه ما يأتي: (أ)
أن المندوبين يقران بأهمية المباحث التي سبق لشركة وايت القيام بها. (ب)
أن إنشاء الخزان في الوقت الحاضر لا يتيسر نظرا لقلة حاجة العالم الآن إلى المحاصيل الزراعية كالقطن وغيره، فضلا عن ارتفاع سعر الدولار الحالي. (ج)
أن من المرغوب فيه أن تقوم الشركة بإعداد مشروع نهائي مستوف يشمل جميع التكاليف والتقرير النهائي لها بعد عمل المباحث التكميلية التي تراها الحكومة المصرية ضرورية لإتمام المشروع، على أن يراعى تخفيضها بقدر الإمكان، وذلك بطريقتين:
الأولى:
رفع منسوب المياه قليلا في البحيرة بحيث لا تضر الأماكن المقدسة.
الثانية:
يمكن جلب المواد اللازمة للعمل من السودان إذا ما أنشئ الطريق منه إلى البحيرة.
فأجاب سعادة وزير خارجية الحبشة عليها بمذكرة مؤرخة 20 فبراير سنة 1933 وافقت فيها حكومة الحبشة على مطالب مصر، بشرط أن تتولى «شركة وايت» القيام بهذه الأبحاث، وتتعهد الحكومة المصرية بدفع التكاليف اللازمة لذلك إلى شركة وايت بوساطة حكومة الحبشة، وأن الشركة ستعمد إلى إنجاز الأعمال المطلوبة على وجه السرعة وأن تتسلم مصر والسودان صورة من تقريرها النهائي، وصورة هذه المذكرة ملحقة بالأوراق.
ومن هذا يتبين أن الحكومة المصرية لم ترتبط في المؤتمر المذكور بشيء مطلقا لا عن الخزان ولا عن كيفية إنشائه، ولا عن مصاريف إنشائه، ولا عن موعد لذلك ، وكل ما عرضته ينحصر في استكمال المباحث الجديدة التي ارتأتها على نفقتها كما تحملت حكومة السودان بالنفقات السابقة.
هذه هي الخطوات التي سارت عليها حكومة مصر في هذا الموضوع الذي بالغ بعضهم في تجسيمه والتهويل من شأنه، وهي لا تتعدى استكمال المباحث الفنية اللازمة لتقرير المشروع وتقدير النفقات، وستكون هذه المعلومات ثروة فنية لمصلحة الري تضاف إلى تراثها العلمي الذي حصلت عليه مصر في ربع القرن الأخير، والتي بلغت تكاليفها الملايين، فضلا عما ينتظر من تخفيض نفقات إنشاء هذا الخزان في المستقبل إذا أنشئ الطريق من السودان إلى البحيرة لنقل المواد اللازمة للعمل بواسطته والتمكن من إشرافها على الخزان.
وبعد ارفضاض المؤتمر حضر مندوب شركة وايت - التي تم اتفاق الحكومتين على تكليفها القيام بعمل المباحث اللازمة - إلى مصر، وبعد مفاوضات استمرت زمنا بينه وبين معالي وزير الأشغال، قر الرأي فيما بين الطرفين على إنجاز هذه المباحث وفقا لرغبة الحكومة المصرية، واتفق الطرفان على قيمة المصاريف اللازمة لذلك.
وبناء على هذا تقدمت شركة هوايت لوزارة الأشغال العمومية بتعهد كتابي مؤرخ 21 مارس سنة 1933، وفيه قدرت النفقات بمبلغ 159,000 دولار أمريكي، وذكرت أن هذا المبلغ تقريبي قد ينقص أو يزيد بمقدار 10٪. وقد أوضحت بهذا الكتاب الشروط التي تقبل بمقتضاها إنجاز هذا العمل، وطلبت أن تدفع لها النفقات مقدما بواسطة حكومة الحبشة كما سبق بيانه.
ومن الاطلاع على هذه الشروط يتضح أن الشركة تعهدت بتحقيق جميع المطالب المصرية الخاصة بالأبحاث، وأهمها ما يأتي: (1)
مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه من أديس أبابا إلى بحيرة تانا. (2)
مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه من حدود السودان إلى بحيرة تانا. (3)
إتمام المباحث التي تحصلت عليها للآن، خاصة ببحيرة تانا، والقيام بعمل دراسة أخرى للمناسيب حول البحيرة وعلى الجزائر وفي الوديان والسهول المجاورة، وكذا دراسة حالة المعابد والقرى الواقعة على شواطئ البحيرة والجزر، حيث تبين أنها ستتأثر بمناسيب المياه التي وقع الاختيار عليها لأعمال الضبط.
كما اشترط أن تكون أعمال المساحة والتقرير وافية البيانات بدرجة تسمح بتجهيز المقايسات الخاصة بتكاليف إنشاء الطرق والكباري والمنشآت الأخرى اللازمة لتقدير هذه التكاليف، وكذلك التصميمات اللازمة لتقدير نفقات السد والانتفاع بمياه البحيرة. (4)
تعهدت الشركة بأن تجري أعمالها وفقا لرغبة وزارة الأشغال، وستكون الخطط التي سيسير عليها العمل بموافقة مندوب الحكومة المصرية ليتسنى لها الوقوف أولا بأول على جميع الأعمال ومناقشتها ومرافقتها أثناء السير فيها جملة وتفصيلا.
ومرافق للتقرير صورة من هذا الكتاب والشروط التي تعهدت الشركة أن يتم العمل على مقتضاها. وهي غاية في الدقة وفي الاحتفاظ للحكومة المصرية بالرأي الأعلى في هذه المباحث أولا وآخرا.
وقد أثار بعض حضرات أعضاء اللجنة موضوع عدم حاجة مصر لهذا الخزان الآن فأجابت وزارة الأشغال بأن ذلك صحيح في الوقت الحاضر، وأن مصر لن تحتاج لهذا الخزان قبل 15 سنة، غير أنه يجب ألا يغيب عنها أي عمل أو تدبير يتعلق بالنيل - وهو حياتها - ولذلك فهي من الآن تشترك في المؤتمرات وتقوم بالإنفاق على دراسة إقليم البحيرة وما جاورها حتى تكون واقفة على جميع الأعمال والإجراءات الخاصة بالنيل ومنابعه، ومحيطة بكل ما يتصل بكيانها حتى إذا ما جاء الوقت المناسب قامت بإنشاء الخزانات التي تلزم لرخائها ورفاهية أهلها.
وقد احتفظت مصر في اتفاقية النيل سنة 1929 بحقها المطلق في السيطرة على مياه النيل الأزرق، وأن يترك إيراد النهر جميعه في مدة معلومة من السنة لمصر وحدها، كما اعترفت حكومة السودان بحقوق مصر في المياه التي تخزن في خزان جبل الأولياء، وألا تعمل حكومة السودان في حوض النيل شيئا إلا إذا وافقت عليه الحكومة المصرية. وفي هذا من الحيطة واتقاء الطوارئ ما يجعل البلاد مطمئنة على حقوقها المائية في المستقبل.
وقد بدا للجنة أثناء دراستها للمشروع أن تحوطه برغبات تدور كلها حول تحقيق أقصى ما يمكن من الصالح لمصر، وهي أن اشتراك مصر في عمل هذه المباحث وقيامها بمصاريفها لا يترتب عليه - بحال من الأحوال - تعهد من قبلها للشروع في العمل إلا في الوقت الذي تراه ملائما لمصلحتها، وأنه عندما تشرع الحكومة بصفة نهائية في هذه الأعمال يجب أن يتوافر لديها من الضمانات ما يحفظ حقوق مصر في السيطرة والرقابة الفعلية على الأعمال التي تقوم بها، وأن جميع الأعمال الإنشائية من أولها إلى آخرها يجب أن تكون خاضعة لعلم رجالها الفنيين، واطلاعهم ومصادقتهم عليها، مهما كانت جنسية المقاول الذي يعهد إليه العمل، كما يكون للحكومة المصرية حق الاشتراك في وضع التصميمات والموافقة عليها قبل تنفيذها. كما أن السودان في مقابل انتفاعه بجزء من المياه المخزونة يجب عليه أن يتحمل نصيبه النسبي في النفقات، سواء ما تعلق منها بالمباحث والإنشاء أو ما يستتبع ذلك من الترميم والصيانة.
وقد وافقت اللجنة على الاعتماد في حدود الرغبات السالفة. أما الأقلية فلم توافق على فتح الاعتماد بدعوى عدم الحاجة إليه في الوقت الحاضر، وإن اقتنعت بالمبدأ والفكرة السائدة فيه. ا.ه.
هذا ما ورد في تقرير اللجنة المالية لمجلس النواب سنة 1933.
وثائق ملحقة بالتقرير
وقد رأت لجنة المالية - إتماما للبحث واستقصاء للدراسة - أن تثبت بعض الوثائق الهامة المتصلة بهذا الموضوع وهي:
تعليمات للمندوبين (1)
على المندوبين أن يوضحوا أن لا حاجة لمصر ولا السودان للمياه في الوقت الحاضر، ولكنه مع ذلك فإن المشروع يهمهما. (2)
ترغب الحكومة المصرية أن تتم أعمال المباحث الهندسية حتى يمكن أن تعرف تكاليف الأعمال الإجمالية، ويهمها بنوع خاص الوصول إلى دراسة النقط الآتية: (أ)
إمكان رفع منسوب المياه بالبحيرة بمقدار 1,5 متر بدون إلحاق أي ضرر. (ب)
التخطيط النهائي وتكاليف الطريق من أديس أبابا إلى البحيرة. (ج)
التخطيط وتكاليف طريق يوصل البحيرة بحدود السودان بالقرب من الروصيرص. (3)
يجب على المندوبين أن يوضحوا جليا أن حكومتيهما لا توافقان على أي مشروع إلا إذا تضمن عمل طريق من السودان، وليس من المهم أن يكون هذا الطريق صالحا طول السنة. (4)
الحكومة المصرية مستعدة لدفع تكاليف هذه المباحث. (5)
لا مانع أن يوافق المندوبان على أن تقوم شركة وايت الهندسية بعمل المباحث، ولهما أن يطلبا أن تكون حكومتاهما على اتصال مباشر مع الشركة لتقرير النقط الفنية في المباحث إذا تراءى لهما ضرورة ذلك. (6)
تكاليف المباحث المطلوبة تقدر بنحو 126000 دولار، ولا يدخل ضمن هذا المبلغ تكاليف مباحث الطريق للسودان، وتكاليف هذا الطريق لن تكون جسيمة؛ حيث إن المصاعب الهندسية محصورة في جزء من الطريق. (7)
يجوز أن تبلغ تكاليف المباحث بما فيها الطريق للسودان 120000 دولار، وللمندوبين أن يوافقوا على أن تتحمل مصر قيمة هذه التكاليف في حدود هذه القيمة. (8)
تكاليف المباحث التي تمت وقيمتها 80000 دولار سبق أن دفعت مقدما إلى جلالة الإمبراطور بناء على طلب جلالته الخاص، ودفعت من جلالته إلى شركة وايت الهندسية. وإذا رغب جلالته في اتباع هذه الإجراءات فليس للمندوبين أن يعارضوا في ذلك. وقد طبع نموذج خاص لهذه العملية في بنك إنكلترا.
وهذا نص المذكرة من المندوبين المصري والسوداني: (1)
قام مهندسو شركة وايت بأعمال جمة قيمة، سواء من حيث الأعمال المساحية في أثيوبيا أو الدراسات في نيويورك، وتقريرهم في ذلك عظيم القيمة. (2)
ومن سوء الحظ أن قلت حاجة العالم إلى المحاصيل كالقطن وغيره في ثلاث السنوات الأخيرة، وندر وجود المال، وزادت أيضا قيمة الدولار الأمريكي زيادة عظيمة، ولذلك ليس من المتيسر إنشاء سد على بحيرة تانا فورا. (3)
ولكن من المرغوب فيه أن تقوم شركة وايت بإعداد مشروع نهائي وتقدير التكاليف بعد عمل أبحاث أخرى في بحيرة تانا وفي مسألة الطريق إذ لم يكن لدى المهندسين - عندما كانوا في إثيوبيا منذ عامين - الوقت الكافي لدراسة هذا المشروع دراسة وافية. (4)
ومن المرغوب فيه على وجه خاص معرفة ما إذا أمكن تخفيض تكاليف الأعمال، ويمكن الوصول إلى ذلك بالطريقتين الآتيتين:
أولا:
يمكن رفع منسوب الماء في البحيرة ارتفاعا قليلا إذا ما وجد المهندسون أنه ليس ثمت ضرر من ذلك.
ثانيا:
يمكن جلب المواد اللازمة للعمل إلى البحيرة من السودان إذا ما وصل الطريق من أديس أبابا إلى الروصيرص الواقعة بالسودان. (5)
لذلك يراد أن يفحص المهندسون ثانيا الطريق من أديس أبابا ومناسيب البحيرة، ويبحثوا أيضا عن طريق إلى الروصيرص.
عبد المجيد عمر
ر. م. ماكريجور
وهذا نص رد حكومة الحبشة على مذكرة المندوبين:
إيماء إلى اقتراح القيام بدراسة أخرى لمنسوب المياه في بحيرة تانا والطريق من أديس أبابا إلى بحيرة تانا، ومد هذا الطريق من بحيرة تانا إلى الحدود تميل حكومة إثيوبيا الإمبراطورية - بدون تحديد أيا كان لحقها في تقرير ما تبدو لها مناسبته في المستقبل - إلى الموافقة على هذا الطلب بشرط أن يقوم مهندسو شركة هوايت بالدراسة الأخرى المقترحة على حساب المقترح كما هو الحال حتى الآن، ويدفع إلى شركة هوايت بواسطة حكومة إثيوبيا الإمبراطورية. وإنه يجب على شركة هوايت أن تسرع في بدء الدراسة الأخرى المقترحة، وتعد مشروعا نهائيا وتفاصيل للأعمال وتقديرا للنفقات. وبعد إتمام الدراسة تستلم الحكومة الإمبراطورية التقرير وتبعث بصورة منه.
ختم وزارة الخارجية الإثيوبية (هروي)
ترجمة كتاب شركة وايت الهندسية بنيويورك
القاهرة في 21 مارس سنة 1933
حضرة صاحب المعالي وزير الأشغال العمومية
بعد المباحثة بين معاليكم وحضرة صاحب العزة حسين سري بك - وكيل الوزارة - وبيننا، أتشرف بأن أتقدم بالاقتراح الآتي للعمل بصفة مهندسين استشاريين لمعاليكم، والقيام بأعمال المساحة الخاصة ببحيرة تانا في سنة 1933 كمندوبين عنكم.
والغرض من المساحة المذكورة وتقديم تقرير عنها هو كما يلي:
مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه بين أديس أبابا وبحيرة تانا بالحبشة.
مسح وتحديد الطريق المزمع إنشاؤه بين بحيرة تانا وحدود السودان.
إتمام المباحث التي تحصلنا عليها للآن الخاصة ببحيرة تانا، وعمل دراسة أخرى للمناسيب حول البحيرة وعلى الجزائر وفي السهول المجاورة ودراسة حالة المعابد والقرى الواقعة على الشواطئ والجزر، حيث تبين أنها ستتأثر بمناسيب المياه التي وقع الاختيار عليها لأعمال الضبط.
وستكون أعمال المساحة والتقرير وافية البيانات بدرجة تسمح بتجهيز المقايسات الخاصة بتكاليف إنشاء الطرق، كما أنها ستشمل على تصميمات الكباري والإنشاءات الأخرى اللازمة لتقدير قيمة تكاليف السد والإنشاءات اللازمة للانتفاع بمياه بحيرة تانا، ويتضمن التقرير المقايسات الخاصة بالطرق والسد والإنشاءات الأخرى على بحيرة تانا.
وسنقوم بانتخاب المستخدمين اللازمين لهذا العمل، وإعداد المعدات اللازمة لفرق المساحة، وإرشادهم إلى خطط العمل. كما أننا سنتفق مع معاليكم أو مع مندوبكم الذي ترخصون له بذلك على خطط العمل أثناء سيره حتى يتسنى لنا تحقيق رغباتكم فيما يختص بالطرق المراد فحصها، وبمدى أعمال المساحة الواجب عملها حتى من وقت لآخر، ويمكنكم الإلمام بما يقوم به هؤلاء المستخدمون مدى تفاصيل الأعمال أثناء سيرها.
وسندمج نتائج بحثنا في تقرير مطبوع يحتوي على خرط ورسومات، وسترسل صور منه لحكومة الحبشة لتوزيعها.
وجميع ما تبرمه من العقود وتصدره من الأوامر، وكذلك جميع الالتزامات ستكون باسم شركة وايت الهندسية بالنيابة عن معاليكم.
وستقوم مصلحة المحاسبة والمكاتبة في مكتبنا بنيويورك بتجهيز البيانات الخاصة بسير العمل، أما فيما يختص بسجلاتنا وحساباتنا والمستندات التي لها علاقة بهذا العمل والمبالغ التي ستصرف بموجب هذا الاتفاق فتكون تحت تصرف مندوبكم المرخص له لفحصها ومراجعتها.
وسندفع من الاعتمادات التي ستضعونها تحت تصرفنا مقدما دفعا لنا وللآخرين نظير خدماتهم، وكذلك لمشتري الأدوات والجهازات والمصاريف العارضة.
وفيما يلي خلاصة المقايسة الخاصة بتكاليف العمل وأتعابنا كمهندسين استشاريين للحكومة المصرية. وهذا يتضمن الأتعاب الخاصة بقيامنا بالعمل المبين في هذا الاتفاق.
خلاصة المقايسات:
دولار
أعمال في بلاد الحبشة
6975100
نقل المستخدمين والتأمين عليهم من وإلى أمريكا (رئيس وأربعة مهندسين)
640000
مهندسو مكتب نيويورك القائمون بتجهيز الرسومات واللوحات والبيانات الهندسية
1600000
طبع وتجليد التقرير إلخ
400000
تلغرافات ومتنوعات
100000
الجملة
9715100
مصاريف إضافية لمكتب نيويورك بواقع 35 في المائة
3400285
13115385
أتعاب المهندسين الاستشاريين (بما فيها الخدمات ومصاريف نائب الرئيس في مؤتمر سنة 1933)
3800000
15915385
وقد قام جناب المستر نيوهاوس بفحص هذه البيانات وملحق مع هذا صورة المقايسة التفصيلية التي صار تحضيرها بالاشتراك مع المستر نيوهاوس، وبذلك انخفضت قيمتها عن المقايسات السابق تقديمها.
وعند قبول معاليكم لهذا الاتفاق تقومون بدفع مبلغ 15915000 دولار لدفع قيمة المصاريف والخدمات التي ستقوم بها من حساب قيمة العمل على أن يدفع لنا هذا المبلغ بوساطة حكومة الحبشة.
وسنضيف لحسابكم من وقت لآخر الفوائد على الرصيد الشهري للمبالغ التي تدفع مقدما حسب ما قد يضيفه مصرفنا بنيويورك على رصيد الودائع الشهرية.
وهذه التكاليف قابلة للزيادة والنقص بمعدل 10 في المائة متى استدعت ذلك ضرورة إتمام العمل على الوجه الأكمل. وتدفع لنا الزيادة حسب ما هو مدون بعاليه عند إتمام التقرير ، كما أن كل وفر سيصير إعادته لكم كما هو مبين في هذا الكتاب.
وعند إتمام التقرير سندفع لمعاليكم الاعتمادات التي ستبقى من المبالغ التي دفعت لنا مقدما بعد خصم المبالغ المرخص لنا بدفعها بموجب هذا الاتفاق.
ومن المفهوم أنه عندما توافق حكومتكم على هذا الاتفاق ستفيدوننا تلغرافيا حتى يتسنى لنا أن ننتهز أنسب الفصول للقيام بالعمل المطلوب في بلاد الحبشة.
وهذا الاقتراح يقوم مقام الاقتراح السابق تقديمه منا - ونرجو معاليكم إذا لم يكن ثمة حاجة لبيانات أخرى التكرم بإفادتنا حتى يتسنى لنا العودة إلى نيويورك وانتظار أوامركم. وتفضلوا معاليكم بقبول فائق الاحترام
23 مارس سنة 1933
رخصت لي حكومة السودان بالاتفاق.
ماكريجور ه. لاردنر
نائب رئيس شركة وايت الهندسية الأمريكية
وهذه صورة رد الحكومة المصرية على شركة وايت الأمريكية:
جناب المستر ه. لاردنر
نائب رئيس شركة وايت الهندسية بنيويورك بالقاهرة
أتشرف بأني أفيد جنابكم أنني تسلمت خطابكم المؤرخ 21 مارس سنة 1933 وبه التفصيلات التي تقترحونها بخصوص الأعمال اللازمة لخزان بحيرة تانا، والشامل للمقايسة عن تكاليف الأعمال ومقدار أتعابكم.
ويظهر أن المعلومات التي يحتويها كافية لأن أتقدم لمجلس الوزراء والبرلمان للحصول على التصديق اللازم للاعتمادات للسير في العمل.
ويلوح لي أنه لا يوجد ما يدعو لإطالة إقامتكم بالقاهرة، حيث إنني لا أشك أنكم سترسلون تلغرافيا أية معلومات ترى لازمة لزيادة الإيضاح.
وسنفيدكم تلغرافيا بما يستقر عليه رأي مجلس الوزراء والبرلمان، سواء أكان هذا الرأي بالموافقة أو عدمها.
وزير الأشغال العمومية
قرر مجلس الوزراء في 29 مارس سنة 1933 إنشاء خزان بحيرة تانا، وأرصد له في ميزانية السنوات الخمس المقبلة مبلغ 3 ملايين و50 ألف جنيه تنفق على إنشائه.
نشر كاتب في جريدة «البلاغ» المقالات الآتية في سبتمبر سنة 1934: (4-3) بحيرة تانا وجزرها المقدسة
أقام كاتب هذه المقالات عدة سنين في القنصلية البريطانية بدنجيلا - شمال غربي الحبشة، فأتيحت له فرص قلما تتاح لغيره لكي يرى بحيرة تانا الجميلة من وجهات مختلفة وعلى جميع اتجاهات البوصلة، وقد سافر الكاتب في رحلات رسمية فرأى هذه الأربعين ميلا من الماء في مناسبات عديدة، كما أنه دار حولها تماما مرتين. وهناك سائحون أوروبيون آخرون رأوا هذه البحيرة من اليبس، فمن الطبيعي أن تكون الجزر المتعددة - التي تقع أحيانا على ثلاثة أميال من الشاطئ - مثيرة لطلعة السائح، ومن السائحين القليلين الذين زاروا الجزر فعلا (سنكر) الذي صنع هذا سنة 1881، وخلف لنا أحسن وصف وإن كان يعوزه التمام؛ لأنه لم يستطع الحصول على إذن بالنزول إلى تلك الجزر التي تقوم عليها أهم الديور مثل داجا.
ويقول سنكر في تفسير هذا إنه لم يتمكن من زيارتها؛ لأن أحدا لا يسمح له بذلك إلا أن يكون راهبا متنسكا لكون هذه الجزر تعتبر أرضا مقدسة.
كان مشروعي أن أدور حول البحيرة في الماء، وأزور كل جزيرة وكل كنيسة ودير فيها، وكذلك ما كان منها على الشاطئ. ومعنى ذلك كله أنني أقطع مائتين وعشرين ميلا، والظاهر أن هذه كانت الطريقة الوحيدة التي يجب أن أتبعها حتى لا يغيب عني شيء له أهمية نظرا لعدم وجود خرائط دقيقة أو أي شيء سوى كتابات ضئيلة في الموضوع.
وتاريخ الكنيسة الحبشية يحوي أشياء كثيرة ذات قيمة للباحث في تاريخ المسيحية الأولى التي دخلت البلاد في سنة 370 أو حوالي تلك السنة على يد فرومنتيوس الذي أصبح أول رئيس لأساقفة إثيوبيا على نفس الصورة التي أدخل بها القديس أوغسطين المسيحية إلى إنكلترا السكسونية بعد هذا التاريخ بمائتين وستة وعشرين عاما، وأصبح أول رئيس لأساقفة كنتربوري.
ولم يقترب الخطر قط من إنكلترا، ولكن في حكم الإمبراطور الحبشي لبنادنجل (1508-1540م) فتحت البلاد، واستولى عليها تماما فاتح مسلم هو محمد جراف، جاء إليها من بلاد عدل الصحراء المنخفضة القريبة من البحر الأحمر، وهي الأرض التي تقيم فيها الآن قبائل الدناقلة.
ورغم أن ابن لبنادنجل وخليفته استطاع أن يجلي المسلمين عن البلاد، فإن كل الكنائس والديور في طول البلاد وعرضها نهبت وأحرقت، فذهبت بذلك المكاتب التي حوت من المخطوطات والكتب ما لا يقوم بثمين مع نسخ يونانية وعبرية، بل وربما كانت أصولا من الكتاب المقدس وسفر الرؤيا.
ومن ثم يبدو أن المكاتب التي ربما تكون نجت لا بد وأن تكون باقية في ديور الجزر في بحيرة تانا؛ لأن موقع هذه الجزر بعيدة عن الشاطئ هو الذي حال بين الجيوش الإسلامية الظافرة وبين تناول هذه الآثار، وأحد أغراض رحلتي أن أرى المكاتب وإن لم يكن لدي وقت للخوض على محتوياتها. والأمر الثاني أنني أملت في أن أحصل على بعض الروايات المتواترة التي تتصل بتابوت العهد في معبد سليمان بأورشليم الذي يتمثل كل كنيسة بالحبشة.
وعلاوة على هذا؛ فإنني أنظر إلى زيادة المعلومات العامة في الجغرافيا وعلم الحيوان والطيور والأسماك والحيوانات الثديية التي تسكن الجزر وما يحتمل من معرفة شيء عن قبيلة الوايتو، ومنها الرجال الذين يصنعون زوارق الغاب التي يسيرونها في البحيرة، وكذلك أملت في أن أعلم شيئا عن عمق البحيرة.
وبعد أن تمت كل الاستعدادات للرحلة، وحصلت على إذن الإمبراطور هيلي سيلاسي اصطحبت ترجماني، وسرت في قافلة من البغال في يوم 16 نوفمبر سنة 1932 متجها نحو شواطئ البحيرة، مسافرا بطريق ضفتي نهر أباي الصغير، وهو أكبر مصدر يمد البحيرة بالماء، ولا تزال ثلاثون ميلا منه غير مرسومة.
وأهم ما كشفته هنا بحيرة مستديرة أصلها بركاني، وربما كانت قائمة على فوهة بركان يبلغ قطرها نصف ميل، وتسمى تنجيتي بركان، وقد استطعت الآن أن أرسمها على الخريطة هي وتفصيل سير النهر. وفي 29 نوفمبر وصلنا إلى ليجومي على الشاطئ الجنوبي لبحيرة تانا، وهناك قابلنا على موعد بعض رجال الوايتو مع ثلاثة من زوارقهم المصنوعة من الغاب. وأول ما سافرنا في الماء اتجهنا نحو الغرب؛ لنشاهد تكون مصب نهر أياي الصغير. ذلك النهر بفعل الرواسب كون رأسين عاليين من الطمي كل منهما على ضفة، وقد أصبح طول كل منهما يمتد ميلين في البحيرة. والواقف في البر لا يمكنه أن يرى نهايتهما لأنهما محجوبتان بأعشاب البردي الطويلة. وكذلك رغبت في أن أصل إلى مكان مغطى بالغابات يقال له موكال لزيارة زعيم. واقتضاني هذا سفر يوم طويل على خلاف ما أفهمني رفاقي من الوايتو. وقد عدنا من هذه الرحلة والظلام مخيم في بحر هائج، ووصلنا إلى خيامنا منتصف الليل مقرورين جائعين، وبعض منا به وعكة خفيفة من سفر البحر.
عندما كانت المباحثات دائرة منذ ثلاث سنوات في مسألة خزان بحيرة تانا حرصت حكومة الحبشة على أن لا يمس تصميم الخزان بالديورة والكنائس الموجودة في تلك البحيرة أو حولها. فلا نعلم هل يغرق الخزان عند إنشائه بعضا منها؟ لأن تفاصيل تصميمه لم تنشر بعد. وقد اطلعنا الآن على مقال في جريدة التيمس الميجر شيسمان عن تلك الديورة والجزر التي زارها أخيرا. وهذا بعض ما جاء فيه:
رأيت مياه بحيرة تانا التي تبلغ مساحتها 40 ميلا مرارا متعددة في أثناء رحلاتي للقيام ببعض المهام الرسمية، وطفت البحيرة كلها مرتين، ورآها كثيرون من السياح الأوربيين من الشاطئ، فلا شك أن جزائرها العديدة التي يقع بعضها على بعد ثلاثة أميال من الشاطئ تستلفت أنظار السياح. وفي طليعة السياح الذين كتبوا رسائل شائقة عن البحيرة «ستيكر»، فقد زارها سنة 1881، ولكن رسالته ناقصة؛ لأنه لم يستطع أن يزور الجزر التي بنيت فيها الديورة المهمة كجزيرة داجا، وقد قال إنه لم يزرها؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يطأها سوى النساك إذ هي جزيرة تعتبر مقدسة.
وقد وضعت نصب عيني أن أطوف البحيرة كلها وأن أزور كل جزيرة وكل كنيسة وكل دير فيها. وكذلك الكنائس والديورة الموجودة على الشواطئ، وهذا الطواف يستغرق 220 ميلا. ولم يكن لي بد من ذلك لكي أقف على كل شيء؛ لأن البحيرة ليس لها خرائط دقيقة ولم يكتب عنها إلا القليل.
ويحتوي تاريخ الكنيسة الحبشية على أمور كثيرة تهم الذين يدرسون تاريخ المسيحية في عهودها الأولى. وقد أسسها فرومنتيوس نحو سنة 370، وكان أول رئيس أساقفة للحبشة كسان أوغسطين الذي جاء بعده بنحو 226 ونقل المسيحية إلى إنكلترا السكسونية، وأصبح أول رئيس أساقفة لكنتربوري.
ولكن محمد جران، وهو قائد مسلم عظيم، خرج من الأراضي التي تحتلها الآن قبائل الدناقل، وفتح الحبشة وأخضعها لسلطانه في عهد الإمبراطور لبناديجل (سنة 1508-1540)، ولكن ابن ذلك الإمبراطور أخرج المسلمين من بلاده، وكانت الحروب المتوالية سببا للإحراق والتخريب الذي أصاب جميع الكنائس وذهب طعم النار كثير من الكتب والمخطوطات. ونسخ أول أصول من الكتب المقدسة بالعبرية واليونانية. فإن كان قد نجا شيء من المكاتب فهي المكاتب الموجودة في الديورة؛ إذ كان من الصعب على الفاتحين أن يبلغوها وهم لم يكونوا مجهزين بالزوارق ولا يجيدون استخدامها، فكان من جملة أغراضي من رحلتي أن أبحث عن تلك المكاتب وأن أدون تقاليد الناس وعاداتهم وما يرونه من تابوت العهد الذي أخذ من هيكل سليمان في القدس، وهو التابوت الذي تمثله في كل كنيسة من كنائس الحبشة اليوم نسخة مقلدة من الصندوق الذي يحتوي على الألواح الحجرية التي نزل بها موسى من جبل سيناء. ويروي الأهالي أن منليك الأول جاء بالتابوت الأصلي من القدس إلى الحبشة، ويقال إنها الآن موجودة في كاتدرائية أقسوم، ولكنني سمعت أنه نقل عندما وصل إلى جزيرة في بحيرة تانا، على أننا ليس لدينا دليل مادي أو مستند يدل على أن تابوت العهد نقل إلى الحبشة، ولكن لا بد من أن يكون لدعوى كنيسة الحبشة الخاصة بالتابوت شيء من الصحة، ويظهر أن اليهود لم يعودوا يعرفون شيئا عنه بعد انقضاء مدة على اختفائه، وآخر ما ذكر عنه هو الفصل الثالث من سفر أرميا في التوراة في العدد السادس عشر.
ثم إن في تلك الجزائر أشياء كثيرة تدعو إلى الاهتمام، وتتعلق بالجغرافيا والحيوان والطيور والسماك وذوات الثدي. وقد يمكن أن يعرف المرء شيئا عن قبيلة وايتو التي تصنع الرمث من القصب لاستخدامه كالزورق في البحيرة. وخطر لي أن أعرف شيئا عن أعماق البحيرة.
وقد أكملت عدتي للقيام بهذه الرحلة، وحصلت على إذن من الإمبراطور هيلاسلاسي، وسافرت في 19 نوفمبر سنة 1932 إلى البحيرة يصحبني ترجماني وقافلة من البغال، وتتبعت في طريقي ضفاف نهر أباي الصغير الذي يصب في البحيرة، ولم يرسم نحو ثلاثين ميلا من قسمه الأسفل على الخريطة بعد. وأهم ما اكتشفته في طريقي بحيرة مستديرة ذات أصل بركاني، وهي تسمى «بركة تنجيتي»، ويبلغ قطرها نحو كيلومتر واحد، فرسمتها على الخريطة هي والقسم الذي لم يرسم من النهر.
وفي 29 نوفمبر وصلنا إلى ليجومي على شاطئ بحيرة تانا الجنوبي، والتقينا هناك ببعض رجال قبيلة وايتو الذين جاءوا إلينا بثلاثة أرماث، فاتجهنا أولا إلى الغرب لنرى مصب نهر أباي الصغير.
وفي اليوم التالي ذهبنا شرقا بالأرماث، وبلغنا جزيرة باك التي هي أكبر الجزر في البحيرة، وتكاد تكون مستديرة، وقطرها ثلاثة أميال، وهي مسطحة ولا تزيد أعلى نقطة فيها على ثلاثين قدما فوق سطح الماء، والبعوض كثير فيها، وتبدو من البر كأنها أرض مكسوة بالغابات، ولكنها ليست كذلك لأن ثلاثة أرباعها ستستخدم للزراعة، وفيها كثير من الأشجار الكبيرة، ومعظمها من أشجار التين المسماة «ورقة».
وقيل لنا: إن في الجزيرة خمس كنائس فزرنا اثنتين منها، وعند ذلك مرض الترجمان، فلم يكن لي بد من التوقف عن الرحلة والعودة به مسافة خمسة أيام إلى منزله، ثم سافرت نحو أسبوعين إلى جلايات على حدود السودان للبحث عن ترجمان جديد، فجئت به وعدت لإكمال رحلتي مخترقا في طريقي أقاليم لم ترسم على الخريطة، واجتزت أعالي أنهر رهاد ودندر وبالاس، وهي من روافد النيل، وتحققت أن المراكز التي أعطيت لها على الخريطة مملوءة بالخطأ، وقد رسم نهر بالاس في موضع يبعد ثلاثين ميلا عن موضعه الحقيقي.
وعدنا إلى جزيرة داك في 9 مارس لنكمل رحلتنا في البحيرة، فزرنا الكنائس الثلاث الباقية. ولكل كنيسة قرية تحيط بها، ويسمح للنساء بالإقامة في الجزيرة. والعمل الوحيد الذي يعمله الأهالي هو الزراعة. وتكثر في الجزيرة الأشجار التي من نوع التين، وفيها زهور ونباتات مختلفة، ورأينا فيها جرذان الحقول، وأمسكنا اثنين من نوعين مختلفين لكي يساعدانا على درس عمر الجزيرة. وتحيط بالجزيرة نباتات من القصب، وقد وجد الأهالي فيها أفاعي عظيمة وقتلوا سبعا منها. •••
زرنا جزيرة جبران الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية من البحيرة، وفيها كنيسة باسم الملاك جبريل، وقبر للإمبراطور تكلا جيمنوت (سنة 1706-1708): والكنيسة قائمة على بعد 12 عمودا من الحجر في شكل مستدير ، ولها جرسان أحدهما من الحجر الأصم والآخر من الخشب، وهناك أيضا جرس من النحاس عليه كتابة باللغة الجعزية. ويتولى رياسة الدير راهب شيخ يشغل منصبه منذ 45 سنة، وقد أرانا من الكتب بقدر ما سمح لنا الوقت، ولا شك أن في مكتبة دير أكريت كثيرا من الكتب التي تستحق البحث، وقد نقلت كتب عديدة من الكنائس المجاورة في البر إلى هذه الجزيرة في أزمنة الاضطرابات لجعلنا في مأمن.
وبعد ذلك عبرنا المنطقة التي يمر بها النيل الأزرق خارجا من البحيرة، وفيها أغوار يحجبها البردي. وقد تساقطت عليها حمم بركانية تألف منها سد طبيعي غير مجرى النيل الأزرق القديم، فتألفت من هذا السد بحيرة تانا، ورأينا الماء يجري من شلال شارا - شارا فوق ذلك السد الذي يضبط مستوى مياه البحيرة.
وعلى الشاطئ الشرقي صف طويل من الجزائر التي لم يكن لنا بد من زيارتها، وأولاها وأهمها جزيرة ريمة التي فيها كنيسة مضحاني عالم. ومن الكتب التي وجدناها فيها كتاب يحتوي على أسماء الملوك من آدم إلى منليك الأول فملوك زغوه، ولعل القائمة تتصل بالملك الحالي. فلم يسمح لنا الوقت إلا بنقل جزء منها، فنقلت الجزء الذي يبدأ من منليك وينتهي بملوك زغوه. ووجدت كتابا آخر اسمه تاريخ مريم، ولكن لم أجد فيه تاريخا، ووجدت صورا مثلثة الأضلاع كان التكوين والفن في بعضها حسنا، وهي رسوم العذراء مريم وطفلها يوسف.
ونصبنا خيمة على فم نهر غمارة؛ لكي نستطيع أن نخصص يوما كاملا لزيارة جزيرة تانا قرقوس، وكنت قد سمعت من الناس حكايات عن تلك الجزيرة جعلتني أتوقع اكتشافات جديدة فلم يخب أملي. وقد اصطدنا هناك أضخم سمكة، وقد بلغ وزنها 28 رطلا، ويروي الناس حكايات عن وجود حيوان بحري عظيم في البحيرة، فأعلنت أني أدفع جائزة عظيمة لمن يصطاد حيوانا كهذا ويأتي به إلي؛ فبادر الأهالي إلى الاصطياد. ولكن لم يستطع أحد أن يحصل على الجائزة.
وتتصل جزيرة تانا قرقوس بالبر بطريق صخرية في زمن هبوط البحيرة فتصبح كأنها شبه جزيرة. ويقال: إن تابوت العهد بقي فيها مدة طويلة عندما جيء به من القدس قبل نقله إلى أقسوم. ولكن لم أجد في المخطوطات ولا في المراجع الموثوق بها ما يؤيد هذه الرواية. ويقال أيضا: إن أول كاهن لهيكل الكنيسة هو عزرا بن صدوق - رئيس كهنة أورشليم في عهد سليمان - وإنه رافق منليك الأول عندما جاء بتابوت العهد. ورأيت وعاء من المعدن كتبت عليه كتابة سيئة يبلغ طول الحرف فيها قيراطا. وعلى مقربة من الكنيسة ثلاثة أعمدة من الحجر في حجم مستدير على شكل المذابح اليهودية، وعليها عصا الكهنوت التي جاء بها فرومنتيوس، وفي رأسها صليب، وقد أسس الكنيسة (أبراها) و(أسبيها) الملكان اللذان حكما معا، ولكن السر واليس بدج يظن أن المقصود هو عزانا ملك أقسوم الذي اكتشفت كتاباته باليونانية والإثيوبية والسبئية وترجمت. وروى فيها أخبار انتصاراته وشكر آلهته عليها، ولكنه سلم في حكاية حملته الآخيرة بأن رب السماء الموجود في السماء وعلى الأرض، والذي هو أقوى من أي شيء موجود قد ساعده. ولم يذكر عزانا أسماء آلهة أخرى. فكانت هذه الرواية سببا للحكم بأن عهد ملكه كان في أول عهد دخول المسيحية إلى الحبشة.
على أن اكتشاف كنيسة أسسها أبراها وأسبيها في جزيرة تانا قرقوس وثلاثة مذابح يهودية يعلوها صليب ووعاء عليه كتابة سبئية لا يمكن أن يكون مصادفة واتفاقا. وفي هذه الجزيرة كتب يجب أن يفحصها رجل اختصاصي. وأحدها نسخة من «كتاب الأسرار»، وقال ناقلها عن نفسه إن اسمه جبريل ولد بطريق، وإنه كتب هذه النسخة في دبرة قدوس حيث يوجد دير عربي يدعى دير أنطونيوس سنة 983 بعد الشهداء. وقد ترجمت من اليونانية إلى العربية، وبقيت باللغة العربية 315 سنة، ثم ترجمها سليق إلى اللغة الجعزية. ويقول الرهبان: إن جزيرة تانا قرقوس كانت تسمى دبرة ساحل يوم كان اليهود هناك. وبما أن ليس لدينا دليل على أصل اسم ذلك الدير كان من المحتمل أن هيكل بحيرة تانا سمي باسم النجم كانوبوس الذي يسمى بالعربية سهيل.
ورأينا في الجزيرة التالية التي زرناها - وهي شقلا منزو - خرائب لقصر الإمبراطور أياسوس الذي قتل هناك سنة 1706.
ثم إننا زرنا جزيرة مطرحة التي تبعد نصف ميل عن البر، وأقدم كنيسة فيها أسسها الإمبراطور داود الأول، ولكن أحمد جران أحرقها، وهناك كنيسة أخرى بناها يوحنا الأول، ونهبها الدراويش في أيام الخليفة، وهي الآن خراب، ولم نجد أي تاريخ على الكتب التي رأيناها.
وسرنا عدة أيام حول الجانب الشمالي الشرقي من البحيرة، وعلى طول الساحل الشمالي، وبلغنا شبه جزيرة جرجرة، وهي أرض جبلية يلوح أن يدي الغزاة لم تصل إلى الديورة التي فيها وعلى مقربة منها. ووجدنا كنيسة في دير اسمه دير سيناء على طرف الجانب الشرقي، وفيها بعض الكتب. ويقع دير مندية جنوبي جرجرة، وهو مبني على صخر مشرف على الماء، ولعله أكبر دير في البحيرة لأن فيه 150 راهبا وتحيط المنازل والغرف بالكنيسة التي تسمى كنيسة مضجاني عالم. وقد سمح لي بزيارة الرهبان فوجدتهم يعيشون في صوامع حقيقية ويطالعون الكتب المقدسة، فلم أشأ أن أتعرض لكنيستهم وتأملاتهم.
وفي جزيرة جليلة التي تبعد ميلين في البحر دير من النوع ذاته، واستقبلني الرهبان في الديرين بكل لطف وبشاشة.
وزرت في البر قصر الإمبراطور سوسينيوس الصيفي (1607-1632)، وقد بناه الراهب البرتغالي بيدرو بايز، وهو من رهبان الجزويت الذين أرسلوا إلى الحبشة في القرن السادس عشر. ولا شك أن حكاية تيههم ومتاعبهم وآلامهم وتمسكهم بعقائدهم تحمل كل من يقرأها على الإعجاب بهم والعطف عليهم. أما قصر جرجرة فهو الآن خرب ومهجور، ولكن ما بقي منه يكفي للحكم بأنه كان رائعا، ويبلغ علو جداره الرئيسي 70 قدما، وهو ما زال قائما. وعلى الجدار الداخلي أنواع من النقوش.
وبعد تجول في البحيرة دام 15 يوما تلفت أرماثنا فلم يكن لنا بد من إصلاحها، فانتهزت هذه الفرصة وذهبت شمالا للتثبت من أخبار وصلت إلي عن وجود بركان ثائر في شلجة، ولكنني لم أجد سوى نبع معدني منبثق من صخر يسيل منه ماء كبريتي تملأ رائحته الجو.
وبعدما أصلحت أرماثنا توجهنا إلى الناحية الشمالية الغربية من البحيرة، ثم إلى الساحل الغربي الذي هو أقرب نقطة إلى السودان، وكان الدراويش قد سحقوا تلك الأقطار سحقا، فلم يتركوا فيها حجرا على حجر لكي يعرف المرء أين كانت الكنائس القديمة قائمة، ولكن أسماءها باقية.
ثم إننا ذهبنا إلى الساحل الجنوبي، وبلغنا المكان الذي بدأنا رحلتنا منه، فتركت الأرماث الثلاثة لرجال القبائل الذين استأجرتهم ونقدتهم أجورهم وعدت بقافلتي إلى دنجيلة.
وفي اليوم التالي عدنا إلى البر بالطريق التي قدمنا منها، ثم سرنا في الماء حول الشاطئ، وكنا رتبنا أن نلتقي بقافلتنا في نقطة معينة، وهو ترتيب نجح تماما على طول الطريق حول البحيرة.
وكانت ثاني جزيرة زرناها جزيرة كبران في الزاوية الجنوبية الشرقية لبحيرة تانا، وفيها دير كنيسة بنيت تذكارا للملاك جبريل، وفيها قبر للإمبراطور تقلا هيمانوت سنة (1705-1708م). وهذه الكنيسة محمولة على دائرة مؤلفة من اثني عشر من الأعمدة الحجرية الضخمة، وفيها ناقوسان، وهناك كذلك ناقوس من النحاس الأصفر منقوش عليه كتابة باللغة اللإثيوبية القديمة. ورئيس هذا الدير راهب هرم مضى عليه خمسة وأربعون عاما. وقد أرانا من الكتب ما لو صرف وقت كبير في استيعابه لعرض على الباحث جهده ودقته، وكثير من هذه الكتب جاءت من الكنائس القريبة لتودع في كنائس الجزيرة حتى تكون بمنجاة في زمن الاضطراب.
ثم اجتزنا المنطقة التي يقع فيها مخرج بحيرة تانا محجوبا عن البرك في مكان مغطى بنبات كثيف من نبات البردي المرتفع. وقد كونت المواد البركانية خزانا طبيعيا يعترض المجرى القديم للنيل الأزرق مكونا بحيرة تانا، وعند شلال شاراشارا ينساب الماء فوق الحاجز بما يحفظ مستوى الماء في البحيرة.
وكان علينا أن نزور شيئا طويلا من الجزر على الساحل الشرقي، وأول ما يستحق الالتفات الخاص هي جزيرة ريمة التي بها كنيسة مدهاني علام، وبين الكتب وجدنا سجلا مدونا به أسماء الملوك من آدم إلى منليك الأول حتى ملوك زاجوي، وفي الغالب إلى الزمن الحاضر، ولم يكن الوقت متسعا لاستقصائهم جميعا، ولكنني نقلت أسماء الملوك من منليك الأول إلى ملوك الزاجوي، وعثرنا بين الكتب على كتاب في (تاريخ مريم)، ولكننا أخفقنا مرة أخرى في العثور على تاريخ.
وقد رتبت أن أقضي يوما كاملا في جزيرة تانا كركوس؛ إذ جعلتني رؤيات الأهالي أتوقع اكتشافات، ولم يخب أملي؛ فقد أمسكنا هناك سمكة كانت أكبر ما صدناه في البحيرة؛ إذ كانت سمكة من نوع الهر زنتها 28 رطلا. وبحيرة تانا - كغيرها من البحيرات - لها حكاية تتعلق بوحش يسكنها، وقد ترامت إلي قصص عنه من كثيرين من شهود العيان، حتى إنني عرضت جائزة كبيرة لأي من رجالي أو من الناس الذين يعيشون حول البحيرة إذا أمسك بواحد منه وأحضره لي. وكان الاتفاق العام على أنه سمكة في مثل حجم الرجل يقال لها سورز. واستمر الصيد عدة أيام فتوقعت أن أكون أول من يسجل أن سمك «لاتس نيلوتيوس» يسكن بحيرة تانا. فهذا النوع من السمك يوجد في النيل الأزرق عند سفارو الخرطوم، حيث ينمو إلى أن تبلغ زنة الواحدة أكثر من مائة رطل. ولقد ظللت أنتظر طويلا، ولكن الجائزة بقيت ولم يطلبها أحد.
وجزيرة تانا كركوس جزيرة صغيرة صغيرة تتصل الآن بالبر بمجاز من الصخر بحيث يمكن للإنسان في شهور التحاريق أن يصل إلى الجزيرة بغير أن تبتل قدماه. ولعل أدق وصف لها أنها شبه جزيرة. والحقيقة التي يسلم بها الجميع أنها كانت في زمن غير بعيد (بل وعلى أي حال في زمن أحمد جران) محاطة بالماء من جميع الجهات، ولم يكن يمكن العبور إليها إلا في الزوارق، وهذا ما حماها من تخريب الغزاة والفاتحين.
وأول رئيس لكنيسة تاناكركوس - أو على الأصح كاهن المعبد في تلك الجهة - يقال إنه أزارياس بن زادوك - رئيس كهنة أورشليم أيام سليمان - ويقال: إنه قدم إلى البلاد صحبة منليك الأول. وبقرب الكنيسة ثلاثة أعمدة حجرية في قمتها هبوط مستدير على هيئة أكواب هي بلا شك المذابح القديمة للقرابين العبرية.
ومؤسسا هذه الكنيسة أبرهة وأسبيها، وهما ملكان حكما معا، ولو أن هذا لا يمكن التحقق منه. واكتشاف كنيسة في تانا كركوس أسسها أبرهة وأسبيها، وثلاثة مذابح عبرية يعلوها صليب، وأخيرا طاس عليه نقوش بلغة سبأ، كل ذلك لا يمكن أن يكون تطابقا. وفي هذه الجزيرة كذلك توجد كتب لابد وأن يستوعبها رجل متوفر على البحث منقطع له. ويقال: إن واحدا من هذه الكتب نسخة من كتاب الأسرار، ويقول الكاتب: إنه جبريل والد أباتريك، وإنه كتبه في دير أقادوس، وهو دير عبري يقال له أنطونيوس في سنة 982 من تاريخ الشهداء، وقد ترجم من اللغة اليونانية إلى العربية، وبقي باللغة العربية 315 سنة، وبعد ذلك ترجمه سليك إلى اللغة الإثيوبية. وقال الرهبان: إن جزيرة تانا كركوس كانت في أيام وجود الإسرائيليين هناك تدعى دبراساهل. ومن الممكن (مع عدم وجود أي دليل على أصل الاسم) أن المعبد الذي ببحيرة تانا يمكن أن يسمى باسم النجم كانوباس الذي يسمى في بلاد العرب باسم سهيل.
والجزيرة التالية - شكلامانزو - تحوي خرائب قصر الإمبراطور أياسوس الذي قتل طبقا للسجلات في سنة 1706م. (4-4) بحيرة تانا من الوجهة الاقتصادية
تقع بحيرة تانا في غرب الحبشة، ومساحتها 350000 هكتار، وترتفع 1800 متر عن سطح البحر، وهي مستودع كبير للماء، الذي يخرج منها إلى السهول التي حواليها، من روافد ومجار صغيرة، وممكن أن تروي مليون هكتار، ومناخها معتدل، ومنطقتها أغنى مناطق الحبشة خصوبة: وعقد منليك ملك الحبشة سنة 1902 مع إنكلترا اتفاقا بأن لا يبني بالنيل الأزرق سدودا بغير اتفاق مع إنكلترا.
وعقد بين إيطاليا وفرنسا وإنكلترا سنة 1906 على توزيع المنافع الاقتصادية بينهن، فتقيم إنكلترا سدا بالبحيرة، وتقيم إيطاليا سكة حديدية من الحبشة إلى أرتيريا والسومال غرب أديس أبابا، وفي سنة 1925 عقد بين إنكلترا وإيطاليا اتفاق جديد تأييدا لاتفاق سنة 1906. والنزاع الحبشي الإيطالي يدور في الواقع حول هذه البحيرة والانتفاع بها.
وقرر مجلس الوزراء بجلسته في 22 مايو سنة 1935 الموافقة على برنامج الأعمال الجديدة في الوزارات المختلفة لمدة خمس سنوات.
ومن ذلك الذي أقره مجلس الوزراء مشروع بإنشاء خزان على بحيرة تانا والأعمال المرتبطة به. وقدر لمشروع تانا مبلغ ثلاثة ملايين وخمسون ألف جنيه موزعة على خمسة أعوام تبتدئ من العام الحالي بمبلغ مئة ألف جنيه، وفي العام الثاني بمبلغ خمسين ألفا ومئتي ألف جنيه، وفي الأعوام الثلاثة الباقية بمعدل تسع مئة ألف جنيه في السنة.
وعرضت إيطاليا أن تتفاهم مع إنكلترا على مسألة الخزان. ولا تزال المباحثات بين مصر وإنكلترا مستمرة.
الفصل الرابع والعشرون
الزراعة في السودان
كان سكان السودان يعتمدون على محاصيل الصمغ والسمسم وريش النعام والماشية والذرة، وكانت الزراعة متقطعة، وتعتمد على هطول الأمطار، ولكن دراسة منابع النيل ومجاريه وأراضي السودان دراسة علمية أدى إلى الاتجاه في الاعتماد على تخزين الماء في خزانات وتوزيعه في ترع للتوسع الزراعي، وكان للآمال الكبيرة التي عقدت على إمكان هذا التوسع ما ترتب على ذلك من اهتمام الإنكليز بالسودان واتجاههم إلى استعماره واستثماره وتقوية نفوذهم فيه وإضعاف نفوذ مصر شيئا فشيئا. (1) أنواع الأراضي الزراعية
الأرض المطرية: التي ترويها الأمطار، كسنار والقضارف وكردفان ودارفور والبحرية - التي يرويها النيل.
فصول الزراعة (1)
الدميرة:
فصل الفيضان من 15 بؤونة، ويدوم 3 شهور. (2)
الشتوي:
من 15 توت، ويدوم 6 أشهر. (3)
الصيفي:
فصل التحاريق، مدته 3 شهور.
ويستعملون وابورات الري الكبيرة في الزراعات الكبيرة كمزارع المهدي وكونتوميخلوس وإبراهيم عامر وكفوري.
والساقية والشادوف والطبوزية والنورج - كما في مصر، ولهم آلات خاصة بهم مثل السلوكة - وهي عصا طويلة كالصولجان ذات رأس عريض به وتد طوله شبر تغرز في الأرض، ويضغط الوتد عليها.
والواسوق: عصا طويلة في رأسها لوح عريض مثقوب من طرفيه.
والملودة: عصا معقوفة في رأسها حديدة.
والمنجل: مسنن كالمنشار.
والمنتاب: كالفأس.
والحشاش: كالفأس. (2) المزروعات
الذرة وهي أنواع: الفتريتة والكرفي في السودان الشرقي، وأم قرظ والصفرا والمقد وعيش الريف، وهو الذرة الشامية.
والدخن: ومن الذرة والدخن يصنع شراب الماريسة أو البوزة.
والقمح والشعير والسمسم والقطن، وكان ممتاز باشا أول من أدخله، وأصبح أكثر القطن المزروع في السودان من السكلاريدس. وتزرع الخضر - كالباميا وتسمى الويكة - والشطة والباذنجان واللوبيا والقرع والطماطم والملوخية والبصل والثوم والكرنب واللفت والبقدونس والفجل والكوسا والبطاطة والفلفل. وتزرع الفواكه المعروفة في مصر إلا أنها قليلة، ولذلك يعتمدون على برتقال يافا. (3) المساحات المزروعة والبور
بلغت هذه المساحات في سنة 1933 و1934: 714732 فدانا، من ذلك 175734 زرعت قطنا، و20545 فدانا لوبيا، 87745 فدانا ذرة، و430608 فدادين تركت «بورا». (4) مشروع الجزيرة
جاء في تقرير اللورد كتشنر عن الحالة في السودان سنة 1913:
1
جاء (حقل التجارب الزراعية) في الجزيرة بنقطة الطيبة فجنى محصولا جيدا جدا من القطن ومحصولا جيدا من القمح والذرة. وهو يعلم الأهالي الطرق الزراعية الحديثة وهم شديدو الرغبة في تعلمها.
جاء وفد من قبل جمعية زراعة القطن البريطانية، وكان تقريرهم عن القطن السوداني، وخصوصا قطن الطيبة حسنا جدا، وسيكون لنصائحهم واقتراحاتهم قيمة عظيمة، وقد نشر المستر شمدت والمستر شتز من أعضاء جمعية الغزالين الدولية تقارير أخرى حسنة بهذا الشأن.
وكان محصول القطن الذي جني من الأطيان التي أرويت أحسن بكثير من محصول السنة الماضية، وتحسن نوع القطن تحسنا بينا وخصوصا في طوكر. وزيدت وسائط الحلج بإنشاء معملين جديدين له.
ولعله يفيد أن أذكر هنا خلاصة تاريخ مسألة زرع القطن في السودان فأقول: إنه منذ سنوات رأى موظفو الحكومة وغيرهم من ذوي الاطلاع على أحوال هذه البلاد أن فيها أراضي واسعة الأطراف تصلح لزرع القطن المصري إذا استوفت حقها من الإرواء والاعتناء.
فاستمالت هذه المسألة التفات غزالي لانكشير، وهؤلاء وجهوا نظر الحكومة البريطانية لتحقيق المساعدة المالية المطلوبة لوضع هذا المشروع موضع التنفيذ والإجراء.
والفضل الأكبر في إدراك هذه الغاية للسير وليم ماذر وهو - كما لا يخفى - ممن زار السودان غير مرة، وأحد أعضاء لجنة كلية غوردون، وقد طالما أبدى أشد الارتياح إلى تقدم الأقطار السودانية وتوفير أسباب عمرانها وارتقائها. وفي أثناء إقامته في الخرطوم تحقق بالاختبار شدة صلاحية السودان لإنتاج القطن، وفي شهر أكتوبر سنة 1910 ألقى خطبة في منشستر كان لها أكبر تأثير في توجيه التفات الجمهور إلى هذا الأمر المهم.
ومن ذلك الحين اتجهت أفكار تجار القطن في لانكشير إلى السودان، وأصبحت هذه المسألة موضوع اهتمام جمعية زراعة القطن البريطانية، فعقدت النية على إرسال وفد إلى السودان؛ لإيفاء هذه المسألة حقها من البحث والتمحيص، ولشدة أهميتها عرض المستر ج. آرثر هتن - رئيس الجمعية - أن يرأس الوفد، فجاء ووضع تقريرا مطولا عن زيارته أيد فيه كل ما ذاع عن هذه المسألة. وبعد رجوعه إلى إنكلترا قابل وفد كبير حكومة جلالة الملك، وطلبوا إليها بإلحاح أن تضمن قرضا ينفق على إعداد السودان لزرع القطن.
وجاء في خطاب السر إدوارد كوك - محافظ البنك الأهلي المصري بالقاهرة - في اجتماع الجمعية العمومية السنوية للبنك سنة 1935 تحت عنوان «مستقبل الجزيرة»:
أما فيما يختص بالمستقبل القريب لمنطقة الجزيرة الهامة التي تستنفد معظم رؤوس أموال السودان المقترضة، فإن محصول القطن الحالي جيد، وهناك دلائل قاطعة على أن أبحاث الخبراء المضيئة قد نجحت أخيرا في تخفيف أضرار الحشرات والأمراض التي كانت في السودان، أكثر من أي إقليم آخر مبعث متاعب لا تحصى، كما أن التوسع المشاهد في السنين الحالية في زراعة القطن على ماء الأمطار في جبال النوبة وكردفان بناء على تشجيع الحكومة تحت إشرافها ومراقبتها، هو تطور اقتصادي يبشر بمستقبل ذي بال. ا.ه. (5) زراعة القطن
أصدر أخيرا مجلس إدارة جمعية زراعة القطن البريطانية تقريره، وقد استعرض فيه زراعة القطن في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية في أثناء السنة الماضية 1934، وسجل زيادة جديدة في محصول البلدان التي تنتج القطن عدا الهند.
حقول القطن في السودان - حركة الجني.
ويقول التقرير: إن الكميات التي استهلكها العالم من القطن المزروع في البلدان التي ليست ضمن الإمبراطورية البريطانية تزيد على ما استهلك من القطن الأمريكي في المدة نفسها بدليل انقاص المساحات المزروعة قطنا في الولايات المتحدة الأمريكية وتقييد المحصول الذي تم حلجه.
وعلى ذلك ينبغي ألا تكون هناك مشقة في إيجاد سوق للأقطان التي أنتجتها الإمبراطورية بالنسبة إلى ما يجده القطن الأمريكي، على شرط أن تبذل البلدان التي تنتج الأقطان أقصى جهدها لتكفل وحدة النوع والشحن.
وتحسنت واردات القطن الخام من الهند كثيرا نظرا لزيادة العراقيل التي قامت في سبيل التجارة الدولية والجهود التي تبذلها لجنة لانكشير لترويج القطن الهندي، والتي من شأنها أن تثبت مركز الهند في أسواق العالم.
وتقدر المساحة المزروعة قطنا في الهند في موسم 1933 ب 33 مليونا و408 آلاف فدان والمحصول ب 4 ملايين و318 ألف بالة في الموسم السابق.
وانتعش محصول السودان في سنة 933-934 بعض انتعاش بالنسبة إلى ما كان عليه في الموسم الأسبق، ولكن محصول أوغندا هبط عن أقصى حد بلغه في سنة 932-933.
وتبذل الحكومات ذات الشأن في أجزاء أخرى من أفريقية جهودها لتنمية الإنتاج بقصد التخفيض من تأثير الأسعار المنخفضة الذي أدى إلى زيادة المحصول، والمحصول الناتج من زراعة القطن في السودان وأوغندا معا يزيد دائما على المحصول الناتج من جميع الخمسة عشر بلدا من بلدان الإمبراطورية مجتمعة، ولذلك يكون لمحصول هاتين المنطقتين الأثر الكبير في تقدير المحصول العام للإمبراطورية.
وأشار التقرير إلى محصول القطن في هذا الموسم فقال: إن محصول السودان وأوغندا سيزداد زيادة هامة؛ لأن الحالة تحسنت في كلا البلدين فأنتجا محصولا جيدا من حيث الغلة والنوع.
وستتحسن الحالة أيضا في تنجانيقا ونيسالاند وبعض المستعمرات والبلدان الأخرى المشمولة بالحماية، وسوف لا يكون محصول أوغندا كبيرا كما يرجى، ولكن مما لاريب فيه أن مجموع محصول الإمبراطورية وقد زرع بالجزيرة 174000 فدان يقدر محصولها بمقدار 700000 قنطار سكلاريدس.
تأخذ الشركة الزراعية بالجزيرة القطن وتبيعه وتحلجه في محالجها، وتعطي من الربح 40 في المائة للمزارع، وتتناول الشركة 35 في المائة والحكومة 25 في المائة، وتترك الشركة المزروعات الأخرى للأهالي.
وجاءني تقرير مصلحة الزراعة السودانية بالخرطوم عن سير موسم القطن في شهر فبراير سنة 1935 ما يلي:
السكلاريدس:
الشركة الزراعية بالجزيرة:
المساحة المزروعة 156040 فدان جني منها لغاية تاريخه 452812 قنطارا (وزن 215 رطلا)، والمقدر لها 700000 قنطار .
شركة قطن كسلا:
المساحة المزروعة 19143 فدان جني منها لغاية تاريخه 73207 قناطير
توكر:
المساحة المزروعة 31681 فدانا جني منها لغاية تاريخه 8552 قنطارا، ومقدر لها 48000 قنطار.
كسلا:
المساحة المزروعة 28210 فدادين جني منها لغاية تاريخه 17000 قنطار، ومقدر لها 48000 قنطار.
الدويم:
المساحة المزروعة 500 فدان، جني منها لغاية تاريخه 1850 قنطارا، ومقدر لها 2500 قنطار.
مزارع خصوصية:
المساحة المزروعة 6353 فدانا، جني منها لغاية تاريخه 13743 قنطارا، والمقدر لها 22700 قنطار.
فيكون مجموع مساحات السكلاريدس: 241917 فدانا، والمجني منها لغاية تاريخه 857163 قنطارا، والمقدر لها 723200 قنطار.
الأمريكاني:
المزروع بالري:
المساحة المزروعة 12421 فدانا المجني منها لغاية تاريخه 30967 قنطارا، والمقدر لها 33266 قنطارا.
المزروع بالمطر:
المساحة المزروعة 96916 فدانا المجني منها لغاية تاريخه 138571 قنطارا، والمقدر لها 138570 قنطارا.
فيكون مجموع مساحات الأمريكاني المزروعة: 109377 فدانا، المجني منها لغاية تاريخه 169538 قنطارا، والمقدر لها 871836 قنطارا.
وجملة مساحات السكلاريدس والأمريكاني معا 351254 فدانا، والمجني منها لغاية تاريخه 736701 قنطار، والمحصول المقدر لها 995036. (6) تقرير مندوبي النقابة الزراعية
ننشر فيما يلي التقرير الذي وضعه حضرات مندوبي النقابة الزراعية العامة في البعثة، وهم حضرات الدكتور يوسف نحاس بك، والمهندس مصطفى نصرت، والسيد أحمد أبو الفضل الجيزاوي:
تلقت النقابة الزراعية المصرية العامة في 9 يناير سنة 1935 كتابا من حضرة صاحب العزة مدير الجمعية الزراعية الملكية يبلغها به أن الجمعية قد عنيت بإعداد رحلة إلى السودان تبدأ من 26 يناير الحالي، وتكون مدتها 22 يوما ونفقتها بجملتها خمسين جنيها مصريا لكل فرد، ويقوم بها نخبة من رجالات الزراعة والصناعة والتجارة المصريين لتمكين الصلات الاقتصادية مع تلك البلاد الشقيقة، ويسأل عما إذا كان للنقابة أو لأحد من حضرات أعضاء مجلس إدارتها رغبة في الاشتراك في هذه الرحلة.
فكانت هذه الدعوة مما بحث فيه مجلس إدارة النقابة بجلسته يوم السبت 16 يناير سنة 1935، وبعد التداول في أمر تلك الرحلة، وتبين وجوه الفائدة العامة للقطرين المصري والسوداني، منها قرر أن يندب اثنين من قبل النقابة وعلى نفقتها؛ ليمثلاها في تلك الرحلة، وانتخب لهذه المهمة حضرتي صاحب العزة أحمد حمدي سيف النصر بك نائب رئيس النقابة، والدكتور يوسف نحاس بك سكرتيرها العام، ثم سئل حضرات الأعضاء عما إذا كان أحد منهم يرغب على نفقته الخاصة في الانضمام إلى القائمين بتلك الرحلة فأجاب بالاستعداد لهذه المشاركة كل من حضرات أصحاب العزة عبد العزيز رضوان بك، وأحمد أبو الفضل الجيزاوي، ومصطفى نصرت، وإسماعيل عبد الرازق بك.
ثم اعتذر حضرتا عبد العزيز رضوان بك، وإسماعيل عبد الرازق بك، فأسف زملاؤهما للضرورة التي قضت بتخلفهما، وقبيل موعد القيام من مصر فوجئ حضرة أحمد حمدي سيف النصر بك بوعكة شديدة حالت دون سفره أيضا ، فكانت لها رنة ألم لم تقتصر على زملائه المسافرين، بل اشترك فيها السودان وأهلوه لما له عندهم من مكانة رفيعة ومودة خالصة شائعة.
2
غير أن البعثة لم تصل إلى بورسودان حتى وردتها برقية من سكرتيرية النقابة تطمئنها بأن الخطر قد زال، وأن حمدي بك يتماثل للشفاء، على أن غيابه القهري قد أحدث فراغا كبيرا، ولو كان معنا لكانت الفائدة أعم وأتم.
هذا وقبل أن نبدأ الكلام على ما شاهدناه في رحلتنا يقتضينا الواجب أن نقول: إن النجاح العظيم الذي أتيح لها يرجع الفضل فيه إلى الجمعية الزراعية الملكية التي أخذت على نفسها مهمة التمهيد لتجدد الصلات بين القطرين الشقيقين بعد أن زار حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك مديرها العام السودان عام أول، ودرس الممكنات وقدرها، وأدرك أن من المصلحة الوطنية الكبرى توثيق الأواصر بين الجارين، فوجد من حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون أقوى عضد لإخراج هذه الفكرة إلى حيز التنفيذ بإيفاد هذه البعثة، ولذلك وجب لسموه ولحضرات مدير الجمعية العام وأعضاء مجلس إدارتها الكرام أجزل الشكر وأطيب الثناء. (7) الحالة الاقتصادية في السودان
معلوم أن الأمرين اللذين لأجلهما سافرت البعثة هما: غرض تجاري وغرض زراعي، والمقصود منهما جميعا توثيق الصلات الاقتصادية بين مصر والسودان، غير أننا نرى بمقتضى طبيعة مهمتنا الخاصة أن نقصر تقريرنا فيما يتعلق بالبحث الاقتصادي على كلمة عامة، ثم نتجه بتفصيل أوفى إلى البحث الزراعي، وهو أدخل في نطاق أعمال النقابة.
فأما الحالة الاقتصادية، فإن ما سمحت لنا إقامتنا القصيرة في ذلك القطر بالوقوف عليها من نواحيها دلتنا على أن مجهودا كبيرا قد بذل لرفع المستوى الاقتصادي فيه؛ فشهدنا من المعدات التي هيئت له ما يشهد بأن العمل قد جرى على طريقة محكمة جديدة النمط في نواحي العمران. مثال ذلك: أن بورسودان على صغر حجمه قد جعل من أصلح المواني وأحدثها نظما، وأن السكك الحديدية متوافرة فيها أسباب الراحة لا تستثنى منها درجة رابعة خصصت لنقل الطبقة الفقيرة من السودانيين فقط، وأن تخطيط القرى فضلا عن المدن قد روعي فيه أن تكون الطرق متسعة والمباني مشيدة على ما يلائم الجو السوداني من ارتفاع الأسقف وتصميم المساكن مما لوحظ به خاصة أن تكون لكل منزل واجهة بحرية وأخرى قبلية، وذلك لأن الهواء في الشتاء يأتي من الشمال، أما الهواء الرطب فيأتي في الصيف من الجنوب؛ نظرا لتكاثر الأمطار في الجهة الجنوبية، وجميع مباني العمال وكثير من المباني الأخرى كالاستراحات جعلت جملونية مستديرة لغزارة المياه التي تجود بها السماء.
على أن الذي يسترعي الباحث الاقتصادي هو ما يقوم في وجه التعمير من عقبات أخصها قلة اليد العاملة وضعف الإنتاج المادي والفكري في ستة أشهر من السنة يشل فيها القيظ المحرق والهبوب والسموم والتقلبات الجوية العنيفة كل حركة، ومن تلك العقبات الحاجة إلى المال، فهي بادية بشكل واضح، وقد كان للأزمة العالمية تأثير كبير في مرافق البلاد الاقتصادية، وبالتالي في موارد الحكومة التي لم تستطع موازنة دخلها مع خرجها إلا في عام 1933 وفي عام 1934، وقد اضطرت إلى تقليل عدد الموظفين الإنكليز وغيرهم، وتخفيض مرتبات الآخرين تخفيضا ذا بال، وكان من جراء ذلك طبعا ومن جراء إمحال الحاصلات الزراعية وأخصها القطن في معظم أعوام الأزمة أن ثبطت العزائم إلى حد ما وتعطل المضي في تنفيذ ما كان مرسوما من البرامج لإنهاض البلاد اقتصاديا وزراعيا، ولا بدع فيما نذكره؛ فإن الزارع الذي كد طول عامه في تلك السنين العجاف لم يكد يحصل على نتيجة يسد بها رمقه عند بيع حاصلاته، فمما نجم عن هذه الحالة أنها منعت كثيرين من زرع أراضيهم، وخصوصا من زرع القطن في جهات متعددة.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم ما منيت به الحاصلات عامة في أرجاء المعمورة من انخفاض أسعارها، ولمحنا جسامة مصاريف النقل في السودان، خصوصا بين الخرطوم وحلفا، وجسامة تكاليف حلج القطن التي تبلغ أربعة أمثالها في مصر؛ عذرنا أولئك الذين فضلوا ترك معظم أراضيهم بائرة.
ولقد صارحنا بعض المسئولين بأن خطة الحذر هي التي يجب اتباعها، لا سيما وأن الطبيعة نفسها تفاجئ البلاد بين وقت وآخر بنكبات زراعية متأتية من احتباس الأمطار أو فرط تدفقها، ومن اشتداد الرياح ودرجة حرارتها، وما ينتاب الحاصلات من الآفات الزراعية التي يشتد فتكها حين تكون الأحوال الجوية ملائمة لها، وهم يرون من ثم ضرورة الاعتصام بتكوين احتياطي مالي لتلك الطوارئ المتكررة، ويؤثرون عدم التوسع في المشروعات إلا بمقدار.
فيستخلص مما بين آنفا أن ظروف السودان الاقتصادية المالية لا إغراء فيها ولا مطمع لرأس مال الماليين؛ إذ إنهم يجدون من المخاطر ما لا يشجعهم على توظيف أموالهم في السودان إلا إذا توقعوا ربحا يزيد على ما يكتفون به في بلاد أخرى ذات استقرار اقتصادي يطمئنهم على غدهم. وعلة أخرى يجب الإيماء إليها هي مسألة الضرائب وأنها غير ثابتة، بل تفرض السنة بعد السنة حسب حالة المحصول. والجاري الآن أن ما يؤخذ من الفدان المزروع هو عشرة قروش.
أما الأمن فمستتب في البلاد وإن كانت الوحوش الضواري لا تحترمه في أحوال جمة. ثم إن السودانيين محبون للنظام، فإذا كان في ذلك شيء من الفضل لأساليب الحكومة فلا جرم أن جل الفضل فيه لأخلاق السودانيين الأصليين الذين يميلون إلى احترام القوانين ورعاية الحدود، وهذا إلى ما توسمنا فيهم من صفات الشمم والإباء وما أعجبنا به من معاملة الموظفين منهم للجمهور. ولا نغالي إذا قلنا إنها معاملة يضرب بها المثل. وربما كان لجري الموظفين الإنكليز على نفس هذه الخطة من المحاسنة سبب يستفاد من هذه القدوة بجانب السبب الآخر الذي يخامر الظن، وهو تحببهم إلى الشعب.
وما ينبغي لنا أن ننتهي من هذه النظرة العامة في الحالة الاقتصادية بالسودان من غير أن نذكر ما تأثرت به تلك الحالة على أثر خروج الجيش المصري من تلك البلاد، فإن الأهلين أنفسهم يبدون أسفهم لذلك الجلاء الذي حرم ديارهم المنافع التي كانت تصيبها من نفقات ذلك الجيش، وكانت لا تقل عن مليون جنيه سنويا في بلد ميزانيته أربعة ملايين جنيه.
فإذا تبين المصري كل ما أوردناه من الاعتبارات بقي عليه قبل أن يقصد إلى السودان للتملك أو للاشتراك في عمل اقتصادي آخر أن يحصل على اطمئنان في ذهابه وإيابه وفي إقامته وممارسته لأعماله هناك.
ولا يتحقق ذلك إلا بأن ترفع جميع العراقيل الموضوعة الآن دون دخوله السودان ومكوثه فيه، وبعبارة أصرح يجب إذا أريد ارتباط البلدين بربط وثيقة من الوجهة الاقتصادية أن يعامل المصري في ذلك القطر من جميع الوجوه كما يعامل السوداني إذا حل في مصر.
أما إذا تفاوتت هذه المعاملة أو وقع أي شرط وقيد دونها فذلك في رأينا يكون هادما من الأساس للدعائم التي يقوم عليها استئناف الصلات الاقتصادية، ومفسدا لنموها وازدهارها؛ إذ ليس لناصح أن ينصح بتجديد تلك الصلات إلا إذا استوثق من زوال هذه العقبة. (8) الحالة الزراعية في السودان
بعد هذه النظرة العامة يتعين علينا تفهم حالة السودان من الناحية الزراعية بتفصيل أوفى كما أشرنا. وهذه الناحية ستتناول تعرف طبيعة التربة ووسائل الري ومسألة اليد العاملة ومسألة النقل، وكل أولئك في المناطق التي زرناها وسنذكرها واحدة واحدة. (1)
منطقة طوكر:
مساحتها القابلة للزراعة نحو 350 ألف فدان تستمد ريها من نهر بركة الذي يفيض في شهر يولية أو أغسطس من كل عام فيغمر من تلك الأراضي نحو 60 ألف فدان. وفي العام التالي ينتقل فيضانه تدريجيا إلى شقة أخرى منها، تاركا جانبا مما غمره في العام الماضي، وآخذا بجانب مقابل من هذه الشقة، وهكذا دواليك عاما بعد عام إلى أن ينتهي بإرواء الجزء الأخير من المنطقة المذكورة بعد مضي خمسين عاما في قولهم، ثم يعود سيرته الأولى. فجملة ما يزرع في كل عام من منطقة طوكر لا يعدو ما يقرب من ستين ألف فدان. والأهلون يتبعون فيضان النهر ويزرعون القطن المغمور على الطريقة البعلية؛ لأن مياه النهر لم تضبط في أقنية تسمح بالتصرف فيها كما هو الشأن في نهر القاش الذي سيأتي الكلام عليه.
ومعدن هذه الأرض رملي خفيف جملة ورملي صرف في بعض النقط وخصبه متوسط، ومحصوله من القطن السكلاريدس - وهو الوحيد الذي يزرع فيه - تقل كميته، ولكن تجود تيلته في الأغلب. وقلة إنتاج الفدان متأتية من وجود كمية من الرمل وفيرة تمتص رطوبة الأرض بسرعة، وليس هناك وسيلة لسقي الزرع وهو قائم إلا ما تدره السحب. ويلاحظ أنه لا يمكن زرع كل المساحة المروية في كل عام قطنا؛ لأنه يتخلل تلك المساحة بقاع رملية صرفة لا تصلح لإنباته، ففي هذا العام مثلا لم يزرع من الستين ألف فدان التي غمرت سوى 42 ألف فدان قطنا و7500 فدان ذرة، وقد أتلف الهبوب والهيباي عشرة آلاف فدان من جملة هذه المساحة، فبقي 32 ألف فدان يقدرون محصولها في هذا العام بنحو خمسين ألف قنطار، وهو محصول يعد قليلا. أما محصول الفدان في الموسم الماضي فلم يزد على
القنطار. والزرع هناك على امتداد متر بين الشجيرة والأخرى ليستبقى ماء كاف تستطيع الشجيرة أن تمتص منه ما يكفيها، ولذلك يكون ارتفاعها من 90 سنتيمترا إلى مترين ونصف متر. والجمع يبتدئ من نوفمبر لغاية يونيه؛ لأن التلقيح يستمر طوال هذه المدة. والزراع هم قبيلة «الهدندوة» التي يسميها الإنكليز «فازي وازي»، أي أصحاب الشعور المنقوشة، وهم شجعان لهم مواقع مشهورة، غير أنهم لا يحسنون خدمة الزراعة.
وطريقة الاستغلال هي أن الحكومة تقسم الأرض على الأهلين لزراعتها كل سنة، وتعطيهم البذرة، وعند حلول المحصول تأخذ هي الربع والأهالي الثلاثة الأرباع بعد خصم ثمن البذرة، وفيما يتعلق بهذه البذرة يلاحظ أنهم يعطون أردبا واحدا لزرع 20 فدانا، فإذا أتلفت العوامل الجوية بعضها فهذا البعض لا يدفع المزارع ما يخصه من ثمن البذرة. ومحصول طوكر يحلج في محلج دباس بسواكن، وينقل إلى ذلك المحلج من سوق طوكر التي تتوارد إليها المحصولات بديكوفيل ممتد منها إلى ميناء سنكات ثم بحرا إلى سواكن. (2)
منطقة نهر القاش:
هذه المنطقة شهيرة أيضا بدلتا القاش ومحطتها أورما.
ينبع نهر القاش في بلاد الحبشة، ثم يمر ببلاد الأرترية من جهة تيسيناي، حيث عمل الإيطاليون خزانا لزرع بعض الأراضي سيأتي الكلام عنها، ثم يهبط في دلتا القاش بالسودان، وفيها أقيمت جسور وحفرت ترع للتحكم في مياهه وقت الفيضان وتوجيهها إلى أي جزء من الأراضي الصالحة للزراعة بهذه الدلتا. وعادة تبتدئ مياه هذا النهر بالفيضان في شهر أغسطس، ويبقى جاريا حوالي شهرين بعدهما يجف تماما. ونظام الري هو أنهم حفروا المياه في ترعة رئيسية تتفرع منها ترعة فرعية في كل سنة يستخدم منها ما تحتاج إليه الأفدنة المخصصة للزرع في تلك السنة. وطريقة الزراعة هي البعلية، ومساحة هذه الدلتا حوالي 260 ألف فدان يزرع كل سنة منها حوالي 50 ألفا بالتناوب. وفي هذه السنة بلغ ما زرع 41 ألف فدان منها 7500 للذرة والدخن والفاصوليا والباقي للقطن، وقد تلف من هذا الباقي حوالي 5000 فدان بالعوامل الجوية، فيبقى 28 ألفا وخمسمائة فدان زرع في أغلبها السكلاريدس، وفي سائرها صنف أمريكاني مؤقلم في السودان اسمه ويبر.
هذه الأراضي تعد من أخصب أراضي الطمية لا أملاح بها إلى عمق مترين، ومحصول الفدان منها بين قنطارين وأربعة قناطير تبعا للسنوات، وهو محصول يقل كثيرا عما كان يجب أن تجود به أرض بذلك الخصب، ولكن زرعه على الطريقة البعلية وعدم إمكان مده بالمياه في أوقات افتقاره إليها، وطروء العوامل الجوية المعاكسة، وقلة الأيدي العاملة والفلاحين الممرنين، كل تلك من علل هذا النقص في المحصول.
ويلاحظ أنه من غير المستطاع عمل آبار ارتوازية لتساعد على الري؛ لأن طبقات الأرض في هذه المنطقة ليس بها عرق مائي يكفي لإرواء مساحة كهذه مزروعة قطنا، حتى إن المقيمين في أورما يجلبون مياه الشرب من مسافة 19 كيلومترا باستخدام طلمبة ارتوازية صغيرة، وهذه المياه تخزن في فناطيس، ويوزع منها على كل مزارع.
وقد لاحظنا أيضا أن شجيرات القطن على مسافات أضيق من المسافات بين شجيراته في طوكر. والسبب في ذلك هو أن هذه المنطقة تستطيع أن تحفظ الرطوبة أكثر من تلك فتغذي عددا أوفر من النباتات.
كانت دلتا القاش في الماضي في حيازة شركة كسلا الزراعية البريطانية. فلما أنشئ مشروع الجزيرة على النيل الأزرق استبدلت الشركة بأرضها هذه أرضا في منطقة الجزيرة، وأصبحت الآن دلتا القاش ملكا للحكومة تعطيها للأهالي بحصة قدرها 40 في المائة لها و60 في المائة للأهالي، وعليهم في مقابل هذه الحصة مصاريف الزرع والجني وثمن التقاوي. أما الذرة والحبوب الأخرى التي يزرعونها فكلها تترك لهم.
ومما يجدر بنا ذكره أن القطن الويبر الأمريكي يغل في السنوات المقبلة وفي بعض النقط الجيدة 9 قناطير من الفدان.
وقبل الانتقال إلى الكلام على منطقة الجزيرة استصوبنا أن نتكلم على جزيرة أبا المملوكة ملكا حرا للسيد عبد الرحمن المهدي، ومساحتها حوالي 40000 فدان لسيادته، منها 30 ألفا، والباقي لأفراد أسرته.
هذه الجزيرة واقعة في وسط النيل الأبيض، وتربتها ذات طمية خفيفة يتخللها الرمل، ويزكو فيها الزرع، وهي تروى من مياه النيل الأبيض قبلي خزان جبل الأولياء بواسطة أربع مضخات منها اثنتان احتياطيتان قطر كل منهما 16 بوصة، واثنتان جديدتان قطر كل منهما 22 بوصة، تديرهما آلتان قوة كل منهما 210 أحصنة «ماركة بترس»، وتدوران بالغاز الوسخ، وهاتان المضختان ومحركاهما حديثة. رخص لها بالتركيب والإدارة في سبتمبر سنة 1933، أي بعد اتفاقية المياه، وكلفة الإرواء للفدان الواحد تبلغ 80 قرشا طول السنة.
يزرع في هذه الجزيرة القطن السكلاريدس، وقد وجدنا منه عند زيارتنا 3500 فدان ستزاد في العام القابل إلى 50000، ثم تتوالى زيادتها عاما بعد عام، ويتوقعون أن يكون محصول الفدان من القطن 5 قناطير في هذه السنة، ويزرع في الجزيرة أيضا من الحبوب ما مساحته 3500 في هذا العام.
والزراع هناك نوعان: المقيمون والمستقدمون، فالمقيمون وهم من أتباع المهدية يعملون بلا أجر معين مقابل أن يتكلف السيد بنفقاتهم ويربي أولادهم في مدرسة أنشأها في الجزيرة لهم، وهو يعاملهم معاملة الأب لأبنائه، وأما المستقدمون فلهم 40 في المائة من محصول القطن تخصم منها تكاليف الزراعة كافة.
أما الطريقة الزراعية في جزيرة آبا فمماثلة للتي تتبع في الجزيرة مع فروق بسيطة والري كل 12 يوما مرة. (3)
منطقة الجزيرة:
وتسيطر عليها النقابة الإنكليزية المعروفة بنقابة زراعة القطن في السودان
Sudan Cotton Plantaion
مساحتها أربعة ملايين فدان تقريبا، منها مليون غير صالح للزراعة، وقد باشرت النقابة المذكورة زرع القطن منذ 17 سنة، فزرعت حتى الآن 704 آلاف فدان، منها في هذه السنة 166 ألف فدان كلها سكلاريدس و10000 فدان زرع فيها قطن جديد اسمه
X
1530 - وهو نوع استنبت في السودان وسط في الجودة بين السكلاريدس والجيزة «7»، ولكنه ذو غلة وفيرة وأكثر مقاومة لفتك الآفات.
والذي أمكننا معرفته من طبيعة أرض الجزيرة أنها طمي إلى عمق يتراوح بين 60 و80 سنتيمترا، وبعد ذلك طبقة مشبعة بأملاح الجبس
Gypson
وسلفات الصوديوم وقليل من البيكربونات؛ مما جعلها صلدة لا تستطيع المياه ولا جذور النبات اختراقها. ومما لوحظ عند أناس اتصلنا بهم ممن خبروا عناصر تلك الأرض أن هذه الأملاح تصعد ببطء تدريجي كل سنة إلى سطح التربة، وإذا لم تعمل لها مصارف فسيأتي يوم - على قولهم - تكون فيه الجزيرة غير صالحة للزراعة، ونذكر هنا أن الدكتور بولز نفسه يتفق مع هؤلاء رأيا فيما يتعلق بضرورة إنشاء المصارف بالجزيرة إذا ما أريد الاحتفاظ بخصبها. على أن هناك رأيا فنيا لخبراء من المشتغلين في تلك الجهات مفاده أن عمل المصارف إذا استطيع فعلا لا يكون ذا جدوى؛ نظرا لكثرة الأملاح التي تمنع المياه من اختراق الطبقة السفلى. وهناك رأي مخالف لهذا يجهر به بعض الخبراء الإنكليز المشتغلين بالجزيرة، ويدافعون عنه بقولهم: إنه لا حاجة إلى المصارف في الجزيرة، وإنهم للتثبت منها زرعوا في حقل تجارب بركات قطعة مساحتها نحو فدان مدة 17 عاما متوالية، وقد عاينا فيها محصولا يقدر بما يناهز قنطارا أو نصف قنطار في هذا العام، ويفسرون انحطاط محصول الجزيرة في الأعوام الماضية بقولهم: إنه ناشئ من إصابته بالآفات، ومن عوامل جوية أخرى، مثل تساقط الأمطار الغزيرة بعد الزراعة مباشرة، وعلل أخرى.
على أن زرع الجزيرة في هذه السنة مقبل إقبالا ارتاح له أصحابه، وقد يخرج الفدان في المتوسط ثلاثة قناطير أو تنيف قليلا. وكان في العامين الماضيين ممحلا، وفيما قبلهما كان تارة يمحل وتارة يقبل. ولعل سبب ذلك نوع التربة التي يكون قائما عليها الزرع في مداولة السنين، وليس لنا أن نجزم بصحة هذا الرأي، ولكن من المحقق أن هناك عوامل عدة معاكسة: منها التقلبات الجوية، ومنها الآفات التي تنتاب الزرع وتفتك به فتكا يشتد أو يضعف تبعا لدرجة الجو لها، ونذكر من تلك الآفات: (1)
مرض الذراع الأسود (black arm) : الذي يكون فتكه ذريعا من كثرة الرطوبة التي تحدثها الأمطار الغزيرة في أشهر أغسطس وسبتمبر وأكتوبر. ويقول بعضهم في السودان - ولم يقم دليل على صحة قولهم - إن هذا المرض نقل إلى السودان من مصر، وكان موجودا في بذرة الدومين الذي أخذت منها التقاوي في أحد الأعوام السابقة، وهذا المرض لا يفتك بالزراعة في مصر لجفاف الجو في يونية ويولية وقلة مياه الري. ودواؤه عندهم إحراق الحطب أو إتلاف البذرة. (2)
تجدع الورق
Curly leaf : وهو مرض يسبب التواء الورق وعجز الشجرة عن النمو. وللتفادي من عوده يحرق الحطب والورق المتساقط. (3)
دود اللوز: ولم يستطيعوا مقاومته إلى الآن كما هي الحال في مصر. أما ري الجزيرة فمن الترعة الرئيسية المأخوذة من خزان سنار، وهي لسقي 200000 فدان فقط، ولا ينتفع بها إلا من الكيلو 57، حيث تتشعب منها فروع لسد حاجة منطقة الجزيرة وجميع الري بالراحة، وبين كل دور وآخر اثنا عشر يوما. ويجري البحث الآن في إرواء الأراضي العالية الواقعة قبل الكيلو 57 إما بآلات رافعة أو بعمل حجز على الترعة الرئيسية لتعلية منسوب المياه إن تيسر.
وبمقتضى اتفاقية المياه بين مصر والسودان غير مصرح للجزيرة أن تأخذ مياها مطلقا من خزان سنار من إبريل لغاية يولية ما لم تستوف مصر حاجتها من المياه، وفي الغالب فإن الجزيرة لا تحتاج إلى المياه في هذا الوقت، والأمطار تنهمر بكثرة في المنطقة الشمالية. يسقط منها ما يناهز 35 سنتيمترا في السنة، وفي الجنوب حوالي 50 سنتيمترا.
ويزرعون في الجزيرة من الحبوب الذرة. أما البرسيم فلا يجود فيها البتة بسبب الأملاح الآنف ذكرها.
وعدد الزراع قليل، وهم سودانيون لا يكفون لفلاحة الجزيرة بأكملها، بل يتحتم جلب اليد العاملة له من الخارج.
والأرض توزع على الأهالي كالمتبع في مصر، وعند نضج المحصول تأخذ الحكومة أولا 40٪ منه لتسديد قسط قرض مشروعات الجزيرة، ثم يأخذ الزارع 38٪ يخصم منها مصاريف الزرع وحلج القطن وتصديره لإنكلترا، والباقي وهو 22٪ تأخذه النقابة.
وفي الجزيرة بجوار واد مدني حقل تجارب يدعى حقل بركات أجريت فيه منذ سبعة عشر عاما اختبارات متعددة نتيجتها أنه بعد أن كانت الدورة الزراعية كل ثلاث سنوات مرة أصبحت كل أربع سنوات مرة ابتداء من هذا العام.
والأرض التي يزرع بها القطن في عام تزرع بعده إما فاصوليا أو ذرة وتترك بورا سنتين، ثم تزرع قطنا مرة ثانية. وقد لوحظ أن الأرض التي تزرع فيها الفاصوليا تنتج عند زراعتها قطنا في الدورة التالية أكثر غلة من التي تزرع ذرة.
وجميع الحرث بالآلات تقوم به النقابة على أن تخصم تكاليفه بالضبط وبلا زيادة من حصة الزارع. وبذرة القطن جميعا يستخرج منها زيتها، ثم تجعل كسبا، وذلك لتقليل الآفات. ولهذا فبذرة الجزيرة للتقاوي تجلب دواما إما من مصر أو من منطقتي طوكر والقاش. وجميع قطن الجزيرة يباع في ليفربول بمعرفة النقابة. وتزرع في الجزيرة سنويا مساحة موازية لمساحة القطن من الحبوب، مثل الذرة والفاصوليا، والمحصول بأكمله يترك للزارع. ويلاحظ أن هذه الحبوب تزرع على مياه الأمطار ويلاحظ كذلك أن القمح لا يجود في هذه المنطقة. (4)
منطقة الخرطوم وما حواليها:
يوجد بحري الخرطوم حقل تجارب حكومي يسمي شمباط فيه إخصائيون بعلمي النباتات والكيمياء يبحثون في كل ما هو متعلق بالزراعة من مثل تحسين طرقها، واستنبات الأنواع الجيدة منها، ومقاومة آفاتها. وقد وجدنا ذلك المكتب منظما تنظيما يستوقف النظر، وألقى فيه علينا المستر ماسي العالم الكيمائي محاضرة تناول بها علل القطن واحدة واحدة شارحا تطوراتها ووسائل علاجها، ففهمنا من بيانه أنهم استطاعوا أن يتغلبوا على مرض الذراع الأسود وتجدع الأوراق : الأول بتحويل البذرة إلى كسب بعد استخراج زيتها، والثاني بإحراق الحطب كما ذكرنا آنفا. وقد ظهر لهم أن القطن المسمى
X
1530 ذو مناعة طبيعية ضد التواء الورق. والمنتظر أن هذا الصنف من القطن سيكون له المستقبل في الجزيرة.
وشاهدنا هناك بعض الأصناف المصرية الجديدة التي ما زالت وزارة زراعتنا تختبرها بعد أن استنبتتها. ومن الأسف أن ال
X
1530 لا وجود له في حقل تجارب وزارتنا، وكان يجب أن نجرب أصنافهم كما يجربون أصنافنا. ووجدنا في الحقل قطعا شطرنجية زرعت فيها أصناف جديدة يختبرونها ويحافظون على شجيراتها بتغطيتها بملاءات الشاش على الطريقة المعروفة.
ووجدنا أيضا قطعة أرض زرعها نام نموا عظيما بحيث لا يقدر محصول الفدان بأقل من 7 قناطير، ويا حبذا لو جربت وزارة الزراعة والجمعية الزراعية الملكية هذا النوع في نطاق واسع وعلى توالي السنين لمعرفة ما تنتهي به التجربة بعد تأقلم هذا الصنف مدة طويلة.
ومما لمحناه أن حقل التجربة هذا متسع بما يزيد كثيرا على مساحة حقل التجارب بالجيزة. وهو يروى بطلمبات تديرها ماكينات ديزل مركبة على صنادل من حديد لسهولة نقلها من محطة إلى أخرى، وهذه الصنادل تعلو وتنخفض مع ارتفاع مياه النهر وانخفاضها. وبهذه الطريقة يقتصد من نفقاتها ما يستطاع لو ثبتت على بناء.
أما الأراضي الأخرى الواقعة بحري الخرطوم مباشرة، والتي يملكها الأهالي، فقد زرنا منها مزارع حضرات عزيز كفوري أفندي، ومستر كونتوميخالوس، والدكتور معلوف، وإبراهيم بك عامر. فوجدنا التربة من الطمي الخفيف ذات خصب فوق المتوسط، ووجدنا في المزرعة الأولى قمحا يبشر بمحصول جيد جدا، ولكنهم لا يزرعون فيها القطن بالنظر لفداحة تكاليف حلجه ونقله وما تتقاضاه الحكومة من إتاوة عليه؛ مما يجعله غير مربح بأسعاره الحالية.
وفي الحقول الأخرى قد اقتصروا أيضا على الأصناف الشتوية، وتركوا القطن في هذا العام عدا مستر كونتوميخالوس فقد زرعه. وزرعه دون المتوسط.
وهناك حدائق فاكهة شجرها نام أحسن نمو، ولكن قيل لنا: إن ثمار البرتقال واليوسفي بالرغم من كبر حجمها ليس لها طيب المذاق الذي للثمار المصرية، وذلك أنها تنضج عاجلا بتأثير الحرارة الزائدة.
أما عامة الأصناف الأخرى كالليمون المالح والتين والجوافة والمنجة وخصوصا الموز فجيدة، غير أننا علمنا أن بعض هذه الحدائق تصاب بذبابة الفاكهة، ولا يستعملون فيها طريقة العلاج المستعملة في مصر، وهي الرش بالفلوسليكات الصوديوم، حتى إن بعضهم طلب منا إرسال التعليمات الخاصة باستعمالها، وقد أجبناه إلى هذا الطلب. (5)
العطبرة وبربر:
هذه الأراضي من معدن أراضي بحري الخرطوم تقريبا مع تفاوت قليل، وتصلح مثلها لزراعة الحبوب والقطن على ما ظهر لنا، وهي ملك لأهالي السودان ولفريق قليل من المصريين.
وتروى هذه المنطقة بالآلات الرافعة، وجوها أكثر ملاءمة للزرع؛ نظرا لموقعها الجغرافي.
ففي زيداب مثلا مساحة قدرها 5000 فدان يفضل قطنها قطن الجزيرة غلة وتيلة، وتجود فيها الحبوب وخصوصا القمح، فقد يبلغ محصول الفدان منه 8 أرادب.
وعلمنا أن ثمن الفدان الجيد فيها مما يروى من الساقية 10 جنيهات. وكثير من أهالي هذه المنطقة يؤثرون أن يستخدموا سفرجية في مصر والسودان فيحرمون الزراعة من يد عاملة تساعد على إبقائها.
وفي مجموع هذه المنطقة، المسماة بمديرية الشمال، يتمتع الأهالي بسعة من العيش بسبب انصرافهم إلى الخدم المذكورة، وهم يفحشون في تعاطي الشاى بحيث إنه أحصى ما يستنفده كل واحد من السكر، فوجد أنه (42) رطلا في العام مع غلاء السكر لاحتكار الحكومة إياه، في حين أن البريطاني لا يستهلك من السكر أكثر من (200) رطل في السنة. ويحسن أن نذكر هنا أن في العطبرة عددا كبيرا من المصريين تستخدمهم مصلحة السكة الحديدية التي جعلت تلك العاصمة مركزها العمومي، وفيها ناد كبير للمصريين أكبر من النادي المصري بالخرطوم.
نضيف إلى ما تقدم أن الدوم مزروع بكثرة في هذه المنطقة، كما أنه يوجد أيضا في جهات أخرى من السودان، ومحصوله يعد من موارد ذلك القطر؛ فإن الدوم يستعمل لصنع الأزرار في أوربا، وقد أنشئ مصنعان لعمل تلك الأزرار في العطبرة أحدهما لمصري استوطن السودان والآخر لإيطالي. وهذه الأزرار تصدر إلى إنكلترا وإيطاليا بنوع خاص، حيث تصبغ وتعرض للبيع. ولما كان في أسوان أشجار من الدوم كثيرة العدد فيحسن أن تتجه الأنظار إلى استغلال ثمارها صناعيا كما هو جار في السودان. (6)
تيسينايا في الأريترية:
أما وقد انتهينا من وصف مناطق الزراعة بالسودان فلا يخلو من الفائدة أن نقول كلمة عن منطقة تيسينايا الإيطالية في الأريترية.
ذهبنا إليها من كسلا، وهي تبعد عنها نحو 62 كيلومترا: يقوم بزراعة تلك المستعمرة شركة إيطالية يديرها السنيور جاسباريني الحاكم العام للأريترية سابقا، وهي تروى من نهر القاش، حيث أقيم خزان يقال إنه أنفق عليه نصف مليون جنيه، وبوساطة هذا الخزان تأخذ تيسينايا المياه بالقدر المتفق عليه بين حكومة السودان والحكومة الإيطالية؛ أي إن منسوب المياه إلى حد معين للأرترية، وما زاد على ذلك فهو للسودان.
والمساحة التي تسنى لهم زرعها قطنا إلى الآن 2500 فدان يعطي الفدان منها في هذه السنة ( ) قنطارين ونصف قنطار من السكلاريدس.
والأشموني لا يصلح في هذه المنطقة كما لا يصلح الأمريكي لشدة إصابته بدودة اللوز، وقد جرب زرع الأمريكي والسكلاريدي في قطعة واحدة من الأرض فأصيب الأول بالدودة دون الثاني. ومحصول العام الماضي كان رديئا، ومعدن الأرض متوسط الجودة، غير أن طريقة الزرع هي البعلية، والفرق في أسلوب الزراعة هو أن المسافة بين الشجيرة والأخرى 130 سنتيمترا تبعا لتجاربهم، والذي تبيناه أنه أنفق على إعداد هذه المنطقة للزراعة ما لا يؤمل أن تعطيه من الربح ما يتناسب معه مهما جادت.
أما طريقة الزراعة، فإنهم يوزعون الأرض على الأهالي، ويقرضونهم مبالغ على كل عمل من أعمال الزرع، حتى إذا ما حل حين المحصول يكون مجموع ما اقترضه كل شخص 40 ليرا عدا ثمن التقاوي، وكل ذلك يخصم من حصته التي توازي 50 في المائة. وهناك محلج للقطن فيه معصرة لزيت البذرة يصنع منه صابون لتوزيعه بالثمن على الأهالي.
أما الكسب فيستعمل غذاء للمواشي أو سمادا للزراعة. والذرة جميعها للفلاح.
ومياه القاش تحصر في ترع على مثال ما يجري في دلتا القاش. ولما كانت المساحة القابلة للزراعة في هذه المنطقة 26 ألف فدان. فهم يرجون أن يعدوا 2500 فدان أخرى للقطن في العام القادم .
على أن زيادة الأراضي التي تزرع قطنا متوقفة على كمية ما يفيض من نهر القاش سنويا. •••
إلى هنا انتهى بنا وصف ما وقفنا عليه من الحالة الزراعية في المناطق التي زرناها. ونود قبل ختم هذا التقرير لو يسمح لنا بكلمة نزيدها، هي، من جهة، معوان على التقدم الزراعي السريع في السودان. ومن جهة أخرى قد تكون مرشدا للمصري الذي يريد أن يمد يده إلى يد السودان لتحقيق هذا التقدم.
من القواعد المأثورة التي جرت عليها جميع الأمم حين تعتمد إلى تأسيس اقتصادي في بلد بكر كالسودان أن تمنح كل وسائل المؤازرة والترغيب، وفي مقدمتها بالطبع تسهيل طرق الزراعة نفسها، ثم توفير وسائل نقل الإنتاج بكلفة قليلة، وتشجيع تصديرها إلى الخارج ولو بمنح جوائز للتصدير ما زالت تمنح في كثير من البلدان. وقد قلنا: إن تكاليف النقل باهظة إلى حد أنها تثني الأهلين عن بعض مزروعات تجود في أرضهم؛ لأن تلك التكاليف تحملها ما لا تطيق، فترخيص النوالين أمر ضروري، وكذلك ترخيص أجرة البريد والتلغراف، وتعبيد الطرق لسيارات النقل، ومن أكبر المغريات للمصريين على استيطان السودان لغرض زراعي أن توصل البلدان من الشلال إلى حلفا بخط حديدي علمنا أن إنشاءه لا يصادف عقبات طبيعية كبيرة.
ولا ننسى بجانب ذلك ما يكون من شأن لمد الأسلاك التليفونية بين القطرين.
ويسرنا أن نرحب كل الترحيب باللجنة الاقتصادية المشتركة التي شرع في تشكيلها، وستجمع من رجالات مصر ومن رجالات السودان خيرة من تناط بهم الشؤون التي ستهتم بها تلك اللجنة، فإنها تستطيع أن تذلل أولا فأولا كل صعوبة تحول دون تنمية صلات البلدين وتقويتها.
أما مسألة تملك المصريين بعد أن تكون قد أزيلت جميع العوائق التي أشرنا إليها في أثناء هذا التقرير، فهي مسألة نسبية وتقديرية يرجع فيها إلى رأي كل راغب في التملك: فقد يكون اقتناء أرض متوسطة الجودة أمرا مربحا إذا أمكن الحصول عليها بثمن ملائم، وأمكن استغلالها باطمئنان، واستطاع صاحبها أن يستكثر لها اليد العاملة، وهي من كبريات المصاعب في السودان كما أشرنا آنفا.
وجملة القول: إننا ننصح للذين يخطر لهم هذا التملك - خصوصا إذا أخرجت إلى حيز الوجود فكرة إنشاء شركة مصرية سودانية لهذا الغرض - أن يكون ما تبدأ به دراسة جميع العوامل الاقتصادية والزراعية في المنطقة المراد شراؤها، فتناط تلك الدراسة بإخصائيين يباشرونها محليا. فإذا تملكت تلك الشركة بعد المباحث الوافية، فهي ستفيد المصريين أفرادا بخبرتها المكتسبة من ممارسة العمل، وسيتسنى لها أن ترشدهم إرشادا محكما مأمون العاقبة بالقدر الميسور.
وإذا تكلمنا عن التملك فلا يفهم مما نرمي إليه أننا نقصد استنبات صنف معين كالقطن، بل الذي نراه وننصح به أن يتخير المصريون المناطق الشمالية التي يجود فيها القمح وتعود زراعته فيها على أصحابه بكسب وافر، لا سيما وهو لا يحتاج إلى كثرة من الأيدي العاملة، فإن هذا الاختيار يفيد مصر كما يفيد السودان؛ إذ يغني الأول عن استيراد القمحات الأجنبية يوم نجدها في متناول اليد بالسودان واستيرادها منه يوسع نطاق الصادرات المصرية إليه. وفي ما ذكرناه عن نجاح مزارع القمح التي شاهدناها ما يشجع على درس هذه الفكرة بعناية خاصة.
هذا وإنا لنتمنى من صميم الفؤاد لذلك القطر الذي أكرم وفادتنا إكراما شرح صدورنا، وحرك فينا أواصر الود والإخاء القديم، ثم زادنا سرورا بما تبيناه فيه من طيب عنصر الأهلين وتعطشهم للتقدم والرقي أن يخطو خطوات واسعة في سبيل الرفاهية والعمران، وأن يشترك معه المصريون في هذا العمل الجليل اشتراكا يعود عليهم وعلى جيرانهم الكرام بالخير الوفير العميم.
القاهرة في 10 مارس سنة 1935
يوسف نحاس، مصطفى نصرت، أحمد أبو الفضل الجيزاوي (8-1) مشاهدات عن زراعة القطن في وادي النيل
تقرير قدمه فؤاد أباظة بك إلى لجنة القطن الدولية المشتركة المنعقدة بالقاهرة في 17 و18، و19 فبراير سنة 1934
ننشر التقرير المذكور المؤرخ في 17 فبراير سنة 1934 فيما يلي:
يزرع القطن في جميع البلاد التي يمر النيل بها، ويقدر ما تنتجه تلك البلاد، وهي مصر والسودان وأوغندا والحبشة، بنحو أحد عشر مليونا من القناطير، وإذا أضفنا نحو نصف مليون قنطار مقدار ما تنتجه البلاد المتاخمة مثل الكنغو البلجيكي وكينيا والصومال الطلياني والأرترية، وهي البلاد المكونة لأفريقيا الشرقية والشمال الشرقي، لكان الناتج العام نحو 11500000 - حصة مصر فيها نحو تسعة ملايين قنطار هذا العام، والباقي وقدره مليونان ونصف تخرجه البلاد الأخرى: تنتج الأوغندا منها (260000) بالة، أي 1300000 قنطار باعتبار وزن البالة في هذه الأصقاع 500 رطل، وكلها من النوع الأمريكاني.
أما السودان فمحصوله 700000 قنطار، منها 650000 من القطن السكلاريدس المصري.
وفي الأوغندا يزرع القطن في مساحات صغيرة مبعثرة على التلال والأحراش إلخ، ومن الغريب أن مجموعها ينتج هذا المقدار الكبير. ولقد قمت بسياحة في المنطقة القطنية الأكثر أهمية وزرت غيط التجارب في بوكالاسا الذي لا يبعد كثيرا عن بحيرة كيوجا، وهناك يشتغل الإخصائيون في تحسين صفات القطن. أما مستعمرة كينيا فيظهر أنها تجد من زراعة البن والشاي والحاصلات الزراعية الأخرى أحسن موردا من القطن، وكذلك الحبشة؛ فإن إنتاجها قليل. ولا تزال زراعة القطن عند بدئها في الصومال الطلياني عند جنالي وأفجوي على نهر الوبي شبالي، وكذلك في الإرترية عند تسينايا على نهر الجاش.
أما السودان المصري الإنكليزي ففيه حركة كبيرة في أرض الجزيرة على النيل الأزرق وفي كسلا على دلتل نهر الجاش، وفي طوكر على حوض نهر بركة، وكل هذه المناطق الثلاثة تزرع القطن السكلاريدس، وما بقي من السودان فيزرع القطن الأمريكي.
ويزرع قطن طوكر وكسلا على طريقة ري الحياض بعد فيضان بركة والجاش اللذين لا يتصلان بالبحر، بل تفيض مياهها الغزيرة في الفلاة، وتعقبهما زراعة القطن.
وينبع نهر الجاش في الحبشة مارا بالأرترية، وقد أقامت عليه الحكومة الإيطالية قناطر عند مزرعة تسينايا، ثم يمر بكسلا، وهناك حفرت ترع رئيسية لتأخذ ماء الفيضان منه ويتفرع منها مساق كثيرة.
وفي سنة 1911 شرفني جلالة مليكنا المحبوب بالاتفاق مع عظمة المرحوم السلطان حسين كامل أبي الفلاح، مؤسس الجمعية الزراعية ورئيسها الأول، لزيارة الصومال الطلياني لبحث إمكان زراعة القطن هناك عل جوانب مجرى نهر الوبي شبالي - وعند عودتي من هذه الرحلة زرت الإرترية والسودان، وكانت إقامة سدود على نهر الوبي شبالي ونهر الجاش والنيل الأزرق مشروعات وأفكارا وأماني.
أما في رحلتي الأخيرة في يناير وفبراير سنة 1934، فقد رأيت أن تلك المشاريع قد حققت بالفعل، وزاد عليها جبل الأولياء الذي رأيت العمل فيه قائما علي قدم وساق، كما رأيت تعلية أصوان قد تمت.
ليس من شأن هذه المذكرة بحث المشروعات الكبرى على النيل من إقامة قناطر وسدود وخزانات. ولكن لا مناص من الإشارة إليها لما لها من العلاقة المباشرة للتصرف في مياه النيل لإنتاج مقادير جديدة من القطن للعالم.
فبإقامة خزان سنار على النيل الأزرق (وكان مسمى خزان مكوار) خلقت مساحة جديدة في الجزيرة مقدارها 300000 فدان، زرع منها 80000 قطنا في سنة 25-26 بعد افتتاح الخزان و100000 فدان في موسم 26-27، وقد زيدت هذه المساحات من وقت لآخر حتى بلغت الآن 750000 فدان، منها 180000 فدان تزرع قطنا هذا العام، أي نحو ربع المساحة الجاري ريها، والتي ينتظر أن تنتج نصف مليون قنطار. أما مساحة الجزيرة نفسها فتبلغ أربعة ملايين من الفدادين أو أكثر، وتتعشم حكومة السودان أن تزرع منها ثلاثة ملايين في النهاية وفي المساحة التي يمكن وصول المياه إليها من الترعة التي حفرت بموازاة النيل الأزرق، والتي تأخذ المياه مباشرة من خزان سنار، ولكن زيادة الأراضي التي تزرع وزيادة مناسيب المياه التي تؤخذ خاضعة لاتفاقات ومراقبة من الحكومة المصرية ولها علاقة مباشرة بكميات المياه التي تخزن من تعلية خزان أسوان، وإقامة خزان جبل الأولياء وما يتلوهما من مشاريع الري الكبرى في بحيرة ألبرت نيانزا، وشق مجرى النيل في منطقة السدود، ومشروع إقامة سد في بحيرة تسانا في الحبشة، وربما على فيكتوريا نيانزا نفسها في أوغندا.
لم يمكني ضيق الوقت من زيارة بحيرة تسانا مع أن الحكومة الحبشية تفضلت بالموافقة على وضع إحدى طياراتها تحت تصرفي لتنقلاتي في الحبشة، ولم أتمكن من الانتفاع بهذا العرض الثمين؛ لأني كنت مرتبطا بمقابلة لجنة القطن الدولية يوم 4 فبراير ببورسودان لأقوم بزيارتي للسودان مع حضرات أعضاء اللجنة، ولما لم تحضر اللجنة وعدلت عن المجيء، قمت بالرحلة وحدي مع أسفي وأسف الجهات المختصة بالسودان التي رحبت كثيرا بتلك الزيارة - ومن واجبي أن أقرر مع السرور أن جميع التسهيلات لقيامي بهذه الزيارة ووقوفي على دخائل ما يجري هناك من التصرف في المياه إلخ وزراعة القطن، قد قدمت إلي على أحسن وجه مرض. وأضيف على ذلك أن الرجال الإداريين والفنيين في منطقة الجزيرة والجاش كشفوا لي عن مصاعبهم عن طيب خاطر، وكما أن في زراعة القطن عندنا مصاعب وآفات وأمراضا فعندهم قسطهم منها .
ويظهر أن أحسن قطن السودان هذا العام هو ما تخرجه دلتا نهر الجاش، ويأتي بعده قطن الجزيرة، أما قطن طوكر فقد علمت أنه مصاب إصابة كبيرة بمرض التواء الورق، وكلها منزرعة سكلاريدس.
أما الأشموني والأقطان المصرية الأخرى فلم تفلح زراعتها في السودان. ودل القطن الأمريكي على صلاحية زراعته في باقي أقطار السودان، سواء على المطر أو بالري، ولكنه في الوقت نفسه يصاب بالآفات إصابة خطيرة عند زراعته في الجزيرة.
وينتظر أن ينتج الفدان من السكلاريدس في أرض الجزيرة 2,75 قنطارا في المتوسط في مساحة قدرها 180000 فدانا كما أسلفنا أو نحو نصف مليون قنطار بالتقريب، وكذلك مائة ألف قنطار أو تزيد في منطقة الجاش ومائة ألف قنطار أخرى من طوكر وباقي السودان.
وهناك آراء متضاربة عن مستقبل أرض الجزيرة، ومن المصاعب التي تعترض زراعة القطن فيها مرض البلاك آرم ومرض التواء الأوراق، وهما أشدهما خطورة، ويلي ذلك دودة اللوز المصرية والسودانية ودودة اللوز الحمراء، ثم الشلل والسوس والحشرة المسماة تربس.
وقد عثر الفنيون على نبات من السكلاريدس فيه مناعة ضد مرض التواء الأوراق أسموه إكس 1530، وسيزرع منه 10000 فدان في الموسم القادم، وينتظر أن تزرع الجزيرة كلها منه في عام سنة 1935-1936.
وقد يتوقف على نجاح هذا القطن الجديد انتعاش الآمال بزيادة متوسط محصول الفدان في الجزيرة كلها من نصف قنطار إلى قنطار.
ويلاحظ أن مرض البلاك أرم موجود في ترجمته الحرفية الذراع الأسود؛ إذ إن الفروع واللوزات المصابة في أنسجتها تسود ثم تنشف ويتعطل نبات القطن عن النمو والإنتاج.
ولحسن الحظ ليس في مصر أمطار كثيرة كأمطار السودان تساعد على انتشاره، ولكن ذلك لا يمنع أن يراقب سير هذا المرض بكل انتباه خشية ما لا تحمد عقباه، والأمطار في السودان تنزل بكثرة وغزارة عادة في يولية وأغسطس، وهو وقت زراعة القطن في السودان، فتنتشر الأمراض بمساعدة المطر والرطوبة، ويقال إن تفريق الأرض بعد تقليع القطن بآلة خاصة في شهر مايو تفيد في قتل المرض وجار عمل تجارب على ذلك.
ويزرع القطن بالجزيرة الآن في ربع الأرض المنزرعة بدلا من الدورة الثلاثية لتفادي أضرار الحشرات والأمراض الفطرية إلخ.
وتظهر الأملاح في بعض البقاع وعلى جوانب الترع فتشق مصارف سطحية لتصريفها.
أما شق المصارف - كما نعرفه بمصر - فلا ينفع في الجزيرة ذلك؛ لأن أرضها طينية ثقيلة لا تتشرب مياهها بسهولة؛ ولذلك لا تنفذ منها المياه للمصارف.
على أن جميع هذه المصاعب يشتغل في مقاومتها رجال قديرون من مصلحة الزراعة ونقابة زراعة القطن بالسودان من فنيين وإداريين، وقد أعجبت بالمباحث القيمة المنتجة في غيط تجارب الجزيرة في واد مدني وغيط شمباط في الخرطوم بحري، وهناك نقط تجارب ومشاهدات أخرى في أنحاء الجزيرة.
وفي دلتا الجاش غيط تجارب قريب من بلدة أروما، ورأيت فيه مساحة صغيرة منزرعة من القطن الجديد إكس 1530، وإنه ليلذ للناظر أن يرى مساحة شاسعة من القطن في دلتا الجاش تبلغ آلافا من الفدادين عليها ثوب الصحة والنضارة خالية من الآفات والأمراض. لويزاتها ما بين مفتحة وخضراء سليمة حتى القمة من أعلى النبات
ويلاحظ أن زرع القطن في السودان وأوغندا والصومال والأريترية يبدأ في شهر يوليو، ويبدأ الجمع في شهر ديسمبر رويدا رويدا حتى شهر مايو، وفي بعض الجهات يمر الجماعون كل أسبوع لالتقاط كل ما يفتح، وهذه الطريقة تعطي قطنا نظيفا متجانس الدرجة، كما أنه لا يزرع في كسلا وطوكر والجزيرة إلا صنف واحد هو السكلاريدس، وليس هناك ما نعهده في مصر من خلط رتب القطن بعضها ببعض لتوليف ما نسميه
TYPE
تيب. وإني أهنئ مصلحة الزراعة بالسودان لما أصدرته من القوانين واللوائح لنقاوة بذور التقاوي، ومنع خلط أنواع الأقطان ببعضها في المحالج والمكابس كما قد يحصل أحيانا عندنا في مصر، كخلط السكلاريدس بالبليون والفؤادي أو الجيزة 7 أو غيرها في غرفة الفرفرة بالمكابس.
وقد يتساءل إخواننا الغزالون في لجنة القطن الدولية الممثلة لإنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا إلخ: ماذا عملت الحكومة المصرية في القرار الإجماعي الذي أصدره مؤتمر القطن الدولي في مصر سنة 1927 لمنع خلط أنواع القطن بعضها ببعض في مكابس ميناء التصدير وجوابنا - هو بعينه ما أعلناه في مؤتمر بارشلونة في سنة 1929 ومؤتمر باريس سنة 1931 ومؤتمر براج سنة 1933 - أننا غير قادرين على إصداره بسبب هذا النظام الممقوت المسمى امتيازات الذي لا تزال مصر مثقلة بحديده وأغلاله، ولعلنا نتمكن قبل مؤتمر نابلي أو روما سنة 1935 من فكها وإصدار هذا القانون الذي طلب تشريعه ممثلو الدول الأجنبية في مؤتمرات القطن الدولية بإجماعهم وإجماع الممثلين المصريين من الزراع.
3
ولقد وصلت صباح اليوم من رحلتي لإدراك أول انعقاد للجنة القطن الدولية في القاهرة، وتمكنت من تجهيز هذه المذكرة المختصرة على وجه السرعة، وإني آمل أن أكون قد نجحت في وصف زراعة القطن في وادي النيل، وإني مستعد للإجابة على كل ما يقدم لي من الأسئلة والاستعلامات.
وإني مدين لأصحاب السعادة حاكم السودان وأوغندا وكينيا والصومال الطلياني والأرترية، والذين كان لي السرور بمقابلتهم جميعا (عدا سعادة حاكم كينيا)، وحضرات رجالهم الزراعيين والفنيين والإداريين الذين تفضلوا بتسهيل مأموريتي على وجه مرض.
وقبل أن أختتم كلمتي أبادر بالقول بأن العناية تامة بإعطاء مصر ما يلزمها من مياه الري، واستعمال ما يزيد عن احتياجاتها في ري وزراعة أراضي إخواننا السودانيين، ولكن الأحوال في الوقت الحاضر من الوجهة الاقتصادية والتجارية البحتة ليست على ما يرام، بل يلزم زيادة التعاون والتآزر الزراعي والتجاري. أما كيف يكون ذلك فمن الوجهة الاقتصادية البحتة فإن ذلك على حسب تخيلي الضعيف فليس من الصعوبة بمكان. أما من الوجهة السياسية فليس من شأن هذه المذكرة. ا.ه
فؤاد أباظة (8-2) رأي عبد الحميد بك فتحي
تحدث حضرة صاحب العزة عبد الحميد فتحي بك - ناظر مدرسة الزراعة العليا بالجيزة سابقا وعضو مجلس إدارة الجمعية الزراعية وأحد أعضاء البعثة الاقتصادية - عن رأيه فقال:
سأتحدث كرجل زراعي مصري، وأول ما أسجله لإخواننا السودانيين بالفخر هو شدة تعلقهم بمصر وأحوالها وأبنائها، ولا يمكنني أن أوفيهم حقهم من الشكر والتقدير على ما أحاطوا به بعثتنا من الحفاوة والترحيب، ولا أبالغ إذا قلت: إنه كان لقاء أخوين طال عليهما البعد، ولا أخص بهذا فردا أو هيئة، فالكل كان سواء في الغبطة والبشر شعبا وحكومة، زراعا وتجارا وصناعا. حتى إننا شعرنا بلذعة التقصير في القيام بهذا الواجب من زمن بعيد.
ولم تكن هذه الرحلة فكرة طارئة أو بنت اليوم، بل كانت أمنية تجيش في نفس المصري والسوداني على السواء، فالنيل قد جمع بينهما من قرون وآماد، فلم نشعر عند حلولنا في ربوع السودان إلا أننا في جانب من جوانب وادي النيل، فاللغة والدين والعادات كلها واحدة. وأين سرت لا ترى إلا أنهارا وعيونا ووديانا كما ترى في مصر، وحتى النباتات والمزارع والطرق متشابهة تشابها كليا، فهناك القطن والقمح والفول وغيرها.
يزرع القطن في أنحاء كثيرة في السودان، منها ما يزرع بنظام الري، وأكبر ميادينه الجزيرة، ومنها ما يزرع القطن السكلاريدي، ومنها ما يزرع «بعليا»، وهو ما يزرع بعد غمر الأرض بالمياه ولا يروى بعد ذلك، وهذا النوع يزرع في كسلا وتوكر. ففي كسلا أعدت طرق هندسية لغمر الأرض بالمياه. أما أرض توكر فتغمرها مياه نهر بركة وروافده، وتصادف أثناء وجودنا هناك أنهم كانوا يجنون القطن؛ لأنه يزرع عندهم في شهر يوليو وأغسطس.
والقطن البعلي المذكور نام لدرجة كبيرة، وقد بلغ ارتفاع شجيرات القطن نحو 170 سنتيمترا، ويغل الفدان منه نحو ثلاثة قناطير، وهو من النوع الأمريكي، وهو يزرع عادة على مسافات كبيرة، سواء بين الخطوط وبعضها أو بين الشطرات.
ويجرب هناك الآن نوع جديد من القطن يسمى «
X
1530»، وهو مستنبت من السكلاريدي المصري، وميزته أنه يقاوم مرضي «الذراعة الأسود» و«تجعد الأوراق»، وهاتان الآفتان هما أظهر أمراض القطن في السودان.
أما قطن الجزيرة فتقل غلة الفدان منه عنها في توكر وكسلا ومديرية بربر، ويرجع ذلك لكثرة الري وللآفات الزراعية السالفة الذكر. (8-3) زراعات الحبوب
شاهدنا مساحة واسعة لا تقل عن ثلاثة آلاف فدان في بلدة «البوقة» بعد مدينة «بربر»، مزروعة قمحا وفولا وقطنا، ولم نتمكن من تقدير درجة نمو القطن؛ لأنه كان قد نزعت شجيراته في الوقت الذي وصلنا فيه. أما القمح والفول فمن أحسن الأنواع، ولا يقل نموها عما عندنا، والسبب الأكبر في نجاح الزراعة بتلك الجهة راجع إلى الري؛ فإن للحكومة طلمبات للري بها. (8-4) المحاصيل الأخرى
أما المحاصيل الأخرى فكثيرة ويطول الكلام عنها، وأهمها السمسم والأذرة بأنواعها والصمغ والدوم. وتقام للدوم سوق كبيرة يباع فيها ويصدر إلى الخارج، ولعل أطرف ما أحدثك به عن الدوم الذي لا تعتد به في مصر أنه من أمتن العناصر لعمل الأزرار، ومنه تعمل أفخر أنواع الأزرار في العالم.
ولما عرفت فائدته هذه؛ أنشأ أحد التجار معملا للأزرار في العطبرة، ومنه تخرج أنواع الأزرار المختلفة، وليس ينقصها في الوقت الحاضر إلا عمليتا (التخريم) والصبغ، وهي تصدر إلى إنكلترا لهاتين العمليتين فقط، وسمعنا من المشرفين على هذا المعمل أنهم سيتمكنون قريبا من إعداده بآلات التخريم وألوان الصباغة.
لا يخفى عليك أن السودان واسع جدا، وأن التربة لا تختلف كثيرا عن أرض مصر، فهناك أراض سوداء وصفراوية ورملية وحجرية كما هو الحال في مصر وإن اختلفت في النوع من جهة وفي عناصر تركيبها من جهة أخرى، غير أنني أستطيع أن أؤكد لك من الآن أنه يمكن زراعة مساحات لا تقل عن مساحة المنزرع في مصر إن لم تزد، ولا ينقصها إلا المال والأيدي العاملة.
وقد تألف لاتصال القطرين لجنتان واحدة في مصر من أعضاء البعثة وأخرى من إخواننا السودانيين، وسيكون الاتصال بينهما مستمرا لبحث المواضيع الاقتصادية التي تهم البلدين وتنمية العلائق، وتسهيل سبل المواصلات والنقل وغيرها، وقد رأينا بادئ الأمر أن يكون اجتماعنا سنويا ودوريا، بمعنى أننا نجتمع سنة في القاهرة وسنة في الخرطوم لتوثيق العلائق وتنمية موارد القطرين الزراعية والاقتصادية والعمرانية.
ومما يؤسف له أن الاتصال التليفوني بين مصر والسودان لا وجود له في حين تتصل مصر بجميع بقاع الأرض تليفونيا. وقد كان هذا من أهم المطالب التي عنيت بها البعثة، كما أن البعثة رأت أنه لإحكام الروابط بين البلدين، وخاصة من الوجهة الاقتصادية، أن تخفض أجور التلغراف ورسم الطرود ونولون البضائع إلى مثلها في مصر، وعلى ما أظن ستكون هذه المطالب محل عطف السلطات هنا وفي السودان.
وقد خطرت لأعضاء البعثة فكرة إنشاء شركة مصرية سودانية يكون غرضها الرئيسي مشترى أراض بالسودان وزرعها، وهي فكرة جديرة بالتقدير إلا أنها تحتاج لبحث طويل. وتسود الجميع هنا وهناك روح الموافقة على تأليف هذه الجمعية. واعتقادي أن القانون المعمول به في السودان بخصوص عدم تمليك الأرض لغير السودانيين لا يحول دون ذلك؛ لأن هذا القانون صدر من زمن طويل، وكان المقصود منه وقت سنه عدم تمكين بعض الجاليات الأوربية من شراء أراض واسعة كان غرضهم الرئيسي منها المضاربة والكسب. ا.ه (8-5) أراضي دنقلا
الأراضي في دنقلا مساحات صغيرة، وتزرع نخيلا في الغالب. (8-6) أراضي حلفا والخرطوم
والأراضي بين حلفا والخرطوم عالية.
وكبار الزراع: كفوري، ويملك حوالي 4000 فدان، ومسيو كونتو ميخلوس 4000 فدان، ثم إبراهيم عامر بك وغيره.
وكان في بربر شركة الزيداب، وكانت تزرع عشرين ألف فدان.
أسهم شركة السودان الزراعية تباع في بورصة لندن لأي إنسان، وكانت قيمة السهم جنيها، ثم صعد إلى أربعة جنيهات، ثم إلى 22 شلنا، وسعره بين الصعود والهبوط.
ولا يجوز للسوداني أن يبيع أرضه إلا بإذن من مدير المديرية، إذ يفضل السوداني المشتري على المشترين غير السودانيين، وأراضي الجزيرة مسجلة باسم الأهالي.
وقد قسمت الشركة الزراعية أرض الجزيرة إلى أقسام صغيرة كل قسم يسمى «حواشة». والأرض ملك للأهالي، تولت الحكومة عنهم تأجيرها للشركة. والشركة تصلح الأرض وتسلمها إلى الذين يقبلون زراعتها، وتعطيهم التقاوي وسلفية.
تأخذ الشركة القطن وتحلجه في محالجها، ويرسل القطن إلى إنكلترا. (8-7) زراعة الدخان
زراعة الدخان مباحة في المديريات التي كانت تزرعه قبل الثورة المهدية، مثل جبال النوبة ودارفور، وهو على العموم دخان غير جيد، وقد حرم السيد أحمد محمد المهدي - زعيم الحركة المهدية - زراعته، ولما عاد الحكم الحالي في السودان اقتصرت الإباحة في المديريات التي كانت تزرعه قبل الثورة. (8-8) جمعية زراعة القطن البريطانية
4
وقد نشرت في 7 إبريل 1935 جريدة «مانشستر جارديان» حديثا للسر وليام همبوري - رئيس جمعية زراعة القطن البريطانية - وقد عاد أخيرا من مصر والسودان. ومما قاله: «إن زارعي القطن في السودان يتوقعون الحصول في هذا الموسم على محصول أحسن بكثير مما حصلوا عليه في بضع السنوات الأخيرة. وقد حصل الزارع منذ عامين على بذرة جديدة تقاوم دودة القطن، ولكنها لا تقاوم الآفة المعروفة باسم «بلاك آرم» مقاومة تامة، وهذا النوع من البذرة تنتشر زراعته في السودان.
وجاء السكلاريدي الجديد والقديم بغلة جيدة، وينتظر أن يزيد المحصول على ضعفه في العام الماضي، وأن يكون من نوع جيد، وعلى ذلك فإن الآمال بتحسن الحالة الاقتصادية في البلاد أقوى منها منذ بضعة أعوام، كما أن هناك تفاؤلا عاما يشمل البلاد.
وأعرب السر وليام عن ارتياحه إلى زيادة القطن الذي يزرع من بذرة القطن الأمريكي على مياه الأمطار بواسطة أناس لم يشتغلوا من قبل بزراعة شيء للتصدير، وقد كان لهذا تأثير كبير من حيث المدنية، وتقدمت الزراعة تقدما عظيما في المناطق الواقعة في جبال النوبة. والسكان هناك من الإفريقيين المعروفين بالخشونة من طراز رجال العصابات، وهم يعيشون على الفطرة، فلم يتعودوا ارتداء الملابس. وكانوا فيما مضى يظهرون نفورا كبيرا من الاحتكاك بالمدنية، فأخذوا الآن يهبطون من منازلهم الجبلية، ويزرعون كميات معينة من القطن في أراضيهم في السهول. وهم يدفعون ضرائبهم من النقود التي يحصلون عليها من بيع القطن، ويشترون القلائد والعقود والملح والسكر.
ويقدر محصولهم من نوع القطن الأمريكي الذي زرعوه بمياه الأمطار في هذا الموسم بنحو 300 ألف جنيه. ويجد ولاة الأمور أنفسهم الآن أمام مشكلة تحمل بعض الذين يشتغلون بالمشروعات التجارية على الذهاب إلى هذه المناطق لإغراء هؤلاء الجماعة بالبضائع القطنية وغيرها. ومن الصعب تقدير عدد السكان، ولكن لا بد أن يكون كبيرا.
وحكومة السودان مغتبطة بما لزراعة القطن من الأثر في نشر الحضارة بين السكان، ولك أن تقدر معنى هذا القول متى علمت أن الأمر لا يتطلب وضع جنود للحراسة.
ومن المناطق الأخرى التي يزرع فيها القطن بمياه الأمطار، المنطقة الجنوبية القريبة من حدود أوغندا، وبين الملاكال ومنجلا، حيث تقطن في الغالب قبائل الشلوك والنوير التي لم يسبق لها الاشتغال أيضا بزراعة شيء من المحصولات التي تباع. وقد أقلعت هذه القبائل الآن على أن يشن الغارة بعضها على بعض وعن نهب المواشي وسبي النساء، وشرعت تعيش هذه العيشة النافعة.
والتقدم في هذه المناطق ليس سريعا كما هو الحال في منطقة النوبة، ولكن الصناعة في تقدم.
وتحتضن الحكومة الآن جميع الأعمال الخاصة بزراعة القطن وتتولى أمرها. وقد بذلت كل ما في وسعها في أثناء الضيق الاقتصادي لترويج الصناعة التي لو تركت للمصالح التجارية لأصيبت على الأرجح بصدمة قوية.
أما سياسة الرئيس روزفلت الخاصة بحفظ أسعار القطن، فقد نفعت السودان نفعا كبيرا. ا.ه.
تقرير السر وليم همبوري رئيس جمعية زراعة القطن
أصدرت جمعية زراعة القطن البريطانية التقرير الذي وضعه السر وليم همبوري عن زيارته الأخيرة لمناطق القطن في مصر والسودان في مايو سنة 1935. وقد كان من أغراض زيارته درس التسهيلات اللازمة لخزن القطن في بورسودان، والسعي لمعرفة التأثيرات الضارة - إذا كانت هناك تأثيرات - في بالات القطن التي تخزن لمدة طويلة.
ويقول السر وليم همبوري: إنه «لم يجد عيوبا تذكر، سواء في طرق تخزين القطن أو شحنه من ميناء بورسودان، حيث توجد تسهيلات للتخزين يمكن مقارنتها مقارنة حسنة بالتسهيلات الموجودة في موانئ إنكلترا.
ومعامل الحليج التي تملكها الحكومة السودانية في بورسودان حسنة، ومن المحتمل أنها لا تقل من حيث معداتها الحديثة وإتقان العمل فيها.
وينتظر الحصول على محصول جيد من نوع القطن الأمريكي من المناطق التي تروى بمياه الأمطار في جبل النوبة والشقة الواقعة في جنوبها بين الملاكال ومنجلة. وقد تقدمت زراعة القطن تقدما عظيما في جبال النوبة، بحيث يقدر مجموع المحصول في هذا الموسم بنحو 34 ألف بالة من القطن الذي يتراوح طول تيلته بين
و
قيراط، وهو يساوي 80 إلى 100 بنط من كنتراتات القطن الأمريكي، وتوجد في هذه المنطقة بضعة معامل للحليج سيزاد عددها قريبا».
ويقول السر وليم: «إن صناعة القطن هذه كلها أنشأتها مصلحة الزراعة بمساعدة الموظفين الإداريين، وهم لا يزالون يرعونها بعناية، وإذا ذكر المرء بين هؤلاء السكان الذين كانوا منذ أعوام قليلة لا يعرفون شيئا عن المدنية ولا ينتجون إلا غذاءهم وحده، وكانوا مصدر قلق للسلطات المحلية، فإنه لا يسعه إلا الثناء على الذين أقنعوا هؤلاء القوم الذين كانوا يعيشون عيشة العزلة والبداوة بأن يهبطوا من المرتفعات ويصغوا إلى نصيحة الرجل الأبيض ثم ينتجوا محصولا يمكن عرضه في الأسواق تربو قيمته على ربع مليون جنيه يجدون فيها ما يساعدهم على تسديد الضرائب وشراء ما يحتاجون إليه من الطعام وحاجيات المعيشة الأخرى.
وهذه المنطقة لم تستغل تماما، ومن المحتمل جدا الحصول منها على مائة ألف بالة أو أكثر في المستقبل القريب.
وليس هناك شك في أن أرض الجزيرة - بل جميع مناطق القطن في السودان - ستعطي في هذا الموسم محصولا طيبا، سواء من حيث الكمية أو النوع، والواقع أنه ينتظر أن تعطي أرض الجزيرة غلة تزيد على أربعة قناطير للفدان، وقد تصل إلى الرقم الذي بلغته في سنة 1932 وهو 4,03 قناطير.
وبلغت غلة الفدان في كسلا
قنطار مقابل 5,17 في سنة 1932، وهو محصول حسن جدا.
وكل هذا القطن من نوع جيد يمكن استعماله، ولكنه يختلف قليلا من حيث النوع؛ نظرا للأنواع المختلفة التي تزرع من بذرة السكلاريدي التي لا يستهدف بعضها للأمراض والآفات. ا.ه. (8-9) الزراعة في منطقة سنكات
وصف الأديب صالح عبود بالخرطوم بحري «سنكات» فقال:
سنكات إحدى مراكز مديرية (كسلا) محاطة بالجبال، هواؤها جاف ومعتدل طول أيام السنة، وهي من أكبر مصايف السودان، يقصد إليها المصيفون بكثرة من مختلف الجهات المجاورة وغيرها. حتى إن المساكن قد تضيق بهم في بعض الأحايين فيضطرون إلى السكنى في جيبت التي تبعد عنها بنحو 8 كيلو تقريبا، وهي نقطة بسيطة الآن، وجميع أشغالها مرتبطة بسنكات. أما سوق سنكات فلا بأس به، غير أن حركته التجارية تنشط في أيام المصيف التي تبتدئ غالبا من شهر مايو وتنتهي في أواخر أغسطس من كل سنة، وأحيانا تمتد لغاية أكتوبر، وذلك يتوقف على الري في إقليم طوكر، وبعد انتهائه يغلق أغلب أصحاب الحوانيت محلاتهم ويقصدون إلى بورت سودان وسواكن وطوكر؛ لأن المصيفين معظمهم من مزارعي طوكر.
شجرة الجوافة تؤتي أكلها في سنتين إلى ثلاث من تاريخ غرسها، بينما في الخرطوم لا تثمر في أقل من خمس سنوات، وهذا مما يدل دلالة أكيدة على أن أرض الأولى أخصب وأنتج للفاكهة لأن طينتها مخلوطة بالرمل، وأرض الثانية طينية لا تصلح كثيرا للفاكهة إلا بعد مزج تربتها بالرمل والسباخ.
وفي سنكات بعض بساتين، ولكن ماذا يوجد في هذه البساتين يا هل ترى؟ الجواب لا شيء، إلا القليل من البقول الصيفية التي تكثر زراعتها في الصيف، كالملوخية والباذنجان والفجل والجرجير والبطيخ الذي ينتج بكثرة في بعض السنين ويكون موردا لربح عظيم، وليت أصحاب هذه الجناين فكروا في زراعة ما هو أدر للربح وأنفع كأشجار الفاكهة والبطيخ، ولا شك في نجاحها لو عرفوا كيفية توليدها بطريقة التجنيس واستجلاب البذور من مصر والخرطوم، على أني لا أقول لهم أن يتركوا زراعة الخضروات التي تعوضهم أتعابهم، وقد يلاحظ بالسوق كثير من أنواع الفاكهة والخضروات المستجلبة من داخلية البلاد والخارج في أيام المصيف التي يمكن الاستغناء عن استجلابها فيما لو خصت هذه الأرض بعناية من الحكومة بتشجيع أهالي سنكات ماديا لزراعة أنواع الفاكهة هناك، كان يمكن تصدير الفاكهة من سنكات للخارج، وقبل أن أختم هذه العجالة أريد أن أنوه عن الرمان الذي ينتج بكثرة في أركويت، ولكن مع الأسف الشديد لا يوجد من يهتم باستثماره، وأركويت لا تبعد عن سنكات بأكثر من عشرين كيلو، وهي العاصمة الصيفية لصاحب المعالي حاكم السودان العام، وفيها فندق كبير تحت إشراف مصلحة السكة الحديد يؤمه المصيفون الأورباويون برحلات منظمة تديرها المصلحة المذكورة في أوقات مخصوصة من السنة، ولا يوجد فيها فندق للوطنيين.
وفي سنكات توجد جنينة للحكومة منتظمة بالنسبة لبقية الجنائن الأخرى يحتكرها نادي توفيق بك في المصيف، ولا يوجد بها من الأشجار الصالحة إلا بعض من شجيرات النخيل والرمان، ومن هنا يظهر لي أن أصحاب الجنائن لم يفكروا، ولولا ذلك لما أهملوا هذه الأرض التي تدر عليهم أضعاف ما ينفقون . ولو شمروا عن ساعد الجد وابتدأوا من الآن باستحضار الأشتال، والشتلة الواحدة من الفاكهة لا تكلفهم أكثر من مائة مليم بما في ذلك نولون السكة الحديد؛ لجنوا ربحا طائلا في أقرب ما يتصوره العقل من الزمن، وأسباب المياه متوفرة لديهم، وفيها بعض الخواص المعدنية المفيدة لنمو النباتات.
ولا أكون مبالغا إذا قلت إن بعض المساكن في سنكات توجد بها حدائق صغيرة غناء تثمر طيبا كحديقة حضرات الشيخ عبد المجيد فضل المولى من كبار مزارعي طوكر والشيخ محمد عبد الرحمن من كبار مزارعي طوكر أيضا وآل عبود، فليتخذوها أنموذجا لهم، وفيها من البرتقال واليوسفي والنارنج والليمون والجوافة والعنب والياسمين ما يشرح الصدور فهنيئا لهم بما غرست أيديهم. ا.ه.
هوامش
الفصل الخامس والعشرون
جغرافية السودان ومصر
يقع السودان «الحالي» في الشمال الشرقي من أفريقية جنوبي مصر، يبدأ منها عند خط العرض 22° إلى جنوب الخط 5° من العرض الشمالي، ويبلغ طول هذه المسافة 1200 ميل، ويحد السودان شمالا بمصر وشرقا بالبحر الحمر وأريترية التابعة لإيطاليا وبلاد الحبشة، وغربا بأفريقيا الاستوائية الفرنسية، وجنوبا مستعمرة أوغندا الإنكليزية والكونغو البلجيكي، ليمتد غربا من بحيرة رودلف قاطعا النيل عند نموله، وهي قرية في أقصى الجنوب.
وتبلغ مساحة السودان حوالي مليون ميل مربع، أي ضعفين ونصف مساحة المملكة المصرية. وقد نزلت حكومة السودان عن مثلث من الأرض ضمت إلى طرابلس الغرب، ويقع المثلث الصحراوي في الشمال الغربي للسودان. وكان ذلك بمعاهدة بين السودان وإيطاليا سنة 1934.
وسكان السودان قليلون، وإحصاؤهم مستحيل؛ لاتساع المساحة وتفرق القبائل أقل من تنقلهم فيها. ويقال: إنهم بلغوا عشرة ملايين قبل الثورة المهدية، وإنهم نقصوا إلى أقل من ثلاثة ملايين بعد انتهائها. وأصبح العدد الآن متراوحا بين ستة ملايين وعشرة ملايين.
ويشغل السودان أكبر نصيب من وادي النيل، وتحيط بالسودان الهضاب عند حدوده الشرقية والغربية والجنوبية، وبين رأس نباس على البحر الأحمر إلى بحيرة رودلف في الجنوب صحاري واسعة، بها جبال وهضاب، منها الهضبة الحبشية، وهي عالية المواقع في الحبشة، ثم تميل إلى الهبوط عند السودان . وتقع غرب النيل صحارى واسعة حتى مرتفعات جنوبي كردفان وجبال النوبة، وبعض الجبال يصل ارتفاعه إلى 2500 متر كجبل قدير الذي أقام به المهدي مدة وجاءته الوفود تترى من أنحاء السودان مصدقة دعوته مقبلة على مبايعته، وجبل طقيم وتاج الله. وجبل مرة على مقربة من دارفور وعلوه 3000 متر. وترتفع الأراضي عند بحر الغزال ابتداء من بحر العرب وبحر الجبل، إلى خط تقسيم الماء الفاصل بين النيل والكونغو.
وأشهر صحارى السودان: بيوضة، وهي جزء من صحراء ليبيا، والنوبة، وهي امتداد صحراء العرب شمالا.
وأهم واحات السودان: سليمة ولوجيا وبئر النطرون أو السلطان، وتقع كلها غربي النيل.
كان بالسودان 15 مديرية: وهي الخرطوم وعاصمتها الخرطوم، وبربر وعاصمتها الدامر، ودنقلة وعاصمتها مروى، وحلفا وعاصمتها حلفا، والبحر الأحمر وعاصمتها بورسودان، والنيل الأبيض وعاصمته الدويم، والنيل الأزرق وعاصمته واد مدني، والفونج وعاصمتها سنجة، وكسلا وعاصمتها كسلا، وأعالي النيل وعاصمتها ملاكال. وكردفان وعاصمتها الأبيض، ودارفور وعاصمتها الفاشر وجبال النوبة وعاصمتها تالودي، وبحر الغزال وعاصمتها واو، ومنجلا وعاصمتها منجلا.
وفي كل مديرية مأموريات «مراكز»؛ ففي الخرطوم: الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري، وجيلي.
وفي بربر: أبو حمد وبربر والدامر وزيداب وشندي، وود حامد وعطبرة.
وفي دنقلة: أرجو ودنقلة والخندق والدية وكورتي ومروى.
وفي حلفا: حلفا والمحس وسكوت.
وفي البحر الأحمر: سواكن ومحمد غول وسنكات وطوكر والعقيق وكارورة.
وفي النيل الأبيض: الدويم والكوة وكوستي وتندلي والجبلين والقطنية.
وفي النيل الأزرق: مدينة ود مدني ومركز ود مدني والمناجل ورفاعة والمسلمية وسنار والكاملين وأبو دليج.
وفي الفونج: سنجة ودندر «أبو هاشم» وكركوج والرصيرص ودارفنج وكرمك.
وفي كسلا: كسلا وتمريز والبكانة «خشم القرية» والقضارف والمفازة والقلابات.
وفي أعالي النيل: الرنك وملوت وكودوك وملاكال وتنجة وفنجاك ولنجتام ونيرول وأبونج وأيوض ونقطة خور أثر والناصر ونقطة جارجوانج ونقطتا أكوبو وبيبور وجامبلة «محطة تجارية استأجرتها الحكومة من الحبشة».
وفي كردفان: بارادام دام وسوديري والأبيض وأم روابة ورهد والنهود وأبو زبد والأضية ومقلد.
وفي جبال النوبة: دلنج وسنجيكاي وكدوجلي ورشاد وتاج الله وتالودي واليري وهيبان والقوالب.
وفي دارفور : الفاشر وكتوم ونياله وأم كداده.
وفي بحر الغزال: واو وطنج ومشرع الرق ونيام ليل وراجه وديم الزبير وكفيكنجي ورومبيك ولاو وشامبي وجنب ومريدي وياميبو وطمبورة.
وفي منجلا: دك فايول وبور وأمادي وطمبة وباي ولوكا والرجاف وتوريت وأكوتوس ولوزنجا وعدالي وأوباري وكاجوكاجي ومنجلا. •••
وتكثر الأمطار في الجنوب الشرقي. والجو في الشمال جاف، مع حرارة شديدة في الصيف «وخاصة في إبريل ومايو ويونية. تصل إلى 120°» فارنهيت، وبرودة شديدة في الشتاء، حيث تنزل بعض الأمطار.
في الجنوب: الجو حار رطب.
وفي الشرق: رطب - لا سيما في فصل الأمطار - وفي الهضبة الحبشية بارد صحي، وفي السهول رطب غير صحي.
وفي الغرب: حار وجاف صحي، وحرارته ليست شديدة.
جدول مديريات السودان قبل الإدماج الأخير
المديرية
البندر
المديرية
البندر
الخرطوم
الخرطوم
كسلا
كسلا
بربر
الدامر
أعالي النيل
ملاكال
دنقلة
مروى
كردفان
الأبيض
حلفا
حلفا
جبال النوبة
تلودي
البحر الأحمر
بورسودان
دارفور
الفاشر
النيل الأبيض
الدويم
بحر الغزال
واو
النيل الأزرق
واد مدني
منجلا
منجلا
الفونج
سنجا (1) إدماج المديريات
ورئي أخيرا إدماج المديريات في بعضها، كما ألغيت مراكز بسبب إنشاء المحاكم الأهلية.
أدمجت مديريات حلفا وبربر ودنقلا، وأصبحت باسم المديرية الشمالية وعاصمتها الدامر. وأدمجت النيل الأزرق والفونج باسم النيل الأزرق عاصمتها واد مدني.
أدمجت مديريتا البحر الأحمر وكسلا - أصبحتا مديرية كسلا - ماعدا بورسودان، فقد أصبحت محافظة.
وأدمجت مديريات النيل الأبيض وأعالي النيل وملاكال، وأصبحت مديرية ملاكال عاصمتها ملاكال.
أدمجت بحر الغزال في منجلا باسم مديرية خط الاستواء وعاصمتها جوبا. (2) جغرافية النيل في رأي العرب
جاء في مقدمة ابن خلدون تحت عنوان «تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا»:
الإقليم الأول وفيه من جهة غربية الجزائر الخالدات التي منها بدأ بطليموس يأخذ أطوال البلاد وليست في بسيط الإقليم، وإنما هي في البحر المحيط جزر متكاثرة أكبرها وأشهرها ثلاثة، ويقال إنها معمورة، وقد بلغنا أن سفائن الإفرنج مرت بها في أواسط هذه المائة، وقاتلوهم فيها فغنموا منهم وسبوا وباعوا بعض أساراهم بسواحل المغرب الأقصى، وصاروا إلى خدمة السلطان، فلما تعلموا اللسان العربي أخبروا عن حال جزائرهم، وأنهم يحتفرون الأرض للزراعة بالقرون، وأن الحديد مفقود بأرضهم، وعيشهم من الشعير، وماشيتهم المعز، وقتالهم بالحجارة يرمونها إلى خلف، وعبادتهم السجود للشمس إذا طلعت، ولا يعرفون دينا، ولم تبلغهم دعوة، ولا يوقف على مكان هذه الجزائر إلا بالعثور لا بالقصد إليها؛ لأن سفر السفن في البحر إنما هو بالرياح ومعرفة جهات معها بها ولا أين يوصل، وإذا مرت على الاستقامة من البلاد التي في ممر ذلك المهب، وإذا اختلف المهب وعلم حيث يوصل على الاستقامة حوذي به القلع محاذاة يحمل السفينة بها في القوانين في ذلك محصله عند النواتية والملاحين الذين هم رؤساء السفن في البحر والبلاد التي في حفافي البحر الرومي وفي عودته مكتوبة كلها في صحيفة على شكل ما هي عليه في الوجود وفي وضعها في سواحل البحر على ترتيبها ومهاب الرياح وممراتها على اختلافها مرسوم معها في تلك الصحيفة، ويسمونها الكنباص، وعليها يعتمدون في أسفارهم، وهذا كله مفقود في البحر المحيطي؛ فلذلك لا تلج فيه السفن؛ لأنها إن غابت عن مرأى السواحل فقل أن يهتدى إلى الرجوع إليها مع ما ينعقد في جو هذا البحر وعلى سطح مائه من الأبخرة الممانعة للسفن في مسيرها، وهي لبعدها لا تدركها أضواء الشمس المنعكسة من سطح الأرض فتحللها، فلذلك عسر الاهتداء إليها، وصعب الوقوف على خبرها.
وأما الجزء الأول من هذا الإقليم ففيه مصب النيل الآتي من مبدئه عند جبل القمر كما ذكرناه، ويسمى نيل السودان، ويذهب إلى البحر المحيط فيصب فيه عند جزيرة أولئك، وعلى هذا النيل مدينة سلا وتكرور وغانة، وكلها لهذا العهد في مملكة ملك مالي من أمم السودان، وإلى بلادهم تسافر تجار المغرب الأقصى، وبالقرب منها من شماليها بلاد لمتونة وسائر طوائف الملثمين ومفاوز يجولون فيها، وفي جنوبي هذا النيل قوم من السودان يقال لهم: طلم، وهم كفار، ويكتوون في وجوههم وأصداغهم، وأهل غانة والتكرور يغيرون عليهم ويسبونهم ويبيعونهم للتجار فيجلبونهم إلى المغرب وكلهم عامة رقيقة، وليس وراءهم في الجنوب عمران يعتبر إلا أناسي أقرب إلى الحيوان العجم من الناطق، يسكنون الفيافي والكهوف، ويأكلون العشب والحبوب غير مهيأة، وربما يأكل بعضهم بعضا وليسوا في عداد البشر. وفواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكدرارين ووركلان، فكان في غانة فيما يقال ملك ودولة القوم من العلويين يعرفون ببني صالح، وقال صاحب كتاب زجار: إنه صالح بن عبد الله بن حسن بن الحسن، ولا يعرف صالح هذا في ولد عبد الله بن حسن. وقد ذهبت هذه الدولة لهذا العهد، وصارت غانة لسلطان مالي، وفي شرقي هذا البلد في الجزء الثالث من هذا الإقليم بلد كوكو على نهر ينبع من بعض الجبال هنالك، ويمر مغربا فيغوص في بلاد الجزء الثاني، وكان ملك كوكو قائما بنفسه، ثم استولى عليها سلطان مالي، وأصبحت في مملكته، وخربت لهذا العهد من أجل فتنة وقعت هناك نذكرها عند ذكر دولة مالي في محلها من تاريخ البربر وفي جنوبي بلد كوكو بلاد كاتم من أمم السودان، وبعدهم ونفارة على ضفة النيل من شماليه وفي شرقي بلاد ونفارة وكاتم بلاد زغاوة وناجرة المتصلة بأرض النوبة في الجزء الرابع من هذا الإقليم، وفيه يمر نيل مصر ذاهبا من مبدئه عند خط الاستواء إلى البحر الرومي في الشمال، ومخرج هذا النيل من جبل القمر الذي فوق خط الاستواء بست عشرة درجة، واختلفوا في ضبط هذه اللفظة فضبطها بعضهم بفتح القاف والميم نسبة إلى قمر السماء لشدة بياضه وكثرة ضوئه، وفي كتاب المشترك لياقوت بضم القاف وسكون الميم نسبة إلى قوم من أهل الهند، وكذا ضبطه ابن سعيد، فيخرج من هذا الجبل عشر عيون تجتمع كل خمسة منها في بحيرة، وبينهما ستة أميال، ويخرج من كل واحدة من البحيرتين ثلاثة أنهار تجتمع كلها في بطيحة واحدة في أسفلها جبل معترض يشق البحيرة من ناحية الشمال، وينقسم ماؤها بقسمين؛ فيمر الغربي منه إلى بلاد السودان مغربا حتى يصب في بحر المحيط، ويخرج الشرقي منه ذاهبا إلى الشمال على بلاد الحبشة والنوبة وفيما بينهما.
وينقسم في أعلى أرض مصر فيصب ثلاثة من جداوله في البحر الرومي عند الإسكندرية ورشيد ودمياط، ويصب واحد في بحيرة ملحة قبل أن يتصل بالبحر في وسط هذا الإقليم الأول، وعلى هذا النيل بلاد النوبة والحبشة وبعض بلاد الواحات إلى أسوان، وحاضرة بلاد النوبة دنقلة، وهي في غربي هذا النيل وبعدها علوة وبلاق، وبعدهما جبل الجنادل على ستة مراحل من بلاق في الشمال، وهو جبل عال من جهة مصر منخفض من جهة النوبة، فينفذ فيه النيل ويصب في مهوى بعيد صبا مهولا، فلا يمكن أن تسلكه المراكب، بل يحول الوسق من مراكب السودان فيحمل على الظهر إلى بلد أسوان قاعدة الصعيد، وكذا وسق مراكب الصعيد إلى فوق الجنادل، وبين الجنادل وأسوان اثنتا عشرة مرحلة والواحات في غربيها عدوة النيل، وهي الآن خراب، وبها آثار العمارة القديمة، وفي وسط هذا الإقليم في الجزء الخامس منه بلاد الحبشة وادياتي من وراء خط الاستواء ذاهبا إلى أرض النوبة، فيصب هناك في النيل الهابط إلى مصر، وقد وهم فيه كثير من الناس وزعموا أنه من نيل القمر، وبطليموس ذكره في كتاب الجغرافيا، وذكر أنه ليس من هذا النيل. ا.ه. (2-1) جغرافية مصر
تشتمل بلاد القطر المصري على الأقسام الآتية: (1)
مصر الأصلية:
وهي عبارة عن الزاوية الشمالية الشرقية من قارة أفريقيا، وتمتد جنوبا من البحر الأبيض المتوسط إلى خط عرض 22 شمالا، وشرقا من خط الزوال 25 إلى قنال السويس وخليج السويس والبحر الأحمر. وتنقسم مصر الأصلية إلى ثلاثة أقسام متناسبة:
وادي النيل والدلتا، صحراء ليبيا أو الصحراء الغربية، صحراء العرب أو الصحراء الشرقية. (2)
شبه جزيرة سينا:
وهي عبارة عن جزء من قارة آسيا يمتد شرقا من قنال السويس إلى الخط الواصل بين رفح على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وبين طابا بالقرب من رأس خليج العقبة، وتسكنها قبائل من البدو ما عدا مدن العريش والطور والقنطرة. وتعرف شبه جزيرة سينا إداريا باسم محافظة سينا، وهي ضمن المناطق التي تشرف عليها مصلحة الحدود. (3)
عدة جزر في خليج السويس والبحر الأحمر:
أهمها جويال وشدوان وقفاطين وزبرجد أو جزيرة سان جون (القديس يوحنا).
وتبلغ مساحة مصر حوالي 1000000 كيلو متر مربع أو أقل من المساحة الكلية صالحة للزراعة ولسد حاجة عدد محدود من السكان، والباقي منها يحتوي على أراض صحراوية قاحلة يسكنها قليل من الأعراب الرحل.
وقد بلغ عدد سكان القطر المصري حسب الإحصاء الأخير الذي عمل في سنة (1927) 13217864 نسمة، أكثر من 99 منه يسكن وادي النيل والدلتا ومديرية الفيوم ومنطقة قنال السويس، والباقي مبعثر في الصحاري وشبه جزيرة سينا، ونسبة عدد السكان تبلغ 450 نسمة في الكيلو متر المربع من وادي النيل والدلتا. أما في الصحاري فإن تلك النسبة هي نسمة واحدة في كل 13 كيلومترا مربعا. أما مدينة القاهرة - وهي عاصمة القطر المصري - فإنها أكبر مدينة في أفريقيا، وقد بلغ عدد سكانها في إحصاء سنة (1927) 1064067 نسمة.
الشاطئ:
يبلغ طول شاطئ القطر المصري 2400 كيلومتر تقريبا أو 1300 ميل جغرافي، وشاطئ البحر الأبيض المتوسط مستو ورملي ما عدا الجهات الغربية لمدينة الإسكندرية؛ فإنها مكونة من هضاب صخرية قليلة الارتفاع قريبة من البحر في بعض المواضع. أما على امتداد شاطئ البحر الأحمر فيوجد سهل رملي أو حصوي منحدر يفصل بين الجبال والبحر، وتلك الجبال ترتفع كثيرا على مسافة قريبة في داخل البلاد، وتقترب كثيرا من البحر في جهات أخرى، خصوصا عند خليجي السويس والعقبة؛ فإن مياههما تتلاطم بسفوح الجبال، وترى غالبا في كل مكان على امتداد شاطئ البحر الأحمر سلسلة صخور مرجانية كثيرة، توجد عدة من الجزر الأخرى بعيدة عن شاطئ البحر، وفضلا عما في مصر من الثغور الثلاثة العظيمة : الإسكندرية وبورسعيد والسويس، فإن بها أيضا ثغورا ومرافئ أخرى معدة لرسو المراكب الكبيرة، أهمها على التوالي: السلوم ومرسى مطروح على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، والطور وأبو زنيمة والزيتية وجمسة وهرغادة على خليج السويس، وسفاجة والقصير وحلايب على البحر الأحمر.
وادي النيل والدلتا:
نهر النيل هو أهم الظواهر الجغرافية في مصر، وعليه تتوقف حياتها الزراعية، ويبلغ الجزء الممتد منه في مصر من وادي حلفا في أقصى الجنوب إلى رشيد ودمياط على شاطئ البحر الأبيض المتوسط 1500 كيلومتر.
أما في جنوب القاهرة، فإن وادي النيل يسير منحصرا بين صخور شاهقة يبلغ ارتفاعها عن سطح النهر أكثر من 300 متر في بعض المواقع، ومن هذه الصخور تؤخذ معظم أحجار البناء، ويختلف اتساع الوادي من أقل من كيلومتر في المواضع التي بها أحجار الجرانيت والأحجار الرملية في جنوب أسوان إلى أكثر من 20 كيلومترا فيما بين أسيوط والقاهرة حيث يتكون معظم صخورها من حجر الجير. والأرض الصالحة للزراعة في الوجه القبلي عبارة عن الطبقة المستوية من وادي النيل، وهي المحصورة بين مجرى النهر والصخور المحيطة به. أما في شمال مدينة القاهرة فإن الأراضي الزراعية تمتد من الدلتا على شكل مروحة غير منتظمة، وتشتمل على مديريات الوجه البحري الست. ومديرية الفيوم ذات الأرض الخصبة والواقعة في منخفض من صحراء ليبيا على بعد 90 كيلومترا جنوب غربي مدينة القاهرة، وإن كانت خارجة عن حوض وادي النيل، ولكنها تروى من مياه النهر بواسطة ترعة كبيرة يبلغ طولها أكثر من 150 كيلومترا معروفة باسم بحر يوسف، ولا يتصل بالنيل رافد مطلقا في كل مجراه الطويل في مصر، حيث يقل في الواقع سقوط الأمطار لدرجة أن ما يفقده النيل بالتبخر يزيد كثيرا جدا على كمية ما يسقط من المطر في هذه البلاد.
ويستمد النيل ماءه من الأمطار الغزيرة التي تسقط في مناطق خط الاستواء بإفريقية، ويختلف ارتفاع الفيضان في القطر المصري سنويا تبعا للمواسم الممطرة والجافة التي تتعاقب على هضاب الحبشة وبلاد السودان التي تعتبر حوض تجمع لمياه النيل.
ويبدأ النيل في الزيادة عند مدينة القاهرة في شهر يولية، ويصل إلى النهاية العظمى (التي تزيد عن أربعة أمتار من منسوبه مدة التحاريق) حوالي منتصف شهر سبتمبر، ثم ينخفض إلى الحد الأدنى في شهر مايو، ويختلف مقدار تصرف النهر المار بالقاهرة من 25 مليون طن في اليوم مدة التحاريق إلى 800 مليون طن في اليوم وقت الفيضان. وعند انخفاض النيل يكون ماؤه رائقا ولكنه يتغير وقت الفيضان ويصير معكرا ضاربا إلى السمرة كلون الشكولاته؛ نظرا لوفرة ما يعلق به من الرواسب أو الطمي الذي يحمله أثناء جريانه في جبال الحبشة، وبسبب احتواء هذا الطمي على المواد المخصبة كان هو العامل الأساسي في خصوبة أراضي القطر المصري.
وتوجه عناية مهندسي الري إلى الاحتفاظ بمياه النيل وحصرها بين ضفتيه وقت الفيضان، ثم توزيعها على الأراضي بواسطة الترع: أما خزان أسوان الكبير فإن الغرض منه حجز كمية من مياه النيل عند أول دور من أدوار نقصانه السريع وإطلاقه وقت الصيف تخفيفا لما قد يحصل في مياهه من النقص مدة التحاريق. وقد أنشئت قناطر عند إسنا وأسيوط وقرب القاهرة وزفتى بقصد مراقبة توزيع المياه على ترع الري الكبيرة.
صحراء ليبيا أو الصحراء الغربية:
تمتد صحراء ليبيا الشاسعة الأرجاء من غرب وادي النيل إلى بلاد طرابلس الغرب، وفي الجهة الشمالية منها تتكون معظم الصخور السطحية من حجر الجير؛ أما في الجهة الجنوبية فإنه يكثر انتشار الحجر الرملي.
وجبل عوينات (1907 أمتار)، وهو أعلى القمم بها، يقع في أقصى الطرف الجنوبي الغربي من الأراضي المصرية، وهو - مثل قمم جبال الصحراء الشرقية وشبه جزيرة سينا - يتكون من صخور نارية. والسلاسل الطويلة من التلال الرملية التي لا يمكن عبورها والممتدة من شمال الشمال الغربي إلى جنوب الجنوب الشرقي لمسافات تبلغ 500 كيلومتر هي أجلى ظاهرة لصحراء ليبيا التي هي في جملتها من أكثر مناطق الدنيا ذات الأرض القاحلة وغير الآهلة بالسكان، غير أن بها عددا من المنخفضات به آبار وينابيع كافية لري مساحات قليلة وسد حاجة الآلاف من السكان، وهذه المنخفضات عبارة عن الواحات الغربية التي أهمها (من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي): الواحات الخارجة والداخلة والفرافرة والبحرية وسيوه، وتتصل الواحات الخارجة بوادي النيل بواسطة سكة حديدية. وأما معظم الواحات الأخرى فبعد أن كان الوصول إليها فيما مضى يقتضي سفرا طويلا شاقا على ظهور الجمال في أرض مقفرة خالية من الماء أصبح الآن بفضل الطرق التي مهدتها مصلحة الحدود للسيارات على قيد ساعات معدودة. أما واحة سيوة ومديرية الفيوم فمنخفضتان عن سطح البحر، ويقع بينهما منخفض القطارة الواسع الأرجاء الذي تبلغ مساحته حوالي 1800 كيلومتر مربع، وهو أوطأ من سطح البحر، وتقع أوطأ نقطة فيه على منسوب 134 مترا تحت سطح البحر الأبيض المتوسط. وإمكان الانتفاع اقتصاديا من مشروع توليد القوى الكهربائية من منخفض القطارة لا يزال قيد البحث الدقيق. والمعادن التي تستخرج من صحراء ليبيا في الوقت الحاضر هي النطرون أو الصودا الطبيعية التي توجد في بحيرات وادي النطرون الواقعة على مسافة 110 كيلومترات شمال غربي مدينة القاهرة. ويستعمل النطرون على الخصوص في صناعة الصابون البلدي، ويوجد نوع من صخور الفوسفات في الواحات الداخلة وحجر الشب في الواحات الخارجة ومعدن الحديد في الواحات البحرية، غير أن النفقات العظيمة التي تلزم لنقل هذه المعادن تحول دون استخراجها والانتفاع بها تجاريا. ولا يعلم ما يدل على وجود أثر للبترول في صحراء ليبيا، وكذا منابع الزيت فإنه يشرع في البحث عنها في تلك البقاع إلى الآن.
وتنقسم صحراء ليبيا إداريا إلى محافظتين تابعتين لمصلحة أقسام الحدود: إحداهما تشمل القسم الشمالي بما فيه الواحات البحرية والفرافرة تعرف بمحافظة الصحراء الغربية، والأخرى الجزء الجنوبي بما فيه واحات الخارجة والداخلة، وتسمى بمحافظة الصحراء الجنوبية.
صحراء العرب أو الصحراء الشرقية:
تعرف المنطقة الواقعة بين النيل والبحر الأحمر بصحراء العرب أو الصحراء الشرقية، ولو أنها تشبه صحراء ليبيا في عدم وجود الماء بها غير أنها تختلف كثيرا عنها، فبدلا من الهضاب المتماثلة الواسعة الأرجاء التي تتكون منها المنطقة التي على الجانب الآخر من النهر؛ فإن بالصحراء الشرقية ظواهر طبيعية متنوعة أهمها سلسلة الجبال الوعرة المرتفعة التي تمر في وسطها، ويتكون معظمها من طبقات من الصخور النارية، وتمتد من الشمال الغربي من بلاد الحبشة إلى ما يقرب من السويس، وهناك تظهر ثانية كأنها كتلة منفصلة عن جبال شبه جزيرة سينا، وأشهر قمم هذه الجبال الموجودة بالقطر المصري (من الشمال إلى الجنوب) جبل غريب (ارتفاعه 1756 مترا)، وجبل أبو دخان (1662 مترا)، وجبل الشايب (2181 مترا)، وجبل حماتة (1978 مترا)، وجبل فريد (1366 مترا)، وجبل جيرف (1419 مترا)، وجبل شنديب (1912 مترا)، وجبل علبة (1428 مترا). وتحيط بسلسلة جبال من الجهة الغربية بين محورها والنيل هضاب من الحجر الرملي والجيري تخترقها وديان كثيرة الطول والعمق بها كثير من الآبار ومنابع المياه وكذا الأعشاب البرية. ولما كان محور هذه الجبال أقرب إلى البحر الأحمر منه إلى النيل كانت منحدرات الجبال الشرقية على الدوام أكثر انحدارا منها في الجهات الغربية؛ ولذا تنعدم الهضاب لمسافات طويلة على شاطئ البحر الأحمر، ويكثر وجود الآبار والينابيع في الجهات الجنوبية من الصحراء الشرقية عن الجهات الشمالية منها؛ لأن الجهات الجنوبية قريبة من مناطق خط الاستواء الممطرة، ونسبة الطرق الممتدة في الصحراء الشرقية غالبا بين الوديان الشهيرة من بئر إلى بئر. وقد ترى هنا وهناك أكواخا صغيرة للأعراب الرحل الذين من عددهم القليل يتكون سكان هذه البقاع. وتربية الجمال السريعة العدو تقوم بها قبائل البشارين الذين يسكنون الجهات الجنوبية للصحراء الشرقية، لا سيما بالقرب من جبل علبة.
ولا تخلو الصحراء الشرقية من الثروة المعدنية، وقد عملت في السنين الأخيرة محاولات جديدة للبحث عن إيجاد مراكز معينة لهذه المعادن التي علم أنها توجد في بعض الأماكن لاستخراج ما فيها والانتفاع به، ولا يزال كثير من جغرافية هذه الجهات الاقتصادية قيد الكشف في القطر المصري، ولكن البترول يستخرج بكميات وافرة من جمسة وغرهادة على شاطئ خليج السويس، ويستخرج الفوسفات كثيرا من الجهات المجاورة لسفاجة، ولا يزال ما يستخرج من البترول من الينابيع المصرية غير كاف لسد حاجة البلاد، إلا أنه من المأمول كشف ينابيع جديدة. أما الفحم فإنه قد كشف في عدة جهات طبقات صغيرة في صخور الصحراء محتوية على مادة الكربون. غير أنه للأسف لم تكشف من بينها طبقات فحمية يمكن الاعتماد عليها، وليس هناك أمل في كشف غيرها في المستقبل. وقد أدت قلة وجود الفحم في مصر مع قلة وجود الخشب أيضا إلى الاهتمام بالبحث عن سوائل الوقود اهتماما لم يسبق له مثيل.
ويصدر إلى الخارج جميع ما يستخرج من الفوسفات من سفاجة وغيرها لعدم حاجة البلاد إليه؛ إذ إن أراضي القطر المصري غنية بهذه المادة من السماد وليست في حاجة إليها.
وتوجد كميات قليلة من الذهب والنحاس الأحمر في أماكن مختلفة من الصحراء الشرقية، ولكن استخراجها لا يعود بفائدة ما لكثرة ما يصرف من النفقات في استخراجها من هذه الأراضي الوعرة المسالك والتي لا ماء فيها، كما أنه قد بذلت مجهودات أخرى لإعادة فتح مناجم الزمرد القديمة في جهات السكيت، وقد كانت النتيجة أن استخرجت منها كميات متوسطة منذ بضع سنوات، على أنه قد لحظ أن نوع هذه الأحجار لم يكن عالي القيمة، بل كان منحطا جدا بحيث إنه يحول دون إمكان صنعها إلا بخسارة.
وهذا الجزء من الصحراء المصرية يقع تحت إشراف مصلحة أقسام الحدود، ويعرف إداريا بقسم البحر الأحمر، ويمتد شمالا إلى طريق القاهرة - السويس وجنوبا إلى حدود السودان الإدارية.
شبه جزيرة سينا:
تمتد من الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، وهو ساحل رملي مستو، مرتفعة نحو الجنوب لمسافة 250 كيلومترا تقريبا، وتكون بعد ذلك هضبة مرتفعة جيرية تنتهي بمنحدر عظيم عند التيه. ويعلو هذا المنحدر في بعض الجهات إلى أكثر من 1500 متر عن سطح البحر، ثم تتغير طبيعة البلاد تغييرا فجائيا في الجهات الجنوبية من التيه، والقسم الجنوبي من شبه الجزيرة عبارة عن جبال وعرة من الجرانيت تخترقها وديان عميقة، وأعلى قمم هذه الجبال جبل كاترينا (ارتفاعه 2646 مترا)، وأم شومر (2602 مترا)، وأستيب (2449 مترا)؛ فإنها أعلى جبال في مصر، وفي شبه جزيرة سينا ينابيع وآبار بكميات متوسطة، وتجري فيها مياه ملحية، ولا توجد في شبه الجزيرة مدينة متسعة، أما الجهات المأهولة فهي العريش والنخل والطور التي لها أهمية خاصة في كونها محجرا صحيا.
أما ثروتها المعدنية؛ فإنها قليلة لغاية الآن، ويستخرج معدن المغنيز بكميات متوسطة من الجبال الواقعة في شرق أبو زنيمة، وتصدر للخارج. وقد كشفت بشبه الجزيرة منابع للزيت بالقرب من خليج السويس في أبي دربة، ولكن الكميات المستخرجة منها قليلة.
جزائر خليج السويس والبحر الأحمر:
قليلة الأهمية، وعلى بعضها كجزيرة الأشرفي وجزيرة صدوان فنارات السفن، يسكنها حراس هذه الفنارات فقط، وليس بها سكان آخرون، وقد عملت مباحث عن البترول في جزائر جاي صم وملحميت وجوبال بالقرب من خليج السويس بدون جدوى، كما استكشفت حديثا جملة أماكن لمنابع الزيت في جزيرة الزبرجد أو سان جون الواقعة في البحر الأحمر على بعد خمسين كيلومترا من الجنوب الشرقي لرأس بناس.
الفصل السادس والعشرون
معادن السودان وجوه وحيواناته وصناعاته
كان السودان محط أنظار الباحثين عن المعادن الثمينة. وطالما كانت هذه المعادن - وفي مقدمتها الذهب - أول ما حفز الفاتحين لغزوه والكاشفين لارتياد مهابطه ومجاهله. وقد اشتهر ذهب سنار، فهو يوجد تبرا في جبال بني شنقول جنوبي سنار، ويدعى الذهب السناري، ويوجد في جبل تيرا وشيبون غربي جبل قدير. ويروي المؤرخون أن الذهب كان يوجد في وادي العلاقي بين كرسكو والبحر الأحمر. ولكن انقطع وروده من هذه المنطقة الآن.
والزمرد في الصحراء الشرقية والنحاس في «حفرة النحاس» في الشمال الغربي من بحر الغزال وفي جبال سواكن، والحديد في كردفان ودارفور وبحر الغزال مطمورا في الرمال. والرصاص في جبل الكتم مسيرة يوم إلى الشمال من كوبي بدارفور والنطرون. وهو يؤخذ من بحر النطرون من طريق الأربعين، والملح ممزوجا بالتراب السبخ، ويوجد في عطبرة والدامر والبويضة في مكان اسمه شرشار شمالي بارة، ويوجد في وادي الكعب غربي دنقلة، وملح البارود من الخرطوم والفاشر، والشب في واحة الشب غربي حلفا. والتريبة وهو تراب يحتوي على مواد ملحية في بربر، وتستعمل دواء للزهري والحمى. «والأنتيمون» أو الكحل في جبال مرة، والحجر الرملي والجرانيت والأحجار الكلسية في أنحاء مختلفة. وتنقب شركات أوروبية عن المعادن. (1) المعادن والذهب عند الفراعنة
يقول الأستاذ سلامة موسى من بحث له:
كلنا يعرف أن هجرة الأوربيين إلى القارة الأمريكية تعود إلى رغبتهم في الذهب، وأن استعمار الأمريكيين للولايات المتحدة نفسها كان يسير على الدوام في أثر الذهب، فحيثما يكون المنجم يهرع إليه السكان، وأفريقية الجنوبية لم تستعمر إلا من أجل الذهب.
وكذلك الحال عند القدماء، فإن الكتب الستسكريتية تذكر أن هجرة الهنود إلى الهند كانت تتخذ على الدوام تلك الطرق التي تؤدي إلى مناجم الذهب، ولكن الهنود القدماء مثل المصريين القدماء لم يكونوا يطلبون الذهب من أجل الزينة والنقد كما يطلب الآن. بل كانوا يعزون إليه صفات قيمة أكبر عندهم وألصق بحياتهم من قيمته عندنا.
كان القدماء من الهنود يصفون الذهب في كتبهم التي لا تزال تقرأ في اللغة الستسكريتية المنقرضة بأنه خالد، وأنه متولد من النار، وأنه يعيد الشباب، ويطيل الحياة، ويكثر النسل. وهو النار والنور والخلود معا.
وهذه الصفات لم يخترعها الآريون المهاجرون إلى الهند، وإنما هم أخذوها عن الفراعنة، فإن تقديس الذهب عقيدة فرعونية، فهم كانوا أبناء الشمس، أي أبناء رع. وكان يجري في عروقهم سائل الذهب الذي ورثوه عن رع.
وقد دهشنا منذ سنوات عندما أكتشف قبر توتخ أمون ورأينا مقدارا عظيما من الذهب، ولكن هذا الفرعون لم يكن شاذا في وفرة الذهب؛ فإن جميع الفراعنة منذ الأسرة الأولى، بل جميع النبلاء، كانوا يضعون الذهب في القبور لأنه الوسيلة إلى الخلود.
وهذه القداسة التي نسبت إلى الذهب أيام الفراعنة قد انحدرت إلى الأمم القديمة، بل بقيت منها أثارة حتى في القرون الوسطى حين اختلط البحث عن أكسير الحياة بالبحث عن إحالة المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة. والذهب بالطبع في رأسها، وفي هذا الاختلاط يؤيد قدم العقيدة في قداسة الذهب، وأنه معدن الآلهة، والسبيل إلى الخلود. •••
وكيف وصل الذهب إلى هذه المنزلة؟
للجواب على هذا السؤال نقول: إننا نجد في المتحف المصري ودعا مصنوعا من الذهب، وهو يعزى إلى الأسرة الأولى، وليس في العالم الآن صائغ يصيغ الذهب في هيئة الودع، ونعني هذا الودع الذي ما زلنا نجده عند العرافين الذين يخبروننا بطالعنا بضربه فوق الرمل.
هذا الودع كان له أثر كبير جدا في عقائد الإنسان البدائي في العصر الحجري، حتى لقد كان سببا في انتقال الثقافة الأولى بين البشر كما أوضح ذلك المستر ولفرد جاكسون في كتابه «الأصداف ودلالتها على الهجرة الثقافية».
فإن الإنسان في العصر الحجري كان من السذاجة بحيث يعتقد أن الأم هي العامل الوحيد للولادة، وكان يجهل الأبوة بمعناها البيولوجي. ولذلك نظر إلى الودعة نظرة خاصة لما بينها وبين عضو التناسل في المرأة من مشابهة؛ فقدسها لهذا السبب، وصار يتجشم المشاق لجلبها من البقاع النائية لكي يحملها وهو يتوهم أنها ما دامت هي الأصل في الحياة فإنها قادرة على أن تحفظه في صحة دائمة، وتقيه من الأمراض، وتطيل عمره حتى بعد الموت. وذلك لأن الموت عنده كان حياة أخرى تحتاج أيضا إلى ما يحفظها ويطيلها.
ولكن الودعة بطبيعتها صدفة هشة تنكسر لأقل مصادمة، وهي مع ذلك كانت تجلب من البقاع النائية. ولذلك فكر الإنسان البدائي في أن يصنع ودعا من الحجر. وظل الإيمان بالودعة مدة طويلة حتى بعد أن اهتدى المصريون إلى الزراعة وأسسوا الحضارة. وكانوا يصنعونها من الحجر والذهب.
ويرى إليوت سمث أن اكتشافهم للذهب كان مصادفة حين كانوا يبعثون بعثاتهم إلى سواحل البحر الأحمر لجمع الودع؛ فإن هذا الودع لا يوجد في سواحلنا الشمالية، وإنما يوجد كثيرا في البحر الأحمر. وهناك عثروا على مناجم الذهب، فاستحسنوا لونه وخفته ومرونته ونصاعته، فصاروا يصنعون منه تماثيل صغيرة للودع بدلا من أن يصنعوها من الحجر، وشاع بعد ذلك استعمال الذهب لهذه الغاية. ثم بتوالي السنين أو القرون انتقلت ميزات الودعة إلى الذهب حتى أصبح المعدن نفسه يضفي على من يحمله أو يتحلى به صفات الصحة والخلود أو طول البقاء. (1-1) الودعة والبقرة والذهب
هذه الأشياء الثلاثة كانت تمثل في أذهان الفراعنة معاني الصحة وطول العمر والخلود. ولا بد أن الودعة فقدت قيمتها عندما عمت الحضارة البدائية الأولى، وشرع الناس يفكرون في وظيفة الرجل البيولوجية في التناسل. ولكن الذهب كان قد احتل من نفوسهم مكانا كبيرا يلابس عواطفهم فبقيت مكانته. أما البقرة فكانت حاضرة على الدوام في أذهانهم وهي أعم من الذهب؛ لأن هذا المعدن كانت حيازته تقتصر على الأغنياء، وأما البقرة فكانت عامة في الريف يملكها الزارعون. وكانت رمزا للأمومة ترضع الناس لبنها فيقوم عند الطفل مقام اللبن الذي يرضعه من أمه. ومن هنا أصبحت البقرة - التي لا تزال تقدس في الهند - الربة هاتور.
ولكن الودعة والبقرة والذهب اختلطت؛ لأنها جميعا تؤدي مهمة واحدة. وهذا القول هو الذي تثبته الشواهد التاريخية. ولذلك ترى الكلمة الهيروغليفية لهاتور تعني الذهب. وهي توصف بأنها «هاتور الذهبية».
ومن هنا كانت عناية القدماء بالذهب الذي كانوا يبعثون البعثات إلى الأقطار النائية لجلبه واحتفالهم به ودفنه مع الموتى. •••
وكان الذهب بذلك وسيلة لنقل الحضارة - حضارة أبناء الشمس في عصر الفراعنة من مصر إلى آسيا وأفريقيا وأوربا بل إلى أمريكا. والآن يطوف السائح المنقب فيجد في تاريخ الأمم التي ينزل فيها أو في تقاليدها الباقية قصصصا عن أبناء الآلهة الذين نزلوا فيها واكتشفوا الذهب.
وأبناء الآلهة هم أبناء الشمس أي رع. هم المصريون الذين أقاموا حيث كان الذهب، وزرعوا وعلموا من حولهم التقويم الشمشي وتحنيط الموتى وبناء الهرم، ونقلوا الإنسان من العصر الحجري إلى الحضارة.
ولم تقف مهمة الذهب عند إنشاء الثقافة؛ فإن المصريين افتتحوا به عصر المعادن. واستخرجوا النحاس واستعملوه أولا كما يستعمل الذهب للشبه الكبير بينهما، ثم وجدوا من صلابته ما يجعله صالحا للآلات فصاغوا منه الخناجر على هيئة الأسلحة الحجرية القديمة، ثم صنعوا السيف وهو خنجر طويل. ووجدوا في الرماد المتخلف من صهر النحاس مواد لصنع المينا التي يطلى بها الفخار. ثم ارتقوا من ذلك إلى صنع الزجاج.
وهكذا نجد سلسلة متعددة الحلقات من ألوان الرقي البشري نشأت جميعها على أسطورة قديمة هي أن الذهب يطيل العمر. •••
في هذا العام «1935» يبلغ السير جيمس فريزر الحادية والثمانين من عمره. وهذا العالم العظيم قد عرف وذاع صيته بكتاب يدعى «الغصن الذهبي» تعد صفحاته بالألوف. وهو مجموعة وافية من العادات والعبادات والشعائر وألوان الحرف والعرافة والعقائد التي تتمشى في أنحاء العالم المتحضر والمتوحش. ولهذا الكتاب موجز تبلغ صفحاته 756.
والقارئ لهذا الكتاب يعجب بهمة المؤلف وجلده وإحاطته، وسيبقى هذا الكتاب خالدا بين الكتب التي تعد مراجع غالية وإن كان أساسه كله خطأ. فإن الحقائق المدونة فيه لها فائدتها التي يمكن كل قارئ أن ينتفع بها. أما استنتاجات المؤلف منها فقد ثبت خطؤها ولا قيمة لها الآن.
فإن المؤلف يفرض أن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان، وأنها تستجيب للظواهر الطبيعية بعقائد متشابهة؛ ولذلك إذا عرفنا أن التحنيط معروف في بيرو في أمريكا السفلى وفي الجزر الملاوية في جنوب آسيا وفي مصر وفي الكونجو؛ فإننا يجب أن نعرف أن الظروف تشابهت فاستجاب لها الإنسان في جميع هذه الأقطار استجابات متشابهة. فليس هناك إذن ما يدعونا إلى أن نفرض أن الثقافة انتقلت في مسألة التحنيط من قطر إلى آخر. وكذلك الشأن في اختراع الزراعة والاهتداء إلى المعادن ونظام الحكومة والكهانة والزواج إلى غير ذلك.
ولكن هل هذا هو الواقع الذي نستطيع أن ندعمه بشهادة الحياة التي يعيشها البشر أو قبائلهم أو أممهم المختلفة؟
إن الواقع يثبت أن الأمم أو القبائل أحيانا تتجاور، ومع ذلك تعيش كل منها في حدود ثقافتها الموروثة. فهذه قبيلة تمارس الزراعة، وأخرى تجاورها ولكنها لا تزال تجمع الطعام جمعا ولا تستنتجه استنتاجا. وهذه طائفة تمارس عادات في الزواج أو تحريم بعض الطعام فتخالف الطوائف الأخرى المحيطة بها، ولو أن الجميع يتجاورون ويختلطون. وكل ذلك لأن لكل منها تراثا ثقافيا يجعلها تحب وتكره ما لا يحبه غيرها أو يكرهه.
والإنسان بطبيعته جامد لا يقبل على العادة الجديدة، وليس هو بالمفكر النشيط الذي يدأب في الاختراع والاكتشاف. فإذا فرضنا أن إحدى الأمم اهتدت إلى كشف أو اختراع؛ فإن من المبالغة الكبيرة في حسن الظن بالذهن البشري أن نعتقد أن سائر الأمم ستخترع مثلها. وقصارى ما يحدث أنها تنقل عنها في بطء وفتور. وانتشار الأديان الحديثة يدل على أن انتقال الثقافة من قطر إلى آخر في العصور القديمة كان مألوفا. ولما كانت الحضارة المصرية القديمة تتصل بالدين وتمس العقائد التي تتعلق بالصحة وطول العمر والخلود والتناسل - كانت تجد قبولا، بل تلهفا أينما حلت؛ لأن الإنسان مهموم بهذه الأشياء كما يدل على ذلك هذه المعارف الجديدة عن الفيتامينات التي فشت بين الناس هذه الأيام، وبولغ فيها مبالغات كثيرة خرجت بها عن حدودها العلمية فإن الناس لشوقهم إلى ما يطيل العمر ويقوي الصحة يكثرون من قراءة هذه الموضوعات، كما أن الكتاب الذين عرفوا هذا الشغف قد أصبحوا يبالغون في فائدة الفيتامينات.
وهكذا الحال في العصور القديمة. فإن الوهم الذي أشاعه المصريون عن فائدة الذهب والتحنيط جعل الأمم البدائية الأخرى تعتنق مذهبهم وتقبل حضارتهم وترتقي بها إلى الاكتشافات والاختراعات الأخرى. •••
ويجب عندما نبحث في انتقال الثقافة المصرية إلى أقطار العالم أن نميز بين إنسانين أحدهما الإنسان البدائي. والآخر الإنسان المتوحش.
فإن الإنسان البدائي لا يعرف الزراعة، وليس عنده تراث كثير أو قليل من التقاليد. فهو يعيش عيشة ساذجة يجهل فيها اللباس والمسكن والغزو والسبي.
أما الإنسان المتوحش فيعرف طائفة عظيمة من العقائد يمارسها، منها: السحر والقتال ونظام الحكم، وأحيانا يعرف الزراعة، وهذا الإنسان هو الذي جمع السير جيمس فريزر عاداته من جميع الأقطار وعرضها في كتابه لكي يثبت المشابهة في استجابة الذهن البشري للبيئة إذا اتفقت الظروف.
ولكن مدرسة كمبردج التي تقول بأن مصر هي أصل الحضارة التي تفشت منها إلى سائر الأقطار تفسر هذا التوحش عند المتوحش بأن الثقافة المصرية القديمة وصلت إليهم فركدت ولم ترتق، أو هي انحطت على أيديهم وانمسخت.
وهذا التفسير يبرره الاستقراء؛ لأننا نجد في عادات المتوحشين الحاضرة بذور الثقافة المصرية القديمة. (2) حالة الجو في السودان
يختلف الجو في السودان باختلاف مديرياته ومناطقه لاتساع مساحته. وفي السودان ثلاثة فصول: فصل الأمطار، أو فصل الخريف من يوليو إلى أكتوبر، حيث يفيض النيل وتورق الأشجار وتزرع الأراضي البعيدة عن النيل، وأول نزول الأمطار يسمى الرشاش، وعند اخضرار الأرض يعرف بالربيع، وعند النضج يعرف بالدرت. ويقف سير المراكب.
وفصل الشتاء: من نوفمبر إلى فبراير، وهو فصل البرد، ولا ينزل المطر، وهو خير فصول السودان اعتدالا وصحة.
وفصل الصيف - من مارس إلى يونية: وهو فصل الحر، وهبوب ريح السموم وثوران الغبار.
تسمى رياح السودان بالهبوب. وتهب في فصل الصيف بشدة فتثير الغبار والحصى وتلذع الوجوه؛ لأنها لهيب من النار. وفي الهبوب أعاصير زاحفة أسطوانية، وتهب الرياح «اللواقح» فتثير الغبار، ويظلم الفضاء. وقد تقتلع الأشجار وتهدم المباني الضعيفة، وقد تغرق المراكب والبواخر.
ويشتد هطول الأمطار كأنه ينزل من أفواه القرب، وتصطحب بالرياح والبرق والرعد، وقد تنزل الصواعق. (3) غابات السودان وأخشابه
السودان غني بالأخشاب والغابات: فمنه النخيل وهو أنواع كثيرة. والدوم والدليب والعرديب، وهو شجر التمر الهندي، والسدر وهو شجر النبق. والتبلدي وهو شجر هش، وثمره كجوز الهند والجوغان ثمره كالنبق، والقضيم والطندب والأهليلج ويسمونه «الهجليج». والحميض والجميز واللاستك والهشاب واللبان والسنط والسلم والكتر والسيال والحراز والعرد والمدس. ويؤخذ منه قشر الدبغ والأبنوس والكاكموت والأندراب والحبيل والبشم والعشر والأراك واللعوت يشبه شجر الليمون والصباغ في كردفان والنيل الأزرق والكليت واللولو والخمرة والروم والسنا والحناء والخروع، ويستخرج منه زيت والحسكنيت والحنظل والسم والسلعلع والمرخ والحمريب والحلفاء والنجيلة والطرفاء والصفصاف والقنا وقصب البردي والضبح وأكثر الغابات والأشجار في الجنوب. (4) الصناعة
الحدادة:
لصنع الحراب والسكاكين وأدوات الزراعة.
الصياغة:
الحلي والأواني المعدنية. ومن الصناع من يخرط العاج والخرتيت، ويصنع منهما الأساور والفناجين والأقداح.
الحياكة:
يصنعون قماشا يشبه الدمور.
الدباغة:
للجلود.
البناء:
يبنون المنازل من طوب أو حجر أو طين ويصنعون الجير.
النجارة:
ومنها صنع المراكب، وهم مهرة في الخزف. (5) بعثات التنقيب عن المعادن (1)
شركة إنكليزية في أم بناردي عن طريق في الصحراء بين حلفا وأبي حمد (محطة رقم 6)، ومنها إلى أم بناردي - مدت سكة حديد، ونقبت عن الذهب، ولكنها أفلست، ولم تصل إلى نتيجة. (2)
شركة إنكليزية على حدود الحبشة في بني شنقول نقبت عن الذهب، وأفلست. (3)
شركة إنكليزية تسمى (السد) أي (السدود)، تألفت لقطع الأعشاب وكبسها واستعمالها وقودا، في قوالب كالطوب الأحمر. (4)
مصلحة الجيولوجيا بالخرطوم تبحث عن المعادن - ولكنها لم تصل إلى أية نتيجة.
البترول: لم يكشف البترول بعد.
وجاء في تقرير اللورد كتشنر سنة 1912:
واستمر النقب في مروى، وكان نتيجته حسنة، ومن جملة الأطلال التي كشف الروم عنها حمام روماني، وهيكل صغير أمامه أعمدة ، وجانب من الحمام الملكي. وقد سافرت بعثة أكسفورد من فرس، وستعود في السنة القادمة إلى النقب في نبطة، وهي عاصمة ملوك مروى الثانية، وقد تولى المستر ولكوم النقب في جبل مويه للبحث عن الأشياء التي صنعت قبل عهد التاريخ. (6) الحيوانات
المفترسة: الأسد، ويسمونه الدابي ودود الخلا، والفيل ويصطاد من أجل سنه وجلده. ووحيد القرن ويسمونه العنزة أم قرن، ويصطاد لأجل قرنه المعروف بالخرتيت، ويصنع منه كاسات وفناجين وأنصبة.
والزرافة والجاموس البري وبقر الوحش. وحمار الوحش ويسمى عندهم حمار الخلا أو حمار الوادي والزيبرة، ويسمونه خطأ حمار الوحش، والضبع ويسمى بالمرفعين أو المرعفيب. والذئب والنمر والفهد والنمس والقنفذ، والثعلب ويسمى البعثوم، والخنزير البري ويسمى الحلوف، وأبو أظلاف، وهز الزباد والثيتل والغزال والقردة والنعام.
وتصطاد الكواسر بالبنادق والشراك، ومنه عمل حفرة في الطريق على عمق خمسة أمتار، وتغرز في قاعها أوتاد محددة، وتسقف بالحصر، ويحثى التراب فوقها حتى تكون شبيهة بالأرض المحيطة بها. فإذا ما مر الحيوان المفترس هوى في الحفرة، واستحال عليه الصعود والهرب، فيرميه الصائد بحربته.
وتكثر الثعابين، ومنها غير السام والكبير الحجم، واسمه (الأصلة)؛ طوله أربعة أمتار، ويصاد لجلده، والعقرب، وأبو شبت، والأرضة، والسروت وهي ذبابة سامة كالنحلة، والذباب العادي، والبعوض، والبق، والنحل، والفراش، والنامتة. (7) الأمراض والمستشفيات
جو السودان صحي في عامة الفصول، لجفاف التربة، وليس وجود الأمراض به مانعا من وجود مناطق صحية. ويغلب في الأمراض سعة المساحة والعجز عن إعداد الوسائل الصحية في كل مكان لما يتطلبه ذلك من المال الكثير.
والأمراض المشهورة هي: الحمى الملاريا، وتسمى بلغة السودان الوردة. وعلاجها البلدي : منقوع القرظ الممزوج بشراب العسل، أو منقوع التمر الهندي، أو ثمر التبلدي.
والديسونطاريا، وتسمى عندهم العشرة، وعلاجها البلدي: اللبن الرايب بالحلبة أو أقراص النبق ومسحوق عرق السنط.
والزهري ويسمى «الحلق أو الجقيل»، وعلاجه البلدي: العشبة المعروفة أو التربية، والسيلان ويسمونه «البجل»، وعلاجه: السمن البقري بمنقوع الحنظل أو بعشب الربع، والدودة الوحيدة، وعلاجها شرب الحشيشة الحبشية ممزوجة باللبن. والجدري. ويكون أحيانا وبائيا يصيب الزنوج أكثر من العرب، ويمنعون عن المريض به الروائح، ويدهنون عينيه بماء البصل، ويعالجونه بطعام البلح واللبن والبصل مع الذرة.
والالتهاب السحائي الشوكي والجرب والبرص، والكوليرا وتسمى عندهم وعند أهل الصعيد: «الشوطة» وضربة الشمس. وأكثر الأمراض منشؤها تقلب الجو. على أن التحوط الصحي - وهو ميسور - يعطي مناعة لا بأس بها.
وقد انتشرت في السودان المستشفيات، وهي ثلاثة أنواع: صغيرة ومتوسطة وكبيرة. وبناء المستشفيات بسيط من الطوب في مساحات واسعة، نفقاتها قليلة، وهي دور واحد أو دوران، ويشرف عليها أطباء إنكليز، ويساعدهم أطباء سودانيون من خريجي مدرسة كتشنر الطبية في الخرطوم، ويدخلها خريجو طلبة غوردون لمدة أربع سنوات.
الفصل السابع والعشرون
الحالة الاقتصادية في السودان
زادت الحركة التجارية في السودان فجأة عقب نشوب الحرب سنة 1914. وعندئذ كان مشروع ري الجزيرة قد نهض ولم يبق عليه إلا القيام ببعض التجارب في جوار «واد مدني». وقد قسم قرض الحكومة السودانية الذي صدر به القانون سنة 1913، وأريد تنفيذه في سنة 1914 إلى ما يلي: مليوني جنيه، ما يلزم من الأعمال لتحقيق ري سهل الجزيرة، و800 ألف جنيه لمد السكك الحديدية، 200 ألف جنيه لأعمال ري أخرى وللطوارئ.
ولكن هذا القرض الذي أريد الاكتتاب به في لندن، قد منعت الحرب الشروع فيه والحصول عليه، إلى أن كان شهر أغسطس سنة 1919، فرأت وزارة المالية البريطانية أن تزيد مبلغ القرض من ثلاثة ملايين إلى ستة ملايين. ولكنه لم يكن كافيا، وفي 17 أكتوبر سنة 1919 أبرم اتفاق مع «نقابة السودان الزراعية» “Sudan Plantations Syndicate”
وقد واصلت النقابة المذكورة في أثناء الحرب تجاربها في نواحي الزيداب بمديرية بربر، وفي مزارع الطيبة وبركات بالجزيرة، على أن تقوم الحكومة السودانية بنفقات الترع الرئيسية، وأن تقوم النقابة بإنشاء الترع الصغرى تحت إشراف الحكومة، مع تمويل المستأجرين وبيع المحصول، على أن تقسم الأرباح الناتجة من بيع محصول القطن بين المستأجر والحكومة والنقابة بنسبة 40٪ للأول و35٪ للحكومة و25٪ للنقابة. أما المحاصيل الأخرى فتكون كلها للمستأجر. وبمقتضى الأمر الصادر في أكتوبر سنة 1921 الخاص بأرض الجزيرة خول للحكومة الحق في استئجار الأراضي التي لها ملاك وطنيون مسجلون لمدة أربعين سنة، وتكون أجرة الفدان عشرة قروش، على أن يكون للملاك الحق الأول في زراعة قطع كل منها تبلغ 30 فدانا كلما كانت أقرب إلى أملاكهم الأصلية. أما الأراضي التي كان محتاجا إليها لأعمال مستديمة. فقد اشتريت من أصحابها. (1) لجنة التحقيق في مشروعات الري
في سنة 1920 ثار نزاع مشهود في صدد تنفيذ مشروعات الري الكبرى في مصر والسودان، وقام مهندسان إنكليزيان كبيران «ويلكوكس وكندي باشا» يعارضان في برنامج هذه المشروعات. وقد كان لهذا ضجة كبيرة استيقظ لها الرأي العام المصري، وطلب وقف المشروعات. فاضطرت وزارة الأشغال إلى تأليف لجنة للتحقيق تألفت من مهندسين من الهند والولايات المتحدة وكامبردج لإعطاء رأيها في صدد تنظيم توزيع ماء النيل لمصلحة مصر والسودان، وقد شملت المشروعات: خزان سنار، وخزان جبل الأولياء وقناطر نجع حمادي في الوجه القبلي، والقيام بأعمال صيانة عند منطقة السدود. وخزانات تخزين في البحيرات الكبرى. (2) ميزانية الحكومة
ورد في التقرير المرفوع من الفيكونت كتشنر إلى السير إدوارد جراي وزير خارجية إنكلترا يومئذ عن المالية والإدارة والحالة العمومية في السودان سنة 1912 ما يلي:
ويظهر نمو إيرادات السودان من الجدول التالي الحاوي الإيرادات التي حصلت منذ سنة 1898.
السنة
الإيرادات ج.م
1898
35000
1899
127000
1900
157000
1901
242000
1902
270000
1903
463000
1904
576000
1905
665000
1906
818000
1907
976000
1908
979000
1909
1043000
1910
1171000
1911
1311000
1912 (المنتظرة)
1424000
وبلغ جملة الإيراد من الأطيان والعشور، أي أموال الأطيان التي تروى بماء المطر 141400ج.م.
إيرادات سنة 1913
1631000
مصروفات سنة 1913
1631000
والسبب في نقص الإيرادات والمصروفات هو الاتفاق الذي تم بين الحكومة السودانية والحكومة المصرية على العلاقات المالية التي كانت بينهما، فقد تقرر في هذا الاتفاق أن تلغى الإعانة التي تدفعها الحكومة المصرية للحكومة السودانية، وأن تدفع الحكومة المصرية للسودان رسوم الجمارك التي تؤخذ في مصر. (2-1) إيرادات الحكومة ومصروفاتها (1)
الإيرادات: في سنة 1933 بلغت هذه الإيرادات 3631552 جنيها مصريا: من ذلك 618005ج من المديريات و696437 من المصالح، و750549 من الإدارات المركزية العامة، و447255 من السكك الحديدية، و369306 جنيهات من الري، و750000 الاعتماد الذي تدفعه مصر لقوة الدفاع عن السودان.
وقد بلغت الإيرادات 4177809 في سنة 1927، و4680188 في سنة 1928، و4835003 جنيهات في سنة 1929، و4693623 ج في سنة 1930، و4398618 جنيها في سنة 1931، و3853798 ج في سنة 1932، و3631552 في سنة 1933. (2)
المصروفات: وبلغت المصروفات سنة 1933 مبلغ 3621957 جنيها مصريا. (2-2) الحساب الختامي لحكومة السودان 1934
صدر الحساب الختامي لحكومة السودان عن السنة المنتهية في ديسمبر سنة 1934. وقد بلغت جملة الإيرادات 3774911ج. و154م. والمصروفات 3749477ج. و24م. يوفر 25423ج. و130م. أضيفت لمال الاحتياطي العام فبلغت جملته 361835ج و654م. هذا بخلاف أموال الاحتياطي المخصصة التي تبلغ جملتها 1805040ج و782م. والباقي من مال الاحتياطي المخصص للسلفيات البالغ قدره 92049ج و665م. وتدل أرقام الحساب الختامي على أن مركز الحكومة المالي متين يبعث على الطمأنينة، ويصح أن يؤخذ كدليل قاطع على انكشاف الأزمة المالية، فلديها مبلغ 695344ج. و849م نقدية في الخزانات وطرف البنك، ومبلغ 2842819ج. و358م. سندات دين الحكومة البريطانية والمصرية، هذا بخلاف مال تعويضات خزان جبل الأولياء الذي بلغ بأرباحه حتى آخر العام الماضي مبلغ 778552ج و414م. منها مبلغ 777193ج و80م. موظفة في سندات، والباقي محفوظ في البنك الأهلي المصري. ا.ه. (2-3) مذكرة الحكومة عن ميزانية 1934-1935
ميزانية سنة 1934
كان من أثر اضطراد التحسين في الميزان التجاري في سنة 1934 أن زاد دخل الحكومة في جميع أبواب الإيرادات إلا في ما يخص أسهمها في محصول القطن في توكر والجزيرة، حيث كان العجز ظاهرا ظهورا ملموسا.
وقد بلغ صافي الدخل في الميزانية 3774911 جنيها، وذلك بعد خصم مبلغ 369137 جنيها لسد العجز في حساب القطن، وكان المقدر للإيرادات مبلغ 3812000 جنيها، وبلغت المصروفات الفعلية 3749488، وكان مقدرا لها 3809114، وبهذا بلغ الوفر في الميزانية 25423 جنيها أضيفت للمال الاحتياطي.
وقد بدئ في خلال سنة 1934 بتخطيط قنالات إضافية في المساحات المروية في أراضي الجزيرة. وينتظر أن تزاد مساحات الأراضي المزروعة قطنا نحو 8000 فدان حتى شهر يولية سنة 1936.
وكذلك أنشئت ثلاثة محالج صغيرة في مديرية كردفان لتلافي الحاجة التي أوجبها الاتساع السريع في زراعة القطن المطرية في منطقة جبال النوبة، حيث زاد المحصول من 33566 قنطارا كبيرا في 1932-1933 إلى 86800 في 1933-1934، ويقدر محصول 1934-1935 بما يزيد على 133000 قنطار كبير.
وأقيمت في مديرية الفونج فابريقة لنشر الخشب لإمداد السكة الحديد السودانية بما تحتاج إليه من الفلنكات، وأجريت تخفيضات هامة في كثير من أجور النقل في السكك الحديدية وفي أسعار السكر وأجور التليفونات، وخفضت ضرائب مباشرة كثيرة في المراكز التي ظلت الأحوال الاقتصادية فيها رديئة. ومع هذا فقد دفعت الضرائب بسهولة وختمت السنة بمتأخرات قليلة.
ميزانية سنة 1935:
بعد الاستعداد لسداد زيادة قدرها 17873 جنيها تم تعادل الميزانية على مبلغ 4035150 جنيها.
وقد وضعت زيادات معتدلة ودقيقة في تقديرات أغلب أبواب الإيرادات، وظلت الضرائب تناسب مقدرة البلاد على احتمالها. وفي ناحية المصروفات وضعت نفقات الإدارة عند أقل منسوب تقضي به الضرورة. ولكن زيدت المبالغ المرصودة للإنفاق على الوسائل التي وضعت لزيادة الإنتاج والدخل، وتجديد ما يستهلك من الماكينات، وزيدت الأموال المرصودة للتعليم والأعمال الطبية. وأعيدت الاستقطاعات التي كانت أخذت من مرتبات الوظائف الصغيرة وجزء من تخفيضات مرتبات الوظائف الأخرى.
والأسس العامة التي بنيت عليها الميزانية تدل على أن الحكومة مع حرصها على الاحتفاظ بنفقات الإدارة الاعتيادية تتخذ من الوسائل الفعالة ما من شأنه أن يعجل إعادة الانتعاش إلى كيان البلاد الاقتصادي. ا.ه.
وجاء في خطاب السر إدوارد كوك - محافظ البنك الأهلي المصري بالقاهرة - في اجتماع الجمعية العمومية السنوية ما يلي:
كانت آثار الكساد في السودان أشد وقعا منها في القطر الشقيق؛ نظرا لضآلة موارده الطبيعية وقلة الأموال المدخرة فيه، فلقد انحطت قدرة الأفراد على الشراء بغتة وإلى حد كبير. وعجز التجار عن احتمال خسائرهم، واختل توازن ميزانية الحكومة، التي يتوقف. الجزء الأكبر من إيراداتها على ما تجنيه من أرباح مشروعاتها التجارية اختلالا خطيرا. ولكن هذه الصعاب قوبلت بهمة وشجاعة، وأنقصت المصروفات في كل ناحية بمجرد أن تبينت الحكومة أن الآمال التي نيطت بها برامج الإدارة لن تتحقق لسنين متعددة.
هذه السياسة السليمة، وإن كانت محافظة، آتت ثمارها، وعادت بها ميزانية الحكومة إلى حالتها من التوازن ، وانتعشت الحياة الاقتصادية بالتحسن الطارئ على التجارة العالمية، فارتفعت أثمان أغلب البضائع السودانية، وزادت الصادرات بما يزيد على 40 في المائة قياسا بسنة 1933، كما زادت تجارة السودان الخارجية في مجموعها نحو الثلث. وتدل زيادة استهلاك السكر والشاي على نحو قدرة الأفراد على الشراء: واستطاعت الحكومة، بعد أن أصبحت ماليتها في حالة أبعث على الرضى، أن تقوم بشتى الإصلاحات، وأجرت من تخفيض نفقات النقل المائي وعلى سكك الحديد، ما يدل على شعورها بضرورة تخفيض نفقات النقل؛ كي تستطيع الحاصلات السودانية أن تصمد للمنافسة في الأسواق التجارية. ا.ه. (3) تجارة السودان (3-1) الصادرات
نبين في الجدول التالي قيمة صادرات السودان إلى البلاد الأخرى:
اسم المملكة
سنة 1932 (جنيه مصري)
سنة 1933 (جنيه مصري)
النسبة المئوية
بريطانيا العظمى
2667099
1574998
60,5
مصر
228320
291353
11,2
الهند الإنكليزية
368511
165974
6,4
الولايات المتحدة
103222
94452
4,4
فرنسا
101588
129766
5
ألمانيا
64012
65700
2,5
إيطاليا
91082
56942
2,2
بلجيكا
30620
36896
1,4
هولاندا
25648
21067
0,8
اليابان
18795
31422
1,2
أستراليا
15918
8339
0,3
بلاد أخرى
82713
108485
4,1
المجموع
3797528
2605394
100 (3-2) الواردات
اسم المملكة الموردة
سنة 1932 (جنيه مصري)
سنة 1933
النسبة المئوية
بريطانيا العظمى
751753
859908
27,2
مصر
460442
584271
18,5
اليابان
423155
558837
17,7
الهند البريطانية وعدن
232236
179520
5,7
الحبشة
171484
154862
4,9
أستراليا
95046
82291
2,6
بلجيكا
144642
67579
2,1
اتحاد جنوبي أفريقيا
44610
53027
1,7
كنيا
45593
52674
1,7
يافا
68080
52108
1,6
جزر الهند الشرقية
37013
51686
1,6
الصين
27301
45409
1,4
فرنسا
53861
41588
1,3
إيطاليا
41968
40015
1,3
ألمانيا
34952
34613
1,1
الولايات المتحدة
34196
30496
1
هولندا
52188
8599
0,3
بلاد أخرى
336124
262860
8,3
المجموع
3054644
3160619
100
إيرادات السكك الحديدية
بلغت هذه الإيرادات في سنة 1933 مبلغ 1737142 جنيها، وبلغت الأرباح 520242 جنيها مقابل 612704 جنيهات في سنة 1932.
إيراد البريد والتلغراف
بلغت هذه الإيرادات 102074 جنيها في سنة 1933. (3-3) الغرفة التجارية وخطاب المستر كنتوميخالوس
بالسودان غرفة تجارية وحيدة هي الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم، وقد عقدت اجتماعها السنوي يوم 12 إبريل سنة 1935، وألقى مسيو كونتوميخالوس رئيسها السابق الخطاب التالي:
أيها السادة
لي الشرف بأن ألقي خطابي السنوي للمرة الثانية كرئيس للغرفة التجارية، وإن من دواعي السرور أن نرى هذا العدد العظيم في اجتماعنا السنوي؛ مما يدل على اهتمامكم بأعمال الغرفة وتقديركم لمجهودات اللجنة:
إن الحساب السنوي لحالة الغرفة يدل على تقدم ظاهر، حيث لدينا الآن رصيد نقدي مبلغ 814ج ثمانمائة وأربعة عشر جنيها مصري،ا ومتأخرات عند الأعضاء مبلغ 16 جنيها ستة عشر جنيها مصريا، كما أنه قد وصلتنا اشتراكات عن السنة القادمة مبلغ 18 جنيها ثمانية عشر جنيها مصريا. ونتيجة أعمال السنة كانت بزيادة الإيرادات على المصروفات بمبلغ ستين جنيها مصريا.
إن أعضاء الغرفة التجارية قد بلغوا الآن 403 أعضاء منهم 286 عضوا في السودان و72 عضوا في مصر والخارج و46 عضوا شرفيا . ومع أن هذه النتيجة مرضية جدا؛ فإني لا أزال أنتظر من التجار الذين لا زالوا خارج الغرفة أن ينضموا إليها بأول فرصة.
في خلال السنة الماضية كانت لجنة الغرفة منهمكة في جملة محادثات مع اللجنة الاقتصادية في مواضيع كانت تطلب اهتمامها الخاص، وإنه يسرني أن أشكر رؤساء وأعضاء اللجنة الاقتصادية لمساعدتهم القيمة في هذا الصدد، وإن المسائل التي نجحت الغرفة في الحصول عليها في بحر السنة تتلخص فيما يأتي:
أولا:
إلغاء عوائد الحنظل والسنمكي الخلوية والمزروعة، وقد كان هذا من الضروري بمكان بالنسبة لحالة هذين الصنفين.
ثانيا:
تخفيض ناولون الأذرة في المحطات قبلي أبو حجار ومصاريف تخزين هذا الصنف في حلفا.
ثالثا:
تخفيض ناولون الفاصوليا واللوبيا من محطات خط دنقلة.
رابعا:
إلغاء عوائد توريد الصمغ في أستراليا بمساعدة الغرفة التجارية في سيدني وفي ملبورن اللتين نقدم لهما تشكراتنا.
خامسا:
توحيد العوائد على القرض مدة 12 شهرا ابتداء من أول يناير بدلا من تحديد هذه العوائد شهريا، وذلك بمساعدة اللجنة الاقتصادية.
لقد شكلت لجنة فرعية لدرس مشتريات الحكومة من الخارج، وقد قدمت هذه اللجنة تقريرا عن ذلك من اللجنة الاقتصادية. ولنا الأمل بأن نتحصل على مساعدة الحكومة في هذا الشأن، وقد بحثت اللجنة بالاشتراك مع اللجنة الاقتصادية تشجيع الأهالي لتقشير الفول السوداني، ولكن بالنسبة للمصاريف الباهظة التي تطلبها هذه العملية وجد أن الأوفق عدم الاستمرار في هذا الموضوع في الوقت الحاضر.
وقد اجتهدت الغرفة لإيجاد أسواق جديدة للشطة، ولكن لم تحصل على نتيجة من ذلك. وقد طلبنا من سعادة السكرتير القضائي الموافقة على نشر الكمبيالات التي يعمل عليها برتستو، ولكن الحكومة لم توافق على طلبنا، والموضوع لا زال تحت النظر.
وقد حصلت مباحثات لتعميم البيع بالمزاد لجميع الحاصلات في جميع المديريات بما فيها جميع الفونج، وكذلك توحيد جميع الحاصلات في الوزن، ومنع تصدير الأذرة والسمسم إلا بعد الغربلة بماكينات الغربال، وهذه المواضيع جميعها لا زالت تحت النظر.
بموافقة صاحب المعالي الحاكم العام تألفت لجنة مشتركة مكونة من مدير اللجنة الاقتصادية وموظف من مصلحة الزراعة من جانب الحكومة، ورئيس وسكرتير الغرفة التجارية من جانبنا مع إمكان ضم أعضاء آخرين يستدعى حضورهم وقت النظر في أي موضوع يهم التجارة، ولنا الأمل بأن هذه اللجنة المشتركة ستأتي بفوائد عظيمة لصالح تجارة السودان.
هذا ملخص الأعمال التي قامت بها اللجنة في هذه السنة. •••
ومن أعظم حوادث هذه السنة زيارة فخامة المندوب السامي لأول مرة للسودان، ونؤمل أن فخامته كان مسرورا مما شاهده من تقدم هذه البلاد.
وحادث آخر له أهمية، وهو زيارة البعثة التجارية المصرية التي من نتائجها الكبيرة زيادة التعارف بين البلدين، وبهذه المناسبة أود أن أشكر مرة أخرى معالي الحاكم العام وجميع موظفي حكومة السودان لحسن اهتمامهم بالبعثة؛ مما جعل زيارتها للسودان ذات فائدة عظيمة. لا يمكن أن نقول بأن التجارة ستحصل على نتائج سريعة من وراء زيارة البعثة وتعارف التجار في القطرين؛ حيث هذا يتطلب جهودا متواصلة حتى يصل إلى زيادة العلاقات التجارية بيننا، ولكن يمكن أن أقول بأن زيارة البعثة قد أتت بفوائد من جهة العلاقات بين البلدين. وفي خلال زيارتي الأخيرة لمصر وجدت أن أصدقاءنا المصريين أصبحوا أكثر فهما من قبل، ويقدرون الصعوبات التي أمامنا، وهذا نفسه يعد خطوة إلى الأمام لتحسين العلاقات الودية التي هي واجبة بيننا. والنتيجة الأولى التي ظهرت من زيارة البعثة هي تأليف لجنة دائمة مكونة من أحسن العناصر التجارية والزراعية، والتي ستكون على اتصال مع لجنة هذه الغرفة للنظر فيما يهم تجارة البلدين.
وعند إتمام تأليف اللجنة الجديدة لهذه الغرفة سيكون أول اهتمامها الاتصال باللجنة الدائمة في مصر لتقرير خطة مشتركة للعمل في المستقبل. وليس من شك بأن هذا سيعود بفوائد جمة على القطرين.
وفي ديسمبر القادم
1
سيقام معرض زراعي صناعي في مصر، وقد قبلت الغرفة الاشتراك في هذا المعرض. واللجنة الجديدة سيكون عليها الاستعداد من الآن كي تكون معروضات السودان ظاهرة بمظهر لائق، وأنا متأكد بأنه يمكننا الاعتماد على مساعدة الحكومة في ذلك.
كذلك نؤمل بأن أكبر عدد ممكن من تجار هذه البلاد يغتنمون هذه الفرصة لزيارة المعرض ومشاهدة التقدم العظيم الذي حصلت عليه مصر في السنين الأخيرة صناعيا وتجاريا، ويتبادلون الآراء مع التجار المصريين للوصول إلى الغرض التي تسعى إليه وهو زيادة العلاقات بيننا وبين مصر.
وسيقام في هذه السنة مؤتمر دولي للغرف التجارية في باريس.
2
وكما كانت لي فرصة حضور مؤتمر فينا في العام الماضي نؤمل أن نتمكن من الحضور في مؤتمر باريس، وأن البعض منكم أيضا يغتنم هذه الفرصة للاجتماع برجال الأعمال في الأقطار الأخرى.
إحصائية تجارة البلاد:
بلغ مجموع وارداتنا في سنة 1934 مبلغ 3744313 جنيها مصريا يقابله مبلغ 2999479 جنيها مصريا في سنة 1933، ومجموع صادراتنا مبلغ 3821415 جنيها يقابله مبلغ 2587423 جنيها مصريا في سنة 1933، أو بزيادة مبلغ 744834 جنيها مصريا، ومبلغ 1233992 جنيها مصريا في الصادرات والواردات. من المبالغ المذكورة أعلاه زادت واردات الحكومة مبلغ 225883 جنيها مصريا، ووردات الجمهور مبلغ 519001 جنيه مصري. وبدون شك إنها نتيجة حسنة بالرغم من أن هذه الأرقام لا زالت أقل من أرقام بعض سنين مضت.
كانت إنكلترا أول البلاد في الواردات والصادرات، فقد استوردنا منها بمبلغ 972688 جنيها مصريا، وصدرنا إليها بمبلغ 2,084116 جنيها مصريا، أو بمعدل 26٪ من جميع وارداتنا، و54٪ من جملة صادراتنا، وكانت مصر ثانية البلاد بهذا المعنى، فقد استوردنا منها بمبلغ 871405 جنيهات، وصدرنا إليها بمبلغ 783798 أو معدل 23٪ في الوارد و20٪ في الصادر.
أما علاقاتنا بالبلاد الأخرى فلم تتغير كثيرا ما عدا اليابان، فقد بلغ الوارد منها للسودان مبلغ 754678 جنيها، أو معدل 20٪ من جملة وارداتنا، بينما من وارداتنا لم تأخذ اليابان إلا بمبلغ 50469 جنيها أو
من جملة الصادر، وقد ذكرت لكم هذا في خطابي الماضي، وتحدثت بذلك في فرص أخرى، ولكن يظهر أنه لا يوجد دواء لهذه الحالة لسبب بعض معاهدات مرتبط بها السودان، وبهذه الفرصة نتوجه إلى الحكومة بالرجاء أن تسعى بأول فرصة بتغيير هذه الحالة، حيث لا أجد مبررا لأن ندفع لليابان هذه المبالغ العظيمة بينما اليابان لا تهتم بأن تزيد مقدار صادراتنا إليها. إن حالة التقدم في تجارتنا في العام الماضي لا زالت في استمرار في الربع الأول من هذه السنة، ولنا الأمل في أن تكون نتيجة سنة 1935 كلها كذلك.
إن إنكلترا لا زالت أحسن عميل لنا. ولكن للأسف وبالرغم عن كل ما بذلناه لا زالت بعض صادراتنا تدفع 10٪ جمركا هناك. وقد ذكرت ذلك في تقريري الماضي، كما أني ذكرت بأننا ننتظر من إنكلترا مساعدتنا في أوجه أخرى، وذلك بإعادة النظر في قرض الجزيرة وفائدته، وقد بحث هذا الموضوع أشخاص ذوو نفوذ في إنكلترا. وقال صديقنا السير جيمس كري في مقال نشره في مجلة الجمعية الأفريقية، بينما كان يبحث في حالة التعليم في هذه البلاد ذكر نفس الموضوع. وهذا نص ما نشره السير كري: «منذ سنة 1900، وفي مختلف الظروف، حصل السودان على مساعدات ضئيلة من إنكلترا إلا ما كان بمعدل فائدة 6٪، وبحكم الظروف السياسية لقد حرم السودان من مساعدات مصر، كما أنه لم يكن له نصيب من الأفضلية التي منحت للبلاد الأخرى التابعة للإمبراطورية البريطانية، والتي كان يجب أن تمنح للسودان بالرغم عن الظروف السياسية.»
أظن أن جميعكم موافقون معي أن السودان - ولو لم يكن بنفس الحالة التي تربط البلاد الأخرى بالإمبراطورية - ما كان يجب أن يحرم من الفوائد التي حصلت عليها البلاد التي ترفع العلم البريطاني وحده.
السكرتير المالي:
في خلال السنة ترك هذه البلاد السكرتير المالي الذي استلم مالية البلاد في وقت الضائقة، والحقيقة أن المستر فاس يوم حضر لهذه البلاد قابلته حالة صعبة جدا. وقد تمكن بالرغم عن ذلك من موازنة الميزانية، وقد ترك لخلفه حالة أحسن، وإن لم تكن أقل صعوبة. إن تعيين المستر رجمان كسكرتير مالي للسودان قد قوبل باغتباط وارتياح في جميع الدوائر. وإنه تعيين في غاية التوفيق بالنسبة لمعرفته للبلاد وأهلها، وبكل تأكيد سيكون كأحسن سكرتير مالي حصلت عليه هذه البلاد، وإني أقدم للمستر رجمان تهاني جميع أفراد الهيئة التجارية. وصحيح أن السكرتير المالي تعين حين بدأت البلاد تنتعش، ولكن الحالة لا زالت تطلب عناية خاصة.
وقد كان أول أعمال السكرتير المالي أن صدق على ما يلزم للحكومة من المصروفات الضرورية لإدارة الأعمال وعلى منشآت جديدة ذات فائدة. وبهذه الفرصة أؤمل أن وقت النظر في أي مشروع جديد يسهل السكرتير المالي للهيئة التجارية الاشتراك فيه، وإني أؤمل أن جنابه يجيب طلب العموم بأن يعيد للتجارة ما أخذ منها بإلغاء احتكار السكر الذي كان من الأمور الاستثنائية التي قررت الحكومة العمل بها بعد الحرب. •••
كما تعلمون أن ميزانية سنة 1934 قد تعادلت، ولكن النتيجة النهائية قد زادت على الأرقام التي كان قدرها سلفا المستر رجمان، وفي التقرير النهائي للإيرادات يظهر أن إيرادات المديريات قد بلغت 600000 جنيه، وقد كان مقدرا لها 558000 جنيه. وإيراد المصالح 868000 جنيه، وقد كان مقدرا لها 735000 جنيه. وأهم زيادة في الإيراد كانت كالآتي:
من الجمارك مبلغ 87000 جنيه، ومن مصلحة الزراعة والغابات مبلغ 31500 جنيه. وعلى العموم فكل مصلحة قد زادت إيراداتها عما قدر لها.
كما أن إيراد المصالح العامة قد بلغ 2274000 جنيه، وقد كان مقدرا بمبلغ 2025000، وزيادة السكر كانت 56440 بالرغم من تخفيض سعر البيع. ومن عوائد الصمغ 77820 جنيها، ومن السكة الحديد 100000 جنيه، والمصلحة الوحيدة التي حصل فيها عجز كبير هي مصلحة الري السوداني التي قدر إيرادها بمبلغ 480000، ولم يبلغ ال 389000 جنيه، وهذه من سوء رداءة محصول الجزيرة في العام الماضي.
وقد كانت النتيجة العامة لسنة 1934 أنه بعد إضافة مبلغ 369000 جنيه لحساب احتياطي القطن كانت الزيادة في الإيراد عن المصروف مبلغ 25000 جنيه يعادلها مبلغ 9500 جنيه في السنة التي قبلها، والتي أضيف إليها أيضا مبلغ 145000 جنيه لحساب الاحتياطي، وأن هذه النتيجة تستدعي شكر جميع من ساهموا في الحصول عليها.
وأما لسنة 1935 فقد قدر السكرتير المالي أرقام الإيراد والمصروف بتحفظ كبير؛ مما يجعلنا نتفاءل خيرا بأن النتيجة النهائية ستكون أيضا بزيادة الإيرادات على المصروفات.
كانت ميزانية سنة 1934 مقدرة بمبلغ 2812000 جنيه للإيراد، و3809114 للمصروف، أي بزيادة 2886 جنيها. أما ميزانية سنة 1935 فقد قدرت بمبلغ 4035000 للإيراد، ومبلغ 4017000 للمصروف بزيادة 17873 للإيراد. على أن المصروف الذي زاد بمبلغ 2000000 عن سنة 1934 للإنشاءات جديدة كزيادة زراعة القطن في الجزيرة ومحالج القطن في كردفان وأعمال أخرى لفائدة البلاد.
وبالنسبة لحالة محصول القطن في الجزيرة هذه السنة، وحيث إن السكرتير المالي لم يقدر لهذا الباب إلا نفس أرقام سنة 1934، فالأمل عظيم بأن الميزانية ستترك زيادة كبيرة في الإيراد؛ مما سيمكن السكرتير المالي من عمل جملة تخفيضات لصالح التجارة.
وإني أهنئ السكة الحديد على التعريفة الجديدة التي جاءت نتيجة عمل طويل، والتي سهلت على التاجر عملية النولون لأي صنف بدلا من الطريق المعقد القديم، ولا يسعني إلا أن ألفت نظر هذه المصلحة لبعض النولونات العالية، وخصوصا نولون القطن، والزيادة الإضافية على بعض الأصناف، والتي يجب إعادة النظر فيها، خصوصا أنها وضعت أيام الحرب. أما الآن مع رخص الفحم والأدوات والزيادة العظيمة في إيراد السكة الحديد، فهذه النولونات ليس لها ما يبررها.
الجزيرة:
مما يسرنا جميعا أن حالة محصول القطن هذا العام بعد أعوام عديدة سيعطي أكثر مما قدر له، فجملة ما ننتظر من الفدان من زراعة الشركة الزراعية وشركة كسلا ستكون أربعة ونصف قنطار. إن إدارة شركة كسلا تستحق الشكر العظيم؛ فقد قاربت أن تصل إلى رقم قياسي لإنتاج فدان القطن خمسة ونصف قنطار.
كذلك الشركة الزراعية وخبراء الحكومة يستحقون كل الشكر للنتائج القيمة التي تحصلوا عليها في زراعتهم الواسعة بالتغلب على الآفات والحشرات.
جار العمل الآن على زيادة مساحة القطن في الجزيرة. ومنتظر أن تبلغ المساحة المزروعة في يوليو سنة 1937 مائتي ألف فدان أو ثمانمائة ألف فدان كمساحة إجمالية من مشروع. وهي غاية ما يمكن ريه بواسطة الجداول الرئيسية الموجودة.
إن الحالة في الجزيرة - والتي ذكرتها في خطاباتي الماضية - لا زالت موجودة بالرغم من أنها تحسنت بزيادة محصول هذا العام، ولا أرى طريقة لتغيير الحالة إلا إعادة النظر في شروط المشروع بأكمله حتى يصبح ذا فائدة أكبر للمزارعين.
إنه ليس لي أن أشير إلى إدارة الشركة الزراعية التي لها خبرة طويلة من مدة سنين عديدة ... لا نمل أي بحث. إلا أننا - معشر رجال الأعمال - لنا طريقتنا في بحث الأمور والوصول لتكوين فكرة لها على الغالب صلاحيتها.
إن الزراعة الحالية التي تسير على أساس المناوبة كل أربعة سنوات تكلف مصاريف زائدة للمحافظة على جداول في مساحة ثمانمائة ألف فدان لزرع مائتي ألف فقط قطنا، وقد يجوز أن المناوبة كل أربعة سنين تكون ضرورية لبعض الأطيان. ولكن ليس لكل المساحة، ولو أعيد النظر في هذا الموضوع، وتعادلت المناوبة لثلاث سنين لأمكن زرع مائتين وخمسين ألف فدان بدون أي زيادة تذكر في المصاريف.
نعم إن تقدم الحالة التجارية والزراعية تسمح لنا بأن ننظر إلى المستقبل بثقة أكبر. ولكن لا زالت أمامنا جملة مصاعب للتغلب عليها، إلا أنكم توافقونني بأن لنا الآن أن ننتظر بتحقيق آمالنا أن يكون المستقبل أحسن من الماضي.
إن أحسن ظواهر الحالة هو الاهتمام والنشاط الذي بذله معالي الحاكم العام وحضرات معاونيه الذين ينظرون إلى الهيئة التجارية بروح التعاون. وباختباري الطويل أقدر أن أؤكد لكم بأن العلاقات بين الحكومة والهيئة التجارية لم تكن في وقت من الأوقات أحسن منها الآن. ولزام علينا أن نتقدم بالشكر لمعالي الحاكم العام للخطة الحكيمة التي وضعها في هذا الشأن.
وبهذه المناسبة. ولو أنه ما زال أمامنا عمل طويل حتى نصل إلى الدرجة التي يمكننا فيها - نحن التجار - أن نقول بأننا حصلنا على كل ما يلزمنا من معاضدة الحكومة فيما يمكننا عمله في محيطنا التجاري، أقول بالرغم عن ذلك: إني أنتظر نتائج مجهوداتنا، وإنه يمكننا أن ننظر إلى الهيئة الحكومية بثقة متبادلة.
إن أول أعمال معالي الحاكم العام كانت إعادة تأليف اللجنة الاقتصادية التي تؤلف من رؤساء المصالح الكبرى الآن، والتي تنظر في أهم المسائل، وتعرض توصياتها رأسا على معالي الحاكم العام للتصديق، وبعد ذلك تصبح هذه المسائل تحت التنفيذ بحسب ما تسمح به الحالة المالية، وإن هذه الطريقة في العمل تمكن معاليه من الإلمام بجميع أمور البلاد، كما أن اتصال معاليه بجميع من في البلاد سبب آخر مهم يساعده للسير بالبلاد إلى الأمام، وقبل أن أختم تقريري أود أن أطلب منكم الموافقة على إرسال برقية لمعالي الحاكم العام معبرين باحترام عن تقديرنا العظيم لمعاليه، ونتمنى له الصحة الكاملة لكي يقود هذه البلاد إلى طريق النجاح.
3
أيها السادة
أشكركم لاستماعكم إلى تقريري الطويل، وإنا نعتمد دائما على تأييدكم لجمهورنا لتنمية مصالحنا المشتركة، ولتعود بالخير لهذه البلاد. ا.ه. (3-4) الانتخابات في غرفة التجارة - بيان رسمي
عقدت غرفة التجارة السودانية جلستها في منتصف الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة 12 إبريل سنة 1935 عند موعدها المحدد. وقد كان العدد الذي أمها في هذا اليوم كبيرا جدا، وقد افتتحت الجلسة بتلاوة تقرير الرئيس الذي ألقاه هو بنفسه باللغة الإنكليزية، وكان خطابا جامعا شاملا لكل أعمال الغرفة متتبعا في إجمال سير الحركة الاقتصادية في البلاد، ذاكرا الانتعاش الذي بدأ، معرجا على كثير من النقط ذات الاتصال بأعمال التجارة، ثم تحدث عن زيارة البعثة الاقتصادية المصرية للسودان والمباحثات التي دارت بينهما وبين رجال الغرفة وما اتفق عليه معها وما بقي معلقا للدراسات المقبلة. وبعد أن جلس جنابه نهض جناب المستر جورج توتنجي، فقرأ تعريب هذا الخطاب، ثم اقترح جناب الرئيس أن ترسل برقية لحضرة صاحب المعالي الحاكم العام، وتلا صورتها؛ فنال الاقتراح الموافقة الإجماعية، وكانت البرقية تتضمن شكر الهيئة التجارية مجتمعة لمعاليه على ما نالت من معونة منه ومن رجال حكومته في بحر السنة المنصرمة في جميع المرافق الحيوية، مقدمة لمعاليه أطيب التمنيات والإخلاص، ثم نهض جناب الرئيس مرة أخرى، فذكر أنه في اجتماع العام الماضي كان قد اقترح أن تكون مدة اللجنة سنتين بدلا من الانتخابات السنوية، ولكن رئي بعد انفضاض هذا الاجتماع أن هذا الاقتراح لا يمكن تنفيذه؛ لأنه يخالف قانون الغرفة الذي ينص على أن كل اقتراح لا يتفق مع القانون يجب أن يقدم به طلب من 15 عضوا يوقعون عليه ويكون موجودا بين يدي اللجنة قبل الاجتماع العام بزمن لا يقل عن 15 يوما.
ولما كان ذلك الاقتراح لم يحز هذه الصفة، فقد أوقف تنفيذه، ثم قدم البعض طلبا حائزا لهذه الصفة من كل الوجوه يطلب فيه مقدموه إعادة النظر في بعض مواد القانون بسبب تطور الحالة التجارية وصلة التجار بالغرفة، فوافق الحاضرون عليه ، وقد أعلن جنابه أن اللجنة عندما تدرس مشروع القانون وتضع تلك التعديلات تعقد جمعية عمومية للنظر فيها، ومتى أقرتها يصير القانون المعدل دستورا للغرفة - ومن ثم وزعت بطاقات الانتخابات على المجتمعين، وهي بطاقات تشتمل على أسماء المرشحين ومتروك بها فراغ لمن يشاء أن يضع اسم منتخب آخر غير المرشح، والبطاقة مشتملة على 42 اسما، فما على المنتخب إلا أن يشطب على الأسماء التي لا يرشحها للعضوية ويبقي 14 اسما، بشرط ألا يزيد عدد المنتخبين من أي جالية عن 5 أعضاء، وألا ينتخب من محل تجاري واحد أكثر من شخص واحد، وبعد أن يفرغ الناخب من انتخابه يضع بطاقته في الصندوق المعد لذلك.
وفي أثناء عملية فرز الأصوات تدفق المجتمعون في حديقة الدار يتناولون المرطبات والمحادثات حتى ظهرت النتيجة على اللوحة، فكانت كالآتي: المستر جورج توتنجي 102 صوت. المستر ألفريد كفوري 100 صوت. المستر ويكر 89 صوتا. المستر أزمرليان 87 صوتا. المستر سميث 85 صوتا. الشيخ محمد مدني يحيى 83 صوتا. المستر ويليامز 78 صوتا. مصطفى أفندي أبو العلا 77 صوتا. المستر كونتوميخالوس 70 صوتا. الشيخ أحمد حسن عبد المنعم 69 صوتا. المسيو تسكارغلو 61 صوتا. الشيخ السيد أحمد سوار الذهب 60 صوتا. عبد المنعم أفندي محمد 55 صوتا. المستر جورج مرهج 46 صوتا. ا.ه. (3-5) تجارة مصر مع السودان
تستورد مصر من السودان نحو 95 في المائة من حاصلاته (بعد استبعاد القطن والصمغ؛ إذ لا حاجة لنا بهما)، والواردات لمصر من السودان سنة 1934 هي:
الواردات
جنيها مصريا
السمسم
96428
الفول السوداني
38743
الذرة العويجة
354634
الماشية
36211
الغنم
14100
الجلود
12219
البلح
42943
السمك المجفف
8225
الفحم البلدي
11
الفاصوليا الناشفة
41955
الشطة
19557
لب البطيخ
33395
الذرة
23166
المسلي
25395
القرض
4205
والصادرات من مصر للسودان في السنة عينها هي:
الصادرات
جنيها مصريا
السكر
226067
تبغ وسجاير
108247
دقيق القمح
52
بضائع قطنية
144764
الأرز
1765
حبوب أخرى وخضروات وفواكه
23845
صابون
27567
أحذية ومراكيب وشباشب
3453
سبرتو وغاز
717
وقد بلغت قيمة الواردات لمصر من السودان سنة 1934 مبلغ 783798 جنيها.
وبلغت قيمة صادرات البضائع المصرية للسودان مبلغ 687123 جنيها ، أي بنسبة 20,4 في المائة بالتوالي من مجموع تجارة السودان، حيث بلغت قيمة الصادرات في سنة 1934 - 3848679 جنيها، وبلغت الواردات إلى السودان 3945149 جنيها.
وتعد مصر العميلة الثانية للسودان بعد إنكلترا.
المبادلات التجارية بين مصر والسودان
عقدت لجنة البعثة الاقتصادية المصرية إلى السودان بعد عودتها اجتماعا بمكتب مدير التجارة والصناعة الغرض منه وضع نتائج مباحث البعثة المصرية موضع التنفيذ، وإجراء ما يلزم للاتصال بالهيئات المختصة من المصالح الحكومية، وتمهيدا لهذا الإجراء أذيع تقرير اشتمل على بيان هذه العلاقات كالآتي:
أن واردات السودان من مصر سنة 1920 إلى سنة 1924 كانت 3,5 في المائة بالنسبة لمجموع وارداته.
ومن سنة 1925 إلى 1929 كانت 10,5 في المائة، وفي سنة 1930 كانت 8,5 في المائة، وفي 1931 كانت 15 في المائة، وفي سنة 1932 كانت 6 في المائة، وفي سنة 1933 كانت 11 في المائة، وفي سنة 1934 بلغت 22 في المائة.
الصادرات من مصر إلى السودان:
وأهم صادرات مصر إلى السودان السكر، والمنسوجات المصنوعة من القطن والحرير الصناعي، والأقمشة القطنية المصبوغة، والسجاير، والأتربة، والأحجار، والجير والأسمنت، والصابون، والحلويات، والحديد والظهر والفولاذ، وبذرة القطن، والنحاس، والورق.
ولوحظ أن صادرات السكر والمنسوجات القطنية المخلوطة بالحرير الصناعي زادت زيادة كبيرة، ويبلغ المصدر منها مقدار ربع صادرات مصر للسودان.
وكذا زادت صادرات الجير والأسمنت في هذه السنة زيادة كبيرة بسبب بناء خزان جبل الأولياء.
الواردات من السودان لمصر:
تستورد مصر من السودان: الذرة. السمسم. الفول السوداني. لب البطيخ. الحيوانات الحية. البقول. المسلي. البلح. التوابل «الشطة». الجلود. الأسماك المملحة: «فسيخ وملوحة». فول جاف.
وفي سنة 1932 صدر السودان لمصر من الذرة ما قيمته 13 ألف جنيه، ولكن ما صدرته في السنة الماضية (1934) بلغ 400 ألف جنيه.
وتنقسم واردات السودان إلى أهلية وحكومية. وقد نمت الواردات الأهلية حتى وصلت إلى 80 في المائة بعد أن كانت 53 في المائة.
وقد أصبح الميزان التجاري في صالح السودان في سنة 1934، بعد أن كان في صالح مصر قبل ذلك.
الأرز المصري:
لاحظت البعثة أن السودان يستورد من الأرز ما قيمته 11449 جنيها مصريا كله من الهند سوى 1809 جنيهات من مصر، وذلك بسبب غلاء أجور نقله بالسكة الحديد وشركة البواخر الخديوية، وقد طلب من حكومة السودان والشركة تنزيل أجور النقل، كما طلب من الحكومة المصرية إعفاء الأرز المصدر للسودان من الضرائب.
الأحذية:
وقامت اللجنة ببحث للوقوف على الأذواق السودانية لصنع الأحذية التي تلائمها.
وعن المصنوعات القطنية كالفانلات والشرابات ستعرض بالغرفة التجارية السودانية ليعرفها السودانيون 18500 جنيه. ورئي أن السودان يستورد فواكه بقيمة يخص مصر منها 3400 جنيه. فاقترحت اللجنة تخفيض أجور نقلها بالسكة الحديد بين مصر والسودان.
الجمارك:
يغلب في نظام الجمارك أن تعريفته 10٪.
غلاء السكك الحديدية
يرجع غلاء أجور السكك الحديدية في السودان إلى غلاء الفحم والوقود وقلة الركاب والحركة، ولا يمكن اتصال السكك الحديدية السودانية بالسكك الحديدية المصرية؛ لأن الخط الحديدي السوداني أضيق، ولكن يمكن وصل الخط السوداني إلى الحدود السودانية، ويقابله الخط المصري، وينقل الركاب من قطار إلى آخر.
عدد الموظفين
بلغ عدد الموظفين في سنة 1933 - 4757 منهم 2987 موظفا سودانيون، والباقون بين إنكليز ومصريين وسوريين وغيرهم. (4) الحالة الاقتصادية لمديرية دارفور
وصف الأديب يوسف عمر التني حالة دارفور فيما يلي:
تمتد مديرية دارفور من صحراء ليبيا شمالا إلى حدود مديرية بحر الغزال جنوبا، وتحد غربا بوادي كجا الذي يفصلها من مقاطعة واداي التي تكون الآن جزءا من أفريقية الاستوائية الفرنسية، وتحد شرقا بمديرية كردفان عند حلة الشريف كباشي - هذه المنطقة كثيرة الجبال والتلال، خصوصا في الشرق والشمال والغرب، وقليل منها في الجنوب كجبال الداجو وغيرها، ولا يكاد يوجد بها مكان متناسب إلا نادرا، وأرضها رملية وكثيرة الأودية والأشجار - مناخها حسن جدا في الشرق والوسط والشمال ورديء في الجنوب، ومتوسط في الغرب، ويبلغ عدد سكانها نحو 715543 نسمة، ومساحتها 144100 ميل مربع. وتبعد الفاشر عن الأبيض بمقدار 396 ميلا، وهي مسيرة ثلاثة أو أربع أيام بالسيارات.
سمي هذا الإقليم دارفور مع وجود القبائل الكثيرة فيه؛ لأن الفور هم أسبق القبائل إليه. وقد ينقسم السكان هنالك إلى عرب وفور وغيرهم من قبائل السود الأخرى. أما العرب فمنهم الزيادية والمسيرية، الرزيقات، بني هلبا وغيرهم. أما السود فمنهم الفور وغيرهم. كانت دارفور تحت سيطرة ملوك من التنجر آخرهم السلطان شاودورثيت، ثم آل الملك إلى العباسيين أولاد أحمد المعقور، وأولهم السلطان سليمان سلنج، وآخرهم المرحوم السلطان علي دينار لغاية سنة 1916، ومن ذلك التاريخ صارت دارفور تحت نفوذ الحكومة الحاضرة ومن أكبر مديريات السودان.
ولدارفور مكانتها التاريخية وعظمتها الخالدة؛ فقد كانت مهجر التجار ومحط آمالهم ومفتاح السعادة، وإن التاجر لا يرفع ذكره إلا إذا تردد إليها وقطع درب الأربعين يوم كانت التجارة تتمركز في مدينة كوبي التي ضربتها المهدية على يد المرحوم السيد محمد زنقل، وأتى إليها بالثمين الغالي، وعاد منها بالجواري والغلمان وريش النعام وسن الفيل يوم كانت أغلى من الذهب الأحمر. (4-1) الثروة الطبيعية
المحصولات الزراعية
لا شك أن الموارد الطبيعية لإقليم من الأقاليم هي في طليعة الدوافع لنهوضه الاقتصادي. وأهم موارد دارفور الطبيعية هي الزراعة. وتقدم زراعة التمباك ود عماري بدارفور على رأس محصولاتها التي تجلب إليها النقود، وإن الأحوال الجوية هنالك ملائمة لنمو التمباك، ويعلق الأهالي أهمية عظمى على هذا المحصول في إنعاش ثروتهم، وإذا ولينا وجوهنا شطر دارفور في البحث عن زراعة التمباك ود عماري ومعه أنواع المحصولات الأخرى وجدنا أنه الشاطئ الذي ترسو لديه سفينة بحثنا، فزراعته هنالك من الكثرة حيث تشغل بال كل فرد من السكان باستمرار، حيث لتجارته أهمية خاصة في داخلية البلاد (السودان)، ويظهر لنا أن أسعاره هي التي تقرر مستوى الأسعار لباقي أنواع محصولاتهم الزراعية الأخرى، فإذا كان سعر التمباك منخفضا فمن المعتاد أن يكون هنالك كساد عام. ولكن إذا كان التمباك متمسكا ومرتفع السعر أو إذا كان ثمنه في مستوى معتدل، فهذا التمسك يكون مصحوبا غالبا بميل مشابه له في أسعار المحاصيل الأخرى التي تبدو أنها تتأثر بتأثيره.
وحقيقة التمباك ما هو إلا الوحيد من محاصيل دارفور الزراعية الهامة. وهي المورد الوحيد لهذا الصنف الذي يستهلك القطر منه كميات وافرة بمبالغ طائلة تقدر بألوف الجنيهات سنويا. ويزرع التمباك ود عماري بكميات غير محدودة في طوبلة على مسيرة يوم إلى الجنوب الغربي من مدينة الفاشر ووادي بيرة ووادي شقرة بغرب الفاشر ووادي الملم جنوب الفاشر، وفي جهات نيالا وزالنجي وغيرها. أما المحل الرئيسي لزراعته بدارفور فهو طريلة. ويباع هذا المحصول على نظام المزاد العلني تحت إشراف الحكومة بسوق الفاشر. ولقد أحدث هذا النظام فائدة كبرى في إنعاش هذا الصنف منذ بداية من أوائل سنة 1931. وقد حصل سعر القنطار منه في عام سنة 1932 نحو ثلاثة جنيهات أو أكثر بسوق الفاشر، مع العلم أنه في نفس السوق كان يساوي 25 قرشا القنطار في أوائل سنة 1930، وتصدر منه كميات كبيرة سنويا، وقد بلغ ما دخل جيوب الأهالي من ثمن التمباك في عام سنة 1932 نحو 20000 جنيه مصري.
والتمباك هو من أهم مرافق الثروة بدارفور في الوقت الحاضر، ويعد أول صادراتها من المنتوجات الزراعية.
ويستعمل التمباك ود عماري (للنشوق) السعوط الذي يعد من أقدم الطرق التي ابتدعها الناس لاستعمال التبغ في غير هذه البلاد، وأن استنشاق السعوط كان معروفا منذ القرن الخامس عشر حيث قد كتب العالم كورتز (Cortes)
أنه رأى هنودا في المكسيك يسحقون أوراق التبغ، ويتنشقون المسحوق كما يتنشق الناس اليوم السعوط - ومن المكسيك انتقلت بدعة السعوط إلى فرنسا أولا في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يستعملون أوراق التبغ للتدخين فقط، وانتشر من فرنسا إلى سائر أنحاء العالم، لا سيما الجزر البريطانية.
كثير من تجار التمباك المعسرين بالفاشر يشترون أحيانا بلات وزن عشرة من تجار الجملة بأثمان عالية بمواعيد، وبسبب اضطرارهم قد يرهقهم الدائنون بأرباحهم الباهظة - وهم يقذفون بهذه البلات إلى السوق ويبيعونها بخسارة تكاد تكون فادحة، وأملهم في ذلك أن يشتروا التمباك ويستعوضوا منه هذه الخسارة مع الربح. وبالطبع لا يكون ذلك إلا إذا ارتفع السعر وصادفت الحالة حظا وافرا - وإنهم ربما ينسون تدهور سعر التمباك فجأة وتحل عليهم مواعيد الكمبيالات؛ ففي ذلك الحين لا خلاص لهم إلا عرض تمباكهم للبيع بخسارة، وبلا شك ينتج من ذلك انحلال في ميزان التمباك التجاري بزيادة العرض على الطلب، وزيادة على ذلك سيبقى عليهم دين وزن عشرة عندما تصادفهم الخسارة في السلعتين؛ ولذا نلفت نظر التجار هنالك الذين يهمهم هذا الشأن لتجنب هذا المسلك السيئ الذي ربما قضى على اسمهم تجاريا.
ومن منتوجات دارفور الزراعية الشطة التي تصدر للمقايضة بالنقود أيضا، حيث تجود بها الطبيعة بمحصول وافر في تلك الأصقاع. وهي تزرع بنطاق واسع في شمال دارفور وبجبل مرة وكاسي وزانجي. وشطة جبل مرة كبيرة الحجم. أما نوع كاسي وزالنجي صغيرة جدا، وتسمى بالدنقاية وحرارتها شديدة وهي أشبه بشطة القبانيب ورشاد، وتصدر الشطة من دارفور إلى أسواق كردفان بكميات كبيرة - ولا يفوتني أن أذكر أن مركز الجنينة بدار المساليت مورد كبير للشطة، وترد إليها من دارتاما الواقعة في المقاطعة الفرنسية.
ومن محصولاتها الغنائية الزراعية الأذرة والدخن، وتزرع الأولى فيها على قدر حاجة البلاد الداخلية بكثرة والغذاء الرئيسي للسكان هو الدخن، ويستخلصون من هذا النوع دقيقا أبيض ناصع البياض أشبه «بالكورنفلور»، ويسمونه بالجير، ويستعمل هذا الصنف عصيدة لطعام الفطار، ويمكن استعماله أيضا كحلو بدلا من استعمال الكورنفلور. ويعملون منه ما يكون كالأرز. وعند تقديمه للطعام لا يمكن تمييزه من الأرز مطلقا - ويزرع هنالك الماريق أيضا. هذا المحصول غير قابل للتصدير، وذلك راجع إلى عدم التوسع في زراعته، وعدم تقدم المواصلات بسبب بعد الشقة، وعدم إمكان نقله إلى محل آخر للتجارة.
ومن محصولات دارفور الطبيعية الرئيسية الصمغ العربي الذي ينمو نموا طبيعيا بكثرة في شرقها بدار برتي حول أم كدادة والطويشة. ويباع هذا المحصول بسوق النهود بكردفان بكميات كبيرة.
وقد تصدر من صمغ دارفور الذي بيع في سوق كردفان 304 أطنان في سنة 1934، وهذه أصغر كمية في السبعة سنوات الماضية كالبيان التالي:
سنة
طن
1928
973
1929
844
1930
1505
1931
1325
1932
411
1933
320
1934
304
ويزرع القمح في الأودية، فينجح نجاحا باهرا في الحجم والكمية، خصوصا في خور تندلني ببندر الفاشر - أما الخضر فحدث عنها ولا حرج. وهي تنمو بشكل يفوق ما يزرع عندنا في نواحي الخرطوم بالسواقي والشواديف، وقد يصدرون الطماطم الحمراء بكميات كبيرة بعد تجفيفها على الشمس إلى أسواق كردفان لاستعمالها صلصة.
الماشية
أريد بالمواشي هنا ذوات الخف والظلف كالإبل والبقر والغنم. ومن المعروف أن الناس اعتادوا تربية الحيوانات الأليفة منذ عهد طويل بغرض الانتفاع بألبانها ولحومها وأوبارها وأصوافها وغير ذلك - وتكثر أنواع هذه الماشية بدارفور، والبقر أكثر ما يقتنى في جنوب دارفور عند عرب الرزيقات وغيرهم. وهي تصدر بكميات غير محدودة لأسواق مديرية كردفان بالنهود والأبيض، وتصديرها يعد أول مصادر الرزق بتلك الناحية - أما الإبل فتكثر في الشمال عند عرب الزيادية وأم جلول والماهرية. وهي تستخدم في النقل محليا ما بين الأبيض والفاشر وواداي، ولكن الفائدة التي تعود على الأهلين من جراء هذا النقل تكاد لا تذكر بسبب مزاحمة السيارات، لها في هذه الآونة الأخيرة منذ بضع سنوات مضت - وتوجد سوق رائجة للإبل بالقطر المصري، وقد دلت التجارب على نجاح باهر في تصريف الإبل السودانية بأثمان مناسبة ذات فائدة للمصدرين - وتوجد أيضا الأغنام بكثرة بدار الميدوب ودار زغاوة. وأغنام الميدوب تصدر لسوق أم درمان، والأغنام الزغاوية تصدر لأسواق كردفان. وهما أقل في القيمة من الأغنام الأخرى، وهما من ذات الفراء الأسود، وتستعمل جلودها بالسودان كفراء للصلاة.
المنتوجات الحيوانية
إن ما يصدر من المنتوجات الحيوانية بدارفور يكاد ينحصر في الجلود فقط، وتجارة هذا الصنف واسعة النطاق وذات أهمية اقتصادية كبرى، خصوصا في أسواق ما وراء البحار - والجلود السودانية عموما لا ينقصها إلا القليل من الجودة، وهذا النقص يعزى إلى حد بعيد للإهمال في عمليتي السلخ والتجفيف. فإن كمية كبيرة من الجلود تنزل إلى المرتبة الثانية لهذا السبب. فتكون النتيجة هبوطها في القيمة المالية، وهذا كله يعزى لجهل أهالي البلاد بطرق تحضيرها على الطريقة المستحدثة. ومما يسرني ذكره بهذا الصدد أن المصلحة البيطرية باذلة قصارى جهدها لإدخال الطرق المستحدثة للسلخ والتجفيف حتى تنمو تجارة هذا الصنف وتعود على البلاد بالخير العميم.
والسودان وإن كان معروفا في أسواق العالم كمصدر للجلود، فهو لا يهتم بصنعها والإنتاج فيها كما تفعل الأمم الأوربية المتمدينة، بل إنك لتجد هذا الاهتمام بالمصنوعات الجلدية حتى بين الأمم غير الأوربية أو الأمم الشرقية. وبالرغم من النشاط الذي أبدته مصر في الأعوام الأخيرة في إنتاجها من المصنوعات الجلدية، فإن هذا النشاط لم يبعث في نفس السوداني حتى اليوم فكرة الاستفادة بجلود بلاده التي يستغلها غيرنا من الأمم - وكل ما نعرفه من المصنوعات الجلدية اليدوية، هو ما تداولناه عن أجدادنا وأجداد أجدادنا في هذه البلاد، وأهم ما نصنعه هو أحذيتنا القومية (المراكيب) التي تزاحمها الآن الأحذية اليابانية وخلافها مزاحمة مهلكة كان واجبا لتوقي خطرها القوة الكافية لدفعنا إلى تحسين منتوجاتنا الجلدية.
ولم نستحدث من مصنوعاتنا الجلدية غير مصنوعات دارفور التي تشمل المقاعد والشنط المكتبية. وهذه وإن كانت جميلة الصنع إلا أنها لم تتسع دائرة استعمالها عن هذا القطر إلا نادرا، وهذا ما يجعلها قليلة القيمة التجارية، وإن مركز الصناعة الجلدية بالسودان هو دارفور، وتقوم الجنينة عاصمة المساليت على رأس مدن دارفور في صناعة المراكيب التي تشبه الجزم الكشف، وتفضل عند كثير من الوطنيين على الجزم نفسها، ويا حبذا لو أقبل مواطنونا الكرام على استعمالها بدلا من استعمال الجزم اليابانية التي لو نظرت إليها نظرة الفاحص المدقق لوجدتها لا تساوي شيئا تجاه هذه المراكيب الوطنية التي لصناعتها جاذبية الطرافة في اللون والشكل.
وأهل الجنينة أيضا يجيدون الدباغة والصبغة إجادة فائقة، خصوصا دباغة جلود الأغنام ذات الفراء. وبهذه المناسبة أذكر أن جلود أغنام السودان ذات الفراء جلود دقيقة النسيج وخفيفة؛ فإنها تخرج أحسن أنواع (الأجلاسيه)، وتستعمل بنطاق واسع في صناعة القفازات ذات الدرجة الأولى، وكثير من المصنوعات الجلدية الدقيقة وأحسن أنواع (الكموش)، ولهذه الجلود سوق رائجة ممتازة في أمريكا التي تصدر إليها من هذا النوع نحو
طنا في سنة 1934 من مجموع صادراتنا الجلدية البالغ قدرها 1168 طنا.
وتستعمل الجلود بدارفور في صناعة الشباشب وأشياء أخرى يطول شرحها نذكر منها الستاير الجلدية التي تصنع على شكل الرهط العربي الذي يستعمله الفتيات السودانيات منذ العصور السحيقة، ولقد وجد هذا الرهط في قبور قدماء المصريين واستعمالها كستاير ما يفي بالغرض المطلوب تماما، ولها أهمية كبرى للوقاية من الذباب وما شاكله من الحشرات المنزلية - كما أذكر أيضا صناعة فرايات سروج الخيل وأكياس المخدات - وإن المصنوعات الجلدية اليدوية بدارفور يعتمد عليها الأهالي كمورد ثان قوي يوازي التمباك في إنماء ثروتهم.
وتستعمل الجلود بالخارج في العدد الكثير من حاجات البشر اليومية، وهي عماد صناعة الأحذية (الجزم وما شاكلها) وشنط الملابس والمحافظ بأنواعها - وسروج الخيل، ومقاعد السيارات، وأشياء أخرى كثيرة - ووظيفة الجسم الطبيعية أن يكسو جسم الحيوان من تأثير العوامل الجوية، ولا شك أنه يختلف من حيث كثافته بحسب نوع الحيوان وجسمه وطقس البلاد التي يعيش فيها، كما يختلف باختلاف أجزاء الجسم. فجلود الفيلة مثلا التي تعيش في الفيافي والقفار أكثر سمكا من جلود الأبقار التي تعيش في القرى والمزارع، وجلود البقر الإناث تختلف عن جلود الثيران، كما أن جلود الضأن تختلف عن جلود الماعز وهلم جرا. وبطن الجلد يختلف عن ظاهره، وإن أمتن أنواع الجلود وأحسنها هي جلود العجول التي تعيش على الألبان فقط. ومن هنا يعلم لنا أن لغذاء الحيوان تأثيرا عظيما في نوع جلده من حيث الجودة.
سبق أن ذكرت أن الجلود السودانية - بصفة عامة - لا ينقصها إلا القليل من الجودة، وها هي أسباب التلف فيها:
تنقسم أسباب تلف الجلود عندنا إلى قسمين، وكلاهما يسبب ضررا عظيما للجلود حتى تفقد ميزتها؛ فتقل قيمتها في السوق: أما القسم الأول فهو ما يتعلق بطريقة السلخ، وليست طريقة السلخ بالعملية السهلة التي يستطيع أن يزاولها كل من استطاع أن يمسك السكين ويمر بها على جسد الحيوان فيفصله عن جسده دون مراعاة لما ينتج من وراء ذلك من أخطاء ربما أتلفت الجلد. فعملية السلخ عملية منظمة لها قوانينها، ولها تدريبها الخاص، ولها طرقها المضمونة التي لا تنتج ما يسبب تلفا للجلد، وأول شروط السلخ هو أن تكون المدية حادة لدرجة أنها تزيل الشعر من جسد الإنسان إذا جربها عليه لأن السكين غير الحادة هي التي تسبب الخروق التي تشين الجلد وتقلل من قيمته - كما أن السكين الحادة وحدها دون السالخ الماهر هي - أيضا - خطر على سلامة الجلد، فلا بد أن يكون العامل ماهرا والسكين حادة، وبذلك تضمن سلامة الجلد من الخروق، وتبعد العيوب عنه. أما القسم الثاني فهو ما يتعلق بعمليتي التطبيق والتنشيف. ومن العمليتين تتسبب أخطار عظيمة تؤدي بقيمة الجلد إلى المرتبة الدنيا - أما عملية التطبيق فتتداول عندنا دون مراعاة لما يعلق بالجلد من لحوم أو دهن يسببان عفونة في الجلد بعد تطبيقه بأيام، وبذلك يفقد جودته، كما أن كثيرا من الجزارين يعمدون إلى مسح الجلد بالتراب أو الأوساخ، ثم يطبقونه، وأملهم في ذلك أن يزيدوا وزن الجلد، ولكنهم ينسون أن هذه العملية تشين الجلد؛ فالتاجر الذي يشتريه لا يبقى عنده يومين أو ثلاثة إلا ويفقد قيمته - ومما يسبب أيضا ضررا بليغا بالجلد وضعه في الشمس مدة طويلة قبل إجراء عملية مسحه بالملح.
ومما تقدم نفهم أن طريقة استغلال الجلود غير صالحة، ولكن هذه المعضلة تعالج كثيرا إذا أوجدنا في السودان المدابغ الفنية ذات العدد والآلات المنظمة، ولعل بعض المتمولين الوطنيين أو ملجأ القرش يفكر في هذه الناحية تفكيرا جديا يجعلهم يستفيدون من هذه الدباغة في ترويج الأحذية الوطنية، وقطع خط الرجعة على الجزم اليابانية، ومن المهم قبل المدبغة تعليم بعض الطلبة هذا الفن بالخارج. ويمكن التعليم في مصر أو الشام بدون كبير زمن أو نفقة تذكر.
المسلي
من منتوجات دارفور الحيوانية المسلي، وهي تعد في مقدمة أقاليمنا في تصدير المسلي، ولكن الذي يؤسف له أن مسلي دارفور لا يتمتع بسمعة حسنة بين الأوساط التجارية في السودان. وسبب ذلك عدم إنضاجه بالطريقة التي تضمن له استمرار الطلب والرواج في الأسواق عند المستهلكين. وسبق لي أن بينت ذلك فيما قلته عن كيف نروج محصولاتنا في الأسواق العالمية - فهأنا أكرر طلبي مرة أخرى على تجار المسلي هنالك أن يعطوا هذه السلعة ما تستحق من عناية في الإنضاج والنظافة وعدم التلويث بما يشين سمعة مسليهم حتى يحصلوا على الفائدة المنشودة ويشيدوا اسما حسنا لمسلي دارفور عند جميع المستهلكين.
صناعة الأحذية الفاشرية
ليست مدينة الفاشر بالمدينة الزراعية بحيث تكفي لشغل جميع سكانها بالزراعة فقط؛ لذا فقد تحول فريق من سكانها شطر صناعة الأحذية الفاشرية المعروفة بالمراكيب الفاشرية التي يستعملها السواد الأعظم من الشعب الوطني، وهي تكاد تكون في مقدمة أحذيتنا القومية من حيث شهرتها بين الأوساط السودانية - وكثير من العائلات هنالك يعيشون على هذه الصناعة؛ إذ هي المورد الوحيد لكسبهم - وتشتهر المراكيب الفاشرية بمتانتها وجودة صنعها، وشكلها بديع. وهي تقي الأقدام تماما من تأثير الرطوبة وحرارة الشمس المحرقة، وهي الواقية أيضا للحافي من أضرار الأحجار والشوك وغير ذلك من الأعشاب المضرة - ولا شك أن استعمال الحذاء المتقن بالمعنى الصحيح هو الذي يكسب الإنسان صحة بدنية وذهنية - وأن استعمال النوع الرديء الرث الذي لا يقي من تأثير الحر أو البرد مثل الجزم اليابانية وما شاكلها التي اتخذناها في هذا الزمن لباسا قوميا تقريبا، فهي في الحقيقة رمز للشخصية البائسة التعسة؛ فإن لبسها في الحر يسبب البلهارسيا وفي البرد تسبب أمراض الأسنان - ولا يفوتني أن أذكر أن كثيرا من الأمراض مصدرها استعمال مثل هذه الأحذية التي تسبب عفونة في الأرجل - وربما ظن البعض أنها رخيصة، ولكن عندما تقارن ثمنها بالزمن الذي تعيشه وعدم فائدتها الصحية، نجدها أغلى ثمنا من المراكيب الفاشرية - ومثال ذلك المركوب الفاشري المتوسط لا يزيد على مبلغ 150 مليما في سوق الخرطوم، وهو يعيش أكثر مما تعيش ثلاث جزم يابانية سعر 7 قروش مثلا، ويمتاز عليها بالوقاية التامة للرجل من تأثير العوامل الجوية مثل الحر والبرودة - ولما لم يكن لوسائل تشجيع الصناعات الوطنية حد أو نهاية، وجب علينا أن نفضلها على الأجنبية ولو كانت أغلى في الثمن، وبذلك نضمن عدم تلاشي صناعاتنا كما يفعل غيرنا من الأمم من طرق التشجيع لحماية صناعاتها بما يلائم طبائع أهلها.
وإن تشجيعنا للمصنوعات الوطنية سيخلق عملا واسعا للأيدي في صناعة كهذه يمكن أن يشتغل فيها أضعاف عدد المشتغلين بها الآن، وبذلك نكون أسدينا أجل الخدمات لوطننا المحبوب. (4-2) الخيول في دارفور
قد يصح لنا أن ندرج الخيول تحت المنتوجات الحيوانية بالرغم من أن المتعارف بيننا أن يطلق هذا الاسم على ما ينتجه الحيوان المقتول لا على الحيوان نفسه - وعلى هذا الاعتبار نتحدث عن الخيول في دارفور كحلقة من هذه السلسلة التي بدأناها.
تشتهر دارفور بخيولها النادرة المثال بهذا القطر، ولكن نسلها ليس بالجيد لو قورن بخيول نجد والعراق والحجاز أو الخيول الأجنبية عموما؛ ولذا فكر أولو الأمر في استجلاب الفحول منذ سنين مضت وأرسلوها لتلك المقاطعة، وقد أتت التجارب بنتائج حسنة حتى استغنت بها الآن حكومة السودان وعشاق الخيل عن الجياد الأخرى ما عدا السودانية والدارفورية. ومعظم طلبات الحكومة تستورد سنويا من جنوب دارفور عندما تقام المعارض السنوية للخيول بتلك الناحية.
ربما ذهب بنا حسن الظن بأن يكون قطرنا من مصدرات الخيل للخارج، وفي هذا من الفوائد الاقتصادية ما فيه؛ إذ تبقى أموال البلاد في داخلها وتجلب أموال أخرى من الخارج، فتزداد مقدرة الشراء وتسري في حركة الأخذ والعطاء روح ربما أفادت أسواق المحصولات الأخرى والواردات فائدة تذكر.
منذ المحاولات الأولى التي عملت لحصر الخيل وتحسين تربيتها في دارفور من سنين مضت قبل التقدم بالمشروع الحكومي قد أزيلت بنجاح باهر كثير من الصعوبات الاقتصادية والحيوية، كما أن معارضة الأهالي في إدخال الطرق الحديثة قد أزيلت.
إن النجاح الباهر الذي لازم المشروع يعزى - إلى حد بعيد - إلى المساعدات التي قدمها كثير من الموظفين في دارفور بإذاعتهم ونشرهم المعلومات الخاصة بتحسين طرق تربية الخيل التي أدخلها الكبتن أودس بك المفتش البيطري بتلك المديرية سابقا.
وإن المشتريات الكثيرة بجنوب دارفور تدخل مبالغ طائلة إلى جيوب أصحاب الخيول، وتساعدهم في تسديد ضرائبهم وقضاء لوازمهم الضرورية، وخصوصا في الزمن الذي كانت التجارة فيه متأخرة. ومما هو جدير بالذكر أن حكومة إيطاليا قد اشترت كمية من خيول دارفور لحكومة أريتريا في المعرض الماضي. (4-3) دارفور في الصناعة الحديثة
يخيل إلي أن سيكون لهذه المديرية القديمة شأن وأي شأن في التاريخ الصناعي في هذا القطر: فهي منذ زمان بعيد تتمتع بشهرتها كمديرية مؤهلة للصناعات اليدوية الدقيقة. وها هي قد بدأت في طورها الحديث تساهم مساهمة لا بد أنها ستغدو فعالة في الحركة الاقتصادية في البلاد - وستكون دعامة من أقوى دعامات صرحنا الاقتصادي القادم، كما ستكون خير قدوة لغيرها من المديريات في استغلال كل مواردها الخام استغلالا صناعيا ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
والمثال الذي نسوقه لك اليوم ونحدثك عنه في هذا المقال هو صناعة الدبارة التي أصبحت ذات شأن في الأوساط التجارية المحلية، وهي واحدة من أمثلة عدة لدخول دارفور في الصناعة الحديثة. وأول ما عرفت دبارة دارفور في سنة 1931 بطريق المصادفة. إذ حصل أن انتبه حضرة عثمان أفندي محمد خير مساعد حكيم شفخانة زالنجي إلى تلك الخيوط الجميلة التي يصنعها بعض مرضاه من الأهلين، فلفت إليها أنظار ولاة الأمور الذين أعطوها ما تستحق من احتفال وعناية. وفي مقدمة هؤلاء جناب المستر ساندسون الذي كان نائبا لمعتمد زالنجي في ذلك الحين - لقد فكر المستر ساندسون المذكور لاتخاذ أنجع الوسائل التي تكفل استغلال هذه الصناعة استغلالا يعود على الأهلين بالنفع العميم حتى أبرز هذه الصناعة بجهوده الجبارة إلى حيز الوجود - وهو لا يألو جهدا في تحسينها وإعلاء شأنها حتى أصبحت تستعمل في دواوين الحكومة. ولقد جربت استعمالها بعض الشركات.
وفي الجنينة يوجد مصنع للدبارة، وهو مصنع شقيق لمصنع زالنجي، وإن هذين المصنعين يؤذنان بأنهما سوف يحلان مكانا جليلا في صناعة الدبارة بالسودان - وهذه الصناعة تشرف عليها الآن الحكومة. وأصبحت صناعة الجنينة تزاحم صناعة زالنجي، وذلك بفضل الجهود العظيمة التي بذلها المستر ساندسون عندما نقل إليها كمساعد للمعتمد هنالك - ولقد استطاع المستر ساندسون أن يحصل على آلات حديثة لصناعة الدبارة والخيش بالجنينة. وينتظر أن يكون لمصنوعاتها شأن كبير كما تدل التجارب على ذلك - كما ينتظر الحصول على نفس الآلات لزالنجي.
مم تصنع الدبارة؟
تصنع الدبارة بزالنجي قبيلة الفور من اللحاء الداخلي من ذلك النبات البري المعروف عندهم بالكوكنج «كركديه». ويقوم بهذه الصناعة الرجال، ويستعمل المحصول محليا في صناعة الشرك لدجاج الوادي وغيره من صغار الحيوانات التي تؤكل.
يجمع هذا اللحاء، ثم يغلى في محلول من الماء والأملاح النباتية يسمى بالكمبو، ثم يترك لينشف قليلا، ثم يصنع وهو رطب، ويمكن خزن هذا اللحاء وهو خام لمدة غير محدودة دون أن يطرأ عليه انحلال أو فساد قبل استعماله. ولكن لقد وجد أن أحسن النتائج إنما هي وليدة استعمال اللحاء وغليه بالكمبو وهو في حالة رطوبته الطبيعية. وليس هناك ضرورة ما تستدعي استعمال هذا اللحاء بعد تلك العملية مباشرة، بل يمكن أن يخزن لمدة شهور حتى يجيء أوان العمل ويتوفر هذا اللحاء لجامعيه في شهري أكتوبر ونوفمبر من كل سنة.
وتصنع الدبارة بالجنينة من نبات (التنجت) كما يسميه المساليت والأرنجة، ويسمى بالعربي (لوبيا الغزلان)، وهو نبات من فصيلة الفاصولية يزرع في الأراضي الرملية بواسطة (تامة وارنجة). وهم يأكلون الورق والثمر، ويصنعون من لحاء جذوره الدبارة - كما تصنع أيضا هنالك من نبات آخر يسمونه (نيادو) بالمسلاتي وبالعربي ملوخية الرهد. وهذا النبات ينبت على ضفاف الوديان في زالنجي ودار مساليت، ويكثر في دار مساليت ودار قمر، وتصنع أيضا من ألياف أخرى مثل السيال وخلافه، وإن هذه الصناعة بزالنجي والجنينة تعتبر العمود الفقري لنمو مرافق الثروة بهما، حيث البلاد تحتاج لهذا الصنف بكثرة حكومة وشعبا. فالأمل عظيم أن نرى الدبارة الدارفوراوية قريبا تزاحم الدبارة الطليانية مزاحمة مهلكة، وذلك من الميسور جدا إذا عملت الدعاية الكافية وعرض الصنف في المحلات التجارية الكبيرة. ولعل بعض تجارنا الوطنيين يفكر في احتكار الصنف ونشره في الوسط التجاري. ا.ه.
إلغاء باقي السبعة ونصف في المائة
انتهزت الحكومة السودانية فرصة عيد اليوبيل الفضي لجلالة الملك جورج الخامس في هذا العام، فألغت الثلاثة في المائة التي كانت باقية من استقطاع السبعة ونصف في المائة، والتي دعا لخصمها من مرتبات المستخدمين استحكام الضائقة في السنين السالفة - فانتهزت الحكومة هذه الفرصة وأصدرت منشورا بذلك.
وعندما أذيع هذا المنشور قيل بأن في النية صرف نصف ما استقطع من مرتبات المستخدمين وبأن الصرف سيكون لشهر واحد مما خصم.
تقرير بوليس مديرية الخرطوم
نشرت هيئة البوليس لمديرية الخرطوم تقريرها عن سنة 1934، وقد قارن التقرير بين الجرائم في سنة 1933 و34، فكانت في الأولى أقل منها في الثانية. ويعلل التقرير هذه الزيادة لاستحداث مشاريع كبيرة في الخرطوم وبعض نواحيه كمشروع خزان جبل الأولياء وغيره من المنشآت. على أن التعليل يبدو غريبا لأول وهلة؛ إذ المعلوم أن إيجاد المشاريع الكبيرة مما يساعد على تخفيف الجرائم التي كثيرا ما تدعو إليها البطالة وقلة العمل. وإنشاء مثل هذه المشاريع بطبيعتها داعية للعمل ومخففة لوطأة العوز الذي من أجله ترتكب الجرائم. وقد تزول هذه الغرابة إذا نظرنا إلى البطالة وانتشارها في أنحاء البلاد قبل بروز هذه المشاريع. ونظرنا من ناحية أخرى إلى تعطش الناس إلى العمل وتكاثرهم في بقعة محدودة كمنطقة خزان جبل الأولياء مثلا. وقد وفد الناس إليها من كل صوب، وهؤلاء الناس خليط من جميع الأجناس، وفيهم من يحمل طبيعة الإجرام بأنواعه، وفيهم من فشل في الالتحاق بأي عمل. (5) بريد السودان وأعالي النيل
يقوم البريد للسودان من القاهرة عن طريق النيل (الشلال وحلفا) مرتين في الأسبوع في يومي الاثنين والخميس.
المراسلات العادية يجب تسليمها قبل الساعة 6,30 مساء.
والموصى عليها يجب تسليمها قبل الساعة 5,30 مساء.
أما الطرود فقبل الساعة الثالثة بعد الظهر.
ويقوم قطار بالبريد بين الخرطوم وسنار في أيام الأحد والخميس. ويستمر في سيره إلى كوستي والأبيض.
أما البواخر النيلية فتسير من الخرطوم إلى الجنوب بالكيفية الآتية: (أ)
مرة واحدة في كل شهر لمشرع الرق (بحر الغزال) عندما يكون نهر الجور مغلقا أمام الملاحة (من أكتوبر-يونية من كل سنة). (ب)
مرة واحدة في كل أسبوعين لمشرع الرق وواو عندما يكون نهر الجور صالحا للملاحة (يولية-سبتمبر) من كل سنة. (ج)
مرة واحدة في كل أسبوعين إلى جوبا في الصيف ومرة واحدة كل أسبوع في الشتاء (يناير-مارس) تقريبا. (د)
مرة كل شهر إلى جمبيلا طول السنة؛ لأن الطريق غير منتظمة.
صاحب السعادة السير ستيوارت سايمز حاكم السودان العام.
تعريفة أجور المراسلات المتبادلة في داخلية القطر المصري وللخارج
أنواع المراسلات
المراسلات المتبادلة في داخلية القطر المصري وصادرة إلى السودان
المراسلات الصادرة إلى البلدان الخارجية الداخلة في أنحاء البريد العام
مراسلات
5 مليمات عن كل 30 جراما أو كسورها
20 مليما لغاية 20 جراما و13 مليما عن كل 20 جراما أو كسورها زيادة عن الأولى
تذاكر بريد مفردة
3 مليمات عن كل تذكرة
13 مليما عن كل تذكرة
تذاكر بريد خالصة الرد
6 مليمات عن كل تذكرة
26 مليما عن كل تذكرة
جرائد ومطبوعات دورية
1 مليم عن كل عدد أو نسخة -
المطبوعات غير الدورية. الجرائد والمطبوعات الدورية المنشأة في البلاد الخارجية الجاري تداولها داخل القطر
2 مليم عن كل 50 جراما أو كسرها لغاية 2000 جرام
4 مليمات عن كل 50 جراما أو كسورها لغاية 2000 جرام
أوراق الزيارة
2 مليم عن كل 50 جراما أو كسرها لغاية 2000 جرام
4 مليمات عن كل 50 جراما أو كسورها لغاية 2000 جرام
أوراق الأشغال
2 مليم (أقل رسم عن أوراق الأشغال مليمان)
4 مليمات عن كل 50 جراما أو كسورها، وأقل رسم يحصل عن أوراق الأشغال هو 20 مليما
عينات
2 مليم عن كل 50 جراما أو كسورها لغاية 5000 جرام، وأقل رسم مليمان
4 مليمات عن كل 50 جراما أو كسورها لغاية 500 جرام. وأقل رسم هو 8 مليمات (5-1) التلغرافات المرسلة إلى السودان
التلغرافات التي تتبادل مع السودان على نوعين:
الأول: (تلغرافات مستعجلة)، وأجرتها مائة وعشرون مليما عن التلغراف المركب من ست كلمات وأقل من ست كلمات، وما زاد على ذلك فباعتبار عشرين مليما عن كل كلمة زيادة.
الثاني: (تلغرافات عادية)، وأجرتها ستون مليما عن التلغراف المركب من ست كلمات أو أقل، وما زاد عن ذلك فباعتبار عشرة مليمات عن كل كلمة زيادة. وينتظر تخفيض هذه الأجرة.
مكاتب تلغراف السودان هي الآتي بيان أسمائها بعد، وهي مستعدة لقبول التلغرافات باللغات العربية والأفرنجية:
أبو حمد - سودان
الأضية النهود
الدويم
أبو زبد الأبيض
الجبلين كوستي نيل أبيض
الروصيرص
أبو نعامة - سنجه
الجنينة
الرنك
أتبره
الحصيحيصة
الرهد
أرصفة بورسودان
الخرطوم
الزيداب
أرقو - سودان
الخرطوم البحري
السعاتة الأبيض
أركويت (يفتح في فصل الصيف)
الحندق
السوكي
أرومه
الدامر
الفاشر
أكوبو
الدبة
القضارف
أوونج
الدلنج سودان
القطينة الدويم
الأبيض
الدم جمد النهود
الكاملين
الكوه الدويم
تومبي بور
قلابات
الليري تلدوي
جبينت
قلع النحل
المسلمية
جبل الأولياء
كابوتا
الناصر سودان
جبل الحلة - النهود
كادقلي
النهود
جبل دوليب ملكال
كاكا - سودان
أم درمان
جمبيلا
كدوك - ملكال
أم روابه
جوبا
كرمة النزل
أم كدادة الفاشر
حاج عبد الله بركات
كريمة
باره - سودان
خشم القربة - كسلا
كسلا
بربر
دلقو
كنجور بور أعالي النيل
بريد منقلة بور
دار عقيل - سنجه
كرمك
بريد منقلة جوبا
دنقلة - سودان
كوستي - نيل أبيض
بركات
رشاد
مروى
بور أعالي النيل
رفاعة
مشروع الرق - واو
بورت سودان
رمبيك
ملكال
بورت سودان اللاسلكي
زالنجي
ملوت كاكا
تالي بور
سنار
موت ديد
تلودي
سنجة
نيالا
تندلتي
سنكات
واد بنده النهود
ننجاسي السوق مروى
سواكن
وادي حلفا
توريت
شندي
واو
توكر
طابية الجنينة
ود النايل سنجه
تونجا ملكال
عبرى
ود مدني (5-2) فيما يتعلق بالتلغرافات الخارجية
قانون التلغرافات التي لخارج مصر هو نفس المتبع في داخلية القطر ما عدا الأحوال الآتية:
التعريفة
أجرة التلغرافات التي ترسل إلى البلاد الخارجية تحصل بواقع الكلمة الواحدة البسيطة حسب التعاريف الموجودة بمكاتب التلغراف، وتختلف قيمة أجرة الكلمة باختلاف البلاد المرسل إليها، وباختلاف الطرق التي تتبعها التلغرافات.
والتعريفة المذكورة هي عن أجرة الكلمة الواحدة من أي مكتب من مكاتب الوجه البحري. أما التلغرافات التي تصدر من الوجه القبلي فتضاف ستة مليمات لكل كلمة على القيمة الموضحة بالتعريفة إذا كانت البرقية «عادة» وثلاثة مليمات إذا كانت البرقية «مؤجلة».
التلغرافات المستعجلة
أجرة التلغرافات الخارجية المستعجلة هي صنف أجرة التلغرافات الخارجية العادية.
لا تقبل تلغرافات بواقع المستعجل إلى بعض ممالك وارد بيانها بدليل التلغراف.
تلغرافات الحكومة لخارج القطر المصري تتحصل أجرتها بواقع الأجرة العادية حتى لو كتبت عليها كلمة «مستعجل»، ويجب على مكتب التصدير أن يشطب هذه الكلمة عند المحاسبة.
التلغرافات المؤجلة المعنونة لبعض بلاد أجنبية
تقبل التلغرافات المحررة بلغة واضحة المعنى بنصف الأجرة العادية لبعض البلاد الأجنبية عن طريق الإيسترن أو أي طريق آخر من الطرق المبينة بالتعريفة ودليل التلغراف. وهذه التلغرافات يجب أن تكون محررة باللغة الفرنسية، أو الإنكليزية، أو العربية (بحروف لاتينية)، أو الإيطالية، أو بلغة البلد المرسلة إليه أو المتصدرة منه، ويمكن الاستعلام عن الشروط الأخرى لقبول هذه التلغرافات من مكاتب التلغراف.
التلغرافات الجفرية والاصطلاحية
التلغرافات المحررة بلغات سرية (جفرية كانت أو اصطلاحية) تقبل لجميع الممالك الخارجية ما عدا بعض ممالك مبينة بدليل التلغراف، والتلغرافات المحررة بلغات سرية المتصدرة من الحكومة أو الوكلاء السياسيين تقبلها جميع الممالك.
التلغرافات التي تصدر عن طريق حلفا
تقبل مصلحة التلغراف الأخبار التلغرافية التي برسم الجهات الآتية عن طريق حلفا باللغات والتعريفة الموضحة أدناه
عن الكلمة الواحدة
من الوجه البحري (مليم)
من الوجه القبلي (مليم)
الأريترة باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وكسلا
29
23
الحبشة باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وكسلا
37
31
السومال الإيطالي أو بنادير باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وكسلا
35
29
كزيمابو باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وكسلا
35
29
عدن باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وكسلا
67
61
جيبوتي باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وبورسودان ولاسلكي عدن
113
107
بيريم باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وكسلا
67
61
الصومال الإنكليزي:
بربره باللغة الأفرنجية فقط طريق حلفا وكسلا
91
85
الحجاز:
الطائف وبحره ومكة باللغة العربية والأفرنجية طريق حلفا وبورسعيد
76
70
جدة باللغة العربية والأفرنجية طريق حلفا وبورسعيد
70
64
باقي الجهات الأخرى باللغة العربية والأفرنجية طريق حلفا وبورسعيد
111
105 (6) نقل حسابات صندوق التوفير بين القطر المصري والسودان
يمكن نقل حسابات صندوق التوفير بين القطر المصري والسودان، وكذلك يمكن استرداد المبالغ المودعة في صندوق توفير أحد القطرين من القطر الآخر، كما يجوز الاسترداد بالتلغراف.
ويؤخذ عن كل عملية من هذا النوع رسم قدره خمسة مليمات عن كل جنيهين أو كسورهما.
هوامش
الفصل الثامن والعشرون
في وظائف السودان والموظفين
عدد موظفي حكومة السودان 4757، وكان عدد الموظفين المصريين في حكومته 1200 أصبحوا الآن حوالي 300. وكان عدد الموظفين السوريين 230 فأضحوا 20. ونزل عدد الموظفين الإنكليز إلى حوالي مائة.
المستر ه. ب. املي مدير عام سكك حديد السودان.
وللمعاش فئتان: فئة (أ) وفئة (ب). وفئة (أ) تشمل الموظفين السودانيين، وفئة (ب) تشمل الموظفين المصريين والإنكليز والأجانب، وسن معاشهم 48 سنة، أي يجوز للموظف منهم أن ينسحب من الخدمة عند بلوغ هذه السن. أما إذا بلغ سنه 55 سنة فلا بد من إحالته إلى المعاش.
ولا يمكن أن يزيد المعاش على ثلثي المرتب مهما طالت مدة الخدمة، أي لا يوجد معاش كامل، وهذا بشرط أن لا يزيد المعاش على 960 جنيها مصريا في السنة، ولأسرة الموظف الشاملة لأولاده نصف المعاش إذا توفي الزوج المتقاعد، وللزوجة ثلث المعاش فقط إذا لم يكن للزوج أولاد، على أن لا يزيد المبلغ على 360 جنيها. وتستمر البنت تأخذ حصتها في المعاش حتى يبلغ سنها 21 سنة، وهذا على خلاف المتبع في مصر؛ إذ تستمر البنت في قبض المعاش حتى تتزوج.
أما الابن الذكر فيقطع المعاش عنه إذا بلغ سن 18 سنة.
وعندما كان منصب سردار الجيش المصري مندمجا مع منصب الحاكم العام بالسودان كان الشاغل لهما يتناول 3000 جنيه بصفته سردارا و1500 جنيه، علاوة لقيامه بمهمة الحاكم العام، فضلا عن علاوة الاستقبال.
وبعد فصل منصب الحاكم العام من منصب سردار الجيش المصري أصبح الحاكم العام يتناول مرتبا أصليا قدره 3000 جنيه غير علاوة الاستقبال.
ويسكن الحاكم العام مجانا في دار للحكومة معروفة باسم «السراي»، وخدمه على نفقة الحكومة إلا الطاهي. وقد كان للسيرلي ستاك. طاه أوروبي «ألماني» يدفع له 45 جنيها في الشهر، وكانت زوجه تخدم في السراي، ويدفع لها 15 جنيها. وكان ستاك
1
ينفق ألفي جنيه سنويا فوق مرتبه وعلاواته، فقد كان ثريا، وقد خلف ثروة تقدر بمبلغ 120 ألف جنيه، وترك ابنة توفيت في سنة 1932، وكانت مخطوبة، وذلك في حادث أليم؛ إذ كانت تتسلق أحد جبال الألب في سويسرا فسقطت وتوفيت.
ويتناول كل من القائد العام لقوة الدفاع السودانية والسكرتير المالي، والسكرتير الإداري، والسكرتير القضائي ومدير السكك الحديدية مرتبا سنويا قدره 2000 جنيه، ويسكنون في دور الحكومة ويدفعون أجرتها.
وكان الذي يعين في السودان يعطى مرتبا أكبر من الذي يعطى له في مصر، والحكومة المصرية في الغالب تجعل مرتبات موظفيها مرة ونصف مرة، وأحيانا مرة و60٪ أو 40٪ حسب الوظائف الفنية والإدارية والمناخ الذي يعيش فيه الموظف إلخ.
ويتعلم الإنكليز العربية. ولهم ثلاث امتحانات، ورقيهم منوط بنجاحهم.
ويعقد الآونة بعد الأخرى امتحان اختياري لنيل درجة شرف في اللغة العربية للموظفين الإنكليز الذين يجدون في نفوسهم ميلا لمواصلة دراسة اللغة العربية دراسة مستفاضة تمكنهم من قراءة العربية الفصحى وكتابتها وتفهمها ونقلها إلى لغتهم أو نقل لغتهم إليها. وآخر امتحان من هذا النوع عقد في منتصف شهر مايو الماضي، وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من المستر يني مدير الأمن العام رئيسا، والشيخ عمر إسحاق المفتش بالمعارف والمستر إدورد عطية
2
ضابط الأمن العام أعضاء، والذين تقدموا للامتحان هم المستر «لي» المفتش بالمعارف، والمستر هزلدين نائب مساعد مدير الأمن العام، والمستر كني من السكة الحديد. وكانت مواد الامتحان ترجمة قطعتين من اللغة العربية إلى اللغة الإنكليزية، وترجمة قطعتين من اللغة الإنكليزية إلى العربية، ومحادثة. وكانت مواد الامتحان صعبة. وقد نجح المستر لي والمستر هزلدين نجاحا باهرا، بل فاقا الرقم القياسي الذي وضعه المستر كتشن في عام 1922. أما المستر كني فلم ينجح. وبلغ عدد الموظفين البريطانيين الذين جازوا هذا الامتحان حتى الآن خمسة هم المستر آيلز والمستر نولدر والمستر كتشن والمستر لي والمستر هزلدين، ويعطى للناجح في هذا الامتحان مائة من الجنيهات، من الحاكم العام. وإليك مثالا مما يعطى للإنكليز من الترجمة:
المستر ا. ج. سرسفيلد هول مدير مديرية الخرطوم.
There are two classes of people
A wise man should mark out people, in general, into two kinds and should adopt a certain attitude towards each. There are the masses with whom he has to be reserved, self-restrained, and wide awake in every word and action. There are the classes in whose presence he exchange his harshness and vigour for affability, benignity, bounty and deliberation. It is but one in a thousand who can dare take a place amonge these. All of them are distinguished for their sound judgment and trustworthiness, being confidential and of an unswerving idelity.
ترجمتها:
الناس طبقتان
على العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين، فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وتحفظ في كل كلمة وخطوة. وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشديد ويلبس لباس الأنس واللطف والكرم والتبصر، ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من الألف، وكلهم ذو فضل في الرأي وثقة في المودة وأمانة في السرور ووفاء بالإخاء.
THE CALIPH’S SYMPATHY
Once Hatim Ibn El Nouman called upon the Commander of the Faithful, Omar lbn Abdel-Aziz, whom he found weeping, “What sets you weeping Prince of Believers?” asked Hatim. Liftiug up his head and sighing deeply, the Emir exclaimed,"I weep for the ignorant who are forsaken, the poor who are starving, the sick who are destitule, the naked who toil in vain, the oppressed who are stricken, the unfortunate who are held in captivity and the old father who has a long train of children and has but scanly means. I fear death will overtake me before I have sufficient time to carry out my work and meet God with a pure conscience and a heart free of all responsibilities.
ترجمتها:
مؤاساة الخليفة
3
دخل مرة حاتم بن النعمان على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فوجده يبكي؛ فسأله: «ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟» فرفع الأمير رأسه متأوها وقال: «إني أبكي جاهلا محروما. وفقيرا جائعا. ومريضا ضائعا. وعاريا مجهودا. ومظلوما مقهورا. وبائسا أسيرا وشيخا كثرت عياله وقل ماله. وأخاف أن يأتي أجلي قبل أن أوفي بالعهد وألقى الله بقلب سليم.» (1) الأقباط في السودان
فضلا عن الاتصال المعروف بين فراعنة مصر والسودان - النوبة وأثيوبيا - كالمبين في الجزء الأول من هذا الكتاب - فلأقباط مصر صلات وثيقة بالسودان في العصر الحديث - من عهد محمد علي: فقد كان بين موظفي مديريات السودان منذ عهده موظفون وحاسبون من الأقباط، وكان لتجار أسيوط صلات تجارية بالسودان، بطريق الأربعين وعلى ظهور الإبل ومع القوافل.
وقد أكره المهدي من بقي من الأقباط عند الثورة على الدخول في الإسلام، كما أكره سائر المسيحيين، واضطروا لدخول الإسلام حفظا لحياتهم. وعند استعادة السودان بقيادة كتشنر باشا كان مع الجيش موظفون من الأقباط، من الحاسبين والمترجمين، كما كان معه سوريون وأكثرهم لبنانيون مسيحيون، وقد جاء وقت كان أكثر موظفي الحكومة السودانية - من الكتاب والحاسبين - من الأقباط المصريين - ذلك أن نسبة المتعلمين فيهم كانت أكثر من المسلمين المصريين، وذلك أن عدد الموظفين الأقباط في الحكومة المصرية كان كثيرا جدا، وكانت هناك دواوين حكومية - كالسكك الحديدية والبريد - تكاد لا تعرف موظفا مسلما. ويرجع هذا إلى نشاط الأقباط وصبرهم وجلدهم وسبقهم - في دخول مدارس الأمريكان والبعثات المسيحية الوافدة على مصر والمدارس الأميرية - إخوانهم المسلمين، وقبولهم العمل في البلاد السحيقة كالسودان، والإفادة من علاوات السودان ومضاعفة سني المعاش، وقد اقتنى الكثير منهم ثروات، كما انتفعوا بالوقت فاشتغلوا بالتجارة.
المستر ج. ن. لوجن مدير مصلحة الأشغال العمومية.
ولا نغالي إذا قلنا: إن للأقباط فضلا في نظام العمل في دواوين الحكومة السودانية. وقد أتقن أولئك الأقباط الصبورون المجتهدون اللغة الإنكليزية، ونجحوا في الوظائف والتجارة، وأعجب الرؤساء الإنكليز في السودان بهمتهم وصبرهم.
وقد اتجهت الحكومة السودانية أخيرا إلى الاستغناء عن خدمة غير السودانيين من مصريين وسوريين ويونانيين ويهود وبعض الإنكليز ذاتهم؛ اقتصادا في النفقات من جهة، ولإيجاد مناصب خالية للمتعلمين من السودانيين. وقد بقي من المصريين عدد قليل، يقل عاما بعد عام، ولا يعين من يحل محله. على أن كثرة الموظفين المصريين الباقين من المصريين هم من الأقباط، وقد أنشأوا مدارس ناجحة في الخرطوم والعطبرة وأم درمان وأندية محترمة، ولهم كنائس، وقد أعلوا كلمة مصر في السودان، وإن كان قد وقع بين بعضهم وبعض الموظفين السودانيين منافسة عادية تحصل عادة في كل الحكومات بسبب العلاوات والترقيات، وبسبب العاطلين المتعلمين الذين يرون أنهم أحق بالوظائف التي يشغلها سواهم. وليس لهذه المنافسة أثر عند العقلاء.
والخلاصة أنني أعتقد أن جهد أقباط مصر في السودان هو جهد جدير بالإعجاب والثناء والتشجيع، وأحث وزارة المعارف المصرية على مساعدة المدارس القبطية في السودان؛ إذ هي تحمل اسم مصر وبرنامج تعليمها وتعلم أبناء المصريين من مسلمين وأقباط على السواء، وأعجب بكل مصري يضحي بوجوده في السودان الآن وسط ظروف غير صالحة من وجوه كثيرة. (2) الأجانب في السودان
نزح ألوف من السوريين إلى السودان عقب فتح محمد علي له، للتجارة أو للتوظف كمترجمين أو حاسبين أو أطباء. وكانت تجارتهم مع القوافل المسافرة من أسيوط إلى السودان في عهد محمد علي. وفي الثورة المهدية اضطر السوريون المسيحيون، كما اضطر المسيحيون الأوروبيون إلى التظاهر بالإسلام حفظا لحياتهم، وقد جعل لهم المهدي حيا خاصا في أم درمان أسمي «مسلماني»، وبعد استرداد السودان عاد أكثرهم إلى المسيحية، وظلت أقليتهم على الدين الإسلامي، ولا سيما من زوج منهم من سيدات مسلمات.
ويبلغ عدد السوريين الآن 4500، وعدد اليونانيين 6000، والإيطاليين 500، وكان بالسودان نحو أربعة من الفرنسيين، ولكنهم غادروه، وتوجد فئات قليلة من التجار الأرمن. واليهود يعدون على الأصابع.
ولكل جالية جمعيات ورؤساء ومدارس، ورئيس الجالية السورية الآن الخواجه عزيز كفوري، ورئيس الجالية اليونانية مسيو دميتا كسه، وكان مسيو دجراسيمو كونتوميخالوس، رئيسا للجالية قبله. وتستأنس الحكومة السودانية برأي رؤساء الجاليات في بعض المسائل العامة كالتشريع الخاص بالغرف التجارية؛ لأنه لا يوجد بالسودان مجالس نيابية أو استشارية، بل الحكم فيه مطلق، كما يدعون إلى الحفلات الرسمية.
الملك جورج الخامس ملك الإنكليز. (3) الإجازات في السودان
العيد الصغير، العيد الكبير، يوم 17 يناير، حيث زار جلالة ملك الإنكليز السودان في 17 يناير سنة 1912، يوم 26 مارس ميلاد جلالة الملك فؤاد. عيد رأس السنة الهجرية. عيد الإيستر في إبريل، يوم شم النسيم في إبريل، عيد جلوس جلالة الملك جورج الخامس، حيث جلس في 2 مايو سنة 1910، ميلاد ملك الإنكليز 3 يونية . مولد النبي
صلى الله عليه وسلم
13 يونية. عيد جلوس الملك فؤاد 9 أكتوبر سنة 1917، عيد الميلاد 25 ديسمبر. •••
وقد ورد في التقرير المقدم من الفيكونت كتشنر إلى السير إدوارد جراي - وزير خارجية إنكلترا وقتئذ - عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1911 ما يلي:
تفضل جلالة الملك والملكة بزيارة السودان في شهر يناير من السنة الحالية، ولما كانت هذه الزيارة عظيمة الشأن والقدر رأيت أن أسجلها في هذا التقرير.
تكرم جلالتهما بتأخير عودتهما من الهند إلى الوطن؛ لكي ينزلا إلى بورت سودان التي كان سمو الخديوي قد فتحها رسميا لتجارة السودان قبل ذلك بنحو سنتين، فاستقبلهما الحاكم العام وكبار موظفيه وجمهور من مشايخ البلاد وأعيانها جاءوا من جميع الأنحاء.
السير سعيد باشا شقير مدير حسابات حكومة السودان سابقا.
وبعد الاستقبال الرسمي في بورت سودان ركب جلالتهما ومن في معيتهما القطار إلى سنكات، حيث رحب بهم جمهور كبير من العرب المحليين. وتلا ذلك عرض فصائل من جميع الجنود السودانية، ورقص أهل تلك الجهة رقصهم الحربي الوطني. وقد أعرب لي جلالة الملك قبل عودته إلى بورت سودان عن ارتياحه إلى التدابير التي اتخذت لاستقباله وسروره العظيم بالوقوف على أحوال السودانيين وعاداتهم بما شاهده في الجماهير العظيمة المؤلفة من الزعماء والمشايخ وسواهم الذين اجتمعوا احتفاء بجلالته. ا.ه. (4) سجون السودان
تشبه سجون السودان السجون المصرية، وقد أنشئت على أساسها ونظامها، ولكن النظافة متوافرة والآداب محترمة. ولا يستطيع السجان أن يهين سجينا، وإذا حصل أقل اعتداء رفع إلى مأمور السجن إذا كان كبيرا، ويحقق في الحادث حالا، ويطوف مدير المديرية بالسجون مرة في كل أسبوع، ويسأل المساجين عن شكاويهم ويبت فيها.
مستر ه. ا. تاس السكرتير المالي.
ويلحق بكل سجن عمومي فرع للأحداث القصر وفرع آخر للأحداث البالغين، ولهم مدرسة تعلمهم بعض الصناعات.
سجن الانتظار: ويوضع المسجونون احتياطيا في سجن الانتظار، ويباح لهم كل شيء من مأكل وملبس ومفرش من المنزل وقراءة أي كتاب، ولا يمنعون إلا من الاختلاط بآخرين. (4-1) أشغال المحكوم عليهم
تمهيد طرق . إصلاح متنزهات عامة وحدائق. والعمل في ورشة السجن في إحدى الصناعات. ونقل فحم السكة الحديد. وإنشاء مصارف في الخريف ونقل أحجار.
هوامش
الفصل التاسع والعشرون
التعليم في السودان
كان التعليم في السودان في عهد محمد علي إسلاميا دينيا، كما كان الحال في مصر، فكان في جميع أنحاء السودان «الخلاوي»، وهي المكاتب التي يعلم فيها «الفقهاء والعرفاء
1
مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، على أنه كان في السودان منذ الفتح العربي وقيام المماليك والسلطنات الإسلامية في سنار ودارفور وغيرهما - علماء محترمون مطلعون على طائفة من كتب الفقه الإسلامي والحديث والأدب والمذاهب، وكانوا أهل ذكاء، وكانت أكثر كتبهم مأخوذة عن مؤلفات علماء المغرب الأقصى وتونس، إذ كان بين ممالك أفريقية الشمالية والسودان صلات تجارية، استتبعت هجرة نفر من العلماء والكتاب، وقد كان للأزهر الشريف شهرة ذائعة في العالم الإسلامي، وطالما ساعد بعض ملوك السودان وأعيانهم طلبة العلم في تحصيله بالجامع الأزهر، وفي تكريم نفر من طلبته وعلمائه ممن قذفت بهم الأقدار إلى السودان. وكان للصوفية شأن وأي شأن.
وكان علماء السودان يعطون الدروس في دورهم، وكان طلبتهم قليلين جدا ودراستهم غير منتظمة.
ولما فتح محمد علي السودان، ظهرت فيه المدنية، وبدأت بإنشاء المعسكرات ومدينة الخرطوم وبإقامة دور الحكومة، وبتجنيد العبيد، واستلزمت هذه المدنية التي أنشأها المصريون إنشاء وابتدعوها ابتداعا في أثناء حكمداري السودان. إنشاء المدرسة الابتدائية بالخرطوم، وكان ناظرها رفاعة رافع بك الطهطاوي،
2
فعرف السودان المدارس النظامية، وتلقى الكثير من أبنائه العلم في مدارس مصر، إلى أن قامت الثورة المهدية فجعلت التعليم وقفا على حفظ القرآن الكريم ورواتب المهدي، وأغفلت كتب الفقه وسواها.
ولما استعيد السودان، بدت الحاجة ملحة وقوية إلى إعادة التعليم المدني، على أن الحكومة السودانية رأت أن يكون التعليم مقصورا على تلبية حاجة السودان إلى صغار الموظفين من كتبة ومترجمين وصناع بمصالح السكك الحديدية. مع بقاء «الخلاوي» المنتشرة في جميع أنحاء السودان لتعليم مبادئ القراءة والكتابة والحساب.
منذ سنة 1899 بدأت الحكومة السودانية الجديدة بفتح بضع مدارس أولية وابتدائية. وفي سنة 1902 فتحت كلية غوردون في الخرطوم تخليدا لذكرى غوردون، وكان ذلك تنفيذا لفكرة اللورد كتشنر، وقد أريد منها أن تكون «مدرسة ثانوية متوسطة»، وهي نوع خاص من المدارس، فهي ليست كلية بالمعنى المعروف في نظام الكليات، وهي ليست مدرسة ثانوية إلى الحد الذي نفهمه من الدراسة الثانوية. ثم زادت الحكومة عدد المدارس الأولية والابتدائية في العواصم والمحافظات والمراكز.
ويبلغ عدد الخلاوي «كتاتيب السودان» 1500، وعدد تلاميذها 60000، وهي ليست في مستوى واحد. ومنذ سنة 1932 رئي تزويد معلمي «الخلاوي» بتعليم أرقى، ومدهم بالمساعدات المالية.
وهناك «كتاتيب أميرية» عددها 87، ويتراوح تلاميذها بين ثمانية آلاف وتسعة آلاف. ويدخلها التلميذ إذا كان سنه يتراوح بين سنتين وثمان، ويعلم فيها القرآن ودروس دينية مع القراءة والكتابة والحساب ومبادئ في الجغرافيا والتاريخ والصحة والزراعة والأعمال اليدوية.
ويرى سير هارولد ماكميكل
3
أن تظل الكتاتيب الأميرية أساسا لنظام التعليم في السودان، وأنه يجب تطورها بحيث تلبي حاجات الحياة في القرى والمراكز بإدخال الدروس الزراعية والصناعات والحرف المحلية، مع رفع مستواها أيضا لتخريج مستخدمين للإدارة الأهلية،
4
وجعل المدارس الابتدائية والمعلمين لتخريج معلمي الكتاتيب، وتسمى أيضا «المدارس الأولية». وقد جعلت مدة الدراسة في مدرسة المعلمين الأولية أربع سنوات، ويرأسها ناظر إنكليزي.
وقد بلغ عدد المدارس الابتدائية حتى سنة 1933 عشرة، وتلاميذها 1094، وهي منشأة في أكبر مدن السودان الشمالي. ويدخلها التلاميذ الذين يتراوح سنهم بين 10 و13 سنة ممن تخرجوا من الكتاتيب الأميرية. ويقبل تلاميذها مجانا أو بأجور منخفضة أو بأجور كاملة على حسب الأحوال. والغرض الأساسي من إنشاء المدارس الابتدائية هو إعداد طلبة للالتحاق بكلية غوردون. ولكن زاد عدد المتخرجين على عدد الكلية الجائز التحاقهم بالكلية؛ فاتجهت الفكرة إلى تغيير مناهج التعليم في المدارس الابتدائية. لكي يستطيع خريجوها الاستخدام في الوظائف المحلية الصغيرة أو الاحتراف بالتجارة. إلى جانب المهمة الأصلية في إعداد طلبة لكلية غوردون.
صورة شهادة العالمية في المعهد العلمي بأم درمان. (1) كلية غوردون والمدارس الفنية
مدة الدراسة أربع سنوات: وفي السنتين الأخيرتين يتخصص الطلبة في أقسام: قسم للمعلمين. وثان للمترجمين، وثالث للمحاسبين ، ورابع للمكتبة، وخامس للطلبة الذين يلتحقون بمدرسة كتشنر الطبية، وسادس قسم خاص للهندسة، وسابع قسم للقضاة، وقسم ثامن للتجارة.
وقد بلغ عدد الطلبة 555 في سنة 1930، و476 في سنة 1933، وثلاثة أخماسهم من أبناء مديريتي الخرطوم والنيل الأزرق. ويدفع بعضهم أجورا كاملة، والبعض الآخر أجورا مخفضة. ويتعلم فريق ثالث مجانا.
والغرض الأساسي للتعليم بالكلية هو إعداد موظفين للحكومة في الأنواع المختلفة، وقد بقي هذا الغرض منذ إنشائها حتى ظهور تقرير ملنر. حيث أوصى بتغيير نظام التعليم وجعله لا مركزيا في السودان،
5
أي بإنشاء مدارس فنية في كل مديرية بحسب حاجتها. فتوجد مدرسة صناعية من سنة 1907 في أم درمان، وقد أدمجت في سنة 1922 في الورش الصناعية لكلية غوردون، وفي سنة 1933 كان عدد طلبتها 206 تخرجوا من الكتاتيب الأميرية ثم تعلموا في قسم الورش النجارة وصنع الطوب والبناء. ومدة الدراسة أربع سنوات، والغرض منها تلبية حاجة المدن والقرى من هذه الحرف. أما الورش التعليمية في عطبرة فقد أنشئت في سنة 1924 على أثر إغلاق القسم الميكانيكي لورش كلية غوردون. ويتلقى التلاميذ في عطبرة البرادة والحدادة ليشتغلوا في الورش الهندسية الميكانيكية لمصلحة سكك حديد السودان التي تشرف على المدرسة الصناعية بعطبرة. وقد بلغ عدد تلاميذها 71 في سنة 1933، وهم يتعلمون مجانا.
أما تاريخ فتح كلية غوردون، فذلك أنه بعد استعادة السودان وعودة اللورد كتشنر أوف خرطوم إلى لندن دعا سعادته مواطنيه للاكتتاب لإنشاء كلية غوردون بالخرطوم. فبلغ الاكتتاب في إنكلترا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا ورأس الرجا الصالح والهند ومصر 124 ألف جنيه تقريبا. ووضع الحجر الأساسي للكلية في 5 يناير سنة 1899 بحفلة رسمية برياسة كتشنر باشا.
طالب خريج من كلية غوردون وبمدرسة كتشنر الطبية. (2) مدرسة حقوق الخرطوم المؤسسة سنة 1935
أسست هذه المدرسة في هذا العام - 1935 - وهذه لائحتها:
لائحة (امتحان ومصاريف) مدرسة الحقوق سنة 1935 «تشريع نمرة 17 سنة 1935»
عملا بالسلطات المخولة للجنة الدراسات القضائية بالمادة 4 (2) من أمر مدرسة حقوق الخرطوم سنة 1935 قد وضعت اللائحة الآتية: (1) تسمى هذه اللائحة (امتحان ومصاريف) مدرسة الحقوق سنة 1935، ويعمل بها على الفور. (2) تعقد لجنة الدراسات القضائية الامتحانات الآتية : (أ)
امتحان الدخول للحقوق. (ب)
الامتحان الوسط في القانون. (ج)
الامتحان النهائي في القانون. (د)
الامتحان الإضافي. (3) يكون امتحان الدخول للحقوق بكيفية تظهر مقدرة الطلبة في اللغتين الإنكليزية والعربية كتابة وحديثا، وفي المعلومات العمومية، ويعقد هذا الامتحان في شهر نوفمبر من كل سنة كالمطلوب. (4-1) يعمل الامتحان الوسط على قسمين: القسم الأول يشتمل على امتحان كتابي وشفهي في الفقه المدني وقانون العقود، ويعقد هذا في شهر إبريل من كل سنة، والقسم الثاني يشتمل على امتحان كتابي وشفهي في قانون الأخطاء (المسئولية المدنية)، والقانون الجنائي، ويعقد في شهر ديسمبر من كل سنة. (4-2) الطلبة الذين يلحقون في شهر نوفمبر من أية سنة يمتحنون في قسمي الامتحانات الوسطى في شهر إبريل وديسمبر على التوالي من السنة التالية، على أنه يجوز للجنة الدراسات القضائية بسبب مرض الطالب أو بسبب قهري أن تؤجل امتحانه في أحد القسمين أو فيهما معا إلى سنة أخرى. (5-1) يعقد الامتحان النهائي في القانون في شهر ديسمبر من كل سنة عند الطلب، ويشتمل على امتحان كتابي وشفهي في المواضع الآتية: (أ)
مواضع الامتحانات الوسطى. (ب)
قانون الأثبات. (ج)
قانون التحقيق المدني والجنائي. (د)
قانون الأراضي. (ه)
القانون التجاري. (5-2) الطلبة الذين يلحقون في نوفمبر من أية سنة يمتحنون الامتحان النهائي في شهر ديسمبر من السنة التي تتلو السنة التالية لسنة دخولهم، على أنه يجوز للجنة بسبب مرض الطالب أو لسبب قهري أن تؤجل امتحانه النهائي لسنة أخرى. (6-1) يعقد الامتحان الإضافي في شهر إبريل من كل سنة، ويشتمل هذا الامتحان على امتحان كتابي وشفهي بالعربي في قانون ونظام المحاكم الشرعية السودانية. (6-2) لكل شخص اجتاز الامتحان النهائي أن يجلس في أي وقت للامتحان الإضافي. (7-1) لا يسمح لأي طالب أن يمتحن في أي قسم من قسمي الامتحان الوسط أو الامتحان النهائي أكثر من مرة واحدة. (7-2) كل طالب لا يؤدي أي قسم من قسمي الامتحان الوسط أو الامتحان النهائي في المدة المحدودة بهذه اللائحة يفصل من مدرسة الحقوق.
طالب ثانوي سوداني من طلبة كلية غوردون وهم يلبسون الجلاليب البيضاء والعمائم. (8) يدفع الطلبة الرسوم المبينة في الخانة الثانية من الجدول الآتي بالنسبة إلى المسائل المبينة في الخانة الأولى من الجدول المذكور، ويستثنى من ذلك الموظف في حكومة السودان المنتدب للالتحاق بمدرسة الحقوق؛ فإنه لا يلحق كطالب ولا يدفع مصاريف.
الجدول
الخانة الأولى
الخانة الثانية (جنيه)
الانضمام
10
الامتحان الوسط
1 عن كل قسم
الامتحان النهائي
2
الامتحان الإضافي
2 (2-1) أمر مدرسة حقوق الخرطوم سنة 1935
أمر بتعيين لجنة الدراسات القضائية (إعلان قانوني نمرة 60 سنة 1935)
عملا بالسلطات المخولة بالمادة 3 (2) من أمر مدرسة حقوق الخرطوم سنة 1935 قد عين سعادة السكرتير القضائي بهذا جناب المستر س. س. ج. كمنجز ليكون مدير الدراسات القضائية والمذكورين بعد أعضاء لجنة الدراسات القضائية ابتداء من اليوم الأول من شهر يونية سنة 1935:
جناب المستر ا. ج. ت. فلمنج ساندس نائب قاضي المحكمة العليا.
صاحب الفضيلة الشيخ أحمد السيد الفيل مفتي السودان ونائب قاضي القضاة.
جناب المستر ا. ج. كلاكستون المحامي (بارستر).
مذكرة إيضاحية
أمر مدرسة حقوق الخرطوم سنة 1935
إن الغرض من هذا التشريع هو فتح سبيل لعمل لم يكن مفتوحا قبل عمليا للمتعلمين من أبناء السودان.
هناك حاجة محدودة لمحامين خبيرين بإجراءات المحاكم ومادة القانون. وبإنشاء هذه المدرسة ستكون فرصة للوطنيين السودانيين لسد هذه الحاجة.
إن مقدار ومجال العمل الذي تسمح به محاكم السودان للمحترفين بالأعمال القضائية لمحدود جدا بحكم الضرورة. بينما قد يكون عدد الطامحين للاشتغال بها كبيرا جدا؛ لذا فإن مستوى امتحان الدخول لمدرسة الحقوق سيكون عاليا. على أن الناجحين فيه الذين يبرهنون بعد على ضعفهم أو عدم لياقتهم سوف يخرجون من المدرسة بلا تردد.
يسند أمر إدارة المدرسة إلى لجنة يرأسها مدير الدراسات القضائية.
لأي شخص يسكن السودان عادة أن يتقدم للسكرتير القضائي لترشيحه كطالب لمدرسة الحقوق، وللسكرتير القضائي أن يقبل الطلب أو يرفضه بالنسبة لأخلاق الطالب وعدد المحامين العاملين وعدد الطلبة المرشحين، وقراره في ذلك يكون بمحض اختياره ونهائيا لا يستأنف.
مدة الدراسة سنتان وربع تقريبا يعقد في خلالها ثلاثة امتحانات - امتحان دخول وامتحان وسط وامتحان نهائي . وبعد تأدية الامتحان النهائي يجوز عمل امتحان إضافي في القضاء الشرعي. لا يسمح لأي طالب بالامتحان في أي قسم من أقسام الامتحانين الوسط أو النهائي أكثر من مرة واحدة. كما أن عدم اجتيازها في المدة المقررة يوجب فصل الطالب من مدرسة الحقوق.
سيوضع نظام للدراسة تحت الملاحظة، ويعمل به داخل حجرة مطالعة ومكتبة في بناء المصلحة القضائية. وستلقى محاضرات مخصوصة من وقت إلى آخر. وقبيل انتهاء الدراسة يحضر الطلبة جلسات المحاكم للاسترشاد.
تمنح لجنة الدراسات القضائية شهادات (دبلومات) للطلبة الملحقين الذين يمضون الامتحان النهائي.
مع مراعاة نصوص قانون المحاماة الذي سيصدر قريبا، تخول هذه الشهادة لحاملها المرافعة أمام المحاكم المدنية والجنائية المصرح للمحامي بالمرافعة أمامها قانونا في السودان.
يسمح لحاملي الشهادة الذين يمضون الامتحان الإضافي بالمرافعة أمام المحاكم الشرعية.
الرسوم الواجب دفعها عند الالتحاق 10 جنيهات مصرية و2 جنيه بالنسبة لكل من الامتحانات اللاحقة.
يعقد أول امتحان دخول في نوفمبر سنة 1935.
ويراد استعمال هذه المدرسة أيضا كمحل لتدريب نخبة من موظفي الحكومة الذين برهنوا على أهليتهم لإعداد قضاة وطنيين مدربين، ويكون انتخابهم بواسطة السكرتير القضائي. (2-2) بيان رسمي عن مدرسة حقوق الخرطوم
أذيع البيان الرسمي التالي:
إن الاهتمام الذي أبدي لإعلان فتح مدرسة حقوق الخرطوم كان داعية لسرورنا، وإنا لنأمل أن تظل المدرسة موضع العناية الخالصة والانتقاد المثمر. وإجابة على ما يتساءلون عنه نقدم الإيضاحات الآتية: (1)
إن السنتين والربع ليستا بالمدة القصيرة إذا لوحظ أن الطلبة ستقتصر دروسهم أثناءها على دراسة القانون فقط. على أننا وإن كنا نعلم بأن مستوى الدروس سيكون عاليا - ولكنا رغم ذلك نثق أن الطلبة الأكفاء لن يقتصر تحصيلهم بفضل المثابرة والاجتهاد على معرفة فرع القانون المعمول به في السودان فحسب، بل إنهم سيتأسسون في فهم المبادئ القانونية تأسيسا يعينهم إعانة موثوقا بها على المضي في تفهم كل فرع من فروع القوانين الأخرى. (2)
يقدم طالبو الجلوس في امتحان الدخول طلباتهم إلى سعادة السكرتير القضائي قبل أول يوم من شهر سبتمبر موضحا بها العمر والجنسية والتعليم. ويحتمل أن يستعرض مقدمو الطلبات ويسألوا عن كل ما تبدو له أهمية. وعلى طالبي الالتحاق من موظفي الحكومة أن يوضحوا جليا عما إذا كانوا يودون الالتحاق للإعداد للمحاماة أو ليكونوا موظفين ملحقين للتأهل للوظائف القضائية، وسيستولي الموظفون الملحقون للتأهل للوظائف القضائية على مرتباتهم الاعتيادية مدة الدراسة، ولكن الموظفين الذين يودون التأهل للمحاماة عليهم أن يستقيلوا من وظائفهم متعرضين بذلك لعدم استخدامهم مرة أخرى إذا ما فشلوا. على أن ذلك لن يثبط من همم ذوي الإقدام والجرأة الذين يعلمون أن كل ما ينتج عن ذلك من مجازفة أو إنكار للذات يهون أمام الفرصة التي ستتيح لهم الانضواء في سلك تلك المهنة الهامة الشريفة الحرة. (3)
على كل الطلبة أن يقوموا بإعداد مساكن لهم محليا مدة الدراسة، على أنه ستعد غرفة للدراسة وأخرى للمكتبة في بناء المصلحة القضائية. وعلى الطلبة الذين يدرسون للمحاماة أن يدفعوا المصاريف المبينة باللائحة، والتي تشمل رسوم الدروس وحق استعمال المكتبة. ومن المرجح أن طلبة المدرسة بقسميها سيلزمهم شراء بعض الكتب من مواردهم الخاصة. ولن تتعدى قيمة تلك الكتب خمسة جنيهات سنويا.
أحمد السيد الفيل - س. س. ج. كمنجز
الخرطوم في 30 يولية سنة 1935. (2-3) رأي مجلة الفجر
وجاء في مجلة الفجر ما يلي:
علقنا في العدد الحادي والعشرين من هذه المجلة على الإشاعة التي كانت تدور حول فتح قسم في المصلحة القضائية لتدريب وتعليم بعض العمال القضائيين ليكونوا قضاة جزئيين، وتمنينا على الحكومة أن تجعل منها نواة حسنة لمدرسة حقوق، ثم كتبنا في افتتاحية العدد الثاني والعشرين عن التعليم وقلنا: إن مدرسة للحقوق أصبح وجودها مهما لمستقبل هذه البلاد، وما كاد العدد تتلقفه الأيدي إلا واطلعنا على ملحق التشريع لغازيتة الحكومة السودانية نمرة 614 بتاريخ 15 يونية سنة 1935، وفيه مذكرة إيضاحية بأمر مدرسة حقوق الخرطوم سنة 1935، وبعد قراءة الأمر ومراجعته مراجعة دقيقة خرجنا بهذه الفكرة التي نثبتها فيما يلي، ونلفت إليها نظر أصحاب الشأن:
أن دراسة الحقوق بلا شك تستوجب معرفة حسنة للغة الإنكليزية التي سيدرس بها القانون؛ ولهذا لن يتقدم لهذه المدرسة وينجح فيها إلا الخريجون الذين اشتغلوا في الوظائف الحكومية زمنا ليس بالقصير، واستفادوا من تجاربهم واطلاعهم الشخصي، ووسعوا دائرة معلوماتهم. وهؤلاء لن يكون في وسعهم أن يتركوا وظائفهم ليلتحقوا بهذه المدرسة والمستقبل غير مضمون. أما الطالب الذي يتخرج من الكلية فلا يمكنه الالتحاق بهذه المدرسة لأول وهلة، وإذا التحق بها فلن ينجح نجاحا يبشر باستمرار المدرسة. وأما عن الذين تنتدبهم الحكومة ليدرسوا ويكونوا قضاة جزئيين أو جنائيين فهؤلاء - كما تدل الاتجاهات - سيكونون من العمال القضائيين، وهم لا تسمح لهم معرفتهم باللغة الإنكليزية أن ينجحوا في هذه الدروس. وعندنا أن خير حل لذلك أن تختار الحكومة خيرة موظفيها من الشبان العارفين باللغة الإنكليزية، والذين لهم ميل لدراسة القانون فتبتدئ بهم المدرسة وتخرج بعضهم كمحامين ينفصلون عن خدمة الحكومة بعد انتهاء عهد الدراسة، والبعض الآخر كقضاة جزئيين أو جنائيين، وبعد دفعة أو دفعتين ترجع إلى هذا النظام الذي سنته في قانونها الحالي، حيث يكون الناس قد استعدت أذهانهم والشباب قد بدأ يعد نفسه لدخول مثل هذه المدرسة، والكلية قد حسنت برامجها وتخرج فيها شباب صالح. ا.ه. (3) فكرة إنشاء جامعة سودانية
والمقول: إن إنشاء مدرسة كتشنر الطبية ومدرسة حقوق الخرطوم هو توطئة لإنشاء جامعة سودانية، تضم إليها المدرستان، وترفع درجة بعض أقسام كلية غوردون - كالهندسة والزراعة - لتكون كليات عالية في الجامعة المنشودة. (4) المدرسة الحربية
كان بالسودان مدرسة حربية في الخرطوم ألغيت سنة 1924. وفي هذا العام انتخب للمدرسة الحربية المتنقلة تسعة من خريجي كلية غوردون الذين قدموا للالتحاق بهذه المدرسة بعد أن اجتازوا امتحان الدخول، وهم حضرات الأفندية: محمد طلعت أفندي، فريد حسن أفندي، بشير نصر عمر أفندي، إبراهيم العوض عمر أفندي، محمد إبراهيم محمد أفندي، نمر نصر أحمد، عبد الله حامد أحمد أفندي، عبد الوهاب خير الله أحمد أفندي، أبو بكر أحمد رضا أفندي فريد.
وقد التحقوا بقسم الحملة ابتداء من 16 يونية سنة 1935، وفيما بعد يوزعون على وحدات قوة دفاع السودان الأخرى للدرس والتمرين، ثم يعينون ضباطا في قوة دفاع السودان. وهي ليست مدرسة ، ولكنه نوع من التعليم الحربي الوقتي الذي لم يوضع له نظام بعد. (5) تعليم البنات
أما تعليم البنات فهو في بدايته. ويبلغ عدد المدارس الأولية للبنات 22 مدرسة في المدن الكبيرة على النيل. ويبلغ عدد تلميذاتها 2059، وهن يتعلمن القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن والدروس الدينية، وقد جعل التعليم عمليا يبعث على الاعتماد على النفس ومعرفة التدبير المنزلي. والتعليم لهن مجانا، وقد أنشئت كلية للمعلمات في أم درمان، وبلغ عدد تلميذاتها 57، وأكثر خريجاتها قد تزوجن، وقد أنشأ فضيلة الشيخ بابكر بدري - المفتش بمعارف السودان سابقا - مدرسة الأحفاد بأم درمان. وهي أول مدرسة للبنات.
وكلما انتشر تعليم الذكور في بلد، بدت الرغبة ملحة في تعليم البنات والحاجة إلى مدارس أخرى.
وقد أنشئت في الماضي مدرسة لنواب المآمير ولضباط البوليس وللبوستة والتلغراف، وأقسام للصيدلة، وللمساعدين بالمعامل، وللمفتشين الصحيين، وأقسام صيفية للمساحين والعدادين، ودروس للصبية في جراجات الحكومة وورشها. (6) بعثات علمية
وقد رأت مصلحة المعارف انتخاب بعض خريجي كلية غوردون وإرسالهم في بعثة إلى الجامعة الأمريكية ببيروت للحصول على دبلومتها بعد دراسة مدتها ثلاث سنوات أو أربع. وتعلم الشاب السوداني الغيور الأستاذ الدرديري أحمد إسماعيل في الجامعة المصرية وفي جامعة ليدز بإنكلترا، ونال شهادتها في القانون، وعاد في شهر أغسطس سنة 1935، وأقيمت له حفلة تكريم بالنادي السوداني بميدان سليمان باشا رقم 3. (7) في جنوب السودان
وفي جنوبي السودان، حيث يسكن الزنوج - وهم لا دين لهم - رغبت الحكومة السودانية في إنشاء مدارس لتعليمهم.
ولقد بدأت الإرساليات التبشيرية المسيحية بتعليمهم. وفي سنة 1922 عينت الحكومة لها إعانات سنوية صغيرة لمساعدتها. وفي سنة 1926 زادت مبالغ هذه الإعانات لمساعدة الإرساليات على توسيع التعليم وفي مهمتها الصحية. وقد رأت الحكومة أن تشرف على تعليم الإرساليات، وأن تتحقق من أنه يخدم الأغراض السياسية والإدارية التي تطلبها.
6
وقد كان تعدد اللغات واللهجات وعدم ضبطها وعدم سابق وجود قواعد لها مشكلة المشاكل في سبيل تعليم أبناء جنوبي السودان؛
7
ولذلك عقد مؤتمر لغوي في «الرجاف» في إبريل سنة 1928 تحت رعاية سكرتارية المعارف والصحة، وقد حضر المؤتمر ممثلون عن حكومات السودان وأوغندة والكونغو البلجيكية والجمعيات التبشيرية في هذه الأقطار. وقد كانت مهمة المؤتمر علاج مشكلة تعدد اللغات، وقد انتهى المؤتمر إلى اختيار مجموعة من اللغات الرئيسية، وتهذيبها وضبط تهجئتها وإملائها وتوحيدها، ووضع كتب بمتونها وأجروميتها. وقد عقدت مؤتمرات أخرى غير رسمية لتحقيق هذا الغرض والتقدم فيه بعد مؤتمر سنة 1928.
وقد بلغ عدد الذين تلقوا التعليم العصري في الخرطوم وأم درمان وبعض المدن الرئيسية 12000، منهم 1300 من كلية غوردون، و2500 من المدارس الابتدائية، وعدد يتراوح بين 400 و500 من ضباط حاليين وسابقين، وعدد يتراوح بين 7000 و8000 تاجر.
وقد جعلت اللغة الإنكليزية أساسية وسائدة في كلية غوردون وفي المكاتبات الرسمية.
كلية المعلمين الأولية مركزها الآن في «كلية بخت الرضا» تابعة لمركز الدويم بمديرية النيل الأبيض. (8) المعهد العلمي بأم درمان
إلى سنة 1912 كان المرحوم العلامة أبو القاسم أحمد هاشم قاضيا شرعيا لمديرية النيل الأزرق. وفي يناير سنة 1912 عين «شيخا للعلماء» خلفا للمرحوم الشيخ محمد البدوي الذي كان في عهده تدريس العلوم الدينية في منازل العلماء وعددهم عشرة.
رأى فضيلة الشيخ أبو القاسم أن يكون التدريس في معهد أم درمان، الذي كان مكانه عندئذ في الفضاء الواقع بين جامع أم درمان الحالي وبين مكاتب إدارة المعهد، وكان محل الجامع الحالي دكاكين. فطلب فضيلته من الحكومة أن تعطي أصحاب الدكاكين تعويضا، وأن توقف الأرض لبناء الجامع، وأن يستعمل بناء الجامع القديم فناء للمعهد ومكاتب.
وافقت الحكومة على رأي فضيلته، وفتح اكتتاب من أهالي السودان، وجمع نحو 16 ألف جنيه، وعاونت الحكومة في بناء الجامع بتخصيص جزء من عوائد الأسواق لبنائه. وسمي «المعهد العلمي بأم درمان»، وبدئ التدريس بالسنة الأولى طبقا لبرنامج الجامع الأزهر، وتلقى فضيلته لوائح الأزهر من صاحبي الفضيلة الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر عندئذ وقاضي قضاة السودان سابقا، والشيخ محمد هارون وكيل مشيخة الإسكندرية وقاضي قضاة السودان، وساعده فضيلة مفتي السودان يومئذ شقيقه الشيخ الطيب أحمد هاشم مفتي السودان، وهو أول مفت في السودان سابقا، وقبس منها لائحة للمعهد العلمي، وعرضاها على فضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي قاضي قضاة السودان فوافق على إصدارها، وصدقت عليها الحكومة في سنة 1913.
وفي سنة 1920 عقد أول امتحان للشهادة الأهلية لمن أتموا السنة الرابعة الثانوية، وفي سنة 1924 عقد أول امتحان لشهادة العالمية فنجح ثلاثة طلاب من تسعة، عين اثنان في وظيفة «عامل قضائي» التي تعادل في مصر وظيفة «موظف قضائي»، والثالث عين مدرسا بالمعهد، ويبلغ عدد حاملي شهادة العالمية من خريجيه 49 عالما.
في سنة 1932 أحيل فضيلة الشيخ أبو القاسم إلى المعاش، وعين فضيلة الشيخ أحمد محمد أبو دقن المفتش بالمحاكم الشرعية شيخا لعلماء السودان ورئيسا للمعهد.
وأذاع فضيلة الشيخ أبو القاسم سنة 1913 نداء للتبرع لإنشاء مكتبة للمعهد العلمي، فلبى سمو الأمير محمد علي النداء وألف لجنة اشترت أكثر من ألفي مجلد في جميع العلوم الدينية والعربية وغيرها وأرسلتها إلى فضيلته، وكانت النواة الأولى للمكتبة.
وفي سنة 1922 زار فضيلته الأزهر الشريف؛ فاطلع على نظام التدريس في إدارته ونظام الامتحان، وعدل اللائحة على مقتضى النظام الجديد، وزار دار الكتب المصرية. ومنذ ذلك توالي الدار إرسال هدايا من الكتب الجديدة المطبوعة في مطبعتها.
وستنشأ قريبا دار يستخدم ريعها في مساعدة فقراء الطلبة. وقد تبرعت لجنة سمو الأمير عمر طوسون بألف جنيه في إقامة البناء.
ويدفع سموه ثلاثين جنيها سنويا إلى المعهد منذ سنة 1929.
ويجلس الطلبة القرفصاء عند التدريس، وليس للمعهد أروقة ولا بيوت للطلبة، ويسكن طلبة أم درمان في منازل ذويهم، ويسكن الطلبة الغرباء، وهم فقراء عادة في منازل كبار العلماء والتجار والأعيان الذين خصصوا في منازلهم أماكن خاصة للضيافة.
وطلبة المعهد أكثرهم من سكان أم درمان، ثم من النيل الأبيض، ودنقلا، والنيل الأزرق، وكردفان، ومن مصوع وإريترية ونيجيريا والحبشة وسائر مديريات السودان. (9) أشهر العلماء قديما وحديثا
هم أصحاب الفضيلة الشيوخ:
القاضي السلاوي عالم أزهري تولى القضاء في الفتح الأول،
8
ومحمد الجد شيخ المهدي وعالم جليل، وحسيب الأزهري عالم جليل تخرج على يده كثير، والأمين محمد الضرير مميز العلماء سابقا وعالم جليل اشتهر بالتقوى، وإبراهيم عبد الدافع عالم شهير وله استغاثة مشهورة ، وولد يفادي عالم أفاد كثير وتخرج على يده علماء قديما، وأحمد ولد عيسى حضر على الشيخ الدردير الشهير بمصر وأفاد كثيرا، وإبراهيم أحمد ولد عيسى ابن المذكور قبله، وولد عدلان صاحب كتاب زبد العقائد، وإسماعيل الولي الكردفاني مؤسس الطريقة الإسماعيلية بالسودان، وسيد أحمد الأزهري أول سوداني درس بالأزهر الشريف، وهو ابن الشيخ إسماعيل الولي الكردفاني، والسيد البكري الولي إسماعيل والسيد الباقر الولي إسماعيل ولدا الشيخ إسماعيل مؤسس الطريقة الإسماعيلية، ومحمد عربي أحمد، وبشير النعمة عالم أزهري جليل، وأول من حضر على السيد جمال الدين الأفغاني، ومعه علي محمد البوشي الأزهري الحناوي، والشيخ الأستاذ الإمام محمد عبده، وعلي محمد البوشي الأزهري عالم جليل حضر على السيد جمال الدين الأفغاني مع صاحبيه المذكورين، وانفصل عنه لأن الشيخ عليش كان ولي أمره، وطلب إليه التخصص في علوم الشريعة، فكان فذا في علم الميراث والحساب والأصول بالسودان، وحسين الزهراء عالم أزهري، وقد اشتهر أمره في المهدية، والقاضي أحمد الأزرق عالم اشتهر أمره في المهدية، ومكي أبو حراز عالم اشتهر أمره في المهدية، والدرديري الدولابي، وإبراهيم شريف عالم وشاعر اشتهر بكردفان، وحسن دوليب، ومحمد عبد الماجد، والصاوي عبد الماجد، وأحمد وديدي، وأحمد عبد العاطي درس مع الشرنوبي بمصر، وعمر الأزهري عالم أزهري جليل، ومحمد البدوي عالم جليل وشيخ علماء السودان في أول هذه الحكومة، ومضوي الأزهري عالم جليل، والنذير خالد عالم جليل انتفع به العلماء بالمعهد العلمي، وكان أظهرهم في جامع أم درمان حتى توفاه الله، وأبو القاسم أحمد هاشم شيخ العلماء بالسودان، وقد كان مقربا لدى الخليفة عبد الله بالمهدية، ثم تولى القضاء في السودان في هذه الحكومة، ثم اختير لوظيفة شيخ المعهد العلمي بأم درمان، والحاج أحمد المجذوب وحامد محمد أحمد، ودفع الله أحمد، والطيب أحمد هاشم مفتي السودان سابقا، وكان مقربا عند الخليفة عبد الله زمن المهدية، ومحمد البناء مفتش بالمحاكم الشرعية سابقا، ومحمد الأمين الضرير عالم ورع كان مدرسا بالمعهد بأم درمان، والظاهر المجذوب بالمعهد، ومحمد الجزولي بالمعهد، والعاقب الأزهري كان مدرسا بالمعهد، والسيد محمد السيد الباقر الولي إسماعيل أحد كبار العلماء بالمعهد العلمي، وإبراهيم الإمام أحد كبار العلماء بالمعهد العلمي، وإبراهيم الإمام، وإبراهيم أبو النور، وعوض الكريم، والزين تناد، ومحيي الدين عيسى دوليب، وعثمان العمرابي، ومحمد الصالحي عنان، وموسى محمد الجزولي، وصالح علي، وعلي بخيت، ومجذوب مدثر بالمعهد بأم درمان، والحسن الأمين إمام جامع الخرطوم سابقا، وأحمد سوركن رئيس مدارس الإرشاد بجاوة ومؤسسها ورئيس جمعية المسلمين، وأحمد العاقب ناظر مدرسة أم درمان الابتدائية الأهلية، وأحمد محمد أبو دقن شيخ العلماء بالسودان اليوم، ومفتش بالمحاكم الشرعية سابقا، والحلي المريومابي، وعبد الرحيم العمرابي ناظر مدرسة ابتدائية بالمعارف سابقا، والأمين أبو قرين، وإبراهيم يعقوب، وآدم علي مدرس بجامع ود مدني، ومحمد الطيب قمر الدين مدرس بكوستي، وعبد الرحمن دفع الله، وعمر الأمين مدرس بكوستي، وعلي الصالحي بالأبيض، وهاشم خوجلي بمكوار سنار، وعثمان محمد الخير قاض شرعي سابقا، وأبو زيد محمد الأمين بعطبرا، وعلي محمد، ومصطفى البكري. (10) الثقافة في السودان
إذا جاز لنا أن نقول إن الإسلام دين يحمل رسالة العلم إلى الوجود ويجعل من العلوم والمعارف أداة يتوصل بها إلى توحيد الله تعالى وتمجيده والإحساس بما يحيط بالإنسان من الخلق - الذي هو دليل الصانع - إحساسا يمتزج بالعواطف والمشاعر، ويسمو بالروح إلى مداركها العليا وعنصرها الذي تصبو إليه - جاز لنا أن نقول: إن الأمة التي تدين بهذا الدين لا بد لها من آداب تتفرع عن توحيده وتشريعه، واكتناه أسراره، وفهم مصطلحاته، ونشر تعاليمه، وضبط معاملاته، وتعرف روحانيته السامية: فهو دين ناهض بذاته لا يتصور الخمول في جانبه إلا إذا كان عارضا أو معارضا. وإذا علمنا تلك اللغة المجيدة أعني لغة القرآن المعجز قد وسعت جميع ما تضمنه هذا الدين الحنيف الخالد، وترجمت جميع ما أوحاه العقل البشري إلى الأمم البائدة والمعاصرة لها مما ضاقت عنه بعض لغاتها، فأملته درسا واحدا على الوجود، كان بمثابة النواة لمدنيتنا الحاضرة، وكان حلقة الاتصال بين الماضي والمستقبل كما يشهد بذلك التاريخ الذي لا يكذب. أقول: إذا علمنا ذلك تضاعف يقيننا بأن الأمة العربية المسلمة أينما وجدت وحيثما ارتحلت لا يمكن أن تتسفل أو تنحدر إلى مستوى الهمجية المرذولة، ولا يمكن أن تكون بغير آداب محترمة؛ ففي قانون الشرع وقاموس الكتاب الذي لا يأتيه الباطل أعظم ذخيرة لآدابها ومعارفها.
وإذا علمنا إلى جنب ذلك أيضا أن الإسلام بطبيعته المذكورة وحيويته المدهشة قد عهدت فيه القدرة التامة على نسخ كافة ما يعترضه واكتساحه وتحويل الجنسيات المتباينة إلى جنس واحد واللغات إلى لغة واحدة، لا سيما إذا كان وافدا على البلاد التي يدخلها بأشخاصه العاربة أو المستعربة، سهل علينا أن نتصور ذلك الفتح العظيم الذي جعل من السودان وطنا له حين انحدرت سيوله بعد تكاثفها وتدافعها من أسافل النيل إلى أعاليه. هنالك يجد التاريخ والمؤرخ مجالا فسيحا لأن يقول كلمته في أن القبائل الضاربة في مصر هي أصول القبائل التي احتلت السودان حتى بلغت قبيل الثورة المهدية نحو 12 مليون نفس، فنزلت في سهوله ووهاده وهضابه وشعابه حتى طغت على عناصره الأولى، فلم يبق منها إلا الأثر بعد العين، اللهم إلا في مناطق الاستواء، حيث لا يلائم العربي الجو ولا يطيق طبيعة البلاد ومستنقعاتها، وحيث لا تجد أنعامه الجفاف اللازم لحياتها، فإنه وقف هنالك حائرا في وقت كان العالم فيه كله حائرا متبلدا. ولكن مع ذلك خرجت رسالة الدين واللغة من بين فكيه، وصارت تخترق الغابات والكهوف وتصعد إلى القمم، فلا يكاد يجهل قاطنوها كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله - وهي كل شيء في معناها ومبناها.
أقول: إذا استبقنا ذلك كله لم نشك في أن السودان منذ الفتح الإسلامي تجاوبت في جهاته الأربع آداب الإسلام وعلوم الإسلام ولغة الإسلام، ولم يخل من العلماء والشعراء والكتاب، ولكن بعدت الشقة بينه وبين البلاد التي كانت تحفظ تاريخها وتاريخ من جاورها لتوفر أسباب الكتابة وأدواتها فيها، فحالت بينه وبينها هذه العقبة، والتواء النيل في الصحراء العظيمة، واعتراض الشلالات لمجراه، وصعوبة الترحل إلا على الدواب، وأخصها الجمال التي لا يحسن ركوبها سوى أعراب البادية ؛ فمن هنا قضى تقادم العهد على بعض تاريخه العلمي، وصار شيئا غامضا نتلمسه في معاهد الصلاح وقبور الأولياء، فلا نجد منه إلا أثرا غير حميد؛ فقد طغت نعرة الدين وغلبته أرباب الطرق على كثير من الآداب والمعارف، وإن كان في وجود آثار الصالحين دليل على أنهم إنما اقتطفوا تلك الثمار وتبلغوا بها إلى مجالس الأنس وحظيرة القدس، ولم يبق بين أيدينا إلا ما يحكى أو يروى. وفي الحكاية والرواية ما قد يمسخ أو يشوه جمال الحقائق حيث يكون للحظ والتخمين المرتبة الأولى في التزيين والتقبيح. على أن هناك حسنة ملموسة في طي هذه العزلة. فإن في تفرد لغة قوية غنية بمفرداتها، زاخرة ببلاغتها - أصل استمدادها من الصحراء الواسعة والحياة الحرة والأجواء الطلقة أعظم عامل على بقاء جوهرها سليما من الدخيل في زمن كثرت فيه الأخلاط، وتشعبت فيه اللغات، وانحطت فيه الأمم الإسلامية لاشتغالها عن العلوم بالقشور حتى صار الزجل شعرها والسجع المبتذل رسائلها ونثرها - فقد بقيت اللغة العربية في السودان حافظة لجوهرها ومادتها وإن دخل اللحن عليها، فإنه لا فرار من أمر لم تخل منه الجزيرة نفسها - أقول بقيت كذلك حتى حدثت النهضة المصرية المباركة وكان فتح محمد علي للسودان، فلم يلبث أن تشبث السودان بعلوم مصر وأخذ منها حظه؛ فدبت في اللغة روح الحياة، ونشطت من عقالها على يد أساتذة المدرسة الحديثة، وما زالت تنمو وتصفو حتى جاء الفتح الثاني بعد ثورة المهدية التي كانت بمثابة فترة في عالم الآداب والعلوم؛ فأسست كلية غوردون بالخرطوم والمدارس الأولية التابعة لها في بعض جهات القطر السوداني، وسارت المعارف في نظام الدراسة على أحدث الأوضاع وفاقا لما يجري في المعارف المصرية، وانتخب لذلك مدرسون أكفاء من المصريين والإنكليز لتأسيس التعليم على قواعد صحيحة، فدرج التعليم على أكفهم وترعرع في أحضانهم حتى أينع وازدهر ونبت نباتا حسنا في عقول ظهر أنها من أخصب العقول وأقواها مدارك وأسرعها إنتاجا - وفي أثناء ذلك كان العلم الأزهري يتدرج في القطر ويسير إلى جنب التعليم المدرسي حتى انتظم بفضل وجود معهد أم درمان الذي كان الزمن العامل في تكوينه؛ فتوحدت صفوفه بمعونة الله وتوفيقه، وأمدته الحكومة بالمعونة التي لا تنكر؛ فأخذ يحتذي مثال الأزهر الشريف ويترسم خطاه حتى أصبح - بحمد الله - معهدا يصح أن يشار إليه، وتخرج منه عدد غير يسير من العلماء والمتعلمين - ومن هؤلاء وأولئك المتعلمين تكونت ثروة البلاد العلمية والأدبية، وصار أبناؤها يقذونها بنفائس العلم وعرائس الفكر، وينادون بالإصلاح الذي شغل بال العالم والمتعلم عن التحبير والتصنيف، شأن كل أمة لا تزال في مهد الطفولة، ولولا ذلك لسمع الناس عنهم ولقرؤوا لهم أطيب الخبر وأفضل الأثر - وهنا لا يفوتنا أن نقول: إن ما أخرجته المطابع المصرية من الكتب القديمة والحديثة وما كتبه الكتاب في المجلات والجرائد اليومية وغيرها كان بمثابة المنهل العذب لأبناء السودان جميعا؛ حيث إنهم أولوها عنايتهم، وجعلوها رائدهم، ونظروا فيها نظرة ناقد غيور ومتعلم بصير؛ فلا تكاد تخفى عليهم منها خافية. وقد ساعدهم على ذلك لغة التخاطب التي هي بمنزلة لغة التاليف عند سواهم من غير أبناء هذا الوادي، حتى إنك تستطيع أن تقرأ الكتاب اللغوي بين الأميين؛ فتراهم يشاركونك في فهم مفرداتها وجملها وشواردها مشاركة دراية واسعة وإحاطة شاملة ونشوة من لذة البيان - وهنا نلمس السر في أن السوداني لا يعاني في تحصيل الثقافة إلا فهم المصطلحات وما هو من قبيل الفن الخالص - هذا ولا يخفى أن دراسة اللغة الإنكليزية في كلية غوردون والمدارس الابتدائية وبعض مدارس الإرساليات على يد أساتذة إنكليز وتلامذتهم قد أدخل على الثقافة السودانية مسحة من الآداب الغربية التي نرجو أن يكون نصيب البلاد منها واقفا عند حد ما تستسيغه على يد أبنائها البررة، والزمن كفيل وحده بتحقيق الأماني وإفشاء الحقائق وإظهار الدقائق. (11) الأزهر والسودان
أسلفنا الكلام على علاقة السودان بالأزهر، واهتمام ملوك الفونج ودارفور بعلماء الأزهر وطلبته وبعثاته. ولا يزال مواطنونا السودانيون ينهلون من الأزهر العلم الديني، ولهم أروقة. ومعهد أم درمان العلمي - كما قدمنا - قد جعل وفاقا لمناهج الأزهر القديمة؛ لذا كان لزاما علينا الكلام عن الأزهر تعريفا لإخواننا السودانيين ولقرائنا.
جاء في «كتاب الأزهر تأليف محب الدين الخطيب سنة 1345ه»، قال في الفصل الثالث تحت عنوان «صفة الأزهر»:
الأزهر مسجد إسلامي قديم، ومعهد علمي عظيم، ما زال أعيان المسلمين وأمراؤهم - ولا يزالون - يتعهدونه بالعناية والتوسيع والإصلاح - منذ نحو ألف سنة - على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم.
وقال:
وهو في شكله الحاضر بناء واسع قائم على أرض مساحتها 26323 ذراعا (12 ألف متر مربع)، يحيط به سور مربع فيه ثمانية أبواب: في الجانب الغربي الخارج إلى ميدان الأزهر باب المزينين والباب العباسي. وفي الجانب الجنوبي باب المغاربة وباب الشوام وباب الصعايدة، وفي الجانب الشرقي باب الحرمين - وهو مقفل - وباب الشربة، وفي الجانب الشمالي باب الجوهرية. وتسمو فوق هذه الأسوار والأبواب خمس مآذن؛ ثلاث في داخل باب المزينين: أحدهما الأقبغاوية، والثانية مئذنة قايتباي، والثالثة مئذنة قانصوه الغوري. وواحدة بجانب باب الصعايدة، وأخرى بباب الشربة، وكلتاهما من إنشاء كتخدا. ولا يؤذن على تلك المآذن غالبا إلا العميان تفاديا من وقوع أنظار المؤذنين على المنازل، وهي عادة حسنة جارية في أكثر المدن المصرية. والغالب أن أذان الأزهر ينبني عليه أذان أكثر منارات القاهرة.
وقال تحت عنوان «أولية الأزهر»:
اختل أمر مصر بعد موت كافور الإخشيدي (10 جمادى الأولى سنة 357ه)، فكتب جماعة من أعيانها ورجال الدولة فيها إلى أبي تميم المعز لدين الله معد الفاطمي أمير المغرب، يطلبون منه عسكرا ليسلموا إليه إدارة البلاد المصرية. فجهز المعز جيشا سار من القيروان - يوم الجمعة 14 ربيع الأول سنة 358 - بقيادة أبي الحسن جوهر بن عبد الله. وفي يوم 17 شعبان سنة 358 تم للقائد الفاطمي جوهر فتح مملكة مصر، وكانت قاعدتها «الفسطاط»،
9
فأنشأ جوهر شمالها - حيث كانت مضروبة خيام جيشه - مدينة أخرى دعاها «المنصورية»
10
وابتدأ البناء بمسجد المدينة الجديدة - وهو «الأزهر» - يوم السبت 22 جمادى الأولى سنة 359ه.
وتم بناء الأزهر - وما حوله من قصور الخلافة وبيوت كبار رجال الدولة - في نحو ثلاثين شهرا. وأول جمعة صلاها الفاطميون في مسجدهم الجديد «الأزهر» كانت يوم 6 رمضان سنة 361ه.
وفي زمن الحاكم بأمر الله زين الأزهر بقناديل من الفضة تعلق فيه في شهر رمضان. وكان الأزهر ومناراته ينار بالمصابيح أيام الخلفاء الفاطميين بزينة باهرة في المواسم. وفي قصر الخلافة منظرة مخصوصة تطل على الأزهر، يشاهد منها الخليفة تلك الزينة واسمها «منظرة الجامع الأزهر».
وكان في محراب الأزهر منطقة فضة بقيت إلى زمن السلطان صلاح الدين، والمنبر الأصلي القديم الذي أنشئ للأزهر في بداية تأسيسه نقل فيما بعد إلى الجامع الحاكمي.
وكان الخلفاء الفاطميون يخطبون بأنفسهم على منبر الجامع الأزهر.
وجدد الحاكم بأمر الله الأزهر، وهو أول من وقف الأوقاف عليه.
وفي سنة 427ه تولى الخلافة الفاطمية المستنصر بالله معد بن الظاهر لإعزاز دين الله، وفي مدة خلافته جدد الجامع الأزهر. ثم اقتفى أثره حفيده المنصور أبو علي الآمر بأحكام الله الذي تولى الخلافة سنة 495؛ فأحدث في الأزهر تجديدا.
ثم تولى سنة 524 أبو الميمون الحافظ لدين الله عبد المجيد؛ فجدد في الأزهر أبنية، وأنشأ فيه «مقصورة فاطمة الزهراء»، وهي مقصورة لطيفة تجاور الباب الغربي الذي في مقدمة الجامع بداخل الرواقات.
وقال تحت عنوان «الأزهر بعد الفاطميين»:
وكان للأمير بدر الدين بيلبك الخازندار الظاهري يد محمودة في هذا التجديد.
وفي سنة 702 داهمت الشرق الأدنى زلزلة عنيفة خربت قسما عظيما من بلاد مصر والشام، وأخرجت المياه من الآبار إلى سطح الأرض، وفاضت البحار إلى اليابسة فأغرقت خلقا كثيرا، وأصابت الزلزلة «الأزهر» وسائر مساجد القاهرة بأذاها، فتقاسم الأمراء عمارتها، وأخذ الأمير سلار - من رجال دولة المماليك البحرية - على نفسه عمارة الأزهر الشريف وتجديده.
وفي سنة 709 انتهى الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار - نقيب الجيوش - من إنشاء مدرسته التي هي مخزن «دار الكتب الأزهرية».
وفي سنة 725 جدد الأزهر القاضي نجم الدين محمد بن حسين الأسعردي محتسب القاهرة.
وفي سنة 740 انتهى الأمير آقغا علاء الدين الواحدي من إنشاء مدرسته المتصلة بالمدرسة الطيبرسية «مخزن المكتبة الأزهرية».
وفي سنة 761 جدده الأمير الطواشي سعد الدين بشير الجامدار الناصري.
وفي سنة 784 تولى النظر على الأزهر الأمير بهادر الطواشي.
وفي سنة 818 بلغ عدد المجاورين في الأزهر 750 رجلا.
وفي شوال سنة 827 ابتدئ بعمل الصهريج وسط الجامع، فوجد هناك آثار فسقية ماء.
وفي مدة الملك الأشرف أبي الناصر قايتباي المحمودي «872-901» أحدث الملك تجديدا في الأزهر.
وفي سنة 900 أنفق الخوجا مصطفى بن محمود بن رستم خمسة عشر ألف دينار من ماله على عمارة الجامع الأزهر.
وفي سنة 904 رتب الملك الظاهر أبو سعيد قانصوه - خال الناصر بن قايتباي - الخبز والخريزة
11
في الأزهر أيام رمضان.
وفي عام 923 زاره السلطان سليم العثماني، وصلى فيه الجمعة، وتصدق بمبلغ كبير.
وفي سنة 1004 أحدث الشريف محمد باشا والي مصر تجديدا في الأزهر، ورتب للطلبة طعاما يطبخ لفقرائهم كل يوم.
وفي سنة 1014 عمر حسن باشا والي مصر مقام الحنفية أحسن عمارة وبلطه.
وفي سنة 1105 وقف عليه محمد باي ابن مراد باي حاكم ولاية تونس أوقافا، ثم جدد سقف الجامع الأزهر الأمير إسماعيل بك القاسمي المتوفى سنة 1136.
وفي سنة 1148 أنشأ الأمير عثمان كتخدا زاوية العميان، وعمر رواق الأتراك ورحبته المسقوفة ورواق السليمانية «الأفغانيين»، وزاد في رواق الشوام، ورتب لذلك مرتبات من وقفه.
وفي سنة 1161 تقلد ولاية مصر أحمد باشا كور، وتتلمذ للشيخ حسن الجبرتي «والد الشيخ عبد الرحمن صاحب التاريخ».
وفي سنة 1167 أنشأ الأمير عبد الرحمن كتخدا الزيادة التي زادها على الأزهر.» وقال «في صحيفة 23 عن رواق السنارية ما يأتي»: «وفي 1220 أنشأ محمد علي باشا جد الأسرة المالكة «رواق السنارية بالتماس الشيخ محمد وداعة السناري، فاشترى عزيز مصر ريعا كان في مكان هذا الرواق، وبناه ووقف عليه.
ووقفت الأميرة زينب هانم كريمة العزيز محمد علي أوقافا على الأزهر كان ريعها عشرين ألف جنيه، وهو الآن أعظم من ذلك. (11-1) أروقة الأزهر
وجاء في «كتاب «رسالة الأزهر سنة 1321» تأليف حضرة صاحب العزة مصطفى بيرم بك في صحيفة (17)» عن أروقة الأزهر ما يلي: «ثانيا أروقة الأقاليم الإسلامية الأجنبية عن مصر - وهاك بيانها:
رواق الحرمين الشريفين
لسكان الحجاز
رواق الشوام
لأهل الشام
رواق الجاوة
لأهل جزيرة جاوة وما جاورها
رواق السليمانية
لأهل أفغانستان
رواق المغاربة
وبه أقسام : قسم للمراكشيين، وآخر للجزائريين، وآخر للتونسيين، وآخر للطرابلسيين
رواق الأتراك
للترك
رواق اليمن
لأهل اليمن وحضرموت
رواق الأكراد
للأكراد
رواق الهنود
لأهل الهند
رواق البغدادية
لأهل بغداد وما جاورها
رواق الجبرت
وهو للأحباش المسلمين
رواق البرابرة
وهم سكان أعالي الصعيد ما بين مصر والسودان
رواق السنارية
لأهل سنار من السودان
رواق الدكارنة البرناوية
لأهل برنو من السودان
رواق دكارنة صليح
لأهل صليح من السودان. ا.ه.» (11-2) رواق السنارية
في عام 1253 هجرية حضر إلى الأزهر الشريف لطلب العلم سناري يدعى محمد علي وداعة. فوجد بالأزهر ستة من السنارية قد سبقوه إليه.
وفي سنة 1257ه قدم هؤلاء الطلبة إلى المغفور له محمد علي باشا الكبير طلبا يطلبون منه ترتيب خبز لهم. فوافق على ذلك في سنة 1258ه.
وفي عام 1266ه. وافق المغفور له محمد علي باشا على بناء رواق خاص بالسنارية في الأزهر الشريف. وفعلا تم إنشاء ذلك الرواق الحالي.
وقد زاد الخديوي إسماعيل باشا الخبز الذي يأخذونه من الأزهر. ويوجد الآن من الطلبة السناريين 37 طالبا، والذين حصلوا على شهادة العالمية من هؤلاء ستة بعضهم يشتغل بالتدريس بالمعهد الأزهري والبعض الآخر يشتغل بالمحاماة الشرعية. وطلبة رواق السنارية ينتمون إلى سبع عواصم مديريات وهي: الأبيض والدويم والخرطوم والدامر وكسلا ومدني وسنجه. ويرجع أصلهم إلى عرب الحجاز؛ فمنهم من ينتمي إلى الأشراف، ومنهم العباسيون، ومنهم جهينة، والقسم الأخير يعد الأكثرية.
ويرجع الفضل إلى هذا الرواق في نشر العلم والعرفان بين أهالي السودان.
والشيخ الحالي لهذا الرواق هو الشيخ بشير أحمد عبد الجبار، ولأهل هذا الرواق بالجامع الأزهر الشريف حصة قدرها الربع من وقف المرحومة الست برلنته هانم حرم المرحوم محمد شريف باشا الكبير مشروط صرف ريعها في ثمن خبز، وقد بلغ ريع تلك الحصة عن سنة 1933-1934 المالية نحو 285 جنيها مصريا.
ولهم أيضا حصة من وقف المرحوم حيدر أغا الحبشي يصرف ريعها نقدا لشيخ الرواق وطلبته، بلغ ريعها عن سنة 1933-1934 المالية نحو 15 جنيها.
وموقوف أيضا على هذا الرواق دكان تبلغ أجرتها سنويا نحو ستة جنيهات .
رواق برنو:
يبلغ عدد طلبة هذا الرواق نحو 16 طالبا بينهم اثنان من العلماء الحاصلين على شهادة العالمية، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ سعيد محمد مالك شيخ هذا الرواق.
رواق صليح:
يبلغ عدد طلبة هذا الرواق نحو 12 طالبا حسب إحصاء سنة 1935م، وشيخ هذا الرواق هو الشيخ آدم بحر.
أوقاف هذين الرواقين: لطلاب رواقي (برنو وصليح) أوقاف خاصة بهم.
فقد وقف المرحوم محمد سرور أغا 15 فدانا، على أن يصرف ريعها بعد وفاته في ثمن خبز لطلبة العلم السودانيين برواقي برنو وبرجو بالأزهر.
كما وقف المرحوم المذكور رواقين لسكنى طائفة من مجاوري الرواقين المذكورين ومنزلا آخر يصرف ريعه في ثمن خبز للطلاب القاطنين بالرواقين.
رواق الجبرت:
يحتوي رواق الجبرت على أربعة أقسام من الطلبة: كل قسم تابع لدولة من الدول. فمنهم التابع للدولة الإيطالية وعددهم 23 بينهم 6 من العلماء، وقسم آخر تابع للإمبراطورية الحبشية يبلغ عدد طلبته 13 بينهم اثنان من العلماء. وقسم ثالث من الصوماليين التابعين للحكومة الإنكليزية وعدد طلبته 6. والقسم الرابع من الصوماليين التابعين للحكومة الإيطالية ويبلغ عددهم نحو 9 منهم عالم. وعلى رأس هؤلاء الطلبة شيخ الرواق فضيلة الشيخ محمد نور بكر من العلماء. وهذا حسب إحصاء 1935.
ولطلبة هذا الرواق حصة من وقف المرحوم حيدر أغا الحبشي يصرف ريعها لهم نقدا، وقد بلغ هذا الريع عن سنة 1933-1934 المالية نحو خمسة عشر جنيها.
رواق البرابرة (دنقلة):
يبلغ عدد طلبة هذا الرواق - حسب إحصاء سنة 1935م - 22 طالبا على رأسهم شيخ الرواق، وهو الشيخ محمد وحش.
وليس لطلبة هذا الرواق أوقاف خاصة بهم.
رواق دارفور:
يبلغ عدد طلبة هذا الرواق حسب إحصاء سنة 1935: خمسة من الطلاب على رأسهم شيخ الرواق، وهو الشيخ سليمان إبراهيم.
وليس لطلبة هذا الرواق أوقاف خاصة بهم.
ولمشايخ الأروقة مرتبات شهرية تصرفها لهم المشيخة من ميزانيتها.
ولكل من هذه الأروقة مساكن خاصة بطلابها على حساب مشيخة الأزهر، وهي مجهزة بالماء والنور.
على أن هناك أوقافا عامة تشمل جميع طلاب العلم بالأزهر الشريف. (11-3) طلبة السودان بالقسم العام بالأزهر
شيخ السنارية : الشيخ بشير أحمد عبد الجبار. عدد الطلبة حسب إحصاء سنة 1935م: 32.
شيخ البرابرة (دنقلة): الشيخ محمد وحش. عدد الطلبة حسب إحصاء سنة 1935م: 22.
شيخ دارفو: الشيخ سليمان إبراهيم. عدد الطلبة حسب إحصاء سنة 1935م: 5.
شيخ صليح: الشيخ آدم بحر. عدد الطلبة حسب إحصاء سنة 1935م: 12.
الحاصلون على شهادة العالمية المصرية غير نظامية من سنة 1349ه سنة 1930م إلى سنة 1353ه: عدد 3.
الحاصلون على شهادة العالمية الخاصة بالغرباء من سنة 1349ه إلى سنة 1352ه: عدد 6.
شيخ رواق البرناوية: الشيخ سعيد محمد مالك.
شيخ رواق الجبرت: الشيخ محمد نور بكر. ولهؤلاء المشايخ مرتبات شهرية تصرفها لهم المشيخة من ميزانيتها. (11-4) أوقاف أروقة السودان
فضلا عما بينا من الأوقاف فيما تقدم نذكر ما يلي:
رواق الجبرت: شيخ الرواق - الشيخ محمد نور بكر.
أوقاف الرواق: لأهل هذا الرواق حصة من وقف المرحوم حيدر أغا الحبشي، يصرف ريعها لهم نقدا، وقد بلغ ريعها سنة 1933-سنة 1934 المالية نحو 15 جنيها.
ووقف للسيدة حفيظة الألفية حصة لم يصرف ريعها بعد. ووقف آخر لأحد السودانيين، وهو الحاج رفعت أغا السوداني، حصة من أطيانه تؤول إليهم من بعد وفاته.
أوقاف رواق السنارية بالجامع الأزهر: لأهل رواق السنارية بالجامع الأزهر حصة قدرها الربع من وقف المرحومة الست فاطمة برلنته هانم حرم المرحوم محمد شريف باشا الكبير مشروط صرف ريعها في ثمن خبز، وقد بلغ ريع تلك الحصة عن سنة 1933م حوالي 285 جنيها. ولرواق السنارية حصة من وقف المرحوم حيدر أغا الحبشي يصرف ريعها نقدا لشيخ الرواق وطلبته، وبلغ ريعها سنة 1933 نحو 15 جنيها.
وموقوف على هذا الرواق دكان تبلغ أجرته سنويا نحو 8 جنيهات.
أوقاف رواقي برنو وبرجو (البرناوية وصليح) وقف المرحوم محمد سرور أغا خمسة عشر فدانا على أن يصرف ريعها بعد وفاته في ثمن خبز لطلبة العلم السودانيين برواقي برنو وبرجو. كما وقف المرحوم المذكور رواقين لسكنى طائفة من مجاوري الرواقين المذكورين ومنزلا آخر يصرف ريعه في ثمن خبز للطلاب الساكنين بالرواقين. (11-5) شيوخ الأزهر
وقد أحصى فضيلة الشيخ محمد علي القاضي الطحاوي المراقب بالجامعة الأزهرية 35 شيخا للأزهر في 354 عاما.
كان الأزهر إلى أواخر القرن الحادي عشر الهجري يتولى أمره متول من قبل حاكم مصر، وأول من تولى منصب المشيخة الجليلة: (1)
الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخراشي المشهور بالخراشي المالكي، وبقي فيها إلى أن انتقل إلى رحمة الله يوم الأحد 27 ذي الحجة سنة 1101ه. (2)
المغفور له الشيخ إبراهيم بن محمد البرماوي الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي سنة 1106ه. (3)
المغفور له الشيخ محمد النشرتي المالكي. وبقي فيها إلى أن توفي أواخر ذي الحجة سنة 1140ه. (4)
المغفور له الشيخ عبد الباقي القليني المالكي. وبقي فيها إلى أن توفي. (5)
المغفور له الشيخ محمد شنن الجداوي المالكي. وبقي فيها إلى أن توفي سنة 1143ه. (6)
المغفور له الشيخ إبراهيم بن موسى الفيومي المالكي. وبقي فيها إلى أن توفي سنة 1147، وهو آخر من تولاها من السادة المالكية حتى عادت إليهم في العقد الثاني من القرن الرابع عشر. (7)
المغفور له الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي أواخر سنة 1171ه. (8)
المغفور له الشيخ محمد بن سالم الحفني الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي أواخر ربيع الأول سنة 1181ه. (9)
المغفور له الشيخ عبد الرؤوف بن محمد السجيني الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي في منتصف شوال سنة 1182ه. (10)
المغفور له الشيخ أحمد بن عبد المنعم الدمنهوري الحنفي المالكي الشافعي الحنبلي، وبقي فيها إلى أن توفي أوائل رجب سنة 1192ه. (11)
المغفور له الشيخ أبو الصلاح أحمد بن موسى العروسي الشافعي، وبقي فيها إلى أن توفي أواخر شعبان سنة 1208ه. (12)
المغفور له الشيخ عبد الله بن حجازي الشرقاوي الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي أوائل شوال 1227ه. (13)
المغفور له الشيخ محمد بن علي الشنواني الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي أواخر محرم سنة 1233ه. (14)
المغفور له الشيخ محمد العروسي الشافعي بن الشيخ أحمد العروسي (الحادي عشر)، وبقي فيها إلى أن توفي 1245ه. (15)
المغفور له الشيخ أحمد بن علي الدمهوجي الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي يوم عرفة سنة 1246ه. (16)
المغفور له الشيخ حسن بن محمد العطار الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي أواخر ذي الحجة سنة 1250ه. (17)
المغفور له الشيخ حسن القويسني الشافعي الضرير. وبقي فيها إلى أن توفي في ذي القعدة سنة 1254ه. (18)
المغفور له الشيخ أحمد بن عبد الجواد الصائم السفطي الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي في شعبان سنة 1263ه. (19)
المغفور له الشيخ إبراهيم بن محمد الباجوري الشافعي. وبقي فيها إلى أن توفي في أواخر ذي القعدة سنة 1277ه (إلا أنه قبل وفاته ضعف عن القيام بأعمال المشيخة، فأجمع الأمر على إقامة أربعة من العلماء يقومون مقامه، وصدر الأمر بذلك من والي مصر المرحوم سعيد باشا في محرم سنة 1275ه بانتخاب الشيخ إسماعيل الحلبي الحنفي، والشيخ مصطفى الصاوي الشافعي، والشيخ خليفة الفشني الشافعي، والشيخ أحمد كبوه العدوي المالكي. وبعد وفاة الشيخ الباجوري ظل المنصب شاغرا يديره من بقي من هؤلاء الوكلاء وهما: الشيخ خليفة الفشني المتوفى يوم السبت 17 محرم سنة 1293ه، والشيخ أحمد كبوه العدوي المتوفى في 16 ذي القعدة سنة 1321ه، وبقي الأمر كذلك إلى سنة 1281ه. (20)
وتقلدها في سنة 1281ه المغفور له الشيخ مصطفى العروسي الشافعي، كما تولاها أبوه وجده من قبل. وبقي فيها إلى أن أقيل في شوال سنة 1287ه. (21)
المغفور له الشيخ محمد المهدي العباسي الحنفي، وهو أول من تولاها من السادة الحنفية. وقد بقي فيها إلى أن أقيل منها في 13 محرم سنة 1299ه «نزولا على إرادة العرابيين». (22)
المغفور له الشيخ محمد الإنبابي الشافعي. وبقي فيها إلى أن استقال منها في ذي القعدة سنة 1299ه. (23)
المغفور له الشيخ محمد المهدي العباسي الحنفي «مرة ثانية»، وبقي فيها إلى أن استقال منها موفور الكرامة عزيز النفس والجانب في أوائل ربيع الثاني سنة 1304ه. (24)
المغفور له الشيخ محمد الإنبابي الشافعي «مرة ثانية». وبقي فيها إلى أن استقال منها في 25 ذي الحجة سنة 1312، وقبلت استقالته في 2 محرم سنة 1313ه. (25)
المغفور له الشيخ حسونة النواوي الحنفي، وقد بقي فيها إلى أن أقيل منها في أواخر محرم سنة 1317ه «بسبب الزوبعة المعروفة في مجلس شورى القوانين؛ مما يشهد للمغفور له بعزة النفس والمحافظة على الكرامة التي كان يرى - قدس الله روحه - أنها ليست ملكا له، بل هي ملك لأهل العلم أجمع». (26)
وتقلدها بعده ابن عمه المغفور له الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي الحنفي، وبقي فيها إلى أن انتقل إلى رضوان الله في 25 صفر سنة 1317. (27)
المغفور له الشيخ سليم البشري المالكي. وبقي فيها إلى أن أقيل منها في أوائل ذي الحجة سنة 1320، بسبب «حادث مسجد السيدة نفيسة (رضي الله عنها) مع الخديوي السابق عباس حلمي». (28)
المغفور له السيد علي محمد الببلاوي المالكي، وقد بقي فيها إلى أن استقال منها في أوائل محرم سنة 1323ه صيانة لكرامته وضنا بها من أن تمس بسوء. (29)
وتقلدها بعده في 13 محرم سنة 1323ه المغفور له الشيخ عبد الرحمن الشربيني الشافعي، وبقي فيها إلى أن استقال منها في ذي الحجة سنة 1324ه. (30)
المغفور له الشيخ حسونة النواوي الحنفي «مرة ثانية»، وبقي فيها إلى أن استقال منها بشمم وإباء وعزة نفس في ربيع الأول سنة 1327ه. (31)
المغفور له الشيخ سليم البشري المالكي «مرة ثانية»، وقد بقي فيها إلى أن انتقل إلى رضوان الله في أوائل ذي الحجة سنة 1335ه.
12 (32)
المغفور له الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي المالكي، وقد بقي فيها إلى أن انتقل إلى رضوان الله في منتصف محرم سنة 1346ه «وقد ظلت الوظيفة شاغرة أكثر من عشرة أشهر». (33)
وتقلدها ابن مجدتها فضيلة الأستاذ الكبير الشيخ محمد مصطفى المراغي الحنفي في ذي القعدة سنة 1346ه، وبقي فيها إلى أن استقال منها مرفوع الرأس وافر الكرامة في نهاية ربيع الثاني سنة 1348ه. (34)
وتقلدها بعده الشيخ محمد الأحمدي الظواهري الشافعي، وبقي على الأزهر مدة خمس سنين وسبعة أشهر إلا أياما، حيث استقال من المشيخة مساء الجمعة 23 محرم سنة 1354ه كنتيجة لإضراب الأزهريين ومطالبتهم بإعادة فضيلة الشيخ المراغي شيخا للجامع الأزهر. وقد أعيد فضيلته للمشيخة، ولا يزال بها. (12) السودانيون بالجيش المصري
هذا بيان أسماء حضرات الضباط السودانيين الذين عادوا من السودان بعد حوادثه سنة 1924، وبعد نزول الجيش المصري من السودان، وهم الذين رفضوا حلف يمين الولاء لحاكم السودان العام، وتمسكوا بولائهم لحضرة صاحب الجلالة مليك البلاد - وهم الذين أعيدوا للخدمة بوزارة الداخلية في أغسطس سنة 1927، وظلوا بها حتى الآن، وهم:
حضرات البكباشيين إبراهيم عبد الرحمن مفتش خفر مديرية أصوان، وخضر علي أحيل للاستيداع في أول يونيو 1935، ومحمد صالح جبريل مفتش خفر مديرية جرجا، وعبد الله النجومي أفندي، وهو نجل الزعيم الكبير بالسودان المرحوم عبد الرحمن ولد النجومي الذي حاول الوصول للقطر المصري في عهد عبد الله التعايشي ملك السودان وقتئذ، وقد قتل النجومي في بلدة توشكى بعد معركة مع قوات الجيش المصري - ضابط بسبورتات بالإسكندرية، وفرج الله محمد أفندي قومندان بلوك خفر الإسكندرية، والصاغ زين العابدين عبد السلام أفندي قومندان هجانة بوليس المينا واليوزباشية: عبد الدايم محمد أفندي قومندان هجانة بوليس الجيزة، وسيف عبد الكريم أفندي ضابط مرور مديرية جرجا، وإبراهيم فرج علام أفندي ضابط مرور مديرية المنيا، واليوزباشي عبد العزيز عبد الحي أفندي ضابط مرور مديرية القليوبية، وعبد الله أفندي مرجان ببلوكات خفر الأقاليم بمصر، والملازمان الأولان عبد الحميد أفندي فرج الله ضابط خفر بالسكة الحديد بالمنيا، والسيد أفندي شحاته ضابط خفر بالأقاليم بمصر.
هوامش
الفصل الثلاثون
الأدب في السودان
كان للقبائل العربية النازحة إلى السودان في عصور التاريخ المختلفة ولطبيعة البداوة التي شاهدتها في مهابطها ومنتجعاتها أثر في إيجاد شعر أشبه موضوعا بشعر الأقدمين، شعر ينزع إلى الحماسة، والفخر بالعشيرة، والأنفة، وإباء الضيم، والحب، والرثاء، وغير ذلك. وقول الشعر لديهم سهل ميسور بفضل روحهم العربية، وطبيعة بلادهم. غير أن هذا الشعر ليس فصيحا متفقا مع قواعد العربية وأوزان الشعر إلا إذا صدر عن الذين اتصلوا بلغة العرب اتصال تعلم وتثقف، ثم هو يحتذي الشعر المصري في تطوره، وتغلب عليه النزعة الدينية وروح الإيمان. انظر إلى قول المرحوم الشيخ مكي الدقلاشي أحد شعرائهم من قصيدة:
الله لي عدة في كل نائبة
أقول في كل حال حسبي الله
يا فاعلا للمعاصي عند خلوته
أما علمت بأن الشاهد الله
وانظر إلى قول صاحب الفضيلة المرحوم الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم شيخ العلماء:
وسائل الناس عنا إننا نجب
لنا التقى وسوانا اللهو واللعب
وفي المحامد لا يلفى لنا بدل
وما تعدى حمانا الظرف والأدب
وانظر إلى قول الشيخ الحسين الزهراء في المهدي مؤيدا دعوته، ذاهبا بها مذهب المتصوفة وأهل الطريق:
وإن كان علم العقل غير موصل
إلى شرح علم السر إذا لم يزل قشرا
قديما أرتنا من وراء خبائها
ستور رسوم لم تزل للعلا سترا
بنفسي فتى بالشمس راد الضحى أزري
ونورا يفوق النور والنجم والبدرا
وانظر إلى قول الشيخ الأمين محمد الضرير المحسي الأنصاري في توفيق باشا خديوي مصر لما عينه رئيسا للشيوخ في مسجد أسسه للعلم:
أما حويتم بتوفيق العزيز حمى
أبعد توفيق رب العز خذلان؟!
وبجانب هذا الشعر المجيد الذي غزته الروح العلمية المنتشرة حينا بعد حين على يد مصر، تجد شعراء آخرين تغلب على ألسنتهم رطانة البدو.
انظر إلى قول أحد شعرائهم «أبو جروس» في عهد الأرباب يمدح الملك حمد ابن الشيخ إدريس الأرباب من قصيدة:
ولد القرشي ضيفانه ماية وألفين
هيلك هيل أبوك يا جامع الشرفين
ومن شعرائهم المجيدين الذين أخذوا عن جمهرة من الأساتذة المصريين الذين قاموا بالتدريس بكلية غوردون الشيخ عبد الله البنا، ومن شعره يخاطب الهلال:
يا ذا الهلال عن الدنيا أو الدين
حدث فإن حديثا منك يشفيني
طلعت كالنون لا تنفك في صغر
طفلا وإنك قد شاهدت ذا النون
سايرت نوحا ولم تركب سفينته
وأنت أنت فتى في عصر زبلين
أما المحدثون من الشبان فنزعتهم إلى الشعر لا تقل عن سابقيهم، وهم يتتبعون بانتباه روح مصر في نزعاتها، ويكادون يلتهمون شعرها ونثرها وعلمها التهاما، ومن أولئك الشبان الذين تقوى فيهم النزعة الشعرية زين العابدين أفندي إبراهيم طالب بمدرسة كتشنر الطبية، ومن شعره في الرثاء:
ناح هذا الطير في أفنانه
بافتنان في عبارات النحيب
غننا بالله ألحان الأسى
فوداع المرء للروح قريب
إنما الدنيا خيال زائل
كل حي في زواياها غريب
أما النثر فلم ينل الحظ الذي ناله الشعر لديهم؛ إذ لم يزل للسجع سلطان في الكتابة على كثرة الكاتبين، وكان المرحوم محمد عباس أبو الريش من الأدباء الذين امتازوا بحصافة الرأي، وقوة التعبير، وفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير حضارة السودان من أرباب القلم القادرين على إبراز المعاني الدقيقة في عبارات خلابة طلية.
ويدخل في منطوق كلمة «النثر» أمثال وحكم سارت على لسانهم كما سارت الأمثال قديما على ألسنة العرب، وكما كانت الحكمة تلقى من أفواههم فإذا هي نور وهدى.
ومن هذه الأمثال قولهم: «البتسوي تلقى» يريدون: ما تعمل من عمل تجد جزاءه خيرا أو شرا، و«الجعلي بعدي يودعه خنق» يضربونه للرجل الشجاع الذي لا يبالي بأحداث الأيام وهمومها، و«لا محمد في القراية ولا فاطمة في السقاية» يضربونه عندما يعيرون رجلا عقيما أو امرأة عقيما.
ومما يلفت النظر أن كثيرا من ألفاظهم المتداولة عربية فصيحة، فمثلا تقول المرأة عندما تريد أن تغتسل: أريد أن أتبرد بالماء «وكلمة أتبرد كلمة عربية فصيحة». قال عمر بن أبي ربيعة القرشي:
زعموها سألت جارتها
وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
عمركن الله أم لا يقتصد
ويقولون: «أنت يا زول» يعني يا إنسان، وهي عربية ولكن بفتح الزاي، وهو الظريف من كل شيء، قال الحطيئة يصف ناقته:
همها الأعور الهجان مباري
الريح للشريحية الأزوال
وخلاصة القول: إن الأدب اليوم يحمل في ثناياه طابعا عربيا إسلاميا مصريا متأثرا بلون من ألوان الثقافة الفرنجية. إذ الثقافة في السودان تتغذى من ينابيع كثيرة: (1)
فهي تتغذى من الينبوع العربي الأصيل الفياض؛ ولذا ففيها شجاعة، وفيها كرم، وفيها وفاء، وفيها حماسة، وفيها مروءة. (2)
وتتغذى من الينبوع الإسلامي؛ ولذا فللدين فيها نصيب كبير، وللقرآن حظ عظيم، وللأحاديث النبوية سيادة واسعة، وللأخلاق الإسلامية سيطرة روحية نافذة، وحافظة واعية، لا سيما بوجود المعهد العلمي بأم درمان ودروس القرآن في المعاهد الصغيرة، واحترام المذاهب. (3)
وتتغذى من الثقافة الأدبية المصرية بما يقرأه الشبان من كتب وجرائد ومجلات مصرية. ومما يحفظونه من قصائد الشعراء المصريين، وكلمات كبار الكتاب وأساطين الصحافة المصرية، ومما يتأثرونه من أساليبهم، التي أصبحت متجددة، وأضحت مبتكرة، متنافسة، متبارية، في الصيغ والجمال والروح والمعاني. (4)
وأخيرا وجدت الثقافة السودانية ينبوعا جديدا، في الثقافة الإنكليزية - في التعليم في كلية غوردون، وفي تعليم بعض الشبان الأذكياء في مدارس القاهرة وجامعة بيروت الأمريكية وفي لندن، وفي وجود عدد كبير من الموظفين الإنكليز، وبينهم خريجو الجامعات وأبناء المدرسة الإنكليزية، وفيما توافرت عليه النخبة الفنية المتعلمة من مطالعة الكتب الإنكليزية.
ويلوح لي أن الثقافة السودانية ستتجه في المستقبل - إذا ظلت متجددة أو محبة للتجديد - إلى انتحاء الثقافة المصرية والأخذ بقليل من الثقافة - الإنكليزية الخالصة؛ لأن في الثقافة المصرية الجديدة نفسها مزيجا من الثقافة الإسلامية والثقافة الإنكليزية. •••
على أن حديث الثقافة السودانية يجب أن ينبه كل متحدث عن الثقافة، إلى ذلك التطور العالمي البارز، فإن الثقافات أصبحت متداخلة، ونحن نوشك أن نرى العالم كله تغمره ثقافة واحدة؛ لأن العالم في سبيل أن يحيا حياة متماثلة، في التوافر على استعمال الآداب والطائرات وأساليب الدفاع، وصيغ المجاملات، والولائم، ولأن المواصلات قد تعددت، ولأن العارفين باللغات الأجنبية يكثرون، ولأن الكثير من المنتجات الأدبية والتاريخية وما إليها يترجم إلى اللغات الأخرى.
وهناك حقيقة أخرى - يجب أن يذكرها الذاكرون - ذلك أن في البلد الواحد - ولا سيما ما كان في اتساع الأطراف كالسودان - تتنوع الثقافات، وذلك أن الثقافة الجديدة، وإن بدا أنها وقف على قلة صغيرة، فهي التي بيدها المستقبل ولها الانتشار؛ لأن الإنسان يمل القديم، ولأن القديم نفسه يهرم ويبلى. •••
قال عطوفة الأمير شكيب أرسلان عن الشعر في السودان:
بيني وبين الشاعر «السوداني» عثمان حسن بدري في رثاء كل منا لأخيه فإنه هو يقول:
لو كان كل الناس مثلك في التقى
ما احتاج هذا الناس للتشريع
وأنا أقول في المرحوم أخي نسيب:
لو كانت الناس في الدنيا نظيرك لم
تحتج لعمري لحكام وعمال
ولا شك أن كلا منا لم يطلع على بيت الآخر؛ فإنني أنا رثيت أخي «نسيبا» سنة وفاته، أي من ثماني سنوات، ولم أنشر رثائي له بعد لأقول إن هذا الشاعر اطلع عليه فبقي في ذهنه هذا المعنى، وسينشر هذا الرثاء قريبا في ديواني الذي هو تحت الطبع بمطبعة المنار، كما أنه سينشر في ديوان أخي رحمه الله الذي هو اليوم أيضا تحت الطبع في دمشق الشام. وأما أنا فما اطلعت على هذه المرثية التي لعثمان حسن بدري إلا في عدد في محرم الجاري من جريدة «الجهاد»، ولم تكن هذه المرثية مما أورده الأستاذ عثمان هاشم في جريدة السياسة من قبل. وقد رأيت مما رأيته من العجب في نوادر الخاطرين أن أضع أمام أنظار القراء في وقت واحد رثاء السيد عثمان حسن لأخيه ورثاء كاتب هذه السطور لأخيه، فهو يقول:
هل تنطفي حرق الأسى بدموعي
وتعين صبري أو تعيد هجوعي
وهذا المعنى لا شك في أنه مطروق، ولكنني أنا منذ شهرين كنت أقول في مطلع رثائي للحاج عبد السلام بنونة فقيد المغرب رحمه الله ما يلي:
يا مدمعي اكفياني نار أحزاني
فقد عهدتكما من خير أعواني
نار تأجج في قلبي فهل لكما
أن تطفئاها بتسكاب وتهتان
ثم يقول:
هيهات مات أخي وتلك رزية
أفلت ببدر لم يعد لطلوع
هيهات مات أخي وتلك مصيبة
طاحت بكوكب معشري وربوعي
رحب الفؤاد فلا تراه معبسا
لنزول نائبة ولا بجزوع
ولهي عليه فلا أراه بمنقض
أبدا ودمعي فيه غير منوع
وأنا أقول في أخي:
إن طالما كانت الأحزان زائلة
مع الزمان فحزني غير زيال
ثم يقول:
يرنو إلي بعينه ولسانه
عقد الضنى أطرافه بنسوع
حتى أناخ اليأس حول رجائه
وتسارعت آماله لنزوع
ألقى إلي يديه في ترجافها
فمسكت كفا منه ذات صنيع
يصف احتضار أخيه رحمه الله، وكيف كان خروج نفسه الأخير. وأما أنا فلم يكن لي - واحسرتاه - أن أودع أخي ولا أن ألقي عليه النظرة الأخيرة؛ لأن المحتل لبلادي يمنعني من دخولها بجريمة أني أدافع عن استقلالها.
ثم يقول:
قد كنت درعي في المكاره كلها
فالآن بعدك قد وهين دروعي
وهذا مثل قولي:
شعرت إذ ذاك أن لا أزر ينهض بي
وأنني رازح من تحت أثقالي
ثم يقول:
لله نفسك ما أشم صفاتها
وأبر في ضنك وفي توسيع
ويلم دائك لم يراع يتيمة
أضحت تمني نفسها برجوع
ظنت مضيك كاغترابك قبل ذا
لبناء مجد أو لدفع شنيع
فتغمدتك من المهيمن رحمة
وسقت ضريحك كل ذات هموع
وأما رثائي لأخي فهو هذا:
نسيب قد كان ساري الطيف أبدى لي
رؤيا تناهى بها ذعري وإجفالي
رأيت في دارنا الأفواج أشبه بالأ
مواج ما بين إدبار وإقبال
فقمت والبال مني كاسف قلقا
مستقبلا من حياتي كل ذي بال
وما مضت ساعة إلا أذنت بها
مصيبة حققت خوفي وأوجالي
ومن قصيدة ألقاها الشيخ مدثر علي البوشي القاضي الشرعي بمناسة المولد النبوي سنة 1342ه، تليت بسرادق الحكومة بأم درمان عند زيارة الحاكم العام، وكان لها أثر شديد في النفوس وصدى بعيد حتى ترجمت يومئذ مع النثر إلى اللغة الإنكليزية، وسارت مسير الأمثال.
نأت بك عن ذات الحجال الرواسم
فقلبك مقسوم وبينك قاسم
مدامع تذريها من البين مثلما
همت من خلال المرسلات غمائم
جراح بأعماق النفوس نفرتها
وهيهات منها أن تفيد المراهم
أنين ولا كالثاكلات ومهجة
براها حنين قلدته الحمائم
عيون ولا كالمرهفات تألبت
عليها جيوش الهم والهم لازم
ترفق فما يجدي البكاء ولا أرى
من الخير ما يلقاه في الناس نائم
أرانا هجرنا الدين والدين معقل
فما خير دين لم يؤيده قائم
أرى البدعة الحمقاء أرخت سدولها
على السنة الغراء أين الصوارم
إلى أن قال:
إليك رسول الله والخطب فادح
تطل نفوس أرهقتها الأشائم
عنتها سهام المفسدين فأسبلت
بليلتك الغرا دموع سواجم
فلا تبتئس يا من تريد جواره
ستعلم بعد الغرم أنك غانم
ولي ذمة في الله لا أخفرنها
وفي شأن قومي فلتلمني اللوائم
ومالي وللأيام أخشى نزالها (وأحمد) عون للضعيف وعاصم
فلا تلهيني بالزمان وأهله
فإن فؤادي منه للغيظ كاظم (1) أسماء الشعراء
هم الأساتذة والشيوخ والأفندية :
الحسين الزهراء عالم أزهري، والأمين محمد العزيز شيخ العلماء سابقا، وإبراهيم شريف عالم، وأبو القاسم هاشم شيخ المعهد العلمي بأم درمان، وإسماعيل عبد القادر المفتي عالم أزهري، والطيب أحمد هاشم مفتي السودان سابقا، وأحمد المرضي قاض شرعي، وأحمد محمد صالح ناظر مدرسة ابتدائية، وإبراهيم محمد مدني قاض شرعي، والطيب السراح مترجم بحكومة السودان، وأحمد يوسف نعمة، والسيد الباقر الشيخ إسماعيل عالم ومدرس جامع الخرطوم سابقا، وتوفيق أحمد بالجامعة المصرية، وحسيب علي حسيب كاتب بالمحاكم الشرعية، وصالح عبد القادر موظف بالبوستة سابقا، ومدثر علي باشا قاض شرعي، وعبد الله محمد عمر البناء مدرس بالمعارف، وعبد الله عبد الرحمن، وعبد الله حسن كردي موظف بالحكومة سابقا، وعبد الرحمن شوقي مهندس، وعبد الحميد وصفي موظف سابقا، وعثمان هاشم، وعلي الشامي، وعمر الأزهري عالم أزهري، ومجذوب جلال الدين مدرس بالمعارف، ومحمد عمر البناء عالم أزهري ومفتش المحاكم سابقا، ومحمد سعيد العباسي خليفة سجادة، ومحمد الطاهر المجذوب، ومحمد حافظ الأمير موظف، ومحمد أنيس موظف، ويوسف نعمة عالم، ومحمد مضوي عالم أزهري جليل، ولد يفادي عالم، وإبراهيم عبد الدافع عالم، القاضي السلاوي عالم وقاض سابقا، وتوفيق صالح جبريل مأمور، والصاوي عبد الماجد عالم، وحسن عمران زهري مدرس بالمعارف، ومكاري يعقوب مهندس سابقا، ويوسف القاضي مدرس، وإبراهيم أبو النور عالم بمعهد أم درمان، والسيد البكري الشيخ إسماعيل صوفي. ومحمد عبد الوهاب القاضي طالب علم، محمد الأمين القرشي قاض شرعي، التجابي أفندي يوسف بشير موظف وله ديوان شعر، محمد أحمد محجوب مهندس بالأشغال، يوسف مصطفى التني موظف، محمد كوبادي مهندس.
السير برسي لورين سفير إنكلترا بأنقره والمندوب السامي البريطاني في مصر سابقا من سنة 1929-1933.
الفصل الحادي والثلاثون
الإسلام والأديان في السودان
السودان معقل من معاقل الإسلام، وقد وفد عليه العرب المسلمون من مصر، وبه قبائل عربية، تعتز بالإسلام، وقد تتعصب له تعصب المؤمن بدينه، العارف قدر غيره، المحترم للأديان الأخرى. (1) البعثات التبشيرية
وقديما وفد على السودان بعثات تبشيرية، ولها مناطق تعمل فيها، ومدراس ومستشفيات تنشئها.
تاتوج أو دوليب حيث توجد البعثة التبشيرية البروتستانتية الأمريكية على السوباط. (1-1) لوائح بعثات التبشير المسيحية في السودان سنة 1933
وضعت الحكومة لوائح لهذه البعثات، وهي تعمل في بلاد الزنوج وهي في الجنوب، ولا يجوز لها العمل في البلاد التي يسكنها مسلمون وتنال إعانات من الحكومة. ولا يجوز للمسلمين نشر دينهم في هذه المناطق. (1-2) البعثات - مناطق البعثات
لا يجوز إنشاء مراكز للتبشير في أي جهة من خط العرض الشمالي في أي نقطة من السودان مما تعده الحكومة مسلما في جنوبي الخط العاشر من مناطق خط العرض الشمالي. وتمنح مناطق للعمل كما يلي:
مركز البعثة التبشيرية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
جمعيات التبشير البريطانية: حدودها: غربا من غابات العرب على بحر الغزال إلى بحر الغزال حتى جهة مشرع الرق، ثم مباشرة إلى اتصال حدود الكونغو البلجيكية وأفريقيا الفرنسية الاستوائية والسودان. وشمالا من غابات العرب «وإنكاني» إلى بحر الغزال والنيل الأبيض بين بحر الزراف وبحر الجبل، وجنوبا إلى أجونج. وغربا حتى حدود الحبشة. وجنوبا من حدود الحبشة إلى النيل الأبيض.
منطقة البعثة الكاثوليكية: غربي منطقة البعثة البريطانية.
البعثة الأمريكية: في وادي السوباط وعلى حدود منطقة البعثة البريطانية.
منطقة خالية: بين منجلا وشمال أوغندا الجنوبية وغربي الحبشة.
مناطق بعثة السودان المتحدة: في بعض جهات كردفان مع استثناء البلاد الإسلامية.
ويجب على كل بعثة أن تكون تحت رقابة الرئيس الإداري، وأن يخضع أعضاؤها لقوانين السودان ولوائحه، وأن تحصل على تصريح من الحاكم العام للسودان للقيام بمهمتها، ولتأجير الأراضي.
الفصل الثاني والثلاثون
الحياة الاجتماعية والصحافة والعادات
(1) الأغاني السودانية
للأغاني السودانية نغمة غريبة بالنسبة لأذواق أهل مصر. ولكنها نغمة محبوبة ومعانيها خير من معاني الأغاني المصرية الخليعة الماجنة. وإليك مثال من الأغاني السودانية المتأثرة بالسليقة العربية.
1
ويعد الحاج محمد أحمد سرور مطرب السودان الأول. وهو الآن بمصر يتلقى مع بعض زملائه دروسا في الموسيقى بمعهد الموسيقى الشرقي وأقام حفلات.
ومن الأغاني السودانية:
شوف محاسن حسن الطبيعة
تلقى هيبة وروعة وجلال
صاح شاهد ها هي الطبيعة
زاهية زاهرة بزهور ربيعة
دور سواقي يسرف نبيعه
ما في شتله السايم يبيعه
ما في صيده انقادت تبيعه
ذوق محاسن حسن الطبيعة
لا تصنع وصبغة دلال
شوف نواحي الوادي الخديرة
والحمايم يشجيك هديره
تلقى بدري التم في غديره
هي المحاسن وأنا قلبي ديره
صاح املأ عيناك وديره
شاهد إيد الصانع القديرة
تملأ بهجة وعظمة وجلال
فوق هضاب الوادي الوثيرة
الزهور منظومة ونثيرة
عن جمال البدو نروي سيره
عن محاسن البادية الكثيرة
والجداول في حال مسيره
في جبين التل زي مسيره
والغدائر حول الهلال
شوف هداك الصيدلج شارف
يرعى ناله الحول المسارف
اوع من الخور سيله جارف
ميل شمالك وابري المصارف
عج على السيال ظله وارف
داني بنت البدو وانت عارف
بل شفاي من دائي العضال
أهوى يا أخي السكنت براحه
في هدؤها وعيشة انشراحه
في غدوها وساحة مراحه
يهوى فيها الحيا والصراحة
ما يتجول بكرب
2
خاضه راحة
يا أخي بهوى جاره مراحه
في ربوعه الخلف التلال
شوف جمال البدو ما مضارا
شوف دي صفراء انفضحت نضارا
هاديه ناديه الفائق حضارا
دون تجندر
3
ولهجة حضارا
شوف طبيعة البها والنضارا
شيء يعيد الروح في احتضارا
الخضار والماء والجمال
دون فصاده سواك إلهك
والأبار ما لمست شفاهك
بي فظاظه ما فاه فاهك
فطره أدبك وطبعه انتباهك (2) الصحافة في السودان (1)
أول جريدة أنشئت هي جريدة الغازيتة السودانية «الجريدة الرسمية»، ونشرت في أول أعدادها نص اتفاق 1899. وكانت الغازيتة العسكرية للجيش المصري تطبع في الخرطوم عند وجود الجيش والسردار بها. (2)
بعدها أنشئت جريدة «السودان»، وكانت تصدر مرتين في الأسبوع، وأصحاب امتيازها هم الدكاترة أصحاب المقطم، والذي تولى شؤونها إدارة وتحريرا هو حضرة صاحب العزة الأستاذ خليل بك ثابت رئيس تحرير المقطم الآن، وقد انتهى عهدها سنة 1925. وكانت لها إعانة من الحكومة. (3)
مجلة «غرفة التجارة السودانية»، وهي مجلة اقتصادية، ولا تزال قائمة إلى الآن. (4)
جريدة «الخرطوم» ولدت في سنة 1909 لصاحبها المرحوم أسعد يسي المساح الذي كان قد وصل الخرطوم مكاتبا لجريدة «الظاهر» لصاحبها المرحوم محمد أبو شادي بك. (5) «كشكول المساح»، وقد قام على أنقاض جريدة «الخرطوم» لصاحبه المرحوم أسعد يسي المساح المنوه عنه آنفا. وكان دينيا مسيحيا. (6)
جريدة «رائد السودان»، وأصحاب امتيازها هم أصحاب مطبعة فيكتوريا من رجال الجالية اليونانية، وقد تولى تحريرها الأستاذ عبد الرحيم قليلات السوري البيروتي الذي كان موظفا بمصلحة البواخر بحكومة السودان إلى سنة 1915. وكان يشترك في تحريرها طائفة من كبار الكتاب والأدباء أذكر منهم حضرات الأستاذ محمد توفيق، وهو الموظف بوزارة الخارجية الآن، والأستاذ محمد توفيق بدري الذي كان موظفا بمصلحة المراجع العام بالخرطوم، ويقيم الآن في السودان بعد أن تقاعد بالمعاش، والأستاذ حامد عوضين سعفان الموظف بالمالية المصرية الآن وصاحب الأبحاث الممتعة عن السودان وغيرهم من حملة الأقلام الوطنيين والمصريين. ولما اعتزل رئيس تحريرها خدمة حكومة السودان في سنة 1915 أسندت رياسة تحريرها إلى الأستاذ المرحوم «السيد حسين شريف» المتخرج من كلية غوردون، فتولاها إلى سنة 1919، حيث توفيت تلك الصحيفة إلى رحمة مولاها. (7) «حضارة السودان» (1): أخذ امتياز إحداها جماعة ساهموا في رأس مالها، وفي طليعتهم السر السيد عبد الرحمن المهدي، وهم الشيخ عثمان صالح التاجر المشهور بأم درمان، والشيخ محمد عكاشة خليل خيال، والشيخ عبد الرحمن جميل التاجر بكوستى، والشيخ محمد أحمد نقد التاجر بأم درمان، والشيخ حسن أبو الفاجر بالأبيض، والمرحوم السيد حسين شريف الذي تولى تحريرها، وقد شاركه في تحريرها فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي، ولم تكد تسلخ عامها الأول حتى لحقت بالخالدات سنة 1919. (8) «حضارة السودان» (2): قامت على أنقاض الحضارة الأولى وأصحاب امتيازها السادة علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي، والشريف يوسف الهندي. وقد تولى تحريرها المرحوم السيد حسين شريف، وفي مدة مرضه كان ينوب عنه «الأستاذ عبد الرحمن أحمد»، فلما لحق بربه اختير لتحريرها «الأستاذ أحمد عثمان القاضي» رئيس تحريرها من إبريل سنة 1929، وهي تصدر مرتين في الأسبوع، ولا تزال قائمة، وتنال إعانة من الحكومة وتنشر إعلاناتها. (9)
الجريدة التجارية، وكانت تعنى بالمباحث الزراعية والصناعية، صاحب امتيازها ومحررها هو سليمان أفندي داود منديل صاحب مطبعة منديل وناشر جريدة «حضارة السودان» الآن، قامت حوالي سنة 1926، واستمرت إلى سنة 1931، ثم تحولت إلى جريدة «ملتقى النهرين»، وأصبحت سياسية أدبية أيضا. (10)
جريدة ملتقى النهرين، وسارت تحت هذا الاسم إلى أن اندمجت في سنة 1934 من أول شهر مايو في جريدة حضارة السودان التي لا تزال محتفظة بهيئتها من امتياز وتحرير. (11)
مجلة النهضة السودانية، صاحب امتيازها ورئيس تحريرها هو المرحوم محمد أفندي عباس أبو الريش أحد خريجي كلية غوردون، وقد ماتت هذه المجلة بوفاته في سنة 1933. (12)
مجلة مرآة السودان لصاحبها ومحررها الشيخ سليمان أحمد كشة أحد خريجي المدارس الابتدائية، وقد اختفت منذ أواخر سنة 1934 ولم تعد للظهور. (13)
مجلة الكشافة، وهي مجلة دورية تعنى بأعمال الكشافة خاصة، ولا تزال قائمة. (14)
مجلة كلية غوردون، وهي مجلة خاصة بالطلبة ومباحث جمعياتهم المختلفة التي تأسست بدار الكلية مؤخرا لتنمية مداركهم ودفعهم في نواحي الإنتاج الذهني المختلفة، وهي خطوة من دار الكلية حمدنا عقبة نتائجها كثيرا، ولا تزال بحمد الله قائمة. (15)
مجلة «الفجر»، وهي مجلة أدبية أنشئت في سنة 1934، وصاحب امتيازها ورئيس تحريرها هو «الأستاذ عرفات محمد عبد الله»، وهي نصف شهرية، ولا تزال قائمة. وهي تعد لسان حال أدباء السودان الشبان. (16) «السودان» أخذ امتيازها في سنة 1934 الشيخان الأستاذ «عبد الرحمن أحمد» وتولى تحريرها، و«محمد السيد السواكني» وتولى إدارتها، ولا تزال قائمة، وكانت أسبوعية، وتصدر الآن مرتين في الأسبوع. (17) «جريدة النيل» أول جريدة يومية عربية مصورة بالسودان ألفتها شركة مساهمة اسمها «شركة الطباعة والنشر المساهمة - بالسودان»، رأس مالها خمسة آلاف جنيه، برياسة الوجيه السيد مصطفى أبو العلا التاجر المشهور، ومن المشاركين فيها الحسيب النسيب السير السيد عبد الرحمن المهدي، ومسيو كونتوميخلوس في أربع صفحات، مديرها الصحفي المصري حضرة الأستاذ حسن صبحي، ومحررها فضيلة الشيخ الحاج الأمين عبد القادر. العدد الأول منها صدر في أول أغسطس سنة 1935. وللجريدة عدد أسبوعي أدبي علمي خاص. (18)
وعدا هذه الجرائد العربية يوجد في الخرطوم جريدة يومية وصحيفة أسبوعية من 8 صحائف إنكليزية اسمها «سودان هرالد»، ويحررها جناب «المستر كوكس»، وهو كاتب إنكليزي مهذب حلو الدعابة، وهو وكيل روتر بالخرطوم.
وهناك أيضا ثلاث جرائد يونانية أسبوعية. (2-1) الطباعة في السودان
أول عهد السودان بالمطابع في عصر الحكومة المصرية السابقة بعد فتح محمد علي بقليل، فإنها أنشأت بالخرطوم فرعا من المطبعة الأميرية من نوع الحجر، ومعملا لصنع الورق، وعهدت بنظارتها إلى المرحوم إبراهيم أفندي أحمد وأعوانه، وكلهم جاءوا من مصر. وقد توفي هذا الناظر بالخرطوم وخلفه ابنه حسن بك المطبعجي، حتى مات قتيلا يوم سقوط الخرطوم سنة 1885، وقد استغنت الحكومة السودانية المصرية بهذه المطبعة ومعمل الورق عن جلب لوازمها من مصر، علاوة على طبع أوراق التمغة التي تعود على الخزانة بإيراد يذكر لتوقف سائر المعاملات المدنية والتجارية على أن تحرر على أوراق التمغة كما تقضي به لوائح الحكومة.
ومن المعلوم أن هذه المطبعة لم تطبع غير مطبوعات الحكومة. وفي أثناء حصار الخرطوم من مارس سنة 1884 إلى يناير سنة 1885 كان غردون باشا يوزع نشرات مذيلة بتوقيعه عن حوادث الحروب التي تدور رحاها بين القوات المدافعة عن المدينة وبين الأعداء وأخبار النجدات الزاحفة نجدة للخرطوم.
ولما سقطت الخرطوم استولى المهديون على هذه المطبعة، ونقلوها إلى أم درمان، واستعملوها في طبع «راتب المهدي» المحتم قراءته صباحا ومساء. وقد جمعت منشورات المهدي من أولها إلى آخرها وطبعت في مجلدين كبيرين، وكذا طبعت منشورات خليفته.
ولما استرجع السودان في سنة 1898 أسست مطبعة السودان لأصحاب المقطم بعد قليل لطبع جريدة السودان ومطبوعات الحكومة، ثم أنشأ الخواجات ساوولي وخرثانثو مطبعة فيكتوريا في سنة 1908، وقد آلت إلى مسيو كونتو مخالوس في سنة 1916، ثم آلت إلى شركة ماكوركوديل سنة 1925.
وقد أنشئت مطبعة لطبع جريدة حضارة السودان، ولم يطل عمرها أكثر من ثلاثة أعوام. وأنشئت بعدها مطبعة شركة ماكوركوديل في سنة 1924، فانضمت إليها بالشراء مطبعتا السودان والحضارة، وانتدبت مطبعة ماكوركوديل لإدارة قسمها التجاري حضرة الأستاذ سليمان أفندي داوود منديل.
4
فاضطلع بهذه المهمة زهاء عامين حتى أدرك حاجة البلاد إلى مطبعة وطنية تقوم لمعونة النهضة الأدبية للبلاد؛ فأنشأ مطبعته في سنة 1926، كان لها الشأن الأول من حيث الإتقان والاستيفاء، لم يسبقه فرد على الاضطلاع بمثل هذه؛ فقد طبعت العدد الكثير من المؤلفات الوطنية والمطبوعات القيمة، وإليها يرجع الفضل في نهضة الصحافة الوطنية، وما تزال مطبعة منديل قائمة بمجهود صاحبها الفرد الذي لم يشاركه في مجهوداته أحد، وقد عني بتعليم عدد وفير من الوطنيين؛ إذ أحضر لهم معلمين مهرة من مصر لمختلف فروع المطبعة من صف وطبع وتجليد. وقد تخرج منها ما يربو على 85 شخصا يمتهنون هذه المهنة. وأنشأت شركة جريدة النيل مطبعة خاصة لطبع جريدتها ومطبوعاتها، وبها قسم للتصوير والزنكوغراف. (3) عادات المواطنين السودانيين
لمواطنينا السودانيين الكرام عادات كثيرة، أملى أكثرها حياة الفطرة والحياة الإسلامية الدينية، والظروف المحلية في السودان، والاختلاط بالزنوج وبالمصريين وبالإنكليز والوافدين، والتعليم.
ولاتساع ربوع السودان، تختلف العادات في مديرية عن الأخرى، ففي الشمال العادات أقرب إلى مصر، ولا سيما صعيدها إن لم تكن متوافقة معها، وفي الجنوب ترى عادات الزنوج.
ولا شك أن السودان في تطور منذ فتح محمد علي - وهو ما يسمونه الفتح الأول، أو ما يسميه السودانيون العامة «الحكومة التركية القديمة».
وقد أثرت العادات الإنكليزية في المجتمع السوداني الراقي، فانتشر الهندام الإنكليزي وعادات حفلات الشاي والرياضة والنظام والأندية واللغة الإنكليزية.
ويحتفظ السودانيون إجمالا بفضائل العرب والإسلام من شجاعة وكرم ووفاء والاعتزاز بالكرامة.
وقد وجدنا بين الشبيبة السودانية ميلا ظاهرا إلى ترك الانتماء إلى عصبيات القبائل، والاعتزاز بالنسبة إلى السودان فقط، وقد أسفنا إذ رأينا بعضهم لا يزال ينظر إلى السودان بأنه السودان العربي، ويستنكر تصوير السودان على أن به زنوجا.
ونحن نرى على العكس أن الزنوج لا ذنب لهم في بساطة حياتهم وسذاجتهم وكونهم لا دينيين، وأنهم حين يشهدون مسلما يصلي أو يحتفل بعرس أو بمولد، أو يذكر الله حاكوه، وسرعان ما اعتزوا بالإسلام. كما أنهم أبلوا بلاء مشهورا في الجيش المصري، في حرب المكسيك، وفي حروب محمد علي ومن بعده. •••
ولا ضير في نقلنا بعض العادات ونشرها في هذا الكتاب نقلا عن المراجع والمؤلفات والمشاهدات. فلكل أمة - مهما رقت - عاداتها وأخلاقها. والعادات أبدا في تطور وتغيير وتنقيح. وهذا ظاهر في السودان ظهورا بينا. •••
جاء في كتاب «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان»:
ومن عادة ملوك الفور تجليد النحاس، وهي عادة لا توجد في غير دارفور، وتجليد النحاس هو تغير جلود الطبول المسماة في إقليم مصر بالنقاقير، وهذا التجليد يعظمونه ويجعلون له موسما في السنة، ومدته سبعة أيام ، وكيفية ذلك أن السلطان يأمر بنزع جلود الطبول كلها في يوم واحد فتنزع، ثم يؤتى بأثوار خضر اللون فيذبحونها ويأخذون من جلودها ويجلدون بها تلك الطبول. لكن أهل دارفور يقولون في ذلك كلاما لا يقبله عقل العاقل ممارس الكتب، ولكنهم مطبقون على ذلك، فإنهم يزعمون أن هذه الأثوار من نوع بقر معروف عندهم، وأنها حين الذبح تنام وحدها بدون أن يمسكها أحد، ولا يذكرون اسم الله عند ذبحها، ويقولون إن الجن هو الذي يمسكها وينيمها، ثم يأخذون لحومها ويجعل في خواب، ويترك ستة أيام مع الملح، وفي اليوم السابع يأتون ببقر كثيرة وأغنام وتذبح كلها ويطبخون لحومها، وفي حال الطبخ يأخذون اللحم الذي في الخوابي ويقطعونه قطعا صغيرة، ويجعلون في كل قدر منه قطعا تخلط باللحم الجديد، ثم تفرق الموائد للملوك وأولاد الملوك والوزراء على حسب طبقاتهم، ويقف على كل مائدة منها حارس من طرف السلطان ينظر من يأكل ومن لم يأكل، فإذا أخبر السلطان بأن فلانا لم يأكل أمر بالقبض عليه في الحال؛ لأنهم يقولون: إن من كان في قلبه خيانة للسلطان أو غدر لا يمكن أن يأكل من هذا اللحم. وإن تعلل أحد بأنه مريض أو لا يقدر على حضور أرسلت إليه أوان منه مع حارس أمين ينظر هل يأكل أو لا؛ فإن أبى يقبض عليه إلا إذا كان معذورا بقوة مرضه. ا.ه.
يدهن بعض عامة السودانيين رؤوسهم وآذانهم بالشحم والسيرج لتخفيف الحر. ويتطيبون بالروائح العطرية كالمسك والصندل والقرنفل.
الدلكة: عجين الذرة مخلوط بماء، ثم يجمد فوق النار، ثم يضعونه في قدر تحتها نار.
والعجين مؤلف من دقيق القرنفل والسحلب وخشب الصندل والظفر واللبان والمسك. ويدلكون به الأجسام. والدلكة مفيدة صحيا، ترطب الجسم وتخفف حرارته.
التدخين: نار في حفرة بها خشب طيب الرائحة، وتسد نوافذ الغرفة، وتجلس المرأة عارية على حافة الحفرة ورجلاها على عود فوق الحفرة، حتى تنطفئ النار، ويتحلب العرق، وتلبس شملة، وتدلكها جارية، وتفتح النوافذ تدريجيا.
التشليخ: تشليخ الوجوه بثلاثة خطوط للزينة - بين الحعليين والشايقية. (3-1) عادات الزواج
يتزوج السودانيون غالبا بمجرد البلوغ أو بعد البلوغ بقليل. وكان المهر غاليا. فجهد حاكمدارو السودان بعد فتح محمد علي وجاهد المهدي بتخفيضه. فجعله المهدي جنيهين للبكر وجنيها للثيب. ويؤثر السودانيون الزواج من ذوات الأنساب والأحساب على ذوات المال.
وللمرأة السودانية في الأسر المحترمة خدم. ولا تأكل مع زوجها أو بحضوره مطلقا.
الترويج للزواج في السودان
جاء في جريدة حضارة السودان سنة 1934 ما يلي:
رأى حضرة صاحب السيادة الحسيب النسيب السر السيد عبد الرحمن المهدي منذ أكثر من سنة أن أزمة الزواج قد استحكمت بدرجة مخيفة من مغالاة الآباء في مهور بناتهم ومن الأزمة المالية، حتى يكاد يقف الزواج وتقضي الأزمة على الفتيات بالبوار؛ فهدته بصيرته النيرة وحكمته العالية إلى أن يشرع لأهل السودان سنة حسنة بتخفيض المهور إلى قسمين: الحد الشرعي الأدنى وهو ربع الدينار والحد الاختياري الأعلى وهو ثلاثة جنيهات، ونفذ ما سنه أولا على أهله وعشيرته ومريديه الكثيرين في ليلة 27 رجب سنة 1352، وهو الحفل الأول، ثم أذاع نداءه في الشعب السوداني للاقتداء به والعمل بسنته؛ فأجاب نداءه الكثيرون، وزوجوا بناتهم بالمهور القليلة، وتردد آخرون من الذين يتمسكون بالعادات القديمة الضارة.
ولما دار الفلك، وأتى يوم 27 رجب سنة 1353 دعا سيادته كثيرين من الموظفين والأعيان إلى حضور حفل التزويج الثاني، وكنت ضمن المدعوين، وقد كان سروري عظيما حقا لحضور هذا الحفل، ومالي لا أفرح وقد جاهدت في سبيل هذه الأزمة وما زلت أجاهد وأنشر في هذه الجريدة كل ما يمحو العادات العتيقة التي تئن منها!! وقصارى القول أني قصدت إلى دار حضرة صاحب السيادة الحسيب النسيب السر السيد عبد الرحمن المهدي بحيى ود نوباوي بأم درمان في الميعاد المضروب، فوجدت سرادقا عظيما منصوبا في حظيرة داره الواسعة وقد امتلأت بالألوف من الناس، وبقي ألوف خارجه، ورجال السيد يقابلون المدعوين بالترحيب، ويقدمون لهم المشروبات. وما كدت آخذ مجلسي حتى شرف السيد الزعيم الكبير يصحبه حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكرم محمد نعمان الجارم قاضي قضاة السودان وجناب مفتش أم درمان، وبعد أن جلسوا ألقى حضرة السيد محمد الخليفة شريف خطبة وبيانا بإحصائية الزواج بالمهور القليلة في بحر السنة الماضية، وهي منشورة فيما يلي. ثم عقبه آخر وأنشد قصيدة، وفي أثناء ذلك تولى سيادته عقد الزواج بنفسه وعقبه حضرة صاحب الفضيلة قاضي قضاة السودان في عقد زواج واحد، ثم عاد سيادته إلى تولي العقد في حين أن حضرة صاحب السيادة السيد علي المهدي يتولى عقد زواج الآخرين في ناحية أخرى، وبعد برهة ترك السيد أخاه السيد علي المهدي يتولى عقد الزواج ودخل في داره من ناحيتها الغربية ومع سيادته حضرة صاحب الفضيلة قاضي قضاة السودان، وجناب مفتش أم درمان، وبعض كبار الموظفين والأعيان. وهناك مدت إليهم المرطبات والشاي والكعك والبسكويت، وعند دخول المغرب غادره جناب مفتش أم درمان. وقام المدعوون يؤدون فريضة المغرب، وبعدما فرغوا منها عادوا إلى مكانهم الأول، وأخذوا يتحدثون في إكبار عمل السيد الاجتماعي المفيد للبلد، وقد غادرت دار السيد في نحو الساعة السابعة مساء والسرور يطفح من قلبي مما رأيت من هذا الإصلاح الاجتماعي الذي قام به السر السيد عبد الرحمن المهدي الزعيم الكبير بعد أن عجز عنه المصلحون في الشعوب الشرقية.
ونحن حين نصف هذا الحفل الكبير لا نريد أن نطري السيد فهو غني بعمله المجيد عن الإطراء. إنما الذي نريده هو ألا يقدر السودانيون عمله حق قدره، وأن يعملوا به ويتخذوه دستورا للزواج بين الأمير والحقير، والصغير والكبير في أنحاء السودان؛ صونا للعروض وحرصا على الفضيلة، ولينظروا إلى سيادته كيف زوج أهله بالمهور القليلة ليقتدوا به لا لقلة ماله، أثابه الله أجر سنته الحسنة وأجر من عمل بها.
وقد علمت أن عقود الزواج بلغت 106 عقود في مساء الاثنين الماضي 27 رجب سنة 1353.
خطبة السيد محمد الخليفة شريف
باسمك اللهم افتح هذا الحفل الميمون، وبالنيابة عن إمامنا المفدى الزعيم الأوحد سيادة السير السيد عبد الرحمن المهدي أتقدم إلى حضراتكم بواجب الشكر على تشريفكم لهذا الحفل الذي أنتم واسطة عقده، وخصوصا رجال حكومتنا العظام الذين دل تشريفهم لهذا الاجتماع السنوي على اهتمامهم بشؤون الشعب الاجتماعية وتقديرهم لمصلحته التقدير الذي من شأنه أن يربط الحاكم بالمحكوم رباطا وثيقا.
إن سيادة السيد حفظه الله ما فتئ يعمل لمصلحة هذا البلد الأمين عملا متواصلا كلما دعا إليه داع عمومي، وكلما رأى الفرصة سانحة للقيام بعمل خصوصي يسره أن يعلن اغتباطه بالنتيجة الثمينة التي وصل إليها مشروع تخفيض المهور؛ فإنه في مثل هذا اليوم من السنة المنصرمة وجه نداء إلى الشعب يحثه فيه للعمل على تخفيض المهور وربط الشباب برباط الدين الحنيف؛ حتى لا تثور عليهم الطبيعة البشرية فيخرجوا على تعاليمه العظيمة، وكانت النتيجة كالآتي:
518
من جبل أولياء إلى الكوة نظارة الشيخ عبد القادر إدريس هباني
104
مديرية بربر
380
مديرية الفونج
164
مديرية النيل الأزرق
360
أم درمان
120
كوستي وضواحيها
60
القضارف
36
مديرية كسلا
460
جزيرة أبا
750
مديرية كردفان
إن نظرة عادية إلى مثل هذه الأرقام تدلك دلالة واضحة على نجاح المشروع وانصياع البلاد من أقصاها إلى أقصاها لتلبية نداء السيد والسير على تعاليمه الحكيمة؛ إجابة لأوامر الشرع الشريف، وحبا أكيدا لإخلاصه في عمران بلادهم.
سادتي: قبل أن أترك موقفي هذا أريد أن أختم كلمتي بتكرير شكري الجزيل لسيادة السيد ولرجال حكومتنا العظام في تشجيعهم لهذا العمل الجليل، ولكل من لبوا هذا النداء وعملوا على أساسه. ا.ه.
عادات الزواج عند الشلك
تسكن قبائل الشلك منطقة السدود في أعالي النيل. ولا تتزوج الفتاة عندهم قبل بلوغ سن الخامسة عشرة سنة. وللرجل أن يشتري من النساء كما يشاء، فهذا الشراء دليل الغنى والثروة والحاجة. وعندما يريد الشاب الزواج من فتاة فإنه يشبكها بالماعز والحراب وغيرها. ثم تحضر الفتاة أمام ناظر القبيلة وتعترف بكل مبدأ حبها. وهؤلاء المحبون يجلبون، ويدفع كل منهم غرامة من الماشية للعريس، وتقدم ترضية للعريس.
عادات الأفراح
للسودانيين في أفراحهم عادات، منها أن تظل الزوجة في بيت أهلها معه ردحا من الزمن، وأن لا تقترب معه، ولهذا يضطر بعض الأزواج إلى زواج غير واحدة، والزوجة تأتمر بأمر أمها مكثرة الدلال على زوجها هاربة منه من غرفة إلى غرفة، ومن مكان إلى مكان، حياء وخجلا. (3-2) في المآتم
أما عاداتهم في مآتمهم فكثيرة: منها أن المعزي إذا زار المعزى قابله الأخير برفع يده فيقرآن الفاتحة للميت داعيين له.
ومنها أن تتوارى الزوجة التي مات زوجها عن الناس حتى تنقضي العدة. ومنها أن تقدم القهوة مضافا إليها شيء من السكر. كما تقدم الأطعمة للمعزين، ومنها أن تطول مدة التعزية، فربما ظلت الخيام المنصوبة للتعزية شهرا كاملا، وعلى قصر المدة وطولها تقاس درجة الميت رفعة وضعة، ومن العادات الآخذة في الزوال، النقر على آلات نحاسية عند وفاة أحد نقرا مزعجا، والسودانيون مع هذا ذوو إيمان ورضى يرحبون بقضاء الله ويطمئنون إلى قضائه. •••
ويوضع المتوفى في عنكريب.
5
وفي البيوت المحترمة يمنع البكاء على الميت. ولا يغير النساء ملابسهن. بل يبقين سبعة أيام بملابسهن التي كن يلبسنها عند وفاة الميت، ثم يبدأن في تغييرها.
وفي أثناء الأيام السبعة يقوم أهل الميت بنحر الذبائح وإطعام المعزين والفقراء. (3-3) الخرافات والأوهام
ويعتقد جمهور في السودان - كما في مصر - بالسحر والعفاريت والجن والمندل والزار والودع والأحجبة.
ويقال: إن الزار نقل إلى السودان من مصر - فانتشر في سواكن وبربر والخرطوم.
لون السودانيين أسود أو يميل إلى السواد. ومساكن الفقراء في أكواخ مستديرة هرمية كالرؤوس جنوبا ومربعة مسطحة السقوف شمالا. (3-4) المرأة السودانية
المرأة السودانية العربية - محترمة جدا عند الزوج تدخل في الغرفة عقب الزواج تمتد على العنجريب أربعين يوما لا تتكلم مع زوجها بعد الدخول، وربما لعدة شهور تخدم «بضم التاء» ولا تخدم، والغنية لا تنتقل من العنجريب ومن غرفتها حتى تلد الولد الأول.
ولها نفوذ ورأي - والطلاق نادر بين العائلات الكبيرة، والزواج ببنت العم مشهور - والمقصود من الزواج النسل.
وتتعلم المرأة في الخلوات، وهي توجد في كل قرية، حيث يوجد شيخ الخلوة ويعطي لهن دروسا في حفظ القرآن ومبادئ القراءة والكتابة. وفي أكثر مساجد السودان يخصص الجزء الخلفي من صحن الجامع للنساء المصليات. وهن يؤدين الفرائض خلف المصلين وبينهن وبينهم حاجز خشبي.
وفضيلة الشيخ بابكر بدري مفتش المعارف سابقا هو أول من أرسل بناته في مدرسة البنات التابعة لمصلحة المعارف التي تعلم البنات مجانا ليكن معلمات وتخرج معلمات لمدارس الخرطوم، وأم درمان، وواد مدني، والعطبرة.
تشتد رغبة أهل السودان اليوم لتعليم فتياتهن، وقد قرأنا في أحد أعداد جريدة حضارة السودان في شهر أغسطس سنة 1935 شكوى من قلة مدارس البنات. وقد كان يتبع انتشار تعليم الصبيان، رغبة في تعليم البنات.
والفتاة السودانية على جانب كبير من الذكاء والاستعداد للأخذ بأسباب التعليم الراقي والمدنية لو أتيحت لها الفرصة. ولكن الفرصة غير متاحة لها. ولذلك رسفت في قيود معينة.
وكان من نتائج كثرة المتعلمين تعلما عصريا وأوروبيا أن ظهرت عند نفر قليل من الشبان نزعة إلى الحث على سفور المرأة السودانية ومسايرة النهضة النسوية المصرية والشرقية، ولكن جرائد السودان، ومنها مجلة الفجر وجريدة حضارة السودان، قد سلقت الداعين إلى السفور ومحاكاة المرأة المصرية بألسنة حداد، وقد احتجوا بآداب الدين الإسلامي والفضائل والأخلاق، التي ترى في اختلاط المرأة بالرجل عواقب غير حميدة وفسادا، وقى الله السودان من شره.
على أن حجاب المرأة السودانية يشبه حجاب المرأة المصرية في انحصاره في المدن وبين الأسر الكبيرة والعصبيات المعروفة. أما الطبقة الصغيرة، فقد رأينا نساءها وفتياتها في الأسواق والحقول وورش تنظيف الصمغ. ومن السودانيين من ينكر أن هؤلاء من صميم أهل السودان، ويقول: إنهن ينتمين إلى الفلاتة والهوسة وبرنو ومهاجري واداي والحبشة. ولكنني سألت بعض هؤلاء كما سألهن الدكتور محجوب وبعض زملائي في البعثة، فكان بعضهن يتكلم العربية الواضحة، وله مسحة تخالف مسحة القبائل المهاجرة، وكن ينسبن أنفسهن إلى قبائل سودانية عربية.
وأعتقد أن هذا الموضوع في حاجة إلى بحث خاص، لا يتسع له هذا الكتاب.
المرأة الجميلة
المرأة الجميلة: في السودان هي من كانت ربعة القوام، طويلة الشعر وغزيرته، واسعة الجبين، زجاء الحاجبين، دعجاء العينين.
وقد تقدم أنه كانت تصاحب الأورط السودانية فرق من النساء، وكن يقمن بتقديم الغذاء ويعاون الرجال ويشجعنهم في الحرب ويفخرن ببطولتهم وينقمن على الجبناء منهم. (3-5) ملجأ القرش
منذ أربع سنوات دعا السيد ميرغني حمزة إلى التبرع لملجأ القرش. وقد بلغت التبرعات حوالي ألفي جنيه، وقد وافقت الحكومة على تخصيص المباني المواجهة للمدرسة الأهلية من الجنوب التي كانت تشغلها الطوبجية المصرية سابقا للملجأ بإيجار اسمي قدره: جنيه مصري لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد. وقد قبل البكباشي محمد نور وكيل مفتش أم درمان سابقا رياسة اللجنة التنفيذية.
وقررت اللجنة التنفيذية إنشاء ملجأ يحتوي على صناعات يتعلمها اليتامى والفقراء. (3-6) جمعية منع المسكرات
تألفت لجنة مندوبة من أفاضل سكان الخرطوم وأم درمان للبحث في المسكرات بقصد التقليل منها إذا استحال منعها - وقد أطلق محرر الفجر الغراء على هذه الجماعة اسم «جمعية منع المسكرات» - من قسمين قسم لا يؤمن بالخمر ولا بفائدتها، ويرى وجوب محاربتها، فأخذوا على عاتقهم الوعظ ضد الخمر والإرشاد لتركها، فهذا القسم يسمى بحق (قسم الوعظ والإرشاد)، وقد اتصل بنا أن صاحب الفضيلة مفتي السودان يحمل لواء هذا القسم من الجمعية، يعضده جماعة من خيرة علمائنا الأفاضل، وهم يسعون لتحقيق غرضهم بالدعاية المنحصرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ورأى القسم الثاني من الجمعية أننا نغالط الحقائق إذا دعونا لمنع الخمر؛ فهي موجودة يتعاطاها البعض رغم تحريمها دينيا وقانونيا، فمن العقل ومن الشجاعة أن نسلم بوجودها أولا ثم نسعى لمنعها أو التقليل من ضررها صحيا وماليا واجتماعيا، وطريقة هذا المنع أو التقليل عند هذا القسم تكون بطريق الوعظ والإرشاد وإلقاء المحاضرات التي تبين مضار السكر والإدمان في شرب الخمر.
قال الأستاذ مرغني في جريدة حضارة السودان بتاريخ 14 ربيع الأول:
تحرم الحكومة تعاطي المشروبات الروحية على الوطنيين مع استثناء طائفة المآمير والضباط، وقد صرحت - أيضا - بتعاطيها في بعض نوادي الموظفين مثل نادي الدامر ومدني ، كما سمحت بها لكل أجنبي يسكن السودان من مصري وسوري وإيطالي ويوناني وغيرهم. وقد صرحت بيع هذه الخمور للأجانب الذين يحصلون على رخصة نظير دفع ما بين 25 جنيها و75 جنيها في السنة حسب أهمية المركز الذي يفتح فيه المحل.
يستورد السودان في كل عام من المشروبات الروحية ما تقرب قيمته من الخمسين ألف جنيه؛ فإذا قدرنا أن بالسودان عشرة آلاف من الأجانب والوطنيين الذين يبيح لهم القانون شرب الخمر تجد أن متوسط ما يصرفه الواحد خمسة جنيهات في السنة، وهذه نسبة بسيطة إذا عرف القارئ أنها تساوي قيمة عشر زجاجات من الوسكي، ولكننا نعترف بأن جزءا من الخمرة المستوردة يتسرب إلى أفواه أفراد لا يجوز لهم القانون شربها. ومهما تساهلنا في التقدير فلا يتجاوز قيمة هذا الجزء عشرة في المائة من مجموع قيمة الوارد، وحينئذ يكون عندنا ألف شخص من سكان السودان يتعاطون المشروبات الروحية رغم التحريم. وهذا عدد - حتى إذا ضاعفناه - بسيط جدا لا يذكر إذا قارناه بعدد الذين يستطيعون شربها ويمتنعون لأسباب أهمها رقابة البوليس. فهذا فوز عظيم للبوليس أو رجال الإدارة بالسودان في تنفيذ قانون منع المسكرات، ولا نظن أن هناك بلدا آخر يستطيع أن يفاخر بنتيجة كهذه حتى في منع تعاطي المخدرات.
إذا صح ما قدمت من الإحصائيات أمكننا القول بأن عندنا في السودان ألف شخص يتعاطون المشروبات الروحية في الخفاء، والبوليس يهددهم من وقت لآخر، والرأي العام يمقتهم. فهم يشربونها خلسة في أماكن وبحالة لا يرضون أن تعرف عنهم. فهل هذا العدد يستوجب وجود جمعية لمنع المسكرات؟ أو يجوز التحدث عن المسكرات في السودان؟
إن وجود هذه الجمعية يثير ضجة حول المسكرات تكون لها بمثابة دعاية تستميل البعض وتشجع آخرين على المطالبة بإباحتها قانونيا، والنتيجة النهائية ستكون وخيمة جدا لا يرضاها حتى الذين يتحمسون للإباحة الآن؛ لأن هناك فريقا مما له منفعة مادية في الموضوع. وخطر عظيم في ترويجها، وهو تاجر الخمور الذي سيظهر على المسرح متى صدر القانون بالإباحة، ويستعمل أساليبه المتعددة لترويج بضاعته وزيادة مبيعاته.
تمر الآن في طول البلاد وعرضها فلا تقع عينك على إعلانات مهمة تستلفت نظرك عن شرب الخمر إلا راية المريسة. أما إذا أبيحت المشروبات الروحية فسوف لا يغيب عن نظرك منظر جوني وكر بخطوته الواسعة ومنظاره العجيب، ذلك الرجل الذي يقال عنه إنه ولد في أول التركية السابقة ولا يزال قويا بفضل كأس الوسكي وغيره من أقطاب بنت الحان. وللإعلانات تأثيرها في انتشار البضائع مهما كانت قوة العوامل المضادة. وحينذاك تدخل الخمرة المنازل فيشربها الرجل وعقيلته والعياذ بالله كما يحصل الآن في مصر وفي غيرها من البلاد الشرقية.
لا نشك أن هناك بعض الطبقات السودانية التي سبق لبعض أفرادها أخذ الكأس الأولى، بالرغم من التحريم الديني والقانوني. فهم يرون أنفسهم أحق من غيرهم في الحصول على امتياز الإباحة القانونية. فكل ما نقوله لأمثال هذه الطوائف أن تحاول إقناع أفرادها بترك الخمر، فإذا عجزت - وكان لا بد لها من أن تجاريهم - فلها أن تحاول الحصول على امتياز خاص أسوة بالمآمير والضباط مثلا. أما الإباحة العامة، فيجب أن لا يفكر فيها عاقل يهتم بمراعاة الدين أو الاحتفاظ بالمبادئ السودانية الاجتماعية؛ لأن الضرر الذي يعود على البلاد من الإباحة سيكون أبلغ من أي تقدير نتصوره الآن ونحن في عهد التحريم. (4) حفلات المولد النبوي
من المجمع عليه أن حفلات المولد النبوي في السودان يفوق الاهتمام بها في السودان اهتمام أهل مصر بها، وذلك لقوة العصبية الدينية والرابطة الإسلامية في السودان، ولأن العامل الديني يقوم بدور كبير في كثرة شؤون السودان وتاريخه وحفلاته.
ومما رواه الأديب الشيخ الوقور السيد محمود القباني عن حفلات المولد النبوي بين فتح محمد علي للسودان إلى ما قبل الثورة المهدية عن السيد محمد شريف ابن الولي القطب الشيخ نور الدايم ابن القطب الأعظم الشيخ أحمد الطيب ناشر الطريقة السمانية في السودان ومصر قال: «شهدت بنفسي أن السيد أحمد العقاد وزع في ليلة عيد على مائتي شخص من العلماء وأكابر طلبة العلم مائتي كسوة من شكل واحد، وقيمة واحدة قفطان وصديري من الشاهية «اسم للقطنية البلدي المصرية»، وثمنها في الخرطوم ثمانية جنيهات مصرية وجبة من الجوخ أميريالة، وقميص طرابزوني، وسراويل دبلان، وحذاء أصفر «مركوب»، وجورب صوف، وعمامة بيضاء، وطربوش مغربي وطاقية دبلان، تلبس تحت الطربوش، وكنت أستمع له وكأنه اشتم رائحة ارتياب بدت على وجوه السامعين، فأقسم يمينا شرعية، وختمها بقوله: والله على ما أقول شهيد.
وإني لأقول بأني لم أسمع بمكرمة لقومنا سراة الخرطوم تتجاوز عشر هذا القدر. وكان السيد أحمد العقاد مع غناه هذا متصفا بأنه شيخ طريقة أحمدية بيومية تقام الأذكار في داره العامرة، وينفرد في المولد بخيمة للوجاهة بجانب خيمة التجار، وأخرى للطريقة بجانب خيام الطريقة رحمة الله عليه.
وفرارا من نقد الناقدين الذين يطلبون بيانا لكل جملة، سيما إذا كانت بعيدة عن مدركاتهم، فقد لاح لي وأنا أكتب هذا أن بعضهم يجهل أن القطب الكامل الشيخ أحمد الطيب ناشر الطريقة السمانية بالسودان ومصر له تلاميذ أعلام في الديار المصرية، وله رحلات متعددة إلى القاهرة، واتصال وثيق بأمراء مصر من المماليك قبل تملك محمد علي باشا عليها. ولعل كثيرين في مصر والسودان لا يعلمون أن في بلدة (بلصفورة) بمديرية جرجا زاوية كبرى تقام بين جدرانها أذكار وأوراد الطريقة السمانية، وفي إحدى زواياها ضريح الولي الصالح (الشيخ شيخون) تلميذ الشيخ أحمد الطيب وخليفته في مصر العليا.
والشيخ شيخون هذا هو الجد الأعلى للمرحوم السيد علي يوسف صاحب جريدة المؤيد المعروفة، وشيخ السجادة الوفائية رحمة الله عليهم جميعا.
ومنذ الليلة الثالثة عشرة تغمرنا أفراح متجددة في الدور فيوم غد عندنا وبعد غد عند العم فلان. ولسنا فرحين بالموائد الفاخرة، بل فرحنا الأكبر أن نجلس أو نقف خلف قراء المولد الكبير المسمى «مولد المناوي» المشتمل على أجل وأحسن القصائد النبوية، ولا تنتهي تلاوته في أقل من ست ساعات تكاد تطير أرواحنا منا فنصيح ونتواجد حينما نسمع:
قف واستمع ذكر من أنواره سطعت
في الكائنات كشمس في الضحى لمعت
وكبارنا يتمايلون وبعضهم يصيحون مثلنا، ونسمع من صفوف الجالسين والواقفين صيحات: «معاد»، وصلى الله على محمد حبيبي قرة عيني، الشفاعة يا رسول الله، والنساء الستور يصحن (أنا في حواك في جاهك يوم الناس حفايا وعرايا)، وهذا نصيب أمهاتنا وأخواتنا من ذكرى المولد الشريف في احتفالات المنازل؛ يسمعن سيرة سيد الأنبياء والمرسلين من وراء خدورهن، ويبكين من فرحهن، ويذكرن القيامة. ولله الحمد والمنة إذ صانهن عن التبذل ونزههن عن غشيان ليالي المولد.
فإذا انتهت تلاوة مولد المناوي بعد ست ساعات أنشدت القصائد النبوية، وكلها في مدائح الذات المحمدية. وسمعت أن في منزل أحد الذوات لما فرغوا من تلاوة القصة أنشد أحد القراء مترنما بقول عياض رحمه الله:
ومما زادني شرفا وتيها
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيرت أحمد لي نبيا
فتصايح السامعون: «معاد معاد»، وظلوا كذلك حتى صاح ديك الفجر ثلاثا، وسمعوا أذان الصبح فأدوا الصلاة وانصرفوا. وقد شهدت ليلة ترنم فيها القارئ:
صفت الأملاك والبشرى
لرسول الله أبي الزهرا
والقوم يصيحون: «معاد معاد»، صلى الله على محمد، أنا في جاهك، يا رسول الله الشفاعة إلخ. وقد غلبني النوم بين يدي ذوي فسمعت في الصباح أنهم ظلوا على «معاد» حتى أدوا فريضة الصبح.
ومن أشبه الأشياء بموالد الدور التي كانت في الخرطوم ما كان مواظبا على المحافظة على رسمه المغفور له الوجيه الشيخ الحاج المرضي الخضر عمدة العاصمة «الخرطوم»، وعين أعيان سكانها الأقدمين الذي كان يحتفل في داره بعد الحفل الرسمي بالمولد احتفالا فاخرا كأحسن ما كان يجري في دور أعيان الخرطوم القديمة ووجهائه، يدعو إليه أكابر وأعيان المدن الثلاث والضواحي، وتمد موائد حاوية لكل الأطعمة والألوان من أفخر أنواعها العديدة كما كان في الخرطوم، مع العلم بأنه - رحمة الله عليه - ينفق عليها أربعة أضعاف ما كان يبذله أولئك المحتفلون في أزمنة رخاء الأقوات في الخرطوم القديمة، والاحتفال بالمولد الشريف يعقبه حفلان هما الإسراء في رجب ونصف شعبان، فهذه الثلاثة كان المرحوم المرضي الخضر يحافظ عليها ويفرح بها ويبذل فيها، ولا ريب أنه كان محافظا على قديمه وما وجد عليه قوميته في الخرطوم القديمة. وفي أم درمان يحتفظ حضرة مولانا صاحب الفضيلة السيد إسماعيل الأزهري المفتي السابق بهذه الاحتفالات الثلاثة في هذا الزمان وفي الأزمنة المخيفة أيضا.
ولست أنسى احتفالات أعيان ضواحي الخرطوم وما كنا نتمتع فيها بالرحلات القصيرة مع ذوينا، وما ذلك كله إلا محبة وإجلالا وتعظيما لمن تفضل الله علينا بجعلنا من أمته صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا قيل إن الاحتفال بالمولد بدعة استحسنها البعض وخالفهم آخرون، فقد حكي أن واحدا من أهل العلم والصلاح كان مترددا أو متشككا بين الاستحسان والإساءة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام - ورؤيا المنام حق، كما جاء في الحديث الشريف - فقال: يا رسول الله، ما ترى فيما نأتيه في مولدك من هذه المناظر والأعمال؟ فقال: (من فرح بنا فرحنا به)، وعلى هذا إذا كانت الأغراض هي الفرح والذكرى وبذل البر شكرا لله على حد قوله تعالى:
اعملوا آل داوود شكرا ، فالله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تدني بعيدنا من الحضرات الربانية، وتذهب بقريبنا إلى ما لا نهاية له من المقامات الإحسانية.
ليس في الخرطوم أنظمة الاكتتابات للمولد: فالتجار يقيمون احتفالهم في صيوانهم، ولهم عوائد أو نذور تقدم إلى صواوين الشيوخ لم أسمع بالنقد فيها، وأظن أنها موجودة قطعيا ولكنها سرية، فما كنا نسمع أو نرى غير صناديق الشمع والسكر والبن وبهار القرفة والزنجبيل والأرز والسمن والخراف والعجول، عدا الأطعمة الموفورة في الليالي كلها.
ومما توضح يفهم القارئ أن الاحتفال بالمولد الشريف يأخذ شكل العيد؛ ولهذا كنا نرى أجواق الطرب والأغاني والعزف بالدفوف والرق والمزمار يدخلون ساحة المولد وقوفا أمام الصواوين عازفين مغنين، ويمنحهم أصحابها أعطية لا بأس بها. فإذا جاءوا أمام صواوين الذكر حولوا أغانيهم إلى مدائح نبوية أو صوفية ونادوا: مدد يا جيلاني، مدد يا بدوي، مدد يا ميرغني، مدد يا ود سحونة، وأخذوا يهتفون بذكر الأولياء فيتقدم نحوهم أصحاب الصيوان بالشربات والقهوة وهم وقوف، ثم يصلونهم بالفواتح بدل النقود.
تتسامح الحكومة إلى موظفيها إكراما للمولد فيخرجون من مكاتبهم قبل المواعيد المقررة بنحو ساعتين، وفي اليوم الأخير بأربع ساعات، وفي صباح اليوم البطالة الرسمية، وهكذا شأن المدرسة؛ فقد كنا نترك المدرسة بعد أن نتناول طعام الغداء بساعتين إلى ساحة المولد للتمتع بمنظر «لعبة الجريد» التي يشترك فيها عدد غفير من فرسان الأجناد الأتراك والمغاربة والشايقية، وقلما تخلف الحكمدار والقناصل عن التمتع بشهودها الممثل للحروب القديمة قبل اختراع النيران؛ فهذا ينهزم بعد أن يصيبه السهم في النحر، وذاك يلتوي إلى باطن الفرس فيمر السهم في الهواء، فإذا غربت الشمس عدنا إلى دورنا ريثما نبدل ملابسنا، فنعود إلى الصواوين لنتعشى مع ذوينا ونقضي السهرة.
ليس في موالدنا من الملاهي غير جوقات الطرب التي بينتها، ولا نعرف شيئا من كشكوش ولا شختك بختك، ولا لبس تكسب، ولا بندقية. وغاية ما عندنا أن موالينا يدخلون بالتوزة أمام الصواوين ويصلهم أسيادها كالجوقات المطربة.
تختم الليلة الأخيرة بمظاهر من العظمة يعجز اليراع عن وصف لمحة منها، فضلا عن كلها، وجل النفقات من خزانة الحكومة ومقررات المولد كانت تقدر بنحو ألف جنيه في العام، ومنها الحفلات التي تقدم ذكرها في الذكريات السالفة كليالي القدر والمعراج ونصف شعبان، وقد احتفظوا أيضا بالاحتفال بقراءة القصة الشريفة كما يجري في مسجد الحسين عليه وعلى آله صلوات الله وسلامه، وإنما اختلف الوضع ففي القاهرة يحتفل صباح 12 ربيع أول بتلاوة القصة الشريفة باللغة التركية، وهنا تقرأ في سلاملك الحكمدارية باللغة العربية، وسمعت أن في أوقات سلفت كانت تقرأ باللغة التركية تبعا لوجود شخص يجيد هذه اللغة.
وخلاصة ما أدونه أن كل شيء يجري في الخرطوم كانوا يتوخون فيه محاكاة وتمثيل ما يتبع إجراؤه في القاهرة حذو النعل بالنعل
6
حتى في الملابس والأزياء، وإن وجدت اختلافات طفيفة لا مندوحة من وجودها، وصفوة ما استخلصته أن المولد النبوي الشريف من أكبر المواسم لرواج الأسواق في الخرطوم، ووسيلة لكسب المعدمين من الأنحاء المجاورة وبعض البعيدة يفد علينا ما لا يعد من المادحين بالطار وبغيره كضرب العصي، ويحلق الناس عليهم حول ساحة المولد ليلا ونهارا، فيمطرون عليهم القروش حبا وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتكريما لمن يترنم بمدائحه
صلى الله عليه وسلم
وإني لأذكر وأنا صغير احتفاء قومنا وتكريمهم لشخص المادح الصالح الشيخ عبد القادر أبي كساوي الذي كنا نترنم بمدائحه ونحن أطفال؛ لأنه من آداب القومية عندنا أن الترنم بأغاني الحب والأرقاص المالئة لوسطنا الحاضر يعد من أكبر العيوب، بل هو الدليل الناطق بفقدان رجولية الصغير والكبير؛ إذ الغناء لا يباشره في وسطنا غير الجواري، وليس في جماعتنا حرة تعرف الأغاني اللهم إلا نوع مراثي العظماء والكبراء، ونحن إنما نترنم بالمدائح النبوية ليس إلا. سبحان من يغير ولا يتغير جل شأنه. ا.ه
هذا وفي مولد هذا العام صدرت فتوى من فضيلة شيخ العلماء ونداءات منه ومن العلماء وفي الصحافة بتحريم البدع ومنع النساء الوافدات المستهترات من غشيان ساحات الموالد. وقد نفذ ذلك كله.
هوامش
الفصل الثالث والثلاثون
هجرة المصريين إلى السودان
يحملنا على الخوض في هذا الموضوع ما تردد على ألسنة الكتاب الساسيين وكبار الباحثين المصريين خاصة من أن السودان هو المنفذ الطبيعي الوحيد لمصر، التي يزداد عدد سكانها، وتجد في السودان الواسع القليل السكان - المجال الفسيح لنشاط العدد الزائد.
ونحن لا نشارك الباحثين أو المتفائلين آمالهم؛ لأن السودان عاش ونهض ومدن بفضل ملايين الجنيهات التي أنفقتها مصر عليه منذ الفتح حتى الآن. فهو غرم لا غنم. وهو لا يزال في حاجة إلى أموال مصر، وكان ظن بعض الإنكليز أن الأموال الإنكليزية إذا تدفقت عليه واستغلت فيه؛ نهض، وآتت ثمارها أضعافا مضاعفة. ولكن الأمل قد خاب.
والدليل على ذلك هو أن سكان السودان أنفسهم في حاجة إلى الأموال، وأن إنتاج الأراضي ضعيف، وأن الزارع المصري لا يحفل بالهجرة. وقد رأينا عند عودتنا من السودان - سكان مديرية أسوان الذين غمر الخزان أراضيهم، آثروا السكنى فوق الجبال والتلال على الانتقال إلى الأراضي الخصبة مع ما أخذوا من تعويض واف. فكيف بفلاح المنوفية والشرقية إلخ؟!
ودون استغلال السودان أجيال وملايين الجنيهات. وقبل هجرة المصريين إليه يجب كفالة حياة مستطاعة؛ لأن السوداني العادي يعيش بدويا راعيا للماشية وبائعا للجمال وجالبا للصمغ وجامعا للسمسم. وهذا شيء لا يستطيعه الفلاح المصري، والفلاح السوداني لا يتعلق بالزراعة تعلق المصري، وهي لا تجود بخير كثير.
على أن من الممكن استغلال المصريين للسودان تدريجيا، كأن تشتري الجمعية الزراعية الملكية أطيانا وتصلحها. لكن هذا شيء وهجرة المصريين وملايينهم إلى السودان ليحصلوا الرزق ويجدوا العيش شيء آخر.
وأعتقد أن هذه الهجرة أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. ومن قال غير ذلك فعليه أن يستقرئ التاريخ وأن يزور السودان.
هذا أقوله مخلصا ومجردا عن المسألة السياسية التي فيها أيضا عقبة أخرى في سبيل هذه الهجرة حتى لو أبيحت. فمن الواجب حل مسألة السودان قبل التفكير في الاستغلال والهجرة.
نعم إن المصريين كانوا في السودان - ولكن كانوا يعيشون كالموظفين على أموال حكومتهم أو تجارا تعاونهم الحكومة المصرية بمالها ونفوذها. وكانت تجارتهم رابحة لاعتمادها على القوافل السودانية وريش النعام والأبنوس والمواشي.
أما بعد السكك الحديدية فقد أضحى ذلك رخيصا سهلا، وأصبح في يد حفنة من التجار الأجانب والسودانيين والمصريين، مع بقائهم في العواصم وبغير هجرة مع أسرهم.
والمصريون الذين هاجروا قبل الفتح المصري الأخير وبعده قد اندمجوا في السودانيين، وكانت هجرتهم تدريجية وقليلة وممكنة مع معيشة المصريين نفسها الرخيصة. أما مع المدنية الحاضرة فهذا شيء صعب. •••
وينبغي التنبيه على أن المصريين في السودان يشملون منذ فتح محمد علي الكبير فروعا هي بمثابة الأجزاء للكل تعرف بعنوان المولدين (هذه الكلمة عكس معناها في مصر)، ويندرج تحته المغاربة والعرب المصريون والمصريون الفلاحون والشركس والترك والأرنؤوط والأكراد والأقباط، بل من بينهم الشوام؛ فإن الفاتحين الأولين كانوا من أعراب مصر ومغاربتها والأرنؤوط والترك - انظر تاريخ مصر الحديث - ثم بعد تسريح هؤلاء وإعفاء عرب مصر من الخدمة العسكرية أصبح الجنود النظاميون يرسلون إلى السودان من الفلاحين وسواهم من المتمصرين، كما أصبح الذين يدخلون البلاد بالتجارة وسواها من الأعمال الحرة من المصريين ومن غير المصريين على السواء - والذي أريد إيضاحه هنا هو ما يختص بالمغاربة والعرب الذين قدموا إلى السودان ضمن الفاتحين الأول، وصاروا فيما بعد يعرفون بالمغاربة جميعهم؛ لانتمائهم إلى قبائل مغربية أصلا، واحتفاظهم بعصبيتهم وبدويتهم في ذلك الوقت، مع العلم بأنهم أصبحوا اليوم مصريين، وتنوسيت تلك الفوارق إن لم تكن في الواقع ففي نظر القانون؛ مما جعل الحكومة المصرية في هذه الأيام تتشبث بتجنيدهم أسوة بغيرهم، ويا حبذا لو وفقت؛ لأنهم - كما يلوح لي - هم عنصر القوة في مصر.
فهم الذين افتتحوا السودان مع الترك، وهم الذين صدوا غارة الوهابيين وردوهم عن الحجاز إلى الرياض في المرة الأولى، وهم الذين هددوا الباب العالي مع إبراهيم باشا ... إلى آخر ما فعلوه؛ مما جعل والي مصر يمنحهم البراءة اعترافا بالجميل وتقديرا للولاء والإخلاص للوطن - فالمغاربة الذين هم في السودان هم مصريون بلا شك، وإنما احتفظوا بهذا اللقب؛ لأنهم نزحوا من مصر في وقت كانت الأعراب فيه والمغاربة الضاربون في مصر يحتفظون بأسماء قبائلهم وأنسابهم - ولقد كانت عراضي
1
المغاربة والعرب نحو ثمانية على ما أتذكر. وهي: عرضي محمد أغا أبو مطر - عرضي أبو خضرة - عرضي الصهبي - عرضي البصيلي - عرضي الأدغم أبو حليمة - عرضي الأدغم أبو سليمان - عرضي؟ - عرضي؟
وهذان الأخيران لا أتذكرهما - وكانت القبائل التي تألفت منها هذه العراضي تكاد تنحصر في: بني عون - خويلد - الضعفة - النجمة - محارب - عمائم - الجهمة - أولاد علي - الربائع - الجوازيا - الهرازا - التراهنة - سملوس - وأصول. هؤلاء يقيمون كما علمنا ذلك من شيوخ السن بالفيوم والغربية والبحيرة والشرقية ومطروح والواحات والجيزة أيضا، وباختصار فإنهم منتشرون في القطر المصري كعادتهم، ولذلك فإن مغاربة السودان هم مصريون قبل أن يكونوا مغاربة. وتعدادهم اليوم بعد حصد الحوادث والكوارث يزيد على الخمسين ألفا، وأغلبهم في مدن السودان كواد مدني وأم درمان وبربر والقضارف والأبيض إلخ. وهم أنبل الأسر والقبائل وأشجعهم وأعظمهم حمية وغيرة وأقواهم بأسا بعد كل ما أصابهم - وتاريخهم في حوادث المهدية وقيامهم في وجهها سجل لهم فخرا لا يمحى في الذود عن أعراضهم وضنهم بتعرض البلاد التي فتحها آباؤهم لغوغاء الفتنة. وهم العامل الوحيد في بقاء سنار بعد استيلاء الدراويش على السودان قاطبة (مصرية) حتى استسلمت أخيرا من طول الحصار. وليست واقعة (أبو شوكة) بمجهولة؛ فقد استبسل فيها مغاربة عصار واستهانوا بالموت حتى صار ذكر اسمهم مما تفزع له الجيوش الجرارة. فقوم هذا شأنهم ومكانهم من التاريخ لا ينبغي إغفالهم. فهم فخر مصر وأبناؤها الذين سجلوا لها حقها بدمائهم؛ مما كان يجوز عليهم هذا الإغفال لمجرد أنهم يعرفون بالمغاربة وهم مصريون دما ولحما، ولقد زار أديب سوداني مصر في سنة 1932 وقصد إلى بلدة بسيون بمديرية الغربية، وكان يعتقد أنه يجد اسم المغاربة هناك ضاربا، وأن لهم طابعا مخصوصا؛ فما أدهشه إلا أنه وجد جميع القبائل تمصرت وصارت أمة واحدة في الأمصار وفي البوادي تعرف باسم عرب مصر، وهنا تجد مثالا ناطقا بذلك.
وعندما استقبل فضيلة الشيخ مدثر علي البوشي القاضي الشرعي بواد مدني خليفة جده الشيخ البسيوني، وهو الأستاذ الشريف بدر بن مصطفى بن بدر بن مصطفى المقيم ببسيون قال: «إني أنا مدثر بن علي محمد أبو النجا بن أحمد بن مصطفى، يرتقي نسبي إلى الشيخ أبي النجا الشهير، ومنه إلى سيدي أحمد بن عيسى عم الشيخ إسماعيل البسيوني مؤسس البلدة، ومن ثم إلى الشريف إبراهيم العلواني التونسي، فنحن مغاربة، وينبغي أن نعرف بذلك، فما لي لا أرى الحالة التي كان عليها آباؤنا الذين فتحوا السودان؟ فقال له الخليفة: هل ترى أن الذي يسكن في بلد نحو سبعمائة سنة ينكر وطنه ليضاف إلى وطن يرجع إليه نسبه قبل هذا التاريخ؟ ولماذا لا نقول: نحن حجازيون أو يمانيون مثلا - فكان ذلك جوابا مسكتا بليغا - فالحقيقة أن من سكن منهم الأمصار تمصر؛ أي إنه لا ينسب إلا إلى مصر، ومن سكن منهم البادية صار من أعراب مصر. هذا ولولا حادث المهدية لكان تعداد هؤلاء المغاربة بالسودان يربو على مائة ألف نفس بلا شك - وأذكر أن أغلب من شاهدتهم في واد مدني والقضارف وأم درمان من البيض في رحلتنا هم من هؤلاء - وبالنسبة لأن الشيخ البسيوني من ذرية الشيخ محمد أبو النجا البسيوني، وهم يعلمون ذلك؛ فقد صارت زعامتهم لدى تابعيهم من العهد الأول إلى اليوم - لأن الزعامة عندهم تتبع الدين. وقد أحضروه معهم تيمنا وتبركا، وحاولوا إخفاء اسمه تحت لقب البوشي - والبوشي هذا من ضئولته - حتى يعموا على أهله الذين كانوا جادين في طلبه، ثم صارت البوشي علما عليه.
ينبغي أن يعلم أن هناك قبيلتين إحداهما بدوية تسكن بين النيل الأزرق ونهر عطبرا، وعددها نحو أربعين ألفا، والثانية تسكن في قرى كثيرة وسط الجزيرة بمركز المناقل وعدد أفرادها نحو خمس وعشرين ألفا، وكلتا القبيلتين تعرفان باسم المغاربة، ولكن تاريخهما في السودان يرجع إلى خمسمائة عام، وهما كغيرهما لا يعرف من أين جاء للسودان هل من مصر أو طرابلس - وهاتان القبيلتان غير من عنينا أولا.
فقد شاهدت في الفلاحين قبلي وبحري مصر العرب، مثل الرواشدة والحمدة وبني هلبة وسليم وكنانة إلخ، وكلهم موجودون بالسودان اليوم ولا طريق لهم للهجرة، ولنرجع إلى ما قلناه أولا عن المصريين، أي نصف المليون، فكلهم يحتفظون بأسماء عوائلهم وبلادهم، ودماؤهم التي في عروقهم تنم عن ذلك، وهم في الغالب سكان الأمصار والقرى العامرة بالسودان، ونسبتهم فيها ما بين الثلث والثلثين على الدوام.
لقد مضى على مجيء السيد أحمد مصطفى أبو النجا (المعروف بالبوشي) نحو 120 سنة تقريبا وذريته الذين هم على قيد الحياة اليوم أكثر من 300 نفس بعد كل ما حصل لهم من نكبات في تطورات السودان التي يمكننا أن نقول: إنها انتهت اليوم - ولقد مضى على قدوم جد البوشي الأكبر إلى مصر من تونس نحو سبعمائة سنة 700 عام تقريبا وذرية أحد بناته ببلدة بسيون حتى سنة 1932 3000 نفس، كما علم ذلك من خليفتهم. (1) رأي سمو الأمير عمر طوسون
ما جاء في خاتمة كتاب (مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن)
2
متعلقا بمصر والسودان، تأليف حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون ما يلي:
إن مساحة الأراضي القابلة للزراعة في القطر المصري هي 7100000 فدان عدا 200000 فدان تربى فيها الأسماك. والمقدار الأول قسمان: (1)
5600000 فدان تجبى منها الضرائب باعتبار أنها مزروعة. (2)
1500000 فدان غير مزروعة الآن وقابلة للزراعة في المستقبل.
وجملة سكان مصر حسب إحصاء سنة 1917م هي 12718255 شخصا، فيكون لكل فدان شخصان وربع. وأكثر المديريات سكانا بالنسبة لمساحتها مديرية المنوفية؛ إذ يخص كل ثلاثة من سكانها فدان واحد، وما زال عدد السكان منذ إحصاء سنة 1917م في ازدياد مطرد. فإذا تركنا سني الحرب الاستثنائية جانبا نجد زيادة عدد المواليد على الوفيات في سنة 1921م حسب تقدير مصلحة الإحصاء بلغت 224459، وفي سنة 1922 243536 نسمة.
وكلما زاد عدد السكان كثر ازدياد عدد المواليد على عدد الوفيات طبعا. ولا ريب عندنا في أن متوسط هذه الزيادة يبلغ سنويا 250000 بدون أدنى مبالغة.
وليس في مديرية المنوفية - وهي أخصب أرض مصر - قطعة لا تزرع، ومع ذلك فكثير من سكانها يهاجرون، لأنهم لا يجدون ما يقوم بمعيشتهم فيها. على أننا مع هذا نسلم بقاعدة كفاية الفدان الواحد من كل أرض زراعية في مصر لمتوسط معيشة ثلاثة أشخاص، فنقول بناء على هذه القاعدة:
إن الأرض المزروعة في مصر ومقدارها 5600000 فدان تكفي لمعيشة 16800000 نسمة. وبعد تعداد النفوس سنة 1917م بلغ مجموع زيادة المواليد على الوفيات 871770 بتقدير مصلحة الإحصاء. فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة سنة 1923م ومقدارها 250000، وأضفنا المجموع إلى إحصاء سنة 1917م يكون عدد السكان في نهاية سنة 1923م 13800000 نسمة. وبطرحه من 16800009 نسمات، وهو العدد اللازم لاستثمار المساحة المقرر عليها ضرائب يكون الباقي 3000000 نسمة، وهو عجز يسد بزيادة السكان السنوية. فإذا سلم لنا أنها 350000 سنويا يتلاشى هذا العجز بعد اثني عشرة سنة، على أننا نقول: إن عشر سنوات فقط تكفي لذلك إذا جرت الأمور في مجراها الطبيعي.
وإذا أعدت المساحة غير المزروعة الآن للزراعة، وهي تشمل الجزء الشمالي وإقليم البحيرات للدلتا، ومقدارها كما مر 1500000 لزمها من السكان 4500000، وهو مقدار يتلاشى بزيادة السكان في مدى ثماني عشرة سنة، فتكون السنوات اللازمة لملاشاة العجز كله ثلاثين سنة أو بالحري خمسا وعشرين سنة، أي ربع قرن أو نصف العمر الغالب للإنسان. وعلى ذلك نجد أنفسنا أمام إحدى حالتين وهما:
الأولى:
إذا لم تجفف مياه إقليم البحيرات ولم يعد للزراعة وصلنا إلى آخر حد لاستطاعة القطر تحمل سكانه في مدة اثنتي عشرة سنة على الأكثر.
الثانية:
إذا جففت مياهه وأعد للزراعة وصلنا إلى الحد المذكور في مدة ثلاثين سنة على الأكثر.
وهاتان المدتان حتى أطولهما أقرب إلينا من حبل الوريد. ومعظم النسل الحاضر سيرى بعيني رأسه انقضاء هذه السنين. فماذا نصنع يومئذ والزيادة مستمرة في السكان.
لا ريب أنه يجب علينا منذ الآن التفكير في حل لهذه المعضلة الاجتماعية المتوقعة، وهو ما سنفرد له هذا البحث:
الجزء المروي أو الممكن ريه من القطر المصري على شكل شريط طويل دقيق ينتهي طرفه الشمالي بشكل مروحة عند البحر الأبيض المتوسط، وهذه هي التي تسمى الدلتا.
وهذا الجزء المروي يحد بصحراء العرب شرقا وصحراء لوبية غربا. وليس في الإمكان ري أرض الصحراوين المذكورتين بماء النيل لارتفاعها وعدم استواء سطحها، فيستمر جدبها لهذا العائق الذي لا يمكن تذليله إلى ما شاء الله. ومن المستحيل في مصر الانتفاع بأرض لا يرويها النيل. فليس هناك احتمال لتوسع زراعي من هاتين الجهتين.
وفي الجهة الشمالية البحر. فإذا وجهنا زيادة عدد سكاننا إلى هذه الوجهة وافترضنا ارتحالها إلى ما وراء البحار، وتركنا جانبا كراهة المصري الغربة، فإننا لا نجد ما يحقق لها أي رغد من العيش للبون الشاسع بين البلدين مناخا وطبيعة وجنسية ولغة وديانة. فهذه الجهة في حكم المسدودة.
أما المورد الصناعي للمعيشة، ففضلا عن أن مصر تنقصها المواد الأولية لتكون الصناعة فيها زاهرة يانعة، فإنه مورد محدود من المستحيل أن ينتفع به عدد عظيم من السكان في مصر. ولنفرض أنهم نصف مليون فإنه يستغرق بزيادة السكان في مدى أربع سنوات فقط، ومتى انقضى هذا الأجل القصير نجد أنفسنا أمام المعضلة بعينها من جديد.
وحاشا أن نقصد تثبيط الهمم عن الصناعة بهذا الكلام، وإنما القصد فقط بيان عدم كفاية هذا المورد. وأنه لا يحل المشكل الذي نحن بإزائه.
فالمنفذ الوحيد المفتوح أمامنا هو جهة الجنوب، حيث يوجد إقليم واسع ذو سكان قليلي العدد وأرض من طبيعة أرض مصر تروى بنفس النيل ولا يفصلها أي فاصل. بل هي ومصر جسم واحد.
وإقليم كهذا حالته المعيشية وثمار أرضه مماثلة لقطرنا المصريون وحدهم هم الذين في استطاعتهم جعله في حالة سعادة ورفاهية.
وبالاختصار هو بيئة مناسبة لأمزجة المصريين على قدر ما هم أنفسهم موافقون لهذه البيئة. وهو الذي يسع الزيادة المستمرة لسكان مصر مدى مائة عام بدون أدنى مضايقة.
فالسودان هو باب السلام الوحيد الذي ظل مفتوحا لمصر على مصراعيه منذ الأزمان الخالية، ويجب أن يبقى كذلك إلى الأبد لأنه لازم لها لزوم الروح للجسد.
وإلى هذا الغرض يجب أن تصوب جميع جهود الذين في يدهم حظ مصر، وفي قلبهم يضمرون لها النفع والمصلحة. ا.ه. (2) رأي المؤلف
نشرت جريدة «السودان» الغراء حديثا للمؤلف في هذا الصدد جاء فيه:
لقد تألفت لجنة من أعضاء البعثة المصرية في السودان ومن ذوي الأملاك به للسعي لتأليف شركة زراعية من المصريين وإخوانهم السودانيين لاستغلال الأراضي الزراعية الخصبة في السودان.
ولقد اطلعت على بحث لحضرة الفاضل المسيو عزيز كفوري يقترح فيه أن يكون رأس مال الشركة 500000 جنيه تدفع منها في البداية 200000 جينه، وأن تجعل نشاطها الزراعي في منطقة الخرطوم بحري تفضيلا على مناطق شندي وبربر ودنقلة.
إن شراء المصريين أراضي في السودان واستغلالها يجب أن لا ينظر إليه فقط من الناحية المادية. وإنما يجب أن ينظر إليه من الوجهة الأدبية - وجهة توثيق العلاقات الودية بين مصر والسودان وتعاون سكان القطرين في أسباب المنافع الحيوية.
وإنني أعتقد أنه يجب أن تشترك الجمعية الزراعية الملكية
3
في كل استغلال للأراضي السودانية. إذا ما انتهى الأمر إلى تأليف الشركة المصرية السودانية. وأن يكون عمل الجمعية الزراعية التمهيد لهذه الشركة وتجربة استغلال رؤوس الأموال المصرية، واستغلال الكفايات المصرية الفنية في السودان. وذلك بأن توفد الجمعية نفرا من خريجي المدارس الزراعية إلى حقول للتجارب تعد عدتها قبل سفرهم.
وبين المسائل التي تعترض استغلال المصريين أموالهم زراعيا في السودان، نوع الزراعة، لأنه ليس بالمصريين حاجة لزراعة القطن، فهي في مصر وافرة، وقد تكون زراعة الحبوب هي أول ما يجب أن يتجه إليه بحث الباحث في استغلال الأموال والعقول المصرية.
وكيفما كان الرأي في هذا الصدد؛ فإنه مما لا شك فيه أن هذه المسألة دقيقة وفي حاجة إلى بحوث إضافية. نرجو من ورائها خيرا للمصريين وإخوانهم السودانيين.
هوامش
الفصل الرابع والثلاثون
مستقبل السودان
يهم القارئ أن يتنبأ بما عسى أن يكون عليه السودان في المستقبل، أو ما هو المستقبل المنتظر للسودان. ويجب التفريق بين الأماني والوقائع الراهنة والحقائق الواقعة: فمن جهة الأماني، فإنها قد تتعدد؛ فلمصر أماني نحو السودان، وأمانيها معروفة، وهو بقاء السودان مع مصر؛ لأن النيل قد جعل منهما بلادا متماثلة وسكانا متشابهين، وهذا يقع تحت شعار «الاستقلال التام لمصر والسودان»، وهو مطلب من مطالب الحركة الوطنية، وقد فشلت المفاوضات بين إنكلترا ومصر في سبيل السعي لتحقيقه جزئيا كان أم كليا.
وهناك أماني الإنكليز، وهي تفهم أو يحاول الإنسان أن يفهمها من سياسة الإنكليز في استعمار إفريقيا، وفي مواصلات الإمبراطورية وفي قناة السويس وفي مصر، وفي السيطرة على منابع النيل، وفي رغبتهم في التوسع الزراعي في مساحات القطن، وفي أحاديثهم في المفاوضات الرسمية وفي كشف منابع النيل وحكم بلاده، والإيعاز إلى الخديوي إسماعيل بتعيين غوردون حاكما مستقلا على خط الاستواء، فحكمدارا لعموم السودان، فمنتدبا لإخلائه، فاستعادة السودان بقيادة كتشنر باشا واشتراك الجنود الإنكليزية مع الجيش المصري، فسياسة الحكم في السودان التي بدأت باتفاقية سنة 1899، وانتهت في سنة 1924 بإخراج الجيش المصري، وفي أقوال الصحف الإنكليزية والمؤلفين الإنكليز عن السودان، وفي اهتمام إنكلترا بالحبشة ومنافستها لإيطاليا وفرنسا في الاستعمار.
على مكتشف نيات إنكلترا أن يدرس هذه العوامل مجتمعة. وإذا أخذنا بالواقع وحده، ألفينا إنكلترا منفردة فعلا بحكم السودان، فالحاكم العام من كبار الإنكليز وأعضاء مجلس الحاكم وكبار الموظفين من مديري المديريات ومديري المصالح والمفتشين - جميعا من الإنكليز - والحكم الثنائي في السودان - وهو اشتراك مصر مع إنكلترا - ليس لمصر من مظاهره إلا تعيين الحاكم العام بمرسوم، ورفع العلم المصري إلى جانب العلم الإنكليزي على دواوين الحكومة في السودان. وحكومة السودان تسير على قوانين وقواعد وطرائق لا ترجع فيها إلى مصر، بينما ترجع إلى المندوب السامي البريطاني في مصر، وهو في الوقت ذاته مندوب سام في السودان، ورئيس مباشر للحاكم العام، والمندوب السامي نفسه تابع لوزارة الخارجية البريطانية. وقد جاء في كتاب «السودان الإنكليزي المصري» تأليف سير هارولد ماكميكل السكرتير الإداري لحكومة السودان سابقا، والحاكم العام لتنجانيقا حالا، - قال في الفصل الثالث والعشرين ص271: «أحيانا يوجه هذا السؤال: ما هي فائدة السودان لبريطانيا العظمى؟ والجواب على ذلك هو أن بريطانيا العظمى قد قبلت مسئوليات جسيمة بصفتها ضامنة للقروض التي عقدت في سبيل تقدم السودان، ولأن هناك ملايين الجنيهات من رؤوس الأموال البريطانية موظفة فيه - هذا من الوجهة المادية، ومن الوجهة الحربية فإن للسودان موقعا مهما، فله 450 ميلا على ساحل البحر الأحمر، وله ثغر قيم في الطريق إلى الهند، وحده الشمالي متطابق مع الحد الجنوبي لمصر. وما دامت بريطانيا العظمى تحتفظ بمصلحة خاصة في رخاء مصر، فإن جعلها آمنة من الاعتداء عليها وكافلة حسن إدارة ماء الري التي تحيا به - فإن رقابتنا على السودان «حكمنا له» مسألة أساسية. وإن عودة الفوضى إلى السودان أو عدم كفاءة الحكم فيه، لا بد أن يكون لها من الوجهتين السياسية والحيوية «أي حياة البلاد» - نتائج عاجلة تحس بها البلاد المحيطة بالسودان، وتتعرض سعادتهم للخطر. ويتأخر تقدم مدنيتهم بسبب ترك منطقة مركزية واسعة للفوضى وتجارة الرقيق والأمراض.
سير مايلز ميسون المندوب السامي البريطاني في مصر سنة 1924 - إلى الآن.
ونصيب السودان في إنتاج المواد الخام والقطن المصري طويل الفتلة والصمغ والزيوت النباتية - يعد قليلا بالنسبة للإنتاج العالمي من ذلك. كما أن القوة الشرائية ليست كبيرة، على أنه بعودة الانتعاش التدريجي في التجارة العالمية فإن السودان محكوما ببريطانيا العظمى سيتقدم - كبلد مستورد ومصدر - كلما زاد عدد سكانه وطرق مواصلاته.
ثم تساءل مستر ماكميكل عن: «إذا كانت بريطانيا لا تخسر ماديا بفقدها السودان - فهل لا يكون هناك سبب في مواصلتها احتلاله؟» وقد رد على هذه النقطة بأنه عند هذا السؤال يقوم سؤال آخر وهو: هل يبرر لبريطانيا العظمى، من الوجهة الأدبية، أن تتركه؟ وقال: «لا شك في أن هذا يتوقف على ما يؤول إليه أمر السودان بعد تركه، والفرصة التي تتاح لأهله ليتمتعوا بحكومة طيبة. إنه لا يزال بعيدا ذلك اليوم الذي تتألف فيه أمة واحدة من أقوام السودان غير المتجانسة، وتحكمها حكومة وطنية واحدة، سواء أكانت أوتقراطية «أي حاكم مطلق مستبد بالحكم»، أم حكومة أعيان «الخاصة»، أم ديموقراطية. قد يكون من الممكن أن تتوحد المديريات المتعربة الشمالية في وقت قريب، ولكن سكانها، إذا نظر إليهم كوحدة سياسية، فإنهم لا يزالون في بداية تألفهم، ولا بد من مضي بعض أجيال قبل عمل تجربة على هذا النحو واحتمال مسئوليتها. وفي الوقت ذاته قد أخذت بريطانيا العظمى على عاتقها مسئولية العمل في سبيل سعادة السودانيين من عرب في الشمال ومتوحشين لا دينيين في الجنوب، وهي لا تستطيع أن تتخلى عما اؤتمنت عليه، ولا أن تسلمه لمن ليس صالحا بسبب طبيعة جنسه وعدم اختباره العملي لكي يتولى أمره.
وقال مستر رامزي ماكدونالد في خطاب له نشرته جريدة التيمس في عددها الصادر في 26 مايو سنة 1930، عن حكم بريطانيا للمستعمرات ما يلي:
لقد تعهدنا بأن نعنى بأمر أناس لم يستطيعوا أن يتولوا أمر أنفسهم، فقد كانوا هدفا لحرب داخلية أو لأساليب من الحكم حرمتهم من منافع المدنية؛ ولذلك ألقيت علينا واجبات نحوهم.
ثم قال: «على أن ذلك لا يعني انحرافنا عن تحقيق أمنية الحكم الذاتي.»
وقد علق مستر ماكميكل على هذه العبارة فقال: «إن ذلك يجرنا إلى ذلك السؤال - ماذا عسى أن يكون مستقبل السودان؟» فقال: «إن أعظم الناس إيمانا بالأنبياء والنبوءات لا بد أن يتردد في إعطاء جواب صريح، على أنه ممكن أن يقال بشيء من التأكيد : إن مستقبل السودان سوف يتعين - إلى حد كبير - بالاتجاه السياسي العام، بالسياسة التي توضع في إنكلترا أكثر مما يتعين بحصول حوادث خاصة في السودان، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول: إن الحكم الذاتي سيكون حقيقة عامة مقررة مقبولة كشيء بديهي في وقت قريب؟ ليس من السهل أن نتنبأ بما عسى أن تفضي إليه أساليب الحكم من مبادئ المحافظين والأحرار والاشتراكيين، فلكل حكم مبادئه ويومه، وليس نوع الحكم بشيء خالد. وفي كل لحظة قد يحدث ما يدعو إلى اتخاذ قرار يعد انحرافا عن الطريق المرسوم للسودان، كأن يكون اندماجا له أو لجزء منه في الإمبراطورية أو مؤديا به إلى الاستقلال أو إلى العبودية أو إلى الفوضى، ومعنى ذلك أنه غير ممكن التنبؤ بأي قرار يتخذ في صدد السودان، ومتى يصدر هذا القرار.»
لقد قالت جريدة النيرابست والهند في عددها الصادر بتاريخ 24 أغسطس سنة 1933: «إن علاقة بريطانيا العظمى بالسودان يجب أن لا توزن بالموازين التجارية.» والحق أن الاعتبارات المادية هي ثانوية في الأهمية، ويجب أن لا تؤثر في الاعتبارات الأولية. إن السودان مدين بمبلغ محدود لمصر بسبب المبالغ التي اقترضها من وقت لآخر للقيام بمشروعات أوجبها تقدمه، فيجب تسوية هذا الدين وشروط تسديده. إن مصر تمنح السودان سنويا إعانة قدرها 750 ألف جنيه، وبدونها لا يستطيع أن يوازن ميزانيته. فيجب أن تتخذ إجراءات من شأنها إما كفالة
1
استمرار هذه الإعانة، وإما باتخاذ وسيلة لإيجاد المال. إن على طرفي الحكم الثنائي - وهما مصر وإنكلترا - ضمان استمرار المساعدة التي يقدمانها للسودان حتى تصبح مالية السودان في غنى عن هذه المساعدة. وإذا كانت مصر لا تدفع نصيبها من هذه المساعدة فإنه سيقع على بريطانيا العظمى عبء غير عادل في هذا الصدد. •••
قال سير ماكمايكل:
انتصرت القوات البريطانية المصرية على جيش الخليفة في (كرري)، ثم أوقعت به وبالبقية الباقية من أنصاره في (جديد)، فتم لها الفتح العسكري، وسلمت جميع مديريات السودان لقواد الجيش الفاتح باسم (الجناب العالي الخديوي). وكاد السردار يصطدم بقوة عسكرية فرنسية بقيادة الماجور مارشان في (فشودة)، ولكن حلت المسألة دبلوماسيا، وعاد الفرنسيون أدراجهم. وهرب الأمير علي دينار بن الأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل الفوراوي إلى الفاشر، فوضع يده على ملك أجداده، واعترفت له الحكومة الجديدة بهذا الملك لقاء جزية ليست ثقيلة يدفعها غير صاغر ويسوس ملكه كيف شاء داخل حدود بلاده.
حلت بهذا العقدة العسكرية. ولكن بقيت العقدة السياسية الدولية ولم تكن بالهينة، ولكن (كرومر) حلال المشكلات ما كان لتقعده مثلها.
كان (السودان وسواحل البحر الأحمر) أعني السودان الحالي وأريتريه وهرر وزيلع وبربرة وما جاورها وجزءا من أوغندا من أملاك (الجناب العالي الخديوي)، وكان هذا بدوره يدين بالسيادة ويؤدي الجزية (لسلطان البرين وخاقان البحرين أمير المؤمنين) السلطان العثماني، ولم يكن لخديوي مصر سيادة معدودة دوليا منفصلة عن سيادة (الباب العالي)، فلم يكن بمصر سفراء، ولم يكن لها مفوضيات في الخارج، ولكن مصر فقدت السودان بفوز الثوار من أهله على سلطانها، بل إن توفيق باشا أعطى غوردون باشا (فرمانا) يعترف فيه بأنه قد أعاد السودان إلى أهله من أبناء البيوت المالكة القديمة. وهذا نزول على كل حال. ثم أعيد فتح السودان بجيش مصري جديد دربه البريطانيون مدة الثلاثة عشر عاما التي تلت سقوط الخرطوم، وعاونته في ذلك جيوش بريطانية صرفة. هذا بعد أن عمت الفوضى أرجاءه، وفشل بنوه في الاحتفاظ بملكهم الذي شادوه على الرماح يدفعهم حماس ديني وقومي عظيم. لكن تنقصهم الحنكة السياسية، وتنقصهم وحدة الكلمة، وغشي الجهل على عيونهم، وذهبت الحروب الداخلية والغزوات والأوبئة والمجاعات بسبعة أثمان سكان السودان على أقل تقدير.
وبريطانيا العظمى التي احتلت مصر احتلالا عسكريا، وتولت إرشاد ولي الأمر فيها إلى أن أنقذتها من الإفلاس أولا، ثم خلفت لها جيشا استعادت به مديريات السودان، سوى ما اقتطعته إيطاليا وسواها، والتي اشتركت بالرأي وبالمال وبالرجال. والتي حملت على عاتقها عبء الدفاع عن مصر في الداخل والخارج. بديهي أن تكون بريطانيا العظمى هي المكلفة بحل العقدة ما دام بيدها الحل والعقد هنا وهناك. فكيف تفعل بين هذه القوى والحقوق المتضاربة ؟ وكانت العقدة المثلثة تتلخص في: (1)
استحالة السماح لمصر بالتصرف المطلق في السودان «والعودة إلى سوء الإدارة القديمة». (2)
استحالة السماح لدولة أجنبية بأن تسيطر على جزء من حوض النيل؛ حرصا على «مصالح مصر وبريطانيا معا». (3)
عدم الرغبة في ضم السودان إلى الأملاك البريطانية اعترافا بما لمصر من حق ودرءا للمشاكل الدولية وخصوصا مع فرنسا التي كانت ذكرى حادثة فاشودة لم تزل شجى في حلقها.
ثم يقول المؤلف في ص63:
لم يكن لبريطانيا العظمى بد من أن تتكفل بالواجب المزدوج فتقضي على الخطر السوداني الذي يهدد مصر، وأن تحول دون الدول الأخرى ودون امتلاك السودان فتهدد بذلك مصر. وكان هذا مسوغا كافيا لها بأن تستخدم في سبيل ذلك الجند المصري الذي دربته وأمدته بالضباط وموارد مصر المالية التي أعادت لها الحياة، كما استخدمت أيضا رجالها ومالها هي. لقد كان سبب الاضطرابات من عمل مصر، وكانت مصر هي أكثر الناس استفادة من زوالها.
لقد أنفقت الخزانة البريطانية من عام 1882 إلى عام 1885 ثلاثة عشر مليونا (من الجنيهات) على الحملات العسكرية في السودان، ومات أو قتل نحو ألفي ضابط وجندي من البريطانيين، وأخرج من الخدمة لعدم اللياقة الطبية نحو 7000 من جراء الأعمال الحربية بمصر والسودان. وعندما سحبت الجنود البريطانية والهندية من سواكن عام 1886 تولت الحكومة البريطانية نفقات الحامية المصرية التي تركت هناك. وقد بلغت جملة نفقات الحملة من عام 1896 إلى عام 1898 نحو مليونين ونصف مليون بذلت الخزانة البريطانية منها 800 ألف.
فكان من المحتم لحل العقدة أن يكون لبريطانيا العظمى نفوذ شرعي في البلاد، وأن يكون نفوذها هو الأعلى، وذلك بدون احتياج إلى ضم البلاد إلى أملاك التاج البريطاني للأسباب التي تقدمت. أو باختصار أرادت بريطانيا أن تكون الوصية على السودان وإن كانت لفظة «وصاية» لم تدخل في قاموس السياسة الدولية إلى ذلك الحين، فابتدعت المعاهدة الثنائية التي أوجدت سيادة جديدة في الفقه الدولي مستمدة من أكثر من سيد واحد وخارجة عن نطاق ملك السيدين جميعا، وهو ما عرف باسم (كندومينيوم)
Condominium
أو ملك مشترك، ويقول أرل كرومر خالق هذا الشيء الجديد:
بهذا الشكل ولد السودان الجديد، وقد رزق قوة كافية للبقاء. على أنه كان بحكم الضرورة وليد مراعاة الظروف، فإذا مات (الطفل) في المستقبل وحل محله مخلوق سياسي أقوى منه بنية بسبب كونه أقرب إلى عالم الحقائق، فليس لموجوديه أن يبكوا مصيره.
وهنا نتسائل نحن: هل ما زال هذا الطفل قويا ؟ أم هو يحتضر ليخلي المكان للمخلوق الجديد القوي؟ •••
ثم يقول ماكميكل: «ولا يتسع المجال لإيراد معاهدة 1899 هنا بالحرف، ولا داعي لذلك، فهي موجودة في كثير من المراجع بالإنكليزية والعربية، ويكفي أن نمر على موادها مرورا يوضح لنا ما ذكرنا في هذا الباب. ففي ديباجة الاتفاقية:
اتفاق مبرم بين الحكومة البريطانية وحكومة خديوي مصر بشأن إدارة السودان في المستقبل» ... ثم:
حيث إن بعض مديريات السودان كانت قد ثارت ضد سلطة الجناب العالي الخديوي وأعيد الآن فتحها بجهود مشتركة حربيا وماليا بين حكومة صاحبة الجلالة البريطانية وحكومة الجناب العالي الخديوي.
وحيث إنه قد تحتم تقرير نظام لإدارة تلك المديريات المعاد افتتاحها ولسن القوانين لها، مع النظر إلى حالة التأخر وعدم الاستقرار التي تسود أجزاء كبيرة منها واختلاف حاجات الجهات المختلفة.
وحيث إنه يراد الاعتراف بالحقوق التي آلت لحكومة صاحبة الجلالة البريطانية بحق الفتح؛ حتى تشترك في وضع التسوية الحالية وسيرها وتطورها في المستقبل ...
لذلك قد حصل الاتفاق ... إلخ.
ومواد الاتفاقية اثنتا عشرة تنص على: (1)
حدود السودان. (2)
رفع العلمين البريطاني والمصري في جميع جهاته برا وبحرا. (3)
تمركز السلطتين المدنية والعسكرية في يد موظف واحد هو الحاكم العام للسودان الذي يعينه خديوي مصر بناء على تزكية الحكومة البريطانية، ولا يمكن إقالته إلا بمرسوم خديوي بموافقة الحكومة البريطانية. (4)
أن للحاكم حق التشريع المطلق. (5)
ألا تسري أية قوانين مصرية على السودان. (6)
ألا يعطى أي امتياز خاص لأي فئة من الأجانب دون غيرها بشأن الإقامة والإيجار إلخ ... (7)
إعفاء الواردات المصرية من المكوس وتحديد رسوم الصادر والوارد. (8)
ألا تسري أحكام المحاكم المختلطة ولا يعترف بها بأي وجه في السودان. (9)
إلى أن يصدر إعلان بهذا الصدد يكون السودان تحت الحكم العسكري. (10)
ألا يسمح بتعيين قناصل أو وكلاء للدول بالسودان بدون موافقة حكومة صاحبة الجلالة البريطانية. (11)
تحريم النخاسة. (12)
سريان اتفاقية بروكسل بشأن حمل الأسلحة النارية وتجارة المشروبات الكحولية.
فأنت ترى أن أرجحية السيادة البريطانية ضمنت بحقها في اختيار الحاكم العام والإشارة بعزله، ولما كان الحاكم العام هو الذي يحكم البلاد ويسن القوانين أصبح منفذا لوجهة نظرها بدون تقييده بذلك النص في صلب الاتفاقية. والموافقة على تعيين القناصل - وهي من شارات السيادة - لم تترك ولو ضمنا للحاكم العام ولا لخديوي مصر، بل جعلت رهنا بموافقة الحكومة البريطانية. قولوا إن الحاكم العام غير مقيد قانونا باستشارة بريطانيا العظمى أو مصر فيما يرى اتخاذه بصفته المشرف المباشر على أحوال البلاد، بل هو شرعا صاحب سلطة غير محدودة على الأرواح والأموال، لكنه يعين ويعزل بإرادة حكومة صاحبة الجلالة البريطانية، فهو رهن سياستها في الواقع. وأذكر أنني قرأت أخذا وردا طريفا للفقيد غوردون في مذكراته حول هذه النقطة، فقد كان هو ضابطا في الجيش البريطاني، ولكنه مزود بفرمان يطلق يده في التصرف من صاحب الحق الشرعي في البلاد ... إلخ، فهو غير مقيد باتباع نصائح هذا أو ذاك، ولكن ... إلخ. أما عن حقوق مصر فيقول المؤلف «ماكميكل» (ص170):
إن حقوق مصر الثابتة في النيل هي ضرورية جدا لأجل رفاهيتها، ومن الإنصاف أن نفترض أن وجود هذه الحقوق كان إلى حد ما عاملا في التسليم لها بنصيب في السيادة على السودان، وهو قرار ما كان يسهل تسويغه اعتمادا على الاعتبارات التاريخية دون سواها. ولم يحصل مطلقا أن تجوهلت أو أنكرت هذه الحقوق، بل على النقيض من ذلك اعترفت بها بريطانيا مرارا تكرارا.
وإليك الفقرة الآتية (ص17) من المذكرات المتبادلة بين الحكومتين البريطانية والمصرية في مايو 1929 بشأن مياه النيل: ... وبدون موافقة سابقة من الحكومة المصرية لا تقام أي مشاريع للري أو منشآت على نهر النيل أو أحد فروعه أو على البحيرات التي يجري منها طالما كانت داخل حدود السودان أو أي قطر تحت الإدارة البريطانية إذا كان من شأن تلك المشاريع أو المنشآت التأثير على مصالح مصر، سواء بإنقاص كمية المياه التي تصل إلى مصر أو تغيير موعد وصولها أو تخفيض مستواها.
ورأي «ماكميكل» لا يخرج في كثير أو قليل عن رأي رجل اشترك بالفعل في تنفيذ السياسة البريطانية وإجراء العدل البريطاني في السودان، وكان من المتحمسين للتصغير من شأن الحقوق المصرية في السودان وتسفيه رأي القائلين بضرورة الاعتراف لحكومة مصر بالاشتراك في إدارة السودان. •••
عهد الإصلاح الأول (1898-1902) يقول المؤلف في مستهل هذا الفصل:
لقد واجه اللورد كتشنر والشرذمة القليلون من الضباط الذين تركوا ليعاونوه بعد واقعة أم درمان عملا ضخما، وقد كان من حظهم وحظ خلفائهم أن يكون من ورائهم معينا ومرشدا وكابحا في بعض الأحيان أحكم الساسة اللورد كرومر. فإذا أفردنا شخصا بعينه من بين الكثيرين الذين وضعوا الأسس المدنية للسودان الجديد كان هو أحقهم بالفخر الأكبر. ولكن يقلل هذا التخصيص من عظم النجاح الذي أحرزه أولئك الرواد الأولون الذين وقع على عواتقهم واجب النهوض بالعمل في وجه صعاب كادت تبدو مستحيلة التذليل.
نعم لقد كان واجبهم صعبا عليهم؛ كانوا رجالا ذوي حكمة وحزم ونزاهة قبل كل شيء، مع لين في العريكة في الغالب وبطش عند اللزوم. وقد قال كتشنر لمعاونيه بحق: «... إننا إنما نعتمد على العمل الانفرادي الذي يقوم به الضباط البريطانيون، حيث يشتغلون مستقلين، ولكن في سبيل غرض واحد، وما يتركونه من أثر على أفراد الأهالي الذين يحرزون ثقتهم، للوصول إلى الإصلاح المعنوي والصناعي للسودان ...»
من أجل هذا كان الاعتماد في بادئ الأمر على كفاية المديرين والمفتشين البريطانيين، وعلى نشاطهم ونزاهتهم وعفتهم وحزمهم وما اتصفوا به من خلال تحبب الأهالي فيهم؛ وبالتالي في النظام الجديد الذي هم رواده والممثلون له. ولم تكن القوانين تصدر إلا بقدر الحاجة، وكانت دائما موجزة مجملة. بل إن اللورد كرومر، وكان يعلق على الميزانية، كتب في عام 1901 عن زيادة المنصرف على بند (أدوات كتابية) على المربوط بستمائة جنيه، وأن المطلوب عن عام 1902 هو ألفان من الجنيهات، فقال:
أخشى أن يكون معنى هذه الزيادة أن مقدار الوسائل الرسمية بالسودان في ازدياد، والأرجح أن هذا لا مناص منه إلى حد ما. ولكن على الرغم من هذا فإنني أجرؤ على إبداء أملي في أن تقوم مقاومة مستديمة في وجه الإفراط في كتابة الرسائل؛ فإنها تدل على الإفراط في (المركزية)، مع أن السودان قطر يجب أن تسير الإدارة فيه على قاعدة (اللامركزية) ما أمكن ذلك.
ولكن مع هذا بدأ التشريع بنشاط؛ فوضع قانون للعقوبات وقانون للتحقيقات الجنائية وقانون للدعاوى المدنية، وسجلت الأراضي بقدر المستطاع لمالكيها الواضعين أيديهم عليها، ووضعت الميزانية (وإن بقيت مصر مدة طويلة تدفع عجزها)، ومن أمثلة ما تم من الإصلاح في بضعة عشر عاما نذكر أن (مستر بونهام كارتر) بدأ الخدمة في القسم القضائي عام 1899 يساعده كاتب واحد في القسم المدني وسبعة قضاة «شرعيين» وعشرة كتاب لهم. وعندما غادر (السر إدجار بونهام كارتر) السودان عام 1917 ترك وراءه (مصلحة السكرتير القضائي، ومحكمة عليا، ومحاكم كلية وجزئية، ومحاكم شرعية إسلامية، ومكتبا للمحامي العمومي ونظاما لتسجيل الأراضي، ومصلحة لإدارة الأراضي الحكومية)، ولم يكن التقدم في جميع المصالح الأخرى دون هذا، ووضع نظام محكم لجباية الضرائب. وأنشئت كلية (غوردون) والمدارس الابتدائية والأولية، وكان الحافز الأول على إنشائها إيجاد طبقة من (المعلمين) كانت الإدارة في أشد الحاجة إليها. ولا يفوتنا هنا أن نورد تفسير اللورد كرومر لهذه الكلمة:
على أنني أود أن أوضح ما أقصد بالفئة المتعلمة؛ فإنني لا أشير إلى التعليم العالي ... بل إن المطلوب مبدئيا تعليم القراءة والكتابة والحساب لعدد معين من الشبان. بالقدر الذي يمكنهم من أن يفيدوا في ملء الوظائف الصغيرة في إدارة البلاد. فإن الحاجة إلى مثل هذه الفئة جد ماسة.
ومد الخط الحديدي إلى شمالي الخرطوم (الحلفاية)، واتسع نطاق الأسلاك التلغرافية. وإن الذين ينظرون إلى السودان الآن لا يمكنهم أن يتصوروا الصعاب التي كانت تكتنف أعمال التقدم منذ أكثر من 30 عاما.
فقد كان أهم هذه الصعوبات: (1) قلة السكان و(2) قلة المال و(3) صعوبة المواصلات . أما الأولى فيكفي أن نورد ما جاءت به الإحصاءات الرسمية؛ فقد كان سكان السودان قبيل الثورة المهدية ثمانية ملايين ونصف مليون من النفوس، (والأرجح أنهم كانوا أكثر من ذلك)، بقي منهم بعد الفتح الأخير مليون واحد وسبعمائة وخمسون ألفا. ويقدر أن المجاعات والأوبئة أتت على نحو الثلاثة ملايين ونصف المليون وأن الحروب والفتن الداخلية أتت على ثلاثة ملايين وربع مليون. •••
يقول سير ماكميكل: «لقد استغرقت مفاوضات النحاس - هندرسون 14 جلسة من 31 مارس إلى 17 إبريل، وإن الوفد الرسمي المصري قد طلب أن تكون تفسير المادة 13 - الخاصة بالسودان - في مقترحات هندرسون - محمد محمود - كما يأتي:
المادة 13: حالة السودان: هي التي تنشأ من هذه الاتفاقات «الاتفاق الثنائي 1899» يجب تفسيرها بأن حالة السودان هي التي في نظرنا كان يجب أن تنشأ من اتفاقية 1899. أي التي تتضمن سيادة مصر على السودان ونصيبها في إدارته. (1) رأي اللورد كرومر «إن الذين يخترقون الصحاري المحرقة بين وادي حلفا وبربر أو القفار بين النيل والبحر الأحمر التي مدت فيها سكة الحديد وهم يعلمون أن مثل هذه القفار الشاسعة التي قلما تنبت شيئا أو يعيش فيها حيوان، كثيرة جدا في بلاد السودان، لا يلامون إذا قالوا مع غوردون وستيورت أول شهيدي العمران في تلك البلاد إنها كانت وستبقى دائما سلكا لا نفع منه. لكن لقد أخذ يثبت على مر السنين أن هذا القول غير صحيح. وأهمية بلاد السودان فيما يتعلق بالقطر المصري لا تتوقف على قابليتها للارتقاء، بل على كون النيل يخترقها من طرف إلى طرف، وعلى أن التحكم فيه على طول مجراه مهم جدا للقطر المصري، ولولا هذا الأمر لكان إنقاذ السودان من حالة البربرية والهمجية غير جدير في رأيي بالنفقات الكثيرة التي تنفق عليه من الأموال المصرية والأرواح المصرية وغير المصرية المنوطة بخدمته. ولو كان هذا الإنقاذ حسنا لذاته، ولكن رأت مصر وحكامها أن إنقاذ السودان أمر لا بد منه ماليا وسياسيا، وهذا الإنقاذ يؤول أيضا إلى ترقية بلاد السودان فتصير له أهمية أخرى ذاتية من غير النفقات إلى الغرض الأول.»
2 (2) رأي اللورد ملنر «لا بد من ترك السودان بكل سرعة ممكنة، وإن كل وزير لا يوافق على هذا البرنامج لا بد أن يترك منصبه، ولا شك أن هذا القرار كان عادلا. وإذا نحن ذكرنا هذا فلا يظن أحد أني أجادل في أن امتلاك السودان أو على الأقل جزء عظيم منه ليس بذي أهمية أو أنه لا يكون ضروريا في المستقبل لسعادة مصر. غير أن الحزم يقضي على الإنسان الذي حل به أشد الضيق بأن ينزل على جزء مهم من ملكيته خير من وقوعه في هاوية الإفلاس، وأن الجند المضغوط عليه بشدة يجد أن الضرورة قد توجب ترك النقط الأمامية المهمة محافظة على القلعة الرئيسية التي تحتمي بها، ولو أن مصر نزلت عن السودان وقت أن كان في غير مقدورها المحافظة عليه فإن ذلك لا يعتبر سببا يدعوها إلى الانصراف عن استرجاعه كله أو بعضه عندما يكون لديها القوة، كما أنه لا لوم على من يقومون بواجب وإن كان ممقوتا غير أنه ضروري كما يضطر ربان سفينة أن يلقي في اليم بضاعة ثمينة؛ في بقائها غرق السفينة.»
3 (3) رأي المستشار المالي
يقول المستشار المالي الإنكليزي لدى الحكومة المصرية في تقريره الصادر في 14 ديسمبر سنة 1914: «إن السودان ضروري لمصر، بل هو ألزم لها من مدينة الإسكندرية.»
جاء في مذكرة الوفد المصري في المقدمة لمؤتمر الصلح سنة 1919: «إننا بطلبنا إرجاع السودان إلى مصر نريد أن نجعله شريكا له ما لنا وعليه ما علينا.» (4) رأي الأمير عمر طوسون
مقال عن (حقوق مصر في السودان). نشرته جريدة (المقطم) بتاريخ 30 يناير سنة 1931، وها هو:
استغلت الصحف زيارة مستر موري ومستر سبندر لمصر في هذه الآونة الأخيرة، وذهبت إلى أن هذه الزيارة ليس لها من علة في الوقت الحاضر إلا أن تكون لمعالجة المسألة المصرية التي ما زالت معلقة بدون حل بين البلدين إنكلترا ومصر، وأن أهم نقطة من نقط المسألة المصرية جاء هذان السياسيان لدرسها وعلاجها هي السودان، الذي كان - وما زال - أكبر عقبة في سبيل أية مفاوضة تدور بيننا وبين البريطانيين ما داموا متشبثين به غير حافلين بما لنا من الحقوق فيه.
ولقد ذهبت تلك الصحف أيضا إلى أن رحلة مستر موري ومستر سبندر إلى السودان في الوقت الذي يقيم فيه المندوب السامي هناك لم تكن على سبيل المصادفة، وإنما هو اجتماع في نفس البلد الواقع بشأنه النزاع يقصد منه بالاتفاق مع حاكمه البحث ومعرفة الحد الأقصى الذي تستطيع بريطانيا أن تذهب إليه في مسألة السودان ما دام قد ظهر أنه من غير الممكن عقد أي تسوية بين البلدين دون أن تحل هذه العقدة المستعصية.
ولست أدري إن كان ما ذهبت إليه هذه الصحف صحيحا أو غير صحيح. ولكن الذي أعلمه علم اليقين وأحب أن يعلمه أيضا هذان الضيفان على وجه خاص والجمهور البريطاني على وجه عام أنه من غير الممكن أن يقبل مصري مهما كانت صفته السياسية أو نزعته الحزبية التخلي عن السودان، وأنه لا يمكن بأي وجه من الوجوه أن يوافق على تسوية ما بشأن مصر تسوية لا ترد لنا فيها حقوقنا في السودان.
ولقد أقام جميع من فاوضوا الحكومة البريطانية من المصريين على اختلاف نزعاتهم الحزبية. الدليل على أن المسألة السودانية كانت دوما السبب في حبوط المفاوضات وقطعها.
لذلك أرى بعد هذا أن يبدأ بحل مسألة السودان قبل حل مسألة مصر لأن الأولى تفوق الثانية، وليس من المعقول حل المسألة الثانية في المرتبة وترك المسألة الأولى لآخر الأمر، حتى إذا فرغ المفاوضون أو كادوا جاءت مسألة السودان فأفضت إلى قطع المفاوضات.
فلو عكس الوضع واتفق على مسألة السودان أولا لوجد أن الاتفاق عليه يدعو حتما إلى سهولة الاتفاق على مصر. فقد يستطيع المصريون أن يتنازلوا عما يستطاع التنازل عنه في مصر. أما السودان فتمسكهم بحقوقهم فيه أشد التمسك أمر واجب لا هوادة فيه؛ لأنه فضلا عن كونه جزءا لا يتجزأ من مصر فمسألته في حقيقة أمرها مسألة حياة أو موت.
إني أعنى برد حقوقنا في السودان بالرد الفعلي لهذه الحقوق أي الذي يوضع موضع الإجراء على الفور، لا تلك التحفظات التي تتخذ لحفظ هذه الحقوق إلى أجل معين أو غير معين. فإن هذا في نظري والتنازل عن حقوقنا في السودان سواء.
ولذلك نرى أن الإنكليز لا يهتمون باتفاقية السودان اهتمامهم باتفاقية مصر على عكس الأمر عندنا. فهم يودون بلهف شديد عقد تسوية معنا بشأن مصر فقط لجعل مركزهم فيها شرعيا، ولا يهتمون بمسألة الاتفاق على السودان أقل اهتمام.
فإذا رضينا أن نؤجل المسألة السودانية نكون بذلك قد اتبعنا خطة تفضي إلى الغاية التي يعمل لها الإنكليز، بل نكون كأننا نعمل ليقضي الإنكليز لبانتهم فتقبر مسألة السودان ولا يمكننا بعثها من مرقدها بالتحفظات التي تكون في أيدينا مهما كانت قوية.
وإني أحب أن يعلم الإنكليز أن شدة اشتياقنا لحل مسألة مصر، وأن التجارب التي مرت، تقضي علينا أن نأبى ونرفض رفضا باتا أن ندخل معهم من جديد في مفاوضة بشأن مصر قبل أن يتفقوا معنا على مسألة السودان؛ لأنه خير لنا أن نظل على الحالة التي نحن فيها من أن نعقد اتفاقا لا ترد لنا حقوقنا في السودان فيه بالفعل. (5) رأي الجمعية التشريعية
كانت الجمعية التشريعية نوعا من المجالس التمثيلية محدود الاختصاص، لم تتجاوز السنة الأولى من حياتها سنة 1914، ثم عطلت بسبب الحرب الكبرى. وبعد قيام الحركة الوطنية سنة 1919 نشط أعضاؤها. ورأوا أن يجتمعوا بالرغم من تعطيلها.
ولما كان اجتماعهم في مكانهم الرسمي غير ميسور كأمر السلطة العسكرية البريطانية، وجهت الدعوة إلى الأعضاء للاجتماع في بيت الأمة «دار سعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري» يوم 9 مارس سنة 1920. فاجتمع منهم 51 عضوا في الموعد والدار المحددين. بحثوا في الحالة السياسية من كل وجوهها المختلفة. وننشر فيما يلي نص محضر هذه الجلسة:
في الساعة الرابعة والدقيقة عشرة من يوم الثلاثاء الموافق 18 جمادى الثانية سنة 1338 الموافق 9 مارس سنة 1920.
انعقدت الجمعية التشريعية بمنزل حضرة صاحب السعادة سعد زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية المنتخب ورئيس الوفد المصري، بحضور حضرات الآتية أسماؤهم: إبراهيم سعيد باشا، وحسين واصف باشا، وقليني فهمي باشا، وراغب عطية بك، وفتح الله بركات باشا، وحسين هلال بك، وحسن سيف أفندي، والدكتور محمد أمين بدر بك، ومحمود الأتربي باشا، والسعدي بشارة الطحاوي بك، وعمر مراد بك، ومتولي حزين بك، وعمر خلف الله بك، وإبراهيم علي بك، ومحمد محمود بك، وحنفي منصور بك، ومحمد علام بك، وعلي المنزلاوي بك، وسينوت حنا بك، ومحمد رشوان بك الزمر، وإسماعيل أباظه باشا، ومحمود أبو حسين باشا، وعبد اللطيف الصوفاني بك، والشيخ محمد شاكر، ومحمد السيد أبو علي باشا، وعبد الرحمن عوض بك، والشيخ عبد الفتاح الجمل، وعلي شعراوي باشا، وحافظ المنشاوي بك، وأمين سامي باشا، ومنصور يوسف باشا، ويوسف أصلان قطاوي باشا، وزكريا نامق بك، وعبد السلام العلايلي بك، ومحمد كمال أبو جازية بك، وعلوي الجزار بك، ومحمد أمين أبو شنب بك، ومحمود همام بك، ومحمد محفوظ باشا، وعبد الرحمن محمود بك، ومشيل لطف الله بك، ومحمد المنياوي بك، ومحمد علي سليمان بك، والمصري السعدي بك، ومصطفى بكير بك، ومحمد عزام بك، وكامل صدقي بك، وحسين الشريعي بك، ومحمد عبد الخالق مدكور باشا.
وقد انتخب لرياسة الجلسة حضرة صاحب السعادة إبراهيم سعيد باشا بصفته أكبر الأعضاء سنا ولأعمال السكرتارية حضرات فتح الله بركات باشا، وحسين هلال بك، ومحمد عبد الخالق مدكور باشا بالإجماع.
وبعد ذلك أعلن سعادة الرئيس افتتاح الجلسة، واقترح محمد عبد الخالق مدكور باشا إيقاف الجلسة خمس دقائق حدادا على من انتقل إلى رحمة الله من أعضاء الجمعية في مدة عطلتها، فأوقفت الجلسة خمس دقائق.
أعيدت الجلسة، وتلا سعادة فتح الله بركات باشا اعتذارات واردة من أصحاب السعادة والعزة أحمد مظلوم باشا رئيس الجمعية على لسان صاحبي السعادة إبراهيم سعيد باشا، وفتح الله بركات باشا، اللذين دعياه لحضور الجمعية، وطلبة سعودي باشا، ومحمد شريعي باشا، ومرقس سميكة باشا، ومحمد عثمان أباظة بك.
وكذلك تليت جملة تلغرافات واردة من جهات متعددة من أعيان ووجوه القطر بإظهار شعورهم نحو الجمعية وتضامنهم معا، واحتجاجهم على المشروعات التي آلمت الأمة.
ثم تباحثت الجمعية فيما عرض عليها من اقتراحات حضرات الأعضاء، وقررت ما يأتي:
أولا:
أن الجمعية التشريعية تعتبر الحماية التي أعلنتها إنكلترا، من تلقاء نفسها على مصر، عملا باطلا لا قيمة له من الوجهة القانونية.
ثانيا:
تقرر الجمعية أن البلاد المصرية، التي تشتمل مصر والسودان مستقلة استقلالا تاما وفاقا لقواعد الحق والعدل والقانون، وكل مظهر من مظاهر اعتداء القوة على هذا الاستقلال لا يؤثر وجوده من الوجهة القانونية، وليس من شأنه إلا أن يزيدنا تمسكا به.
ثالثا:
تحتج الجمعية على تعطيلها وعلى كل القوانين والنظامات التي وضعت في أثناء تعطيلها لصدورها من غير عرضها عليها.
رابعا:
تحتج على كل الاعتداءات التي أصابت البلاد وأبناءها، سواء كان الاعتداء واقعا على النفس أم المال أم أي نوع من أنواع الحرية.
خامسا:
تحتج على البدء في مشروعات ري السودان، وتطلب وقف هذه المشروعات وقفا تاما حتى يبت في المسألة المصرية ويعرض الأمر على الهيئة النيابية التي تمثل البلاد بجميع أجزائها، وذلك للأسباب الآتية: (أ)
لأن مصر والسودان كل لا يقبل التجزئة. وكل مشروع يتعلق بهما لا يجوز تنفيذه قبل أن توافق الأمة عليه. (ب)
لأن هذه المشروعات لم تلاحظ فيها مصلحة السودان منفردا ولا مصلحة مصر وحدها ولا مصلحة الاثنين معا. وقد قامت عليها اعتراضات فنية واقتصادية وسياسية وصحية من كثيرين، ومنهم رجال من الإنكليز ذوي المكانة الذين أثبتوا أن كل هذه المشروعات ضارة بالبلاد وأنه لم يقصد بها سوى مصلحة الأجنبي وفائدة أصحاب رؤوس الأموال والشركات من الإنكليز.
سادسا:
قررت أن كل عمل قامت أو تقوم به الهيئة الحاكمة، ويكون فيه مساس بالاستقلال التام لمصر أو السودان أو مصالحهما، يعد لغوا ولا يلزم الأمة في شيء ما؛ فالأمة وحدها صاحبة الشأن في تقرير كل ما يتعلق بأمورها الحاضرة والمستقبلة.
سابعا:
تقرير الجمعية إبلاغ هذه القرارات إلى الجهات الآتية: (1)
الوفد المصري في باريس. (2)
رياسة مجلس الوزراء. (3)
قناصل الدول في مصر. (4)
الصحف المصرية. (5)
كبريات الصحف الأجنبية خارج القطر. (6)
سكرتارية الجمعية التشريعية لحفظه بسجلاتها.
ثامنا:
إرسال تلغراف لسعادة رئيس الوفد المصري بباريس لشكر الوفد على ما قام به من الأعمال.
تلي المحضر وتصدق عليه.
وانتهت الجلسة حيث كانت الساعة السابعة والدقيقة 45 مساء. ويلي ذلك إمضاءات جميع الأعضاء الحاضرين. ا.ه.
وكان هذا الاجتماع اجتماعا تاريخيا هاما. (5-1) أمر عسكري من اللورد اللنبي
وقد أصدر اللورد اللنبي أمرا عسكريا بمنع اجتماع النواب إلا بأمر رسمي منه .
وهذا هو نص الأمر العسكري الصادر في 16 مارس سنة 1920.
أنا الموقع أدناه أدمند هنري هيمن فيكونت اللنبي، بمقتضى السلطة المخولة لي بصفة كوني فيلد مرشال قائدا عاما لقوات جلالة الملك في القطر المصري، أصرح وأعلن ما يأتي:
ممنوع كل اجتماع للجمعية التشريعية أو لأي مجلس مديرية أو لأي هيئة منتخبة وكل اجتماع من أعضاء تلك الهيئات، بصفتهم أعضاء فيها، ما لم يكن ذلك بمقتضى الشروط المنصوص عليها في القوانين واللوائح الخاصة بها.
ويشمل هذا المنع كل اجتماع من هيئتين أو أكثر من الهيئات المنتخبة ومن أعضاء هيئتين أو أكثر من تلك الهيئات بصفتهم أعضاء فيها ما لم يكن مرخصا بهذا الاجتماع ترخيصا صريحا بمقتضى القانون.
وكل مخالفة للأحكام المتقدمة تقع تحت طائلة الأحكام العسكرية.
وكل قرار تأخذه، أو توافق عليه، إحدى الهيئات المنتخبة في أي موضوع خارج عن اختصاصها، يكون ملغى ولا يعمل به. وجميع الأعضاء الذين يكونون قد وافقوا على ذلك القرار يكونون عرضة للمحاكمة أمام مجلس عسكرى.
في 16 مارس سنة 1920.
الإمضاء: اللنبي «فيلد مرشال» (6) برقية سعد زغلول باشا
فيما يلي البرقية التي أرسلها (حضرة صاحب المعالي) سعد زغلول باشا رئيس الوفد المصري من باريس:
إن أعضاء الجمعية التشريعية قد أدوا الواجب المقدس باعتبارهم الحماية باطلة قانونا وإعلانهم استقلال مصر والسودان. (7) رأي مجلة الفجر
قالت مجلة الفجر عن مستقبل السودان ما يلي:
إن الجيل الذي ابتدأت حياته بالفتح الإنكليزي المصري للسودان، عقب الثورة المهدية، لهو الجيل الذي يمثل الكتلة الحية الناطقة في السودان الفتي. وكلية غوردون التذكارية كانت المعمل الذي كيفت فيه المادة البشرية لتسد أولا حاجة دواوين الحكومة، ولتتقلد ثانيا القيادة في الحياة الاجتماعية والفكرية للبلاد.
ولسنوات مضت، كان خريجو كلية غوردون التذكارية يعملون في دواوين الحكومة فقط ليكفوا حياة ذويهم وأنفسهم. لقد كان ذلك جميلا وحسنا؛ لأن كسب العيش أول الواجبات في المجتمع وتأسيس الأسرة المنظمة ضمان لخير أساس تقوم عليه جماعة متمدينة. إن نظرتهم للحياة لم توجد، وإذا وجدت فلم تكن معروفة لهم جميعا كأعضاء مجتمع واحد يعملون لخير أمتهم. ولم يقوموا بأية محاولة لكشف النقاب عن مستقبل بلادهم في الاجتماع والسياسة. بل لم يفكروا في تحسين مستواهم في حكومة البلاد ليس كموظفين فحسب، بل كشريك ثالث فعال في مثلث القوى المتعادل الذي ناتجه هذه الهيئة السياسية العامة المعروفة «بالسودان».
وحكومة السودان أول تجربة من نوعها في السياسة الدولية. والحكومة الثنائية التي تسير حسب بنود الاتفاقية الإنكليزية المصرية لعام 1899، والتي أعطت حكومة صاحبة الجلالة البريطانية حق الحكم في السودان على قاعدة استشارة سمو خديوي مصر، أما كان لها أن تعتبر حقوق الشريك الثالث، أهل البلد: الطبقات العاملة الدافعة للضرائب، والذين يجب أن تكون لهم كلمة في تكييف مصيرهم.
إن جيلنا هو الكتلة الحية الناطقة في السودان الفتي. ونحن نطمح لنميز أنفسنا باتخاذ نظرة خاصة للحياة: سياسيا واجتماعيا وأدبيا. إننا في مفترق الطرق. فإما أن نسلك الطريق القويم وإما أن نضل السبيل. ونحن لا نحمل عداء للهيئة الحاكمة ولا للدخلاء ولا لأساطين مجتمعنا - في القبائل أو الدين - فرادى أو مجتمعين، ما داموا يعملون جميعهم في تجاوب ولخير هذا البلد. وسنكون دائما أصفياء متعاونين؛ ولننفذ هذا المبدأ ونحافظ عليه ينبغي أن نكون صريحين ومفصحين. ينبغي أن نوضح نظرتنا، وليتأكد الجميع أننا سنعمل بها.
قد يسأل سائل: لماذا نذيع نظرتنا في الصحافة؟ ولماذا لا نحتفظ بتجاربنا لأنفسنا؟
والجواب على ذلك أنه مما يساعد غرضنا في الحياة أن نعرف كيف ينظر الآخرون إلى الحياة، وماذا ينتظرون منها، وماذا يجدون فيها وما الذي لا يجدون ... وفى الناحية الأخرى لنوقفهم على مهمتنا. ولنتحدث إذا بجلاء عن ماهية نظرتنا ليساعدهم على أغراضهم.
لقد جاء الأوان الذي ينبغي أن تبدأ فيه الحكومة - بما لها من الوصاية - لتعطي الوطني الفرصة لكسب الصفات اللازمة للحكم الذاتي، إننا ننظر للحكومة كهيئة نظامية جاءت لخلاصنا وإرشادنا. ونطلب منها المكانة الثانية في الدواوين مباشرة بعض كبار الموظفين البريطانيين لنتصل اتصالا مباشرا بمعضلات المسائل في حكم البلاد ولنشترك في تقرير مصيرنا. وسيكون واجبنا مشاطرة البريطانيين أعباء المسئولية في الحاضر وتأهيل أنفسنا للغد. ولربما نبدأ بالسؤال الآتي: «أليس في نظام الإدارة الأهلية الأساس الصحيح للحكم الذاتي؟» وجوابنا على ذلك أن الإدارة الأهلية محتمل فشلها ما دامت في أيدي الجهلاء، حيث لا نراها إلا ظلا زائفا من العهد الإقطاعي. وإذا قدر للإدارة الأهلية أن تبقى فينبغي أن تكون في أيدي الجيل المتعلم.
إننا نرى أن الإدارة الأهلية قائمة على النعرة القبيلية والأرستقراطية الدينية، والنعرة القبيلية والأرستقراطية الدينية لسنا في حاجة لنقول إنهما مصدر الكثير من مصائبنا. وإنهما بمثابة الطوائف في الهند، ولهذا السبب نحن لا نعمل على وفاق، والقوى دائما متوزعة في جهات متضادة. وإننا لننظر للنعرة القبيلية والأرستقراطية الدينية بعين الوطني المخلص الذي يريد أن يتخلص من أخطاء الماضي وأن يعبد الطريق لمستقبل زاهر.
وإنا لننتوي الانتفاع بتجارب الماضي والحاضر على ضوء العلم والبحث الحديثين. وسندرس بإمعان تقاليد الماضي وعادات الأهالي وأعمال الحكومة، وسنقدر ونساعد ما يتفق منها ومثلنا العليا، وسنودع ما نرى فيه نقصا لمجتمعنا وما سيقعد بأغراضنا. ونظرتنا في الحياة أن نخلق عناصر جديدة من مخلفات الماضي. والتسامح والإخلاص والتجديد يتكون منها شعار جيلنا.
وجاء في مجلة الفجر أيضا ما يلى:
قبل أعوام كانت تتجه سياسة الحكومة لتقسيم السودان إلى مقاطعات كبرى تحوي كل واحدة منها اثنتين أو ثلاثا من المديريات الحالية، غير أن هذه السياسة لم يبدأ بتنفيذها إلا قبل عام واحد، حيث أدمجت مديرية حلفا ومديرية دنقلا ومديرية بربر، وأسميت بالمديرية الشمالية، وقلنا: لعل تلك خطوة لا ثانية لها، ولكن سرعان ما أدمجت مديرية الفنج في مديرية النيل الأزرق، وأسميت بمديرية الجزيرة، فقلنا: لعل مصالح الري ونظامه وطبيعة البلاد دعت إلى هذا الاندماج، والآن وصل إلى أسماعنا خبر اندماج مديرية بحر الغزال ومديرية منجلا، وسميت بمديرية خط الاستواء، ومن هنا علمنا أن سياسة الاندماج أخذت في التنفيذ الجدي، ولعل وراء هذه السياسة خطة جديدة للحكم نستطيع أن نتكهن عنها، فلربما في النية تقسيم السودان إلى خمسة أو ستة أقسام كبرى يكون لكل منها مدير إنكليزي وأمير من الوطنيين؛ فتنفذ بذلك السياسة المتبعة في الهند أو في نيجريا. وقد يتبع ذلك انفصال السياسة في كل مقاطعة عن المقاطعة الأخرى بأن يكون نظام التعليم فيها غير متصل بنظام التعليم في المقاطعات الأخرى، وتكون ميزانيتها وماليتها غير مرتبطة بميزانيات وماليات المقاطعات الأخرى، وهذه السياسة قد تنتج نتاجا حسنا في بعض المقاطعات، ولكنها ستكون سيئة العواقب في بعضها، وستكون سبيلا لتوتر الصلات بين أفراد القطر، فلا يشعر من في هذه المقاطعة بما يحسه من في المقاطعات الأخرى. وأول بوادر هذه السياسة ما سمعناه عن أن مدير المديرية الشمالية طلب أن تكون في المديرية مدرسة وسطى واحدة كبيرة بدلا من الثلاث مدارس التي في حلفا وبربر وعطبرة، وفي مثل هذا التصريف إضرار بالتعليم؛ لأن من السهل أن يعلم من في حلفا ابنه في مدرسة حلفا، ولكن إذا انتقلت المدرسة إلى بربر مثلا فلن يكون من السهل تعليم ابنه في بربر.
ونحن نترك هذا الموضوع ليفصل فيه الزمن، ونرجو حكومتنا أن تفعل ما فيه خير الأمة كوحدة لا تتجزأ. (8) تقرير السير جيمس كري
ونشرت الجمعية الإفريقية البريطانية مؤخرا تقريرا هاما رفعه إليها السير جيمس كري - وهو الذي كان ناظرا لكلية غوردون ومديرا للتعليم بالسودان من سنة 1900 إلى سنة 1914، والآن مدير النقابة الإمبراطورية لزراعة القطن - عن شؤون التعليم وإدارته في السودان في الحقبة الأخيرة، غير أن السير جيمس - وهو من ذوي الخبرة العظيمة بأحوال السودان - تناول في تقريره الإدارة العامة في السودان، وأبدى ما عن له من الانتقادات والملاحظات في صراحة من شأنها أن تجلو الموقف الحاضر، وتدل على فشل السياسة التي قضت بإقصاء المصريين عن السودان في السنوات الأخيرة، وقد رأيت أن أدون هنا بعض الفقرات الواردة في هذا التقرير مما له مساس بالتطور الأخير في السودان.
بعد أن أسهب السير جيمس كري في وصف نظام التعليم بالسودان حتى نشوب الحرب العالمية، انتقل إلى الكلام على الإدارة في السودان بعد سنة 1919 حين انتهت مدة خدمة السير ريجنالد ونجت المعتمد البريطاني في مصر، وذكر أنه بعد سنة 1922 أصبح اهتمام الخزينة البريطانية باستغلال السودان عظيما. وأصبح مجموع الفوائد التي يدفعها السودان (بحسب آخر تقرير للسير جون مافي حاكم السودان السابق) 976160 من الجنيهات، وهذا لا يدخل فيه حق الطرف المصري في المطالبة بفوائد الأموال التي قدمها ولم تدفع عنها فوائد في يوم من الأيام، مع أن فضل مصر العظيم لا ينكر؛ فقد قامت بالمساعدة الجليلة، ولا تزال تقوم بها، بالأموال التي تدفعها إلى السودان.
وتكلم عن المدرسة الطبية في السودان فقال: «أنشئت مدرسة السودان الطبية في سنة 1924، فكانت حجرا جديدا في بناء أمة السودان، وأحرزت هذه المدرسة - التي تخرج الأطباء السودانيين - نجاحا باهرا. غير أن تطور السياسية البريطانية في مصر منذ سنة 1922 كان له تأثير ورد فعل لا بد منهما في السودان. ولما قتل السير لي ستاك في أحد شوارع القاهرة اتخذت بريطانيا تدابير حكيمة أو غير حكيمة، ولكنها اشتملت على إخلاء الجيش المصري للسودان وإخراج جميع المصريين الموظفين في الوظائف المدنية، وياللأسف طغت هذه السياسة على شؤون التعليم في السودان، فأقصي عنها المصريون، وفقد السودان بذلك خير الأساتذة المهرة المدربين، ثم يقول السير جيمس كري: «وأنا أقول عن علم ويقين إن الأساتذة المصريين لم تكن لهم جريرة أو إثم يبرر إخراجهم؛ فإنهم كانوا مخلصين في خدمة حكومة السودان التي يشتغلون في ظلها. وأريد في هذا المقام أن أثني خير الثناء على العمل العظيم الذي قام به المصريون، وأسجل هنا اقتناعي بأنه لولا مساعدة المصريين لكانت نهضة التعليم - لا بل سائر الإدارات العامة في السودان - أمرا مستحيلا.» «ثم ألغيت مدرسة الخرطوم العسكرية التي كان يتعلم فيها الضباط السودانيون ليلتحقوا بالجيش المصري بعد إتمام دراستهم في كلية غوردون، وبعد إلغائها غير نظام القوات العسكرية، وأصبح تعيين الضباط من تحت السلاح، وهذا أعتبره خطوة إلى الوراء؛ لأن ذلك النظام لا يتفق واستعدادات الأهالي العرب، وهو على الضد من التقاليد السودانية، وكان الأجدر إبقاء مدرسة عسكرية لتدريب الضباط من الشبان.»
ثم أنحى السير جيمس على بقاء أورطة ثانية إنكليزية في السودان فقال: «قد حضرت إلى السودان فرقة إضافية من الجنود البريطانيين استعدادا للطوارئ عام 1924، ولكنها بقيت وأضيفت إليها قوة من سلاح الطيران البريطاني، ومهما تكن مزايا الوحدات البريطانية فإن النفقات الباهظة التي تصرف عليها لا شك ترهق مالية السودان، «وما من أحد يريد الخير للسودان إلا ويتمنى من جميع الوجوه إزالة الأورطة الثانية البريطانية، فضلا عن أن هناك حقيقة لا يمكن إغفالها؛ وهي أن السودان يستحيل أن يكون مركزا صالحا لإقامة الجيوش البريطانية».
ثم إن تقدم السودان الاقتصادي بسبب ري الجزيرة أدى إلى استحضار عدد من الموظفين البريطانيين من جميع الدرجات. وقد كانت وفاة السير لي ستاك - بلا ريب - خسارة عظمى للسودان، ولو عاش لما حدثت الزيادة المطردة في الموظفين البريطانيين؛ لأنه كان أعلم الناس بضرر هذه السياسة في مصر.
ثم قال السير جيمس كري: «وقد لبيت دعوة حكومة السودان سنة 1929 لحضور افتتاح خزان النيل الأزرق، ولاحظت تغيرا في موقف كبار الموظفين الإنكليز في السودان بإزاء التعليم، وأن الاهتمام بشؤونه قد قل. وتأكدت من ذلك لما زرت السودان لآخر مرة في سنة 1932، ووجدت التعليم في تقهقر، وكنت قد تلقيت خطابا من الدكتور ماكين ناظر مدرسة الهندسة بالسودان يشكو فيه إهمال حكومة السودان لهذه المدرسة، ويقول: إن حكومة السودان عرضت نفسها لتهمة تأخير التعليم الفني الراقي في السودان.»
ثم ينادي السير جيمس كري في آخر تقريره بضرورة إحياء المدرسة الحربية وإنشاء مدرسة للحقوق ومدارس للزراعة، ثم ضرورة تعمير جنوبي السودان؛ فإن أمد إهماله طال إلى حد يعوق نهضة السودان الاقتصادية. ثم يقول في النهاية: «ولعل جريدة «التيمس» لا تترجم إلى العربية في السودان ، وإلا لكان السودانيون يطلعون فيها على آراء الساسة الإنكليز الواقفين على أحوال السودان، والذين ينادون بوجوب إجراء إصلاح واسع النطاق لإنعاش السودان، وإلا فإن السودانيين، تحت ضغط آلامهم وما يقاسونه، يتنبهون وتقوى فيهم ملكة انتقاد السياسة التي تجرى عليهم، وإن تطور الحالة السياسية في السودان قد حرم السودان من المساعدة السخية التي كانت تقوم بها مصر في الزمن الماضى. ا.ه.» (9) رأي المؤلف
والذي نعتقده بالرغم مما حدث ولما تقدم، بأن الارتباط بين مصر والسودان قد أصبح وثيقا، بسبب إنشاء خزان جبل الأولياء، ومشروع وزارة الأشغال في إنشاء خزان أو حفر ترعة عند منطقة السدود، ولحملها على الاشتراك في إنشاء خزان تانا بالحبشة؛ لأن ملايين الأفدنة المصرية ستعتمد على الري بهذه المشروعات، ولأن هناك ملايين المصريين الذين سيعولون عليها في حياتهم ورزقهم.
ومن جهة أخرى فإن استتباب الأمن في السودان يهم مصر جدا؛ لأن اضطرابه يؤثر في أمن مصر ورخائها.
وقد علمت أن سير «جون مافي» الحاكم العام للسودان سابقا ووكيل وزارة المستعمرات البريطانية الآن قد بحث المسألة مع الموظفين الإنكليز بالخرطوم ومع الحكومة البريطانية ومع الممولين الإنكليز - وانتهت بحوثه بأنه ليس هناك أمل في الوقت الحاضر في أن تشترك إنكلترا بأموالها في تعمير السودان أكثر مما فعلت.
بالإنفاق على جيشها المحتل وعلى أراضي الجزيرة.
ومن ثم اتجهت أفكار ولاة الأمور الإنكليز إلى فتح الباب للمصريين للمعاونة بأموالهم في تعمير السودان.
وأعتقد أن مسألة السودان قد أصبحت أقرب إلى الحل بالمفاوضات بين مصر وإنكلترا مما كانت عليه سنة 1930 وقبلها.
وأرى أن مسألة السودان يجب حلها في الخرطوم نفسها، وأدعو كل سياسي مصري ليزور السودان وليبحث تاريخه وجغرافيته قبل المفاوضة، وأعتقد أن مسألة السودان قد صورت بصورة غير حقيقية في أثناء المفاوضات الماضية، وأن الإنكليز قد غالوا في تصور أن السودان يستطيع أن يعيش مفصولا عن مصر، وأن يتقدم مستقلا عنها، فلقد ثبت أخيرا أن السودان لا يستطيع أن يحيا، فضلا عن أن ينمو ويتقدم، بغير أموال مصر ورجالها، وأن السودان عبء على من يحكمه وليس من موارد الثروة.
على أنه إذا قدر للسودان أن يعود إلى الحظيرة المصرية الخالصة، فقد يكون من الفائدة أن توضع له إدارة تختلف اختلافا موضعيا عن الإدارة المصرية، وأن تكون جزءا منها في المسائل العامة؛ لأن للسودان ظروفا خاصة، ولأن في بعده عن القاهرة ما يدعو إلى نظام اللا مركزية بين مصر والسودان.
على أننا، نرجو للسودان ولإخواننا السودانيين حياة سعيدة ومستقبلا زاهرا. (10) الوزارات المصرية من أول نشأتها إلى الآن
فيما يلى ننشر أسماء الوزارات التي تولت الحكم فى مصر منذ إنشاء الخديوي إسماعيل مجلس النظار فى سنة 1878 حتى الآن:
الوزارة
تاريخ تأليفها
مدة حكمها
يوم
شهر
سنة
في عصر الخديوي إسماعيل
نوبار باشا الأولى
28 أغسطس سنة 1878
13
6
الأمير محمد توفيق باشا
10 مارس سنة 1879
28
محمد شريف باشا الأولى
8 إبريل سنة 1879
25
2
في عصر الخديوي توفيق
شريف باشا الثانية
3 يولية سنة 1879
16
1
الخديوي توفيق
18 أغسطس سنة 1879
14
1
رياض باشا الأولى
11 سبتمبر سنة 1879
18
11
1
شريف باشا الثالثة
14 سبتمبر سنة 1881
20
4
محمود سامى باشا
4 فبراير سنة 1882
11
4
إسماعيل راغب باشا
20 يونية سنة 1882
12
2
شريف باشا الرابعة
28 أغسطس سنة 1882
0
4
1
نوبار باشا الثانية
10 يناير سنة 1884
5
4
رياض باشا الثانية
10 يونية سنة 1888
4
11
2
مصطفى فهمي باشا الأولى
14 مايو سنة 1891
4
8
في عصر الخديوي عباس حلمي
مصطفى فهمي باشا الثانية
17 يناير سنة 1892
28
11
فخري باشا
15 يناير سنة 1893
2
رياض باشا الثالثة
19 يناير سنة 1893
27
2
1
نوبار باشا الثالثة
16 إبريل سنة 1894
26
6
1
مصطفى فهمي باشا الثالثة
12 نوفمبر سنة 1895
13
بطرس غالي باشا
12 نوفمبر سنة 1908
11
3
1
محمد سعيد باشا الأولى
23 فبراير سنة 1910
10
1
4
حسين رشدي باشا الأولى
5 إبريل سنة 1914
14
8
في عصر السلطان حسين كامل
حسين رشدي باشا الثانية
19 ديسمبر سنة 1914
22
9
2
في عصر السلطان فؤاد
حسين رشدي باشا الثالثة
10 أكتوبر سنة 1917
6
1
حسين رشدي باشا الرابعة
9 إبريل سنة 1919
12
محمد سعيد باشا الثانية
21 مايو سنة 1919
6
يوسف وهبة باشا
21 نوفمبر سنة 1919
6
محمد توفيق نسيم باشا الأولى
22 مايو سنة 1920
25
9
عدلي يكن باشا الأولى
17 مارس سنة 1921
9
9
في عصر الملك فؤاد الأول
عبد الخالق باشا ثروت الأولى
1 مارس سنة 1922
29
8
محمد توفيق نسيم باشا الثانية
30 نوفمبر سنة 1922
15
3
يحيى إبراهيم باشا
15 مارس سنة 1923
13
10
سعد زغلول باشا
28 يناير سنة 1924
27
9
أحمد زيور باشا الأولى
24 نوفمبر سنة 1924
19
3
أحمد زيور باشا الثانية
13 مارس سنة 1925
25
12
عدلي يكن باشا الثانية
7 يونية سنة 1926
11
10
عبد الخالق ثروت باشا الثانية
26 إبريل سنة 1927
20
10
مصطفى النحاس باشا الأولى
17 مارس سنة 1928
8
3
محمد محمود باشا
27 يونية سنة 1928
5
3
1
عدلي يكن باشا الثالثة
4 أكتوبر سنة 1929
27
2
مصطفى النحاس باشا الثانية
2 يناير سنة 1930
16
6
إسماعيل صدقي باشا الأولى
20 يونية سنة 1930
4
6
2
إسماعيل صدقي باشا الثانية
4 يناير سنة 1933
19
8
عبد الفتاح يحيى باشا
27 سبتمبر سنة 1933
9
1
1
محمد توفيق نسيم باشا الثالثة
15 نوفمبر سنة 1934
هوامش
تصدير
مقدمة
عبد الله حسين كما عرفته
كلمة المؤلف
1 - سكان السودان
2 - ممالك السودان
3 - مصر الفرعونية في السودان
4 - مصر والسودان
5 - السودان في العصر الروماني
6 - تاريخ النوبة
7 - الحكومات العربية الإسلامية في السودان
8 - العباسيون والفواطم والإخشيديون والمماليك
9 - مملكة سنار
10 - الأتراك والكشاف الأتراك
11 - سلطنة الفور
12 - فتح محمد علي للسودان
13 - السودان بعد محمد علي
14 - السودان في عهد سعيد باشا
15 - السودان في عهد إسماعيل
16 - بعثات الكشف عن السودان ومنابع النيل
17 - حكمدارو السودان
18 - في عهد الحكم المصري
19 - الحكم المصري في السودان
20 - النزاع بين مصر والحبشة
21 - تجارة الرقيق ومنعها
22 - الثورة المهدية
23 - شريف باشا والسودان
24 - عودة غوردون باشا إلى السودان
25 - مسألة المهدي المنتظر
26 - محمد أحمد المهدي
27 - وقائع المهدي وانتصاراته
28 - الخليفة عبد الله التعايشي
29 - المسألة الحبشية وجارات السودان
مراجع الكتاب ووثائقه
تصدير
مقدمة
عبد الله حسين كما عرفته
كلمة المؤلف
1 - سكان السودان
2 - ممالك السودان
3 - مصر الفرعونية في السودان
4 - مصر والسودان
5 - السودان في العصر الروماني
6 - تاريخ النوبة
7 - الحكومات العربية الإسلامية في السودان
8 - العباسيون والفواطم والإخشيديون والمماليك
9 - مملكة سنار
10 - الأتراك والكشاف الأتراك
11 - سلطنة الفور
12 - فتح محمد علي للسودان
13 - السودان بعد محمد علي
14 - السودان في عهد سعيد باشا
15 - السودان في عهد إسماعيل
16 - بعثات الكشف عن السودان ومنابع النيل
17 - حكمدارو السودان
18 - في عهد الحكم المصري
19 - الحكم المصري في السودان
20 - النزاع بين مصر والحبشة
21 - تجارة الرقيق ومنعها
22 - الثورة المهدية
23 - شريف باشا والسودان
24 - عودة غوردون باشا إلى السودان
25 - مسألة المهدي المنتظر
26 - محمد أحمد المهدي
27 - وقائع المهدي وانتصاراته
28 - الخليفة عبد الله التعايشي
29 - المسألة الحبشية وجارات السودان
مراجع الكتاب ووثائقه
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الأول)
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الأول)
تأليف
عبد الله حسين
حضرة صاحب السمو الأمير العظيم عمر طوسون صاحب الفضل العظيم في توثيق العلاقات بين مصر والسودان.
تصدير
بقلم حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون
تفضلتم فأطلعتمونا على أكثر موضوعات كتابكم عن السودان قبل تمام طبعه، فدلنا الكثير الذي فرغتم منه على القليل الباقي الذي تعملون فيه، وخرجنا من هذا الاطلاع مقتنعين بعظم ما تبذلون في إخراجه من البحث والتحري، مع الإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه، وهذا العمل المفيد والصنيع الحميد هو بلا شك وليد سفركم بالبعثة الاقتصادية المصرية إلى السودان، التي كنتم عضوا من أعضائها.
نعم، إننا نعد هذا الكتاب الجليل المحيط بتاريخ السودان المصري، من ألفه إلى يائه، من ثمرات هذه البعثة، ونتفاءل بأن ثمارها الجنية ستتكاثر وتنمو وتنضج على ممر الأيام والسنين، وتعم القطرين جميعا، وإذا قدرنا هذه الثمرات المنتظرة بهذه الثمرة، وقسناها عليها، ذهب بنا الخيال كل مذهب في تصور فوائد هذه البعثة المباركة، أما إذا جاءت الحوادث بغير ما نشتهي، وجرت الأمور على غير ما نحب، ولم يكن لهذه البعثة ما قدرناه، وعصفت السياسة الإنجليزية مرة ثانية بهذه الآمال، وقطعت علينا هذه الأحلام اللذيذة، فإن كتابكم سيبقى حجة ناطقة على هذه السياسة الغاشمة، وسيكون دليلا جديدا على التواء سبلهم، وأنهم حقا عقبة في كل سبيل، وبلاء على كل أمة منيت بتسيطرهم ليس كمثله بلاء؛ بلاء شامل ماحق لكل خير، لا لشيء سوى العدوان وحب الأثرة والإضرار بالشعوب التي تقع تحت نيرهم.
وبعد، فلا مراء في أن المصريين خليقون بتعرف أحوال السودان، حريون بقراءة تاريخه، ومعرفة ما جرى عليه، وما هو فيه، ما داموا متعلقين به، وهم لا غنى لهم عن هذا التعلق، ولا مندوحة لهم عن ذلك الارتباط؛ فإن الطبيعة قضت به فأصبح حاجة من حاجهم، لا سبيل لهم إلى التخلص منها.
وإذا كان هذا شأن السودان منهم، وجب عليهم أن يعرفوه، ويلموا بحوادثه الماضية والحاضرة، ويقرءوا ما كتب عنه، ووجب على القادرين من كتابهم ومؤرخيهم أن يسعفوهم بهذه الطلبة، ويقدموا لهم الغذاء وينوعوه لهم؛ ليقبلوا عليه، ويأخذ كل منهم ما يستطيبه منه.
وقد انقضت حقبة طويلة لم يخرج فيها أحد من المصريين كتابا عن السودان يعتد به ويستحق أن يطلق اسم الكتاب عليه، وانقضت عدة من السنين على ما ألف في شأنه وكتب عنه، حتى نفدت نسخه أو كادت، وأصبحت من الندرة بحيث لا تعثر عليها الأيدي عند الوراقين وباعة الكتب، وإذا وجدها راغب منهم لم يحصل عليها إلا بالثمن الغالي، وهي مع ذلك قد فاتها بطبيعة وضعها من عشرات السنين ذكر ما حصل بعد وضعها، وتدوين الحال التي عليها السودان الآن؛ خصوصا من الوجهتين السياسية والاقتصادية.
وإننا لا نريد أن نفاضل بينها وبين كتابكم؛ إذ يكفيه أن يكون حاويا لما لم تحوه من مباحث وفصول، وأنه مؤلف حديث وضع على النمط الحديث، ودعم بالوثائق والأسانيد، وعزي أغلب ما فيه إلى مصادره، وهذه المزية الأخيرة لا نزاع في أنها مزية كبيرة في المؤلفات التاريخية خاصة؛ لأن هذا العلم ليس ككل العلوم، بل هو علم متجدد ما تجددت الحوادث، فالشأن فيه أن يتجدد فيه التأليف ويتنوع، وقد أصبح ما كتب فيه حديثا أفضل مما كتب فيه قديما، وإن كان هذا الحديث لا غنى له عن ذلك القديم.
وهذا الفضل يرجع للمزايا التي اعتمد عليها المؤلفون المتأخرون في وضع هذا العلم؛ فبعد أن كان روايات تروى محتملة للصدق والكذب، أصبح بهذه المزايا حقائق لا يتطرق إليها الشك.
فعلينا أن نرحب بكل جديد من التآليف التاريخية إذا اشتمل على هذه المزايا، وأن نشكر مؤلفه ونثني عليه؛ خصوصا إذا سد لنا فراغا كان يخشى أن يبقى ثلمة مفتوحة إلى ما شاء الله، وقيد لنا أوابد ربما ظلت شاردة عنا.
ومناط الرغبة في المؤلفات التاريخية وغيرها أن تكون الحاجة ماسة إليها؛ فإذا كان تعلقنا بالسودان متغلغلا في القلوب كما نزعم، فقيسوا ذلك بإقبال المصريين على كتابكم وتهافتهم على إحرازه وقراءته.
أما أنتم، فقد قمتم بالواجب، وحق لكم الشكر من المصريين والسودانيين جميعا؛ لإخراجكم هذا المؤلف العظيم، وتحملكم في تأليفه ما يعرفه المزاولون لصنعة التأليف من الجهد والمشقة والعنت، وبذلكم في هذا السبيل ثمين وقتكم ومالكم، وأما الأمة، فستجزيكم على ذلك بالإقبال على كتابكم، واستقباله بما هو أهل له من الحمد والثناء إن شاء الله.
مقدمة
لحضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك المدير العام للجمعية الزراعية الملكية
السودان!
السودان يحيط بنا أينما حللنا، ونراه ماثلا أمامنا أينما توجهنا، ونحس بوجوده في كل مرافقنا؛ فقد ملك علينا مشاعرنا، وارتبطت به اقتصادياتنا، واتصلت به مصائرنا.
ومنذ عادت بعثتنا من السودان واسم السودان ومصالحه ورجاله بين ظهرانينا؛ فنحن يوما نستقبل ضيوفنا من إخواننا السودانيين الكرام، ويوما آخر نحضر حفلة في الجمعية الزراعية أو النادي السوداني أو الغرفة التجارية، أو نحضر اجتماعا في وزارة التجارة والصناعة، ونتبادل المكاتبات بين القاهرة والخرطوم وما إليها، ونحن ننظر بلهفة واشتياق إلى اشتراك السودان لأول مرة في المعرض الزراعي الصناعي القادم، المقرر افتتاحه بالقاهرة في 15 فبراير سنة 1936.
لقد نجحت البعثة المصرية في مهمتها نجاحا باهرا، وفوق المنتظر؛ من ناحية توثيق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين مصر والسودان، ولكن لا يزال كل منا ومنهم يشعر بأن عليه الواجب لتحقيق النتائج التي أسفر عنها النجاح الأول المبارك.
وهل أدل على دقة الشعور بهذا الواجب والقيام بعبئه من ذلك السفر الجليل الجامع؛ (كتاب السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية)، الذي ألفه حضرة زميلنا الفاضل في البعثة وصديقنا الأديب المحبوب العالم الباحث الأستاذ عبد الله حسين المحامي والمحرر بجريدة (الأهرام الغراء)، وصاحب الجريدة القضائية؟
إني أكتب هذا وبين يدي كتاب كبير يقع في ثلاثة أجزاء، ويبلغ عدد صفحاته حوالى الثلثمائة والألف، وبه صور كثيرة يمر بها القارئ كأنما ينظر إلى شريط سينمائي يستعرض الحياة السودانية قديما وحديثا، استعراضا صادقا مفيدا وجذابا.
لقد عالج المؤلف النشيط في أجزاء كتابه الجليل تاريخ السودان منذ أبعد العصور؛ فذكر الحياة السودانية في عهد الفراعنة والرومان والبطالسة والعرب والأتراك والمماليك، وشرح الفتح المصري، وما كان من اهتمام محمد علي مؤسس الأسرة العلوية المالكة، واهتمام الأمراء بعده بالسودان؛ ولا سيما عصر إسماعيل الذهبي، الذي اتسعت في عهده حدود الدولة المصرية جنوبا، فشملت منابع النيل وبلادا أخرى أصبحت مستعمرات لدول أوربية.
كما أنه شرح الثورة المهدية، ذاكرا ما لها وما عليها، ومقدماتها ونتائجها، شأن المؤرخ المحقق الصادق واسع التفكير، والناقد البصير، ضاربا بتحليله البديع الأمثال لمؤرخي الثورة المهدية.
كما بسط لنا المؤلف تاريخ الممالك والسلطنات والإمارات والقبائل التي قامت في السودان، أما المسائل السياسية فقد عالجها ببحوثه القيمة، وربط الحوادث ببعضها البعض ربطا محكما، وحلل اتفاقية سنة 1899، التي هي أساس الحكم الحاضر في السودان، كما هي أساس العلاقات بين مصر والسودان، وكما كانت المحور الذي دارت عليه المفاوضات السابقة، وذكر لنا النصوص الخاصة بالسودان، الواردة في مشروعات الاتفاق بين مصر وإنجلترا جميعا، وما ورد بشأن السودان في تقارير الممثلين البريطانيين للدولة البريطانية، وما دونته تقارير الحكام العامين المتعاقبين على السودان ومن إليهم، وما ورد في محاضر هيئاتنا النيابية القديمة والجديدة من مناقشات خاصة بالسودان وحوادثه وميزانيته ومشروعات الخزانات والسدود والقناطر؛ سواء أكان ذلك على البحيرات التي ينبع منها النيل أم على فروعه، وعلاقة تفاتيش الري المصري بالسودان ونقطه، وعلاقتها بتلك الأعمال وما تصرفه مصر عليها.
ومن أبرز تلك الأعمال في الوقت الحاضر، إقامة خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض قبلي الخرطوم، تحت إشراف المهندس المقيم القدير عبد القوي أحمد بك، ومساعديه، والآلاف المؤلفة من العمال المصريين من الصعيد، الذين يشتغلون في إقامته، ويعاونهم في ذلك إخوانهم العمال السودانيون. •••
وعقد المؤلف فصلا ممتعا عن الجيش المصري قديما وحديثا، وحادث خروجه، وتأليف قوة الدفاع عن السودان، والاعتماد المخصص لها في ميزانية وزارة الحربية، ومناقشات البرلمان حول دفع هذا المبلغ.
ومما تقر له العين، وتستريح له النفس، أن يرى قارئ الكتاب ترجمة حياة ذلك الأمير العظيم حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، ثم يقرأ آراءه العالية - جلية واضحة وموضوعة في مناسباتها - ذلك الأمير الغيور على توثيق العلاقات بين مصر والسودان توثيقا علميا وعمليا، ولا ريب أن سموه قد أصبح حجة في تاريخ السودان وتطوراته، كما أصبح يضيء لنا الطريق في هذه المهمة النبيلة، وينبوعا يفيض بالخير والبركات على مصر والسودان والشرق جميعا.
ولم يفت المؤلف الأديب أن يبسط لنا شئون السودان الزراعية والاقتصادية والأدبية والاجتماعية، بسطا وافيا دل على رسوخ في العلم ودقة في البحث وسعة في الاطلاع.
ولما كانت مشروعات الري ومسألة الخزانات قد أثارت، وما زالت تثير اهتماما في مصر والسودان، فقد عالج المؤلف هذه المشروعات مشروعا مشروعا، وخزانا خزانا، كل ذلك مدعما بالتواريخ والأرقام وآراء الفنيين العالميين.
ولم يفت المؤلف أن يسرد على مسامعنا تاريخ الصحافة في السودان، والأدب والشعر والأغاني والعادات وحالة المرأة ونظام الحكم والقضاء والطرق الصوفية وبعثات التبشير.
وقد سجل لبعثتنا المصرية تاريخا، ألم فيه بما كتبه من وصف لرحلتنا يوما يوما، ومقدمات الرحلة ونتائجها، وقد رسم المؤلف المبدع بريشته التحليلية صورا لأشخاص زملائه أعضاء البعثة، كما كتب تاريخا للهيئات التي اشتركت فيها.
وقد شاء أدبه وكرم نفسه ووفاؤه لأصدقائه أن ينشر لأسرتنا تاريخا، وأن يخص هذا الضعيف بترجمة حياته، وأن يعزو إليه فضلا في سفر البعثة ونجاحها وتوثيق العلاقات بين القطرين الشقيقين اللذين وحد النيل بينهم، فأخجل تواضعنا، واستأهل الشكر من كل فرد من أفراد أسرتنا.
وبعد، فهذا قليل مما وسعته العجالة من تنويه بهذا السفر النفيس، وإلا فالحديث عنه طويل لا يمل، وكل كثير في إطنابه قليل في تصويره، ضئيل في بيان فضله.
وها هو الكتاب في أجزائه الثلاثة مبسوط للقراء، وحسبهم مطالعته للوقوف على مزاياه والإفادة من بحر علمه الواسع، وهو كتاب يفيد كل طالب وباحث وقارئ وسياسي ومدرس وصحفي وتاجر؛ حقا إنه مفيد لجميع الطبقات، وندر أن يوجد مؤلف جامع يضعه بحاثة قدير يفيد الخاصة والعامة معا كما يفيد هذا الكتاب. •••
بقي قبل أن أختم هذه الكلمة أن أذكر شيئا عن صديقي المحبوب الأستاذ عبد الله حسين، وقد أتيحت لى الفرصة بالتعرف به منذ سنوات كثيرة في حفلات خاصة وعامة، وكنت في كل مرة ألقاه أزداد حبا له وتقديرا، وقد عرفت فيه شابا مهذبا جميل الشيم، أمامه مستقبل زاهر.
على أن الحق أقول إن اشتراكه معنا في البعثة قد كشف لنا عن سجاياه نورا وضاء وأدبا رائعا، حتى أحبه واحترمه جميع أعضاء البعثة، لا أستثني منهم أحدا، وكلهم يذكر له نشاطه العجيب وصبره الجم، وأنه كان يدون المعلومات في لباقة، وفي غير إثقال على أحد؛ ففتحت له مغاليق الأبواب، وشجعه الجميع، وما منا إلا وقد أكبر المؤلف في تلك المقالات الفياضة الممتعة؛ إذ كان يأبى أن يخلد إلى النوم أو الراحة بعد انتهاء زياراتنا والحفلات التي دعينا إليها، فكان يسهر الليل حتى ينتهي من وصف الحفلات التي شاهدها نهارا ومساء.
وقد كان حسب المؤلف غبطة وفخارا، حسن تدوين وصف رحلتنا يوما يوما، ولكن جهد المؤلف في إخراج كتاب يعد الأول من نوعه ومنهاجه، لا في اللغة العربية وحدها، وإنما في اللغات الأخرى، يعد شيئا فذا، وعملا لا يقوم به عادة إلا الجماعات العلمية والبعثات التي تنصب نفسها للبحث، وتمدها الهيئات بالمال، ومن الأسف أن الأوربيين قد سبقونا بوضع مؤلفات كثيرة عن السودان، مع أن علاقاتنا بالسودان قديمة، ومنا الألوف الذين عاشوا فيه قديما وحديثا، وقد أنفقنا فيه بدر المال وأعز الرجال.
ومما يغتبط له كل مصري أن يقوم الأستاذ عبد الله بسد هذا النقص بمؤلفه الجامع، الذي يتبوأ - بلا شك - مركزا ممتازا بين المؤلفات العربية والأجنبية عن السودان.
ونغتبط أيضا بتلك الظاهرة الجديدة في صحافتنا المصرية، باشتراك شبابنا الأكفاء المتعلمين المهذبين في تحريرها، وأن جريدة «الأهرام» الغراء لجديرة بالتهنئة حقا بوجود المؤلف في الصف الاول من كتابها ومحرريها، بل إن صحافتنا كلها جديرة بالتهنئة بأن يكون المؤلف من أعضاء أسرتها الكريمة، فضلا عن تهنئتنا لأسرة المحاماة وللأسرة القانونية عامة، بإنجابها شابا ألمعيا نابها، يشرف كل هيئة ينتمي إليها.
وقد فاتني أن أشير إلى الأسلوب البليغ الذي كتب به المؤلف كتابه؛ فهو السهل الممتنع، والفصيح المبدع، وهكذا كان الأستاذ عبد الله كالمعدن النفيس؛ تزداد قيمته ويجلو بهاؤه كلما أمعن الناظر فيه، وكالفن الجميل؛ يأخذ سحره بألباب الفنان كلما تمعن فيه.
وجدير بوزارة المعارف أن تقرر هذا الكتاب في مدارسها، فمن الأسف أن الوارد في كتب الوزارة عن السودان؛ تاريخا واقتصادا وجغرافية، ضئيل لا يشفي الغلة، ولا يساعد على فهم حقيقة السودان. هذه كلمة أوحى بها اطلاعي على الكتاب، ودفعني الإخلاص لتقديم الكتاب بها، والله أرجو أن يثيب المؤلف عن كتابه أحسن الجزاء، وأن يكثر من أمثاله بين شباننا العاملين، وإنه سميع كريم مجيب الدعاء. •••
بقي لي كلمة للقراء في مصر والسودان:
كل من يريد أن يلم بالمسألة السودانية، أو يتباحث فيها، يحسن به أن يستوعب ما في هذا الكتاب النفيس من بيانات، ثم يحسن به جدا أن يتبع ذلك بزيارة للسودان؛ لاستيعاب معلوماته عن قرب، وليرى بعينيه الصورة الحقيقية له، ليقابلها بسابقة تصوراته وخيالاته، وواجب على المصري وعلى السوداني مطالعة ما جاء فيه، وكذلك طلبة المدارس والمعاهد؛ لمعرفة تاريخ بلادهم.
قد يقف القارئ عند كلمة أو جملة تثير شجونه، أو تحرك الذكريات المؤلمة من هذا الجانب أو ذاك، وموضوع الكتاب لا يمكن المؤلف إلا أن يصطدم بتلك الذكريات في خلال سرده للحوادث الحربية والثورية والسياسية ... إلخ، ولكن لا حيلة له إلا سردها متوخيا الحكمة بقدر ما تمكنه قدرته الكتابية في بلوغ غرضه، على أنه لا شك في أن القارئ يخرج من هذا الكتاب الثمين بطائفة كبيرة من المعلومات كانت خافية عليه، ويشعر بإحساس عميق من العظة والاعتبار، وعفى الله عما سلف.
وقد كان من توفيق المولى - سبحانه وتعالى - أن تمكنت البعثة المصرية من السفر للسودان في أوائل هذا العام، ومهما حاولت التعبير عن شكرنا لإخواننا السودانيين الذين حظينا بلقياهم من بورسودان شرقا إلى الأبيض غربا إلى الخرطوم ثم العطبرة ووادي حلفا شمالا، وما بين تلك المدن الزاهرة من البلاد والأحياء والحلل، ومن يقطنها من الجماهير الغفيرة التي لا يحصيها عد ولا حصر، فلا يمكني إيفاءهم حقهم من الثناء؛ فقد خرجنا من زيارة السودان بنتائج ما كنا نحلم بها؛ لقد توطدت أواصر المحبة بينهم وبيننا نتيجة التعارف والاختلاط، وعندما قابل المصري أخاه السوداني في أي مكان حل به وجد الطباع منسجمة والعادات متفقة، وقصارى القول، اكتشفنا أن لا تنافر ولا خلاف، بل وجدنا أنفسنا أهلا وخلانا على أتم ما يكون من الصفاء.
وفقنا الله لما فيه الخير للجميع.
مصر في 15 أكتوبر سنة 1935
عبد الله حسين كما عرفته
بقلم العالم الفاضل والأديب الكبير الأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي المفتش بوزارة
الأوقاف
في ليلة من ليالي شهر يونية سنة 1924، كان علي أن أكون بحجرة السكرتارية للزعيم الخالد «سعد» ذي الرياستين، وهو - ليلتئذ - بحجرة الوزراء يتروح أثناء انعقاد جلسة مجلس النواب، وكان قد طلب إلي الزعيم أن أرقب سير المناقشة في استجواب طرحه على هيئة المجلس أحد ممثلي الحزب الوطني من النواب، وموضوعه: «مناقشة دارت في مجلس العموم الإنجليزي بشأن نهر الجاش، والأعمال التي تقوم بها دولة إيطاليا على ذلك النهر»، فكنت أحرص ما أكون على ما أسمع؛ لأنقله إلى الزعيم، حتى إذا ما حقت كلمة الحكومة تحول «سعد» إلى القاعة الكبرى فقالها حكيمة مبينة قاطعة ...
في تلك اللحظات عرض لي شاب بدين، طلق المحيا واضح البسمات، وسألني أن يلقى «سعدا»، فاستمهلته حتى تنتهي الجلسة، فلما عاد «سعد» رئيس الحكومة إلى حجرة الوزراء ظافرا على عادته في مسألة الاستجواب، وجدت في نفسي نوازع إلى رؤية «الشاب»، ووددت أن أسهل له لقاء «سعد»، وهو في ساعة من ساعات رضاه.
دخلت حجرة السكرتارية، فإذا الشاب لا تفارقه بسماته، ولا تدعك نظراته، متوثب معتزم، يشغلك عن الفكر في سواه، فوجهت إليه خطابي في تودد وتلطف: سأحاول أن تقابل الآن الرئيس، وأرجو أن يسعدك الحظ فألقاه وأستأذنه وهو لا يزال بهجا كما غادر الجلسة. طرقت الباب ومثلت بين يدي سعد، فقال: ماذا عندك يا جديلي؟ قلت: أما (ما) عندي فإعجاب الزائرين الذين شهدوا جلسة الليلة، حتى لقد تجمعوا في فناء المجلس لتحية الزعامة في موقفها الوطني المشهود تلك الليلة، وأما (من) عندي، فعبد الله حسين!! هنا أغرق «سعد» في الضحك، وقال: هكذا تمتاز الطريقة الأزهرية، وهكذا يحق لنا الفخار بها.
لم يشأ (رحمه الله) أن يرد زائري، فأمر بإدخاله. دخل الشاب يدلف في نشاط حتى حيا الزعيم، فأمره بالجلوس، وجرت أحاديث وتشعبت موضوعاتها حتى جاء ذكر الزعيم الصحفي العظيم «الشيخ علي يوسف»، فعلمنا سعد عنه ما لم نكن نعلم؛ من شغفه بصحيفته، وهيامه بعمله، وضرب لنا الأمثال في ذلك، ثم نظر إلى الشاب يستطلع ما لديه في ذلك، فإذا هو من ذوي القربى لصاحب المؤيد، بل هو قد درج ونشأ ويفع في حضانة المؤيد.
استدناه «سعد» وقربه، ثم قال: من عجب ألا يوجد قلم يرد طغيان الجرائد الأجنبية عما تخوض فيه الآن في أسلوب منطقي هادئ مقنع، وأخذ سعد يعالج الموضوع معالجة صحفية، ثم انتهى المجلس وودع سعد الحاضرين، والجمهور في الطريق يضج هتافا ودعاء، حتى بلغ بيت الأمة ...
في الأمسية الرابعة لتلك الليلة، حضر «الشاب» يحمل حزمة من الصحف الأجنبية، وطلب لقاء «سعد»، فسرني أن أبلغ مقدمه للزعيم، فأذن له ودخل، وإذا هو قد دبج مقالا في بعض الصحف الأجنبية، ما خرم حرفا، ولا تجاوز فكرة مما أراده «سعد» قبل ثلاث ليال. عجب سعد لهذا الشاب، وأطراه، ورجا له غاية بعيدة. •••
منذ ذلك الحين عرفت «عبد الله حسين»، وتوثقت بيننا الصلات؛ فكان من خلصائي، وذوي ودي، وعرفت في غضون صداقتنا أنه شخص ممتاز موهوب، وإن شئت فقل إنه أعجوبة من الأعاجيب.
نشأ في دار المؤيد؛ إذ يتزعم الشيخ علي يوسف أسرته، فكانت عين المؤلف لا تقع إلا على التحرير والتحبير، وهو إذ ذاك غلام مراهق، فعلق بنفسه ما كان يراه ويسمعه، وشهد ما كان يطوق دار المؤيد كل يوم من رتل السيارات تحمل عظماء الأمة وكبار رجالاتها، وكلهم حريص على لقاء شيخ المؤيد، فعرف «عبد الله حسين» الصبي ما للصحافة ولرجالها من مكانة في المجتمع المصري، ولعل أحب شيء إلى نفسه لم يكن غير أن يصبح صحفيا، ولم يجد ميدانا يبرز فيه ميله النفسي غير صفحات كراساته المدرسية؛ فكان مدرس العربية يلقي إليه بموضوع الإنشاء، فلا يلبث أن يحوله إلى مقال ضافي الذيول، محبوك النسيج، حتى عرفت موضوعاته بين أقرانه في المدارس الابتدائية والثانوية بأنها مقالات.
وكان إعجاب أساتذته بكتاباته مغريا له بأن يلتهم القواميس ويحاول حفظها، ولعل محاولاته هذه وهو في تلك السن، ثم لعل إرشاد أساتيذه له من ذلك الحين، قد خرج منه على طول السنين كاتبا ألمعيا متفوقا، عني بالمعاني، وأعرض عن المقدمات، بل كرهها كرها. وإننا لنعرف مبلغ اهتمام أساتذة الإنشاء بمحو المقدمات في كراسات تلاميذهم، فلست رائيا في كتابة عبد الله حسين الشاب المكتمل إلا الموضوعات محوطة بالحجج، يتمشى فيها المنطق الصحيح، ثم لا يزال بالقارئ يستهويه ويتنقل به إلى حيث يؤمن بصدق نتائجه، وصحة رأيه وحكمه. •••
ما رأيت عزما يعمل في الصعاب، ولا دأبا يبدد العقبات، ولا أدركت إلى أي شأو تبلغ الهمة بصاحبها، مثلما عرفت ذلك كله في «عبد الله حسين».
مات الشيخ «علي يوسف»، وأخذت «المؤيد» الأحداث، وتقلقلت حياة المرحوم السيد عبد الله حسين أبو صغير عميد آل صغير ببني عديات - منفلوط - مديرية أسيوط، مدير إدارة «المؤيد»، والد «عبد الله»، وقد كان أثرا لدى الشيخ علي، بل كان صفوة أقربائه، وأخلصهم، وأعرفهم بشئونه، ترك له الشيخ علي تدبير خاصته، وكان يستشيره، ويصدر عن رأيه، وكانت الحياة نضيرة الجنبات ترف عليه بخيرها، فلما تبدد تراث «المؤيد» كان من آثار ذلك أن شرع «والد المؤلف» يهيئ حياته مستقلة، ويوجه كل جهوده لإعداد ابنه الوحيد «عبد الله».
عانى الوالد شدائد؛ ولقي «عبد الله» ما كان حريا بأن يثنيه عن تمام دراسته، بل أن يقنعه بالدخول في تلك الوظائف، لكنه ما انثنى ولا قنع، فما زال يرتقي من دراسة إلى دراسة حتى ضاقت به دور العلم في مصر، ورأى مطامحه أفسح من هذا الأفق، فارتحل إلى بلاد الفرنجة وهو مسلح بهذا العزم القاطع، وذلك الخلق القوي، وعاد وهو يجيد الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية، هذا إلى لغته العربية التي حذقها حذقا، وجعل لنفسه فيها أسلوبا فذا يعرفه كل من قرأه، حتى لقد شاهدت الكثيرين يطالعون صدور «الأهرام» ولا يجدون توقيعا لهذا الصدر، فيقسمون جهد أيمانهم أن الكاتب «عبد الله حسين»، وهم بررة في أيمانهم.
عاد وقد اجتمعت له إجازات دراسات كثيرة، ومنها إجازة الحقوق، فغامر في ميدان المحاماة على عادته من حب المغامرات، فما كاد يجري الشوط الأول حتى كان من أعلامها، جاءه مال كثير، واجتمعت له صفات المحامي الناجح من صدق ونزاهة ودأب، لو استراحت الكواكب ما استراح «عبد الله»؛ فهو دائما ينتقل في البلاد، ويغشى دور المحاكم، ويقدم المذكرات، ومن أبهر ما عرف له أن وقف في قضايا الاغتيالات السياسية إلى جانب المحامين المقاول مصطفى النحاس ومكرم عبيد ومرقص حنا وأحمد لطفي، ثم شاء الله، وشاءت عنايته بموكله (...) أن صدر الحكم ببرائته، فكان لهذا دوي عظيم في الدوائر المختلفة.
وله في ميادين الاجتماع والخير آثار؛ إذ كان أحد واضعي قانون التعاون عندما كان عضوا باللجنة التعاونية العليا، وقد سمعت من المرحوم فتح الله بركات باشا - إذ كان وزيرا للزراعة سنة 1926-1927 - ثناء على المؤلف في هذا الضرب من العمل، وهو من مؤسسي جمعية التقوى، التي حققت تعليم ألوف الأميين القرويين، وهو أمين صندوقها.
لو أن هذا المدره القدير قد بقي في هذا الميدان لأشرف على الغاية القصوى؛ فهو من ناحية القانون ثبت عميق، ومن ناحية البحث هادئ منطيق، وله هيام بالمطالعة؛ حتى لينسى أنه إنسان يأكل وينام، فهو يواصل الليالي ذوات العد حتى ليكاد أخصاؤه يشفقون عليه، فيطفئون السراج وهو يغالبهم، ويقول إن نشاطي لا يتجدد، وذهني لا يحتد إلا وأنا على هذا النهج من الحياة!
نعم، ليته بقي محاميا بحاثا، وليته جمع أبحاثه القانونية، ومذكراته القضائية؛ إذن لكان فيها غناء وأي غناء. ومن عجب أنه يترفع عن إخراج الكتب على كثرة ماله؛ من دراسات وأبحاث ومذكرات؛ لأنه يضن بمجهوده أن يخرج في غير إهابه اللائق، أو على صورة تجارية؛ لهذا، عندما أراد إخراج كتابه هذا ... احتفل له، ورصد كل جهوده، ولم يسمع بمصدر من المصادر؛ فرنجيا أو عربيا، إلا وقد استشفه، وأوغل فيه، ثم ما زال يرتب الأبواب، ويفصل الفصول، ويحكم المقدمات، ولا يستكثر شيئا من جهوده على هذا الكتاب، حتى خرج كما يرى القراء دائرة معارف لم تدع شاردة ولا واردة عن السودان إلا أحصتها في أسلوب من النسق العالي. •••
كلما تخصص للمحاماة جذبته الصحافة إليها، فحن لها، لكنه ما فتئ يرى في الأفق الصحافي والسياسي أشياء ينبو عنها طبعه، وتنفر منها نحيزته «الصريحة»؛ فهو صريح جدا، حتى خلقته خرجت صريحة هي أيضا، فكأنما تقرأ في قسمات وجهه مطوي نفسه؛ فهو لا يحب المواربة، وأفق السياسة وجو الصحافة مليء بالدسائس والأنانية والاستغلال والمصانعة. فكثيرا ما شاهدت «عبد الله» برما متضجرا ضائق الصدر، ينتوي أن يحيا في أفق وجو يستطيع التنفس فيه بملء رئتيه هواء صالحا نقيا، وقد شاهدته يجمع رأيه على أن يدع الصحافة، وإن كان حنانه إليها يعاوده فيجيئه أصدقاؤه يثنون عزمه، ويقفون في سبيله؛ استزادة واستكثارا من نفثاته الوطنية البريئة. •••
وجملة القول، فلقد عرفت «عبد الله حسين» صحفيا أمينا ماهرا نشيطا ظريفا واعيا، يستمع لكل ما يقال، ولا يكتب مذكرة ولا مفكرة، ثم يصب الحديث ما يخرم منه حرفا، وعرفته معتزما مريدا، ومحاميا قديرا، واجتماعيا مستبحرا، وصديقا وفيا يتحرق على الأصدقاء، ويقدس الوفاء، ووطنيا لم تختلط وطنيته بدنس ولا عاب، وهل في استطاعتي أن أرضى الحق، قبل أن أقول: «إن عبد الله حسين أمة وحده»؟!
كلمة المؤلف
تفضل حضرة صاحب السمو الأمير العظيم عمر طوسون بتحلية جيد الكتاب بكلمة التصدير التي استهللنا بها الكتاب، وتفاءلنا بها يمنا وخيرا، ونعدها فخرا وشرفا من لدن ذلك الأمير البحاثة العلامة الحجة الثبت في مسائل السودان والمسائل العامة الأخرى، ولسموه منا كثير الشكر، ومن الله تعالى عظيم الأجر.
وتكرم حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك، المدير العام للجمعية الزراعية الملكية، بوضع المقدمة النفيسة لهذا الكتاب، وتفضل علينا بثناء نقبله على اعتبار أنه تشجيع وصداقة وتعاون في توثيق العلاقات بين مصر والسودان، وإلا فنحن لا نرى أننا فعلنا إلا واجبا من واجبات كثيرة علينا نحو العلم والتاريخ والسودان ومصر.
وشاء أدب صديقنا الحميم وأخينا الوفي العالم الأريب واللوذعي الأديب الأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي أن يتفضل على أخيه المؤلف بترجمة حياته وفاء منه، بل كرما وتقدمة، وإلا فإن المؤلف دون ما وصف الصديق، ولا يعد تلك الصفات التي خلعت عليه إلا نبراسا له، ومثلا أعلى يرجو أن يتحقق على طول الزمان. •••
وما كان بي - بعد هذا - حاجة لتقديم الكتاب إلى القراء، غير أن لي كلمة أقولها عن الأسباب التي دعتني إلى تأليفه؛ ذلك أنه منذ الطفولة وأنا أسمع أخبار السودان وحوادثه؛ لأن سن طفولتي قد اقترنت باستعادة السودان، وبالسنين التي تلتها، ولأن قضية شهيرة اسمها قضية التلغرافات - وقصتها في صفحة 88 من الجزء الثاني من هذا الكتاب - كانت حديثا يذكر ويتناوله المرحوم والدي وأسرتنا. كما أنني طالعت وأنا في مستهل الدراسة الابتدائية كتاب «السودان بين يدي غوردون وكتشنر»، تأليف المرحوم اللواء إبراهيم فوزي باشا، وكما أن الصحف المصرية، وفي مقدمتها جريدتنا «المؤيد»، كانت تواصل الكتابة عن السودان وأخباره وعلاقاته، وتنشر في كل عام الاحتجاج على اتفاقية سنة 1899 وعدها باطلة.
فكنت أتابع الاطلاع على مؤلفات كتبت عن السودان، وكتابات الصحف، وكان عمي وآخرون من بلدتنا «بني عديات» يذكرون التجارة التي كانت قائمة بطريق القوافل بين أسيوط والسودان عن طريق درب الأربعين، وأن أغنى الأسر الأسيوطية وأشهرها قد أثرت من الاتجار بمحاصيل السودان ومنتجاته وتصدير البضائع المصرية إليه، وقد أتاحت لي بيئة جريدة «المؤيد» الوقوف على السياسة الوطنية المصرية والحالة العالمية منذ الصغر، فوجهت عناية خاصة إلى السودان وشئونه، حتى إنني فكرت أن أجعل إقامتي في السودان عقب إتمام دراستي العالية، ولكن عندما انتهيت من هذه الدراسة أصبح السودان غير صالح لتوظف المصريين فيه؛ إذ كنت أروم أن أعين قاضيا مدنيا من قضاته ؛ لأغتنم الفرصة للوقوف على البلاد السودانية ودراستها دراسة وافية. •••
واصلت مراجعاتي واطلاعي على الكتب المؤلفة عن السودان باللغات المختلفة، ولكنني كنت أجد في تاريخ السودان ثغرات ينقصها البحث والتقصي، واتصلت، في أثناء حضوري محاضرات القسم الجنائي في الجامعة المصرية القديمة، ببطل السودان حضرة الدكتور محجوب ثابت؛ إذ كان أستاذا لنا في الطب الشرعي، ثم اتصلت بجريدة «الأهرام »، فأنمى هذان الاتصالان رغبتي في دراسة الشئون السودانية؛ لأن كلا من جريدة «الأهرام» والدكتور محجوب الذي كان يكتب فيها مقالاته السودانية، كان يعنى بالسودان عناية ممتازة.
لكن مطالعاتي كان ينقصها زيارة السودان، وطالما فكرت في زيارته، ولكن العمل المضني المتواصل الذي نزاوله بغير انقطاع شغلني عن الزيارة، إلى أن كانت رحلة البعثة المصرية؛ فأظهرت رغبتي في الاشتراك فيها، وقد تفضل صاحب المقام العظيم حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون بالإذن لحضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك، الذي كان أول مرحب باشتراكي، بقبولي في البعثة، حتى إنني ندبت من قبل البعثة مندوبا عن الصحافة المصرية كلها، لولا أن رغبت صحف أخرى في أن يكون لها مندوبون، فصرت مندوبا خاصا «للأهرام».
بعد عودتي من البعثة طلب إلي الكثيرون أن أجمع مقالاتي عن الرحلة في كتاب، فرأيت أن أضع كتابا كاملا عن السودان من التاريخ القديم، وأنتهي به إلى رحلتنا، وها أنا أقدمه للقراء الكرام، شاكرا لجميع حضرات الذين تفضلوا بإعطائي البيانات الوافية، وعلى رأسهم سمو الأمير الجليل عمر طوسون.
والجزء الأول عن تاريخ السودان منذ الفراعنة إلى الثورة المهدية، والثاني من قمع الثورة إلى الحكم الحاضر، والثالث في رحلة البعثة مع البيانات الشاملة.
وأرجو أن يحقق هذا الكتاب الغرض الذي قصدت، والنحو الذي أردت، وهو وضع تاريخ شامل للسودان، وشئونه الجغرافية والاقتصادية والزراعية والاجتماعية والأدبية والعلمية، ولولا ضيق الوقت وكثرة النفقات لكان كتابي أضعاف ما صدر من الصفحات، على أن في باب المراجع الغناء لطلاب المزيد، وإنني لأرجو أن يكثر القادرون من التأليف في السودان؛ لأنه من الأسف أن نرى نصيب المصريين والسودانيين والناطقين بالعربية أقل من نصيب غيرهم في هذا الباب من التأليف.
والله أرجو أن يوفقني لمواصلة الاشتراك في خدمة مصر والسودان وأهلهما، ففي هذا كل فخري وأكبر آمالي.
20 أكتوبر سنة 1935
الفصل الأول
سكان السودان
السودان قطر من أقطار إفريقيا، وسكانه الأصليون هم سكان إفريقيا، وسكان إفريقيا الأصليون هم السود أو الزنوج أو العبيد؛ أي: أولئك الذين لهم بشرة سوداء ، وقامات في الغالب مديدة، ولكن هجر إلى السودان من قديم الزمان عرب الحجاز واليمن وآخرون من آسيا، وأقوام من الأمم المجاورة؛ كالحبشة ومصر وبربر بلاد المغرب، واختلطوا بأهله بعض الاختلاط، وامتزجوا بهم إلى حد ما، وكانوا يحضرون إليه للتجارة، للصيد، واقتناء ريش النعام وسن الفيل والصمغ والماشية، وبعد الفتح الإسلامي هجرت إليه قبائل عربية حجازية ويمنية ومغربية أو بعض أفرادها، وسادت أهله الأصليين وامتزجت بهم بالزواج، فكسب الوافدون السحنة السوداء قليلا أو كثيرا، وشيئا من العادات، كما طاردوا عددا كبيرا من السكان وردوهم إلى الجنوب، ومن ثم احتفظ جنوبي السودان بطابع السكان الأصليين كما كان عهدهم منذ آلاف السنين، مع شيء يسير من التقدم، ظهر في المدن التي أنشأها الغزاة من قديم وإلى اليوم، وحوالي هاتيك المدن.
ويعيش سكان الجنوب على نظام القبائل، وهم أهل فطرة وسذاجة، وفي بعضهم ذكاء عجيب لا مثيل له أحيانا في البلاد المتمدينة نفسها، ومن ثم احتفظوا بخلق أهل الفطرة؛ من شجاعة ومحاربات متواصلة وكرم طبيعي، ومجاهدة مع الطبيعة القاسية؛ بحرها وأنوائها وأعاصيرها وهبوبها، وأمراضها من الملاريا والحميات ومرض النوم.
وهم سريعو الانضواء تحت الإسلام؛ فقد حدثني بعض الثقاة أنه كان يحدث أن يحضر من شمالي السودان العربي «الجلاب» من المتجرين بالماشية ويغشى مجتمعات الزنوج، ويؤدي فريضة الصلاة أمامهم، فسرعان ما يحاكيه القوم في صلاته ودعائه، ويرددون ألفاظه على غير فهم في بداية الأمر، ثم بتفهم وتفاهم، ويصير الزنجي مسلما، هذا إلى من أصبحوا مسلمين بالزواج أو الخدمة في الجندية وفي منازل المسلمين.
ولا شك أن العربي السوداني المسلم أقرب إلى التفاهم مع الزنوج من أي شعب آخر . وقد انتشر الإسلام بين زنوج إفريقيا بصفة عامة، من غير أن يفكر المسلمون في تنظيم البعثات أو إيفاد العلماء أو إقامة مستشفيات أو إعطاء إعانات وإنشاء مدارس لهم، وكتب الكثير من أهل الرحلات الأوربيين طافحة بأنباء انتشار الإسلام في إفريقيا انتشارا طبيعيا اطراديا.
على أنه لا تزال في جنوبي السودان وفي إفريقية قبائل زنجية لا دين لها ، ولا تلبس ثيابا حتى، ولا تضع خرقة لستر العورات، وهناك بعثات تبشيرية مسيحية كثيرة تعيش في هذه الجهات، وتقيم المدارس والمستشفيات والكنائس والملاجئ، وتبذل صنوفا شتى من وسائل الإقناع لحمل الزنوج على الانتماء إلى المسيحية. (1) سكان السودان
قبائل كثيرة جدا، أصولها: الزنوج، والبجة، والعرب، والنوبة، والمولدون والمهاجرون.
شابان محاربان من قبائل الشلك. (2) الزنوج
قبائل كثيرة؛ منها: الشلك: غربي النيل الأبيض عند بحيرة نو، يعيشون في قرى متسلسلة، لكل قرية شيخ، ولكل مجموع من القرى ناظر، وأفرادها أقوياء وشجعان وطوال.
دنكاوي زنجي محارب في أبهى زينته.
والدنكا: شرقي النيل الأبيض، سود الوجوه، وهم أجمل الزنوج شكلا. والنوير: بين بحر سبت وبحر الغزال، في منطقة السدود والمستنقعات، ويسكنون الجزر. ثم قبائل الباري، والمادي، واللاتوكا، والمكارك، والجانقي، والبنقو، والقولو، والجور، والأجار، والديور، والشيري، والنيام نيام، والفراتيت، والنوبة: وأفراد النوبة يسكنون جنوبي كردفان، وأجسامهم عارية «ص46 من كتاب تاريخ السودان لنعوم شقير بك».
ويشتغل الزنوج بالصيد، ويربون البقر والماشية، ولكل قبيلة لغة ومذهب وديانتهم الطبيعة، أو هم لا دين لهم، وقد وضع بعض الإنجليز والمرسلين كتبا للغات الزنوج؛ لكي يتعلمها الموظفون والباحثون. (3) البجة
والبجة أو البجاة أو البيجة، هم سكان الصحراء الشرقية، بين النيل والبحر الأحمر، من بقايا شعوب إيتوبيا القديمة، ويقال إنهم من سلالة أولاد كوش بن حام الذين هاجروا إلى السودان بعد الطوفان. ويقول المؤرخون إن البجة كانوا وثنيين، ثم أصبحوا مسلمين عند هجرة العرب إلى إفريقيا، ومن قبائل البجة: العبابدة، ويتصلون بأسوان. والبشارين أو البشارية، من القصير حتى سواكن والأمرار.
نسوة من النوير. (4) الهدندوة
وهم أقوى البجة وأكثرهم عددا، يسكنون الصحراء بين خور بركة والعطبرة وطريق بربر وسواكن، وفسر بعضهم اسم «هدندوة» بأنه مشتق من هدا: بمعنى أسود، وأندوة: بمعنى القبيلة، ثم قبائل بني عامر، والحباب. (5) النوبة
والنوبة هم الذين يسمون أحيانا البرابرة، ويسكنون ما بين الشلال الأول والشلال الرابع، وهم خليط من النوبيين الأصليين والعرب والترك، والنوبة من بقايا الشعوب التي كانت تتألف منها المملكة الإتيوبية القديمة.
ومن النوبة: الدناقلة، وهم سكان ما بين الشلال الثالث والرابع، ومن قبائلهم: الأشراف التي ينتسب إليها السيد محمد أحمد المهدي، والمحس، بين الشلال الثالث وجبل دوشة، وأهل سكوت، وأهل حلفا، والدر، والكنوز.
وهم أهل زراعة وحياكة وتربية ماشية ومراكبية، وفي خارج بلادهم يحترفون خدمة المنازل والحوانيت وقيادة السيارات. (6) العرب
العرب، وهم الذين سكنوا السودان بعد الإسلام، وهم أكثر سكان السودان عددا وأوفرهم حضارة وذكاء وعلما.
وقد سكن فريق من الأتراك السودان بعد فتح السلطان سليم سنة 1520.
قبائل العرب
أشهر قبائل العرب - وهم الذين سكنوا السودان بعد ظهور الإسلام - هي قبائل الشايقية، والمناصير، والرباطاب، والميرفاب، والجعليين، والجميعاب، والسروراب، والعابدلاب، والجموعية، والحسنات، ودغيم، وكنانة، والرفاعية، والمسلمية، والكواهلة، والحلاوية، ثم المدنيون، والعراكيون، والشامباتة، والعقليون، والقواسمة، واللحويون، وبنو حسين، والزبالعة، ثم الفونج، وهم الذين أسسوا مملكة سنار القديمة مع العابدلاب، ويدعون النسب إلى بني أمية، والهمج وزراء الفونج.
أما قبائل البادية فهي: الشكرية، والبطاحين، والضباينة، والحمران.
وأشهر قبائل العرب في صحراء البيوضة: الحسانية، والهواوير، والخواوير.
وقبائل العرب في كردفان هي: الجوامعة، والبديرية، والتمام، والغديات، وهذه القبائل الأربع حضر، وبقية سكان كردفان بادية، وهم إما أبالة؛ أي: يملكون الإبل ويربونها، وإما بقارة؛ أي: يملكون البقر.
ومن الأبالة: قبائل الكبابيش، ودار حامد، وبنو جرار، وحمر.
وأشهر قبائل البقارة: الحوازمة، والجمع، والهبانية، وأولاد حميد.
وأشهر قبائل العرب في دارفور من الأبالة: الزيادية، والماهرية، والعطيفات، والمعالية، والعريقات. ومن البقارة: الرزيقات، والهبانية، والمسيرية، والتعايشة، وبنو هلبة، وعرب البشير، وبنو فضل، وبنو حسين، والكروبات، والحوتية، والخوابير، والبرياب.
وترجع أصول هذه القبائل إلى قبائل عربية في آسيا، هي: بنو أمية، وبنو العباس، وجهينة، والزبير بن العوام، وجعفر الطيار. (7) أصول أخرى لسكان السودان
ومن سكان السودان غير ما قدمنا: المصريون: الذين دخلوا السودان قبل فتح محمد علي وبعده، واتخذوه مقاما، والمكادة: وهم الأحباش النصارى، والجبرتة: وهم الأحباش المسلمون، والتكارنة: وهم مهاجرو السودان الغربي من فلاتة وبرنو وباجرمي، ولهم حلل جمع «حلة»، وهي مجموع من المساكن خارج المدينة.
وأكثر مهاجري التكارنة نزحوا إلى السودان؛ لأنهم فقراء رغبوا في أداء فريضة الحج عن طريق ثغر سواكن، مشيا على الأقدام في أرض السودان، ولما عادوا من الحج استخدمهم الحكام والأعيان والتجار وأصحاب المزارع كفعلة وفلاحين وخدم ومنظفي الصمغ وعمال.
والحلبة
وهم المعروفون في مصر بالغجر، وفي الشام بالنور، وهم قوم رحل، يشتغل رجالهم بالحدادة وترويض القردة ورعي الأغنام، ويشتغل نساؤهم بالوشم والدجل وختان البنات، ومنهم الشحاذون واللصوص الخطافون.
والمولدون: وهم النازحون إلى السودان، الذين تزاوجوا مع سكانه، وينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول العرب الذين امتزجوا بالسكان الأصليين؛ أي: العبيد والزنوج، وكان ذلك عقب الفتح الإسلامي. والمولدون في عهد حكم الترك والمماليك لمصر، والمولدون بعد فتح محمد علي حتى أوائل القرن الحاضر، أما القسمان الأولان فقد أصبحا من أهل السودان، وأما القسم الأخير فإنه ما زال أكثره متصلا بذوي قرباه في مصر واليمن والحجاز. (8) عدد سكان السودان
ما زال السودان بين البلاد التي ليس لها إحصاء صادق أو قريب منه؛ وذلك بسبب اتساعه وحياة سكانه وكثرة انتقالاتهم، ويقال إن عدد السكان كان كثيرا جدا، يصل إلى خمسة عشر مليونا، وأنه بلغ عشرة ملايين بعد فتح محمد علي حتى الثورة المهدية، وأنه بعد الثورة نزل العدد إلى ثلاثة ملايين أو أقل؛ وذلك بسبب الحروب وفتك الأمراض خلال الحركة المهدية، وأنه صعد إلى عدد يتراوح بين ستة ملايين وثمانية في الوقت الحاضر.
ومما يدل على عدم إمكان التعويل على أي إحصاء يرد في الكتب المؤلفة عن السودان، أنه قديما كانت الحكومة قد طلبت من أحد المديرين إحصاء سكان مديرية بحر الغزال، فوضع المدير إحصاء قدره في ساعة واحدة وهو جالس على مكتبه، وجعل في إحصائه عدد الأطفال ستين ألفا. وبعد عامين كان على المديرية مدير آخر طلب منه إحصاء عن عدد السكان، فذكر في إحصائه أن عدد الأطفال عشرة آلاف، وكان هذا الرقم تخمينيا أيضا، ولم يكن المدير التالي يعلم بإحصاء سلفه الذي قدر عدد الأطفال بستين ألفا.
فأرسلت الحكومة إليه تسأله كيف حصل هذا الفرق بين الإحصائين، فكتب إليها يقول : «إن النقص الذي حصل في عدد الأطفال سببه أنهم قد كبروا ودخلوا في عداد الرجال»، ثم قال: «الواقع أن إحصائي خطأ وإحصاء سلفي خطأ أيضا؛ لأنه من المستحيل إحصاء سكان مديرية بحر الغزال؛ إذ ليس المرور فيها سهلا، فضلا عن محاولة إحصاء سكانها»، وتحاول الحكومة الحاضرة الحصول على إحصاء تقريبي، وستمضي سنوات كثيرة قبل أن يكون للسودان إحصاء دقيق عن عدد سكانه. (9) اللغة
اللغة الغالبة هي اللغة العربية، وهناك لهجات واصطلاحات وعبارات عامية للعربية والرطانات الزنجية، واللغة العربية أداة التخاطب المشتركة بين لغات القبائل، حتى الزنجية منها. (10) الدين
الإسلام هو دين أهل السودان عامة، ما عدا القبائل الزنجية التي لا دين لها، وتسكن مدن السودان جاليات مسيحية، وحفنة من اليهود.
الفصل الثاني
ممالك السودان
قامت ممالك في السودان قبل الفتح الإسلامي وبعده؛ أما فيما يتعلق بالممالك القديمة فإن تاريخها غالبه مجهول، ويذكر المؤرخون أن أول مملكة قامت في السودان كانت مملكة إيتيوبيا؛ حيث كانت تمتد من الشلال الأول عند أسوان إلى أقاصي الحبشة شمالا وجنوبا، ثم انقسمت إلى قسمين: إيتيوبيا العليا، المعروفة الآن (بالحبشة)، وإيتيوبيا السفلى في شماليها.
وقد اشتهر لإيتيوبيا السفلى عاصمتان: «نبتة» عند جبل البرقل، قرب الشلال الرابع، و«مروى» عند البجراوية في رأس جزيرة مروى، قرب شندى، وكانت إيتيوبيا معاصرة للفراعنة والفرس والبطالسة والرومان الذين حكموا مصر على التوالي، وزال حكم إيتيوبيا سنة 640 قبل الميلاد.
النوبة والبجة
وبعد زوال مملكة إيتيوبيا قامت مملكتان: (1)
مملكة النوبة على النيل بين الشلال الأول والحبشة. (2)
مملكة البجة في الصحراء الشرقية، وكانت الوثنية ديانة ممالك إيتيوبيا والنوبة والبجة.
أما النوبة، فقد صارت نصرانية في القرن السادس للمسيح، وأما البجة فقد احتفظت بالوثنية حتى الفتح الإسلامي لمصر سنة 18 هجرية و640 ميلادية، فتعلم البجة الإسلام.
شبان محاربون من الشلك.
مملكة سنار
وفتح العرب النوبة السفلى سنة 717 هجرية وسنة 1318 ميلادية، واتحدوا مع الفونج في جنوبي سنار، ففتحوا النوبة العليا سنة 910 هجرية الموافقة 1505 ميلادية، وأصبح أهلها مسلمين، وأسس الفاتحون مملكة سنار التي امتدت من الشلال الثالث إلى جبال فازوغلي شمالا وجنوبا، ومن سواكن ومصوع على البحر الأحمر إلى النيل الأبيض شرقا وغربا.
مملكة دارفور
واختلط العرب الفاتحون بالسكان، وأسسوا مملكة في دارفور امتدت من بئر النطرون في الصحراء الكبرى إلى بحر الغزال شمالا وجنوبا، ومن النيل الأبيض إلى ترجة بارقو شرقا وغربا.
الكشاف والدولة التركية
بعد أن فتح السلطان سليم الأول - سلطان الدولة التركية العثمانية - مصر، أرسل قسما من جنوده إلى النوبة السفلى سنة 1520 ميلادية، فأقامت معسكرات في أسوان وأبريم وجزيرة ساي، وكان الحكام الأتراك يسمون «الكشاف»، وامتد حكمهم إلى الشلال الثالث، وامتد الحكم التركي في البحر الأحمر، فاحتل سواكن ومصوع وزيلع وبربرة، وجعلت تابعة لولاية الحجاز التي كانت قسما من الدولة العثمانية التركية.
الفصل الثالث
مصر الفرعونية في السودان
بين مصر والسودان علاقات قديمة، وترجع هذه العلاقات إلى أبعد المعروف من التاريخ القديم، ولا غرو في ذلك؛ فإن الأمم القديمة بدأت حياتها وظهرت مدنيتها على ضفاف الأنهار، وتعاقبت ممالكها على الحكم في المسافات الخصبة حوالي الأنهار.
ونهر النيل يجري في أرض السودان ومصر؛ لذلك كان الانتقال بين سكانهما مستمرا، والاتصال باديا والحكم متراوحا، وكانت القوافل الحاملة للتجارة تسير في الطرق الصحراوية. ولقد تضاربت آراء المؤرخين في أصل المصريين، قال ديودور الصقلي إن الإتيوبيين - وقد عرف القارئ فيما سبق أنه تألفت منهم مملكتان: إيتيوبيا العليا وهي الحبشة وإيتيوبيا السفلى التي كانت تمتد من أسوان حتى حدود الحبشة - «يقولون إن مصر مستعمرة من مستعمراتنا، وأن طين بلادها طمي من بلادنا ساقه النيل إليها، وأن بين عاداتنا وعادات المصريين مشابهة ظاهرة، ومطابقة بين القوانين، وتشابها في زي ملوك البلدين؛ خصوصا أن كلينا يتخذ الصلة زينة فوق التيجان.»
وقال «نافيل»: «إن رواية ديودور المؤيدة لمجيء المصريين من إيتيوبيا كافية وحدها لإثبات أن أصل المصريين القدماء من بلاد العرب الجنوبية؛ لأن في الرواية إشارة إلى أن أولئك الفاتحين بعد أن هجروا مواطنهم نزلوا على شاطئ البحر الأحمر في إيتيوبيا، وأقاموا فيها زمنا قبل زحفهم على وادي النيل، فلما دخلوه وأظهروا فيه مبادئ الحضارة، انتحل الإيتيوبيون وجها لدعواهم قائلين إن هذه الحضارة مأخوذة عنهم، وهو قول يخالف الواقع.»
إن أقدم رواية تاريخية في حكم المصريين للسودان
1
هي المقروءة في حجر «بالرمو»؛ ففيه ذكر أن الملك «سنفرو» من الأسرة الثالثة «سنة 2900 قبل الميلاد» قد غزا بلاد النوبة، وأسر سبعة آلاف من الرجال والنساء، وغنم ألفين من الثيران والعجول، فلما جاء إلى مصر استخدم الرجال في أعمال الحكومة، والنساء في القصر الملكي، أما الثيران والعجول، فبعضها ذبح للطعام، والبعض الآخر احتفظ به لتربية نتاجه لجودة نوعه.
وفي عهد الملك «بيبي الأول» من الأسرة الثالثة «سنة 2600 قبل الميلاد»، جندت مصر من السودان جيشا لإخضاع بعض القبائل العاصية في شرقي السودان، وكان السودان في عهد الأسرة الثانية عشرة تحت حكم المصريين، وكان الجيش المصري حافظا النظام فيه، مشيدا القلاع والحصون في جزر النيل وفي جهات كثيرة من ضفافه، واستخرج المصريون الذهب من مناجمه، وكانت تجارته رائجة، وشقوا طريقا للسفن بين صخور الشلال الأول في عهد الأسرة السادسة تحت إشراف المهندس المصري «أونا» «سنة 2600 قبل الميلاد».
وكانت السفن تجري في النيل بين مصر والسودان بغير مشقة في تلك القناة التي شقها المصريون بين صخور الشلال الأول، وقد أعيد ذلك في عهد الملك «أوسرتسن الثالث» من الأسرة الثانية عشرة «سنة 1850 قبل الميلاد»؛ لتسهيل نقل الجيش والسفن الحربية والمعدات، لتأديب البلاد التي تحاول الخروج على الحكم المصري.
ومن الأسف أن هذه القناة أهملت، وقال الأثري «بتري»: «لم يفكر أحد من المصريين حتى الآن في عمل طريق مثل ذلك الطريق المائي الذي كان يبلغ عرضه في عهد الفراعنة أربعة وثلاثين قدما ، وعمقه أربعة وعشرين قدما، تسير فيه السفن النيلية مهما كانت كبيرة، وقد أصبح المصريون الحاليون مكتفين بخط حديدي لنقل البضائع من أحد طرفي الشلال إلى الطرف الآخر.»
كان سكان السودان في عهد الفراعنة هم سكان إفريقيا الأصليين؛ أي: العبيد أو الزنوج، وكان المصريون متفوقين عليهم بالعلم والمدنية والنظام والإدارة والكتابة ووسائل القتال، والتفاني في إطاعة الملوك والرؤساء، وفي عهد الأسرة الثانية عشرة المصرية بث ملوكها المدنية والعلم في السودان، واستخرجوا الذهب من شرقه، وأقاموا القلاع والمعسكرات إلى ما بعد الشلال الرابع، وكان الضباط المصريون يرسلون السودانيين إلى مصر لخدمة الحكومة، وكانوا يشرفون على نقل الذهب منه إلى مصر.
وكان المصريون ينشئون المعابد والهياكل، وكان رجال الإدارة والكهنة من المصريين، وقد جعلت الأسرة الثانية عشرة حدود مصر الجنوبية إلى الشلال الثاني، وبنى «الملك أوسرتسن الثالث» أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، قلعة في جهة «سمنة» على بعد أربعين ميلا من وادي حلفا جنوبا، ونصب هناك لوحا أثريا حذر فيه مرور السودانيين شمالا؛ برا وبحرا، واستثنى منهم التجار ورسل الحكومة القائمين بأعمال رسمية.
وقد نصب هذا الملك حجرين كبيرين؛ أحدهما في «سمنة»، والآخر في «جزيرة الملك»، وصف فيهما معاملته لأهالي السودان وطرق حربهم، ورماهم بالجبن والفرار أمام العدو، والغباوة، وبتولية ظهورهم وقت صليل السيوف، وزعم أنه قتل كثيرا من نسائهم، وحرق حصدهم وأتلف آبارهم، واستعمل معهم كل وسائل القوة والجبروت، ويظن الأثري «ماسبيرو» أن النفوذ المصري في عهد الأسرة الثانية عشرة قد وصل إلى جنوب نهر عطبرة.
وكانت القوافل تجلب الذهب من سنار إلى جزيرة مروى، وتستمر في الصحراء إلى مدينة «نبتة»؛ حيث ينقل في سفن نيلية إلى مصر، وكانت القبائل السودانية تدفع الجزية لملك مصر، وكانت المصنوعات المصرية رائجة في السودان.
أما في عهد الأسر الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة، والسابعة عشرة، فتاريخ مصر في السودان غامض، ويقول المؤرخون: إن نفوذ مصر قد ضعف، وأن القبائل السودانية قد امتنعت عن دفع الجزية إلى مصر في ذلك العهد.
أما في عهد الأسرة الثامنة عشرة، فقد وصلت حدود مصر في السودان إلى النيل الأزرق، وذلك في عهد القائد «أحمس» الذي طرد العمالقة من مصر، وأعقب ذلك بتأديب القبائل السودانية التي كانت تعبث بالأمن وتعطل التجارة وتمتنع عن دفع الجزية.
من قبائل العبيد المشهورين بالصيد.
وغزا «أمنمحعت الأول» «سنة1580 قبل الميلاد» السودان، ووصلت جيوشه إلى جنوب الخرطوم، وكانت تعرف قديما بأرض الأغنام، كما جاء ذلك في لوحة حجرية وجدت في «مروى».
وقد عين ملك مصر المذكور «أمنمحعت الأول» ابنه «تحتمس الأول» حاكما عاما على السودان، ثم لقبه بأمير كوش؛ و«كوش» هو الإقليم المعروف الآن بإيتيوبيا، وكان محل إقامته في «النوبة»، وكان يجيء إلى مصر أحيانا، وقسم البلاد التي بين الشلال الأول والنيل الأزرق إلى مديريات أو أقاليم، يدير شئون كل منها حاكم مصري تابع لأمير كوش، وأصبحت البلاد السودانية إلى النيل الأزرق جزءا من مصر، تسود فيه النظم الإدارية والسياسة المصرية.
بعد ذلك صار «تحتمس الأول» ملكا لمصر «سنة 1557 قبل الميلاد»، وأرسل جيشا كبيرا وأسطولا نهريا هزم القبائل السودانية المتمردة، وأجبرها على العود لدفع الجزية لمصر، وفي صخر بإحدى جزائر الشلال الثالث نقوش هيروغلوفية تدل على أن «تحتمس الأول» اجتاز الصحاري والجبال، ووصل إلى بلاد لم تطأها أقدام أسلافه.
ولما ولي «تحتمس الثاني» بعد وفاة «تحتمس الأول»، كانت القبائل السودانية قد عادت إلى العصيان، فهزمها الجيش المصري، واضطرها إلى دفع الجزية.
وقد ذكر «تحتمس الثاني» على جدران طيبة «142» اسما لأماكن في كوش والواوات كانت تحت حكم مصر، ودلت الآثار على أن بلاد الصومال والواوات كانت تدفع الجزية إلى «تحتمس الثالث»، وأن بلاد الصومال أرسلت في السنة الثانية عشرة من حكمه 1685 مكيالا من البخور، وكمية كبيرة من الذهب، وعددا كثيرا من الرجال والنساء والثيران والعجول والبقر والغنم.
واستمر حكم مصر في السودان في عهد الملك «أمنحتب الثاني» «سنة 1448 قبل الميلاد» بعد وفاة «تحتمس الثالث»، وشيد «أمنحتب الثاني» معبدا في «وادي باع النجا» عند النيل الأزرق، وفي هذا الوادي تمثالان، وكانت عاصمة السودان عندئذ مدينة «نبته» غربي «جبل برقل»، بالقرب من الشلال الرابع.
واستمر الحكم المصري في السودان سائدا، والقبائل السودانية مطيعة هادئة في عهد «تحتمس الرابع» سنة 1420 قبل الميلاد، ثم في عهد «أمنحتب الثالث» سنة 1411 قبل الميلاد.
وقد حدثت فتنة صغيرة قمعها بسهولة، وقد أعلن «أمنحتب الثالث» أنه إله للسودان، وشيد معبدا له في جهة «صلب» التي تبعد مائة وخمسين ميلا من وادي حلفا جنوبا، وكانت زوجته الملكة «دي» تعبد كإلهة في معبد «سدنجة» الذي بني باسمها، وهو يبعد أميالا قليلة من «صلب» شمالا، وفي دنقلة آثار يرجع تاريخها إلى عهد الملك «أمنحتب الثالث».
وقد استتب الأمر للمصريين في السودان مدة مائة وخمسين سنة، وكان السودانيون خلالها يدينون بالدين المصري القديم، ويتكلمون، أو يتكلم الظاهرون فيهم، باللغة المصرية، ودرجوا على الكثير من العادات المصرية.
وقد وجدت في السودان آثار يرجع تاريخها إلى عهد «إخناتون»، وكان حكمه لمصر «سنة 1375 قبل الميلاد»، وتدل الآثار على أن السودان كان يدفع الجزية إلى الملك «آي» «سنة 1349 قبل الميلاد»، والملك «حور محب» «1350ق.م» الذي زار السودان، وله لوح أثري في جبل «السلسلة» عليه اسمه، جالسا على عرشه محمولا فوق أعناق اثني عشر سودانيا، وأن الصومال كانت ترسل الخيرات إليه.
ولم ينقطع عصيان القبائل السودانية والمناوشات على الحدود من آن إلى آخر، ولكن الحكام المصريين المعينين من قبل مصر، والمسمين «أمراء كوش» كانوا يؤدبون العصاة.
وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة كان الحكم المصري في عهد «رمسيس الأول» «1315ق.م»، مبسوطا إلى الشلال الثاني فقط، ولكن ابنه «سيتي الأول» الذي خلفه «سنة 1313ق.م» أعاد الحكم المصري على السودان بصحاريه الشرقية والغربية، وأنشأ القلاع، وأصلح الطرق إلى مناجم الذهب في شرقي السودان، واحتفر الآبار، وأقام معبدا للآلهة: «أمون رع» و«أزوريس» و«حوريس».
وقد وجدت خريطة لمناجم الذهب بوادي «شوانب» في ورقة بردية محفوظة بمتحف «تورينو» بإيطاليا.
وكانت سياسة «رمسيس الثاني» «سنة 1290ق.م» مسالمة السودانيين، والاهتمام باستخراج الذهب، وتعبيد الطرق، بعد أن أدب العناصر المناوشة.
وظل الحال كذلك في عهد «رمسيس الثالث» «سنة 1198ق.م»، الذي زاد في تشجيع التجارة مع السودان، بما أنشأ من سفن نيلية وبحرية كانت تمخر في عباب البحر الأحمر إلى ميناء «القصير» الذي ازدهر في ذلك العهد، والذي نأسف الأسف كله على صيرورته مركزا صغيرا في مديرية قنا وإهمال مينائه، مع أن في ازدهارها خيرا كثيرا لتجارة الصعيد الجنوبي والسودان وبلاد العرب.
وفي عهد الأسرة العشرين ضعف الحكم المصري في السودان، وتمردت القبائل عليه؛ بسبب ضعف تلك الأسرة في حكم مصر نفسها؛ حيث تألفت عصابات للسرقة؛ ولا سيما سرقة آثار طيبة، وقد هجر كهنة «أمون رع» «طيبة» عاصمة مصر إلى «نبته» عاصمة السودان، وتدل الآثار على أنهم نشروا فيه عبادة «أمون» والخط الهيروغليفي، وعلى أنه قام في السودان ملوك من بلاد النوبة.
وقد ساء كهنة «أمون» أن يضطرهم المصريون إلى ترك مصر إلى السودان، فحرضوا الملك «كشتا»، الملك السوداني النوبي، على فتح الوجه القبلي، وخلفه الملك النوبي «بيعنخي» في «نبته» عاصمة السودان من «سنة 750ق.م إلى سنة 740ق.م»، وأرسل جيشا وأسطولا غزوا مصر بالوجهين القبلي والبحري.
وتاريخ حكم الملك «بيعنخي» مدون في نقوش هيروغليفية على حجر جرانيتي طوله اثنتا عشرة قدما، وعرضه أربعة أقدام ونصف قدم.
وتولى «طهراقة» ابن «بيعنخي» عرش مصر «سنة 688ق.م».
وقد غزا «آشور أخي الدين» «ملك آشور» مصر «سنة 670ق.م»، وهزم «طهراقة» الذي زال حكمه عن الوجه البحري وبقي في الوجه القبلي.
وفي «سنة 661ق.م» غزت جيوش (آشور) الوجه القبلي، وهدمت معابد «طيبة»، وتقهقر الإيتيوبيون إلى «نبته»، وضعف ملوك السودان في حكمه حتى اضطرت الحكومة السودانية إلى الانتقال من «نبته» إلى أواسط السودان عقب غزوة «بساماتيك الثاني» في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، على أن مملكة السودان أخذت تتسع من ناحية الجنوب بدلا من الشمال، وأصبح معها إقليم النيل الأزرق، وصارت (نبته) بمعزل عن أراضي السودان العامرة، تفصلها عنها شلالات كثيرة، وانتقلت الحكومة السودانية «سنة 560ق.م» من «نبته» إلى (مروى) في منتصف المسافة بين نهر عطبرة «أتبرة».
وغزا «قمبيز» السودان «سنة 525ق.م» بعد أن فتح مصر، ولكن الشلالات ووعورة الطرق حالت دون وصوله إلى «مروى» التي كان فيها الملك السوداني (نستاش)، فاضطر (قمبيز) إلى الارتداد إلى مصر، على أن المملكة السودانية ضعف شأنها، وأخذ السودان يعود إلى الفوضى والشيع. •••
لقد خلف أمنحوتب الرابع ابن لامنوفيس الثالث، يدعى توت عنخ أمون، وقد تزوج بأخت أمنحوتب الرابع المسماة «أنخ سن نامن»، وقد غيرت اسمها بعد موت أبيها «أنخ سن أمون»، وهذا الملك هو من ملوك الأسرة الثامنة عشرة المصرية.
تولى الملك في وقت كان قد حصل فيه تغيير في الديانة المصرية، أحدثه سلفه أمنحوتب الرابع، ونشأ عن هذا التغيير اضطرابات داخلية في مصر، لم تنته إلا بانتهاء هذه الأسرة، وكان أساس هذا التغيير عبادة الشمس بدلا من المعبودات الأخرى التي عبدها المصريون من قديم الزمان؛ ولذا وجد الكهنة في هذا التغيير مخالفة للقديم، وفقدانا لسيطرتهم الدينية، فأثاروا الاضطرابات التي لم تنته بمصر إلا في أيام الملك «حور محب» آخر ملوك هذه العائلة، فرجع لعبادة أجداده.
والسبب في إدخال عبادة الشمس في ذاك العهد راجع إلى نفوذ ملكة «ابن» زوجة الملك أمنحوتب الثالث؛ فإنها كانت من بلاد العرب - أو الشام غالبا - وكانت ذات دلال وجمال، ولها عيون زرقاء وشعر أسبط وخدود وردية، فلما بنى بها الملك أمنحوتب
2
الثالث أدخلت معها عبادة الشمس، ولجمالها لم يعارضها زوجها في هذا، وصرح بإقامة شعائر دينها في عهده وبحضوره؛ إذ كان يطاف بقرص الشمس محمولا على زورق يمخر عباب بحيرة صناعية عملت خصيصا في عيد كان يقام في السادس عشر من شهر هاتور.
ولما توفي زوجها «أمنحوتب الثالث» خلفه ابنه «أمنحوتب الرابع»، وهو ابنها، فوجدت في جلوسه على عرش مصر أكبر مساعد لها على توطيد دينها، ولهذا صرح أمنحوتب الرابع بتغيير دينه وعبد الشمس (آتن)، وغير اسمه إلى «خون آتن»؛ أي: روح الشمس، وترك طيبة ورحل إلى تل العمارنة، حيث أنشأ معابد جديدة فخمة لعبادة الشمس بها، وظل بها حتى خلفه توت عنخ أمون.
وعلى الرغم من حدوث الاضطرابات الداخلية الناشئة عن هذا التغيير الديني فإن مصر ظلت محافظة على أقاليمها الجنوبية؛ وهي بلاد كوش «السودان»، بدليل أن هذا الملك أصلح معبد جبل البرقل الذي شاده أبوه ببلاد النوبة «مديرية دنقلة»، وأقام بالمكان نفسه معبدا آخر لأمون الذي كان يعبد في الهليوبوليس، أو مدينة الشمس، باسم المعبود «توم» أو «تم»، كما دلت على ذلك النقوش الأثرية الموجودة على أحد السبعين المصنوعين من الجرانيت، والمحفوظة بدار الآثار البريطانية الآن، وقد نقلا إليها من جبل برقل بمعرفة اللورد پردهو سنة 1835، ويرى على أحدهما رسم أمنحوتب الثالث، ومن رأي الأستاذ «بدج» المؤرخ الإنجليزي الشهير أنه هو الذي بدأ عمل الأثر الثاني، ثم تممه ابنه «توت عنخ أمون»، وكتب اسمه عليه، وعلى السبع الثاني كتابة تدل على أن هذا الأسد قد اغتصبه أحد ملوك النوبة المدعو «أمون أسرو».
هذا وقد بقي السودان خاضعا لحكم خليفة الملك المدعو «آي»، الذي لم يجد سببا لإرسال حملات إلى هذه البلاد بفضل حسن إدارة أمير «كوش» المدعو «باؤور»، وقد أقام هذا الملك ضريحا بالقرب من أبي سنبل، وقد نقش على جدرانه صورة نفسه مع أحد كبار موظفيه، مقدما القرابين للمعبود «فتاح» و«رع» و«حور» و«سبك»، ولسلفه الملك «أوزرتسن الثالث».
ووطد تلك العلاقات بين مصر والسودان خلفه الملك «حور محب»، الذي ابتكر إصلاحات إدارية ذات فوائد جزيلة، وأصلح معابد الآلهة، وأقطعها الأراضي والأملاك، ثم صرف همته لزيادة دخل مصر؛ ولهذا أرسل الحملات إلى بلاد الشام والسودان، وإنه وإن تكن نتيجة حملته على بلاد الشام مشكوكا فيها من حيث زيادة الخراج المضروب على قبائلها، فإن الحملة على بلاد السودان أتت بنتيجة باهرة، وقد ظلت مصر مالكة لبلاد السودان نحو مائتي سنة، حتى إن رجال الشلال والبقارة أدركوا أن الشر كل الشر في تعرضهم لقوافل الذهب وغيره النازحة من السودان لخزائن الفراعنة، أو تدخلهم في إدارة إقليم «كوش»؛ أي: السودان، وأدركوا أن فرعون مصر طويل الباع إذا عصي، شديد العقاب إذا غضب.
الفصل الرابع
مصر والسودان
في عهد البطالسة
تمهيد
في سنة 715 قبل الميلاد توفي «ناستاسنن» ملك النوبة، وقليل ما يعرف عن حالة تلك البلاد وما آلت إليه بعد موته، على أن بلاد النوبة في ذلك الوقت لم تكن لتخشى بأس مصر؛ إذ كان يحكمها «أي مصر» دارا الأكبر ملك الفرس، الذي صرف همه إلى إصلاح شئون البلاد، وازدياد ثروتها، ورواج تجارتها، حتى لقبه الفرس «بالتاجر»، فتمكنت مصر بفضل مجهوده هذا من دفع ما فرضه عليها من الجزية دون عناء، ويقول الدكتور بدج المؤرخ الشهير: «إنه لا ريب في أن الذهب الذي كانت تدفعه مصر إلى «دارا» كانت تحصل عليه من «وادي العلاقي» التابع إذ ذاك لبلاد النوبة، وقد كانت القوافل تغدو وتروح في ذلك الوقت بين مصر والسودان متجرة في الذهب والعاج والأبنوس، وكثيرا ما كانت تحضر معها عددا عظيما من السودانيين إلى بلاد مصر.»
هذا ما يقوله الدكتور بدج الإنجليزي عن العلاقة بين مصر والسودان في عصر لا تعرف فيه عن حالة السودان إلا النذر القليل، وكانت مصر تحت حكم أجنبي، ولكن بالرغم من هذا لم يسع المؤرخ إنكار ما كان بين البلدين من متين الروابط واتصال الأواصر.
زد على ذلك ما رواه هيرودوت أشهر مؤرخي الإغريق وأعلاهم كعبا في التاريخ القديم؛ إذ قال: «إن دارا فرض على بلاد النوبة جزية تدفع له ذهبا وعاجا وعيدانا.»
فمما تقدم يظهر بأجلى بيان أن العلاقة لم تنقطع قط بين مصر والسودان من زمن الفراعنة إلى البطالسة، بالرغم من أنه لا يعرف شيء عن بلاد السودان في تلك الفترة.
1
ولم تكن العلاقة بين القطرين في ذلك الوقت علاقة منافع وتجارة فقط، بل ارتبط أهلهما برابطة الدين، ويؤيد ذلك ما أثبته «هيرودوت» من أن أهل النوبة دانوا في ذلك العهد بدين أهل مصر؛ إذ يقول: «أهالي النوبة الشمالية كانوا يعبدون «أمون رع» و«أوزيريس»، وكانت عقيدتهم في هذين الإلهين عظيمة جدا، وكانوا يعتقدون في الأول أنه مدبر حروبهم، ومرشدهم إلى خير طريق لجيوشهم، فإذا ما هموا بحرب ولوا وجوههم شطره، وتوسلوا إليه ليلهمهم من أمرهم رشدا.»
وإليك ما يدل على ما كان بين أهل مصر والسودان - عدا ما تقدم من رابطة الدين والمعتقد - من لحمات المصاهرة
2
والنسب؛ فقد جاء فيما رواه هيرودوت «أنه يوجد على مسافة اثني عشر شهرا بالنيل جنوبي مدينة مروى قوم يعرفون بالأوتومولي
Automoli
أو «الأسماخ»، وهم سلالة فرقة مصرية بلغت نحو أربعين ومائتي ألف نسمة، نزحت من بلاد مصر إلى السودان إبان حكم فرعون مصر «إبسمتيك الأول» لما أبقاهم ثلاث سنين متوالية قائمين بأعمالهم العسكرية دون أن يحل محلهم غيرهم من الأجناد.»
ويقول الدكتور بدج تعليقا على هذه الحادثة: «من رواية هيرودوت هذه يتبين جليا أن هؤلاء المهاجرين المعروفين «بالأوتومولي» سكنوا منطقة على النيل الأبيض على مسيرة أربعة شهور جنوبي مدينة إلفنتين، أو على مسافة بضع مئات من الأميال جنوبي موقع مدينة الخرطوم الحالية، وأنهم من القبائل غير الزنجية التي سكنت الإقليم المعروف الآن بمملكة سنار.» •••
تلك هي العلاقات التي ربطت بلاد وادي النيل بعضها ببعض بعد حكم الفراعنة، فلما آل ملك مصر إلى البطالسة عملوا على زيادة توثيق العرى بين ساكني مصر والسودان، وإحكام الرابطة بينهم، لما بينهم من متعدد المصالح الحيوية المشتركة.
وقد تجلى اهتمام البطالسة بأمر السودان في عهد بطليموس الثاني، الذي بدأ بإحكام صلات المودة بينه وبين ملك النوبة «أركمين أو أرجمينيس»، وازدادت التجارة بين القطرين في ذاك الوقت زيادة عظيمة بفضل سياسة بطليموس السلمية التي آثرها في ربط القطرين والاستيلاء على ينابيع ثروة السودان على سياسة القتال والفتح.
وقد كان جل قصده أن يضع يده على مناجم الذهب بوادي العلاقي، ولم يكن ثمت من سبيل إلى ذلك إلا أن يبسط سلطانه على وادي النيل حتى «الدكة» جنوبا، ولم يكن الإقليم الواقع بين «عمارة» و«الدكة» خاضعا لملك ما، في ذلك العصر، «ويبلغ طوله 130 ميلا»، وقد روى مؤرخو اليونان أن البطالسة بسطوا نفوذهم في ذلك الإقليم على مدى نحو مائة ميل.
ولم تقف مجهودات بطليموس عند هذا الحد، بل دفعه اهتمامه بأمر السودان إلى إرسال بعثة برية بالطريق الذي تبعه سلفه من الملوك، ولما لم تأت البعثة بفائدة كبيرة ولى وجهه شطر المرافئ البحرية القريبة من جنوبي السودان؛ ليتخذ منها طريقا للتجارة مع تلك البلاد، «وما تلك المرافئ إلا الملحقات التي يطالب بها الحزب الوطني.»
وقد دلت اللوحة الأثرية التي اكتشفها الأستاذ إدوارد نافيل الجنيفي سنة 1884 عند (باطوم
) أو «تل المسخوطة»، الواقعة على بعد عشرة أميال جنوبي بحيرة التمساح، على أن بطليموس أرسل عمارة بحرية إلى جنوب بلاد «خثيثت» بالسودان، عن طريق خليج السويس، وأن قائده حمل إليه كثيرا من نفائس تلك البلاد، ولما علم بطليموس بكثرة خيرات تلك الأرجاء وعظيم ثروتها شيد مدينة «إبيثيراس
Epitheras » التي كان موقعها غير بعيد عن مدينة سواكن الحالية، واتخذها قاعدة اتصال وتجارة مع جنوب السودان وشرقه، وقد أخذ ضباطه كثيرا من فيلة تلك البلاد وأرسلوها بالسفن إلى مصر. •••
وقد ذكر المؤرخون بحق أن الملك بطليموس في مصر كان مؤيدا، وخضعت له بلاد السودان خضوعا تاما، ودانت له رقاب بلاد حملة الرماح والقسي، ويؤيد هذا الرأي الدكتور بدج أمين القسم المصري بالمتحف البريطاني.
وفي السنوات الأخيرة من حكم بطليموس الرابع أرسل بعثات كثيرة عن طريق موانئ البحر الأحمر لقنص الفيلة التي كانوا يستعينون بها في الحروب، وقد أصلح بناء معبد الدكة «بالنوبة» الذي بناه «أركمين» ملك النوبة.
وقد نسج حكام البطالسة جميعا على هذا المنوال من الاهتمام بالسودان وتجارته وخيراته؛ لا سيما مناجم الذهب بوادي العلاقي، حتى قال الدكتور بدج:
قد ساد السلام العلاقات بين مصر والسودان طول عهد البطالسة، وراجت التجارة بين البلدين، وكانت القوافل لا ينقطع لها سير دون عقبة في سبيلها، إلا ما كان من سطو بعض قطاع الطرق، والضرائب الباهظة التي كان يطلبها أحيانا حكام المدن التي كانت تعرض فيها تلك السلع للبيع.
مما سبق ذكره يتبين جليا أن العلاقات بين مصر والسودان في العصر البطلسي لم تكن بأوهى منها في العصر السابق، زد على ذلك أن العنصرين قد ارتبطا برابطة الدين، فقد تدين أهل النوبة آلهة مصر، حتى إن «أركمين» ملكهم معاصر بطليموس الرابع لقب نفسه «طنانخ آمن تع رع»، نسبة إلى إله مصر «آمن رع»، وسمى نفسه «ابن رع وحبيب إيزيس».
وقد جاء فيما نقش على معبد «الدكة» أنه سمى نفسه «أوزيريس» و«إيزيس» «وخنمووساتي»، إلى غير ذلك من الألقاب المنسوبة إلى الآلهة المصرية.
فتيات سودانيات على النيل وأمام الأكواخ.
الفصل الخامس
السودان في العصر الروماني
كان أول حكام الرومان بمصر «كورنيليوس جاليوس»، وقد قام بخدمات جليلة لسيده الأمير الإمبراطور أغسطوس، فبعد أن استولى على مدينة «هيروبوليس» تابع تقدمه في مصر العليا حتى خضع له جميع أهل مصر، وقد كانت مدينة «قفط» و«طيبة» مركزي القلاقل والثورة، يساعدهما أهل النوبة ممن يقيمون جنوبي الشلال الأول، فلما أخضعها «كورنيليوس» سار بجنوده حتى «أسوان»، ودعا رؤساء النوبيين الذي كانوا يقيمون قريبا من «الفيلة» جنوبي وادي حلفا، فأفهمهم ما «لروما» من الحقوق في تلك المنطقة من وادي النيل، وترك لهم أن يحتفظوا باستقلالهم، فظل أهل النوبة في السنوات الأخيرة من حكم البطالسة على سلام وأمان مع مصر.
ومن المحتمل أنهم ما كانوا ليحجموا عن مقاتلة الرومان لو لم يبح لهم «كورنيليوس» الاحتفاظ بما كان لهم من الحقوق والامتيازات، وقد عثر الكبتن «ليونس
Lyons » عند «فيلة» على لوحة مكتوبة بالهيروغليفي والإغريقي والروماني تنطق بإخماد ثورة في سنة 29ق.م، ومن هذا نستنتج أن أول اتفاق عقد بين الرومان وأهالي النوبة كان في تلك السنة أو التالية لها، ولما ولي «إليوس جاليوس» على مصر، أمره سيده بأن يقوم على رأس جيش إلى بلاد العرب السعيدة «اليمن» لإخضاعها؛ إما سلما أو قتالا، فجهز عمارة عظيمة وجيشا جرارا، وسار على رأسهما، إلا أن المرض فتك بجيشه فتكا، وفقد كثيرا من سفنه، ورجع بأشد الخيبة والفشل.
فلما علم أهل النوبة بانتقال حاكم مصر شرقا، وأن عددا عظيما من جنوده شغله قتال العرب، انتهزوا تلك الفرصة وغزوا «طيبة»، وهجموا على الحامية التي كانت قريبة من «أسوان»، واستولوا عليها، وانتزعوا تماثيل قيصر. فلما علم الرومان بأمر هذه الثورة الرهيبة أرسلوا حاكم مصر «بترونيوس» الذي كان قد عين حديثا على رأس جيش يبلغ عدده عشرة آلاف من الجنود الراجلة، وثمانمائة من الراكبة لمقاتلة العدو الذي كان يبلغ عدد جيشه نحو 30000 جندي، فاضطر النوبيون إلى الرجوع؛ إما طردا أو انسحابا، إلى مدينة «بسلسيس؛ أي: الدكة» الحالية، وهناك بدأ «بترونيوس» قتالهم، فأرسل مندوبيه ليطلبوا من النوبيين إرجاع من غنموه وحملوه في غزوهم، وإبداء ما حملهم على الثورة، فأجاب النوبيون بأن ذلك يرجع إلى سوء معاملة «الملوك» لهم، فأجابهم بترونيوس «بأنهم ما كانوا قط سادة بلاد سيدها قيصر»، فطلب النوبيون مهلة ثلاثة أيام، ولما لم يبدوا شيئا في هذه المدة هاجمهم «بترونيوس»، واضطرهم للقتال.
وقد كانت العاقبة وخيمة على النوبيين الذين لم تعضهم دروعهم ورماحهم وقسيهم وسيوفهم عن قلة ضباطهم وسلاحهم، فولوا الأدبار؛ فريقا إلى المدينة، وفريقا إلى الصحراء، وآخر عبر النهر إلى جزيرة صغيرة في النيل، وكان من بين الغادين قواد «كانداس» ملكة النوبة، فتبعهم «بترونيوس» في السفن وقبض عليهم، وأرسلهم إلى الإسكندرية، وقد هلك معظم النوبيين قتلا أو أسرا، وتابع «بترونيوس» تقدمه جنوبا من مدينة الدكة حتى أريم عابرا في طريقه التلال الرملية - التي هلك بالقرب منها جيش «قمبيز» بعاصفة شديدة - فاستولى على «أريم» دون عناء، وتابع السير في النهر نحو خمسمائة ميل حتى «نبته» عاصمة الجزيرة المروية القديمة، واستولى في طريقه على المدن المهمة.
ولم تكن
1
الملكة «كانداس» في «نبته» لما وصل بترونيوس، إلا أنها أرسلت رسلها في طلب الصلح، عارضة إطلاق سراح من لديها من الأسرى وإعادة التماثيل، «ولعلها تماثيل قيصر»، فكان جواب «بترونيوس» أن هاجم «نبته»، واستولى عليها ودمرها، وأخذ كثيرا من الأسرى والغنائم، ثم قفل راجعا عندما رأى أن شدة الحر وكثرة الرمال تحول دون متابعة التقدم جنوبا، ولما عاد إلى «أبريم» أقام فيها حملة من أربعمائة مقاتل، وزودها بمئونة سنتين، ثم عاد إلى الإسكندرية وباع بعض من كان معه من النوبيين ، وأرسل آلافا منهم إلى «قيصر»، ومات عدد كبير من وطأة المرض، وبعد أن رحل «بترونيوس» عن «إريم» هاجمتها الملكة «كانداس» بجيش قوامه عدة آلاف من الجنود.
وقبل أن تتمكن من الاستيلاء عليها عاد «بترونيوس» إليها، فاضطرت الملكة إلى إرسال رسلها بقصد الصلح، فأحالهم على «قيصر»، ولما أنبأه بأنهم لا يعرفون من هو ولا أين يقيم، أرسل معهم بعضا من رجاله إلى «قيصر» في «ساموس»، وهناك حصلوا منه على كل ما طلبوا، حتى إن قيصر رفع الجزية التي كان قد ضربها عليهم.
وقد أثبتت غزوة «بترونيوس» هذه لأهل النوبة أن حكومة مصر إذ ذاك لا تؤمن عاقبة الثورة عليها «كما تحقق الدراويش ذلك بعد ثورتهم»، واعتبروا بما ألقاه عليهم بترونيوس من الدروس التأديبية، فقد أتاهم بخيله ورجاله، وحمل عليهم بشدة، وقوض أركان حاضرة ملكهم، وأرسل عددا عظيما منهم إلى الإسكندرية حيث باعهم، ثم حمل ما وصلت إليه يداه من الغنائم.
ولقد جاء فيما رواه «بلين» عن تلك البلاد أنها كانت بلادا ذات بأس وشهرة أيام حكم ملكها «ممنون»، ولكنها لم تكن في الواقع إلا ولاية مصرية، وكانت جديرة بهذا الوصف؛ إذ كثيرا ما تولى زمامها حكام مصريون.
وفي عهد حكم أغسطوس بدئ ببناء معبد «الكلبشة»، وزيد في معبدي «دندرة والدكة»، وفي حكم «كاديوس» «41-54م» قام الرومان بمشروعات كثيرة؛ كتوطيد ترويج التجارة بين بلاد العرب والهند ومصر، وفكر «نيرون» في غزو إيتيوبيا «أي: السودان، لا الحبشة» بقصد وضع يده على حاصلات البلاد، ومن العجيب أن الروم حتى في ذاك الوقت لم يعلموا إلا النذر من جغرافية بلاد السودان، وإلا لأدركوا أن أثمن ثروة البلاد كائنة في دارفور وكردفان والأقاليم حول النيلين الأبيض والأزرق وبينهما، فقد أرسل «نيرون» قبل أن يقوم «بغزو النوبة» بعض ضباطه مع بعض الجنود ليرودوا البلاد، ويرفعوا إليه تقريرا بحالتها، إلا أنهم عادوا منبئين بأن ليس على ضفاف النيل إلا أرض بلقع.
على أن ما عادوا به من المعلومات عن بلاد السودان لا تخلو من أهمية؛ فقد مروا ببلاد عديدة حتى مدينة «مروى»، وتابعوا السير حتى وصلوا إلى منطقة قالوا عنها إنهم رأوا الصخور فيها تعترض النهر حيث يندفع بقوة هائلة. ويؤخذ مما رووه: «أنهم وصلوا إلى إقليم تغمره مستنقعات عظيمة قد نبتت فيها أعشاب كثيفة جعلت الملاحة مستحيلة في تلك المنطقة»، ولو قارنا بين ما وصفوا به منطقة المستنقعات التي وصلوا إليها وبين ما وصف به «السير وليم جارستن» مستنقعات بحر الجبل لما خامرنا الشك في أنهم وصلوا إلى جزء من وادي النيل يخترقه هذا البحر، «بحر الجبل»، وإننا نأسف مع الدكتور بدج الأثري الإنكليزي الشهير؛ لأن كثيرا من التفاصيل التي ذكرتها البعثة الرومانية الكشافة لم يصل إلينا، ولكن لا جدال في أن ما ذكروه من أوصاف منطقة المستنقعات لم تبن إلا على مشاهدتهم الشخصية.
ومن سنة 54 حتى سنة 260م لم يلق الرومان متاعب تذكر من جانب النوبيين الذين رضوا بأن يتركوا أسياد المنطقة من أبريم الجنوبية.
على أن القبائل المعروفة بقبائل أو برجال التلال - كما كان يسميهم قدماء المصريين - بدأوا في أوائل القرن الثالث بمهاجمة حدود مصر الجنوبية، ونزلوا في غرب بلاد طيبة «الأقصر»، وقد روي أنهم نزلوا بأرض الواحة الخارجية، وكان الإغريق والرومان يسمونهم البلمعين
Belimmyes ، وهؤلاء القوم من أصل حامي، نزلوا بالصحراء الشرقية متنقلين فيها شمالا وجنوبا، مرتادين الكلأ والمراعي لإبلهم وماشيتهم، وتعرف تلك القبائل عند الكتاب العرب «بالبجة أو البجاة»
Auaks ، ومنهم «قبائل البشاريين»، وقد انضم إليهم عدد عظيم من زنوج منطقة «مروى»، ونزل كثيرون منهم بالصحراء الغربية، وانتشروا فيها حتى كردفان، وقد حالفت تلك القبائل أهل طيبة للقيام في وجه الرومان بمصر، وقد اشتهر أهل تلك القبائل بشدة بأسهم وغلظة طباعهم، وبطشهم بالقوافل وسلبهم متاعها، وللكونت لينان دي بولفون الذي طاف بلادهم على عهد الخديوي إسماعيل مؤلف قيم عنها.
وحوالي سنة 250م اشتد ساعدهم بصعيد مصر، فاعتدوا على مدائنه وقراه نهبا وسلبا دون أن يلقوا ما يسد سيلهم ويضع حدا لأذاهم، فما كانت سنة 261م حتى سار إليهم «ماركوس يوليوس
Marcus Julius »، الذي أقامه أهل الإسكندرية ملكا على مصر، وهزمهم وردهم على أعقابهم إلى الشلال الأول، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى اعتدائهم على مدائن مصر في عهد كلوديوس الثاني
Claudius .
وما زال يشتد ساعدهم ويعظم سلطانهم بما قدمه إليهم ابن ملكة النوبة وأهل مصر الناقمون على حكم الرومان، حتى رسخت أقدامهم وثبت سلطانهم بمصر العليا في حكم أوريليان
Ourelian «270-275»، إلا أن أوريليان حمل عليهم حملة شديدة في سنة 274، فهزمهم وأسر كثيرا منهم وأرسلهم إلى روما، ولكنه لم يقبض على سلطانهم، حتى إن خلفه «ريبوس» عجز عن إخراجهم من مصر العليا؛ لا سيما وقد اتحدت معهم قبائل الشرق والغرب، ولكنه فاز منهم بمدينة «قفط» مركز تجارة الشرق في ذلك الوقت.
وفي أوائل حكم دقلديانوس «284-305م» ازداد نشاط «البجة»، وتكررت غزواتهم واعتداؤهم على جنوب مصر، ورأى دقلديانوس أن لا قبل له على قمعهم ورد عاديتهم، على الرغم من تعزيزه لحامية أسوان وإقامة غيرها في كثير من المدن القريبة منها، ولم يكن في ذلك الوقت قادرا على إرسال جيش إلى بلاد السودان ليكسر من شوكة تلك القبائل وينزل بها شر الهزائم، فاستقر به الرأي على سحب تلك الحاميات، وأن يعهد بحماية مصر العليا ورد عادية «البجة» إلى قبيلة «نباكا»، وهي قبيلة ذات بأس سكنت الصحراء الغربية، يرجع أصلها غالبا إلى دارفور وكردفان، وامتدت حتى الواحة الخارجة، وقد كان بيدها تجارة جنوب السودان كلها، وكان لأهلها من البأس والخشونة وصولة القتال ما جعلهم خير أنداد لأهل البجة، وهم سلالة قبائل «منيتو» أو «البقارة» الذين ألقوا الرعب في قلوب فراعنة مصر، فأقطعهم دقلديانوس أرضا واسعة ورتب لهم مالا كثيرا سنويا في مقابل حراستهم لبلاد مصر، ورد عادية البجة عن مدنها وأهلها، وفي الوقت نفسه عقد مع البجة اتفاقا بأن يدفع لهم مبلغا سنويا نظير كفهم عن الاعتداء على مدن مصر العليا.
ولما تم ذلك شيد حصنا على جزيرة قريبة من «الفيلة»، وأقام فيه معبدا ليجتمع فيه الرومان وأهل تلك القبائل؛ ليسووا ما بينهم من الخلاف حبيا، ويجددوا عهود الولاء ومواثيق الوفاء على أيدي قساوس من الفريقين.
كان أهل البجة وأمثالها يعبدون في «فيلة» الآلهة إيزيس وأوزيريس وبرباوس وغيرهم، وكان من عادات البجة أنهم يقدمون الرجال قربانا للشمس.
وقد كانت سياسة دقلديانوس هذه هي السياسة الطبيعية الحكيمة في تلك الظروف، وهو أول حاكم لمصر أدرك بدهائه ورجاحة عقله أن خير سبيل للاطمئنان على أرض مصر من غزو أهل الجنوب هو بإيغار صدور قبائل الغرب على قبائل الشرق، ومبالغ يسيرة يدفعها سنويا لتلك القبائل.
وقد خيم السلم على مصر العليا، ووفت تلك القبائل بعهودها نحو مائة سنة، إلا أن البجة حنثوا بعهودهم في أواخر ثيودوسيوس الثاني «408-450م»، وقاموا في وجه نبته، وغزوا مصر العليا، واستولوا على الواحة الخارجة، وهزموا من كان فيها من جنود الرومان.
وفي حكم الإمبراطور ماركيانوس «450-457م» جمع ماكسيمانوس، القائد العام للرومان بمصر، جيشا جرارا وسار به جنوبا حتى حل بأرض البجة و«نبته»، فمزق جموعهم ونكل بهم، وأرغمهم على رد من كان لديهم من أسرى، وفرض عليهم غرامة جسيمة، وزعها على من حل بهم أذاهم وأصابهم اعتداؤهم، وحتم عليهم تقديم رهائن لضمان حسن سلوكهم مستقبلا، وأن يتعهدوا بالتزام جانب السكينة والسلم مائة سنة، فرضوا بذلك كله مقابل مطلب واحد عجيب، ذي معنى عظيم، وهو «أن يسمح لهم بالحج إلى معبد إيزيس بفيلة، وباستعارة تماثيلها من آن لآخر؛ ليتوسلوا إليها أن تمدهم برحمتها وتشملهم بنعيمها»، فكان لهم من ماكسيمانوس ما أرادوا، وساد السلام بين الرومان وقبائل السودان طول حياته، ولكنهم ما لبثوا بعد موت ماكسيمانوس أن اتحدوا وسووا بينهم من الخلف، وغزوا بلاد مصر، واستردوا رهائنهم، ولكن فلوروس حاكم الإسكندرية أسرع إليهم وأخمد ثورتهم، وجدد البجة ونبته المواثيق عاملين باتفاقهم السابق.
وفي أواخر حكم جستنيانوس الأول «527-565م» انتهى أجل اتفاقية ماكسيمانوس، ويظهر أن تلك القبائل فكرت في مناوأة مصر، ولو أنه لا يوجد ما يدل على عزمهم على ذلك، ومهما يكن من أمرهم فإن جستنيان صاحب التشريع الروماني صب عليهم جام غضبه؛ فبدأ بإغلاق معبد إيزيس وما حوله بفيله لاعتقاده أن وجوده يجعل تلك المنطقة مركزا للدسائس والفتن، وأن لا مفر من ذلك ما دام لقبائل البجة ونبته حق الدخول إلى بلاد مصر بدعوى الحج إلى ذلك المعبد، فأمر بإغلاق المعبد، وحرم عبادة إيزيس، وحمل ما كان بالمعبد من التماثيل إلى القسطنطينية، وزج قساوسته في أعماق السجون.
وقد عادت قبائل السودان إلى مناوأة مصر أيام حكم تيبيريوس الثاني «578-582م»، ولكن قائد جيوش الرومان بمصر أخضع ثائرتهم، ولم يرو شيء مدة قرن بعد ذلك التاريخ؛ إذ شغل الرومان برد عادية الفرس، وتركوا قبائل الغرب والشرق تحكم نفسها بنفسها كما شاءت.
الفصل السادس
تاريخ النوبة
تقع بلاد النوبة فيما بين الشلال الأول والرابع، وقد أطلق عليها التاريخ أسماء كثيرة، فهي في التوراة بلاد الكوش، وكوش هذا - فيما تقول التوراة - هو جد النوبيين، وأخو «مصرايم» جد المصريين، وكلاهما من حام بن نوح. وأطلق عليها الإغريق اسم إيتيوبيا، ومعناه الوجه شديد السمرة، ويطلق هذا الاسم الآن على بلاد الحبشة.
أما اسم النوبة، فهو - فيما يقال - نسبة إلى كلمة نب، ومعناها في اللغة النوبية: الذهب، أي: بلاد النوبة هي بلاد الذهب، ولوفرة هذا المعدن في صحاريها.
وكان يسكن هذه البلاد قوم يجتمعون في نسبهم بقدماء المصريين، حتى ليذهب المؤرخ ديودور إلى القول بأن أصل المصريين جالية نوبية نزحت من الجنوب، ويؤيده في ذلك أن موتى المصريين - قبل عصور التاريخ - كانت تدفن ورءوسها متجهة نحو الجنوب، وأن البخور كان يستعمل في العبادة المصرية منذ القدم، وما كان ذلك ممكنا لو لم يكن المصريون قد جاءوا من الجنوب، وأن أشهر آلهة مصر من النوبة، مثل: أوزيريس الذي أنقذ مصر من الهمجية، وعلم أهلها الزراعة، ووضع لهم الشرائع، وشيد المباني في طيبة. ومثل زوجته إيزيس التي أخرجتهم من الوحشية، وصرفتهم عن أكل لحوم البشر، وعلمتهم قواعد الزواج الشرعي، وكذلك ابنهما حورس رب الوطنية والفروسية، الذي طهر مصر من آلهة الشر والفساد.
ويذهب آخرون إلى أن النوبيين نزحوا قديما من مصر إلى الجنوب، وحملوا معهم بذور الحضارة والعقائد المصرية، ويستدل هؤلاء على ذلك بأن النوبيين كانت لهم حضارة قديمة، لا تختلف كثيرا عن حضارة المصريين، كما أن الإله المصري أمون كان مقدسا عندهم في نبته ومروى.
وسواء أكان المصريون جالية نوبية نزحت إلى الشمال، أم كان النوبيون جالية مصرية هاجرت إلى الجنوب، فإن مما لا شك فيه أنهما من عنصر واحد، فقد أثبتت الأبحاث العلمية التي أجراها العلامة إليوت سميث
Elliot Smith
في مقابر مصر والنوبة، أنه لا فرق بين المصري والنوبي في التكوين الجثماني، حتى ليتعذر من هذه الوجهة تعيين حد فاصل يميز أحدهما عن الآخر!
وقد
1
وقعت في بدء الأسرات الملكية في مصر غزوات جاءت بكثير من الدماء الزنجية، فأثرت في الدم المصري والنوبي، وكانت أشد تأثيرا في المنطقة الواقعة فيما بين جبل السلسلة والشلال الثاني.
أما قبائل النوبة التي تقطن بين الزنوج جنوب كردفان، فإنها لا تمت إلى الزنوج بصلة، وإنما وجدت هنالك منذ القدم، فرارا من التصادم بالموجات البشرية القوية التي تدفقت إلى تلك البلاد، ولا تزال هذه القبائل في مستوى أرقى من الزنوج، وتمتاز عنهم في تكوين الجسم والطباع.
وهناك عنصر حامي لم يختلط بالزنوج، كالنوبة، وهو المعروف بقبائل البجة، بل ظل محافظا على بداوته في الصحراء، بينما كان العنصر النوبي يعيش على ضفاف النيل.
ولما جاء الفتح الإسلامي تدفقت سيول القبائل العربية إلى تلك البلاد؛ لانتجاع الرزق واستغلال مناجم الذهب، فاختلطت دماء النوبيين والبجة بدماء العرب، ونزلت هنالك بعض قبائل البربر، ثم جاء الفتح التركي بعنصر آخر، حتى صار النوبيون الآن خليطا من عدة عناصر، أهمها: العربي، فالتركي، فالبربري، فالنوبي. (1) مصر والنوبة
ويرتبط تاريخ النوبة ارتباطا وثيقا بتاريخ مصر، حتى ليصح القول بأن كلا منهما متمم للآخر؛ فإن وحدة الأصل والوطن والدين قد أحكمت بينهما أواصر القربى والجوار، فإذا هما شعب واحد في آماله وآلامه، على الرغم من اختلاف الإقليم والمناخ.
وللتاريخ النوبي أطوار عدة تبدأ منذ فجر التاريخ، حيث عهد البداوة والقبلية في النوبة، وبدء الحضارة والملكية في مصر، وفي هذا الطور قامت مصر بكثير من الحملات التجارية والحربية في بلاد النوبة، وبذل ملوكها جهودا متوالية في فتح الطرق البحرية بين الجنادل، وإخضاع القبائل النوبية المجاورة التي كثيرا ما كانت تغير على الحدود المصرية.
وكان من آثار ذلك نمو العلاقات بين مصر والنوبة، وتبادل المنافع والدماء، فقد غزا سنوفرو، آخر ملوك الأسرة الثالثة، بلاد النوبة، ثم توغل في الجنوب وعاد ومعه سبعة آلاف أسير من الزنوج والنوبة، ومائتا ألف رأس من الماشية، واستخدم هؤلاء الأسرى في استثمار مناجم الفيروز بطور سيناء، أو في تشييد قبره بدهشور، وبناء هرمه في ميدوم، واستطاع بيبي الأول أحد ملوك الأسرة السادسة - بعد أن بسط نفوذه على شمال النوبة - أن يجند منها جيشا هزم به أمراء الوجه البحري.
ولما سهلت المواصلات بين مصر والنوبة، هاجر كثير من المصريين إلى تلك البلاد؛ للبحث عن مناجم الذهب، أو فرارا من ظلم الولاة، فدخلت بلاد النوبة في طور جديد، ونمت فيها بذور الحضارة المصرية، وازدادت عناية الفراعنة باستعمارها، فأقام ملوك الدولة الوسطى هنالك الحصون والقلاع؛ للسيطرة عليها وتأمين الطريق.
وفي عهد الدولة الجديدة، تم الاستيلاء على تلك البلاد، وامتزج بها الدم المصري، وانتشرت المدنية المصرية، ثم استقلت النوبة عن مصر، وقامت فيها مملكة قوية عاصمتها «نبته» على مقربة من الشلال الرابع، بسطت سلطانها على مصر فيما بعد.
وقد أسفرت هذه الأطوار عن إيجاد رابطة قوية بين مصر والنوبة، فإن مملكة «نبته» لم تقم إلا على أساس الحضارة المصرية، وبرعاية كهنة أمون الذين هاجروا إليها بعد سقوط طيبة، كما أن أحمس أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة تزوج بابنة ملك النوبة على عهده، فأمده هذا الملك بجيش نوبي استطاع أن يطرد به الرعاة من مصر، وتزوج كاتشا ملك النوبة بابنة كاهن مصري، فأنجبت له بعض ملوك الأسرة الخامسة والعشرين.
ثم اضمحلت مملكة «نباتا» بعد سقوط هذه الأسرة، واستقلت كل من مصر والنوبة، وتعاقب على مصر الفرس والبطالسة والرومان، وقامت في النوبة مملكة مروى، فنالت في التاريخ شهرة واسعة لم تنلها نبته من قبل، وبعد أن زالت مملكة مروى ظهرت في النوبة ممالك أخرى، أشهرها: مملكة النوبة السفلى، من الشلال الأول إلى الرابع، وعاصمتها دنقلة العجوز، ومملكة علوة، من الشلال الرابع إلى أعالي سنار، وعاصمتها سوبة على النيل الأزرق، ومملكة أكسوم، وهي المعروفة الآن بالحبشة.
وحوالي القرن السادس الميلادي كانت المسيحية قد انتشرت في تلك البلاد، ولم يبق على الوثنية إلا قبائل البجة، وكان الإسلام إذ ذاك قد دخل مصر، وأحاط المسلمون ببلاد النوبة من الشمال والشرق، وكان لهم مع نصارى النوبة ووثنيي البجة وقائع كثيرة كانت تفرض فيها الجزية، وقلما تؤدى، حتى انتمى النوبيون إلى الإسلام حوالي القرن الثامن الهجري.
وقامت في المهاجر العربية في بلاد النوبة ممالك صغيرة، مثل: مملكة الشايقية، والدفار، ودنقلة، والحندق، وأرقو، وكانت على صغرها ذات بأس وقوة، حتى إن ملوك الشايقية كثيرا ما كانوا يغزون ممالك النوبة ويفرضون عليها الجزية، ثم انقسمت بلاد النوبة بعد ذلك بين الفونج في الجنوب والكشاف في الشمال، حتى جاء الفتح المصري الأخير، فعادت كلها تابعة لمصر.
وقد ظهرت الحضارة هنالك منذ أربعة آلاف سنة، ثم أخذت تنمو وتزدهر وتصطبغ بالصبغة الفرعونية، حتى بلغت شأوا بعيدا في الدين والسياسة والفنون، فقامت هناك الأهرام والمعابد، وارتقت الفنون والصناعات، وانبسط سلطان النوبة على وادي النيل.
وقد وفقت هذه البعوث إلى كثير مما ترجوه، واستطاعت أن تجمع صورا قيمة لتلك الحضارة؛ أهمها ما يختص بالعصر المروي، وهي بلا شك ثروة جديدة تضاف إلى نفائس التاريخ.
ولعل أقدم هذه الآثار ما وجد في مقابر عنيبة، ويرجع تاريخها إلى ألفي سنة قبل الميلاد؛ منها مائتا آنية من الخزف والفخار، محفور عليها نقوش بديعة ملونة، وفي هذه المقابر أيضا تماثيل صغيرة، كانت توضع مع الميت لتنوب عنه في أداء الأعمال الشاقة في الحياة الأخرى، وهذا لون من العقائد المصرية القديمة.
أما حضارة العصر المروي، فقد تأثرت بالفن المصري والروح البيزنطية، وفي مقابر فسطل وبلانة آثار ثمينة من الوجهة التاريخية والفنية، تمثل هذه الحضارة في أزهى عصورها، فهناك تيجان من الفضة المرصعة بالجواهر والتماثيل الصغيرة، ومجموعة ثمينة من الحلي والأسلحة والأطباق والملاعق، وتحف بديعة من البرنز على شكل مواقد ومباخر ومصابيح، ورقعة للشطرنج من العاج والأبنوس، وأطقم فاخرة من السروج والبراذع، مصنوعة من الجلد المصبوغ باللون الأزرق، ومطعمة بالفضة والأحجار الكريمة، ومحلاة بزخارف، هي مثل حي على رقي الفنون الجميلة في ذلك العهد.
من مشايخ أبي حمد والشلال وهم كأهل الصعيد.
وهذه المقابر خاصة بطبقة الملوك والأشراف، يلبسونهم التاج والحلي والسلاح، ويزودونهم بالطعام والشراب، ويودعون قبر الملك تحفه الخاصة، ثم يشنق العبيد أنفسهم لديه، وتطهم خيوله حيث تقتل داخل القبر؛ ليكون الجميع في خدمته في الحياة الأخرى!
وقد روى هيرودوت أن النوبيين كانوا يحنطون الميت، ويطلون جسده بالجص، ويدهنونه بمادة تجعله قريب الشبه بالحياة، ثم يوضع في أسطوانة من البلور؛ بحيث يرى الميت ولا تنبعث منه رائحة الموت، وتحفظ هذه الأسطوانة لدى أقارب الميت سنة كاملة، يقدم له في خلالها الذبائح وبواكير كل شيء، حتى ينتهي العام فتنقل هذه الأسطوانة إلى المقابر.
وفي المتحف المصري قسم خاص بالتاريخ النوبي، تمتلئ غرفه وأروقته بآثار ثمينة، تمثل الحضارة النوبية في كثير من العصور، ويوجد تمثال من المرمر للأميرة أمنرتيس
Amenartais
الزوجة المقدسة لأمون وحاكمة طيبة، وهو قائم على قاعدة من الجرانيت الأسود، بقد أهيف وقوام رشيق ووجه صبوح، يزينه التاج على رأسها، والأساور العريضة في معصميها، والحجول الكبيرة في رسغيها، وعلى قاعدة التمثال منقوش اسم أخيها الملك شبكا. (2) مملكة نبته أو نباطا وملوك النوبة في مصر
ومن المحقق أنه نشأت ممالك بالنوبة، ولكن تاريخها غامض، وقد ثبت أن الملك أحمس أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة قد استعان بملك النوبة على الرعاة الذين أرهقوا المصريين أكثر من ستمائة عام «2214-1600ق.م»، حتى تشتت كثير منهم في بلاد النوبة، وأسسوا فيها مهاجر كثيرة، وأمده هذا الملك بجيش نوبي طرد به هؤلاء الرعاة من مصر.
ولما سقطت مملكة «طيبة» بعد عهد الرعامسة،
2
نفى الملك «سمنتوميامون»، أحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين، كهنة أمون معبود طيبة من مصر، فلجأ هؤلاء إلى بلاد النوبة؛ لأنها كانت تعبد هذا الإله، وشملوا ملوك النوبة برعايتهم، وقووا فيهم نزعة الحرية والسيادة، فإذا بمملكة «نباته» «أو نباطا» مملكة قوية ذات حضارة وسلطان، وإذا بها تبسط سيادتها على وادي النيل، وتعيد لأمون نفوذه وسلطانه.
ومن ملوك «نبته» قامت الأسرة الخامسة والعشرون «715-664ق.م»، ولا يزال باقيا من آثار هذه المملكة بعض المعابد والأهرام، فهناك - عدا المعابد - ثلاثة عشر هرما في جبل البرقل، وخمسة وعشرون تجاهه في نوري عند الشلال الرابع، وهي مبنية من الحجر الرملي على هيئة أهرام مصر إلا أنها أصغر منها حجما، وفي واجهة كل هرم إيوان كأواوين المعابد المصرية.
وقد استولى النوبيون على الصعيد، وانقسم الوجه البحري إلى عشرين ولاية بعضها مستقل عن بعض، وكان على ولاية سايس أمير قوي «تفنخت»، طمع في ضم الولايات الأخرى إليه، فاستعان على ذلك بجنود نوبية حارب بها الأمراء حتى تغلب عليهم، وتم استيلاؤه على مصر السفلى، فعد مؤسسا للأسرة الرابعة والعشرين.
ولم تقف مطامع «تفنخت» عند هذا الحد، بل جرد جيشا يحاول به استرجاع الصعيد من النوبيين، وكان على «نبته» في ذلك العهد ملك عظيم يدعى بيعنخي
، هاله أن ينتقص «تفنخت» من أطراف ملكه، فعبأ الجيوش لقتاله، ورده على أعقابه، واستولى على بلاده، ومن ثم صارت مصر إيالة نوبية.
وقد أبقى «بيعنخي» لأمراء مصر امتيازاتهم، وأقام عليهم «تفنخت» ملكا من قبله بعد أن أخضع وتاب، ثم عاد إلى عاصمة ملكه ظافرا منصورا.
ولما توفي الملك «بيعنخي» خلفه الملك «كاتشا»، ولم يكن من أسرة ملكية، وإنما كان متزوجا من ابنة كاهن مصري؛ ولذلك انقض عليه «تفنخت» وأجلى جنوده عن مصر، ثم توفي «تفنخت» وخلفه ابنه باكوريس، وكان قوي الإرادة، فاتخذ خطة أبيه، وجرد الأمراء من سلطانهم، وصار ملكا مستقلا على مصر، وفي أثناء ذلك مات «كاتشا» ملك النوبة، وخلفه ابنه «شبكا»، فتوجه إلى مصر لقتال «باكوريس»، واستعان عليه بأمرائها الذين يبغضونه، وشاء القدر أن يقع «باكوريس» في قبضته بمدينة تانيس، فألقاه حيا في النار! وعادت مصر تابعة لملك النوبة.
ويعد الملك «شبكا» مؤسسا للأسرة الخامسة والعشرين، وكان ملكا عادلا محبا للإصلاح، فشاد الجسور، وحفر الترع، وأصلح بعض المدن والمعابد المصرية، وجعل الأشغال الشاقة بدلا من عقوبة الإعدام، ونظم الإدارة المصرية، فجعل على كل إقليم رئيسا تحت إشراف أمراء من النوبة، وأقام أخته الأميرة «أمنرتيس» حاكما على طيبة.
وحدثت بين شبكا وملك آشور معارك كثيرة في الشام، انتهت بهزيمته وهزيمة حلفائه، فعاد إلى مصر بعد ضياع ملكه، ومات تاركا حكم الصعيد والنوبة لابنه «سبيخون»، وكان الوجه البحري تتنازعه فئتان من المصريين، وفاز «سبيخون »، وقام ضده أمير من النوبيين يدعى طهارقة
Taharqa ، فأغار عليه وقتله وتولى مكانه، ثم طهر مصر من العصاة، واستقر فيها أمره إلى أن غزا مصر آشور أخي الدين، وعاد طهارقة إلى غزو مصر، فاسترجع مدينة طيبة، وأبطل منها عبادة العجل أبيس. (3) مملكة مروى في عهد الرومان
تاريخ المملكة
ظهرت بعد دولة «نبته» أو «نباطا» مملكة «مروى» في الجنوب، و«مروى» هذه غير البلدة المعروفة الآن بهذا الاسم، فإن الأولى كانت تقوم قرب شندى، ولم يبق منها اليوم إلا أطلال دارسة، أما الأخرى، فتقع قرب آثار مدينة نباطا القديمة، وبين هذه وتلك طريق في الصحراء يبلغ طوله 180 ميلا، وفي بداية الأسرة السادسة والعشرين في مصر، أنشأ الملك «إبسمتيك» حاميات قوية لحدود الدولة في جزيرة إلفنتين عند أسوان، وكان لهذا الملك جيش قوي من الإغريق، واغتاظ الجند المصريون وفروا إلى النوبة، وانضموا إلى ملك «مروى»، فضم بعض القبائل النوبية إليه.
وكانت «مروى» معاصرة للفرس والبطالسة والرومان، ولها وقائع مع هؤلاء جميعا، وكان سلطانها يمتد من الشلال الأول إلى الحبشة، وآثارها تلي آثار نباطا في القدم وتفوقها في الأهمية، من بينها هيكل للإله أمون، ومجموعة من الأهرام يبلغ عددها ثمانين هرما، وفي جزيرة مروى بركة يملؤها ماء الأمطار، وحولها آثار هياكل فخمة، وبين هذه البركة ومدينة شندى آثار هيكل يبلغ محيطه ألف ياردة، ولملوك مروى آثار في نباطا نفسها، وهيكل قائم في بلدة عمارة جنوبي الشلال الثاني بنحو مائة ميل ، في دكة ودبود من النوبة السفلى.
وقد نهضت مملكة مروى حتى قيل إنها كانت تجهز للحرب جيشا مؤلفا من مائتين وخمسين ألف مقاتل، وكان فيها أربعمائة صانع، وأن للمرأة في عهدها رقيا وسيادة، فكان أكثر ملوكها نساء، ولقد عجز قمبيز عن غزو المملكة.
وفي عهد البطالسة، استولوا على جزء من النوبة السفلى حتى بلدة المحرقة، وكان الملك أرجيمنس ملك مروى معاصرا لبطليموس الثاني «285-247ق.ب»، وقد حور هذا الملك في الديانة النوبية، وأدخل في مملكته كثيرا من النظم والقوانين الإغريقية، ومن آثاره: هيكل في دكة ، أقامه على أطلال من عهد الأسرة الثانية عشرة، وأتمه البطالسة من بعده.
واشتهر في مروى بعده الملك «أذخر أمون»، وله في دبود هيكل صغير لا يزال قائما إلى اليوم.
وقد أرسل الإمبراطور الروماني أغسطوس قيصر، حوالي عام 23 قبل الميلاد، حملة من مصر لغزو بلاد العرب، وكان على مروى في ذلك العهد ملكة تلقب بكنداكة - وهو لقب الملكات اللواتي تولين الحكم في مروى، وفتحت الصعيد، وقد هزمها النائب الروماني بترنيوس بجيش مؤلف من عشرة آلاف وثمانمائة فارس، فتقهقرت أمامه حتى أدركها قرب دكة، وطلب منها رد الأسرى والغنائم، فلم تجبه إلى ذلك، فحمل عليها حملة قاسية شتت جيشها، ففرت منهزمة أمامه شر هزيمة، وامتنعت في قلعة قرب الشلال الرابع حتى استولى على حامية أبريم، ودمر نباطا، وقد قبلت كنداكة الصلح.
وظلت المحرقة حدا فاصلا بين مصر والنوبة إلى عهد الإمبراطور الروماني ديوقليشيان «284-323ب.م»، حيث رأى أن خراج هذه المنطقة، فيما بين المحرقة وأسوان، لا يفي بنفقات الجنود اللازمة لجمعه، فنزل عنها للنوبيين، وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان، ثم قوى حامية إلفنتين، وعقد مع النوبة والبجة معاهدة على حفظ الحدود، ظلت قائمة إلى عهد الإمبراطور مارشيان، حيث نقضها النوبيون وغزوا مصر العليا، وجلبوا منها كثيرا من الأسرى والغنائم، فغزاهم القائد مكسيمينوس محافظ طيبة عام 451 للميلاد، وتغلب على النوبة والبجة معا.
وكان لها معابد بيلاق «الفيلة» ودبود وكلابشة ودكة والسبوع وعمدة والدر وأبو سنبل الصغير وأبو سنبل الكبير وفريق.
معبد أبي سمبل في حدود مديرية أسوان ويرى لفيف أعضاء البعثة المصرية بالسودان أمامه سنة 1935.
وما زال الرومان يعاملونهم بالحسنى حتى قام الإمبراطور جستنيان «517-566ب.م» فأغلظ معاملتهم، وأمر نرفس قائد حامية بيلاق فعطل الهياكل، وسجن الكهنة، وأرسل تماثيل الآلهة إلى القسطنطينية، ولما زار المؤرخ إسترابون هذه الجزيرة، وجد أهلها من مصريين ونوبيين يعبدون صقرا كبيرا يؤتى به من النوبة، ولعل القبلة القائمة في الخلوة المقدسة كانت محلا لهذا المعبود.
وفي الجزيرة من آثار العهد المسيحي أطلال كنيسة لمارية العذراء، وأخرى للبطريق ماري أناطس، وكان فيها جامع ذو منارة لم يبق من آثاره الآن شيء، وقد كانت هذه الجزيرة أولى ضحايا خزان أسوان، يطغى عليها ماؤه أشهر الشتاء من كل عام، فتبدو في ذلك المنظر الرائع، وهي تصارع الفناء وتصمد له، حتى ينحسر عنها الماء أشهر الصيف، وقد ترك على معابدها أثر هذا الصراع الطويل.
وقد أنشأ رمسيس الأكبر معبد أبي سنبل الكبير، تذكارا لانتصاره على الحيثيين، وهو منحوت في الجبل إلى عمق 185 قدما، ويزين صدره أربعة تماثيل عظيمة، تهشم وجه أحدها، ويبلغ ارتفاع كل منهما 65 قدما، وعرضه 25 قدما، وهي تمثل رمسيس الأكبر جالسا على عرشه، ينظر إلى النيل بتلك العظمة الخالدة منذ نيف وثلاثة آلاف سنة.
ويشتمل المعبد على ردهة واسعة، فيها ثمانية أعمدة على شكل تماثيل للإله أوزيريس، ارتفاع كل منها 17 قدما، وقد زينت جدران الردهة بكثير من الصور الحربية، وحولها غرف مشحونة بالنقوش البديعة، وفي داخل المعبد ردهة أخرى تؤدي إلى مذبح فيه أربعة تماثيل ملونة، أحدها للإله هرماخيس، وآخر لرمسيس، وثالث للإله أمون رع، ورابع للإله بتاح، ويكاد يكون هذا المعبد سجلا شاملا لفتوحات رمسيس ومواقفه المشهورة، فهو يشمل على نحو ألف ومائتي صورة تنطق بمجده وعظمته؛ منها صورتان كبيرتان على جانبي الباب من الداخل، تمثله في موقف رمزي وهو قابض بيده على شعور فوج من الأسرى الجاثين أمامه من مختلف الشعوب، وبيده مقمعة وهو متحفز لسحقهم بضربة واحدة، وأمامه الإله هرماخيس يقدم له حسام النصر، ويتلو عليه آيات المجد والفخار، وهناك لوحة أخرى تمثل وقائعه المشهورة مع الحيثيين، وقد جاء في وصف إحداها القصة الآتية: «في العام الخامس من حكم رمسيس الثاني، كان جلالته في أرض الشاة على مقربة من قادش، وكانت الطليعة تراقب بانتباه شديد، ولما وصل الجيش إلى شمال مدينة شبتون، جاء إلى معسكر المصريين اثنان من عيون شاسو، وادعيا أنهما رسولان من قبل رؤساء القبائل لإخبار الملك رمسيس بأنهم غادروا ملك الحيثيين وهجروه، رغبة في عقد محالفة مع جلالته، وأنهم أصبحوا من ذلك الحين خاضعين لحكمه، ثم استطردا في الحديث مع جلالته وأخبراه أن زعيم الحيثيين في أرض حلب، وأنه يخشى الاقتراب من ملك مصر.
والواقع أن هذين الرجلين كانا جاسوسين أرسلا لكشف موضع رمسيس واستعداده الحربي، بينما كان زعيمهم على أهبة الهجوم.
وبعد ذلك بقليل جاء كشاف مصري إلى حضرة الملك وأخبره أن الجيش الحيثي قد ضرب معسكره خلف قادش، وأنه أفلح في ضم وحدات ومعدات كثيرة من الأقاليم المجاورة إلى جيشه.
عند ذلك جمع رمسيس رؤساء جيشه وأطلعهم على الأمر، وأنب فرقة الاستطلاع على تقصيرها في كشف مواطن العدو، ثم صدرت الأوامر للجيش بالزحف على قادش، وبينما هم يعبرون في النهر إذا بالجيش الحيثي وقد أطبق عليهم، فزأر رمسيس في جنوده زأرة أبيه مانتو ملك طيبة، وأسرع فسلح نفسه بالسلاح الكامل، وركب عجلته وانتقل بها في صفوف الأعداء، ولم يلبث أن وجد نفسه محصورا بين الحيثيين، ومنفصلا عن جيشه، فدعا أباه أمون أن يعينه على أمره، واستمات في الدفاع، فتكدست في طريقه جثث القتلى، ثم اتخذ لنفسه نفقا بين صفوف العدو، وهو يصليهم بسهامه القاتلة، حتى نجا من الهلاك الذي كان محدقا به من كل جانب.
وقد كانت مقدمة هذا المعبد مطمورة بالرمال المنهالة عليه من الجبال، فأزالت الحكومة هذه الرمال، وأقامت على سطح الجبل سورا كبيرا لمنع انهيالها عليه مرة أخرى، وقد عثر هناك على آثار كثيرة نقلت إلى المتحف المصري منها مجموعة من الحجر الرملي تتألف من مسلتين صغيرتين، ومذبح كانت توضع عليه القرابين، وأربعة قردة تتعبد إلى الشمس وقت الشروق ووقت الغروب، وهيكل بداخله تماثيل بعض الحيوانات المقدسة.
تاريخ المسيحية في النوبة
يبدأ تاريخ المسيحية في بلاد النوبة حوالي عام 545 للميلاد، حيث وصل إليها رسل من الإسكندرية يدعون أهلها إلى الدين المسيحي الجديد، وقد عطل الإمبراطور جستنيان معابد بيلاق، وسجن كهنتها، وأرسل تماثيل آلهتها إلى القسطنطينية، وفي عام 577 قلب الرومان هيكل الإلهة إيزيس إلى كنيسة، وأقاموا فيها مطرانا يدعى ثيودوروس، ومن ذلك العهد أخذت المسيحية تنتشر بسرعة في بلاد النوبة حتى عمتها في أواخر القرن السادس للميلاد.
وقد أرسل عمرو بن العاص إلى النوبة جيشا من عشرين ألف مقاتل بقيادة عبد الله بن سعد بن سرح، حملهم على دفع الجزية ثم عاد إلى مصر.
ثم لما تولى هذا القائد على مصر بعد عمرو بن العاص، نقض النوبيون في أول ولايته الصلح الذي بينهم، فامتنعوا عن دفع الجزية، وأرسلوا سراياهم إلى صعيد مصر، فعاثوا فيه نهبا وفسادا، فغزاهم ابن أبي السرح عام 31ه، وحاصر مدينة دنقلة، ورماها بالمنجنيق، فطلب ملكهم المدعو قليدورون الصلح، وخرج إليه في ذلة وخضوع، فتلقاه ابن أبي السرح بالعفو والإكرام، وعقد معه معاهدة هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي السرح، لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته، عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة، من حد أرض أسوان إلى حد أرض علوة.
إن عبد الله بن سعد جعل لهم أمانا وصدقة جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين وأهل الذمة: إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبي
صلى الله عليه وسلم
أن لا نحاربكم، ولا ننصب لكم حربا، ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم، على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه، وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه، وعليكم حفظ من نزل ببلدكم أو بطرفه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم، وإن عليكم رد آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين حتى تردوه إلى أرض الإسلام، ولا تستولوا عليه ولا تمنعوا منه، ولا تتعرضوا لمسلم قصده وجاوره إلى أن ينصرف عنه، وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مصليا، وعليكم كنسه وإسراجه وتكريمه، وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسا، تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلدكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان، وليس على مسلم دفع عدو عرض لكم ولا منعه عنكم، من حد أرض علوة إلى أرض أسوان.
فإن أنتم آذيتم عبدا لمسلم، أو قتلتم مسلما أو معاهدا، أو تعرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم، أو منعتم شيئا من الثلثمائة والستين رأسا، فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان، وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، بذلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من المسيح وذمة الحواريين، وذمة من تعظمونه من أهل ملتكم ودينكم، الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك.
كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة 31ه
وقد جرت العادة أن يكون البقط «أي: الجزية» ثلثمائة وستين رأسا لفيء المسلمين، وأربعين رأسا لوالي مصر، وكان الولاة يدفعون للنوبيين نظير ذلك مئات الأرادب من القمح والشعير، وكثيرا من الهدايا والصدقات.
ولما انتقلت الخلافة من بني أمية إلى بني العباس، حوالي عام 132ه، طورد الأمير عبيد الله بن مروان أمير مصر فيمن طورد من الأمويين، ففر بعبيده وأمواله إلى بلاد النوبة، ونزل في مدينة خاوية، فاستعمر بعض دورها، وأرسل إلى ملك النوبة يستجير به ويستأمنه على حياته، فقدم إليه الملك في عسكر عظيم، وتقدم إلى الأمير عبيد الله فقبل يده، فأشار إليه الأمير أن يجلس على فرش قد نضدت له، فأبى الملك إلا أن يجلس على الأرض، وقال كل ملك لا يكون متواضعا لله فهو جبار متكبر عنيد! وأطرق الملك طويلا ثم سأل الأمير: «كيف سلبتم ملككم وأخذ منكم، وأنتم أقرب الناس إلى نبيكم؟
فأجاب أن الذي سلبنا ملكنا أقرب إلى نبينا منا.
فقال له: فكيف إنكم تمتون إلى نبيكم بقرابة وأنتم تشربون ما حرم عليكم من الخمر، وتلبسون الديباج وهو محرم عليكم، ولم يفعل نبيكم شيئا من هذا؟ وبلغنا أنك لما وليت مصر كنت تخرج إلى الصيد، وتكلف أهل القرى ما لا يطيقون، كل ذلك في سبيل كركي تصيده.»
وصار ملك النوبة يعدد على الأمير جملة مساوئ وهو صامت لا يجيب، ثم قال له: «فلما استحللتم ما حرمه الله عليكم سلبتم ملككم، وأوقع الله بكم نقمة لم تبلغ غايتها منكم، وأنا أخاف على نفسي إن أنزلتك عندي أن تحل بي تلك النقمة التي حلت بكم، فإن البلاء عام، والرحمة مخصوصة.»
ثم أمره بالرحيل عن بلاده، فعاد إلى مصر حيث قبض عليه عمال الخليفة المنصور، وبعثوا به إلى بغداد فسجن فيها إلى أن مات.
وفي عهد الدولة الأموية والدولة العباسية كان في أسوان كثير من العرب من قبائل قحطان وربيعة ومضر، وخلق كثير من قريش، وكانت لهم ضياع في النوبة، فلما دخل المأمون مصر استعداه ملك النوبة على هؤلاء، وقال بأن هذه الضياع له، وأن بعض عبيده من النوبيين باعوها للمسلمين بغير حق، فأحال المأمون هذه الدعوى على والي أسوان، ورأى المسلمون أن يفسدوا على الملك محاولته، فأوصوا البائعين أن يقرروا أمام الوالي أنهم ليسوا عبيدا للملك، وأن علاقتهم به إنما تكون كعلاقة المسلمين بملوكهم، ولما جمع الوالي بينهم قرروا ذلك، فسقطت دعوى الملك، ومن ذلك العهد صار سكان تلك الضياع المجاورة لأسوان أحرارا لا تسري عليهم شريعة ملك النوبة من حيث استعباد رعاياه، ومن ثم نشأت العداوة بين ملوك النوبة والمسلمين، فصاروا يتحينون الفرص للإغارة على أسوان وبلاد الصعيد.
كانت أسوان مقر إمارة بيت كنز الدولة الذين هبطوا من الحجاز في خلافة المتوكل على الله - حوالي عام 242ه - وصاروا حكاما على ذلك الإقليم من قبل الحكومة المصرية، ثم استقلوا بالحكم فترة من الزمن، وامتد نفوذهم فيها.
وفي أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الهجري، كانت أسوان ضحية حروب طويلة بين العرب والحكومة المصرية، وبين العرب وهوارة، حتى أقفرت وصارت خرابا بلقعا، إلى أن استعمرت بعد الفتح العثماني من جديد.
وأشهر الغزوات التي وقعت بين مصر والنوبة في العهد المسيحي، غزوة ملك النوبة لأسوان عام 344ه / 956م؛ حيث قتل وسبى من أهلها خلقا كثيرا، فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن من قبل أنوجور الإخشيد، وزحف على بلاده في البر والبحر، حتى أدركه وأوقع به.
وهجم نائب ملك النوبة على أسوان عام 351ه، فخربها وأوقع بأهلها، وتوغل في صعيد مصر حتى مدينة أخميم، وكان ذلك عقب دخول القائد جوهر الصقلي أرض مصر، فلم يزد جوهر على أن دعا ملك النوبة إلى الإسلام وأداء ما عليه من الجزية، فلم يجبه إلى شيء من هذا، وإنما أكرم رسله وزودهم بالهدايا.
وبعد سقوط الدولة الفاطمية، أراد السلطان صلاح الدين عام 568ه فتح النوبة، فجهز جيشا بقيادة أخيه شمس الدولة والأمير كنز الدولة حامي أسوان، ففتح هذا الجيش بلاد النوبة إلى أبريم، ولما لم ير صلاح الدين فائدة من الاستيلاء على تلك البلاد المجدبة، أعاد منها جيشه، وترك فيها حامية وأميرا من الأكراد، ثم عاد فسحب هذه الحامية بعد غرق أميرها هناك، ونقضت النوبة عهدها مع صلاح الدين في عهد المماليك، فجرد عليها جيشا عام 574ه أخضعها لشروطه.
وفي عام 674ه أغار داود ملك النوبة على أسوان، وأحرق سواقي كثيرة، وأراد التوغل في الصعيد فتصدى له الأمير نجم الدين عمر، أحد أمراء بيت كنز الدولة، ورده إلى النوبة، واتفق أن سكندة ابن أخت داود ملك النوبة، قدم إلى السلطان الظاهر بيبرس مستجيرا من بغي خاله، فتذرع السلطان بذلك وأراد الاقتصاص منه، فجهز جيشا من المماليك والعرب وسيره إلى بلاد النوبة، ففتحها بعد معارك كبيرة، وأسر فيمن أسر الملك داود وأسرته، ثم أقيم سكندة ملكا على النوبة، وتعهد بأداء الجزية المقررة، وجعل نصف إيراد النوبة لعمارة البلاد وحفظها، ونصفه للسلطان، ونزل له عن منطقة الجنادل لقربها من أسوان، وقرر إهداء مجموعة كبيرة من الفيلة والزراف والفهود والإبل والبقر، تهدى إليه كل عام.
وأرسل السلطان المنصور قلاوون جيشا إلى النوبة عام 686ه، بعد أن استنفر العربان أولاد أبي بكر وأولاد عمر وأولاد شريف وأولاد شيبان وأولاد كنز الدولة وجماعة من بني هلال، فاستولى على البلاد إلى جنوب دنقلة، وضرب عليها الجزية ثم عاد.
وفي عهد السلطان الناصر ابن قلاوون، هاجر إلى مصر أمير نوبي يدعى نشلى، فأسلم وأقام عند السلطان، وكان على النوبة إذ ذاك ملك اسمه كربيس قد امتنع عن أداء الجزية، فجهز إليه السلطان جيشا عام 716ه، وبعث معه نشلى ملكا على النوبة، ففر كربيس إلى أرض علوة، واستقر نشلى في الملك إلى أن تآمر عليه النوبيون وقتلوه بممالأة جماعة من العرب، وكان كربيس قد حمل إلى السلطان في مصر، فأبقاه عنده وأسلم فحسن إسلامه، فلما قتل نشلى أرسله السلطان ملكا على النوبة، ولم يلبث أن أسلمت جميع رعيته، فكان هذا آخر عهد المسيحية في بلاد النوبة.
وفي دنقلة العجوز جامع قائم على أطلال كنيسة، وعلى واجهته حجر من الرخام، منقوش عليه تاريخ افتتاح هذه العاصمة في 20 من ربيع الأول سنة 717ه و9 من يونية سنة 1318م على يد سيف الدين بن عبد الله الناصر، وأحد أمراء بيت كنز الدولة.
وقائع البجة
في الصحراء الشرقية بين النيل والبحر الأحمر يقطن منذ القدم عنصر حامي يعرف بالبجة، وهو عنصر قوي شديد البأس، كان له مع قدماء مصر والنوبة وقائع كثيرة، وأشهر بلادهم مدينة عيذاب على البحر الأحمر تجاه جدة، وكانت فيما مضى مركزا هاما لنقل الحجاج والتجارة، وتشمل بلاد البجة منطقة العلاقي، التي عرفت من أول عهد الفتح الإسلامي بهذا الاسم، كما عرفت قديما باسم أوكيتا، وفي هذه المنطقة تقع مناجم الذهب والزمرد التي استغلها الفراعنة عهودا طويلة، ولا تزال بها بقية تعمل فيها بعض الشركات الأجنبية، وظل البجة عنصرا مستقلا في تلك الصحراء إلى عهد الفتح الإسلامي؛ حيث وفد عليها كثير من القبائل العربية لاستغلال ما فيها من المعادن، واختلطت بسراة البجة في المعاملة والنسب.
وكان البجة كثيرا ما يوقعون بالمسلمين الذين في المعدن، ويغيرون على قرى النوبة والصعيد الأعلى، وهم في أمن ومنعة في الصحراء، فبعث إليهم المأمون جيشا بقيادة عبد الله بن الجهم عام 216ه، وكانت له معهم وقائع كثيرة، ثم فرض عليهم جزية قدرها مائة من الإبل أو ثلثمائة دينار في كل عام.
وأقام البجة على ذلك مدة قصيرة، ثم عادوا إلى غزو الصعيد والإيقاع بمسلمي المعدن، وكان ذلك في عهد المتوكل على الله «232-247ه»، فاستشار الناس في أمرهم، فعلم أنهم ذوو قوة ومنعة في الصحراء، وأن الطريق إليهم يستغرق مسيرة شهر بين المهامة والجبال، ففترت همته عن غزوهم، ولكنهم أمعنوا في البغي والعدوان، واستطار شرهم في الصعيد، فولى المتوكل محمدا بن عبد الله القمي على الصعيد الأعلى، وأمره بحرب البجة، فسار إليهم عام 241ه بجيش عرمرم مؤلف من عشرين ألف فارس وراجل، ووجه إلى البحر الأحمر سبع سفن محملة بالمؤن والأقوات، وأمرها أن توافيه عند ساحل البحر مما يلي بلاد البجة، ثم زحف بجيشه حتى جاوز المعدن وانتهى إلى حصونهم، فخرج إليه ملكهم المدعو علي بابا في أضعاف جيشه، ودار بينهما القتال في غير حزم ولا بلاء، فقد كان ملك البجة يرمي إلى مراوغتهم حتى ينفذ ما لديهم من الزاد فيأخذهم بغير قتال! فلما وصلت السفن واستولى المسلمون على ما فيها من الأزواد، ناجزهم البجة بصدق وجلاد.
وكانوا على إبل فارهة نفورة، فأمر القمي بوضع الأجراس في أعناق الخيل، وحمل بها على البجة، فذعرت الإبل وفرت هاربة بهم في الجبال والوديان، وأوسعهم المسلمون قتلا وأسرا، حتى طلب ملكهم الصلح والأمان، فصالحه القمي على أداء ما عليه من الجزية، وتمكين المسلمين من العمل في المعدن.
واتصل البجة بمهاجري العرب، واعتنق الحداربة الإسلام - وهم صفوة القوم - ثم تبعهم الرنافج بإسلام ضعيف، ومن ذرية هؤلاء قبائل العبابدة والبشارية. (4) القبائل العربية
وأول ما نزلت القبائل العربية بالنوبة إنما نزلت في صحرائها الشرقية، وعلى الأخص في وادي العلاقي؛ حيث معادن الذهب والزمرد، فإن المعاهدة التي بين النوبة والمسلمين كانت تحرم أن ينزل أحدهما في بلد الآخر إلا مجتازا غير مقيم فيه.
وبسطت ربيعة نفوذها على البجة، وكفت عدوانهم عن ديار مصر؛ ولذلك كان لها السيادة على المعدن، والغلبة على باقي القبائل العربية، وكان رئيسها بشر بن مروان بن إسحاق - حوالي عام 332ه - يركب في ثلاثة آلاف من قبائل ربيعة ومضر وأحلافها من العرب، وثلاثين ألف حراب على النجب من الحداربة المسلمين!
أحد مشايخ العرب في السودان.
ولما خرب المعدن ونضب معينه تفرقت القبائل العربية على النيل، وانتشرت في النوبة السفلى والعليا، وتلاشى العنصر النوبي واللغة النوبية في النوبة العليا؛ لكثرة من هاجر إليها من العرب، ولأن أغلب أهلها كانوا من الزنوج الذين انسحبوا بإزاء هجرة العرب إلى الجنوب.
عرب العليقات
ونزل من القبائل العربية، في منطقة مستقلة بين بلدتي المضيق وكرسكو، عرب يعرفون بعرب العليقات، نسبة إلى وادي العلاقي الذي نزلوا منه بعد خرابه، وهم يدعونه من النسبة إلى عقيل بن أبي طالب.
واشتهر من ربيعة بيت لقب أمراؤه بكنز الدولة، وأول من حمل منهم هذا اللقب الأمير محمد بن عبد الله حامي أسوان، فإنه ظفر بأبي ركوة الأموي - حوالي عام 397ه - وكان أبو ركوة ثائرا على الحاكم بأمر الله الفاطمي، فأكرمه الحاكم إكراما عظيما، وخلع عليه هذا اللقب الكريم، فصار من ذلك العهد علما على هذا البيت وأمرائه.
وقد ربض هؤلاء الأمراء على حدود مصر الجنوبية يردون عنها غارات النوبة وعدوان البجة، وبسطوا سلطانهم على الصعيد والنوبة بعد إسلامها، فقامت لهم دولة في سنار حوالي القرن التاسع الهجري، وصار نفوذهم في فترة من الزمن يمتد من جبال فازوغلي جنوبا إلى حدود النوبة شمالا، أما في مصر، فكان سلطانهم يمتد من أسوان إلى نهاية الأعمال القوصية مدى ستمائة عام.
ويذكر التاريخ لأمراء هذا البيت معارك كثيرة مع السلطان صلاح الدين وبعض الولاة وقبائل هوارة، وذرية هذا البيت منتشرون في النوبة والصعيد، ومن الخطأ تسمية النوبيين بالبرابرة.
الفصل السابع
الحكومات العربية الإسلامية في السودان
كثرت هجرة القبائل العربية إلى مصر والسودان بعد ظهور الإسلام في الجزيرة العربية وفتوحاته، وقد حكم السودان بقواعد الشريعة الإسلامية ملوك سنار والفور والمهدي والتعايشي.
غزا عمرو بن العاص مصر في ديسمبر سنة 639م، ذي الحجة سنة 18ه، وكان معه أربعة آلاف مقاتل ثم لحقت به أربعة آلاف أخرى، وفي يونية سنة 640م، رجب سنة 19ه، وصل الزبير بن العوام ومعه 12000 مقاتل، وفتحوا الإسكندرية في نوفمبر سنة 641م، ذي الحجة سنة20ه، وكان جيش المسلمين خليطا من القبائل العربية جميعا، وكان بين القبائل العربية الثانية التي اشتركت في الفتح تفصيلا: لخم، وجزام، حتى دعاهم عمر بن الخطاب الخليفة بالقبائل المصرية، وفي سنة 22ه/642م ندب عبد الله بن أبي السرح لغزو النوبة، وكان معه عشرون ألف مقاتل، وفي عهد الطولونية زاد عدد الوافدين من العرب، وكانت أكبر الفرص للمهاجرة مجيء الوالي الجديد، فقد كان يرافقه عشرون ألف مقاتل، لم يكن يرغب الكثير منهم في الرجوع إلى سوريا أو بلاد العرب.
وفي عهد الأموية الذي انتهى سنة 133ه/750م كانت القبائل الوافدة على مصر 22 قبيلة، منها سبع من قريش معظمهم من بني أمية، وسبع من قيس عيلان، وواحدة من جهينة، واثنتان من الأزد، وثلاث من حمير، وواحدة من لخم، وواحدة غير معروفة النسب. وفي عهد العباسية من سنة 133ه/750م إلى سنة 242ه/856م كانت القبائل الوافدة على مصر 33 قبيلة معروف نسبها تقريبا، منها خمس عشرة عباسية، وثلاث من تميم، وخمس من الأزد، واثنتان من طيء، وواحدة من لخم، واثنتان من مذحج، واثنتان من بجيلة، واثنتان من حمير.
ولما تغلب العباسيون على الأمويين فر هؤلاء إلى مختلف الأقطار الإسلامية، ومنها مصر والسودان، وأحدث ذلك رد فعل في قبائل مصر، خصوصا قيسا، ففي سنة 166ه/782م ادعى أحد الأمويين الخلافة في الصعيد، ونجحت دعوته ولكنه قتل، وفي سنة 216ه/831م كثرت قلاقل قيس، وتمكنوا من إثارة القبط أيضا، فثاروا معا ثورة هائلة جاء الخليفة العباسي المأمون بنفسه لإخضاعها في المحرم من سنة 217ه، ومنذ ذلك التاريخ فازت العرب بالغلبة، يضاف إلى ذلك إذلال عبد الله بن الجهم للبجة، وأسره ملكها «علي بابا» وأرسله إلى بغداد، فكانت معه المعاهدة المشهورة التي تمكن العرب بعدها من التوغل في بلاد النوبة، وامتلاك مناجم الذهب في عيذاب، مما فضلت معه ربيعة وجهينة أن تسكن الصحراء الشرقية، ثم تصاهرتا مع البجة.
عرب السودان
والعرب بدنات كثيرة تفوق الثلاثين، وهم غير عرب النوبة الذين وصفناهم، وأشهر هذه البدنات: (أ)
الفونج:
وهم الذين أسسوا مملكة سنار القديمة مع العابدلاب، قيل إنهم عرب أمويون نجوا من بني العباس، وقيل لا، بل هم سود. (ب)
العابدلاب:
مركزهم الحلفاية «خرطوم بحري»، نسبة إلى عبد الله جماع الذي أسس مملكة سنار مع الفونج، ومعنى آب باللغة البيجاوية: القبيلة. (ج)
الهمج:
وزراء الفونج أيام دولتهم، ويدعون النسبة إلى الجعليين، وقد حكموا جبال الفونج بعد فتح محمد علي - حكمها الشيخ إدريس الذي سميت الجبال باسمه. (د)
والجعليون:
ومنهم الملك «نمر» الذي غدر بإسماعيل باشا، وهم شجعان أهل ككر وطافية، ومعناها باللغة السودانية: «كرسي وملك»، وهم منتشرون في السودان والحبشة، وهم فوق الثلاثين بدنة، ومنهم ولد النجومي. (ه)
الجموعية:
ومن فروعهم الفتيحاب - سكان أم درمان والخرطوم الأصليون - وهم يدعون أن جدهم هو «أبو مرخة» الذي حضر أبوه وعمه إلى السودان هربا من العباسيين، فتزوج أبو مرخة بنات عمه السبعة واحدة بعد واحدة، ثم صار جدا لقبائل عربية. (و)
والزبالعة:
يقال إن أصلها ليس عربيا، يسكنون جزيرة سنار، والبلاد التي بين الرهد والدندر، وهي شيعة تعرف في السودان بالملة الخامسة، ومؤسس شيعتهم رجل اسمه «أبو جريد»، وهو عندهم رسول الله، ولا يعرفون نبيا آخر سواه، وقد أقاموا رمزا إلى قبره في حلة «بنزفا» شرق النيل الأزرق، بين كركوج والرصيرص؛ حيث يجتمعون للأذكار مساء كل أحد وثلاثاء، ويرددون قولهم «لا إله إلا الله أبو جريد نبي الله».
وفي شهر صفر من كل سنة يعتزل مشايخهم إلى الخلوات للرياضة، فيقيم كل منهم في خلوة، ويجعل عليها الحراس؛ لكي لا يدخل عليه أحد مدة سبعة أيام، فإذا انتهت خرج من الخلوة ودعا رهطه من الرجال والنساء وأقام حلقة للذكر - قيل إنهم ونساءهم جميلات، بياض بحمرة نعيم وترف، وهم يتجنبون مصاهرة العرب، والعرب كذلك يتجنبونهم، وقيل فيهم سحرة وطب. (ز)
والزيادية:
ومركزهم مليط، يجرون في الملح والقطرون، وينسبون لأبي زيد الهلالي، أحد عرب نجد. (ح)
والتعايشة:
ومسكنهم مندرة، كانوا يشتغلون في خطف الرقيق، وهم ينسبون إلى جهينة، ومنهم الخليفة عبد الله التعايشي. (ط)
والحمران:
مركزهم قرب فوز رجب وكسلا، وهم قليلو العدد، ولكنهم من أفرس العرب وأجرئهم، ونساؤهم من أجمل النساء وأشدهم تحصنا وعفافا، ومنهن «تاجوج ومحلق».
وتاجوج هذه بنت الشيخ أوكد شيخ الحميران، ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، أجمل نساء السودان، يفد إليها الناس للتفرج، تزوجها ابن عم يسمى محلقا، وأحبها حب عبادة، طلب يوما منها أن تمشي متجردة فأبت، فألح، فتكدرت، فألح، فقالت: إذا أجبتك فماذا تفعل؟ قال: «أنفذ كل طلب لك»، قالت «أقسم» فأقسم، فتجردت ومشت أمامه ذهابا وإيابا إلى أن قال كفى، ثم قال فاطلبي الآن ما تريدين، قالت: أن تطلقني في الحال.
فطار صوابه، ووقع على قدميها يقبلهما ويسألها العفو، فأبت إلا البر بقسمه فطلقها، وهام على وجهه ينشد في حبها الأشعار كمجنون ليلى.
ومن ذلك قوله:
أنا الجنب التعيس سويت بأيدي
في كلمة مزاح قليت غميصي
فواطر أم قبيل ملح الرشيدي
تاجوج ما أتلقت يا خملة زيدي
والمعنى: «الجنب»: المشوم، «سويت بأيدي»: جنيت على نفسي، «والفواطر»: الثنايا، «أم قبيل»: الجميلة، «والخملة»: الهم.
ثم إن تاجوج تزوجت شابا من وجهاء قبيلتها، فتأثر محلق، وكان أفرس منه، ثم كان يأخذ منه ماله المرة بعد المرة، ويرده إليه إكراما لها، ولما اشتد عليه الكرب وأضناه الحب ألح على أهله أن يمكنوه من رؤيتها، وهو طريح الفراش، فذهبوا إليها وأخبروها بما آل إليه حاله، فرقت له وذهبت، فإذا نساء حوله ينددن بها ليصرفن قلبه عنها، فلما دخلت لم يسعهن إلا الوقوف احتراما لجمالها وإعجابا، وأجلسنها إلى جانب سريره، فلما رأته على تلك الحال وقد هزله المرض، تنهدت وقالت: «أإلى هذه الحال وصلت يا حشاي وأنا لا أدري؟» ثم وضعت رأسه على ركبتيها، وكان قد أغمي عليه، فأفاق ونظر إليها وأنشد ما أنشد فيها.
أسباب هجرة العرب
يقول مستر مكيكل، السكرتير الإداري السابق في حكومة السودان: إن الأسباب هي: (1)
مراعي السودان أخصب من أراضي جزيرة العرب، وملجأ أمن، وموضع لنهب العبيد والأهالي، وليس البحر الأحمر إلا فلق عرضي في أرض واحدة هي السودان والجزيرة، والجو والصحاري والتلال فيهما واحدة، ولكن حالت دون أمانيهم في الهجرة مدة الفتح تفضيل ولاتهم البقاء بجانبهم، وحيلولة حكام النوبة دونهم، وعدم السماح لهم بالدخول إلى السودان عن طريق النيل. (2)
أقاليم المستنقعات يسكنها زنوج يقتاتون بالماشية، ويمتازون بطول السوق، والتلال يسكنها قوم أصغر وأنشط من سابقيهم. (3)
العرب يسكنون أواسط السودان، وأطراف ذلك الإقليم الجنوبي المليء بالمستنقعات والصحاري الشمالية الصالحة للسكنى، فأقاموا بين الزنوج في الجنوب، وبين المراعي في الشمال - وقد ظلمهم «دواتي» في وصفه إياهم بالجنون وقطع الطريق و... (4)
منذ عهد ابن طولون تغيرت الحال بالنسبة للعرب بمصر؛ لأن الولاة كانوا غير عرب، بل أن بعضهم استبد مع العرب، وزادت مصيبتهم منذ فتح سليم، وصاروا في نظر الحكومة والأهالي قوما فضوليين لا يخضعون لتدريب حربي منظم، بل سبق عصره أن الحكومة كادت تخرجهم من حكم القانون.
وفي إبان الثورات التي كانت تحدث كانوا يتسللون إلى الجنوب. (5)
مملكة النوبة المسيحية تقع على نهر النيل وراء الشلال الأول، وعاصمتها دنقلة، وتمتد إلى الجزيرة، وكان يسكن جزءها الشرقي وشمالها الشرقي قبائل البجة الرحل الهمجية، التي قامت على أنقاض مملكة مروى القديمة في القرن السادس الميلادي، ثم دخلت في النصرانية على يد قس بعثت به الإمبراطورة «ثيودورا» زوجة الإمبراطور جستنيان، ويقال إنهم صنف من الزنوج، بل قيل هم خليط من قدماء الفراعنة واللوبيين المندمجين في الزنوج، وعاشت نحو 600 سنة بعد فتح العرب مصر. (6)
فتح عمرو مصر، وجرد حملة من 20 ألف مقاتل عليها عبد الله بن سعيد لغزو بلاد النوبة، فتوجهت إليها وفرضت عليها جزية من العبيد، ثم أصبح عبد الله واليا على الوجه القبلي، فجرد حملة أخرى بعد عشر سنين وصلت إلى دنقلة، وحطمت كنيستها، وبنت مسجدا ووضعت شروطا معتدلة، وأخذ جزية قدرها 360 عبدا سنويا، وبقيت المعاهدة ستة قرون تقريبا، وكان العرب يقدمون هدايا لملوك النوبة فبقيت المودة، ثم حدث نزاع بين البجة التي في شرق السودان وبين العرب؛ لأن البجة كانت تريد غزو الوجه القبلي، فأرسل إليهم العرب كتيبة أدبتهم، وعقدت معاهدة بينهما كالمعاهدة التي بين العرب والنوبة.
العرب في السودان اليوم
ينقسمون بالنسبة لجغرافية البلاد إلى ثلاثة أقسام:
من قبيلة الهدندوة من البجة. (1) (أ) سكان الصحاري في الشمال الأقصى. (ب) سكان السهول الواسعة ذات المراعي الطيبة المتفرقة في الوديان. (ج) الأراضي الرملية الغنية المترامية الأطراف. حيث الغابات والأمطار، وحيث تنجح زراعة الذرة والسمسم، ثم على خط عرض 12، حيث الغابات جميلة تصلح للماشية، ثم منطقة الزنوج الحارة. (2)
السكان الذين على النيل من العرب غير متنقلين، وقد تحضروا، والذين في داخلية القطر ما عدا الشمال الأقصى تصبغهم صبغة البداوة، وييممون الشمال ومعهم إبلهم من أغسطس إلى نوفمبر حيث المرعى خصب، والذين في الغرب إلى حدود الصحراء الكبرى الجنوبية، والذين في الشرق إلى سهول البطانة الواقعة بين عطبرة والنيل الأزرق، والبقارة الذين يسكنون منطقة الزنوج يرحلون منها مدة شهري أبريل ومايو، ميممين الشمال في المنطقة الوسطى؛ لأن المطر - عندئذ - يهطل عندهم بكثرة. (3)
المعاهدات والمصاهرات بين العرب والزنوج، كم فضت من مشاكل إلا في بعض الجهات، مثل النوبة، فلا تزال السهول للعرب والروابي والتلال للنوبة. (4)
اتحد العرب والزنوج منذ أوائل القرن الثالث عشر إلى اليوم، كما اتحد النوبيون والعرب في الشمال. (5)
العرب الذين تحضروا على النيل تزاوجوا بعضهم مع بعض، ولونهم الأسود نتيجة التسري، وفي أنسابهم ضعف، أما البادون فيقربون من الصحة. (6)
سكان السودان بعضهم يدعي النسب إلى جهينة، والبعض إلى فزارة، وهذه هي القبائل الكبرى، وهي تقتني الماشية والجمال، والبعض ينتسب إلى العباس، وهم شمال الخرطوم والجزء الجنوبي من النيل الأزرق، والقبائل المولدة من الزنوج التي في داخلية القطر، والأهالي مهتمون بهذه الأنساب. (7)
التسري بالزنجيات مدة حكم مصر والدراويش أبقى من العادات الزنجية الشيء الكثير في العرب. (8)
ترمي سياسة حكومة السودان إلى تحاشي التدخل في شئون العرب، وتلقي العبء على رؤسائهم.
الفصل الثامن
العباسيون والفواطم والإخشيديون والمماليك
وقد تدفق العرب المسلمون إلى السودان من جهات مختلفة، أكثرها مصر، ثم من الحجاز واليمن إلى شرقي السودان، ومن بلاد المغرب إلى غربي السودان.
في سنة 833 ميلادية، تراخى أهل النوبة في دفع البقط «الجزية»، فغل مسلمو الحدود أيديهم عن إرسال ما اعتادوا إرساله من المؤونة إلى ملك النوبة، فصمم زكريا بن بحنس ملك النوبة بإيعاز من ابنه «فيرقي» على قبض يده عن دفع الجزية، وأن يتأهب إذا دعت الحال لقتال سيده الخليفة المعتصم «833-842».
فشد «فيرقي» الرحال شطر بغداد للدفاع عن مطالب أبيه إلى الخليفة، وانضم إليه في طريقه ملك البجة، فلما وصل إلى بغداد أكرم الخليفة المعتصم وفادته وقبل هداياه وكافأه بأضعافها، وطلب إليه أن يبسط له ما يريد، فرجا الأمير النوبي أن يفك عقال من لدى الخليفة من أسرى النوبيين، فكان له ما أراد فورا، وزاد في إكرامه فأهداه القصر النازل به بالعراق، وابتاع له قصرين آخرين بمصر، أحدهما بالجيزة، والآخر ببني وائل بالقاهرة «قسم الوايلي»، ولما طرح أمر البقط على الخليفة ظهر له أن ما منح من النوبيين من الهدايا والعطايا يربو على بقطهم، فأنكر عطية الخمر، وأجرى الحبوب والثياب التي أعتيد إرسالها، وأن يدفع البقط كل ثلاث سنين، ثم طلب الأمير النوبي أن تزال مسلحة القصر «حصنها» من بلادهم، وتنقل إلى الحدود، وأن ينظر بعدل في أمر الأرض التي ادعى الأمير النوبي على قوم من أسوان أنهم اشتروا تلك الأملاك من عبيده، فأمر الخليفة أن ينظر بعدل في أمر تلك الأراضي النوبية التي اشتراها بعض أهالي أسوان.
1
وفي سنة 854م حنث البجة
2
بعهودهم، وأبوا دفع الجزية، وذبحوا الضباط والمعدنين الذين كانوا يشتغلون باستخراج الزمرد من الصحراء الشرقية «صحراء عيذاب»، وغزوا مصر ونهبوا مدينتي إسنا وإدفو، فبعث حاكم مصر إلى الخليفة ببغداد رسالة بذلك، فعقد هذا العزيمة على الاقتصاص من الثائرين، فسرعان ما جمعت الجيوش في كور قفط وإسنا وأرمنت وأسوان على النيل، وفي القصير على البحر الأحمر، وزودت بعدد عظيم من الأسلحة والخيل والإبل وغير ذلك، وأعدت عند القلزم سبع سفن محملة بالمؤن والذخائر، وأقلعت إلى سنجا بالقرب من عيذاب على مسافة سبعة عشر يوما من قوص.
فسار إليهم محمد بن القمي في جيش عدده سبعة آلاف مقاتل، وجد في الصحراء إلى مناجم الزمرد، ووصل إلى دنقلة، فاستعد «علي بابا» ملك البجاة لملاقاته، ولكن عرى جنوده وقصر رماحهم أضعف مركزهم أمام العرب ، فعمدوا إلى المقاومة حتى كادوا يهلكون العرب، ولما وصلت السفن من القلزم اشتد ساعد المسلمين، وحمل قائدهم برجله وركبه مكبرين على السود، وفتك بهم فتكا ذريعا حتى ولوا الأدبار لاحقين بملكهم الذي طلب الصلح راضيا بدفع الجزية «البقط»، ولما أقبل إلى محمد القمي أحسن لقاءه وأكرمه وحمله على زيارة الفسطاط.
وفي سنة 855م، زار هذا الملك الخليفة في بغداد، وتعهد الملك بأن لا يتعرض للمسلمين في مناجم الزمرد.
3
وفي سنة 878م، ذهب أبو عبد الرحمن بن عبد الله العمري إلى مناجم الذهب بالصحراء الشرقية، ومعه ستة آلاف جمل وعدد عظيم من الرجال، واستمر مدة يستخرج الذهب، إلا أن عرب تلك المنطقة كبدوه متاعب جمة، فرحل إلى شنكير
Shankir
جنوبي دنقلة، وهناك هزم النوبيين بقيادة ملكهم جرجس.
وفي سنة 956 هاجم
4
ملك النوبيين مدينة أسوان، وقتل كثيرا من المسلمين، وفي السنة التالية سار إليه محمد بن عبد الله الخازن من قبل أنورجور الإخشيد، وهزمه وأرسل عددا من الأسرى إلى مصر، واستولى على أبريم، وأخذ منها 150 أسيرا وكثيرا من الرءوس.
قال المتنبي من قصيدة مشهورة سنة 346ه يمدح بها كافور الإخشيدي «966-968م»:
يصرف الأمر من مصر إلى عدن
إلى الحجاز فأرض الزنج فالنوب
وبعد ذلك ببضع سنين غزا النوبيون مصر للمرة الثانية، واستولوا على الصعيد حتى مدينة أخميم شمالا.
وفي سنة 969، أرسل جوهر الصقلي حاكم مصر بعثة إلى جرجس ملك النوبة؛ لأخذ الجزية المعتادة، ودعوته إلى الإسلام، فلما وصل الرسول أحمد بن سليم إلى ملك النوبة رحب به وبالغ في إكرامه، ودفع الجزية، إلا أنه بقي على مسيحيته.
وفي سنة 1005، ميلادية اضطرب حبل السلم في النوبة؛ فقد استولى أحد سلالة بني أمية الوليد بن هشام الخارجي - وكان يكنى «أبا ركوة»؛ نسبة إلى القربة التي كان يحملها إلى أسفاره سنة الصوفية - على برقة، وهزم جيوش الخليفة الحاكم بأمر الله، وغزا مصر، وشتت شمل جيوشه عند الجيزة، ولكن وجد أن الضرورة تحتم عليه التقهقر إلى النوبة، وهناك انضم إليه عدد عظيم من أهلها، فما لبث أن لحقت به جيوش الحاكم وهزمه هزيمة منكرة، وجز رأسه ورأس ثلاثين ألفا من أتباعه، وأرسلت إلى مصر، ثم طافوا بها مدن سوريا محملة على مائة جمل، وبعد ذلك ألقيت في الفرات.
وقال في ذلك المؤرخ الكبير الحجة الثبت أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير في كامله:
في سنة 397ه/1007م، سار «أبو ركوة» إلى بلد النوبة، فلما بلغ إلى حصن يعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من «الحاكم» إلى ملكهم، فقال له صاحب الحصن: «الملك عليل ولا بد من استخراج أمره في مسيرك لسيدي»، وبلغ الفضل الخبر فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته، فوكل به من يحفظه، وأرسل إلى الملك في الحال، وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده، فأمر أن يسلم إلى نائب الحاكم، فتسلمه رسول الفضل وسار به، فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه وحمله إلى مصر، فأشهر به وطيف به فألبس طرطورا، وجعل خلفه قردا يصفعه كان معلما بذلك، ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل ويصلب، فتوفي قبل وصوله، فقطع رأسه وصلب، وبالغ الحاكم في إكرام الفضل إلى حد أنه عاده في مرضه دفعتين، فاستعظم الناس ذلك، ثم إنه عمل في قتل الفضل لما عوفي فقتله.
وفي سنة 1173م، توجه القائد شمس الدولة توران شاه - وكان يلقب بفخر الدين، الأخ الأكبر لصلاح الدين - بحملة إلى بلاد النوبة بقصد جباية الجزية، وأن يرى هل تصلح تلك البلاد لأن تكون ملجأ لصلاح الدين إذا ما اضطر إلى الفرار من وجه سيده نور الدين عند قدومه إلى مصر، فعبر توران شاه البحر من اليمن إلى بلاد النوبة بقصد جباية الجزية، وساق الأهالي أمامه حتى وصل إلى «أبريم»، وكانت مزودة بكميات عظيمة من المؤن والذخائر، وبالرغم مما أبداه النوبيون من الاستبسال في الدفاع عنها، فقد هزموا ودمرت المدينة، ووقع في أسر توران شاه أهل المدينة أجمع، وقد بلغوا نحو700000 من رجال ونساء وأطفال، ووجدوا بالمدينة 700 خنزير، بادر المسلمون بقتلها، ثم أمر بنزع الصليب من الكنيسة، وسلب أتباعه ما كان بها، ثم أذن في قبتها للصلاة ، وأسر مطران المدينة واعتقل في قلعة التل الحصينة، وعثر توران شاه في المدينة على كمية كبيرة من القطن أرسلها إلى قوص حيث بيعت، ثم رحل من البلاد بعد أن ترك قوة من الفرسان مزودة بالمؤونة والسلاح والذخيرة في «أبريم».
وقد روى أبو صالح أن صلاح الدين ذهب مع البطريرك أنبا ميخائيل ليطلب المعونة من جرجس ملك النوبة، فغضب هذا للمعاملة التي عومل بها البطريق، ووصل إلى مصر على رأس جيش يبلغ نحو 100 ألف مقاتل، وما يماثل هذا العدد من الإبل، واتجه متقدما فيها مخربا ومدمرا حتى وصل إلى القاهرة، وقد وضح المؤرخ الإنكليزي بطلر أن هذا الحادث وقع في حكم مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية «750-754م»، في عهد أمير مصر عبد الملك بن موسى بن نصير، لا صلاح الدين.
وفي سنة 1174م، هزمت جيوش صلاح الدين كنز الدولة حاكم أسوان الثائر، الذي كان قد تقدم إلى القاهرة بجيش من العرب والعبيد، ووقعت معركة شديدة عند قرية طود «مركز الأقصر» مزقت فيها جيوش كنز الدولة شر ممزق، وقد ولى الأدبار، ثم خيم السلام بعد ذلك نحو عشرين سنة بين أهل النوبة وصلاح الدين، الذي توفي في 4 مارس سنة 1193م، وآلت بعد ذلك أسوان إلى السقوط والخراب.
وفي سنة 1275م، ضم المسلمون السودان، ويرجع ذلك إلى أن داود - ملك النوبة الذي أبى دفع البقط الذي ضرب على بلاده أيام عمرو بن العاص وحنث بالعهود والاتفاقات بين البلدين - قبض على عدد من العرب، وزجهم في السجون بأسوان، و«عيذاب» أهم مواني البجة على البحر الأحمر.
5
وزيادة على ذلك أحرق ملك النوبة كثيرا من السواقي التي تروي أراضي شاسعة، وتلفت زراعتها، فهم حاكم قوص بمقابلته، ولكنه عجز عن غلبته، غير أنه أخذ كثيرا منهم أسرى، من بينهم ملك الجبل، وحاكم جزر ميكائيل ومنطقة «داو»، وأرسلهم إلى القاهرة حيث أمر الخليفة السلطان الظاهر بيبرس «1260-1277م»، من المماليك البحرية، بقتلهم.
وقد حدث في ذاك الوقت أن قدم إلى مصر ابن أخت داود؛ ليطلب المعونة على خاله الذي أنزل به الأذى ، فأجابه «بيبرس» إلى ذلك، وبعث معه بجيش جرار تحت قيادة اثنين من الأمراء؛ لينزع الملك من يد «داود»، ولما التقى الجيشان بأرض النوبة استبسل الفريقان في القتال، ولكن هزم النوبيون أخيرا وولوا الأدبار، فواصل المسلمون تقدمهم بالبر والنهر، واستولوا على الحصن بعد الحصن، وذبحوا وأسروا كثيرا من الأهالي، ووصلوا أخيرا إلى جزيرة «ميكائيل» عند رأس الشلال، وطردوا السفن النوبية، واضطر النوبيون إلى الفرار إلى جزر النيل، ووقع عدد عظيم من ماشيتهم في أيدي المسلمين، فأقسم قمر الدولة لقائد جيوش داود يمين الطاعة لشكندة، ولما أخذ الأمير شمس الدين آق سنقر الفرقاني أحد قائدي جيش بيبرس أرجع أهالي بلاد مريس المجاورة لأسوان وجميع الفارين.
ولقد لجأ داود وأخوه إلى طابية صغيرة بإحدى جزر النهر لما صدهما الأمير عز الدين أيبك «الأفرم» واستولى عليها، ففر داود ووقع أخوه في يد الأمير الذي ذبح مائتين من رجالهما، فاقتفى المسلمون أثر داود ثلاثة أيام، ولكنهم لم يدركوه، ثم نصب الأمير «شكنده» ملكا على بلاد النوبة، وقد تعهد بدفع جزية سنوية من ثلاثة فيلة، وثلاث زرافات، وخمسة فهود، ومائة جمل أصهب، وأربعمائة رأس من البقر، وقد وعد أن يقسم خراج بلاده إلى قسمين؛ أحدهما يعطى بيبرس أو لمن يليه، والآخر ينفقه على إصلاح بلاده وإدارتها وحمايتها.
6
أما منطقة بلاد الجنادل البالغة ربع مساحة النوبة فلقربها من أسوان عدت ملكا لبيبرس، وكانت حاصلاتها في ذاك الوقت التمر والقطن، هذا وقد قبل «شكنده» مقابل بقائه وأهل بلاده على مسيحيتهم، أن يدفع دينارا ذهبا عن كل ذكر بالغ من أهل بلاده، وقد أقسم بألا يحيد عما شرط عليه، ولا يحنث بعهوده، وكذلك فعل رعاياه.
ثم دمر الأميران كنائس النوبة كلها، وحملا ما كان بها من متاع ونفائس، وقبضا على عشرين من زعماء النوبيين، وأفرجا عن الأسرى المسلمين ممن أخذوا من أسوان وعيذاب، ولما أقسم شكنده اليمين توج وأجلس على العرش ملكا، والتزم بدفع جميع ما لداود ولكل من قتل وأسر، علاوة على البقط الذي بلغ إذ ذاك أربعمائة رأس من العبيد والزراف، وقد تعهد المسلمون مقابل ذلك أن يرسلوا إليه ألف أردب من القمح، وثلثمائة لرسله.
7
ومن قبائل أسوان: العبابدة، وتنقسم إلى العشاباب، والفقراء «المليكاب»، والعبودين والشناتير، ثم قبيلة العقيلات والبشارين.
البجة
البجة - أو البجا أو البيجة أو البجاة - هم سكان الصحراء الشرقية في السودان - بادية بني كوش - أصلهم من الحبشة، وباديتهم بها معادن الذهب والفضة والزمرد والحديد والرصاص.
وقد غزا الفراعنة والرومان بلادهم من أجل الذهب، وكان أنسابهم من الفقراء، وهم أصحاب ذمة، وأهل ضيافة، ألوانهم مشرقة الصفرة، وجوههم عريضة.
كانوا يعبدون الأصنام، واختلط العرب بهم بعد فتح مصر، وكانوا يغزون ريف الصعيد، وولوا ملكا عليهم يدعى «علي بابا»، خضع ودفع الخراج لجعفر المتوكل على الله بن المعتصم.
8
وقد انقسم البجة إلى قبائل العبابدة والبشارين والهدندوة والأمارار والحلانقة والحباب وبني عامر، ومن مدنهم عيذاب وسواكن على البحر الأحمر.
الفصل التاسع
مملكة سنار
ملوك الفونج
يرجع التاريخ الأقدم لملوك الفونج إلى دارفور والشلك، ويرجع تاريخهم العربي إلى نفر من بني أمية، فروا من الشام إلى المغرب الأقصى والسودان ، فأسسوا مملكة سنار، وكان ملكهم القديم يبدأ من الشلال الثالث إلى جبال فازوغلي وسواكن، وكان للمملكة ممالك صغيرة ومشيخات، وبين الشلال الثالث والشلال الأول بلاد حكمها الكشاف الأتراك.
غزو الترك
ورأس ملوك الفونج
1
الملك عمارة دنقس «1505 / 1534م» في سنار، وفي عهده ملك السلطان سليم الأول سواكن ومصوع، وحاول غزو سنار، ولكنه ارتد عنها.
وخلف الملك عمارة ابنه عبد القادر سنة 940ه و1534م، ثم أخوه نائل سنة 950ه و1544م، فأخوه عمارة أبو سكاكين 962ه و1555م، ودكين الملقب بالعادل سنة 970ه و1563م، وطبل سنة 985ه و1578م، وأنسه سنة 997ه و1589م، وعبد القادر الثاني 1007ه و1599م، وعدلان بن أبه 1013ه و1605م، ودخل الإسلام في سنار في عهد هارون الرشيد سنة 786م.
ثم الملك بادي 1020ه و1612م، ورباط ابنه 1023ه و1615م، وبادي أبو ذقن 1052ه و1643م، وكان يمجد علماء مصر، وبنى بسنار جامعا وقصرا بقيت أطلالهما.
والملك أنسه الثاني، وبادي الأحمر، وأنسه الثالث، ونول، وبادي أبو شلوخ، وناصر، وإسماعيل، وعدلان الثاني، وأوكل، وطبل، وبادي الخامس، ونوار، وبادي السادس، ورانفي.
وكان لهؤلاء الملوك جيش، وبنوا المساجد والدواوين، وعطفوا على العلماء والأدباء، وأوفدوا البعوث إلى الأزهر، وكانت سنار مركزا تجاريا مع البحر الأحمر والحبشة ومصر والحجاز والهند وسائر السودان، وكان لملوكها حروب مع الحبشة، ومات أكثرهم قتلا.
مشيخة العابدلاب
العابدلاب ذرية الشيخ عبد الله جماع، الذي اقتسم المملكة مع الفونج، وبدأت المشيخة في قرى، ثم امتدت إلى الحلفاية، ثم امتدت من حجر العسل إلى سوبة، وخلف الشيخ عبد الله الشيخ عجيب، وكان تقيا، فالعجيل، فحمد السميح، فابنه عثمان، فدياب، الأمين ود مسمار، وعجيب عبد الله، وعبد الله الثالث ود عجيب، وعمر أخو عجيب، ومحمد الأمين ابن مسمار، وبادي بن مسمار، وعبد الله الرابع ود عجيب، وناصر ود الأمين، وأمين الثاني ابن ناصر.
وحظي العابدلاب بالمكانة الأولى عند ملوك الفونج، وكان الناس يستأذنون العابدلاب للدخول على الملوك.
الممالك التابعة للفونج
وقد تبع ملوك الفرنج والعابدلاب دويلات صغيرة؛ منها: مشيخة خشم البحر، ومملكة فازوغلي، ومشيخة الحمدة، ومملكة بني عامر، ومملكة الحلانقة، ثم مشيخة الشنابلة، ومملكة الجموعية، ومملكة الجعليين، ومملكة الميرفاب، ومملكة الرباطاب، ومشيخة المناصير، ومملكة الشايقية، ومملكة الدفار، ومملكة دنقلة العجوز، ومملكة الخندق، ومملكة الخناق، ومملكة أرقو.
وكانت مملكة سنار تسمى بالسلطنة الزرقاء، أما السلطنة الحمراء فهي حكومة مصر.
الفصل العاشر
الأتراك والكشاف الأتراك
امرأة من الهدندوة من قبائل البجة.
عندما فتح السلطان سليم الأول مصر، غزا سواكن ومصوع فالنوبة، وفشل في غزو سنار وارتد عنها.
أما الكشاف الأتراك فهم في الأصل الجنود الأتراك الذين أرسلهم سليم الأول لغزو النوبة ففتحوها حتى الشلال الثالث، وكان قوسي حسن قومندانا للجنود، وحاكما مستقلا على النوبة، ويرسل الجزية إلى والي مصر، وتولت ذريته حكم النوبة، وكانت عاصمتهم الدر، وارتد جيش الفونج في محاربته الكشاف الغز، وعين إسماعيل باشا فاتح السودان حسن كاشف على البلاد من أسوان إلى حلفا، وخلفه ابنه سليمان، ثم أخوه محمد، وقد زال حكمهم بقيام الثورة المهدية، وبقيت ذريتهم.
ولهم آثار في سكوت والمحس، كالقلاع والأبراج.
الفصل الحادي عشر
سلطنة الفور
المتواتر في السودان أن سلطنة الفور من أصل عربي من سلالة بني العباس، ومن الروايات المسموعة، أنه كان بين العباسيين الذين تفرقوا بعد زوال دولة بني العباس شقيقان: أكبرهما يدعى عليا، والأصغر أحمد سفيان، وكانت زوجة «علي» تحب «أحمد سفيان»، وعلم «علي» بهذا السر، فاستل سيفه وضرب أخاه في رجله فعقرها، وتركه، وعولج «أحمد» ونقل إلى جبل مرة في دارفور، حيث كان فيها - يومئذ - ملك يدعى دورشيت، وكان همجيا وكريما، فزوج ابنته من «أحمد»، وولد لأحمد ابن سماه سليمان خلف جده، وبدأت سلطنة دارفور بالسلطان سليمان الأول سنة 848ه و1445م، وكان يتبع الفور 27 ملكا من المجوس والمسلمين.
وخلف سليمان السلاطين: عمر، وعبد الرحمن، ومحمود، ومحمد صول، ودليل، وشرف، وأحمد، وإدريس، وصالح، ومنصور، وشوش، وناصر، وتوم، وكورد، وسليمان الثاني، وموسى، وأحمد، ومحمد دورة، وعمر الثاني، وأبو القاسم، وتيراب، وعبد الرحمن أخوه، الذي كان في فترة فتح نابليون مصر، وقد راسله، ومحمد الفضل في عهد محمد علي الذي طلب إليه الخضوع، ومحمد حسين ابنه، وقد عاصر سعيد وإسماعيل، وبادلهما الهدايا، وأهدى سعيد إليه مركبة، وإبراهيم، وهو آخر سلاطين الفور، وانتهت مدته 1291ه و1875م.
وقد قتل الزبير باشا السلطان إبراهيم في بلدة منواشي في 24 أكتوبر سنة 1875، وزال سلطان دارفور، وقد قبضت الحكومة المصرية على بقية أمرائهم وأسكنتهم سوق السلاح، وسقطت دارفور في يد المهدي، وحاول بقية الأمراء استرداد الحكم في أثناء المهدية ففشلوا، وقد أصبح الأمير علي دينار بن الأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل سلطانا على دارفور، وكان يدفع جزية إلى أن قتل في بداية الحرب الكبرى، بعد أن هزمته الحملة المصرية، إثر انتقاضه وانضمامه إلى الأتراك، وأصبحت دارفور مديرية. •••
وقد جاء في «كتاب السودان» - تأليف العالم الأزهري الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن عمران بن عامر، من علماء القرن الحادي عشر - عن بعض ملوك السودان في سنار وغيرها ما يلي عن ملوك سغي:
أما الملك الأول زا الأيمن، أصل اللفظ جاء من اليمن، قيل إنه خرج من اليمن هو وأخوه سائرين في أرض الله تعالى حتى انتهى بهما القدر إلى بلد كوكيا، وهو قديم جدا في ساحل البحر في أرض سغي، كان في زمن فرعون، حتى قيل حشر منه السحرة في مناظرته مع الكليم - عليه السلام- وقد بلغاه في بئس الحال، حتى كادت صفة البشرية أن تزول عنهما من التقشب والتوسخ والتعري، إلا خرق الجلود على أجسادهما، فنزلا عند أهل ذلك البلد، فسألوهما عن مخرجهما، فقال الكبير جاء من اليمن، وبقوا لا يقولون إلا زا الأيمن، فغيروا اللفظ لتعسر النطق به على لسانهم لأجل ثقله من العجمة، فسكن معهم، ووجدهم مشركين لا يعبدون إلا وثنا، فيتمثل لهم الشيطان في صورة الحوت يظهر لهم فوق الماء في البحر والحلقة في أنفه، في أوقات معلومة، فيجمعون إليه ويعبدونه، فيأمرهم وينهاهم، فيتفرقون عن ذلك ويتمثلون بما أمر ويجتنبون ما نهى، وهو يحضر ذلك معهم، فلما علم أنهم على ضلال مبين أضمر في قلبه، وعزم عليه، فأعانه الله في ذلك، فرماه بالحديد في يوم الحضور وقتله، فبايعوه وجعلوه ملكا.
قيل إنه مسلم لأجل هذا الفعل، والارتداد طرأ في عقبه بعده، ولا نعلم من ابتدأ به منهم، ولا تاريخا لخروجه من اليمن، ولا لوصوله إليهم، ولا ما هو اسمه، وبقي اللفظ علما له، وصدره لقبا لكل من تولى بعده من الملوك، فتناسلوا وتكاثروا حتى لا يعلم عدتهم إلا الله سبحانه، وكانوا ذوي قوة ونجدة وشجاعة وعظم جثة وطول قامة، بحيث لا يخفى ذلك على من كان عنده معرفة بأخبارهم وأحوالهم.
دويلات وممالك
وقد ورد ذكر «الفور» في كتاب مخطوط اسمه «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان»، تأليف الشيخ محمد بن السيد عمر التونسي بن سليمان، وكتابة المؤلف تدل على ظلام التاريخ القديم للسودان، وتخبط المؤلفين وخرافات الأقدمين وخيالات المؤرخين وقد قام برحلة في بلاد الفور، قال في «الفصل الأول»: «أما دارفور فهو الإقليم الثالث من ممالك السودان، وذلك أن للقادم من المشرق إلى بلاد السودان أول مملكة وإقليم يعرض هي مملكة سنار، ثم كردفال «كردفان»، ثم دار الفور، فظهر أنها الإقليم الثالث، وبحسب ذلك إقليم ودداي هو الرابع، والباقرمه الخامس ، وبرنوا السادس، وأدقز السابع، ونفه الثامن، ودار تنبكتو التاسع، ودار ملا أو ملي العاشر، وهي قاعدة ملك الفلان وهم الفلانة، وأما الذي يأتي من المغرب فإنه يعد ملا الأول، وتنبكتو الثاني، ونفه الثالث، وهكذا.
واعلم أن القدماء يطلقون على بعض أهل السودان اسم التكرور، ويعنون به أهل مملكة برنو، لكن الآن قد عم هذا الاسم على ممالك متعددة؛ أولها: داروداي أو ودداي، المعروفة أيضا بدار صليح، وآخرها: برنو، فيدخل في ذلك باقرمه وكتكو ومندرة، فيقال لأهل كل منهم تكرمور، حتى إنه صار عرفا بينهم.»
ثم قال: «وفي خلال دارفور مملكة البرقد، ومملكة برقو، والتنجور، وميمة، إلا أن مملكة البرقد والتنجور في الوسط، ومملكة البرقو والميمة من جهة الشرق، ومملكة الداجو والبيقوا من الجهة الجنوبية، وكذا مملكة فراوجيه، ولكل من هذه الممالك حاكم يسمى سلطانا، لكن يوليه عليهم سلطان الفور، وكلهم على نسق واحد في الهيئة والملبوس، إلا ملك التنجور، فإنه يلبس عمامة سوداء، وسألته عن سبب سواد عمامته فأخبرني أن أصل مملكة دارفور لأجدادي، وتغلب عليها سلطان الفور، فلبس العمامة السوداء إشعارا بحزنه على فقد مملكته.»
ثم قال المؤلف: «إن طول دارفور بملحقاتها لا تبلغ نحو خمسين يوما، وهذه الملحقات هي البلاد الجنوبية التي بعد دار الفراوجيه؛ لأن الفراوجيه آخره حدود ممالك الفوراوية الحقيقية، وما يسمون أهل الفور بالسعيد المساحة الممتدة من ريل لآخر دارفور من جهة الجنوب، ودار أباديما هو دار تموركه، وأباديما اسم منصب - كما سنذكره - معناه الجناح الأيمن للسلطان، والحاكم المسيحي بهذا الاسم يحكم على دار تموركه، فسمي لذلك دار تموركه بدار أباديما، ويقابله التكنياوي، الذي هو أيضا اسم منصب معناه الجناح الأيسر للسلطان، ويحكم التكنياوي على اثني عشر ملك أيضا، وهو حاكم الزغاوة وما يليها لجهة الشرق؛ ولذلك أيضا سمي دار الزغاوة بدار التكنياوي.
ثم اعلم أن دارفور منظمة تنظيما على وجه محكم؛ لأننا ذكرنا أن جبل مرة يشقها، وأن نصفها من جبل مرة إلى جهة الشرق سهل، وعرض جبل مرة - بقطع النظر عن ارتفاع الجبال - نحو يومين، ووراءه من جهة الغرب سهل أيضا، لكن من جهة الشمال الزغاوة والبرتي، وهما قبيلتان عظيمتان، فالبرتى من جهة الشرق والزغاوة من جهة الغرب، وفي وسطها من جنوب جديد كريو يسكنها التنجور والبرقد، وهما قبيلتان عظيمتان، وهكذا إلى جديد رأس الفيل وأزيد، بل إلى تبلدية، وإن كان بينهما بلاد وقبائل صغار.
ثم من هناك إلى الخلاء من جهة الجنوب والشرق وجهة دار أباديما، يسكنه الداجو والبيقو من جهة المشرق، وشرقي جديد كريو يسكنه البرقور والميمة، وهما قبيلتان عظيمتان، ثم إن جبل مرة لا يسكنه إلا أعجام الفور، وأعجام الفور ثلاث قبائل؛ أحدها: كفجارة، وهي تسكن من قرلي إلى بعد الجبيل الصغير المسمى مرة بالخصوص وهو مرة حقيقة: وبعده بقليل إلى حد دار أباديما فيسمونه تموركه، وبعد دار أباديما دار روكة ودار فراوجيه، ولكن روكة من جهة المغرب وفراوجيه من جهة المشرق ، ودار فنقرو بعد دار فراوجيه، وبعد دار روكة دار سلا، لكن تميل إلى المغرب أكثر؛ ولهذا يحكمها أهل الوادي.
واعلم أن جبل مرة ليس جبلا واحدا كله، بل هو عدة جبال كبار وصغار، وقبل الدخول في دار أباديما ينقطع الجبل وتبقى أرض سهلة يسكنها الفلان، حتى إنهم يقربون من المساليط من جهة المغرب، ويليهم بنو حلبة والمسيرية الزرق، وجميع ما ذكرناه غير البدو الحافين فيها من شمالها وشرقها وجنوبها، وغير المولدين من القبائل، والفور يسمونهم الداراوية؛ أي: المنسوبين للدار، فإنهم في الوسط لا يعتبرون بقبيلة.»
ثم قال: «ثم اعلم أن أعمر البلاد من جهة الشمال بلاد البرتي والزغاوة؛ لكثرة ما فيهما من العالم، وانظر حكمة الله؛ فإن القبيلتين في خط واحد، لكن البرتي أرق قلوبا وأحسن وجوها وأجمل نساء، والزغاوة بالعكس، كما أن الداجو والبيقو في خط واحد، وبنات البيقو أجمل من بنات الداجو، وأما البرقد والتنجور فيوجد في كل منهما المليح والقبيح، لكن البرقد خائنون سرا، وليلا ونهارا، لا يخافون الله ولا رسوله، والتنجور معهم بعض دين، وبعض عقل يمنعهم، وأما أهل الجبل فكلهم على حد في الوحاشة والوخاشة، لكن متى جئت في دار أباديما، تجد الرجال والنساء حسانا؛ فسبحان من هذا صنعه! وأما المساليط فنساؤهم يسبين العقل ويذهبن باللب، وأجمل النساء في دار الفور على الإطلاق نساء العرب، بل رجالهم كذلك.»
عادات الفور ولغتهم
وقال المؤلف: «وليعلم أن الرجال في دارفور لا يستقلون بأمر البتة، إلا الحرب، فليس للنساء دخل فيه، وما سوى ذلك فهم والنساء سواء، بل أكثر الأشغال وأشقها على النساء، وللرجال اختلاط عجيب بهن بالليل والنهار في جميع الأعمال، ومن العجب في أهل جبل مرة أنهم لا يأكلون من القمح الذي يزرعونه، بل يبيعونه ويستبدلون بثمنه دخنا.»
ثم قال عن لغتهم: «وأما لغتهم فهي لغة فيها حماس، ألفاظها تشبه ألفاظ اللغة التركية؛ لأنهم إذا دعوا إنسانا يقولون له: كلا، والترك يقولون: كال، وقولي تشبه اللغة التركية ليس معناه أنهما متقاربتا المعنى، بل وجه الشبه في مجرد الألفاظ وإن اختلف موضوع معنى كل منهما، وذلك أن الفور يقولون للفرس: يا مورتا، وعند الترك هو اسم للبيض، والقبيح عند الفور اسمه: لجتي، وعند الترك فعل ماض بمعنى ذهب، ولم أسمع لغة أنقص من لغتهم؛ لأن العدد بلغتهم ينتهي إلى ستة ويكمل بالعربي. فيقولون: ديك واحد، أو اثنان، إيس ثلاثة، أوكل أربعة، أوس خمسة، أو صنانديك ستة، ثم يقولون بالعربي: سبعة، ثمانية، تسعة، ثم يقولون: وأيه، وهو لفظ يدل على عشر الأعداد.»
وقال عن خرافاتهم القديمة: «من أعجب ما سمعته بجبل مرة أن الجن ترعى مواشيهم التي ترعى في الكلأ بدون راع معهم، ولقد أخبرني عدة رجال ممن يظن صدقها أن الإنسان إذا مر بمواشيهم ورأى أن لا راع لها، ربما طمع فأخذ منها شاة أو بقرة أو غير ذلك، فإن ذبحها تلتصق يده بالسكين على منحرها، ويعجز عن فكاكها، حتى أرباب الماشية، فيقبضون عليه ويغرمونه ثمنها بأغلى قيمة، بعد إهانتهم له وضربهم إياه الضرب المؤلم.
ولقد تكرر علي سماع ذلك حتى بلغ مبلغ التواتر، مع أني لا أصدقه، وحين كنت في جبل مرة توجهت إلى دار رجل منهم في غلية أسأل عنه، فما رأيت في داره أحدا، لكن سمعت داخل الدار صوتا غليظا مرعبا، اقشعر منه جلدي، يقول لي: أكبا، يعني أنه ليس هنا، وفي ذلك الوقت أردت أن أتقدم وأسأل أين ذهب، فمر بي إنسان وجذبني وقال: ارجع، فإن الذي يخاطبك غير آدمي! فقلت: وما هو؟ فقال: هذا الحارس الجني؛ لأن لكل إنسان منا حارسا من الجن، ويسمى بلغة الفور: دمزوقة.
فخفت ورجعت من حيث أتيت، ولما رجعت من هذه السفرة وتوجهت إلى الفاشر واجتمعت مع الشريف أحمد بدوي، الذي أخذني من مصر وذهب بي إلى دارفور، فأخبرته القصة، فقال صدق، وأسمعني أعجب من ذلك، وقال لي: يا ولدي، اعلم أني كنت في أول أمري أسمع أن الدمازيق تباع وتشترى، ومن أراد منها دمزوقا يذهب إلى من يعلم أن عنده دمازيق فيشتري منه واحدا بما يرضيه ، ثم يأتي بقرعة فيها لبن ويدفعها إلى رب المنزل، فيأخذها ويدخل إلى المحل الذي هن فيه، فيسلم عليهن ويعلق القرعة التي فيها اللبن في علاقة في البيت، ثم يقول لهن إن صاحبي فلانا عنده مال كثير، وخائف عليه من السرقة، وأراد مني حارسا، فهل إحدى منكن تذهب إلى داره؛ لأن عنده لبنا كثيرا وخيرا غزيرا، وقد أتى بهذه القرعة مملوءة لبنا؟
فيتمنعن أولا ويقولن لا أحد يذهب معه، فيتحنن لهن ويتملق حتى يرضين، فيقول من أراد الذهاب منكن فلينزل في القرعة، ويبعد عنهن قليلا، وحين يسمع بصوت وقوعه في اللبن يغطي القرعة بطبق من سعف، ويأخذها من علاقتها مغطاة، ويدفعها لصاحبه المشتري فيأخذها ويذهب بها إلى داره ويعلقها في بيته، ويوكل بالقرعة جارية أو امرأة تأتي كل يوم على الصباح وتأخذ القرعة وتريق ما فيها من اللبن، وتغسلها جيدا ثم تضع فيها لبنا آخر محلوبا في ساعته وتعلقها، وحينئذ يأمن الإنسان على ماله من السرقة والضياع.
وكنت أكذب ذلك حتى كثر مالي، وصارت العبيد والخدم يسرقونه، فاحتلت على منع السرقة بكل حيلة فلم يمكنني ذلك، وشكوت لبعض أصحابي فأمرني أن أشتري دمزوقة وأني أكفى شر السرقة، فحداني حب المال أن توجهت إلى رجل سمعت أن عنده دمازيق، وقلت له: أعطني دمزوقة تحرس لي مالي، وأعطيته ما طلبه، فقال لي: اذهب واملأ قرعة من لبن حليب وهاتها، ففعلت وأتيت بالقرعة مملوءة لبنا، فأخذها وذهب، وبعد ساعة جاءني والقرعة مغطاة وقال لي: علقها حيث مالك مخزون، وعرفني ما ينبغي أن يفعل كل يوم من غسل الآنية وتجديد اللبن، ففعلت ذلك ووكلت جارية بذلك، وأمنت على مالي حتى إني كنت أترك بيت مالي مفتوحا ولا يقدر أحد على الوصول إليه، وفيه من العين والأمتعة شيء كثير، وكل من رام أخذ شيء بغير إذني تكسر رقبته، فقتل لي عدة عبيد، وعشت آمنا على مالي مدة حتى كبر لي ولد كان اسمه محمد، فلما شب واحتلم تعلقت آماله بالبنات، وأراد أن يهاديهن ببعض خرز وحلي ، فترقب غفلتي يوما وأخذ المفاتيح وفتح خزينة الأمتعة، وأراد أن يدخل فكسر الدمزوقة رقبته ومات في الحال، وكنت أحبه حبا شديدا، فلما أخبرت بموته جزعت عليه جزعا عظيما، وسألت عن سبب ذلك، وأخبرت أنه أراد أن يأخذ شيئا من الأمتعة فقتله الدمزوقة، فحلفت يمينا أن الدمزوقة لا يجلس في بيتي، وأردت إخراجه فأعجزني، وشكوت لبعض أحبابي فأشار علي أن أصنع وليمة وأجمع فيها أناسا كثيرين، يكون مع كل واحد منهم بندقية وبارود، ويأتون كلهم دفعة واحدة يطلقون البنادق ويصيحون بصوت واحد بكلام الفور دمزوقة أيئيه، ومعناه: أين الشيطان؟ ويكررون الطلق ويرفعون أصواتهم بذلك حتى يدخلوا إلى المحل الذي فيه المال، فربما خاف وهرب منه، ففعلت ذلك ففر ولله الحمد، وخلصت من معاشرة الدمازيق، أي: الشياطين.
ولقد أخبرني عدة رجال أن النقاقير التي في بيت السلطان فيها واحدة تسمى منصورة، متملكها الشياطين، وإنها ربما ضربت بغير ضارب، فإذا وقع ذلك يحدث في دارفور أمر عظيم؛ إما حرب عدو لهم، أو حرب بينهم، وسيأتي لهذا مزيد توضيح حين نتكلم على عوائد الملوك، وأما عوائد القبائل الأخر، كالبرتي والداجو والبيقو والزغاوة والبرقو والميمة وغيرهم، فإن بعضها يقرب من عوائد أهل الجبل، وبعضها يخالفها، أما المخالفة، فبعض هذه القبائل فيه كرم ونجدة ورقة طبع؛ وذلك لمخالطتهم للعرب أهل البادية، وللتجار الذين يذهبون من أرض مصر وغيرها، فتراهم إذا رأوا أضيافا أقسموا عليهم وأحسنوا ضيافتهم، وإن رأوا غريبا أكرموه، وذلك بخلاف الفور الأعجام، كأهل جبل مرة وتموركه، فإنهم يكرمون الضيف ولا يألفونه، ولا ينزل الضيف عندهم إلا قهرا عنهم.»
تقاليد ملوك الفور
وقال المؤلف عن عادات ملوك الفور: «عادة ملوك الفور مخالفة لعوايد غيرهم من الملوك، ولملكهم السلطنة التامة عليهم؛ فإذا قتل منهم ألوفا لا يسئل لماذا، وإن عزل ذا منصب لا يسئل لماذا، فهو تام التصرف في كل أمر يريده، وإذا أمر بأمر لا يراجع فيه ولو كان منكرا، إلا من قبيل الشفاعة، ولا ترد له كلمة، لكنه إذا فعل ما لا يليق من الظلم والعسف يحصل له بغض في قلوبهم، ولا يقدرون له على شيء!
شابة نوبية في السنة الثانية من زواجها.
فأول عوائدهم: أن الملك لا يكون إلا من بيت الملك، أي: من سلالتهم، ولا يمكن تولية أجنبي منهم، ولو شريفا وتحقق نسبه عندهم. وثانيها: أن الملك إذا تولى يجلس في بيته سبعة أيام لا يأمر ولا ينهى، ولا تقوم بين يديه دعوة، وكلهم على ذلك إلا السلطان عبد الرحمن، فإنه خرق عادتهم. وثالثها: أن لهم عجائز تسمى الحبوبات، وهن طائفة عظيمة، ولهن رئيسة تسمى ملكة الحبوبات، فعند خروج السلطان يوم الثامن يجتمعن ويأتين إليه، وكل واحدة منهن بيديها أربع قطع من الحديد تسمى القطعة منها كرباجا، وفي كل يد كرباجان يضربنها على بعضها فيحصل منها صوت، وبيد إحداهن قبضة من سعف أبيض ومعها ماء، اختلف أهل دارفور فيما تركب منه، فتبل العجوز السعف من ذلك الماء وترش به على السلطان مع قول كلام لا يعقله إلا هن، ويأخذن السلطان في وسطهن، ويطفن به البيت، ويتوجهن إلى دار النحاس، وهو المحل الذي فيه النقاقير، وهي طبول السلطان، فيدخلن البيت ويأتين إلى النقارة المسماة بالمنصورة، فيقفن حلقة ويجعلنها في الوسط والسلطان وحده معهن، ويضربن الكرابيج على بعضها ويقلن من كلامهن، ثم يرجعن بالسلطان إلى كرسي مملكته، وبعد جلوسه ذاك تدخل إليه الدعوى ويتناول الأحكام.
ومن عادتهم أن السلطان لا يسلم على غيره إلا بترجمان، صغيرا كان أو كبيرا، عظيما أو حقيرا؛ وكنية ذلك أنه إذا دخل عليه أناس يجثون على ركبهم، ثم يتقدم الترجمان ويسميهم واحدا بعد واحد إلى آخرهم، وهو أنه يقول: إنولورا فلان دوكة كنبجي داري، ومعناه: أن هنا برا فلان سلام يعطي طاعة.»
الفصل الثاني عشر
فتح محمد علي للسودان
كان المماليك متنافرين متنابذين، سواء في عهد عروشهم المصرية أم عندما كانوا بيكوات تحت الحكم العثماني التركي، وكانوا كثيرا ما يلجأون إلى الوجه القبلي، ومنه إلى السودان، ولا سيما المديريات الشمالية ومديرية دنقلة، وكان آخر التجاء البيكوات المماليك في عهد الحكم الفرنسي أولا، ثم في حكم محمد علي، وخاصة بعد ذبحه أكثرهم في مذبحة القلعة المشهورة في أول مارس سنة 1811، ففروا إلى النوبة ودنقلة، بل إلى جنوبي السودان.
شغل محمد علي عندما استقر له الحكم في مصر بتوطيد دعائم الحكم، واستكمال عناصر السيادة والاستقلال، فقد شغل بحربه مع الحملة الإنجليزية على مصر سنة 1807، ثم الحرب الوهابية التي قامت إثر الدعوة الوهابية في جزيرة العرب، التي قام بها محمد بن عبد الوهاب سنة 1703 ميلادية الموافقة سنة 1115 هجرية في «العيينة» من بلاد نجد، وكان حنبلي المذهب، لا يقبل الترخص في الدين، ويمقت البدع، ويحرم لبس الحرير وشرب الدخان، وقد انتصر عليه «أحمد طوسون باشا» بن محمد علي مع الجيش المصري بعد أن استهدف للهزائم، وحلت بحملته الخسائر، وبعد أن اضطر محمد علي للسفر لإنجاد ولده، وبعد أن توفي بالدرعية في أبريل سنة 1814 الأمير سعود بن عبد العزيز جد الملك بن السعود الذي ناصر الدعوة الوهابية، وكان لها درعا. جرد محمد علي الكبير حملة لفتح السودان، ويرجع فتحه السودان إلى الأسباب التالية: (1)
حماية حدود مصر الجنوبية؛ إذ كانت معرضا للمناوشات بين القبائل. (2)
الخوف من تجمع فلول المماليك في دنقلة وقيامهم بحركة، وبتجنيد جيش من السودانيين والزحف به على مصر، لا سيما وأنه كان عند بعض الدول ميل إلى مساعدتهم وهدم الحكم المصري الوطيد بزعامة محمد علي. (3)
علم محمد علي من مستشاريه الفرنسيين بأن السودان أرض واسعة، تستأهل الفتح والاستعمار ونشر الحكم المصري فيه. (4)
علم محمد علي، كما علم ملوك مصر من الفراعنة وغيرهم، بأن في السودان مناجم للذهب، وأن الذهب ضروري لمساعدة الحكومة المصرية في توطيد الحكم، وتوسيع الملك، وتنظيم شئون الدولة. (5)
كان محمد علي في حاجة إلى الجند، وقد عرف أن السودانيين يصلحون للجندية، وأنهم مطيعون للحكام، وأنهم أهل شجاعة.
محمد علي باشا مؤسس الأسرة العلوية المالكة في مصر «1769-1849».
بعد أن اختمرت فكرة فتح السودان في رأس محمد علي، أخذ يدرس الخطة الحربية والاستعداد للفتح، فذهب بنفسه إلى حدود مصر العليا في سبتمبر سنة 1819، ومعه حسن باشا قائد الجنود الألبانيين ومحمد لاظ أوغلي، ووضع خطة الزحف على السودان من جنوبي شلال أسوان، وعاد إلى الجيزة في 15 نوفمبر سنة 1819، بعد أن أمضى شهرين في تلك المنطقة.
تألفت الحملة على السودان من 5400 مقاتل، معهم 24 مدفعا، كان أكثرهم من العرب والمغاربة، وكانت الحملة بقيادة ابنه إسماعيل باشا.
وأعد محمد علي قوة أخرى بقيادة صهره، محمد بك الدفتردار، عددها 4000 (أربعة آلاف) جندي، معهم عشرة مدافع، لفتح كردفان، وكان مع الحملة ثلاثة من العلماء المصريين؛ لدعوة السودانيين إلى قبول الحكم المصري، وكان مع الحملة مسيو فردريك كايو، ونقلت الجنود من مصر القديمة في النيل على ثلاثة آلاف مركب إلى إسنا، حيث سارت برا ومعها ثلاثة آلاف من الإبل.
وكان بداية سفر الحملة في 18 يولية سنة 1820، وبعد وصولها إلى أسوان وصلت إلى وادي حلفا وبقيت فيها عشرين يوما، ثم توجهت من وادي حلفا إلى سكوت، ومن سكوت إلى دنقلة، وقد فر فلول المماليك عند رؤية الجيش المصري، وقدم أهل البلاد التي مر بها الجيش الطاعة، وتم احتلال مديرية دنقلة، ثم واصل الجيش سيره جنوبي دنقلة في بلاد «الشايقية».
وعلى مقربة من «كورتي» - على الشاطئ الغربي للنيل - هجم الشايقية على فرسان الجيش الذين تقدموه، ولكن الفرسان المصريين هزموا المهاجمين، الذين سلموا وانضووا جنودا في الجيش المصري، وقد أحرق إسماعيل باشا - نجل محمد علي باشا الكبير - بلدة «كورتي» عاصمة الشايقية، التي كانت الجزء الجنوبي لمديرية دنقلة، ثم واصل الزحف في 21 فبراير سنة 1821 في صحراء «بيوضة» حتى وصل على النيل تجاه «بربر»، التي فتحها الجيش المصري في 10 مارس سنة 1821، وأخضع ملكها «نصر الدين»، وأقامه إسماعيل عليها، ووصل الجيش إلى «شندى» يوم 8 مايو سنة 1821، حيث أعلن ملكها «الملك نمر» الولاء، ثم استمر الجيش في سيره جنوبا، فاحتل «حلفاية» القريبة من موقع الخرطوم، واحتل «أم درمان» ونزل فيها بالمراكب، فأقام الجنود في محلة صغيرة، كانت الموقع لمدينة الخرطوم التي أنشأها محمد علي فيما بعد وجعلها عاصمة للسودان، وقد جعلت - أولا - معسكرا للجيش، وفتح إسماعيل بعد ذلك مملكة سنار، واحتل واد مدني، وأخضع ملكها «بادي»، واحتل سنار العاصمة في 12 يونية سنة 1821.
فتح كردفان
أما الحملة التي بقيادة محمد بك الدفتردار فقد واصلت السير جنوبي دنقلة إلى بلدة «بارة» شمالي الأبيض، وعند بارة حدثت موقعة في أبريل سنة 1821 انتهت بهزيمة جيش السلطان محمد الفضل سلطان دارفور.
على أن هذه الحملة قد استهدفت للأمراض والمناوشات ولسوء الجو ولقلة المؤونة والذخيرة ولموت الكثيرين، حيث مات نحو نصف الجنود.
ملك فازوغلي سنة 1821.
ثم وصل إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا إلى سنار، حيث نظمت حملتان: الحملة الأولى بقيادة إسماعيل باشا لفتح البلاد التي على النيل الأزرق حتى فازوغلي، وأخرى بإمرة إبراهيم باشا إلى أعالي النيل.
ووصلت حملة إبراهيم باشا إلى جبل القربين، حيث مرض بالدوسنتاريا، واضطر إلى العودة إلى مصر، أما حملة إسماعيل باشا، فقد وصلت إلى بلاد فازوغلي - وفازوغلي مديرية أسميت بهذا الاسم لوجود جبال فازوغلي بها - وجعل محمد علي بلدة «فامكا» عاصمة لها بدلا من عاصمتها الأولى قبل الفتح، وقد خضع ملك فازوغلي - وكان يدعى الملك حسن - للحكم المصري، ثم وصلت الحملة إلى جبل «بني شنقول» جنوبي فازوغلي، وحاولت كشف مناجم الذهب، فعثرت على فتات من التبر هينة القيمة.
قتل إسماعيل حرقا في شندى
وقد مرض إسماعيل، وفشت الأمراض في جنوده، وانقضت عليه بعض القبائل، وجند الأسرى السودانيين، وغضب سكان حلفاية وشندى على الحكام المصريين، وكانوا من الأرناؤود، وهجم العصاة على الجنود المصريين الذين كانوا مرافقين للأسرى السودانيين، الذين أرسلوا إلى أسوان لتجنيدهم.
ولما علم إسماعيل بذلك كله، سافر مباشرة إلى «شندى»؛ حيث علم أن ملكها الملك نمر هو الذي أثار السكان وخان العهد، فدعاه، ولما حضر أمامه وبخه وأهانه، ولطمه على وجهه «بالشبك» وحجزه، ثم عفا عنه مقابل غرامة مالية جسيمة يوفيها في خمسة أيام، وألف من الرقيق، فتظاهر الملك نمر بالإذعان، وكان يبطن الانتقام، ثم دعا الملك نمر إسماعيل ومعيته إلى وليمة في داره بشندى، وكانت من القش، فلبى «إسماعيل» الدعوة، وتظاهر الملك وأعوانه بالترحيب بهم، وفي أثناء ذلك جمع أنصار الملك الحطب والقش والتبن حول الدار بحجة جمع العلف لخيل الباشا، ولكن الحقيقة أن ذلك كان للتنكيل بإسماعيل باشا ومن معه؛ حيث أشعلت النار في العلف الموهوم، وحيث كان أنصار الملك محيطين بالباشا وحاشيته وقد رموهم بالنبل والسهام، فمات الباشا ومن معه، ولم يهرب إلا أفراد قلائل.
وعندما علم محمد علي باشا بقتل ابنه وبنكبة شندى حزن، وقد توجه محمد بك الدفتردار من كردفان إلى شندى، حيث انتقم من ذلك الحادث الأليم، فخرب شندى، وأنزل العذاب بالثائرين المتآمرين، وقتل ألوفا من أنصار الملك نمر، الذي فر إلى حدود الحبشة.
نظام الحكم في عهد محمد علي
نظم محمد علي باشا الحكم في السودان على الوجه التالي: عين حاكما له يدعى حكمدار السودان، له السلطة العسكرية والمدنية المطلقة، وجعله تابعا لديوان الداخلية بمصر، وأنشأ مدينة الخرطوم وجعلها عاصمة للسودان ومقاما لحكمداره، وقسمت البلاد المفتوحة إلى مديريات، بلغت سبعا، وهي: دنقلة، وبربر، والخرطوم، وكردفان، وكسلا، وسنار، وفازوغلي، لكل منها مدير، وقسمت المديريات إلى أقسام، لكل قسم ناظر، وللمدير وكيل ومعاونون وكتبة وقاض ومفتي ومجلس أهلي وضبطية، وأبقى حكام البلاد الذين كانوا قبل الفتح في مناصبهم، كمشايخ النوبة ودنقلة وبربر والحلفاية والرصيرص وفازوغلي وملك سنار، وعلى كل حال، كان الحكم في السودان كنظام الإدارة في مصر.
وبلغ الجيش المصري في السودان 18000 جندي، منهم 1000 من الفرسان الأتراك، و16000 من الجنود المصريين النظاميين، وقد جند معهم جنود سودانيون، وأصبحوا جزءا من الجيش المصري، وكان العلم المصري مرفوعا على دواوين الحكومة، وكان السودان معدودا من مصر.
وكان للمدير وكيل ومعاونون ونائب قاض ومجلس أهلي وضابطة، وفي كل مديرية حامية، والجند جهادية وباشبوزق؛ أي: جنود نصف نظاميين.
وإيرادات الحكومة تجمع من الضرائب والجمارك وملاحات البحر الأحمر وآبار النطرون وويركو التجار وأرباب الصنائع، وتؤخذ الضرائب من عرب البادية على ماشيتهم، ومن الحضر على سواقيهم ونخيلهم.
وقد نظم البريد الذي كان ينقل بالسفن ثم على الهجن، وأنشئت له محطات، وكان البريد بين مصر والخرطوم مرتين في الشهر، وكانت المسافة تستغرق حوالي خمسة وعشرين يوما.
وقد استتب الأمن، واستعملت الشدة مع المتمردين والمجرمين، وهي شدة استدعاها نظام الحكم المطلق، وقرب العهد بالفتح والخضوع والنظام العسكري، وهي شدة احتملها المصريون كالسودانيين على السواء في حكم ناشئ ودولة جديدة، في حاجة إلى التوطيد ورد الغارات وكبح جماح الكائدين والمنتقضين.
وقد أدخل المصريون في السودان زراعة القمح والخضر، وأنشأوا البساتين، وزرعوا أشجار الفاكهة من رمان وعنب وبرتقال وليمون، وقال الكولونيل استيوارت: «يميل المصري بطبعه إلى الزراعة، وكان لا يمضي ستة أشهر على إنشاء معسكر للجنود المصرية في السودان وإقامتهم بمعسكرهم حتى يكون من المؤكد ظهور الزرع والخضر ...»
وأسس محمد علي المدن، من ذلك إنشاء مدينة الخرطوم التي كان موقعها محلة صغيرة للصيادين، وجعلت سنة 1822 معسكرا للجيش، وجعلت سنة 1830 مقرا لحكمدار السودان خورشيد باشا وعاصمة للسودان، وقد أسميت بالخرطوم لأن موقعها - وهو عند ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض - يشبه خرطوم الفيل، وأسست بها سراي الحكومة بالطوب الأحمر من دورين، وسراي مديرية الخرطوم، ومسجدان، ودار لبعثة دينية مسيحية، وثكنة للجنود شرقي المدينة، ومستشفى، ومصنع للبارود، ومخزن للمؤن، وترسانة بها مسبك للحديد، ومصنع للنجارة.
وانتشرت بها الحدائق والدور، وأقام فيها موظفون أولا، ويقول «مانجان» في كتابه:
1 «إن عدد سكان الخرطوم قد بلغ ثلاثين ألفا في عهد محمد علي، وزاد العدد إلى أربعين ألفا سنة 1854، وخمسين ألفا سنة 1856»، وقال الكولونيل استيوارت: «إن عددهم سنة 1883، وقبيل الثورة المهدية، قد بلغ عددا يتراوح بين خمسين ألفا وخمسة وخمسين ألفا.»
وواصل محمد علي تأسيس مدن للسودان، فأسس مدينة كسلا التي أصبحت - عندئذ - عاصمة إقليم التاكا، وعاصمة السودان الشرقي، وقد كثرت هجرة المصريين إلى السودان، واتخذه كثيرون منهم مقاما، كان منهم التجار، وتزوجوا من نساء السودان، وأصبح أولادهم مولدين.
وأنشأ محمد علي مدينة «فامكا» على النيل الأزرق سنة 1842، على بعد 25 ميلا من الرصيرص، وجعلها عاصمة مديرية فازوغلي، وأقام على بعد خمسة أميال منها جنوبا، قصرا ومعملا للتنقيب عن الذهب، وبقيت آثارهما للآن.
حكمدارية السودان الأولى
يعد إسماعيل باشا - الذي قتل في شندى، ونجل محمد علي باشا - أول حكمدار للسودان، ولما قتل في أواخر سنة 1822 أصبح محمد بك الدفتردار - صهر محمد علي باشا - خلفا له في حكم السودان، ثم خلفه الميرالاي عثمان بك سنة 1823، وبعد سنتين عين محله محو بك الذي احتفر آبارا للشرب والسقاية تعرف إلى الآن باسمه، وفي سنة 1826، عين خورشيد باشا الذي أدخل صناعة بناء الدور بالطوب في السودان، والذي فتح القلابات القريبة من الحبشة، وبقي حتى سنة 1837، وعين محله أحمد باشا أبو ودان الذي فتح إقليم التاكا «كسلا»، وأسس مدينة كسلا، وتوفي ودفن بالخرطوم. وفي عهده - بين أكتوبر سنة 1838 ومارس سنة 1839 - زار محمد علي السودان باحثا عن الذهب، ومعه علماء فرنسيون، وعين أحمد المناكلي باشا - الذي أخمد ثورة في بلاد التاكا - حكمدار، ثم عاد إلى مصر سنة 1845 وخلفه خالد باشا.
قال مسيو ديهيران:
2
إن «استتباب الأمن كان من أجل أعمال محمد علي»، وقال مستر بورنج - أحد السائحين الإنجليز في عهد محمد علي: «إن استتباب الأمن شمل كل بلد حكمه محمد علي، فحيثما بسط نفوذه وحكمه وطد دعائم الأمن ورعاه، وحيثما ضعف نفوذه ضاع الأمن، مثال ذلك: عندما انسحبت جنود محمد علي من السودان سنة 1841 لم يعد التجار آمنين على متاجرهم، ولما انسحب إبراهيم باشا اختل الأمن، وعادت الفتنة بين المصريين والمسيحيين.»
وقال قنصل فرنسا في مصر الكونت بتديتي: «إن الأهالي والأجانب على السواء يستطيعون السير في أي بلد من البلاد التي يحكمها محمد علي في وادي النيل إلى أقاصي السودان، وفي سوريا وجزيرة العرب، فقد أقام العدل صارما في حزم وفي غير ضعف، فالسودان قد ساده الأمن كما ساد غيره، وقد استطاع الرحالة بالم أن يجتاز كردفان مع خادم واحد، كذلك الرحالة كوتش، والأمير الألماني، وأسرة مسيو ميلي، وقد وصلوا جميعا إلى الخرطوم دون أن يقع عليهم أي اعتداء؛ حيث لم يكن التاجر قبل حكم محمد علي يأمن أن يسير في السودان منفردا.»
حدود السودان
كانت حدود مصر تنتهي بجزيرة ساي جنوبي وادي حلفا، وقد وصلت حدود السودان في عهد محمد علي إلى حدود الحبشة، ودخل في حدود مصر: إقليم التاكا، والقضارف، والقلابات، وسواكن ومصوع اللتان استأجرهما محمد علي باشا من سلطان تركيا مقابل 500 كيس. ووصلت حدود السودان جنوبا في النيل الأبيض إلى جزيرة دنكا أمام غندكرو، ووصلت حدود الحكم المصري السودان إلى كردفان غربا، وإن كانت عدت من أملاك مصر بالفرمان الصادر في 13 فبراير سنة 1841 الذي صدر بموافقة الدول.
فلم يفتح محمد علي إقليم خط الاستواء، ولم يكشف منابع النيل، وتم ذلك في عهد إسماعيل.
الفصل الثالث عشر
السودان بعد محمد علي
في عهد إبراهيم
ظلت الحالة في السودان بعد عهد محمد علي باشا كما كانت في عهده، أي ظل السودان بحدوده وإدارته التي أنشأها محمد علي سائرة في عهد ابنه إبراهيم باشا، الذي كان حكمه قصيرا، إذ ولي الحكم في أبريل سنة،1847 وتوفي في 10 نوفمبر سنة 1848، وإبراهيم باشا هو أكبر أنجال محمد علي، وقائد جيوشه، وساعده الأيمن في الحروب الوهابية واليونانية والشام والأناضول، وفي تنظيم الإدارة المصرية، ولد في قولة سنة 1789، وحضر إلى مصر مع أخيه طوسون في سبتمبر سنة 1805.
وقد عين وتوفي في حياة والده محمد علي الذي اعتلت صحته وضعف عقله في آخر حكمه، وتوفي في 2 أغسطس سنة 1849 في سراي رأس التين بالإسكندرية، ونقل إلى القاهرة ودفن بمسجده في القلعة.
إبراهيم باشا الأول بن محمد علي باشا.
في عهد عباس باشا الأول
عباس باشا الأول والي مصر من سنة 1848 إلى سنة1854.
خلف عباس باشا الأول ابن طوسون بن محمد علي باشا - عمه إبراهيم باشا - في 24 نوفمبر سنة 1848، وكان أميرا مستبدا، كثير الوساوس، وقد عد السودان منفى للذين غضب عليهم، وقد نفى إليه رفاعة بك رافع الطهطاوي الذي ولد سنة 1801 وتوفي سنة 1873، وتخرج في الأزهر، وفي البعثة المصرية بباريس، وعين ناظرا لمدرسة الألسن ولقلم الترجمة سنة 1851، حيث أنشأ عباس باشا الأول مدرسة ابتدائية بالخرطوم، وجعل رفاعة بك ناظرا لها، ومحمد بيومي أفندي كبير أساتذة الهندسة والرياضيات بمدرسة المهندسخانة، وأحمد طائل أفندي أستاذ الرياضيات، وغيرهم، مدرسين بها. وقد ترجم رفاعة بك في أثناء إقامته في السودان كتاب تليماك، ونظم مدرسة الخرطوم، وكان معجبا بالسودانيين وتلامذته منهم، وقال: «إن لهم قابلية للتمدين الحقيقي؛ لدقة أذهانهم، فإن أكثرهم قبائل عربية، ولا سيما الجعليين والشايقية وغيرهم، واشتغالهم بما ألفوه من العلوم الشرعية عن رغبة واجتهاد، ولهم مآثر عظيمة في حسن التعلم والتعليم، حتى إن البلدة إذا كان بها عالم شهير يرحل إليه من البلاد المجاورة من طلبة العلم العدد الكثير والجم الغفير، فيعينه أهل بلدته على ذلك، بتوزيع المجاورين «أي: الطلبة» على البيوت بحسب الاستطاعة، فكل إنسان من الأهالي يخصه الواحد أو الاثنان، فيقومون بشئونهم مدة التعلم.»
وهذا الذي يقوله رفاعة بك منشورا في صحيفة 62 الطبعة الثانية من كتاب «مناهج الألباب المصرية» لا يزال متبعا إلى اليوم، فإن الطلبة الفقراء الغرباء في المعهد العلمي بأم درمان يوزعون على كبار تجار أم درمان، الذين خصصوا في منازلهم غرفا خاصة لإيواء هؤلاء الطلبة مع إطعامهم وكسوتهم.
وقد قال رفاعة بك من قصيدة:
رفاعة خمس المنظوم مرتجلا
قريضه وهو «بالخرطوم» قد وجلا
قالت هواتفه بالله كن رجلا
فان جدك «طه» بالخطوب جلا
ويقصد رفاعة بك بقوله «طه» أنه من بيت شريف يتصل نسبه بمحمد الباقر ابن علي زين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة الزهرة بنت النبي
صلى الله عليه وسلم .
وقد عاد إلى مصر رفاعة بك من السودان عقب وفاة عباس باشا الأول سنة 1854، حيث مات عباس باشا مقتولا.
رفاعة رافع بك.
الفصل الرابع عشر
السودان في عهد سعيد باشا
سعيد باشا والي مصر من سنة 1854 إلى سنة 1863.
تولى سعيد باشا الحكم سنة 1854 خلفا لابن أخيه عباس باشا، وتوفي سنة 1863.
وقد حدث في عهد سعيد باشا حرب جمهورية المكسيك في أمريكا الشمالية. كانت هذه الجمهورية - ولا تزال - معرضا للفتن والثورات الداخلية لانتزاع رياسة الجمهورية من زعيم أو حزب إلى آخر. وفي سنة 1861 كان يرأس الجمهورية مسيو جوارز، وكان الإمبراطور نابليون الثالث في فرنسا يعضد الثائرين على رئيس الجمهورية، وجرد حملة عليها، واستعان على حربه بصديقه سعيد باشا، الذي أرسل له جيشا من الجنود السودانيين بقيادة البكباشي جبر الله محمد السوداني، والصاغ محمد ألماس، وسافرت الحملة السودانية إلى المكسيك سنة 1862، فانتصر الجيش الفرنسي أولا، وألغيت الجمهورية، وأعلن اعتلاء الأرشيدوق مكسميليان النمسوي سنة 1864 إمبراطور في المكسيك، ولكن تغلبت الجنود المكسيكية على الجيش الفرنسي، وقد أبلت الجنود السودانية في هذه الحرب بلاء حسنا، وشهد المارشال فوري قائد الجيش الفرنسي لها بالشجاعة، وقال: إنهم «ليسوا جنودا فقط، وإنما هم أسود.» (1) أورطة المكسيك السودانية
وكان سبب حرب فرنسا مع المكسيك أن حكومة المكسيك أساءت
1
معاملة كثير من رعايا فرنسا وإنجلترا وإسبانيا، ونهبت أموالهم على أثر مطالبتهم لها بوفاء ما عليها لهم من الديون، فكان ذلك السبب الظاهر لهذه الحرب.
ويقال إن الغرض الذي كان يسره نابليون الثالث في قرارة نفسه، ويرمي إليه من وراء هذه الحرب إنما هو تأسيس حكومة ملكية كاثوليكية في المكسيك؛ ليضمن بذلك وجود التوازن في هذه البلاد مع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد عقدت هذه الحكومات الأوربية الثلاث النية على استخدام القوة المسلحة للحصول على مطالب رعاياها ، ووجهت كل منها حملة إلى المكسيك في سنة 1861م، ولكن لم يلبث الخلاف أن دب بين هذه الدول، فسحبت إنجلترا وإسبانيا جنودهما من المكسيك في أبريل سنة 1862م، وقامت فرنسا وحدها بأعباء هذه الحرب.
وأرض المكسيك تنقسم إلى جبال ووهاد، ووهادها تسمى الأراضي الحارة، وهي واقعة على سواحلها البحرية، ومناخها وبيل تنتشر فيه الحمى الصفراء والدسنتاريا، وإذا أقام به الأوربيون فتكت بهم هذه الأمراض فتكا ذريعا. أما الزنوج، فيمتازون بحصانة طبيعية ضد هذين المرضين؛ ولهذا استخدمت فرنسا عساكر منهم جندتهم لهذه الحرب، خاصة من مستعمراتها.
وخطر بفكر نابليون الثالث أن يرجو سعيد باشا - والي مصر في ذلك الحين - أن يمده بآلاي من الجنود السودانيين، فقبل سعيد باشا رجاءه، غير أنه لم يرسل سوى أورطة مؤلفة من 453 جنديا، بين ضباط وصف ضباط وعسكر.
وهذه الأورطة مكونة من أربعة بلوكات، وهي من آلاي المشاة التاسع عشر، وقد اشتركت في حرب المكسيك من عام 1863م إلى عام 1867م، وها نحن نبين ما قامت به في هذه السنين من الأعمال المجيدة:
عام 1863م
في 8 يناير سنة 1863م أقلعت النقالة الفرنسية لاسين
La Seine
بهذه الأورطة من الإسكندرية مارة بطولون، حتى وصلت بها إلى فيرا كروز، وهي أكبر فرضة في المكسيك في 23 فبراير، بعد سفر مدة 47 يوما، وقد مات منها في أثناء السفر سبعة جنود. وكانت الأورطة بقيادة البكباشي جبر الله محمد أفندي، ووكيله اليوزباشي محمد ألماس أفندي.
وجاء في التقارير الفرنسية عنها أنها كانت ذات ملابس حسنة، وسلاح جيد، وهيئة أنيقة، واستعداد عسكري يثير إعجاب كل من يراها، إلا أن سلاحها كان يختلف عن أسلحة الجنود الفرنسية، فنجم عن ذلك متاعب وعراقيل من جهة الذخيرة، فوزعت القيادة الفرنسية عليهم أسلحة فرنسية، وأودعت أسلحتهم المخازن، ثم أعادتها إليهم عند رجوعهم إلى مصر.
كما أن التفاهم معها في بادئ الأمر كان متعذرا؛ لجهل أفرادها اللغة الفرنسية، فدعت الحالة إلى استخدام بعض الجنود الجزائريين الذين كانوا معهم في حرب المكسيك للترجمة بينهم وبين سائر الجنود الفرنسية هناك، فأمكن بذلك معرفة احتياجاتهم والاستفادة من أهليتهم وكفاءتهم .
وقام جنود هذه الأورطة بأعظم الخدم وأجلها لشجاعتهم وبراعتهم في الرماية وضرب النار، وبذلك أمكن التعويل عليهم في المواقع التي كانت الجنود الفرنسية لا تستطيع المقام فيها، فصدوا غارات العصابات التي كانت تجوس خلال هذه الديار وتشن الغارات على قوافل المؤونة والذخيرة، وعلى المخافر التي بها قليل من الحرس.
وقبل مباشرة هذه الأورطة العمل رتبت على النظام الفرنسي.
وفي مايو سنة 1863م فجعت الأورطة المصرية «السودانية» بوفاة البكباشي جبر الله محمد أفندي، على أثر إصابته بالحمى الصفراء، فخلفه القائد الثاني لها الصاغ محمد ألماس أفندي بعد أن منح رتبة البكباشي.
وكان لوفاة هذا الضابط العظيم رنة أسى عند الجميع، وجاء في تأبين السلطة الفرنسية له أنه كان على جانب كبير من دماثة الأخلاق والتحلي بصفات عسكرية نادرة، وأنه كان محترما من الجميع؛ لسلوكه الحسن ، وقيامه بواجباته على الوجه الأكمل، وقدره ما على عاتقه من المسئوليات.
وبلغت قيمة تركته 5667 فرنكا، أرسلتها السلطات الفرنسية فيما بعد إلى الحكومة المصرية لتسلمها إلى ورثته، مع مبلغ 5000 فرنك على سبيل المنحة منها لهم.
ويدرك المرء مقدار وخامة الأراضي الحارة وفساد مناخها، إذا علم أنه مع متانة بنية جنود الأورطة السودانية المصرية ومقاومتها لوخامة ذلك الجو أكثر من المكسيكيين أنفسهم، كان لا يوجد في كل بلوك منها أقل من 42 مريضا على الدوام، 30 في المستشفى و12 في الثكنات.
ومع أن هذه النسبة كبيرة بالنظر لمجموع عدد الأورطة، إلا أنه عند مقارنتها بنسبة عدد مرضى فرق الجيوش الفرنسية الأخرى نجدها أقل منها بكثير.
ولما احتلت الجيوش الفرنسية مدينة مكسيكو عاصمة المكسيك أقيمت احتفالات باهرة في كافة المدن التي في قبضة هذه الجيوش.
وفي 21 يونية سنة 1863م أقيم في فيرا كروز قداس حضره القائد العام، ومثلت فيه جميع السلطات العسكرية والمدنية، فعهد إلى الأورطة السودانية المصرية القيام بمهام التشريفات، وبعد انتهاء الاحتفال استعرضت في أكبر ميادين المدينة.
ولما وقف القائد العام المارشال «فوريه
Forey » على ما قامت به هذه الأورطة في عدة وقائع كافأها على ذلك، فأمر في 28 سبتمبر سنة 1863م أن تؤلف منهم كتيبة الجنود الذين يسمون «برنجي نفر»، فألفت منهم هذه الكتيبة، وبلغ عددها ربع عدد الأورطة، وأمر فمنح كل فرد من أفرادها 65 سنتيما يوميا «قرشين ونصف القرش تقريبا»، وأن يميزوا بشارات صفراء توضع على أذرعتهم، فأحدث هذا العمل أثرا عظيما في نفوسهم وفي نفوس ضباطهم، ودل على عظيم عناية القيادة الفرنسية بهم، وقدرها لجدارتهم.
وكتب قائد فيرا كروز في تقريره الذي أرسله إلى القائد العام عن واقعة نشبت في 2 أكتوبر سنة 1863م ما معربه:
لقد كلل هذا القتال رءوس السودانيين المصريين الذين قاموا بأعبائه بأسمى أكاليل الفخر، فإنهم لم يبالوا بالنار المنصبة عليهم من الأعداء، وردوهم، وهم يزيدون في العدد عليهم تسع مرات على أعقابهم مدحورين.
وقد بلغ عدد الوقائع التي خاضت هذه الأورطة غمارها في عام 1863م ثمانيا، وفي أثناء عام 1864م كانت الأورطة المصرية قد خاضت غمار إحدى عشرة معركة.
عام 1865م
حدث في 21 و23 و24 من يناير سنة 1865م ثلاث معارك عظيمة اشتركت فيها الأورطة السودانية المصرية ببسالتها المعتادة، وإليك ما قاله القائد العام للأراضي الحارة في تقريره عنها: «من الصعب العثور على كلام يمكن التعبير به عن بأس هذه الأورطة البارعة، وبسالتها وصبرها على الحرمان واحتمال المشاق، وحميتها في إطلاق النيران، وجلدها في المشي، فلقد قام كل جندي من جنودها في هذه الوقائع الثلاث بواجبه خير قيام» ويرى قائدها أن كافة جنودها تستأهل المدح والثناء، غير أنه لفت الأنظار إلى ثلاثة جنود منها أصيبوا إصابات شديدة «لكني أرى من واجبي أن أذكر أيضا الأشخاص الآتية أسماؤهم:
لقد أبلى الملازم فرج الزيني في هذه الوقائع بلاء حسنا كعادته، وكان يقود المؤخرة فأعاد إلى الذاكرة ما لم تنسه من حماسته وبسالته في حروبه السابقة.
وأصيب الملازم الأول محمد سليمان بستة جروح من طلقات نارية، فبرهن بذلك على إقدامه، وهذا الضابط الذي أنعم عليه بوسام في 20 ديسمبر، قد أظهر الآن مقدار جدارته لهذا الإنعام، فألتمس منحه رتبة اليوزباشية.
أما الجنود الأربعة الآتية أسماؤهم فقد أنعم على كل منهم بالوسام العسكري، وهم: جادين أحمد، ومحمد الحاج، وإدريس نعيم ، وعبد الله سودان.»
وفي ذلك الوقت كان أمير الآلاي آدم بك المذكور قائد الآلاي الأول السوداني في الخرطوم، الذي يبلغ مجموعه 81 ضابطا و2190 من صف الضباط والجنود، وترقى بعد ذلك إلى رتبة لواء، وفي سنة 1868م أسندت إليه القيادة العامة للجيوش السودانية.
ولما وصل تقرير قومندان الأورطة السودانية أرسل إليه الخديوي إسماعيل باشا في 16 ذي القعدة سنة 1281ه/12 أبريل سنة 1865م الكتاب الآتي:
أمر عال إلى صاغ أورطة السودان
قد ورد إنهاؤكم «كتابكم» بتاريخ 3 شعبان سنة 1281ه، الموافق أول يناير سنة 1865، يحتوي أنكم ومن معكم قائمون على أقدام الاهتمام، ومنقادون لأمر مأمور الجيش على الدوام، فحصل لنا بذلك مزيد السرور والارتياح منكم، ومن جميع من معكم من الضباط والعساكر، فعرفوهم أني أريد منهم أن يداوموا على هذا المسلك الحميد والمنهج السديد؛ حتى يعودوا إلى أوطانهم فينالوا الفخر بين إخوانهم، ثم بلغوهم أننا سننظر في ترتيب عساكر ليرسلوا بدلا منهم إلى تلك الجهة، وإن شاء الله عن قريب نرسل البدل المذكور، وتحضرون أنتم ومن معكم حيث طالت إقامتكم هناك، وعلى حسب التماسكم أهدي إلى البكباشي مارشال النيشان المجيدي الرابع، وأرسل مع الفرمان المتعلق به.
وأتت الأورطة السودانية المصرية في أثناء انتظارها من سيخلفها من الجنود بضروب الشجاعة والإقدام، إذ كانت تحتل في متسع من الأرض مساحته 160 كيلومترا، سبعة مواقع، بعضها ليس به منها أكثر من 30 جنديا، ومع ذلك فقد استطاعت أن تبعث الخوف والذعر في قلوب عصابات تتراوح كل عصابة منها بين 200 و300، وأن توقفها عند حدها، وإليك معرب العبارة التي مدح بها قومندان الأراضي الحارة هذه الأورطة:
يا لها من يقظة، ويا لهم من رجال أبطال تملك حب القيام بالواجب أفئدتهم، فهم لا ينفكون عن القيام به، حتى إنه لم يحدث مطلقا أن بوغت يوما جندي منهم في نوبة حراسته ووجد غائبا عن محله، وهم من أنفسهم يضاعفون الحرس ليلا إلى ثلاثة أمثاله بدون أمر ما؛ ليأمنوا أية مباغتة.
وفي بداية عام 1866م لم تكن الأورطة السودانية المصرية الجديدة قد استعدت بعد للذهاب إلى المكسيك لتحل محل الأورطة السودانية التي بها، مع أن الخديوي إسماعيل أصدر في 10 ذي القعدة سنة 1282ه 27 مارس سنة 1866م أمرا إلى وكيل الشركة العزيزية «الشركة الخديوية فيما بعد» ليصدر التعليمات اللازمة لنقل جنود الأورطة الجديدة إلى مصر.
وبالرغم من كل هذه الأوامر والتعليمات لم تسافر هذه الأورطة إلى المكسيك؛ لمجاوزة مدة تجهيزها الحد المألوف بسبب ما حدث من الطوارئ، ولما تبين أن الحرب أوشكت أن تضع أوزارها، وأن الأورطة التي بها قد دنا رجوعها إلى وطنها.
وفي يوليو سنة 1866م، مرت الإمبراطورة بفيرا كروز لتبحر منها إلى أوربا، ولم يكن بهذه المدينة من الجنود غير عساكر الأورطة السودانية المصرية لتأدية التشريفات اللازمة لها.
وفي ليلة 25 يوليو سنة 1866م ، هاجمت فرقة مؤلفة من 200 مكسيكي نقطة يحتلها 26 جنديا من الأورطة السودانية المصرية، وبالرغم من أن الهجوم عليهم كان فجأة مع قلة عددهم، فقد استمرت رحى الحرب دائرة إلى الساعة 5 ونصف صباحا، ثم انسحب العدو تاركا في حومة الوغى تسعة من القتلى، وعددا كبيرا من الجرحى.
وإليك ما قاله حضرة قومندان الأراضي الحارة في تقديره عن هذه المعركة:
لقد استحقت الفرقة السودانية المصرية جزيل المدح والثناء لسلوكها العجيب.
عام 1867م
كان قد تقرر في سنة 1866م جلاء الجيوش الفرنسية التي في المكسيك، فأخذت تنسحب من 13 يناير سنة 1867م، وتم جلاؤها في 12 مارس من هذه السنة.
وتعداد جميع الأعمال الحربية التي قامت بها الأورطة السودانية المصرية بالمكسيك في كل مدة إقامتها أمر يطول شرحه، وفضلا عما تقدم ذكره، اشتركت في 48 واقعة حربية في المدة التي قضاها هناك، من 23 فبراير سنة 1863م إلى 12 مارس سنة 1867م، أي: أربع سنوات وسبعة عشر يوما، وفازت على أعدائها في جميع المعارك، مع أنها كانت دائما أبدا أقل منهم عددا، وقد نيطت بها فوق ذلك أعمال أخرى قامت بها خير قيام.
أما المدائح المستطابة التي وجهت إليها من السلطات الفرنسية المختلفة عقب كل معركة فكثيرة جدا، وهي تشرف - بالطبع - الجيش المصري الذي كانت الأورطة جزءا منه، إلى أقصى حدود التشريف.
ولما أخذت الأورطة في الرحيل أبحرت من فيرا كروز في 12 مارس سنة 1868م، ووصلت إلى «ساترير»، ثم إلى باريس في أواخر شهر أبريل.
وكانت في مدة إقامتها في باريس تحت قيادة المارشال قائد الحرس الإمبراطوري، فقدمها بنفسه إلى الإمبراطور نابليون الثالث، وعندما استعرضها جلالته في 2 مايو سنة 1867م في الساعة الثالثة بعد الظهر، كان بمعيته صاحب السعادة جاهين باشا ناظر الجهادية المصرية، وكان يزين صدور عدد كبير من ضباطها وجنودها وسام «لاكروا دي لاليجيون دونور»، أو وسام الحرب، وكان هندامهم جميلا أنيقا لا عيب فيه، وقبل انصرافهم هنأ جلالته قائد الأورطة البكباشي ألماس أفندي بمقدرة عساكره وأهليتهم، ووزع بيده على الذين أصيبوا بجروح - وكانوا كثيرين - المكافآت، أما البكباشي ألماس أفندي الذي كان حائزا لرتبة «شفاليه دي لاليجيون دونور» منذ 20 أبريل سنة 1864م، فقد منح في هذا اليوم وسام «لاكروا دفسييه».
ثم غادرت الأورطة فرنسا، ووصلت إلى الديار المصرية، وأصبح عددها 313 بعد أن كان عددها 453، فتكون خسارتها 140 نفسا.
وفي 28 مايو سنة 1867م، استعرضها الخديوي إسماعيل في فناء قصر رأس التين بالإسكندرية، وفي مساء هذا اليوم، أقام لها لطيف باشا ناظر البحرية حفلة حافلة رأسها شريف باشا، جمعت ضباط الأورطة والضباط الفرنسيين المقيمين بالإسكندرية والمارين بها، وحضرها قنصل فرنسا العام، وموظفو القنصلية، وقائد الأسطول الفرنسي، وكثير من عظام الضباط المصريين، وكانت قاعة الاحتفالات مزينة بالأعلام الفرنسية والمصرية.
ولما عاد ضباط الأورطة وجنودها عينوا في وظائف الجيش المصري ونال الكثير منهم رتبا عالية، فوصل الملازم الأول فرج الزيني أفندي إلى رتبة فريق وباشجاويش، البلوك الثاني بخيت بتراكي إلى رتبة أمير آلاي. (2) رأي مؤرخين فرنسيين
يقول الكاتبان الفرنسيان «آميديه سكريه» و«لويز أوتربون»
2
في مؤلفهما:
ولما كانت الجندية هي سبب نجاح محمد علي باشا فقد وجه عنايته للعسكرية، وأسس جيشا لا يقل عن أحسن جيوش أوربا نظاما وتدريبا، بل في كل شيء إلا في عدده.
ولقد دون التاريخ الانتصارات الحربية لعسكرية الباشا المهيبة الجانب، ولسنا هنا في مقام تفصيل ذلك، فهي وقائع معروفة، ولكن الذي لا يعرفه الكثيرون معرفة كافية هو: أن المصري جندي متفوق إذا ما أدير بيد ماهرة قوية.
وإذا صح ما قيل من أن صفات الأمم العالية تمثل في جيشها، وأن حب النظام وطاعة الأوامر العسكرية هما الدعامة الكبرى للفن العسكري، فالجندي المصري يقيم الدليل المحسوس على صحة هذه الحقيقة؛ فهو قنوع صبور مطيع للأوامر، بصير حذر وشجاع، ويحتمل دون ما ضجر حرمانه من حاجاته لدرجة فوق التصور، وعندما أتيحت له الفرصة استطاع أن يمنع ويصد جموع الفيالق الروسية دون الاستيلاء على «سيلستري»، وأن يقطع إربا إربا بالفرات في واقعة «نصيبين» جيشا كان ضعفيه عددا، وفي عهد قريب في «أوائل حكم إسماعيل باشا» تجلت تلك الروح العسكرية بأوضع المظاهر في اللواء المصري الذي أرسله إلى فرنسا عزيز مصر سعيد باشا ليكون في حملة المكسيك، وأقره على ذلك خلفه إسماعيل باشا. «فإن دلائل التفوق وشهادات الفخار العسكرية والنياشين التي اختص بها عدد عظيم من ضباط وعساكر هذا اللواء في غنى عن كل شرح وبيان - راجع مذكراتنا الإيضاحية بآخر الكتاب رقم 3.
وإلى القارئ ما ورد في تلك المذكرة ملخصا عن ست صفحات: «لا يقرأ بدون اهتمام ذلك التقرير الذي أصدرته القيادة العليا الفرنسية «بفيرا كروز» عن واقعة 2 أكتوبر سنة 1863، التي اشتبكت فيها فصيلة من أورطة سودانية مصرية، فلقد كان لثبات هذه الفصيلة الصغيرة وشجاعتها أعظم تأثير في الانتصار في هذه الواقعة، وقد قدر ذلك القائد الفرنسي حق قدره بعبارات تغنينا عن الشرح، فهي وحدها كافية للدلالة على قيمة موقف هذه الفصيلة المشرف للجندي المصري، وإليك بعض ما جاء بهذا التقرير:
وفي 2 أكتوبر سنة 1863، عند الساعة السابعة صباحا، تحرك القطار الحديدي من محطة «فيرا كروز» قاصدا «صولداد»، وكان هذا القطار في حراسة أربعة عشر جنديا، سبعة من البلوك البحارة الوطنيين من جزائر الهند الغربية «أنييلس»، وسبعة من الأورطة السودانية المصرية، وهذه أسماؤهم:
بخيت بدرين أومباشي، بيتال حماد، وأيتوم سودان، وإبراهيم عبد الرحمن، ومحمد عبد الله، وعمر محمد، ومحمد علي، وعند اتجاه القطار لجهة «تيجريا» فوجئ الركاب بإطلاق الرصاص من الجانبين، وتحولت المركبات عن خط السكة الحديدية، وفي وقت الفزع الشديد والاضطراب الذي شمل جميع الركاب نزل السبعة السودانيون المصريون بقيادة بخيت بدرين - وهو اسم يكثر عند الدنكا - وحملوا أسلحتهم ووقفوا مدة إلى جانب العربات بكل ثبات، منتظرين اكتشاف مكامن الثوار الذين كانوا يكمنون في المرتفعات المحيطة بهم، ولما خفيت مواقعهم على القائد ولم يستطع لهذا السبب أن يأخذهم من ظهورهم بحركة التفات، بادر بإصدار أمره بالتقدم لمهاجمة الثوار في معاقلهم المرتفعة، ولكن حالت كثافة الحشائش والأشواك في الطريق دون تحقيق ذلك، فتحصنوا بعربات القطار، وأصلوا الثوار نارا حامية، ودام إطلاق الرصاص من الجانبين مدة كبيرة.
ولما وقع القائد «لي جيه» صريعا في ميدان القتال تقدم «بتال حماد» «وهو اسم يكثر بين الشلك» محاولا حمله وإدخاله إلى العربة، فأصيب في رأسه إصابة مميتة، فتقدم «بخيت بدرين» و«أيتوم سودان» وبادرا بحمل القومندان - الذي كان لا يزال فيه بقية نفس - إلى العربة، ثم حملا بعده مواطنهما الشهم شهيد الواجب. ثم تولى القيادة الضابط الفرنسي «شيرر» الذي أرسل يستخدم بالقوة المصرية المعسكرة في «تجريا»، وأخبر القيادة العليا «بفيرا كروز» بالحادثة، وقد وجل الثوار من شدة فتك نيران الجنود السودانية المصرية من أن تهاجمهم جسما لجسم، وتقاتلهم يدا بيد، ولكن هؤلاء الجند لم يمكنهم تحقيق غرضهم، وردوهم مرات على أعقابهم، وقد قتل الجندي «أيتوم سودان» «ويكثر هذا الاسم بين أهالي منجلا» بنفسه اثنين على بضع خطوات منه.
ودارت رحى القتال بشدة أكثر من ساعة، حتى كادت الذخيرة أن تنفد، وعند ذلك لوحظ هدوء طلقات الثوار، ثم انتهى بعد قليل بالسكوت المطلق، فظن القائد أن ذلك خدعة، وانتظر بضع دقائق حتى تقدم جندي هندي «أنتيلي» للاستكشاف، وما لبث أن عاد مخبرا بتفرق الثوار وجلائهم عن أماكنهم بعد جسامة خسائرهم وعلمهم بتقدم المدد المصري من «تيجريا» عدوا على الأقدام؛ مخافة أن يقعوا بين ناري المصريين.
وكانت الخسائر في هذه المعركة ثلاثة قتلى: القومندان «ليجيه»، و«بيتال حماد»، ومكسيكي من الركاب، والجرحى بجروح خطيرة، والمسيو ليون مدير السكة الحديدية، والراهب سافللي، وأحد العساكر، وجرح بجروح أقل خطورة: «شيرر»، وتسعة من العساكر الركاب، والملازم الثاني «بوتناي»، وسيدة مكسيكية.
واختتمت القيادة العليا تقريرها بما يأتي:
لقد أبلى الجنود السبعة المصريون في هذه الموقعة أعظم بلاء، وثبتوا ثباتا مدهشا فوق التصور، والكل كان موضع إعجاب الضباط والعساكر الذين حاربوا معهم جنبا لجنب، وليس ثمت شك في أن أكبر فضل في هذا الفوز راجع إلى مقاومة أولئك الجنود مقاومة قوية عنيفة، أوجبت إعجاب القيادة، بعد أن علمت أن عدد الثوار كان يبلغ نحو الثلثمائة مقاتل بين راكب وراجل.
ولذلك رأينا ترقية وكيل الأومباشي بخيت بدرين إلى درجة شاويش، وترقية كل من أيتوم سودان، وإبراهيم عبد الرحمن، ومحمد عبد الله، وعمر محمد، إلى رتبة أومباشي، وفوق هذا أطلب لبخيت بدرين وأيتوم سودان «الميدالية العسكرية» من الإمبراطور.
وهذه المكافآت قد أعطيت لهم في أول مارس سنة 1864 بيد القائم العام للحملة، وعقب ذلك بإمضاء القومندان العام للحملة الفرنسية بالمكسيك:
ه. ماريشال
وذيل بإمضاء:
قومندان أوريزايا
دولسيون لواء
حرر بفيرا كروز 24 مارس سنة 1864 (3) زيارة سعيد باشا للسودان
وقد اهتم سعيد باشا بأمر السودان، وعين علي شركس باشا حكمدار للسودان، وندب سعيد باشا أخاه الأمير عبد الحليم باشا للتفتيش على إدارة السودان، ثم زار سعيد باشا السودان ومعه راغب باشا، وذو الفقار باشا، والدكتور أباته باشا، وإبراهيم النبراوي بك، وأراكيل بك أخو نوبار باشا، ومسيو فردينان دلسبس.
وقد وصل سعيد باشا إلى الخرطوم في 16 يناير سنة 1857، وقد خطر بباله إخلاء السودان؛ نظرا لمتاعب إدارته وكثرة نفقاتها، وبرم الأهالي بالضرائب التي تتقاضاها الحكومة منهم، وقد استقبل الأهالي سعيد باشا بالحفاوة، ورفعوا إليه ظلاماتهم، وأصغى إليها، ولما علموا بتفكيره في إخلاء السودان، التمسوا منه عدم تحقيق هذه الفكرة، قائلين إن إخلاء السودان سيترتب عليه عودة الفوضى إليه، و«ونحن عبيد أفندينا».
فقبل رجاءهم وعدل عن الإخلاء، وأمر بإعفاء الأهالي من المتأخر عليهم من الضرائب، وخفضها وجعل تقديرها على أساس أن تتبع عدد السواقي في الأطيان؛ لأن السواقي تدل على مبلغ خصوبة التربة ومحصولها، ففرض 200 قرش على الأراضي التي تروى من ساقية واحدة، وفرض ضريبة تتراوح بين 20 و25 قرشا على الفدان في الأراضي التي تروى بالأمطار، وفصل الموظفين الترك الذين أساءوا معاملة الأهالي، وعاقب الموظفين المذنبين، وأمر المديرين بحسن معاملة الأهالي وإقامة العدل بينهم، وبتعويد الأهالي حكم أنفسهم بإنشاء مجالس عرفية من نظار القبائل ورؤساء العشائر والأسر المحترمة.
وجعل جباية الضرائب منوطة بغير الجنود، وأنشأ محطات صحراوية لنقل البريد بين مصر والسودان، ونظم البريد، وأقام معسكرا على نهر السوباط لمنع تجارة الرقيق، وبعد عودته إلى مصر ندب موجيل بك - كبير المهندسين - لتسهيل المواصلات بين حلفا والخرطوم، فوضع موجيل بك مشروع إنشاء سكة حديدية بين هاتين المدينتين، ولكن لم ينفذ المشروع لكثرة نفقاته، وألغى سعيد باشا منصب حكمدار السودان، وجعل السودان يتألف من خمس مديريات، كل منها تتبع نظارة «وزارة» الداخلية بالقاهرة مباشرة، وعين أراكيل نوبار بك مديرا لمديرية الخرطوم وسنار، وبعد أن توفي أراكيل بك خلفه حسن سلامة بك، ثم محمد راسخ بك.
على أن إلغاء منصب «حكمدار السودان» قد ترتب عليه جنوح المديرين إلى الاستبداد، فأعاد سعيد باشا هذا المنصب، وعين فيه موسى حمدي باشا، الذي عين من الأهالي نظارا للأقسام «أي: مأموري مراكز» ومعاونين، ومجالس، ونظم جباية الضرائب. (4) النظام القضائي في السودان
بقي النظام القضائي كما كان في عهد محمد علي، وظل للمحاكم الشرعية اختصاصها في المسائل الخاصة بالأحوال الشخصية ونقل الملكية، وأنشئت محاكم جديدة للفصل في الخصومات المدنية والتجارية، ودعيت باسم «مجالس الأقاليم»، وكان عددها أولا خمسة: أربعة في مصر، هي: مجلس طنطا، ومجلس سمنود، ومجلس الفشن، ومجلس جرجا، ومجلس الخرطوم ويفصل في المنازعات التي تقع في السودان.
وكان كل مجلس يتألف من رئيس وأربعة أعضاء وأربعة كتاب، عدا مجلس سمنود فإنه كان يتألف من رئيس وعضوين، وعين لكل مجلس اثنان من العلماء يحمل كل منهما لقب مفتي، أحدهما للمذهب الحنفي، والآخر شافعي. وكان مجلس الأحكام والمجلس الخصوصي يصدران القوانين واللوائح وتطبقها مجالس الأقاليم، وكان مجلس الأحكام معدودا أعلى هيئة قضائية وهيئة تشريعية في الوقت ذاته.
الفصل الخامس عشر
السودان في عهد إسماعيل
إسماعيل باشا خديوي مصر من سنة 1863 إلى سنة 1879.
الخديوي إسماعيل باشا هو ابن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، ووالد المغفور له محمد توفيق باشا الخديوي الأسبق، والمرحوم السلطان حسين كامل الأول، وحضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول.
ولد إسماعيل باشا في 31 ديسمبر سنة 1830 في قصر المسافرخانة بحي الجمالية بالقاهرة، وتعلم اللغات العربية والتركية والفارسية ومبادئ العلوم، ثم أرسله والده إلى فيينا عاصمة النمسا وكانت سنه 14سنة، وبعد، سافر إلى باريس، وكان عضوا في البعثة المصرية المدرسية الخامسة مع أخيه الأمير أحمد رفعت، ومع الأميرين عبد الحليم وحسين من أنجال محمد علي، وتعلم في باريس الهندسة والعلوم الطبيعية والرياضية، وأتقن اللغة الفرنسية، وكان كثير الذكاء طموحا.
وقد أحب الحياة الأوربية والحضارة الغربية، واعتزم أن يجعل من مصر بلدا يشبه أوربا علما وملكا وإدراة وقضاء،
1
وقد سافر إلى إستانبول «الأستانة»، وعينه السلطان عبد المجيد عضوا بمجلس أحكام الدولة العثمانية التركية، وكان ذلك في عهد عباس الأول، ثم عاد من الأستانة في عهد عمه سعيد باشا الذي عينه رئيسا لمجلس الأحكام في مصر، وكان هذا المجلس أكبر هيئة قضائية في البلاد، وقد ندب إلى باريس، وقابل البابا في روما في بعض المهام السياسية.
وكانت القاعدة في نظام التوارث في العرش في مصر - طبقا للنظام الذي وضعه محمد علي باشا - أن يلي الحكم الأرشد فالأرشد سنا من أعضاء بيت محمد علي، وكان لإسماعيل باشا أخ أكبر منه، هو «الأمير أحمد رفعت»، وبذلك كان هو الأحق بولاية العرش، إلا أنه توفي سنة 1858 في أثناء سفره بالسكة الحديد عند كفر الزيات؛ حيث سقطت العربة في النيل ومات الأمير أحمد رفعت في النيل، وأصبح إسماعيل باشا ولي العهد، وعين ردفا «قائمقام» لسعيد باشا في أثناء غيابه عن مصر، وعينه سردار الجيش المصري، وكلف بإخماد فتنة أثارتها قبائل في السودان، ولما مات سعيد باشا في 18 يناير سنة 1863، خلفه ولي عهده إسماعيل باشا.
كانت أهم أعمال إسماعيل باشا توسيع استقلال مصر داخليا عن تركيا، والحصول على لقب خديوي بالفرمان السلطاني الشاهاني في 8 يونية سنة 1868، والاحتفال بافتتاح قناة السويس سنة 1869، وزاد في عهده النفوذ الفرنسي والإنجليزي في مصر؛ بالمعاهدات، وبعقد القروض التي بلغت 126354360 جنيها إنجليزيا، ثم توسيع حدود مصر في السودان، ولم تشهد مصر في تاريخها القديم والحديث توسيعا منظما ووطيدا في السودان كما شهدت في عهد إسماعيل، الذي تعد فتوحه وبعثاته الكشفية في السودان من محاسن حكمه. •••
وصلت حدود السودان في عهد محمد علي إلى البحر الأحمر شرقا، ومعها إقليم التاكا «كسلا شرقي نهر عطبرة»، وعند حدود الحبشة إلى القضارف والقلابات، ومعها سواكن ومصوع، وجنوبا إلى جزيرة جونكر المواجهة لمدينة غندكرو على النيل الأبيض. (1) فتح فاشودة سنة 1865
تقدمت الجنود المصرية في عهد جعفر صادق باشا حكمدار السودان، واحتلت فاشودة سنة 1865، وأقامت بها معسكرا.
وتقع فاشودة عند ملتقى الطرق المختلفة من الخرطوم والحبشة إلى جنوب السودان، وبالقرب من ملتقى روافد النيل كالسوبات، وبحر الغزال، وبحر الزراف. وفاشودة نقطة الاتصال بين السودان وأقاليم خط الاستواء، وبعد إعادة السودان بقيادة كتشنر باشا سميت باسم كودك، وسميت مديرية فاشودة باسم مديرية النيل الأعلى، أو أعالي النيل.
الأسطول النيلي الذي تحرك من الخرطوم يوم 8 فبراير سنة 1870 لفتح إقليم خط الاستواء، وكان مؤلفا من ثلاثين سفينة شراعية وباخرتين.
وقد حصل إسماعيل باشا بفرمان سلطاني في 27 مايو سنة 1860 على ضم قائمقاميتي سواكن ومصوع إلى حكمه، وقد كانتا في عهد محمد علي في حدود السودان وتحت حكمه، إنما بقيتا من أملاك الدولة التركية العثمانية، مقابل استئجارهما منها بدفع مبلغ سنوي قدره 25 ألف جنيه إلى السلطان التركي، وقد جعل إسماعيل باشا كلا من مصوع وسواكن محافظة، وكانت محافظة سواكن تبدأ من رأس علبه إلى رأس قوصار، ومحافظة مصوع من رأس قوصار إلى حلة رهيقة عند بوغار باب المندب.
وقامت مصوع على جزيرة في البحر الأحمر، فأنشأ إسماعيل باشا جسرا طوله 1800 متر، وعرضه 10 أمتار، سنة 1872 بينها وبين اليابسة، وشيد بها قلعة ومباني للحكومة وموظفيها، ومدت ترعة إليها، وبقيت محافظتا سواكن ومصوع ملكا لمصر حتى قامت الثورة المهدية ووافق الخديوي توفيق باشا على إخلاء السودان سنة 1884، فبادرت إيطاليا بانتهاز الفرصة واحتلت محافظة مصوع سنة 1885، وأصبحت مع أرض أخرى تدعى مستعمرة الأريتريا، وأصبحت سواكن بعد اتفاقية سنة 1899 محافظة تابعة لحكومة السودان، وهي في الوقت الحاضر مركز.
نقل أجزاء البواخر النيلية على ظهور الإبل من مصر إلى السودان في صحراء النوبة استعدادا لفتح إقليم خط الاستواء.
وفي عهد إسماعيل باشا تم فتح إقليم خط الاستواء ومملكة أونيورة، وبسطت مصر حمايتها على مملكة أوغندة، وفتحت مديرية بحر الغزال وسلطنة دارفور، وعند حدود الحبشة والبحر الأحمر امتدت الحدود فضمت سنهيت وبلاد البوغوص، وإلى بوغاز باب المندب، وضمت محافظتي زيلع وبربرة على خليج عدن، وفتحت سلطنة «هرر» في الجنوب الشرقي للحبشة، ودخلت سواحل الصومال الشمالية في أملاك مصر السودانية إلى رأس «جوردفون» على المحيط الهندي، ثم إلى رأس حافون، وبذا امتدت حدود السودان تحت الحكم المصري جنوبا إلى بحيرة ألبرت وبحيرة فيكتوريا، وشرقا إلى البحر الأحمر وخليج عدن، وغربا إلى حدود واداي. وقد بينا هذه الفتوحات في البعثات الكشفية والحملات العسكرية بقيادة السير صمويل بيكر وغيره من رجال الجيش المصري المظفر في هذا الفصل، وقد نشرنا خريطة «للسودان في عهد إسماعيل - في الفصل التاسع عشر، باب الحكم المصري في السودان».
السير صمويل بيكر واللادي بيكر. (2) غوردون باشا
عين الخديوي إسماعيل باشا - بترشيح الحكومة الإنجليزية بصفة غير رسمية - الكولونيل غوردون مديرا في مديرية خط الاستواء في يناير سنة 1874، خلفا للسير صمويل بيكر الذي كانت إدارته تابعة لحكمدار عموم السودان، أما الكولونيل غوردون فقد عين مديرا لخط الاستواء، على أن يكون مستقلا في إدارته عن حكمدار السودان، إسماعيل أيوب باشا يومئذ. وكان غوردون في القاهرة قبل تعيينه بشهرين، ووصل الكولونيل غوردون إلى الخرطوم وقد طلب من حكمدار حكومة السودان أن يعد له أربعة بلكات من عساكر الجهادية أبناء العرب، مسلحين بسلاح رمنتن، معهم ضباطهم، وكان الكثيرون من الضباط وصف الضباط غير مرتاحين لمرافقة الكولونيل غوردون في حملته العسكرية في خط الاستواء؛ لبعد المسافة، وخطر الأوباء، والخوف من سكان خط الاستواء المعروفين بالبأس والقسوة، على أن غوردون قد لحظ أن الجنود المختارين لمرافقته كانوا أقل جنود الجيش كفاية، فشكى إلى الخديوي إسماعيل باشا اختيار إسماعيل باشا أيوب للجنود، فأرسل الخديوي تلغرافا إلى أيوب باشا بتوبيخه وبإلزامه بانتخاب أفضل الجنود لمرافقة الكولونيل غوردون في خط الاستواء.
وممن رافقوا الكولونيل غوردون في حملته «إبراهيم فوزي»، وكان برتبة الأسبيران - وكانت هذه الرتبة من رتب الجيش تقع بين الصف الضابط والملازم الثاني - وقد أصبح إبراهيم فوزي فيما بعد «اللواء إبراهيم فوزي باشا»، كما سيجيء الكلام بعد.
غوردون باشا.
أقام الكولونيل غوردون عند وصوله إلى الخرطوم في سراي الحكومة، في الجانب الشرقي من مدينة الخرطوم، في قصر راسخ بك، وأعدت لحملته أربع بواخر نيلية، وهي: «بوردين» و«تلحوين» و«الصافية» و«المنصورة»، كان عليها البلكات الأربعة وسلاحها، أما غوردون فقد استقل الرفاص المسمى «خديوي»، وكان معه إبراهيم فوزي. وبعد سبعة أيام وصل «غوردون»
2
ومن معه إلى «فاشودة»، فقابلهم مديرها المرحوم يوسف حسن كوردة بك بالحفاوة، وكان أهالي فاشودة من العبيد الشلك والنوير والدنكة، مطمئنين إلى الحكم المصري، وبعد يومين سار «غوردون» من فاشودة إلى محطة «سبت» أو «سوباط»، وهي محطة على مقربة من نهر «سبت» الذي يجيء من الحبشة، وتبعد عن فاشودة 18 ساعة بالبواخر النيلية. وقد أنشأ خندقا بمحطة سبت وطوابي ومركزا للحكومة، وعين اليوزباشي محمد أحمد محافظا على محطة سبت، وأمره بمنع تجارة الرقيق، ثم سار إلى جبل الرجاف وغندكرو ومدخل بحر الزراف، ثم وصل إلى مشرع
3
الرق حتى مديرية شكا، حيث كان النهر مغطى بالأعشاب الكثيفة.
وقد وزع غوردون الهدايا والعطايا على رؤساء الأهالي، ثم وصل ومن معه إلى ميعة شامبي بك، وعليها مشرع يدعى «غابة شامبي»، وكان بها تجار كبار مثل: أبو عموري، وكوجك علي، وغطاس وغيرهم، يتجرون بسن الفيل، وكان شيخ المشرع يدعى الشيخ الحداد، وقد أحسن استقبال غوردون ومن معه. ورست البواخر هناك، وحفر الجند خندقا، وأنشأ مركزا، وعين اليوزباشي مصطفى فتحي مع بلكه مأمورا «لشامبي بك»، وأمره بمعاملة الأهالي بالرفق وبمنع تجارة الرقيق، وأبلغ الأهالي أنهم أصبحوا تابعين للحكومة الخديوية، ثم سافر إلى الرجاف مارا بمحطة بور، التي كان بها 400 من العساكر المسلحة المأجورة للتجار، وقد أعلنهم غوردون بأنهم أصبحوا تابعين للحكومة الخديوية، ثم أنشأ مديرية بور، وعين الضابط السوداني آدم عامر أفندي، الذي كان من رجال السير صمويل بيكر «بيكر باشا»، وكيلا للمديرية. ثم سار غوردون إلى جبل الرجاف وغندكرو، واستقبلهم المدير رءوف بك «باشا»، وقد شكا رءوف بك إلى غوردون من كثرة حوادث القبائل وفتنها.
فقال له غوردون : «إن السبب في ذلك هو سوء إدارتك، وأنه لا داعي لبقاء كل هذه الجنود كلها معك، ويكفي خمسون رجلا»، وفي الحال أمر غوردون أن يحضر مشايخ القرى ونظار القبائل، وخاطبهم غوردون بكلام لين، ووزع عليهم الكساوي الحمراء والسيوف البيضاء ففرحوا، وترك بينهم خمسين شخصا، وقال لهم: إن الخمسين جنديا قد تركتهم لحراسة علم الحكومة الخديوية، ولإظهار سلطتها، وأنتم المسئولون عن كل مايحدث، فقالوا: «إننا عبيد أفندينا والحكومة الخديوية، ونحن لا نقوم في وجهها ما دمنا نعامل بالعدل ولا يقع علينا ظلم.» ثم عزل غوردون رءوف بك وعين مكانه القائمقام الطيب عبد الله بك، وكان بكباشي أول الآلاي، وهو رجل سوداني من قبائل العبيد، ثم نقل الطيب عبد الله بك مديرا إلى اللادو، وعبد الله أغا الدنسوي، وهو من ضباط الجهادية السود، مديرا للرجاف.
واستمر غوردون ومعه 600 جندي من العرب والسودانيين والمصريين إلى شلال «مقى»، وقد تعرضوا إلى هجوم الأهالي، الذين دقوا الطبول وصاحت الأبواق وهجموا بالنبال والنشاب السامة، وبالنيران، ولكن العساكر هزمتهم، ووصل غوردون إلى بحيرة نيانزا، وأقام شهرين في اللادو، وعاد إلى الخرطوم. وقد نظم غوردون ديوانا لخط الاستواء في الخرطوم منفصلا عن حكمدارية السودان، ثم عاد من الخرطوم إلى خط الاستواء، ونال إبراهيم فوزي رتبة صوغول أغاصي «ملازم أول»، ووصل غوردون إلى جبل «اللادو» و«ماقنقوا»، ووزع غوردون الهدايا، وجرد حملة إلى جهة مرولي وفتحها، وأعلن أنه حاكم قد جاء باسم الحكومة المصرية لتعميم المدنية وفتح البلاد للتجارة، وطلب إلى الملك أمتيسة الخضوع، فأرسل الملك إليه رسولا يبلغه أن الملك «أمتيسة» قوي، وقوته أكبر من قوة الحكومة المصرية، وقال الرسول لغوردون: «إنا رضوان بحالتنا، ولم نشك إليكم شيئا، ونحن في غنى عن مدنيتكم التي تحرمنا نعيمنا واستقلالنا الذي نتمتع به.»
غير أن غوردون جنح للسلم وطمأن أمتيسة، وخضع أمتيسة وقبل إنشاء محطة عسكرية في مرولي، وكان الملك أمتيسة يلبس القباطي الحريرية من صنع زنجبار، وعلى رأسه عمامة كأهل مكة، وفي رجليه الجوارب والنعال الحرائر، وقد أظهر أمتيسة خضوعه للحكومة، وقد طلب غوردون من مصر إرسال عربة لركوب الملك أمتيسة وإهدائها له، وهي العربة التي استولى عليها عبد الله التعايشي فيما بعد، ويعد «أمتيسة» أقوى حكام الجنوب.
ثم دعا غوردون الملك أمتيسة للدخول في الإسلام، وأرسل إليه اثنين من العلماء، واثنين من الحلاقين لعملية الختان، وعند وصولهم كان مع الملك أمتيسة أربعة من المبعوثين البروتستانت وصلوا من الزنجبار، ولما علم أمتيسة أن غوردون دينه مسيحي بروتستانتي، وظن أن المبعوثين من ناحية غوردون، أهمل الفقيهين والحلاقين حتى كاد الجوع يقتلهم فعادوا.
وكان الملك أمتيسة منافقا عنده علمان: المصري والإنجليزي، فإذا حضر إليه مصري قال إنني تابع للحكومة المصرية، ورفع العلم المصري على داره، وإن كان الزائر إنجليزيا رفع العلم الإنجليزي، وقال إنني خاضع لسلطة الإنجليز، وأخيرا رفع العلم الإنجليزي. وقد ترك غوردون مديرية «مرولي»، وعدها آخر الحدود، وعين القائمقام محمد إبراهيم بك - وهو من مواليد السودان وشهرته «ابن جمعية» - مديرا لها.
ثم غادر غوردون إلى مركز اللادو، واستقبله الأهالي فرحين مغتبطين، فقد تخلصوا من سلطة التجار أصحاب الكبابين «الشركات» المستبدين، وقد علم غوردون عندما وصل إلى اللادو بأنه في «اللاتوكة» التي تبعد عن غندكرو مسير 12 يوما - زرائب
4
السيد أحمد العقاد والتجار الآخرين - يضايقها العبيد وحاصروها، فأرسل غوردون حملة بقيادة الصاغ محمد أغا عبد الكافي - وأصله من ضباط الجهادية السود - فأنقذهم، وقد أسس غوردون نقطا عسكرية منها: سوباط، والناصر، وشمبا ، ومكركة، وبور، واللاتوكة، واللادو، والرجاف، والدفلاي، وفاتيكو، وفويرة، ولابوري، وبحر الجبل، ومرولي، وترك فيها 640 عسكريا سودانيا و150 جنديا مصريا و650 من الباشبوزق الدناقلة والجعليين. وصحب غوردون الكولونيل لونج الأمريكي والدكتور أمين وجيسي الإيطالي والكولونيل بروت وابن لينان باشا.
تاريخ حياة غوردون
ولد غوردون في مدينة ولوتش بإنجلترا سنة 1833، وانتظم في الجندية سنة 1852، وهو من أسرة اشتهرت بالجندية، وكان أبوه فريقا في المدفعية الإنجليزية، وقد اشترك مع الجيش الإنجليزي في حصار «سيبتسبول» سنة 1855، وفي سنة 1860 سافر إلى الصين واشترك في الجيش الصيني، ونال من سلطان الصين لقب صاري عسكر، وفي سنة 1865 عاد إلى الجيش الإنجليزي، فرقي فيه إلى رتبة كولونيل، وبقي هناك حتى عين مديرا لمديرية خط الاستواء، وهذه صورة الأمر العالي الذي أصدره الخديوي إسماعيل باشا بتاريخ 2 محرم سنة 1291 هجرية، الموافق 19 فبراير سنة 1874 ميلادية، نمرة 91 سايرة:
إنه بحسب المشهور فيكم من اللياقة والأهلية قد عيناكم مأمورا على جهات خط الاستواء التابعة للحكومة، وصار فرز هذه الجهة من تبعية حكمدارية السودان، وصارت قائمة بنفسها غير تابعة للحكمدارية، إنما كافة لوازماتها التي يقتضي الحال لتداركها من طرف الحكمدارية هذه يجري تداركها بمعرفة الحكمدار، وصرف ثمنها من طرفه مقابلة محاسبة المالية بذلك. كما أمرنا الحكمدار المولى إليه بأمرنا الصادر له في تاريخه، ومرسول لكم، طي هذا لتوصيله إليه عن يدكم
وبما أن أمور التجارة في ذاك الطرف هي واحدة، يقتضي أن الذي يتحصل عليه من تلك الجهات من أنواع التجارة بعد صرف كفاية مرتبات العساكر والتعيينات ترسلوه إلى حكمدار السودان؛ لقبوله من أصل ما يصرفه في أثمان اللوازمات التي تطلبوها منه، وعند وصولكم الآن لتلك الجهات واختباركم أحوالها، تجروا ترتيبها بحسبما يتراءى لكم وتستحسنوه، سواء كان بإجعال مدير يتعين، أو إجعال أقسام أو نحو ذلك، مما يتوصل به انتظام الجهات المذكورة واستعدادها مع معاملة أهاليها بالرفق، ولين الجانب، والتأليف، والمراعاة لما فيه عماريتهم، وترغيبهم وتشويقهم على العمارية، ودخولهم في سلك الإنسانية شيئا فشيئا، وهكذا مما يلزم، أجروه على حسب التعليمات التي أعطيت لكم بالفرنساوي.
وها هو موجود هناك رءوف بك قومندان العساكر الموجودة بذاك الطرف، وتحرر أمر من طرفنا ومرسول طيه لتوصيله له بمعرفتكم، وأمرناه به أن يكون هو والعساكر تحت أمركم فيما يجب إجراؤه في صالح المصلحة، ولو أن المومى إليه ومن معه من العساكر صار لهم مدة زائدة في تلك الجهات، وذلك منظور في إرسال خلافهم من هذا الطرف لتغييرهم، لكنه في مسافة إرسال البدل يكون المومى إليه والعساكر منقادين لأوامركم حسب أصول قوانين الجهادية، وعلى هذا وما هو منظور لنا فيكم من حسن الغيرة والأهلية مؤملين الاستحصال على ما فيه عمارية جهات خط الاستواء المحكي عنها، وراحة أهاليها، وحسن توطينهم، وتأليفهم على الدخول في سلك الإنسانية شيئا فشيئا كما هو مطلوبنا.
حاشية
إنه بعد توجهكم ووصولكم ذلك الطرف تعملوا الترتيب اللازم عن مصاريف تلك الجهة بحسبما يلزم لها من الخدمة والعساكر، وكل ما يلزم تداركه وإرساله من جهات الحكمدارية على حسب الترتيب المذكور فاطلبوه من الحكمدارية، وتعينوا له الأوقات والمواعيد اللازم تدارك وإرسال اللوازمات المذكورة فيها، بحيث إذا كانت الإيرادات - على فرض - لا تكفي المصروفات فالحكمدار يرسل لكم كلما تطلبوه، ويحاسب ديوان المالية بذلك يكون معلوم.
استقالة غوردون باشا
وبقي غوردون حتى سنة 1876، فاستقال من منصبه وعاد إلى مصر، ومنها إلى إنجلترا، تاركا الكولونيل بروت من أركان حربه وكيلا على خط الاستواء، ثم خلفه أمين بك، واسمه الأصلي «إدوارد شنيتزر» الألماني ببروسيا، وحصل على دكتور في الطب.
غوردون حكمدار السودان
بعد أن استقال غوردون وعاد إلى إنجلترا، ما لبث أن عينه إسماعيل باشا - بتوصية الحكومة الإنجليزية - حكمدار عاما للسودان سنة 1877، وقد بقي في هذا المنصب حتى سنة 1879، وقد أصدر الخديوي إسماعيل باشا أمرا عاليا في 17 فبراير سنة 1877 «بالولاية لغوردون باشا على جميع بلاد السودان المصرية مع دارفور وخط الاستواء وسواحل البحر الأحمر وهرر، ومع منحه السلطة العسكرية والمدنية، وإعطائه سلطانا على القتل والعفو، ومنع دخول أحد إلى السودان إلا بإذنه وولجه منع تجارة الرقيق، وتحديد التخوم بين السودان والحبشة»، وكان غوردون كثير الاهتمام بمنع تجارة الرقيق، وبجعل العاج احتكارا للحكومة.
على أن مهمة غوردون باشا كانت شاقة، خصوصا لأن تجارة الرقيق ومحصول العاج كانتا في أيدي كبار التجار الأقوياء. قال نعوم شقير بك في كتابه «تاريخ السودان» إن «غوردون لم يلبث أن رأى خطارة المركز الذي تولاه وتعذر النجاح؛ نظرا لعدم تيسر الأيدي اللازمة للعمل، واتساع أطراف السودان، ومشقة السفر في بلاده برا وبحرا، مع قلة الجيوش اللازمة لحمايته بعد أن ذهب قسم منها لمساعدة الدولة العلية في حرب الروس، ونهك الباقي حرب الحبشة، فقضى غوردون في السودان سنتين ونيفا وهو يتنقل من مكان إلى مكان، تارة بالبر وتارة بالبحر، متمما كل ما أمكنه من الإصلاح، حتى أعياه التعب، وقاومته السياسة فاضطر إلى الاستعفاء»، وقال شاييه لونج بك: «إن أمر غوردون باحتكار الحكومة محصول العاج قد أثار تجار السودان على الحكومة، وهؤلاء التجار كانوا سادات السودان الحقيقيين، فكان هذا العمل النواة الأولى للثورة.»
وقد استعان غوردون باشا في إدارة السودان بفريق من الأجانب، فعين مسيداليا بك الإيطالي مديرا للفاشر «دارفور»، وجيسي باشا الإيطالي مديرا لبحر الغزال، وفردريك روسي قنصل ألمانيا في الخرطوم مديرا لدارفور، وشارل ريجوليه الفرنسي مديرا لداره، وإميلياني مديرا لكبكبيه، والدكتور زوربخين مفتشا للصحة، والضابط سلاتين «النمساوي» مفتشا للمالية - وقد عرف فيما بعد باسم سلاتين باشا - وجيكلار باشا النمساوي مديرا عاما لمنع تجارة الرقيق.
وعين إبراهيم فوزي بك «باشا» مديرا لخط الاستواء بدلا من الكولونيل بروت الأمريكي، ثم أقاله وعين الدكتور «شنتزر الألماني»، وهو الذي عرف - بعدئذ - باسم أمين باشا.
وقد وقعت في عهد غوردون باشا ثورات داخلية، من ذلك: ثورة السلطان هارون الرشيد ابن الأمير سيف الدين ابن السلطان محمد الفضل، بايع أهالي دارفور هارون المذكور سلطانا في أوائل سنة 1877، وجردت الحكومة المصرية عليه حملات عسكرية تمكنت بعد وقائع كثيرة من قتله.
وثار سليمان بن الزبير باشا في بحر الغزال سنة 1877؛ انتقاما لإبعاد أبيه الزبير باشا من السودان إلى مصر، فأرسل غوردون حملة عسكرية بقيادة جيسي باشا هزمت سليمان وقتلته في يولية سنة 1879.
وثار «صباحي» أحد قواد جيش الزبير في 400 شخص، وأغار على الأبضية في كردفان، وقتل مأمورها وفر إلى جبال النوبة، فعلم به غوردون وهو ذاهب إلى دارفور في المرة الثانية في مارس سنة 1879، فأرسل من الأبيض نفرا من الجنود طاردته وأسرته، وحكم عليه بالإعدام في مجلس عسكري.
وقد شغل غوردون باشا بين سنة 1877 و1879 بتحديد التخوم بين السودان والحبشة، وذهب إلى مصوع لعقد اتفاق مع ملك الحبشة، ولكنه لم يتمكن، وفي 25 يونية سنة 1879، الموافق 6 رجب سنة 1296، أقيل إسماعيل باشا من منصب الخديوي، وولي ابنه محمد توفيق باشا، ثم استقال غوردون باشا من منصبه في أواخر سنة 1879. (3) فتوح إسماعيل
وقد ضم إسماعيل باشا لمصر نواحي البحيرات الكبرى حتى منابع النيل وبحر الغزال وجهات خط الاستواء وساحل البحر الأحمر إلى رأس غردفوي ووضع الأوغندة تحت حماية مصر، ونزل له الباب العالي عن سواكن وزيلع وملحقاتهما، كما حصل منه على لقب خديوي مصر والنوبة ودارفور وكردفان وسنار.
وقد عني فرمان سنة 1841 بذكر النوبة ودارفور وكردفان وملحقاتها؛ أي: السودان حتى منطقة البحيرات الكبري، وأيد فرمان سنة 1879 وفرمان سنة 1892 الفرمانات السالفة، ووافقت الدول عليها جميعا على تباينها.
5
السكة الحديد
ومد إسماعيل باشا من السكة الحديد في السودان سنة 1877 حوالي 50 ميلا من حلفا، نفقتها 400 ألف جنيه، ومهد الطريق إلى 47 كيلومترا، لم يتمكن من إنشائها خطا حديديا.
الفصل السادس عشر
بعثات الكشف عن السودان ومنابع النيل
بالرغم من غزو المصريين والعرب للسودان، وبالرغم مما كان بين مصر والسودان والحبشة من علاقات تبدأ من التاريخ القديم المعروف، ظلت مناطق كثيرة في السودان - كما كانت هناك مناطق كثيرة أخرى في إفريقيا - من المجاهل؛ ولذلك قامت بعثات للكشف عن مجاهل السودان ومنابع النيل، ويرجع الفضل في إيفاد هذه البعثات إلى محمد علي الكبير مؤسس الأسرة العلوية المالكة، وإلى الخديوي إسماعيل باشا والد جلالة الملك فؤاد، وإلى بعض الهيئات في إنجلترا وأمريكا. على أننا رأينا من المؤرخين إجماعا على أن الفضل الأكبر يرجع إلى أمراء الأسرة العلوية، فقد صحب الفتوحات المصرية في عهدي محمد علي وإسماعيل، كشف عن أراض كانت مجهولة، كما أنهم بذلوا المال والمساعدات إلى بعض الأوربيين من محبي الاستطلاع والتنقيب والكشف عن المجاهل. (1) في حملة إسماعيل باشا بن محمد علي باشا الذي قتل في شندى
استصحب إسماعيل باشا بن محمد علي باشا في قيادته للحملة المصرية في عهد أبيه لفتح السودان بعض العلماء من الفرنسيين، ومنهم مسيو فردريك كايو الذي وضع كتابا عن السودان، واسمه «رحلة في مروى والنيل الأبيض وفازوغلي» في خمسة أجزاء.
تخطيط مدينة الخرطوم عند إنشائها لأول مرة في عهد محمد علي سنة 1822 (انظر الفصل الثاني عشر من هذا الجزء). (2) رحلة هاي وهوشت سنة 1824
وقد وصلا إلى ما يلي رأس الخرطوم جنوبا. (3) رحلة لينان باشا سنة 1827
رحل مسيو لينان دي بلفون - الذي عرف فيما بعد باسم لينان باشا - في النيل إلى ما يلي الخرطوم. (4) رحلة إبراهيم كاشف
نزل في النيل الأبيض إلى بلاد الشلك والدنكا، قريبا من بحر الغزال. (5) رحلة محمد علي باشا إلى السودان
سافر محمد علي باشا الكبير إلى السودان في 16 أكتوبر سنة 1838؛ ليتفقد الإدارة المصرية به، وليبحث عن معادنه ومنتجاته، فوصل إلى مناجم الذهب في دنقلة، واجتاز صحراء بيوضة، ووصل إلى الخرطوم يوم 28 نوفمبر سنة 1838 وأقام بها 22 يوما، ثم زار سنار فجبال فازوغلي؛ للبحث عن مناجم الذهب، ثم عاد إلى الخرطوم وأقام بها أياما قليلة، ومنها عاد إلى مصر عن طريق صحراء النوبة، من أبي حمد إلى وادي حلفا، فوصل إلى القاهرة في 15 مارس سنة 1839، وقضى في رحلته خمسة أشهر، وكان يصحبه فيها لفيف من المهندسين والعلماء الباحثين، مثل: مسيو ليففر، ومسيو د. أرنود، ومسيو لمبرت. (5-1) رحلات البكباشي سليم قبطان
لمناسبة رحلة محمد علي باشا إلى السودان - متقدمة الذكر، رأى أن يعهد إلى البكباشي سليم قبطان بالقيام برحلات لكشف منابع النيل الأبيض، ووضع تحت تصرفه قوة من الجنود وسفنا مسلحة، وقد وصل سليم قبطان إلى بلدة «العيس» جنوبي الخرطوم، وكان معه أربعمائة جندي، وكان سفره من الخرطوم يوم 16 نوفمبر سنة 1839، وعرج في رحلته على نهر سوباط، أحد روافد النيل، وعاد إلى الخرطوم بعد أن قضى في رحلته 125 يوما، وقد وضع رسالة بالفرنسية قدمت إلى الجمعية الجغرافية الفرنسية في باريس، ونالت إعجابها ونشرت في مجلتها.
الرحلة الثانية لسليم قبطان
سافر البكباشي سليم قبطان يوم 23 نوفمبر سنة 1840 من الخرطوم، ومعه قائد القوة البرية سليمان الكاشف، والمهندسان الفرنسيان د. أرنود وسابا تييه، والرحالة الألمان فيرن ومسيو تيبوه، الذي كان يتسمى باسم إبراهيم أفندي، والذي صحبه في الرحلة الأولى، وسارت البعثة ومعها قوة عسكرية في النيل الأبيض جنوبي بلدة العيس، ووصلت يوم 25 يناير سنة 1841 إلى جزيرة «جونكر» الواقعة على الخط الخامس من خطوط العرض، وتقع «جونكر» تجاه «غندكرو» التي تبعد عن «الخرطوم» 1080 ميلا جنوبا، فهي قريبة من البحيرات التي ينبع النيل منها، وقد صارت وقتا ما عاصمة لمديرية خط الاستواء في عهد الخديوي إسماعيل، وقد حالت الجنادل والشلالات دون تقدم السفن التي حملت البعثة، فعادت إلى الخرطوم في 18 أبريل سنة 1841، وقد نشرت مجلة الجمعية الجغرافية الفرنسية عدد نوفمبر سنة 1842 رسالة عن هذه الرحلة.
الرحلة الثالثة بقيادة سليم قبطان
قامت من الخرطوم يوم 27 سبتمبر سنة 1841 ومعها قوة عسكرية، وواصلت السير في النيل الأبيض محاولة كشف الأراضي الواقعة جنوبي جزيرة «جونكر» إلى البحيرات التي ينبع النيل منها، ولكنها لم تستطع التقدم جنوبي «جونكر». (6) في عهد سعيد باشا
أوفدت الجمعية الجغرافية الإنجليزية الرحالتين الإنجليزيين «أسبيك» و«جرانت» لكشف منابع النيل الأبيض، فسافرا عن طريق زنجبار، وكشفا بحيرة «أكروي» ومنبع النيل فيها في 28 يولية سنة 1862، وسمياها باسم بحيرة «فيكتوريا». «وفيكتوريا» هي الملكة فيكتوريا ملكة الإنجليز يومئذ. (6-1) رحلة السير صمويل بيكر الإنجليزي
وقد عرف في عهد إسماعيل باسم «بيكر باشا»، إذ عينه مديرا لمديرية خط الاستواء، وكان ذا لحية، سافر من تلقاء نفسه ومعه زوجه لكشف منابع النيل الأبيض، وسلك في ذلك طريق السفر من الخرطوم، فوصل في 2 فبراير سنة 1863 إلى «غوندكرو»، حيث التقى بالرحالتين «سبيك» و«جرانت»، وأعلماه كشفهما، وأبلغاه أن هناك بحيرة علما بوجودها من الأهالي، فسافر إليها وكشفها في 14 مارس سنة 1864، وكان أول كاشف لها، وسماها بحيرة «ألبرت»، وهو اسم الأمير «ألبرت» زوج الملكة «فيكتوريا»، وعاد إلى الخرطوم في 3 مايو سنة 1865، ومنها إلى بربر، فثغر سواكن حيث أبحر منها إلى إنجلترا. (7) في عهد إسماعيل (7-1) رحلة السير صمويل بيكر الثانية
بقي «صمويل بيكر» خمس سنوات تقريبا في إنجلترا بعد رحلته الأولى إلى مصر في معية الأمير إدوارد ولي عهد إنجلترا إذ ذاك - ملكها إدوارد السابع فيما بعد - الذي لبى دعوة الخديوي إسماعيل لحضور حفلات افتتاح قناة السويس، وقد رغب الأمير إدوارد إلى الخديوي إسماعيل في مطاردة تجار الرقيق في السودان، فوافق الخديوي على ذلك، وأنفذ في سنة 1869 سير صمويل بيكر ومعه حملة مؤلفة من ألف وسبعمائة رجل، وأنعم عليه برتبة فريق، وعينه مديرا لمديرية خط الاستواء براتب قدره عشرة آلاف جنيه في السنة لمدة أربع سنوات، وعاونه إسماعيل بالمال والسلاح والسفن التي نقلت أجزاؤها على الإبل في صحراء النوبة.
صمويل بيكر باشا مدير خط الاستواء في عهد إسماعيل وحوله أركان حربه، وهم: القائمقام عبد القادر بك حلمي، فالمهندس هيجنبوتام
Higginbotham ، ثم الملازم بيكر.
أما بيكر باشا فقد أبحر من السويس إلى سواكن، ومنها على ظهور الإبل إلى بربر، ومنها على باخرة نيلية إلى الخرطوم، حيث سافر منها يوم 8 فبراير سنة 1870 في حملة أقلتها ثلاثون مركبا شراعية كبيرة، تقدمتها باخرتان، قاصدة خط الاستواء بقيادة بيكر باشا، الذي رست سفينته عند محطة أسماها «التوفيقية»، باسم الأمير محمد توفيق بن الخديوي إسماعيل، وهي تقع جنوبي فاشودة وقريبا من ملتقى نهر السوباط بالنيل، وبعد أشهر سار جنوبا حتى بلغ «غوندكرو»، في 15 أبريل سنة 1871، ورفع عليها العلم المصري يوم 26 مايو في حفلة عسكرية حضرها ألف ومائتا جندي تتقدمهم الموسيقى. وقد أسمى بيكر باشا «غوندكرو» «الإسماعيلية»، باسم الخديوي إسماعيل، وجعلها عاصمة مديرية خط الاستواء، وفي 22 يناير سنة 1872 سار في النيل الأبيض، وأسس نقطا عسكرية وحصونا وبلادا، منها «الإبراهيمية» تذكارا لإبراهيم باشا ابن محمد باشا، وفتح مملكة «أونيورو» المتاخمة لبحيرة «ألبرت» شرقا، واحتل عاصمتها «ماسندي »، وسلم ملكها المدعو «كابريقة» للحكومة المصرية، ثم انقض عليها ولكنه هزم، وخلعه بيكر باشا وعين مكانه منافسه المدعو «ريونجا» ملكا خاضعا للخديوي إسماعيل، ثم وصلت رسل «أمتيسة» ملك أوغندة المجاورة لمملكة «أونيورو»، الواقعة شمالي بحيرة فيكتوريا وغربيها، وأعلنت بيكر باشا بخضوع «أمتيسة» لخديوي مصر، وفتح الطريق بين أعالي النيل وزنجبار على شاطئ المحيط الهندي.
وعاد بيكر باشا إلى «غندكرو» في أبريل سنة 1873 بعد أن انتهت مدة خدمته المحددة بأربع سنوات، وبلغت نفقات الحملة 800 ألف جنيه، دفعتها خزينة مصر التي كان العسر مشتدا بها، وحل رءوف بك - الذي عرف فيما بعد باسم رءوف باشا حكمدار السودان - محل بيكر باشا، وأنعم الخديوي على القائمقام عبد القادر حلمي بك برتبة الميرالاي، الذي عرف فيما بعد برتبة عبد القادر حلمي باشا. (7-2) حملة غوردون باشا
سافر الكولونيل غوردون - الذي منحه الخديوي إسماعيل رتبة فريق في الجيش المصري - إلى مديرية خط الاستواء، فأبحر إلى سواكن، ومنها إلى النيل، حتى وصلت الحملة إلى محطة «سوباط»، ومنها إلى «غندكرو»، ثم سار إلى بحيرة «ألبرت» في سفن بخارية، وأنشأ نقطا عسكرية. (7-3) بعثة الميرالاي بودري بك الأمريكي
كان أحد ضباط أركان حرب الجيش المصري، سافر ومعه ضباط مصريون، وجاب الجهات التي بين النيل والبحر الأحمر، من القاهرة والسويس شمالا إلى قنا والقصير جنوبا، وكشفوا طرق المواصلات ومناجم المعادن والمحاجر في تلك الجهات.
سنة 1873، أبحر الميرالاي «بودري» بك إلى برنيس «برنيقة» القديمة على البحر الأحمر «غربي رأس بناس»، ولحق به «كولوستن» الأميرالاي الأميركي بالجيش المصري، وخططا الجهة بين «برنيس» و«بربر» على النيل.
سنة 1874، كشف الميرالاي شاييه لونج بك
Chaillé Long Bey
بحيرة «إبراهيم»، ومعظم النيل المعروف بنيل فيكتوريا، وحقق أن نيل فيكتوريا يصب في بحيرة ألبرت. (8) بعثات ضباط الأركان حرب
أوفد الخديوي إسماعيل ثلاث بعثات مؤلفة من ضباط الأركان حرب في الجيش المصري لكشف «كوردوفان» و«دارفور»، وكانت البعثة الأولى برياسة الميرالاي بودري بك، وكان من أعضائها القائمقام ميزون والملازمون: محمود صبري، ومحمد سامي، وسعيد نصر، وخليل حلمي، والدكتور محمد أمين، وقد كشفت طرق المواصلات بين النيل وحفرة النحاس، وحققت 22 موقعا فلكيا، ورسمت خريطة. (8-1) البعثة الثانية برياسة الميرالاي كولوستون بك
كان من أعضائها الميرالاي الأمريكي بروت، والصاغ أحمد حمدي، والملازمون: عمر رشدي «باشا»، ومحمد ماهر «باشا»، ويوسف حلمي، وخليل فوزي، والدكتور بيفوند
، وقد كشفت البعثة جهات كوردوفان وحققت موقعها ومدنها وطرق المواصلات فيها ووضعت خريطة وأمضت البعثتان الأولى والثانية ثلاث سنوات. (8-2) البعثة الثالثة برياسة المهندس الأمريكي ميتشل
Michel
وكان يصحبه الضابط عبد الفتاح فتحي. كشفت البعثة مناجم للذهب في الحمامة شرقي قنا، وعرجت على ثغور البحر الأحمر وخليج عدن، كالقصير ومصوع وتاجورة وزيلع، وتغلغلت في الداخل، وعادت إلى مصوع، وكشفت الجهات الشرقية من الحبشة.
ورسم أرنست لينان دي بلفون «ابن لينان باشا» الطريق بين غندكرو ودوباجا عاصمة أوغنده، وقد قتل وهو عائد من مهمته، وعلى ضوء بياناته وضع العلامة جورج شونفرت خريطة عن تلك الجهات.
ورسم البكباشي محمد عزت، أحد ضباط حملة منزنجر باشا على الحبشة، خريطة الجهات الواقعة بين تاجورة وبحيرة «أوسا» بالحبشة.
ورسم محمد مختار بك «باشا» وعبد الله بك فوزي «باشا» خريطة بلاد هرر، ورسم الأول خريطة المدينة، ووضع خريطة أخرى لرأس «جردوفون» «جردفوي» وموقع الفنار الذي أزمع إسماعيل إنشاءه في تلك الجهة.
ورسم ضباط أركان حرب نادي باشا الجهات الواقعة بين هرر وزيلع.
ووضع القائمقام عبد الرزاق نظمي بك خريطة بربرة وملحقاتها، وكشف حملة الصومال التي أنفذها إسماعيل سنة 1875 سواحل البنادر الواقعة على المحيط الهندي، وجهاتها قسمايو «بور إسماعيل»، ونهر الجوبا، وهي الجهات التي قصدت إليها الحملة.
وفي سنة 1877، جاب الميرالاي ميزون
Mason
بك بحيرة «ألبرت»، وأتم الكشف الذي بدأه فيها السير صمويل بيكر، ووضع لها خريطة دقيقة.
وأنفذ الخديوي سنة 1877 بعثة برئاسة المستر برتون؛ للبحث عن المعادن التي بجهات «مدين» في جزيرة العرب.
وحقق ضباط الأركان حرب برئاسة البكباشي عبد الله بك فوزي «باشا» حدود الحبشة الشمالية، والطرق بين مصوع والخرطوم، ورسموا خريطتها.
وحقق جيسي باشا مواقع بحر الغزال.
وجاب الميرالاي محمد مختار بك «باشا» نواحي السودان الشرقي حين كان رئيسا لأركان حرب السودان سنة 1880، يصحبه من ضباط الأركان حرب خليل بك فوزي، والملازمان محمد خير الله وعلي خيري، وله مبحث مسهب في تخطيط أبو حراز، والقضارف «أبو سن»، والقلابات، وطومات، وأميديب، وغيرها من مدن السودان الشرقي.
وكشف أمين باشا مدير خط الاستواء نهر السمليكي الواصل بين بحيرة «إدوارد» وبحيرة «ألبرت».
ورسم ضباط أركان حرب الجيش المصري سنة 1877 خريطة مفصلة لإفريقيا، وهي أدق خريطة عرفت إلى ذلك الحين، واشترك في رسمها كل من الميرالاي «لوكت»، والقائمقام محمد مختار «باشا» بك، والصاغ عبد الله فوزي بك، وعبد الرازق نظمي بك، والضباط: محمود صبري «باشا»، وأحمد فائق، ومصطفى كامل، وأحمد فهمي، وحسن حارس «باشا»، وحسن صفوت، وإبراهيم حلمي، ومحمد جودت، ومحمد خير الله، ويوسف ضيا «باشا»، وعلي حيدر، وأحمد رشيد، وهذه الخريطة مودعة ضمن محفوظات الجمعية الجغرافية الملكية.
وذكر الجنرال أستون باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري في عهد إسماعيل «أن الجهات التي جابها ضباط الأركان حرب وحققوها، ورسموا مواقعها، تبلغ في اتساع مداها مجموع مساحة فرنسا وألمانيا والنمسا والمجر بحدودها القديمة، وهذا يدلك على عظم الفتوحات والتحقيقات التي تمت على أيديهم. (9) آثار السودان
أهدى المرحوم السلطان حسين كامل سنة 1899 إلى المتحف المصري أثرا وجده عظمته في مزرعته بإيتاي البارود، وهذا الأثر حجر جرانيتي أزرق ارتفاعه متران تقريبا، ومؤرخ في اليوم الثالث عشر من شهر مسري للسنة الأولى من حكم الملك «نقطانب الثاني» آخر فراعنة مصر، وكان شمالي السودان في عهده تابعا لمصر.
وقد توالت البعثات العلمية الأثرية في السودان، فنقبت بعثة الولايات المتحدة من سنة 1919 إلى 1922 عن آثار جبل «برقل» بجوار «نبته»، وعن الأهرام في «مروى»، وكشف «كايو» الأثري الفرنسي بعض أهرام على الشاطئ الشرقي للنيل في المكان المعروف الآن بجزيرة «مروى»، ونقب الأثري الإنجليزي «هوسكنس» والأثري الألماني «ليبسيوس»، ثم الأثري الإنجليزي «جارنستانج» والأثري «جريفس» عن آثار «مروى».
1 (9-1) الخط السوداني
وقد دلت الآثار على أنه كان «لمروى» خط خاص، فحصه الأثري الإنجليزي «جريفث»، وقال عنه إن السودانيين قد اخترعوه ووصلوا إليه بعد معرفتهم الخط اليوناني في عهد البطالسة في مصر، والخط العربي من بلاد الحبشة، واستمر الخط السوداني مستعملا حتى سنة 500 بعد الميلاد، وقد اخترع منه نوع للمكاتبات الرسمية، وقد تبين أن الخط السوداني ملائم للغة السودانية والنطق بها، وبعد سنة 500 ميلادية بدأ استعمال الخط اليوناني، وقد وجدت آثار يونانية في «مروى»؛ منها: رأس تمثال لإله العقل، وكأس من الزجاج الملون، ومسرجة برونزية، وأواني برونزية، وتواريخها من سنة 450ق.م، إلى القرن الثاني بعد الميلاد.
الفصل السابع عشر
حكمدارو السودان
ننشر فيما يلي بيانا رسميا عن حكمداري عموم السودان ، من 13 يونية سنة 1821 إلى 26 يناير سنة 1885، مأخوذا من دار المحفوظات بالقلعة، كما نقله حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، ولكن يظهر أن هذا البيان غير دقيق؛ لأنه أدخل مديرين في عداد الحكمدارين، كما أنه عبر عن أسمائهم ببعض اصطلاحات تركية، ومضت فترات لم يكن بها حكمدارون، وها هي أسماؤهم كما وردت في البيان: (1)
إسماعيل باشا بن محمد علي باشا: 13 يونية سنة 1821 إلى 20 فبراير سنة 1823. (2)
محمد بك الدفتردار: من 20 فبراير سنة 1823-14 يونية سنة 1824. (3)
جركسي ميرالاي أول عثمان بك: 13 ديسمبر سنة 1824-11 مايو سنة 1825. (4)
جركسي علي خورشيد أغا باشا: 31 أغسطس سنة 1826-13 ديسمبر سنة 1838. (5)
جركسي أحمد باشا: 13 ديسمبر سنة 1838-25 أكتوبر سنة 1843. (6)
قولة لي منكلي أحمد باشا: 7 مارس سنة 1845-13 ديسمبر سنة 1845. (7)
أستانة لي خالد باشا: 13 ديسمبر سنة 1845-5 نوفمبر سنة 1849. (8)
جركس لطيف باشا: 11 يونية سنة 1849-13 يناير سنة 1852. (9)
جركس رستم باشا: 13 يناير سنة 1852-27 مايو سنة 1852. (10)
إسماعيل حقي باشا «أبو جبل»: 3 يولية سنة 1852-19 أبريل سنة 1853. (11)
جزائرلي سليم باشا: 23 أبريل سنة 1853-21 يولية سنة 1854. (12)
أرنبود علي سري باشا: 21 يولية سنة 1854-28 ديسمبر سنة 1854. (13)
جركس علي باشا: 28 ديسمبر سنة 1854-23 نوفمبر سنة 1855. (14)
البرنس عبد الحليم باشا: 24 نوفمبر سنة 1855-28 ديسمبر سنة 1856. (15)
جركس علي باشا: 29 ديسمبر سنة 1856-27 يناير سنة 1857. (16)
جركس موسى حمدي بك «باشا»: 7 مايو سنة 1862-18 يونية سنة 1865. (17)
جركس جعفر صادق باشا: 18 يونية سنة 1865-8 يناير سنة 1866. (18)
جعفر مظهر باشا: 8 يناير سنة 1866-30 سبتمبر سنة 1871. (19)
إسماعيل أيوب باشا: أول ديسمبر سنة 1873-16 فبراير سنة 1877. (20)
غوردون باشا: 17 فبراير سنة 1877-يناير 1880. (21)
محمد رءوف باشا: 21 يناير سنة 1880-21 فبراير سنة 1882. (22)
عبد القادر حلمي باشا: 21 فبراير سنة 1882 أول يونية سنة 1883. (23)
علاء الدين باشا: 20 يناير سنة 1883-31 أكتوبر سنة 1883. (24)
غوردون باشا: أول نوفمبر سنة 1883-26 يناير سنة 1885.
وتدخل مدة علاء الدين باشا في مدة عبد القادر حلمي باشا؛ فإن عبد القادر باشا كان في مدته ناظرا لنظارة جديدة سميت «نظارة عموم السودان»، وكان حكمدار عاما له، وقائدا لجيوشه في الوقت ذاته، وألغيت النظارة في 20 يناير سنة 1883، وأبقي عبد القادر في السودان لإخماد ثورته لا بصفته حكمدار له، مع إعادة منصب الحكمدارية وحده وتعيين علاء الدين باشا فيه، فبقي عبد القادر باشا كقائد للحملة على المهدي، وقد انتصر في واقعة التبنة على المهديين في 26 مارس سنة 1883.
بيانات عن حكمداري السودان
وننشر فيما يلي البيانات غير الرسمية عن حكمداري السودان، وقد كانوا من أصل تركي أسوة بكبار ضباط الجيش المصري والوزراء أنفسهم، وأصبحوا ضباطا مصريين في الجيش المصري:
الميرالاي عثمان بك:
جعل الخرطوم مركزا للحكومة، وفي عهده فشا الجدرى، وكان حاكما مستبدا.
محو بك سنة 1825-1826:
ولم يرد اسمه في سجل دار المحفوظات، وربما كان مديرا للخرطوم ونائبا للحكمدار، وقد كان عادلا رحيما، بنى ثكنة بالخرطوم، واحتفر في الصحراء آبارا تعرف للآن باسم آبار محو بك، وفي الخرطوم شجرة عرفت باسمه، وفي حديقة محو بك وجدت مصر الشجيرة الأولى للقطن في مصر.
خورشيد باشا:
كان حسن السيرة والإدارة، وعمر البلاد، وأدخل البناء بالطوب والأخشاب والألواح، ونظم الدواوين وأنشأ مسجدا بالخرطوم ومسجدا في سنار، واستقدم زراعا مصريين لتعليم الأهالى الزراعة.
ووسع فتح السودان فاحتل القلابات، وأنشأ بها حامية، وأخضع جبال فلي، وغزا قبائل الشلك وسيدرات.
أحمد أبو ودان باشا:
واصل سياسة سلفه خورشيد باشا في تنظيم الإدارة والتعمير، وجلب من مصر الحيوانات الأليفة والنباتات، ونشطت الصناعة في ترسانة الخرطوم، وفتح في عهده إقليم التاكا «كسلا»، وعمم المواصلات، وفي عهده زار محمد علي السودان.
أحمد المنسكلي باشا سنة 1844-1845م، و1259-1261ه:
خلف ودان باشا، وقد عاد أهل «التاكا» في عهده إلى الثورة، وفشا ظلم الموظفين، وقد أدب العصاة وعاونه الأرباب محمد دفع الله، والشيخ أحمد أبو سن كبير الشكرية، والشيخ عبد القادر.
خالد باشا:
في عهده انحرفت صحة محمد علي باشا وخلفه إبراهيم باشا، ثم مات فخلفه عباس باشا الأول.
عبد اللطيف باشا:
أنشأ مدرسة الخرطوم الابتدائية، وعين رفاعة بك ناظرا لها، وأدب تكارنة القلابات.
رستم باشا:
توفي ودفن في الخرطوم.
إسماعيل حقي «أبو جبل» باشا:
حكم بين 1268و1269ه، 1852 و1855م وعاد لمصر.
سليم باشا:
عاد إلى مصر بعد سنة وثلاثة أشهر.
علي سري باشا الأرنؤوطي 1270-1271ه و1854م:
في عهده مات عباس الأول وتولى سعيد باشا.
علي شركس باشا 1271-1273ه و1855-1857م:
في عهده زار سعيد باشا السودان، وكان قد فكر في إخلائه، فالتمس الأهالي استمرار الحكم المصري؛ خشية عودة الفوضى إلى السودان، وقال العمد: نحن عبيد أفندينا، فأجاب ملتمسهم ونظم البريد على الهجن عن طريق كورسكا، وأعلن انتهاء تجارة الرقيق، وأعفاهم من الضرائب، ونظم المديريات، وعزل سعيد شركس باشا لاستبداده.
أراكيل بك:
يظهر أنه لم يعين حكمدار؛ لأنه لم يرد اسمه في سجل المحفوظات، وهو «أرمني كان مديرا للخرطوم»، وقد تذمر أهالي الشكرية من تعيين نصراني عليهم، فقال للزعماء: إذا كان تعييني لا يرضيكم فأنا أترك البلاد، فأعجبوا بلهجته وعادوا للسلام.
حسن سلامة بك الشركسي:
اسم ورد في كتاب تاريخ السودان لشقير بك، ولم يرد في سجل دار المحفوظات، ويقول الكتاب إنه كان تقيا نزيها، ولكنه سيئ الإدارة، ثم عزل.
محمد راسخ بك:
وقد أعاد سعيد باشا في آخر عهده النظام الذي كان ألغاه، فعادت المديريات تتبع الخرطوم بدلا من الداخلية بالقاهرة مباشرة.
الفريق موسى حمدي باشا:
كان حسن الإدارة، وافر العدل، وقمع الثورات، ووصل الجند في عهده إلى 30 ألف، وتوفي بالخرطوم ودفن بها.
جعفر الصادق باشا:
قمع ثورة كسلا، وفتحت مصر في عهده فاشودة، وكان آدم بك السوداني هو الذي أخمد الثورة.
جعفر مظهر باشا:
في عهده أنعم الخديوي إسماعيل على آدم بك بالبشوية، وأصبح قائدا للجيش، وتخلت تركيا عن سواكن ومصوع لمصر نظير جزية قدرها 16000 جنيه.
وعرف مظهر باشا بالعدل والنزاهة والتقوى وتقريب علماء السودان، وكان واسع الكرم، وقد أحبه السودانيون حبا لا يزالون يذكرونه، وقد عين في سبتمبر سنة 1871 عضوا بمجلس الأحكام فترك منصبه في السودان.
ممتاز باشا:
لم يرد اسمه في سجل المحفوظات، كان من فرسان الجيش المصري، علم الأهالي زراعة القطن، ولكنه كان ظالما ومرتشيا، فحقق الخديوي إسماعيل معه، وسجن بالخرطوم ومات به.
إسماعيل أيوب باشا 1289-1292ه و1873-1877م:
كان حسن السيرة والإدارة، وفي عهده فتحت سلطنة دارفور على يد الزبير رحمت باشا، وضمت إلى مصر ، كما ضمت زيلع وبربر وسلطنة هرر، ووسع أيوب باشا زراعة القطن، وأنشأ محلجين ومعملا للنسيج، وراجت التجارة واستتب الأمن، وأنشئت محطات عسكرية من الخرطوم إلى دارفور وواداي، وفي بربر وسواكن، وأنشأ مكاتب كثيرة للبريد.
وقد قسم السودان إلى مديريات، كل مدير مسئول عن مديريته مستقلا عن الخرطوم، وكان يوسف بك مديرا على فاشودة، وحسين الخليفة «باشا» على بربر.
محمد رءوف باشا:
أرسلت الحكومة إليه كتابا تبين فيه مهمته في تنظيم مالية السودان وحساباته وتنظيم الإدارة والجند ومنع تجارة الرقيق، وقد أطفأ ثورة الصومال، وفي عهده ظهر محمد أحمد المهدي بدعوته.
وقد أصدرت الجمعية الوطنية المصرية السودانية بالخرطوم منشورا عنوانه: «كنا نحسبك رءوفا، فرأيناك خروفا»، وقد نسب إليه بعض المؤرخين.
1
أنه في بداية ظهور المهدي في جزيرة أبا أرسل فصيلتين «بلوكين» من الجنود النظامية تحت إمرة ضابطين إلى جزيرة أبا، وأسر إلى كل منهما أنه قائد الحملة، مع تفهيم أبي السعود العقاد بك معاون الحكمدارية في الوقت نفسه أنه القائد الأعلى لكليهما، الأمر الذي دعا إلى تنازع الرياسة فالفشل، وكانت هزيمة هذه الحملة أولى الهزائم التي لحقت بالجيش المصري في تاريخ الثورة المهدية.
وقد عقد رءوف باشا مجلسا استشاريا من خاصة أهل الخرطوم، فقال له الشيخ شاكر الرئيس، مفتي السودان يومئذ: «يحسن بمولاي الحكمدار أن يتولى القيادة بنفسه؛ ليستأصل الشر من جذوره، ويقضي على الثورة في مهدها قبل أن تستفحل»، فرد عليه قائلا: «خسئت أيها الشيخ! أتريد أن ترمل زوجي وتيتم أطفالي»، وقد عاد رءوف باشا إلى مصر، وبقي فيها حتى رأس المجلس العسكري العالي الذي انعقد لمحاكمة عرابي وحكم عليه بالإعدام ثم أبدل الحكم بالنفي.
وقد صدر أمر عال بجعل إدارة عموم السودان، وفيها: شرقي السودان ومحافظة سواحل البحر الأحمر وهرر وزيلع وبربرة ونجرة، حكمدارية واحدة، وفي 2 أبريل سنة 1882 قسم السودان إلى أربعة أقسام: (1)
حكمدارية إقليم غرب السودان، وعاصمتها الفاشر، وتشمل دارفور وكردفان وشكا وبحر الغزال ودنقلة. (2)
حكمدارية إقليم وسط السودان، وعاصمتها الخرطوم، وتشمل مديريات الخرطوم وسنار وبربر وفاشودة وخط الاستواء. (3)
حكمدارية إقليم شرقي السودان، وتشمل التاكا وملحقاتها، ومحافظتي سواكن ومصوع إلى باب المندب. (4)
حكمدارية عموم هرر وملحقاتها، عاصمتها هرر، وبها محافظتا زيلع وبربرة، وقد أنشئت إدارة خاصة للسودان بالقاهرة تابعة لمجلس النظار، ثم في عهد الثورة صارت تابعة لوزارة الحربية.
عبد القادر حلمي باشا 1299-1300ه 1882 و1883 ميلادية:
كان عبد القادر حلمي باشا الحكمدار - الذي ولي حكمدارية السودان بعد رءوف باشا - ضابطا كفؤا حازما شجاعا، وقد قبض على ناصية الحال، وأمن الخرطوم والجزيرة بعد أن أوشكتا على السقوط، حتى كان المهديون يدعون: «اللهم يا قوي يا قادر، اكفنا عبد القادر.»
طلب عبد القادر باشا من الحكومة المصرية أن ترسل إليه 15 ألف جندي، ولكنها لم تلب طلبه، واتهم بالجنوح للاستقلال، فأقصي من منصبه وعين علاء الدين باشا بدلا منه، وأرسلت إليه 12900 من فلول الجيش العرابي، بقيادة هكس باشا.
علاء الدين باشا 1300ه/1883م:
وقد خلف عبد القادر حلمي باشا، وكانت الثورة المهدية في ازدياد مستمر.
غوردون باشا:
خلف علاء الدين باشا - ولنا كلام طويل عنه في باب الثورة المهدية.
الفصل الثامن عشر
في عهد الحكم المصري
الموظفون السودانيون
تولى كثير من السودانيين المناصب الكبيرة في السودان
كان الزبير باشا، وسليمان الزبير بك، وإدريس أبتر بك، ويوسف الشلالي باشا - على التوالي - مديرين من قبل الحكومة المصرية على بحر الغزال، وكان يوسف الشلالي باشا، وبساطي بك، مديرين لسنار، وإلياس أم برير باشا مديرا لكردفان، وحسين خليفة باشا مديرا لبربر، والطيب عبد الله بك مديرا لفاشودة، ومحمد خالد زقل بك مديرا لدارة، والنور عنقرة بك مديرا لكبكبية، والسعيد حسين بك، وآدم عامر بك مديرين بمديريات دارفور، وأحمد أبو سن باشا، ومحمود أحمداني بك، وأحمد جلاب بك مديرين بالتعاقب للخرطوم.
وكان محمد الجزولي بك وكيلا لمديرية الخرطوم، وأحمد مكوار بك وكيلا لمديرية سنار، وعمر العمرابي بك وكيلا لمديرية بربر، وعلي عمارة أبو سن بك رئيس مجلس الاستئناف، ومحمد خوجلي بك قاضيا للخرطوم، والفكي «الفقيه» الشيخ الأمين الضرير شيخا للإسلام، والبيكوات أبو بكر الجركوك، والخليفة ود
1
أرباب، ومحمد عبد الرحمن ود البشير، وإدريس النور، وعبد الرحمن بان النقا، والفضل إبراهيم، وغيرهم، أعضاء مجلس الاستئناف، وبساطي المحس بك باشكاتبا لمديرية الخرطوم، والعوضي المرضي بك باشكاتبا لمديرية كسلا، وحسن الشريف أفندي معاونا لمديرية بربر، ومحمد النصري أقدر أفندي معاونا لمديرية بحر الغزال.
ومن القواد العظام: ألماظ باشا، وآدم باشا، وفرج الله باشا، وفرج الزيني باشا، ويوسف شلالي باشا، وصالح المك باشا، والسعيد حسين باشا، وحسن إبراهيم باشا، ومحمد علي حسين باشا، وخشم الموسى باشا، والنور محمد بك، وسرور بهجت بك، ونجيب بطراكي بك، ومحمد السيد بك، وسليم مطر بك، والنور عنقرة بك، وفرج الله عزازي بك، وغيرهم.
أعيان السودان في عهد الحكم المصري
وقد منحت الحكومة المصرية أعيان السودان وكبار تجاره الرتب والنياشين، بل لقد قيل إن ما منح إليهم زاد على العدد الذى منح إلى أعيان مصر نفسها: ومن أعيان السودان الذين نالوا رتبا ونياشين: عبد القادر ود الزين باشا شيخ مشايخ الخرطوم وسنار، ومحمد إمام باشا الشهير بالخبير، وأحمد أبو سن باشا عمدة الشكرية، وابنه عوض الكريم باشا، ومحمد زيد باشا، وبشير ود عقيد عميد الجعليين، وإدريس ود عدلان بك زعيم الفونج، وأحمد أبو حسن بك عمدة قبيلة الحمدة، وعلي البخيت بك ناظر بني عامر، وعبد القادر أيلة بك عمدة الحلانقة، ومحمد موسى بك زعيم الهدندوة، وأحمد دفع الله بك عين أعيان كردفان، وكيكوم بك ملك الشلوك، وعلي عوض الكريم أبو سن بك، وحسن أم كادوك بك عمدة البرنو، وبشارى ود بكير بك عمدة بني هلبة ، والأرباب ود دفع الله بك، وعلي الخبير بك، وإبراهيم البرديني بك، وقناوي أبو عموري بك، وصالح الخليفة بك.
وصف الحكم المصري
كان السودانيون المثقفون يسمون الحكم المصري منذ عهد محمد علي حتى الثورة المهدية «بالفتح الأول»، وكانت عامتهم تسميه «الحكومة التركية القديمة» أو «تركيا القديمة»، وسمى عامتهم الحكم بعد استعادة السودان «الحكومة التركية الثانية» أو «تركيا الثانية»، وكانت العامة في عهد الرخاء تحت ظل الحكم المصري يعبرون عنه بقولهم: «الترك لبسونا القميص وعلمونا الحديث»، ويسمون المصريين والأتراك المتمصرين: «ود الريف»، وفي عهد المهدي والخليفة التعايشي عد المصريون والإنجليز والإفرنج والأتراك وسائر المسيحيين واليهود، أى: كل من لم يؤمن بالدعوة المهدية: «كفارا».
التجار المشهورون في عهد الحكم المصري
المرحوم حبيب لطف الله «باشا» - السيد محمد باشات - المرحوم الحاج سعد الله حلابة - رضوان القرى - محمد الحبابي - الحاج محمد الحلو - نعوم سكر - عبد الغني التازي - محمود السيوفي باشا وأحمد باشا السيوفي - السيد أحمد العقاد - حسن موسى العقاد - وموسى العقاد والده - علي عموري - وفرج الله الموصلي - والخواجة غطاس - والخواجة الزق - وأمبرواز - وجيليو، وغيرهم.
الفصل التاسع عشر
الحكم المصري في السودان
(1) المباني المصرية في السودان
أنشأت مصر بين فتح محمد علي وإلى قيام الثورة المهدية جميع المنشآت؛ من مباني فخمة ومعسكرات ومصالح أميرية ومساجد ومدارس، وساعدت الأهالي على بناء دورهم بالطوب والأخشاب بدل اتخاذها من اللبن والغاب وجلود الحيوان، وأدخلت زراعة القطن، وأنشأت المطبعة الأميرية، وفتحت السدود النيلية للملاحة صعدا إلى أعالي النيل، ومدت أول سكة حديدية عرفها السودان، تكلف إنشاء خمسين ميلا منها حوالي 450 ألف جنيه، وأنشأت ترسانة كبرى تصنع البواخر النيلية والمراكب وإصلاحها، وبني فيها وابورات بوردين، وتل حوين، والتوفيقية، والمنصورة، والفاشر، والإسماعيلية، وعباس، وشبين، والمسلمية، والحسينية، ونيانزا، ومحمد علي، والزبير، والسلطان، والخديوي، وغيرها.
وقد ثبت أن نفقات السودان كانت تربو على إيراداته في عهد الحكم المصري، وكان يتراوح ما تنفقه مصر بين المليون والثلاثة ملايين جنيه في السنة. (2) شهادة الأجانب للحكم المصري في السودان
قال سير صمويل بيكر: «يستطيع السائح الأوربي أن يزور المناطق البعيدة في السودان من غير أن يخشى على نفسه أكثر ما يخشاه من يتنزه بعد الغروب في حدائق هايد بارك بلندن.»
وقال أيضا: «إن مصر وحدها هي التي تستطيع نشر الحضارة في إفريقيا النيلية وإنشاء حكومة نظامية»، وقال رودولف سلاطين باشا في كتابه النار والسيف: «السودان المصري يحكمه الآن الخليفة عبد الله التعايشي، وقد كانت السنوات العشر من حكم المهديين كافية لنشر العبودية في نواحيه، ومن الحق أن نقول إن السودان قد ظل سبعين سنة ونيفا منذ عهد محمد علي مستقلا بالحكم المصري، مفتوحا للحضارة والمدنية، والمتاجر المصرية والأوربية تزدهر في عواصمه، والدول الأجنبية توفد قناصلها إلى الخرطوم، والسائحون على اختلاف أجناسهم يجوبون البلاد دون أن يلقوا ممانعة، وانتظمت طرق المواصلات والتلغرافات والبريد، وتؤدى الشعائر الدينية في المساجد والكنائس بالحرية، وتعمل مدارس البعثات بجانب مدارس الحكومة، وبالرغم من تعدد القبائل وما بينها من العداوة، فإن حزم الحكومة كان كافيا لاستتباب الأمن في كل البلاد.» (3) في مذكرات القباني عن الحكم المصري
نقتطف من مذكرات السيد محمود القباني ما يلي: «إن الحكومة كانت تبذل المعونة لساكني الخرطوم، حتى إنها لم تقف عند حد منحهم الأراضي بلا ثمن، بل كانت تعاون بمنح أخشاب سقوف العمارات، حتى كانت سنة 1274ه، وفشت الأوبئة، فمن حمى «أم سبعة» إلى الهواء الأصفر «كوليرا». وقد هجر الخرطوم كثير من سكانها، وقد عد في ذلك الزمن أنه مناخ موبوء؛ لما كان يكتنفه من نواحي الجنوب والشرق من مستنقعات وبرك تتعفن فيها المياه.
أما الكوليرا فقد انتقلت إليها مع المتاجر الواردة من الهند على ثغر سواكن، الذي كان خلوا من نظم الكورنتينات، وهو إذ ذاك تابع لولاية الحجاز العثمانية، وكان جل ما يرد إلى السودان من المنسوجات هنديا علاوة على الطيوب من عطور وعطارة وأسرة الساج وأسرة الحق «وهو خشب ملون بألوان حمراء وصفراء براقة جذابة، وكذا يصنع من هذا الصنف أوعية لحفظ العطور اليابسة ولتزيين المنازل، وما زالت باقية حتى هذا الحين باسم حق، وقد أصبحت هذه الصناعة محلية تعلمها صناع البلاد من أهالي «جدة» وعلى كل فقد تضاءلت إلى حد بعيد الرغبة في التوسع باقتنائها.
وقد بذلت الحكومة مجهودات لا يستهان بها في ردم المستنقعات، وفتح مجاري لتصريف مياه السيول التي كانت تنحط على المدينة، وقد أدركنا هذا المجرى وموقعه في الساحة الواقعة جنوب سراي الحقانية، ثم ينحني إلى جهة الشمال فيصب في النيل الأزرق، وقد نظمت المحاجر الصحية في سواكن بعد ذلك، فلم تنتقل أوبئة البحر الأحمر إلى داخلية البلاد، فتراجع عمران المدينة.
ومنذ نشأتنا وجدنا مدينة زاخرة بالعمران، وبنايات بالآجر «الطوب الأحمر»، والحجارة المنضدة، وكانت تستخرج من حفر في الشاطئ الغربي بأم درمان، كما أن القمائن التي تشوي اللبن كانت في الضاحية الشرقية البراري والجريفات، وأكثر المنازل كانت دورين، وأقلها الدور الأرضي، والحكومة تشدد في تعميق الأسس وعرض الجدران، وأقل ما يسمح به في عرض الجدار ذراع معماري ونصف ذراع «نحو متر وعشرين سانتي»، وقد ارتفعت أسعار الأراضي التي على شاطئ النيل أولا؛ إذ كانت مرغوبة لغرس البساتين لسد حاجيات سكان المدينة من فاكهة وخضراوات ونخيل وأعناب تؤتي أكلها في العام مرتين: واحدة في الشتاء، وأخرى في الصيف، فكان سكان الخرطوم يأكلون العنب شتاء وصيفا من النوع الأحمر أكثر، والقليل من الأبيض.
ولما كثر عدد الأجانب من سراة الأوربيين رغبوا في تشييد دورهم على شاطئ النهر، فبذلوا أثمانا عالية لأصحاب البساتين، بلغت قيمة المتر الواحد من جنيهين إلى ثلاثة، وممن فاز بقطعة كبيرة على شاطئ النهر وعلى بعد خطوات من مباني الحكومة من الناحية الغربية الخواجة جورجي تنسيادي، فشاد عليها قصرا بالآجر، وكحلة الجير، كان له منظر خلاب، وبأسفله حانوت مستطيل مملوء بأصناف المشروبات الأوربية والبقالة، وبجانبه «بار وقهوة كبرى».
ومحل تنسيادي أكبر محل لبيع البقالة والمشروبات الأوربية، ويوجد في المدينة ما هو دونه، وكذا يوجد في الخرطوم محلات لبيع الملابس الأوربية الجاهزة من جميع أصناف الأجواخ والأصواف والأتيال، على النحو الذي كان وما يزال بمصر.
وفي الخرطوم - منذ نشأتها - قناصل للدول، كانت لهم امتيازاتهم كما في مصر،
1
وقد أدركنا أقدم قنصل هو الهر هنزل قنصل دولة النمسا والمجر، وقد قتل يوم سقوط الخرطوم وعمره في العقد التاسع، وقد قيل إنه جاء الخرطوم وهو مريض، فشفي من مرضه ولم يعد إلى بلاده، ومع وجود جالية نمسوية أصلية ومتناسلة هنا فإن مهمة الهر هنزل كانت لرعاية مصالح الإرسالية الإفريقية الكاثوليكية، التي تفرعت منها فروع وصلت إلى جبال النوبة بكردفان، وشادت معابد بها ومراكز للدعاية، وقد تعهدت الإمبراطورية الهابسبورجية بحماية هذه الإرسالية في مصر والسودان، ولم تزل هذه الحماية إلا بعد الحرب العظمى وزوال الإمبراطورية النمسوية، وتحويل هذه المهمة إلى إيطاليا.
وقد فاز ألبير ماركويت - رئيس شركة فرنسية كبرى كانت تتجر في الصمغ والعاج وريش النعام، وتستورد البضائع الفرنسية - بابتياع بستان علي بك خلوصي، وبناء قصور في شماله مجزأة إلى مساكن «شقق»، وقد شيدت بالحجارة المتسقة المنضدة، وموقعها في سراي صاحب السيادة السر السيد علي الميرغني الحالية والشارع الواقع شرقها، وآخرون شادوا مباني في الجهة الشرقية، ومنهم الدكتور جورجي بك مفتش صحة عموم السودان المتوفى في حملة هكس باشا.
وبالرغم من ارتفاع ثمن أراضي الشاطئ - كما تقدم - فإن الحكومة ما زالت على نهج المعاونة في سبيل تعمير المدينة، فقد كانت حتى آخر أيامها تبيع الأراضي في الحي الجنوبي العربي المسمى «سلامة الباشا»، والحي المقابل له من الشرق «فرق النوبة» بسعر قرش صاغ واحد للمتر.
وقد قدر سكان الخرطوم إذ ذاك بأكثر من مائتي ألف نسمة، لا يقل عدد الجواري والغلمان في هذا التقدير عن 50 إلى 60 ألفا، ويقدر عدد العنصر المصري خاصة بنحو 70 ألفا، ونحو 3 آلاف من عناصر أخرى كالأوربيين أو المغاربة والسوريين والأتراك.
وفي تقرير المرحوم عبد القادر حلمي باشا حكمدار السودان في سنة 1883، أن عدد التجار في السودان كله من المصريين وغيرهم من الأجانب يبلغ ثلاثين ألفا، منهم نحو ألفين من الأوربيين، جلهم من الإغريق الذين كان لهم قنصل في الخرطوم يدعى «لونديدي»، يعد من كبار تجار المدينة وذوي الرأسمال الذي لا يقل عن 50 ألفا من الجنيهات.
وكان في الخرطوم تجار لأعقابهم الآن ثروات عظيمة في مصر وسوريا، ذكروا في تاريخ السودان للمرحوم نعوم بك شقير، ومن أشهرهم: أسرة حبيب باشا لطف الله؛ إذ كان أخوه الخواجة خليل لطف الله يدير تجارة كبرى في الخرطوم، حتى توفي بها قبل أن أرى الدنيا، وكانت تركته تحت إشراف قنصل روسيا، ومن جملتها نحو ألف قنطار من العاج كانت موضوعة في منزل أحيط بخفراء من جنود الضابطة، فتوصل لص كبير إلى سقف المكان فنقبه ولم يترك فيه نابا واحدا من أنياب الفيلة التي تبلغ الألف قنطار، ولما فتحوا المحل ألفوه خاويا على عروشه، إذ أعاد اللص السقف المنقوب كأنه هو، فقامت قيامة التحقيق، وكان مع والدي؛ لأنه المعين لتصفية التركة، وكان المحل مختوما بخاتمه وأختام القنصلية ومأمور التركات ومأمور الضابطة ومدير الخرطوم، والمحققون متخبطون لا يدرون ما يفعلون.
وراجت إشاعات بأن اللصوص هم الجن، وأرعدت وأبرقت قنصلية روسيا، وأمطرت نظارة الداخلية الحكمدارية بوابل البرقيات ونسبة الإهمال وفقدان الأمن بعاصمة السودان، وبعد بضعة وعشرين ليلة جاء إلى أخي «الفقيه خوجلي الخراط» صاحب ورشة كبيرة لخرط العاج والأبنوس بالخرطوم، يخبره أن جارية من البغايا جاءته بقطعة من العاج تبلغ 50 رطلا ليشتريها بقيمة لا تربو على عشر ثمنها، وأنه يظن أنها من العاج المسروق، وقد أبقاها بمنزله ليحضر لها المال، فأسرع أخي واستيقن أنها من السرقة، واعترفت له الجارية بأن في منزل فلانة دانقة «غرفة» مملوءة إلى السقف، وهي لفلان خليل ربة البيت، وهو موجود في المنزل.
فأشعرت السلطة في الحال، وضبط السارق والسرقة، ولم يفقد منها غير القطعة التي عرضت على الخراط، وهي أول عرض للبيع، وقد حكم على اللص بالسجن والأشغال الشاقة 15 سنة في ليمان فاشودة، وقد اعترف بتفاصيل جرأته ومهارته؛ حيث توصل إلى سقف الغرفة ونقبه، وظل ينقل القطع مدة أربعة شهور رويدا رويدا، وقد بيعت هذه الصفقة بعد ذلك بأربعين ألف جنيه إلى جماعة من التجار سافروا بها إلى بمباي، وعادوا بثمنها منسوجات حريرية وقطنية وعطور هندية بيعت في أسواق الخرطوم والمسلمية والأبيض بأرباح طيبة، وكونت رأسماليات في هذه البلد، كما نمت وبوركت في أيدي آل لطف الله بمصر.
ويجدر بي أن أذكر أن في الخرطوم مطبعة أميرية حجرية لا تزال باقية في متحف مخلفات العصر الماضي، وفي المطبعة معمل لصناعة الورق يقوم بحاجة الحكومة من ورق ودفاتر وأوراق التمغة التي كان لها رواج عظيم؛ إذ لا تسمع الشكاوى ولا تعتبر المعاملات المدنية والتجارية إلا إذا كانت محررة على أوراق التمغة المتفاوتة في قيمتها. وأمثلة مكتوباتها: «سند تمغة من مبلغ كذا إلى مبلغ كذا». وكان في الخرطوم ورشة لتجهيز ملابس الجيش من الدمور، والأحذية من جلود البلاد، ولا يستورد من لوازم الجيش من مصر غير الطرابيش، وكان الضباط يلبسون ملابس الجوخ أو الدمور، وكان الحكمدار هو الحاكم العام، وله وكيل مستديم يليه غالبا في الرتبة والأهمية، والحكمدار على الدوام من السلك العسكري من رتبة الفريق؛ لأنه القائد العام للجيش، وقد خرمت هذه القاعدة في الزمن الأخير بإسناد منصب الحكمدار إلى المرحوم علاء الدين باشا؛ لسد باب الاختلافات التي اتسعت بين الفريق عبد القادر حلمي باشا الحكمدار والجنرال هكس باشا، إذ أقيل عبد القادر حلمي باشا وجيء بالفريق سليمان نيازي باشا باسم قائم مقام الحكمدار، فاختلف أيضا مع هكس باشا فأقيل كسلفه، وجيء بعلاء الدين باشا، فكان من نتائج ذلك تسيير الحملة ومهلكها المعلوم. وكانت الأوضاع كما هي في مصر، فكانت المكاتبات بالعناوين التركية، مثال ذلك: «سودان حكمداري سعاد تلو أفندم حضر تلري»، والاصطلاحات التركية كانت شائعة ومفهومة.
وقد عين ساكن الجنان محمد علي المرحوم الشيخ أحمد السلاوي قاضيا لعموم السودان، وألزم الحكمدار خورشيد باشا أن لا يقطع أمرا دون مشاورته ومعه آخرون من أعيان البلاد، وكان نظر القضايا والحكم فيها مدنيا وجنائيا من اختصاص المحكمة الشرعية إذا كانت كبرى، وأما الصغرى فينظرها مأمور ضبطية الخرطوم ومعه مفتي الضبطية إلى يوم سقوط الخرطوم.
وبعد ذلك أنشئت المجالس تبعا لمصر، فكان في الخرطوم - كما في كل مديرية - «مجلس محلي» للحكم في القضايا المدنية والجنائية الكبرى، وآخر رئيس لمجلس الخرطوم المحلي المرحوم محمد بك بدوي، والد توفيق محمد بدوي أفندي وأخيه نيازي أفندي، وقد توفي قتيلا يوم سقوط الخرطوم سنة 1885. وفي الخرطوم «مجلس استئناف» تستأنف له جميع الأحكام الصادرة من مجالس السودان المحلية، ويجوز الطعن في أحكام مجلس الاستئناف بتقديم الطعن إلى مجلس الأحكام بمصر، وإليه ترسل جميع أوراق المجلسين، فيصدر حكمه نهائيا بعد فحص الأوراق والاطلاع على وجوه الطعن من الطاعن، وكان رئيس مجلس الاستئناف في العهد المتقدم «الأميرالاي إسماعيل أيوب بك» الذي صار فيما بعد الفريق إسماعيل باشا أيوب حكمدار السودان، ولكل واحد من هذه المجالس المحلية «مفتي»، وللاستئناف «مفتي» عينته نظارة الحقانية المصرية منذ أنشأته، وقد استوطن الخرطوم وما زال في وظيفته حتى مات قتيلا يوم سقوط الخرطوم سنة 1885، وهو الشيخ شاكر حسن الريس من أسرة الريس المعروفة في غزة هاشم بفلسطين، كما أن آخر رئيس لمجلس الاستئناف هو المرحوم حسن عبد المنعم بك، والد الوجيه الشيخ أحمد حسن عبد المنعم وأخويه، وهناك كثيرون من موظفي هذه الهيئات ما زالوا على قيد الحياة.
إن مصالح الحكومة في الخرطوم متعددة، وأماكنها متدانية مواقعها، وأعظم تلك البنايات هي بنايات الحكمدارية، ما عدا «السراي» التي لم تكن ديوانا، بل هي دار سكنى أسرة الحكمدار، وفي العهد الأخير تحولت ثلاثة أجزائها إلى دواوين حكومية؛ فعل ذلك المرحوم غوردون باشا سنة 1884، إذ اكتفى هو بالجناح الأعلى لمكتبه ومعاونيه، وشغل الدور الأرضي كله بمصلحة (مالية السودان).
ديوان الحكمدارية مبني بحجارة بيضاء جميلة منحوتة، ذات منظر يضارع أعظم مباني القاهرة، ومرتفع سطحه عن سطح الأرض بأكثر من ثلاثة أمتار، وله نوافذ شمالية تطل على النهر، والشاطئ مرصوف بالحجارة، وقد غرست حول النوافذ أشجار باسقة، ومدخل إيوان جلوس الحكمدار من الجهة الجنوبية بثلاثة أبواب كبيرة جدا، يجلس القواصة الأتراك على دكتين؛ شرقية وغربية، بسراويلهم المقصبة وأرديتهم القصيرة «سلطة» وسيوفهم الكبيرة المحنوفة، هذه الأبواب الثلاثة هي التي يدخل العموم منها لمقابلة الحكمدار، وفي شرق هذا الإيوان رواق مستطيل، فيه غرف من الجانبين، وله باب شرقي يدخل منه الحكمدار من وإلى السراي، والغرف التي بجانب هذا المدخل إحداها «مكتبة لحفظ الكتب» «كتبخانة» ومكاتب لموظفي القلمين الإفرنكي والتركي، وأوراق هاتين القلمين.
وأذكر أن هذه المكتبة نثرت وبعثرت كتبها النفيسة وأوراقها الكثيرة على شاطئ النهر، وهي عامرة بكل كتاب طبعته المطبعة الأميرية من حين وجودها، وقد علمت أن لكل عاصمة من عواصم المديريات مثل هذه المكتبة ترسل من القاهرة رسميا، وقد اغتنم كل من رأوا تلك الكتب المبعثرة ممن يعرفون قيمتها بحمل ما عثروا عليه، وقد حملت أنا بدوري ما استطعت حمله قبل أن تلقى في النهر وتضرم فيها النيران. ومن أنفس ما ظفرت بين الأوراق كيس فيه أوراق كل سنة قد كتب باللغتين العربية والتركية، مبتدئ من اليوم الذي غادرت فيه حملة الأمير إسماعيل باشا القاهرة، وكيف ودعها ساكن الجنان محمد علي الكبير في سنة 1235، وترى في كراسة سنة 1236ه حديث اجتياز الحملة من الشاطئ الأيسر إلى الخرطوم إلى فتح سنار، وفي كراسة سنة 1301ه حصار الخرطوم، وكراسة سنة 1302ه محتوية على بقية الحصار، وبديهي أن يوم سقوط الخرطوم لم يذكر، وفي سني حكم غوردون باشا الأولى قد كتب التاريخ باللغتين العربية والفرنسية، وفي المدة الأخيرة اقتصر على اللغة العربية، والظاهر أن لغوردون يومية بالإنكليزية علاوة على مذكراته، كما اطلعت على كثير من الوثائق الرسمية وأكثر البرقيات مكتوبة بالشفرة «الأرقام»، وبعد أن ظلت تلك الأوراق مبعثرة ذهبت طعمة للنار أو لقاع النهر.
ولقد كان من سياسة غوردون باشا الأخيرة في فبراير سنة 1884 أنه أحرق دفاتر الأموال المتأخرة جميعها في يوم مشهود في رحبة الحكمدارية. •••
أعود بعد هذا إلى تخطيط دار الحكومة بعد أن تكلمت عن غرفة الحكمدار والمكاتب الشرقية والباب الشرقي المسمى «باب السر»، فهناك جناح غربي فيه غرفة «وكيل الحكمدار» والأقلام العربية، وقد أدركنا، لأول إدراكنا، وكيل الحكمدارية ججلر باشا، وهو ألماني بروسي، ورئيس الأقلام هو المغفور له العم محمد أفندي الحاج، والد الأخ جيلاني محمد الحاج أحد قضاة محكمة الخرطوم الأهلية الآن، وابن عم المرحوم الوجيه الحاج المرضي الخضر عمدة الخرطوم الأسبق، وعين أعيان القبيلة التي هي أقدم ساكني الخرطوم منذ قرون، توفي المرحوم الحاج محمد أفندي الحاج يوم سقوط الخرطوم قتيلا، رحمة الله عليه وعلى من ماتوا معه.
ويقابل بناء الحكمدارية بناء مديرية الخرطوم، وهو منزو إلى جهة الغرب، وأقل ارتفاعا من بناء الحكمدارية الذي يسامته من الجنوب دهليز مستطيل وبوابة جنوبية كبيرة مزخرفة يتوصل إليها من فرندة ذات أعمدة شاهقة يجلس فيها ذوو الأشغال من الأهلين، وكثير ما هم، والغرف التي بجانبي الدهليز معدة لسكنى البلك النظامي وضابطه، المنوط بهم حراسة السراي ودور الحكومة أسبوعيا، ثم هنا مصلحة التلغراف وخزانة الحكومة، ثم الدفترخانة في الجناح الشرقي والزاوية الشرقية الجنوبية، يجمع هاته المصالح حوش واحد متسع تقام فيه الحفلات الرسمية على نحو ما يقام في القاهرة الاحتفال بالمعراج الشريف، والاحتفال بنصف شعبان، وبعده لليلة القدر على النحو الذي تقام به في القاهرة بشهود الحضرة الخديوية، وهي احتفالات دينية يتحتم المحافظة عليها؛ إنفاذا لوصايا ولي الأمر، إذ تختم بالدعاء لذاته الكريمة، وينفق عليها من الحكومة، وكان غوردون باشا في زمن حكمه من أشد الناس محافظة عليها، حتى في أيام الحصار، وكذا كان يحتفل ليلا بعيدي ميلاد وجلوس سمو الخديوي احتفالا دينيا ليليا، علاوة على حفلات النهار من الاستعراضات والتشريفات.
وفي شرق الفرندة الغربية مصلاة مرتفعة عن الأرض بنحو 80 س، مبلطة أرضها بحجارة كأنها البلاط البلدي في مصر، وفي غربها نحو 50 حنفية تستقي من النيل، وبجانب هذه المصلاة منبر عال «هو الموجود في متحف بيت الخليفة بأم درمان»، فإذا حانت دقيقة زوال الشمس سمع الناس «الله أكبر» من فوق المنبر بصوت جمع بين الجهر والرخامة من فم العم «المرحوم الشيخ حسين المؤذن، الذي مات قتيلا يوم سقوط الخرطوم عن عمر يناهز التسعين خريفا»، وقد وقف دولاب الأشغال، وهرع الناس إلى المصلاة، وأغلقت أبواب ديوان الحكمدار إلى السراي ومثله وكيله، فهما اللذان يتناولان الغذاء في داريهما، أما مدير الخرطوم وسائر رؤساء المصالح فإنهم يتناولون غذاءهم في ذات المصالح، وقد شهدت المدير ووكيله والباشكاتب يأكلون معا، ولكل واحد منهم مائدته ذات الألوان المتعددة.
ومن المظاهر التي تستحق الذكر موائد الموظفين الأقباط في أيام الصيامين، الصغير السمكي والكبير اللاروحي، فإن زملاءهم الموظفين المسلمين يستطيبون الألوان الكثيرة المطبوخة بالزيت طبخا في منتهى الإتقان والجودة، لا سيما «الطعمية» المتقنة بالتوابل، وكانوا يسمونها «القريصة»، والخبز الشمسي الذي لم أر له مثيلا في أيام الكهرباء وأخواتها. ومع انخفاض الأسعار وقيمة إردب القمح من 25 قرشا إلى 30 قرشا، فإن نفقات الطعام على أعمامنا الأقباط - يومئذ - لا يستهان بمقاديرها، فأقل ما يجتمع حول مائدة أحدهم العشرة من الزملاء، سوى ما يتحف به الجيران في بيوتهم، كل على حسب سعته، ويلحق بهذا ما كنا نراه في بيوتنا كل ليلة من مشاركة الأعمام والإخوان الأقباط لآبائنا وإخواننا في فطور رمضان، والتفنن في أنواع أطعمته لإخوانهم المسلمين، ولا غرابة، فإن أهالي الخرطوم مع كثرة عددهم واختلاف أجناسهم بين مصريين وأتراك وجعليين ومحس ودناقلة و... بل أجناس أخرى من سوريين ومغاربة، حتى الأجناس الأوربية، كانوا على أحسن ما يتصور من إخلاص الود لبعضهم ومتانة الروابط بينهم، ولقد كان شعار قوميتنا الخرطومية: «إذا أطعمت فأشبع»، أي إن المائدة التي يجلس حولها عشرة تشبع العشرين إذا لم أقل الثلاثين.
عود إلى الموظفين، فإنهم تناولوا طعامهم وهم جلوس على الأرض المفروشة بالبروش حتى يؤذنهم العم الشيخ حسين بصلاة العصر لأول وقته، وبعد أدائها يستأنفون أعمالهم، ولا يبارحون دواوينهم إلا قبل غروب الشمس بساعة وربع ساعة، وهذا شأن جميع مصالح الحكومة، إلا أنه لا يوجد مؤذن ومنبر إلا في الحكمدارية، وليس هذا الأذان وإقامة الصلاة خاصا بوقتي الظهر والعصر، اللذين يحضرهما موظفو المصالح سالفة الذكر، بل هو مستديم للأوقات الخمسة ما عدا ظهر يوم الجمعة، وذلك احتذاء لمثل ما هو متبع في سراي عابدين أو رأس التين المقر الرسمي للجناب العالي الخديوي، وقد جرى الرسم بهذا كله من عهد ساكن الجنان محمد علي الكبير.
وقد ذكرت فيما تقدم من الذكريات أن الحكمدار نائب الحضرة الخديوية في السودان يجري الرسم في معاملته وفق ما يجب للذات الخديوية بدون إخلال.
ولقد كان الطيب الذكر غوردون باشا من أدق الحكام في المحافظة على رسوم هذه النيابة، وللذكرى والتاريخ أدون أن الاحتفال بالمولد النبوي كان يجري في الخرطوم بالصفة الرسمية التي تجري في القاهرة: لكل مصلحة سرادق، وتقام الزينات وتطلق نيران المدافع، وكان آخر حفل به في ليلة 12 ربيع أول سنة 1302، أي قبل مقتل غوردون وسقوط الخرطوم ببضع وعشرين ليلة، فأقيم الاحتفال في فناء الحكمدارية وزين بالرايات والفوانيس، ودعي العلماء والكبراء، وجلس غوردون باشا في صدر الحفل ببذلة التشريفة الكبرى في وسط الحاضرين، واعتلى المنبر المغفور له العلامة السيد حسين المجدي «باشخوجة المدرسة الأميرية» وتلا القصة الشريفة، وبخور العودة يتصاعد من المجمرة الفضية المذهبة المرصودة لمثل هذه الحفلات. وقد رأيت غوردون باشا يرفع رأسه والعقال القصبي اللامع فوق كوفيته الناصعة البياض، وإذا تضاءل دخان البخور أسرع إلى المبخرة المرحوم اللواء موسى شوقي باشا مدير الخرطوم لإصلاحه، فلما انتهت التلاوة أطلقت المدافع من بطارية السراي، ومن طوابي باب المسلمية والمقرن وتوتي وراسخ بك في البر الشرقي، وقد جلس إلى المائدة ومعه المرحومان الشيخ الأمين الضرير شيخ علماء السودان، والسيد حسين المجدي سالف الذكر، وجماعة من العلماء، ولم يطل الجلوس، بل قام متفقدا القصاع التي وضعت على الأرض للفقراء، وقد قسم بيده حلوى الملبس على الأولاد الممتازين، ومر بنا وبجانبي صديقي الأخ المرحوم بقطر عبد المسيح غطاس أفندي ونفح كل واحد منا شيئا من الملبس بعد أن خاطبنا «قباني غطاس»، وكانت هذه الليلة المباركة خاتمة ليالي الاحتفالات التاريخية في الخرطوم؛ فقد سقطت في صبيحة اليوم التاسع من شهر ربيع الثاني سنة 1302ه 26 يناير سنة 1885.
ومما يستحق الذكر مناظر المتنزهين حول المدينة من الشرق والغرب والجنوب والشمال، وفي الزوارق، وإن كانت قليلة فإنها تمثل منظر التنزه في زوارق البوسفور في إستانبول كما يقول الأتراك والأوربيون الذين شاهدوها هناك، واحتذوا مثالها هنا، فإنك ترى المتنزهين في أرض الإرباض ركبانا على الخيول المختلفة في آلتها، فهذا آلته وسرجه تركي، وبجانبه آخر بآلة وسرج سوداني أو إفرنكي، والكل في غاية الفخامة من «رشمات» فضية مطلية بالذهب. واختلاف أزياء المتنزهين له منظره البديع، فهذا يلبس زيا إفرنجيا أنيقا مع الطربوش، وبجانبه آخر يلبس الزي القديم «السراويل والشبكن»، أما الطربوش المضلع فهو الزي الرسمي لجند الباشبوزق على اختلاف أجناسهم، وكنا نرى قساوسة الإرسالية الكاثوليكية بأثوابهم الكهنوتية وغطاء رءوسهم «الطربوش»، وكانوا قبل زماننا يتعممون كقساوسة الأقباط، والميزة بينهما أن القبطي بقفطان وجبة أو زعبوط، وهم بثوبهم الطويل المزرر. وقد رأيت في كنيسة الكاثوليك تمثالا نصفيا من الرخام، صنع إحياء لذكرى المونسنيور الأرشمندريث «إنياسيو كنوبلخير» الألماني الذي أسس الكنيسة، لابسا قفطانا وفرجية وعمامة.
وبالجملة أن الأزياء في الخرطوم كانت معرضا محتويا لأزياء أهل الأرض كلهم تقريبا، ومن بين المعممين ترى العمائم المتباينة، من مصرية وصعيدية إلى سودانية إلى سورية إلى هندية إلى بخارية أو تركية، وكذا القبع واللحى الإفرنجية، وكثير منهم كانوا يحلقون لحاهم من أسفل الحنك، فيسميهم الناس أبو «دقنين».
ومن مشاهد النزهة التي تجري في الخرطوم في أغلب أيام الأسبوع «لعبة الجريد»، التي يقوم بها أجناد الباشبوزق الأتراك والمغاربة والشايقية والأهالي، وهي تمثل مبارزات الحروب والترامي بالسهام، وفي الأغلب يحضرها الحكمدار والكبراء وقناصل الدولة، ولست بناس حلقات «الحاوي» المشعوذ والألعاب المدهشة من فنون السينما. وفي مرة وفد إلى الخرطوم «حاو» شهدنا أنه قطع شابا إربا إلى عشرين قطعة، والدم قد ملأ الأرض، فصرخت أنا وأترابي وأغمي على بعضنا، ثم تمثل لأعيننا أن الدماء والأجزاء المقطعة تتحرك وتقترب من بعضها حتى استوت شخصا سالما بجلابيته الزرقاء وطربوشه قبل أن يذبح ويقطع إربا! ومن مناظر الشعوذة التي كنا نراها كل يوم: «رجل من ساكني الخرطوم قصير القامة، ضخم الجثة، كبير الوجه، ضخم الرأس، يبلغ شعره منكبيه، يحمل مسمارا غليظا مستطيلا، على رأسه حلقات حديدية لا يقل وزنها مع المسمار عن عشرين رطلا، يغرس هذا المسمار في عينه حتى تراه لامعا شبرا في قفاه وقد سالت الدماء، ثم يستله ولا أثر للدم ولا ضرر بالعين»، هكذا يعيده دواليك، وقد يضعه في صدره وقلبه وبطنه حتى صارت شعوذته هذه مألوفة لدينا، وأصبحنا لا نلتفت لنظرها ولا يدهشنا منظرها، وكذلك شأن المشعوذين الذين يدخلون من أفواه الدواب ويخرجون من أدبارها.
ولاستيفاء تخطيط الحكمدارية أذكر بناء حجريا متينا، عريض الجدران في طول شاهق، حصن منيع كأنه في داخله أروقة، يسمى «طوبخانة»، أي: محل المدافع، كان نظام الجيش قبل سنة 1281هجرية - التي وقعت في إبانها ثورة الآلاي الرابع السوداني في كسله - أن لكل آلاي طوبجية وفرسانا تتبعه من ذات فصيلته، وقد رأى سمو الخديوي إسماعيل من وقائع تلك الثورة فصل قوة الطوبجية من جميع الألوية، وبقرب نظر الحكمدار، وأن يكون جندها من المصريين، وضباطها إن لم يكونوا أتراكا فمن المصريين، وأحسب أن هذا الإجراء متبع حتى الآن في الجيش المصري. وبهذا صارت وظيفة قومندان الطوبجية منفصلة عن قيادة الجيش العامة، تخضع لأمر القائد الأعلى الحكمدار بالنيابة عن الحضرة الفخمية الخديوية، وآخر من ولي هذه الوظيفة العم المرحوم الأميرالاي محمد بك العتباني، الذي قتل يوم سقوط الخرطوم في مركز وظيفته بخط الدفاع الغربي من باب المسلمية، وسبحان مقدر الأمور وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين!
ليست أنظمة الماضي التي أذكرها اليوم قريبة المشابهة بما هو تحت نظر قصار النظر اليوم، فقد ذكرت هيئة ديوان الحكمدارية وأبوابه الثلاثة، والحكمدار يجلس في حده الشمالي ووجهه إلى ناحية هذه الأبواب، ومن الميسور على كل شاك أن يواجهه ويسلمه عريضته يدا بيد، فيأخد في تلاوتها ثم يوقع عليها بالقلم الأحمر هكذا: «يتحرر إلى كذا بإجراء كيت وكيت»، ويسلمها لصاحبها قائلا هكذا: «وديها إلى فلان أفندي أو فلان بك»؛ يعني الكاتب المختص بهذا. ويكون قواصان وقوفا بجانب الشاكي بسيوفهما، فيخرجان معه، فإذا كان عارفا بمحل الكاتب تركاه يذهب وحده ويعودان إلى الجلوس مع رفاقهم، وإن كان جاهلا بمكانه رافقه أحدهم حتى يسلمه إلى فلان أفندي أو فلان بك، الذي يكتب على ظاهر العريضة ما أمر به الحكمدار، ثم يعود الشاكي نفسه إلى الحكمدار فيوقع ما كتب بخاتمه ويسلمه إلى المشتكى، الذي يحمله بيده إلى الجهة أو الشخص الذي كتب إليه. فهل في ما ذكر مشابهة بمجريات العهد الحالي؟ أوليس هذا مطابقا لما كان متبعا في الحكومات الإسلامية من أقدم عصورها؟ فليتدبر العقلاء وليقيسوا عليه إذا كانوا على علم بالقياس قبل أن ينتقدوا، فإن سكان الخرطوم لرسوخ أقدامهم في المدنية واتصالهم بالقاهرة، يمثلون هيئة رقابة على أعمال الموظفين حتى الحكمدار، وهم الذين شكوا المرحوم ممتاز باشا إلى الأعتاب الخديوية فأوقف عن العمل، وحبس في مسكنه، وأرسل الخديوي قومسيونا برئاسة خالد باشا لتحقيق ما نسب إليه، فتوفي إلى رحمة ربه قبل الانتهاء من التحقيق.
وفي عهد قريب من بداية القلاقل وظهور المهدية عزل أحد الباشوات الكبار، وكان برتبة فريق وقائد عام الجنود وقائمقام الحكمدار غوردون باشا في غضون تجوله في السودان؛ لما نسب إليه من ظواهر معاقرة الخمور، وتهيئة مجالس المنادمة والطرب، ومخادنة خليلة، اشتهرت به يومئذ، وقد أبرق إلى سمو الخديوي بالشكوى من ذلك العمان المرحومان محمود بك محيي الدين، وحسن بك عبد المنعم، وأيد شكواهما قنصلا إيطاليا واليونان.
وبالجملة أن سكان الخرطوم هيئة قوية معروفة أفرادها لدى الأعتاب الخديوية، يرفعون إليها شكاويهم عن كل اعوجاج، حين يفزع إليهم أعيان البلاد من كل الأقاليم ليتوسطوا في إنصاف المظلومين، وإجراء العدل، ووضع الأمور في نصابها، وقد سمعت بوقوع محاكمات لمديري المديريات، فقد كان علي بك الكردي مدير فاشودة قد اعتدى بالضرب بالفلقة والكرباج على منقريوس أفندي أبو دوس باشكاتب مديرية فاشودة، ولما اتصل الخبر بأعيان الخرطوم شكوا للخديوي رأسا، فجيء به محبوسا رهن التحقيق والمحاكمة، وولي بدله المرحوم يوسف بك كردة، وما زال علي بك الكردي في الخرطوم حتى أرضى الشاكين بدفع تعويض لصاحبهم المجني عليه وانتهت القضية صلحا، ولكن الخديوي توقف عن المصادقة على الصلح حتى وقعت كارثة مقتل يوسف بك كردة في واقعة ثورة الشلك فرؤي العفو عن علي بك الكردي وإعادته إلى فاشودة لتأديب الثوار والأخذ بالثأر، وقد نجح في هذا الصدد أكبر نجاح، ولم تقم قلاقل وثورات بعدها؛ إذ انتزع الملك «كاتكير» الثائر، وقامت بعده أسرة «كيكون» الذي صار الملك «كيكون بك»، وقد قتل في إحدى الوقائع التي وقعت بين الحكومة والمهدية في قدير.
ونظير هذه القصة ما هو من أسرار التاريخ المجهولة، أن المرحوم راشد بك أيمن مدير فاشودة اعتدى أيضا بالضرب على الأخ المرحوم عثمان أفندي فريد باشكاتب مديرية فاشودة، وحالما اتصل الخبر بأعيان الخرطوم رفعوا شكوى إلى الخديوي توفيق (رحمة الله عليه)، وأرسلوا الملابس الملوثة بالدماء، فأيقن راشد بك أيمن بأنه لا محالة سائر إلى ما صار إليه علي بك الكردي من الحبس والتحقيق في الخرطوم، وقد اتصل به نبأ وصول المهدي إلى قدير، فألقى القبض على عثمان أفندي فريد المجني عليه، وأودعه السجن بعد أن خاطبه بأنه سيتقدم بالحملة على المهدي، فإما أن ينتصر وينال عفو الخديوي عن جريمته، وإما أن يموت فلا يعاقب على جريمته بأيدي أهل الخرطوم من رؤساء وأعضاء المجالس التي تحقق معه وتحاكمه، وهكذا تقدم وكان من هلاكه ما لسنا بصدد الكلام عنه. ونظائر هذه الوقائع أكثر من أن أتصدى لتدوينها، وإنما أثبت هذه الوقائع ليتدبر الذين يهرفون بما لا يعرفون، وليعلموا أن اليوم غير الأمس، فلا يحكمون على تلك الأيام بالموازين المنطقية الحالية بعد أن تغيرت البلاد ومن عليها. وهل علموا أن سكان السودان كانوا في سنة 1881، 13 مليونا ونصف مليون، وسكان مصر لا يبلغ عددهم سبعة الملايين، وقال السير رجنلد ونجت باشا السردار والحاكم العام في سنة 1900 «إن سكان السودان أقل من أربعة ملايين، أي إنهم نقصوا خمسة وسبعين في المائة في مدى 19 سنة، ولكنهم اليوم على وشك أن يستعيضوا كل ما فقدوه من النفوس التي انتقصت منهم.» (4) الإرساليات العلمية من الخرطوم إلى مصر
كان أكثر الوظائف الفنية في الخرطوم يتربع على سنامها متخرجون في مدرسة الخرطوم أولا، ثم أرسلوا إلى مصر لإتمام دروسهم، وهم كثيرون جدا من مهندسين ومساحين وغيرهم، هنا أعرض لذكر واحد منهم، هو الأخ المرحوم إسماعيل صديق أفندي خاطر، وكيل إدارة بوستة السودان، أنفذ إلى مصر مع أخيه المرحوم مصطفى أفندي خاطر نظير كثيرين على نفقة الحكومة، وكان إسماعيل على جانب كبير من الاضطلاع بهذه المهمة التي لا يخفى ما كانت عليه من خطورة وتعقيد؛ إذ كان النقل بالجمال والسفن، وكان مدير البوستة إسرائيلي إيطالي يدعى «جاكمو أمبروزو»، جاء الخرطوم منذ عهد بعيد رئيسا لشركة إيطالية كبرى، كانت تتجر في حاصلات السودان من العاج وريش النعام، الذي كان إذ ذاك في الذروة، من علو سعره يكاد يكون ذهبا، ويقرب منه شأن العاج والصمغ، فعينته الحكومة مديرا للبوستة، ولكن المدير فعلا هو أخونا المرحوم إسماعيل صديق خاطر، يشغل وظيفته، باللغة العربية والإفرنسية معا، ورؤساء سائر المصالح من مواليد الخرطوم؛ سواء أكانوا مصريين أم أتراك أم سودانيين، على السواء. (5) في الإرساليات المصرية
مدرسة الإرسالية البروسيانية قد تخرج فيها عدد قليل من أبناء الخرطوم غير المسلمين، إذ لم يتخرج فيها من أبناء المسلمين غير أخوي المرحومين محمد درويش القباني وأحمد القباني، ومن نوابغ الذين تخرجوا في هذه المدرسة المثري الشهير الذي استوطن مدينة أسوان، حيث هاجر إليها في سنة 1844 المرحوم بطرس بك سركيس وكيل قنصلاتو إنكلترا في أسوان، وكان على جانب من الذكاء والحصافة، ولد بالخرطوم من والد أرمني الجنس وأم سودانية.
أخبرني في أسوان الميرالاي محمد ماهر بك وكيل محافظة أسوان «صار فيما بعد محمد ماهر باشا محافظ القاهرة»، والد صاحب المعالي علي ماهر باشا، وأصحاب السعادة إخوته العظماء، أنه جاء الخرطوم برتبة ملازم أول أركان حرب حملة الفريق السير صمويل بيكر باشا؛ لاكتشاف منابع النيل، وأن الخديوي إسماعيل أمر بتشكيل مصلحة خاصة في الخرطوم باسم «وكالة مأمورية خط الاستواء»، ولهذه المصلحة ترسانة خاصة آثارها باقية في «المقرن»، وأنه - أي: ماهر باشا - استصدر أمرا من السير صمويل بيكر بتعيين وظائف جميع موظفي هذه المصلحة، ومن جملتهم أسند وظيفة «أمين مهمات هذه المصلحة وجميع أدواتها» إلى أخي محمد درويش أفندي القباني، وأسند منصب الوكيل إلى موسيو فردريك روسيه البروسي قنصل دولة روسيا في الخرطوم. وبالإيجاز: أن هذه المصلحة ظلت قائمة تخضع لمصر مباشرة حتى خلف غوردون باشا بيكر باشا، ثم سمي غوردون باشا حكمدار عموم السودان وسواحل البحر الأحمر، فألغى اسم إدارة النيل الأبيض وسميت «ترسانة الخرطوم»، وحولت إلى الموضع الذي بقيت فيه إلى سقوط الخرطوم في محل قسم الأشغال شرق السراي. وقد أدركت كثيرا من موظفي هذه المصلحة، منهم: العم المرحوم على أفندي حسين باشكاتب تلك المصلحة، وابنه المرحوم مصطفى أفندي علي حسين الموظف بمصلحة الوابورات في الحكومة الحالية، والمرحوم البلولة أفندي محمد الحسن من كبار رؤساء الأقلام في تلك المصلحة ومحاسب المصلحة القضائية في هذه الحكومة- رحمة الله عليهم.
فكاهة
فكاهة تاريخية: أخبرني بها العم الأستاذ المرحوم الشيخ السلاوي من أعلام كتاب عصره، وابن قاضي قضاة السودان العلامة المرحوم الشيخ أحمد السلاوي، أنه كان أحد كتاب الحكمدارية في سنة 1278ه إلى 1279ه لعهد المرحوم راسخ بك، وكان كبير الكتاب إذ ذاك المرحوم قسم السيد أفندي، ويليه المرحوم محمد أفندي الحاج، فدخلت عليه عجوز جعلية، وقدمت له عريضة تظلم في مسائل أطيان زراعية، وكان منتشيا تشم منه رائحة الشراب، فاهتم بشكوى العجوز، واستدعى قسم السيد أفندي مستفهما عما تم في شكاويها السالفة، فأجابه بما أوهن حجة العجوز، فالتفتت إليه مخاطبة: «خف الله يا قسم السيد، هو «أي: الحاكم» سكران وأنت تقترش عليه»، فقال راسخ بك: «صدقت خالتي؛ أنا سكران وأنت تقترش علي يا قسم السيد»، اسمعي يا خالتي، إن محمد أفندي الحاج «مورود» محموم، وقسم السيد إذا قلت له اشرح عريضتك يقترش فيها، فخذي عريضتك واذهبي إلى منزل محمد أفندي الحاج، وقولي له سلامتك، واعرفي يومه الذي يجي فيه للديوان، وتعالي أخليه يشرح لك عريضتك «يكتب عليها»؛ يقول: «إدوا خالتي أطيانها أو جيبوا قضيتها أنا ذاتي أشوفها»، وضرب بيمينه على صدره، فودعته العجوز، فاتخذها لهجة بينه وبين قسم السيد أفندي مرارا وتكرارا كل يوم: «خف الله يا قسم السيد، أنا سكران وأنت تقترش علي .» هكذا كان الاتصال وثيقا بين الحكام والمحكومين، يضاف إلى ذلك التزاوج، فإن المواليد أكثر من أن أحصيهم: آباؤهم مصريون وأتراك وأكراد ومغاربة وسوريون وأوربيون، وأمهاتهم عربيات وسودانيات، وفي هذا العهد يوجد كثيرون من بني قبائل السودان لا يشك من رآهم أنهم مصريون؛ لما غلب عليهم من لون أمهاتهم، وإذا شاء الباحث اللبيب أن يعترض بالإشارة السطحية، والحكم بالنتائج الأخيرة، فإنه يستطيع دراسة كل ما يتطلبه بحثه الإنصافي المنشود، وإنما بدل من أن يقول لنا إن ليس من الميسور في طريق السلامة خوض تلك المواضيع بعد أن اكتنفتها ظلمات مدهشة ودوافع حائلة يقترش علينا كما يقترش العم المرحوم.
وتغافل عن أمور إنه
لا يفز بالحمد إلا من غفل
ا.ه.
التكلات أو القطاطي التي يسكنها الفقراء والعمال، وهي غرف من الطين أو الحجارة سقوفها مخروطية.
سوق سودانية قروية لبيع الحاجيات المنزلية. (6) تفاصيل عن الحكم المصري وإدارته
ذكرنا فيما تقدم أن زيلع وبربرة وهرر والصومال قد فتحت في عهد إسماعيل، وضمت إلى مصر في سنة 1875.
وزيلع وبربرة من بلاد الصومال الشمالية على خليج عدن،
2
وأهم مدنها ثغور زيلع، وهي ميناء سلطنة هرر على خليج عدن، ومركز تجاري للبن وسن الفيل والجلود وريش النعام والصمغ العربي والمر، ومن زيلع بلدة «جبرت» التي كانت منشأ آل الجبرتي، الذين ظهر منهم المرحوم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ المصري المشهور في آخر عهد المماليك، وعصر نابليون، وعهد محمد علي.
سلطنة هرر
فتح الخديوي إسماعيل سلطنة هرر لأهمية موقعها، ولأنها مرتبطة بالسودان، فأرسل فرقة من الجيش المصري بقيادة محمد رءوف باشا في سبتمبر سنة 1875 فتحت «هرر» عاصمة السلطنة، وضمت إلى مصر في أكتوبر سنة 1875.
هرر تقع شرقي الحبشة وغربي زيلع، ويبلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة، وهي من البلاد الزراعية، وأهم حاصلاتها البن والقمح والذرة والفول والعدس والموز والفاكهة والقصب والقطن، وأهم صادراتها البن والصمغ وريش النعام والزعفران والمر والزبد والجلود، وتستورد من الخارج المنسوجات والنحاس والزجاج ... إلخ، ومدينة «هرر» واقعة على بعد 232 ميلا من زيلع، ويقطنها 35 ألف نسمة، وسكانها على جانب من الحضارة.
وقد أنشأت الجنود المصرية فيها دارا للحكومة، ومسجدا جديدا، وشيدت أربع ثكنات لإقامة الجند، ومنازل كثيرة للموظفين، ولم يسخر أحد من الأهلين في إقامة هذه المباني، وجعل رءوف باشا حاكما عاما لهرر، وعين أميرها السابق محمد عبد الشكور محافظا لعاصمتها، الذي لم يلبث أن قتل.
وخلف رضوان باشا محافظ بربرة رءوف باشا الذي أقاله غوردون باشا حين عين حاكما عاما للسودان، وأعاده إلى مصر، وخلفه سنة 1880 محمد نادي باشا، الذي وجه عنايته إلى استتباب الأمن وتحصين المدينة، وفي سنة 1882 عين علي رضا باشا خلفا لنادي باشا، وظل الحكم مستقرا في تلك البلاد إلى أن أكرهت حكومة مصر على إخلاء السودان وملحقاته، وانسحبت القوات المصرية سنة 1885، وكان مجموع المصريين الذين انسحبوا من هرر 8571 من الجنود والموظفين ورجال البوليس والعمال، والنساء والأطفال من عائلات الجند والموظفين.
وقد أغار عليها ملك الحبشة وضمها إلى أملاكه، وما زالت تابعة لها إلى اليوم.
فتح الصومال
فتح الخديوي إسماعيل بقية بلاد الصومال، فأرسل حملة سنة 1875 بقيادة الأميرال ماكيلوب باشا فتحت رأس «حافون» جنوبي رأس جردفون «جردفوي»، وبلدة «براوة» الواقعة شرقي نهر الجوبا «الجب»، وبلدة «قسمايو» «بور إسماعيل» الواقعة على مصب «الجب»، وانسحبت الحملة من الجوبا في يناير سنة 1876، وعادت إلى مصر.
وقد عقدت الحكومة الإنجليزية مع مصر معاهدة في 7 سبتمبر سنة 1877، وقع عليها شريف باشا وزير خارجية مصر بالنيابة عن الحكومة المصرية، والمستر «فيفيان» قنصل إنجلترا العام بالنيابة عن الحكومة الإنجليزية، أقرت الحكومة الإنجليزية في هذه المعاهدة سلطة الحكومة المصرية في سواحل الصومال الشمالية.
واعترفت مصر بأن تبقى «بربرة» و«وبولهار» ثغرين حرين، وأن لا تعطى فيهما أي امتياز أو احتكار لأحد ما، ولا تأذن بإجراء أي عمل يعطل حركة التجارة فيهما، وأن لا تأخذ رسوما على الواردات أكثر من 5٪، ولا تزيد الرسوم الجمركية على واحد في المائة من ثغور «تاجورة» و«زيلع» وسائر سواحل بلاد الصومال التابعة لها، وأن تعامل مصر رعايا إنجلترا وسفنها في تلك الجهات معاملة دولة ممتازة، وتعهد الخديوي بأن لا ينزل عن أي جزء من هذه البلاد إلى أي دولة أجنبية.
ورخصت مصر للحكومة الإنجليزية تعيين مأموري قنصليات في جميع الثغور والبلاد الواقعة على سواحل البلاد المذكورة، على أنه لا يجوز لها تعيين مأموري قنصليات من أهالي البلاد أو من أهالي البلاد المجاورة لها.
التقسيم الإداري
أدخل على التقسيم الإداري في عهد إسماعيل تعديلات قضى بها التوسع في الفتح، وضم بلاد جديدة إلى السودان، فصار مؤلفا من المديريات والمحافظات الآتية:
مديرية الخرطوم وعاصمتها الخرطوم، ومديرية سنار وفازوغلي وعاصمتها سنار، ومديرية بربر وعاصمتها بربر، ومديرية دنقلة وعاصمتها دنقلة، ومديرية كسلا أو التاكة وعاصمتها كسلا، ومديرية فاشودة وعاصمتها فاشودة، ومديرية كردفان وعاصمتها الأبيض. وانقسمت «دارفور» إلى ثلاث مديريات: «الفاشر وعاصمتها الفاشر، ودارة وعاصمتها دارة، وكبكبية وعاصمتها كبكبية»، ثم مديرية بحر الغزال وعاصمتها ديم الزبير، ومديرية خط الاستواء وعاصمتها الإسماعيلية «غندكرو»، ثم نقلت العاصمة إلى اللادو فالى ودلاي، وكانت مقسمة إلى المأموريات التالية: لاتوكا، وبو، ومكركة، ومنبوتو، وودلاي، وفويرة.
المحافظات
محافظة سواكن وعاصمتها سواكن، ومحافظة مصوع وعاصمتها مصوع، وحكمدارية هرر وعاصمتها هرر، ومحافظة زيلع وعاصمتها زيلع، ومحافظة بربرة وعاصمتها بربرة. (7) نظرة إجمالية
الجيش المصري في السودان
بلغ عدد جنود الجيش المصري في السودان، في عهد إسماعيل، نحو 30 ألف مقاتل.
استتباب الأمن
كان الأمن، بوجه عام، مستتبا في أثناء حكم إسماعيل كما سبق بيان ذلك.
الزراعة
وكانت الزراعة في عهده منتشرة؛ خصوصا القطن في السودان الشرقي، فقد أنشئت أسواق في كسلا والقضارف «أبو سن» والقلابات، وزرع الدخان، وأنشأ أمين بك «باشا» حقولا للتجارب الزراعية بجوار «الرجاف».
3
طرق المواصلات
من أهم الطرق التي كانت تسلكها القوافل أو السفن في عهد الحكم المصري:
4 (1)
من الخرطوم إلى الأبيض عاصمة كردفان 12 مرحلة بسير القوافل. (2)
من الخرطوم إلى الفاشر عاصمة دارفور 32 مرحلة بسير القوافل. (3)
من الخرطوم إلى غندكرو «الإسماعيلية» بطريق النيل، والمسافة بينهما بالبواخر في ثمانية عشر يوما. (4)
من الخرطوم إلى قوز رجب على نهر عطبرة - ست مراحل. (5)
من الخرطوم إلى دنقلة 8 مراحل . (6)
من الخرطوم إلى أبو حراز فالقضارف، والمسافة بينهما في ثلاثة أيام بالبواخر، ثم خمسة أيام أخرى على ظهور الإبل. (7)
من الخرطوم إلى قوز رجب فكسلا في ثمانية أيام بالإبل. (8)
من القضارف إلى القلابات في أربعة أيام على ظهور الإبل. (9)
من القضارف إلى «الجيرة» في يوم ونصف يوم على الإبل. (10)
من القضارف إلى كسلا في خمسة أيام بالإبل. (11)
من قوز رجب إلى سواكن في أحد عشر يوما على ظهور الإبل. (12)
من مصوع إلى سنهيت «عاصمة البوغوس» في خمسة أيام على الإبل. (13)
من سنهيت إلى كسلا في سبعة أيام على الجمال. (14)
من غندكرو إلى الدفلاي سيرا على الأقدام في تسعة أيام. (15)
من غندكرو إلى منبوتو في 34 يوما سيرا على الأقدام. (16)
من غندكرو إلى فويرة في 18 يوما سيرا على الأقدام. (17)
من غندكرو إلى لاتوكا في سبعة أيام سيرا على الأقدام. (18)
من غندكرو إلى مكركا في سبعة أيام سيرا على الأقدام. (19)
من الفاشر إلى أسيوط في أربعين يوما على ظهور الإبل.
المواصلات النيلية
نسفت الصخور، وأصلح مجرى النيل في شلال «عبكة» جنوبي وادي حلفا، فأصبح صالحا للملاحة النيلية ومرور السفن الشراعية والبواخر، وأصلحت ترسانة الخرطوم التي أنشأها محمد علي الكبير.
الملاحة البحرية والفنارات
وأنشئ أيضا في عهد إسماعيل فنار في ميناء «بربرة» على خليج عدن، وبني بها أيضا رصيف لإيواء السفن بمرفئها.
5
مشروع السكة الحديدية
وأنفق الخديوي إسماعيل نحو 400 ألف جنيه، وقيل 450 ألف، لمد خط حديدي على طول النيل من وادي حلفا إلى «حنك»، ومد من الخط نحو 57 كيلومترا، وقيل 50 كيلو فقط من وادي حلفا.
المدارس
أنشئت في السودان في عهد الخديوي إسماعيل بعض المدارس لتثقيف الأهالي، وعهد بالتدريس فيها إلى المتخرجين في مدرسة الخرطوم التي أنشأها عباس الأول.
التجارة
أنشئ في السودان في عهد الخديوي إسماعيل بيوت تجارية لها أهميتها، وبلغ عدد البيوت التجارية المملوكة للمصريين في السودان ثلاثة آلاف بيت، والمملوكة للأوربيين ألف بيت، وبلغت واردات السودان في السنة مليونين من الجنيهات، وصادراته نحو أحد عشر مليونا ونصف مليون من الجنيهات.
6
البريد
أنشأ موتشي بك مدير مصلحة البريد المصرية مكاتب كثيرة وإدارة للبريد في الخرطوم سنة 1873؛ بناء على أمر الخديوي إسماعيل، وهذه المكاتب في بلاد: الخرطوم، ودنقلة، وبربر، وكسلا، وسنار، والمسلمية، والقضارف، وفازوغلي، وكرجوع، وفاشودة، والأبيض، والفاشر، وقد أدت هذه المكاتب مهمتها، إلى أن سقطت الخرطوم سنة 1885.
التلغرافات
وبلغت الخطوط التلغرافية التي أنشئت حتى سنة 1870، 2110 كيلومترات، وبلغ عدد المكاتب التلغرافية في مدن السودان 21 مكتبا حتى سنة 1877، وقد ظلت قائمة حتى الثورة المهدية، وإليك بيان الخطوط التلغرافية والمدن التي وصلت بينها:
7 (1)
مصر - دنقلة - بربر - الخرطوم. (2)
الخرطوم - أبو قراد - الأبيض - فوجه. (3)
الخرطوم - أبو حراز - المسلمية - سنار - فازوغلي. (4)
المسلمية - الكو. (5)
أبو حراز - القضارف - كسلة - سنهيت - مصوع. (6)
كسلة - قوز رجب «على نهر عطبرة» - بربر. (7)
سواكن - كسلة. (8)
القضارف - دوكة «جنوبي القضارف» - القلابات. (9)
القضارف - الجيرة «بالقرب من حدود الحبشة.»
ميزانية السودان
كانت ميزانية السودان سنة 1878 على النحو الآتي:
8
327000 جنيه دين السودان.
579000 جنيه إيرادات الحكومة.
561000 جنيه مصروفاتها.
72000 جنيه العجز.
إحدى البواخر التي تنقل الركاب بين وادي حلفا والشلال.
حفلة رفع العلم المصري على غندكرو (الإسماعيلية) إعلانا بضمها إلى أملاك مصر (26 مايو سنة 1871).
المعسكر المصري في غندكرو (الإسماعيلية) سنة 1872.
ربونجا ملك أونيورو يصافح بيكر باشا، والجنود المصرية مصطفة لاستقباله بقيادة القائمقام عبد القادر بك حلمي سنة 1872.
الفصل العشرون
النزاع بين مصر والحبشة
بعد أن ضم الخديوي إسماعيل محافظتي سواكن ومصوع إلى مصر، قرر أن يصل بين مصوع وكسلة بخط حديدي، حيث يمر هذا الخط بسنهيت «كرن» - بكسر الكاف - ليسهل بذلك سبيل المواصلات بين السودان والبحر الأحمر، وكان يعد البلاد الواقعة بين البلدين؛ خاصة مدينة «سنهيت»، أرضا مصرية منذ أن فتحها محمد علي الكبير، ولكن النجاشي «تيودروس» ملك الحبشة عارض الخديوي وادعى أن «سنهيت» أرض حبشية، ومن ثم قام الخلاف بينهما.
وفي سنة 1867، شجر خلاف بين الحبشة والإنجليز، فقد اعتقل الملك «تيودروس» المستر كامرون قنصل إنجلترا، وبعض التجار الإنجليز، فغضبت الحكومة الإنجليزية وطالبت بإطلاق سراح المعتقلين، ولكن النجاشي رفض إجابة طلبها، ولما اشتد الخلاف بين الدولتين أرسل الخديوي إلى النجاشي كتابا بتاريخ جمادى الأخرى سنة 1284، الموافق سبتمبر سنة 1867، طلب إليه حسم النزاع، وإطلاق سراح المعتقلين، وإرسالهم إلى مصوع، وحذره من عاقبة إصراره على اعتقالهم، وبأنه في حالة نشوب حرب بين الإنجليز وبينه لا يمنع الإنجليز من اجتياز الأراضي المصرية لمهاجمته.
فأصر النجاشي على الرفض، فأرسلت إنجلترا حملة عسكرية بقيادة اللورد نابييه، وأمر الخديوي عبد القادر باشا الطوبجي - محافظ مصوع وقتئذ - بمعاونة الجيش الإنجليزي في نزوله إلى البر، وبأن يكون الأسطول المصري تحت أمره.
وقد احتل الإنجليز مدينة «مجدلا» شمالي أديس أبابا، وانتهت الحرب بفوزهم، وقتل النجاشي تيودروس، وعاد الإنجليز إلى بلادهم، وآل بعد ذلك عرش الحبشة إلى الملك «يوحنا».
حملات الجيش المصري على الحبشة
وقد رغب الخديوي في توسيع أملاك مصر من جهة الحبشة؛ لأن حدود الحبشة مرتبطة بحدود السودان، ولأن بها منابع النيل الأزرق وغيره، فجرد لذلك ثلاث حملات: (1)
حملة أرندروب
1
بك: أرسل أرندروب بك رسالة إلى الملك يوحنا يطلب إليه فيها جعل نهر الجاش حدا فاصلا بين الحبشة ومصر، فلم يعبأ بالرسالة، وسجن الرسولين اللذين أوفدهما إليه أرندروب بك، فزحفت الحملة إلى مصوع، وكانت مؤلفة من 3200 مقاتل،
2
ومعهم بطاريتان من المدافع، واستولت على «المحاسين» الواقعة جنوبي سنهيت، وتقدمت الحملة المصرية لتسبق الأحباش إلى الهجوم على «جونديت»، فحشد الملك يوحنا جيشا من ثلاثين ألف مقاتل، وفي يوم 11 نوفمبر سنة 1875 اشتبك الجيشان في «جونديت»، وحمي وطيس القتال، وانتهت المعركة بهزيمة الجيش المصري، وقتل معظم رجاله، وكان من بين القتلى أرندروب بك، وأراكيل بك نوبار محافظ مصوع، وعادت فلول الجيش إلى مصوع. (2)
حملة منزنجر
3
باشا: تولى منزنجر باشا قيادة الحملة الثانية، أقلع على رأس قوة صغيرة من الجنود يصحبه الرأس «بورو» الذي كان على خلاف مع الملك يوحنا، تاركا معظم الجند في «تاجورة»، ونزل في رأس «جيلاجيفو» الذي يبعد عن تاجورة غربا بخمسة عشر ميلا، ثم قصد بحيرة «أوسا» الواقعة في الجنوب الشرقي من الحبشة، فوصل إليها يوم 14 نوفمبر سنة 1875، وانتهت ليلة 15 نوفمبر سنة 1875 بهزيمة الحملة المصرية، وقتل منزنجر باشا وزوجته ومعظم رجاله، وعادت فلول الحملة إلى زيلع بقيادة البكباشي محمد أفندي عزت، وكان عدد الباقي منهم 150 مقاتلا.
4 (3)
حملة راتب باشا: لغسل الإهانة التي لحقت مصر، جرد الخديوي إسماعيل جيشا كبيرا على الحبشة كان مؤلفا من نحو خمسة عشر ألف مقاتل، بقيادة السردار راتب باشا ومعه الجنرال لونج باشا - من القواد الأمريكيين في الجيش المصري - رئيسا لأركان حرب الحملة، والأمير حسن باشا أحد أنجال الخديوي، وتطوع في الحملة من الأطباء المصريين الدكتور محمد علي باشا البقلي الذي قتل فيها، والدكتور محمد بك بدر، وغيرهم، فزحف الجيش المصري إلى بلدة «قورع»، وأخذ في إقامة الاستحكامات، ولم يقو الأحباش على مهاجمة قوة من الجيش المصري كانت تحتل «قياخور»؛ للاستحكامات المنيعة التي أقامتها القوة المصرية.
تعبئة القطن في الأكياس من الحقول.
ونشبت معركة كبيرة في «قورع» يوم 7 مارس سنة 1876 انتهت بهزيمة الجيش المصري، وأسر من المصريين نحو 250، وكان ضمن الأسرى المصريين محمد رفعت بك رئيس القلم التركي بديوان الجهادية، الذي سعى في عقد الصلح مع الملك يوحنا، على أن تنسحب الجنود المصرية من أرض الحبشة ويرد الملك يوحنا الأسرى إلى مصر، ويفتح طريق التجارة بين مصوع والحبشة، وقد نجحت مساعيه وعقد الصلح، وبقيت سنهيت من أملاك مصر.
الفصل الحادي والعشرون
تجارة الرقيق ومنعها
اشتهرت إفريقيا والسودان بالاتجار في الأرقاء، باختطاف الزنوج والعبيد وبيعهم، وكان من أسباب الثورة المهدية منع تجارة الرقيق، وقد رأينا أن نعقد هذا الفصل للكلام على تجارة الرقيق ومنعها.
لغة:
الرق - بالكسر - العبودية، وهو مصدر، رق الشخص يرق - من باب ضرب - فهو رقيق، ويتعدى بالحركة وبالهمزة، فيقال: رققته أرقه من باب قتل، وأرققته فهو مرقوق ومرق، وأمة مرقوقة ومرقة، قاله ابن السكيت، ويطلق الرقيق على الذكر والأنثى، وجمعه أرقاء، مثل: شحيح وأشحاء، وقد يطلق على الجمع أيضا، فيقال: عبيد رقيق، وليس في الرقيق صدقة، أي: في عبيد الخدمة.
شرعا:
الرق:
1
ذل ركبه الله على بعض عباده جزاء عزوفهم عن طاعته، والرق الشرعي لا يترتب إلا عن أسر شرعي.
والأسر الشرعي هو الذي يحصل في أثناء حرب، وفي دار حرب مع القوم الكافرين، والحرب لا تكون حربا شرعية إلا إذا أمر بها الإمام جهادا في سبيل دين الله، يشترط لشرعيته أن تسبقه دعوة الكفار إلى الإسلام أو الجزية، فإذا أبى القوم الكافرون الإسلام أو دفع الجزية قاتلهم المسلمون، فإذا قهروهم ضربوا الجزية على جماجمهم، والخراج على أراضيهم.
ورد في «كتاب السير» للسرخسي، في الجزء العاشر منه، صحيفة 30: «وإذا غزا الجيش أرضا لم تبلغهم الدعوة لا يحل لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ ليعرفوا أنهم على ماذا يقاتلون»، وهو معنى حديث ابن عباس (رضي الله عنه): «ما غزا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قوما حتى دعاهم إلى الإسلام، ولو قاتلوهم بغير دعوة كانوا آثمين في ذلك ...» إلى أن قال حكاية عن شرط استباحة رقاب الكفار وأموالهم: «ولكن شرط الإباحة تقديم الدعوة، فبدونه لا يثبت»، وإذا ظهر عسكر المسلمين على بلد القوم الكافرين، ودخلوها بإذن الإمام، وغنموا من العدو ماله ورجاله، كان لهم تملكها واقتسامها بإذن الإمام، وإن دخلوها بغير إذن الإمام عد ما يغتنمونه من رجال ومال اختلاسا، وعد الآخذون متلصصين، وعد فعلهم خطفا. ورد في «المبسوط» لشمس الدين السرخسي، في الجزء العاشر، صحيفة 32: «لسنا نسلم أن سبب الملك نفس الأخذ، بل هو قهر يحصل به إعلاء كلمة الله (تعالى)؛ ولهذا كان المصاب غنيمة بخمس، وهذا القهر لا يتم بنفس الأخذ، ولا يقهر الملاك، بل بقهر جميع أهل دار الحرب ...»
ويحتم الفقهاء على الإمام الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام، ولا يجوزون القتال قبل الدعوة؛ لأن القتال ما فرض إلا بعد الدعوة إلى الإسلام، والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهي اللسان. والثانية أهون من الأولى؛ لأن في القتال مخاطرة الروح والنفس والمال، وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك، فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها، وفي هذا من الحكمة ما فيه؛ لاحتمال أن يسلم الكفرة قبل القتال، فإن أسلموا كف المسلمون عنهم القتال، وإن قبلوا عقد الذمة كان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين «راجع ص100 من فصل السير، الجزء السابع من كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، تأليف الإمام علاء الدين أبي بكر مسعود الكاساني».
قال الفقهاء: إن الكافر إذا أسلم وهاجر إلينا ثم ظهر المسلمون على الدار فأولاده الصغار يحكم بإسلامهم تبعا لأبيهم، ولا يسترقون؛ لأن الإسلام يمنع إنشاء الرق، وورد في «المبسوط» أيضا «في الجزء العاشر ص66»: «وإذا أسلم الحربي في دار الحرب، ثم ظهر المسلمون على تلك الدار، ترك له ما في يده من ماله ورقيقه وولده الصغار؛ لأن أولاده الصغار صاروا مسلمين بإسلامه فلا يسترقون ...» وبهذا المعنى أيضا «الكاساني في كتاب بدائع الصنائع» حيث قال في صفحة100: «وأما أولاده الصغار فيحكم بإسلامهم تبعا لأبيهم ولا يسترقون؛ لأن الإسلام يمنع إنشاء الرق».
يضاف إلى هذا أن من شرائط ثبوت الولاء أن لا يكون الأب عربيا؛ لأنه إذا كان الأب عربيا فلا ولاء عليه لأحد مطلقا، حتى إن الفقهاء نصوا على أنه إن كان الأب عجميا فلا ولاء عليه لقوم الأب «راجع صفحة 436 من كتاب مجمع الأنهر الجزء الثاني».
على أن الولاء لا يثبت على فرع العتيق إلا بشرط أن يكون أبوه حر الأصل، لا ولاء عليه لأحد، فمن كان أبوه كذلك؛ سواء أكانت أمه حرة الأصل أم عتيقة، فلا ولاء عليه لأحد باتفاق الأئمة الأربعة.
واشترط الإمامان أبو حنيفة وأحمد - رحمهما الله - أن لا تكون الأم حرة الأصل، فإن كان الأب عتيقا والأم حرة الأصل فلا ولاء لمعتق الأب عندهما؛ تغليبا لجانب الحرية، ولفظ «حر الأصل» يستعمله الفقهاء في معنيين؛ «أحدهما»: من لم يجر على نفسه رق، وأن تولد من معتقة، «والثاني»: من ليس في أصله رق أصلا، والمراد هنا المعنى الأول. كذا في مجمع الأنهر، الجزء الثاني، ص425.
يضاف إلى هذه الشروط شرط آخر، ألا وهو أن يموت العتيق قبل المعتق، «فلو مات المعتق قبل عبده لا ينتقل الولاء لعصبته. راجع ص91 من كتاب أحكام إرث الوارث للعلامة أبي بكر بن عبد الرحمن بن محمد بن الشيخ شهاب الدين.»
وعلى مدعي الرق والعتق أن يثبت إذن: (1)
أن العتيق كان كافرا، وكان في دار حرب، وكان بالغا رشيدا، لا صغيرا غير مكلف وقت أسره. (2)
أن يبين مسقط رأسه، ويعين القوم الذي كان يمت الأسير إليهم، والواقعة التي أسر فيها، وتاريخها وموقعها، وفي أي تاريخ أسلم، وهل أسلم وهو في دار الحرب أو أسلم بعد انتقاله إلى دار الإسلام؟ (3)
أن إمام المسلمين بدأ دعوته هو وقومه إلى الإسلام أو دفع الجزية فرفضوا، فحارب مع قومه عساكر المسلمين فوقع في أسرهم. (4)
أن عسكر المسلمين دخلوا بلد القوم الكافرين بإذن الإمام. (5)
أن الأسير ما كان عربيا، وما كان حر الأصل، وأن أم المتوفى ما كانت حرة الأصل. (6)
إثبات العتق بتقديم ورقة العتق. (7)
إثبات أن العتيق مات قبل معتقه. (8)
إثبات أن المعتق حفظ لنفسه في ورقة العتق حق الولاء على رقيقه.
وإليك بيان بعض الأحوال التي فيها استرقاق وليس فيها رق بالمعنى الشرعي، وأحوال فيها رق وليس فيها ولاء، وأحوال فيها رق وولاء وليس فيها إرث: (1)
لو أعتق حربي في دار الحرب عبده فلا ولاء عليه، فهذا عتق حاصل بالفعل، ولكنه لا يوجب الولاء. (2)
أسر مسلما واسترقه ثم أشهد بأنه أعتقه، مثل هذا الإعتاق لا يوجب الولاء؛ لأن الرق باطل في أصله، إذ الحرية المتأكدة بالإسلام لا يجوز إبطالها بالرق. قال الإمام محمد - رحمه الله - وإذا أسلم أهل مدينة من مدائن أهل الحرب قبل ظهور المسلمين عليهم كانوا أحرارا، لا سبيل عليهم، ولا على أولادهم ونسائهم، ولا على أموالهم، ويوضع على أراضيهم العشر دون الخراج، وكذلك إذا صاروا ذمة قبل الظهور عليهم «ص160 من الجزء الثاني من كتاب الفتاوى العالمكيرية.» (3)
وادع مسلم دار الحرب على أن يؤدي أهل الحرب كل سنة مائة رأس إلى المسلمين، فإن كان هذه المائة من أنفسهم وأهاليهم وذراريهم لا يصح ذلك؛ لأنهم وأولادهم بأجمعهم دخلوا تحت الأمان، فلا يجوز استرقاقهم وتملكهم «ص19 من الجزء الأول من كتاب الفتاوى الأنقروية.» (4)
دخل مسلم دار حرب بغير إذن الإمام واختطف صبيا واسترقه ثم أعتقه، فلا ولاء؛ لأن الاسترقاق هنا ليس في الحقيقة والواقع إلا استخداما قهريا. (5)
استرق رجل عربيا ثم أعتقه، فلا ولاء؛ لأن العربي لا يجوز استرقاقه. (6)
استرق رجل مسلما مولودا من أبوين حرين ثم أعتقه، فلا ولاء؛ لأن الإسلام يمنع إنشاء الرق. (7)
الأصل في اللقيط أن يكون حرا. فلو استرقه رجل ثم أعتقه فلا ولاء له عليه؛ لأن الحرية مانعة لصفة المملوكية والرق، الولاء هنا معدوم، ومجرد الإشهاد بالإعتاق لا يوجب الولاء. (8)
جليب باعه نخاس - ولو مجلوبا من غير دار الإسلام - ثم أعتقه سيده فلا ولاء؛ لأن حالة الجليب كانت حالة استخدام قهري لا حالة رق شرعي؛ الولاء شرعا عصوبة، فهل العصوبة تحصل من مثل هذا الاستخدام القهري؟ لا قائل بذلك أبدا. (9)
إذا أعتق حربي عبده الحربي في دار الحرب لم يصر بذلك مولى له، حتى لو خرجا مسلمين إلى دار الإسلام لا ولاء له، وهذا قول أبي حنيفة والإمام محمد - رحمهما الله - لأنه لا يعتق عندهما بكلام الإعتاق، وإنما يعتق بالتخلية، والعتق بالتخلية لا يوجب الولاء.
2 (1) تاريخ الرق
الرق قديم في العالم، فمنذ أبعد العصور كان الغزاة يجمعون الأسرى ويوزعونها على القواد والأقوياء كما توزع الغنائم، وكانت تتألف العصابات المسلحة للسطو على البلاد وأخذ الرقيق، حصل هذا في أوربا وآسيا وإفريقيا؛ ولذا كان هناك الرقيق الأبيض والرقيق الأسود، وكان الرقيق يستخدم في الخدمة المنزلية والزراعة والأعمال القاسية، كما يختار النساء الجميلات للزواج أو للمتاع.
والمماليك من الجراكسة والأكراد والقوقازيين نوع من الأرقاء، ويوجد الرق عادة في البلاد البعيدة عن المدنية، وحيث يعيش الناس متنابذين، وحيث يسود الفقر والجهل.
وإذا كانت تجارة الرقيق ممنوعة اليوم بالمعاهدات، وبتقدم الفكرة الإنسانية، فإنه لا يزال العالم يرزح تحت الرق. فيوجد رق وتجارة رقيق في الحبشة، وتوجد عصابات قوية بالمال، تخضع الفتيات وتتجر بأعراضهن، وتنفذ أوامرها بالتهديد والوعيد إلى جانب الوعود البراقة.
اجتماع قبائل الزنوج «الشلك» ومعهم حرابهم ودروعهم وطبولهم.
كان سكان إفريقيا الأصليين من الزنوج والعبيد، فلما هاجر إليها الآسيويون ثم الأوربيون نزلوا عند سواحل البحار، وتوغلوا في الداخل عند شواطئ الأنهار، فكان الزنوج يفزعون من هذه الغزوات، ويعتصمون بالجبال، ويفرون من الغزاة في الغالب؛ والغزاة أوفر مدنية وذكاء وعلما ومالا ودينا، وكان بين الزنوج من يبيع أولاده بسبب الفقر.
أما في السودان، فالغزاة من الفراعنة ثم من العرب، ملكوا الرقيق، على اعتبار أنه من أسرى الحرب، وأن الدين الإسلامي يسمح به.
وفي الرسوم المنقوشة على جدران المعابد المصرية الفرعونية يشاهد المصريون مقيدين أسرى السودانيين.
وقد اشترك في الاستيلاء على الرقيق بعد العرب، الأتراك الذين كانوا يرسلون الرقيق والخصيان إلى إستانبول، وإلى الحريم في قصور السلاطين والأمراء والوزراء والقواد والحاشية السلطانية، بل شوهد الرقيق الأسود في قصور فيينا وموسكو في القرون السابقة.
وكان لتجار الرقيق جيوش من العبيد؛ لأنه يستحيل البقاء في المراكز التجارية من غير القوات المسلحة، وكان للرقيق أسواق في الأبيض وفاشودة والقضارف والقلابات والخرطوم والمسلمية وود مدني وسنار وكلار وشندى وبربر، وكان الرقيق يرسل إلى الحجاز ومصر. (2) الخصيان
ومن الرقيق الخصيان، وهم الغلمان العبيد، تحفر الحفرة ويوضعون فيها جماعات بعد إزالة أعضائهم التناسلية بحديد محمي، وهي عملية قاسية ووحشية يموت بها أكثر من سبعين في المائة من الغلمان، ويعانون من جرائها آلاما محزنة، ومن الخصيان أولئك الأغوات
3
في قصور الملوك والأمراء والعظماء، يؤمنون على خدمة «الحريم» لانتفاء شبهة التعرض للأعراض عنهم. •••
وقد جاء في كتاب «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان» تحت عنوان: «فصل في الخصيان المعروفين في مصر بالطواشية» ما يلي:
ولما كانت ملوك السودان أكثر الناس للنساء جمعا وأبذلهم في ذلك وسعا، كان يوجد عند الملك من الخصيان عدد كثير وجم غفير، فيوجد عند سلطان دار الفور نحو الألف أو أكثر، وعليهم ملك منهم، وهم له كالعساكر، وهو الذي يرتب في بيت السلطان ما يلزم منهم للحراسة، ويبقي عنده ما زاد إلى وقت الحاجة. والخصيان مكرمون عند الأكابر؛ خصوصا في دار الفور، فإن لهم فيها سطوة، وأي سطوة! والكلمة النافذة والقوة ومقام ومقال وحال لا يماثله حال، حتى إن لهم هناك منصبين جليلين لا يتولاهما غير خصي؛ أحدهما: منصب الأبوة، والثاني منصب الباب، وأقول إن منصب الباب غير مختص بدار الفور، بل في تونس، وفي قسطنطينية كذلك، وأصل الخصيان الذين في دارفور من بلدروكا، يخصونهم هناك ويأتون بهم إلى دارفور.
طريقة الخصي
ثم قال:
يوتى بمن يراد الفعل به فيضبط ضبطا جيدا، وتمسك المذاكير «أعضاء التناسل عند الذكور» وتستأصل بموس حاد، ويوضع في ثقب مجرى البول أنبوبة صغيرة من صفيح؛ لئلا ينسد، ويكون قد سخن السمن على النار تسخينا جيدا حتى غلي، ثم يكوى به محل القطع، وبعد أن يكون محل القطع جرحا حديديا ينقلب جرحا ناريا، ثم يداوى بالتغيير عليه بالتفتيك والأربطة، حتى يشفى أو يموت، ولا يشفى منه إلا القليل.
فإن قيل إن في هذا تعذيبا للحيوان الناطق، وقطعا للتناسل المأمور بكثرته شرعا، فهو حرام؟ قلت نعم، قد صرح غير واحد من العلماء بحرمته؛ خصوصا جلال الدين السيوطي - رحمه الله - فإنه صرح بالتحريم في كتابه الذي ألفه في حرمة خدمة الخصيان لضريح سيد ولد عدنان، لكن الحرمة على الفاعل، وإنما يخصي الخصيان قوم من المجوس، ويأتون بهم إلى بلاد الإسلام فيبيعونهم ويهادون بهم، ولا يخصى على يد المسلمين منهم إلا القليل النادر، وأما استخدامهم بعد الخصي فلا ضرر فيه، بل فيه ثواب عظيم؛ لأنهم لو لم يستخدموا لحصل لهم الضرر من وجهين؛ الأول: مما وقع عليهم من الخصي الموجب لفقده اللذة العظيمة وقطع التناسل، والثاني: من ضيق المعيشة.
وقد تألفت في لندن جمعية سنة 1787 للدعوة لمنع الاتجار بالرقيق، وانتشرت الجمعيات في أوربا لهذا الغرض، وأقنعت الحكومات بأن تتدخل لمنع تجارة الرقيق، وعقد مؤتمر بروكسل في 2 يوليو سنة 1890.
وقد كان لمصر جهود موفقة احتملت في سبيلها تضحيات من المال والجند، وفقد السودان نفسه لمنع تجارة الرقيق في السودان، فأعلن محمد علي باشا عند زيارته للسودان سنة 1839م إبطال تجارة الرقيق، وحذا حذوه محمد سعيد باشا في زيارته للسودان سنة 1858م، أما إسماعيل باشا فكان اهتمامه بمنع الاتجار بالرقيق يفوق الجهود السابقة، منذ ولي حكم مصر سنة 1863م، فصادر 70 مركبا محملة بالرقيق بين كاكا وفاشودة، ودعا ملك الشلوك إلى الخرطوم فسلمه رقيق بلاده، وسجن التجار، وأفرج عنهم بعد تعهدهم بعدم العودة إلى تجارة الرقيق، ولقد كان منع تجارة الرقيق من أسباب الثورة المهدية ونجاحها.
محمد بك الملك من سلالة ملوك أرقو.
ومن أهم الوثائق التي عقدتها حكومة مصر الوفاق الذي أمضته مع بريطانيا العظمى بتاريخ 21 نوفمبر سنة 1895، وهو الوفاق الذي تلاه الأمران العاليان الصادران في يوم 21 يناير سنة 1896، وفي الأول جعلت الحكومة المصرية جلب الأرقاء جناية من الجنايات الكبرى التي يعاقب عليها بالإعدام، ثم توسعت فعدت مجرد إحراز الرقيق لأجل بيعه جناية يعاقب عليها بالأشغال الشاقة من ثلاث سنوات إلى سبع سنوات، وجعلت مجرد بيع أو شراء الرقيق أو المقايضة عليه جناية يعاقب عليها بالأشغال الشاقة من خمس سنوات إلى عشرة، كما أنها عدت رؤساء العائلات الذين يدخلون رقيقا في منازلهم مجرمين، وعدت كذلك من منع معتوقا من التمتع بتمام حريته، أو من التصرف بشخصه مجرما يعاقب بالحبس، وغير ذلك من الأحكام الصارمة. وفي الأمر العالي الثاني أحالت المجرمين على محكمة الاستئناف الأهلية المشكلة من خمسة قضاة؛ لمحاكمتهم على ما يرتكبونه من الجنح والجنايات الخاصة بالرق والاسترقاق.
جميع المعاتيق في مصر كانوا أناسا اختطفهم النخاسون
4
خطفا، وباعوهم كالسلع في الأسواق، ثم تداولتهم الأيدي بيعا وشراء، فانتقلوا من شخص إلى شخص، ومن أسرة إلى أسرة، ومن بلد إلى بلد، إلى أن استقر بهم الحال عند شخص رأف بهم فحرر لهم «ورقة عتق»، على اعتبار أن الشخص مملوك له حقا، تنطبق عليه شروط الرق المقررة في الشرع، وما هو في الحقيقة إلا حر مقيد الحرية فقط، لا مالكية ولا مملوكية، لا في نظر الشرع ولا في نظر القانون، فيسرع هذا السجين المسكين إلى قبول العتق رجاء الخلاص من ربقة الذل والهوان، فإذا ما توفاه الله سارع معتقه أو أولاد معتقه إلى أمواله مطاولين أيديهم للاستئثار بها، مزاحمين أو حارمين الورثة الشرعيين الذين هم من ذوي قرابة المتوفى، وأحق بأمواله منهم. •••
جاء في كتاب «تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل» للأستاذ إلياس الأيوبي:
فلما آل العرش إلى «إسماعيل» وصمم هذا العاهل - كما قلنا - على إدخال بلاده بصراحة في مضمار المدنية الغربية، وطن نفسه على إبطال الرق توطينه إياها على إلغاء العونة والسخرة.
وكانت النخاسة إذ ذاك في أشدها، بالرغم من مقاومة محمد علي وسعيد لها، وبالرغم من عمل الحكومة المصرية على تقليل توريد الأرقاء نيلا، وإبطالها أسواق الرقيق الرسمية بمصر والإسكندرية وطنطا، وغيرها من البنادر.
فالبحارة في جهات النيل الأبيض، والنخاسة في جبال النوبة وجبال فازوغلي وفي جهات كردفان الجنوبية، كانوا لا يفتأون عاكفين على صيد السود بقوة السلاح كأنهم وحوش برية، وسبيهم والسير بهم إلى الأسواق في الأبيض وفاشودة والقلابات؛ حيث كان الجلابون يشترونهم منهم، وبعد أن يبيعوا أقلهم قيمة في أسواق الخرطوم والمسلمية وود مدني وسنار والقضارف وكسلا وبربر وشندى، ينزلون بأقواهم وأجملهم الى مصر؛ إما عن طريق النيل، في مراكب يرفعون عليها رايات دول عربية ليحتموا بها، وإما عن طريق الصحراء إلى أسيوط، حيث كان يوجد معمل للخصي يديره قسوس من الأقباط حازوا في أنهم من أمهر الناس في إجراء ذلك العمل الفظيع شهرة شائنة، وينسلون منها سرا إلى مصر والإسكندرية وأهم بنادر القطر، ويعرضون بضائعهم البشرية على الراغبين فيها، إما باطلاع الحكومة وموافقتها الصامتة، وإما خفية وخلسة بمساعدة شركاء لهم معلومين.
وكان ثمن الولد الأسود، أو البنت السوداء التي من عمره، ما بين عشرة جنيهات واثني عشر جنيها، وثمن الصبي الحبشي ما بين 20 و30 إلى 90 جنيها و100 جنيه، وثمن البنت الحبشية التي سنها ما بين الثانية عشرة والسابعة أو الثامنة عشرة من 70 جنيها إلى 100، وكان ثمن الرقيقات التي سبق استخدامهن أرخص من غيرهن، إلا إذا كن صاحبات حرف؛ كأن تكن طاهيات أو ما شاكل ذلك، فإنهن في مثل هذه الحال كن يبعن بثمن أعلى.
وأما الخصيان فكانوا أعلى ثمنا من الجميع؛ لندرتهم، والسبب في ندرتهم قلة نجاح عملية الخصي، وموت تسعين في المائة من الذين كانت تعمل لهم.
وكان يوافي جلابو الرقيق الأبيض والأسود إلى تلك الأسواق، والفرق بين الرقيقين جسيم جدا؛ لأن الرقيق الأبيض كان اختياريا، وأما الأسود فكان مجلوبا قسرا. وكان ثمن الجارية البيضاء يختلف بين 200 و500 جنيه، ويتراوح أحيانا تبعا لجمال الجارية المبيعة ما بين 800 جنيه و1000 جنيه.
وكان الراغبون في الشراء كثيرون؛ إما لسد فراغ أحدثه الموت في عدد الأرقاء الموجودين في بيوتهم، والموت كان كثير الزيارة للأرقاء، وأغلب ما كانت أعمارهم قصيرة. وإما للمغالاة في مظاهر الأبهة والترف، فقد كانت توجد بيوت غاصة بالمئات من الجواري، ولا يعرف أربابها منهن إلا القليلات، فيقبلون أفرادا أفرادا على محلات الجلابين، ويشترون من يطيب لهم من الرقيق المعروض، وهم أبعد من أن يفتكروا حتى - ولا في المنام - بالفظائع والآثام والجرائم التي ارتكبت في سبيل تموين بيوتهم، وسد حاجة معيشتهم القومية، وأبعد من أن يفتكروا بأن النخاسة كانت تنتزع سنويا أكثر من خمسين ألف أسود من حقولهم ورباعهم ومراعيهم، فلا يبقى منهم حيا كل سنة بعد المشقات يقاسونها سوى عشرة في المائة، وأن النخاسين كانوا حتى بعد وصول الرقيق لمصر يحتقرون حياة أولئك البؤساء إلى درجة أن اثنين منهم تخاصما مرة على ملكية بنت سوداء، فطعنها أحدهما بخنجر لكيلا يأخذها خصمه.
إلى أن قال:
وكان الجلابون يتحاشون بيع رقيق إلى أوربيين، ولا يقدمون على ذلك إلا بحيطة كبرى؛ لعلمهم بأن معظم الإفرنج ميالون إلى إظهار نقمتهم على تجارتهم البشرية، أو التظاهر بها؛ رغبة منهم في وقوفهم موقف ذي الشعور الرقيق والإحساس الشفيق.
فما مضت على تبوؤ إسماعيل عرش أبيه وجده بضعة أشهر إلا وأصدر أوامره المشددة إلى موسى حمدي باشا، المعين من قبله حاكما عاما على السودان، بتعقب تجار الرقيق وقطع دابرهم، فألقى موسى باشا في تلك السنة عينها - وهي سنة 1863- القبض على سبعين مركبا مشحونة بالأرقاء بين كاكا وفاشودة، وأتي بالمسبيين إلى الخرطوم، ثم أحضر ملك «الشلك» من فاشودة فسلمه الرقيق الذي أخذ من بلاده، ورجعه بالهدايا إليها، ووزع الباقين على التجار والموظفين لتربيتهم. وأما النخاسون فإنه زجهم في السجن، ولم يخرجهم منه حتى تعهدوا بعدم العودة إلى مثل تلك التجارة - وعود عرقوبية باطلة. (3) قرصان البحر
كان قرصان البحر يأسرون البواخر بمن فيها، فيختارون البنات والأولاد والسيدات ويأسرونهم، ثم يبيعونهم في أسواق لشبونة عاصمة البرتغال، وفي أسواق أشبيلية ببلاد الأندلس . ولما كثرت فظائع القرصنة النخاسية، وعلا صراخ الناس من القسوة التي كان القرصان والنخاسون والجلابون يعاملون بها أسراهم، ثار برلمان إنجلترا، وطلب من الحكومة أن تتدخل في الأمر، وتمنع أعمال القرصنة والنخاسة في العالم بأسره. فاتفقت إنجلترا مع جميع الدول؛ دولة دولة، على إبطال الرق من عموم العالم، وبدأت هي فأصدرت بتاريخ 28 أغسطس سنة 1833 مرسوما أقره مجلس النواب ومجلس الشيوخ، ووافق عليه الملك، أبطل فيه الرق من جميع المستعمرات التابعة لها، وكان فيها - وقتئذ - 800000 رقيق، فأعتقتهم كلهم، ودفعت من خزينتها مبلغ 20000000 جنيها إلى الملاك والنخاسين والجلابين بصفة تعويض، ثم اقتدت فرنسا بها فأصدرت مرسومين بتاريخ 18 يولية سنة 1845 و27 أبريل سنة 1848، بهما أطلقت حرية 250000 رقيق، ودفعت لمواليهم 5000000 جنيه بصفة تعويض. وقد ظهر للجان التي نيط بها فحص حالة الأرقاء الذين أطلقت لهم الحرية أن معظمهم باعهم آباؤهم وأمهاتهم بيع السلع مكرهين؛ بسبب ما انتابهم من فقر وجوع، فكانوا يتخلصون منهم بهذه الطريقة الهمجية. ومن لشبونة وإشبيلية كان هؤلاء الأرقاء ينتقلون مع مشتريهم إلى بلاد الشرق في تركيا وفي الأناضول وفي مصر وفي غيرها من البلدان.
5 (4) الرقيق في أمريكا
ولم يخلص العالم المتمدين نفسه حتى اليوم من تجارة الرقيق في صورة من الصور؛ ففي أبريل سنة 1935 نشرت الصحف الأمريكية حكاية فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، تسكن في غرفة حقيرة ليس فيها من الأثاث ما يستر أرضها، والفتاة صفراء اللون منحلة القوى من جراء الولادة، وبجانبها طبيب يحمل على يديه قطعة لحم هي ثمرة تهورها وانخداعها بالجنس القوي، فلما وقع بصرها على ما يحمله الطبيب قالت له بصوت يدل على الاستنكار: «أبعده عني»، فتعجب الطبيب لانتفاء عاطفة الأمومة من قلب تلك الوالدة، وقال لها: إنه طفل جميل ثقله عشرة أرطال.
ولكنها لم تعبأ بما قاله، بل ألحت عليه في إخفاء ذلك البرهان القبيح على عارها، وكان ذلك ما يتوقعه الطبيب ويريده؛ لعلمه بالربح المالي الذي أصبح الآن حلالا له بعد أن أنكرت الوالدة الشقية طفلها فهو يبيعه في سوق الأطفال بعشرة دولارات الرطل، وبأكثر من ذلك أحيانا. وهكذا أخذه وعاد إليها مرارا ليقويها ويعيدها إلى حالة الصحة، فقابلت جميل صنعه في العناية بها بدون أجرة بجميل الثناء، ولم يخطر لها ببال أنه سيبيع طفلها بما يزيد على أجرته أضعافا!
ولا يستغربن القارئ هذا؛ فإن سعر كل رطل من الأطفال في الجانب الغربي من الولايات المتحدة بأمريكا يتراوح بين خمسة دولارات وعشرة دولارات، أما في شرقيها فمختلف؛ إذ يفوز بالطفل من سوق المزاد صاحب الدفعة الكبرى، والراغبون في الحصول على اللقطاء كثيرو العدد، وكلهم من الذين حرموا نعمة الأولاد، وهي تجارة جديدة نتجت عن الضيق الحالي الذي يحمل الفتيات اللواتي عدمن المال والأعمال، على التهور بدافع الحاجة، وبإغراء الطائشين من الفتيان.
وفي ملاجئ اللقطاء جداول تحتوي على مئات الأسماء، وفي بعض الأحيان ألوف الأسماء التي يريد أصحابها تبني الأطفال، وكثيرا ما يقل الإنتاج عن الاستهلاك، فيؤدي إلى ارتفاع الأثمان، وذلك هو الباعث على ابتداع سوق الأطفال، وفي بعض الأحيان يباع الطفل قبل أن يخرج إلى العالم؛ لأن أكثرية أمهات الأطفال غير الشرعيين من الفتيات اللواتي تحت سن العشرين، وهن يسارعن إلى إبلاغ الأطباء أمر وقوعهن في هذه الورطة قبل الأجل المضروب، وهو بدوره يدبر المشتري من جداول الطالبين.
وأول ما عرف الناس بسوق الأطفال كان عندما أماطت إحدى الموظفات في جمعية الرفق بالأطفال اللثام عنها في هليوود، فقالت في مقالة نشرتها: إن الضحايا هن على الغالب فتيات في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر، والفتاة التي يشدد عليها الطبيب بدفع أجرته في الحال تسلم معه بأخذ الطفل للتبني إذا كان يسدد ما يطلب له منها، وهو يبيعه بثمن يماثل أجرته ويزيد.
وقد جرت العادة التي هي بنت الاختبار، أن الزوجين اللذين يشتريان الطفل يحتفظان به بضعة أشهر قبل المفاوضة في أمر تبنيه رسميا؛ وذلك للحيلولة دون قيام الحكومة بالتحقيق الواجب، فبعد انقضاء هذه المدة يتعذر على الحكومة إيجاد برهان على عدم شرعية ولادة الطفل، وتضيع الحقيقة بين اختفاء الأم وشهادة الطبيب ومال الرشوة.
وتوجد مثل هذه السوق في مدينة نيويورك، تباع فيها الأطفال بسعر معلوم أو بالمزاد. وقد أسفر سعي جمعية الرفق بالأطفال لاستئصال هذا الشر عن خيبة؛ لأنها تعجز عن تأييد دعاويها على الشخص الذي احتكر هذه التجارة الغريبة، فهو في كل دعوى أقيمت عليه يدعي أنه قد حصل على الأطفال بطرائق مجهولة كتبرعات لمعهده. •••
وقد نشرت إحدى الصحف الأمريكية بهذه المناسبة مقالا هاما عن تجارة الرقيق، بقلم رحالة جاب أسواق الرقيق في إفريقيا وآسيا، وقد جاء في هذا المقال أن هناك خمس عشرة دولة على الأقل لا تستطيع القضاء على النخاسة في بلادها، وأكثر هذه الدول تتمتع بعضوية جمعية الأمم: هناك جمهورية ليبريا - مثلا - فهي تساهم في جمعية الأمم منذ إنشائها، ومع ذلك تضمن تقرير لجنة التحقيق الدولية التي تألفت منذ عدة أعوام لدراسة مسألة النخاسة «تجارة الرقيق» اتهاما خطيرا لحكومة ليبريا بأنها ترسل جنودها لاقتناص الرجال والنساء، وتسخيرهم في حقول الكاكاو البرتغالية في «ساو نوميه» و«فرناندوبو»، وأن استبعاد حكومة ليبريا للزنوج بهذه الصفة أصبح موردا عاديا من موارد إيراداتها.
أما الحبشة، فيقدر عدد العبيد الأرقاء فيها بمليونين، ولكن النجاشي يبذل جهود الجبابرة للقضاء على هذه التجارة المقيتة، وقد أنشأ وزارة خاصة لمكافحة النخاسة، أسندها إلى «ليكاماكواس مانجشا» وزير الحبشة المفوض سابقا في روما. كما أنشأ للغرض نفسه لجنة برياسة سمو ولي عهده. وقد أعتق النجاشي المئات من عبيده، وأقطعهم الأراضي الزراعية، ولكن المشكلة الكبرى هي في كيفية تدبير عمل منتج لباقي العبيد إذا حرروا جميعا.
وكانت الهند كذلك من أفضل أسواق العبيد، وفي سنة 1924 أعتق مهراجا بيبال 57 ألفا من العبيد، وأعتقت الحكومة البريطانية 185 ألف عبد في تنجانيقا.
ولكن تجار الرقيق لا يزالون يواصلون عملهم بنشاط، فهم يغيرون على القرى والقبائل في الحبشة والصومال وكنيا، ويقتلون الشيوخ ويختطفون النساء والأولاد، وينقلونهم بالسفن إلى بلاد العرب عن طريق البحر الأحمر، وذلك على الرغم من وجود بواخر إنجليزية وإيطالية وفرنسية مهمتها مطاردة النخاسة واستئصال شأفتها.
والعبيد الذين يباعون في بلاد العرب يعاملون من المسلمين أفضل معاملة، فلا يستعبدون ولا يرهقون، وساداتهم يستخدمونهم في الزراعة أو نقل الماء، ويحسنون إليهم، ويسهرون على سعادتهم، ويزوجونهم.
الفصل الثاني والعشرون
الثورة المهدية
تمهيد
قبل أن ندخل في تفاصيل الثورة المهدية وأسبابها، نرى لزاما علينا أن نقول كلمة في الثورات عامة: فالثورة هي الغضبة على حالة كريهة، وهو العصيان على الأمر الواقع، والتمرد على القيود القائمة.
ويثور الإنسان كما تثور فئة قليلة، وقد يثور شعب بأسره، ولكن ثورة المرء الفرد قد تجيء وليدة الساعة، يفزع من شيء ويكرهه ويغضب عليه، فيحاول أن يزيله من سبيله وأن يتخطاه، فإذا اشتد الغضب، وغلا المرجل، وأصبحت الحالة القائمة لا تطاق، خرج الإنسان عن إرادته وهدوئه، وهاج وماج كما يهيج البحر، وكما يفور الماء المغلي ويحطم الغطاء.
والعادة أن ثورة الجماعات وغضبة الأمم تكون وليدة السنين والحوادث، وأن لها أسباب قديمة وغير مباشرة، فلا يمكن أن تقع ثورة جماعة أو أمة في حد الزمن الذي تقع فيه ثورة الفرد الأحد، ومن ثم كان للثورات أسباب بعيدة وكثيرة ومتجمعة. والثورات في حاجة إلى القادة والزعماء، وإلا كانت ضعيفة أو امتنع ظهورها. فليس هناك ثورة عامة في العالم إلا ولها زعماء وقادة، كما لها دعاة منفرون ومبشرون: منفرون من الحالة القائمة، ومبشرون بالحالة المنشودة الحسنة التي تحل محلها، وتتعدد الثورات؛ فهناك ثورات دينية يطلب فيها دفع الاعتداء على الدين أو مذهب فيه أو للدعاية له، وثورات سياسية داخلية من المحكومين ضد الحاكمين، أو من الحاكمين ضد المحكومين، وثورات خارجية، وهي الحروب التي تقع بين الأمم والحكومات.
وتؤثر في الثورات عوامل كثيرة: التجانس، واللغة، والدين، والوطنية، والعلم، والعدل، والاستعداد الحربي، وحالة العدو من قوة أو ضعف ، وحالة الجيران، والحالة الاقتصادية من رخاء أو فقر، والحالة العالمية، فإذا توافرت لشعب ثائر وحدة وطنية وجنسية ودينية، وظفر بقسط واف من التعليم والتهذيب، وكان استعداده الحربي المعنوي والمادي كاملا، وكان عدوه أضعف منه، وكانت له قيادة محترمة مخلصة، كان النجاح حليف هذا الشعب الثائر، وإذا حرم هذه العوامل، كان النصر بعيدا أو محالا؛ فنجاح الثورات رهين بتوافر هذه العوامل؛ قليلا أو كثيرا.
وقد نظرنا في تاريخ الثورات العامة فألفينا لها سببا جامعا - أوليا في كل منها - وهو الشعور بالظلم والاستعداد لمقاومته، لا يكفي أن يوجد ظلم، بل يجب أن يوجد مظلومون يشعرون بأنهم مظلومون، ولا يكفي أن يشعروا بأنهم مظلومون، فقد يكونون متواكلين يقولون «هذا أمر الله»، أو «لا حول ولا قوة إلا بالله»، أو «نحن ضعفاء وعدونا قوي»، بل يجب أن يكونوا مستعدين لمكافحة الظلم ومنافحة الظالمين بافتداء النفس وبذل النفيس.
وقد استعير لفظ «الثورة» للحركات الإنشائية والنهضات الأدبية والعلمية والنسوية، على أساس أن طلاب الإصلاح والتجديد والانقلاب ينهضون لهدم القائم من أساليب الأدب وقواعد العلم وحياة المرأة؛ لإقامة أدب جديد له مناحيه وأساليبه وألوانه وفلسفته، أو قواعد علمية جديدة، أو الاعتراف للمرأة بحقوق وإنكار حالتها من العبودية للرجل.
وفي هذه الثورات المستعارة يوجد أيضا شعور بالظلم؛ شعور بأن من الظلم أن يظل كل من الأدب والعلم والمرأة راسفا في قيود التقليد والأساليب العاجزة.
أسباب الثورة المهدية (1)
الظلم:
ظلم الكثيرين من الحكام للأهالي؛ بفرض الضرائب التي لم يحتملوها، والرشوة، وبألوان التعذيب. (2)
الشعور بالظلم والتمرد على الظالمين:
قيام الأعيان والفقهاء وأحاديث المجتمعات بالأنحاء على هذا الظلم، والتشاور في كيفية مكافحته. (3)
منع تجارة الرقيق:
كان الاتجار بالرقيق في يد الأقوياء، وكان الملوك والحكام والأعيان وأرباب الأمر والعمد ورؤساء العشائر، يستخدمون الأرقاء في منازلهم وكجند لهم، فحرمان التجار من مكاسبهم والكبراء من شيء يعدونه من ضروريات حياتهم، أدى إلى الغضب والانتقاض على الذين منعوا بيع الرقيق، وعد هذا المنع ظلما؛ لأنهم شعروا بأنهم فقدوا ركنا أساسيا في بناء حياتهم. (4)
احتكار الحكومة العاج:
وهو مادة تجارية أساسية في السودان، وقد حصل هذا الاحتكار في عهد غوردون. (5)
تعدد القبائل والعشائر في السودان ومنازعاتها:
وهي حالة توجب ثورات مستمرة، وتجعل الحاكم يستعين ببعض القبائل ضد البعض الآخر، فتثور القبائل المحرومة من تأييد الحكومة على الحكومة التي تؤازر القبائل الخصيمة. (6)
حب الاستقلال :
لقد كانت هناك قبائل وبلاد متمتعة بالاستقلال، فحرمها الحكم المصري منه، كما حدث في سلطنة دارفور، ومملكة شندى على عهد الملك نمر ومملكة أمتيسة. وإذعان هؤلاء الملوك وممالكهم للحكومة كان رضوخا للقوة العسكرية المنظمة. (7)
العقيدة الدينية الفطرية:
لم يكن يجمع قبائل السودان المتنازعة إلا جامعة الدين الإسلامي، وكان المظلومون يعتقدون أن الله - سبحانه وتعالى - لا يرضى عن استمرار الظلم، ولا يرضى عن الظالمين، وأنه لا بد مرسل إلى المظلومين رجلا تقيا مهيبا لينقذهم من الظالمين، وقد تواترت الأخبار المنقولة من بعض الكتب الدينية والمتداولة من أحاديث العامة أن هناك رجلا عظيما يدعى «المهدي المنتظر» يرسله الله - سبحانه وتعالى - في آخر الزمان لإنقاذ الأمة المحمدية والبشر كافة من الظلم؛ ولذلك كان زعماء الثورات السودانية قبل «محمد أحمد المهدي» أو بعده في حاجة إلى ادعاء المهدية؛ حتى يتفق ذلك مع المتواتر والمعتقد والمنتظر.
لقد رأيت الذين عالجوا الثورة المهدية من الأجانب والمصريين قد تحاملوا عليها، وجسموا فظائعها، وأنكروا على الثورة قيامها.
وفي رأيى أن هؤلاء المؤرخين جميعا قد أخطأوا التوفيق، وأفسد تفكيرهم ما وقع عليهم من مظالم، أو لأن الثورات كانت قريبة العهد منهم.
في جميع الثورات تحدث فظائع، وتنهك حرمات، ويحصل خراب وظلم أو حرمان لبعض الأفراد أو الطوائف.
لقد كان قيام الثورة المهدية معاصرا لقيام الثورة العرابية، وقد قامت الثورة العرابية ضد ظلم فريق من الحكام الأتراك «الجراكسة» للمصريين، وقامت الثورة المهدية لتدفع ظلم هؤلاء الحكام في السودان. فمن هذه الناحية تشبه الثورة المهدية الثورة العرابية.
وتشبه الثورة المهدية الثورة الوهابية في نجد؛ لأن كلا من الثورتين قد اصطبغ بالصبغة الدينية، وهو الرجوع بالإسلام إلى الفطرة وتجريده من البدع، ولو أن الثورة المهدية وجدت رجالا أكفاء بعيدي النظر عملوا على توطيد الحكم بعد نجاحها، لظل السودان مستقلا، بل لأمكن للثورة المهدية أن تجتاح مصر؛ حيث كانت ضعيفة معسرة ومحتلة بالجيش الإنجليزي، وأن تضم مصر إلى السودان، وأن تنجح غزوة ابن النجوي لمصر، كما نجح ابن السعود في ضم الحجاز إلى نجد، وقد أشبهت الثورة المهدية ما حدث في الجزيرة العربية عقب الرسالة المحمدية والدعوة الإسلامية، من توحيد كلمة القبائل المتنافرة تحت شعار واحد، ففي الثورة المهدية شعار المهدية، وفي الدعوة الإسلامية الرسالة النبوية.
على هذه الصورة يجب أن تفهم الثورة المهدية، أما التحامل عليها والنيل من زعيمها السيد محمد أحمد المهدي، والاكتفاء بتضخيم الفظائع وتعداد المظالم، فليس من الإنصاف التاريخي في شيء. يجب علينا أن نعالج الثورة المهدية كما نعالج الثورة العرابية والثورات العامة الأخرى.
أسباب نجاح الثورة المهدية
نجحت الثورة المهدية: (1)
لشخصية زعيمها السيد محمد أحمد المهدي، فقد كان فقيها تقيا نزيها، وصاحب عقيدة تتحول الجبال ولا يتحول عنها، وكان لها أنصار كثيرون من ذوي العقيدة والتفاني. (2)
لأن المهدي أعلن أنه «المهدي المنتظر»، وكان السودانيون ينتظرون من قديم ظهور هذا المهدي المنقذ. (3)
ظلم الحكام وضعفهم: ما اقترفه بعض الحكام والموظفين من مظالم، مع ضعفهم. (4)
ضعف الحاميات المصرية بالنسبة لاتساع السودان، وبسبب الثورة العرابية وضعف الحكومة المصرية أمام رعاياها وأمام الأجانب. (5)
اضطراب حالة الحكم في مصر ونظمه، فكلما ضعفت آلة الحكم في مصر ظهر ذلك في السودان، ونفوذ مصر ضعيف الآن في السودان؛ لأن النفوذ الوطني ضعيف في توجيه الحكم الآن في مصر نفسها، وليس معقولا أن تكون الحكومة المصرية ضعيفة أمام الاحتلال ثم يكون نفوذها غير ضعيف في السودان، وهذا الضعف حالة ظهرت منذ الاحتلال. (6)
عسر الحكومة المصرية وتقليلها - أخيرا - الأموال التي كانت تغدقها في بناء مدنية السودان، تلك المدنية التي لا تقوم إلا بأموال خارجية تنفق على السودان، وإلا عاد إلى بداوته. (7)
تردد الحكومة المصرية في مكافحة الثورة. (8)
دسائس فريق من الأجانب والنفعيين لتأليب السودانيين على المصريين. (9)
اتجاه الإنجليز إلى إخلاء السودان من الجيش المصري؛ لا سيما بعد احتلالهم مصر وضعف الجيش المصري.
أسباب فشل الثورة المهدية بعد نجاحها (1)
وفاة المهدي في السنة الثانية بعد سقوط الخرطوم. (2)
الخلاف بين الخليفة عبد الله التعايشي والخليفتين شريف وابن الحلو. (3)
سعي التعايشي لإقامة ملك ومملكة، وتقريب التعايشيين ومحاباتهم على غيرهم. (4)
وقوف حركة التجارة وانتشار الأوبئة والمجاعات. (5)
اختلاف القبائل مع ضعف القيادة وجهلها. (6)
المظالم والفظائع التي ارتكبت من بعض أنصار المهدية. (7)
موت الملايين بسبب الأوبئة والأمراض. (8)
عدم رضا العالم الإسلامي وخليفة المسلمين عن الحركة المهدية وتعاليمها، وإنكارهم على صاحبها أنه «المهدي المنتظر». (9)
إعادة تنظيم الجيش المصري وأسلحته، وحسن قيادته ونشاط قلم مخابراته.
الفصل الثالث والعشرون
شريف باشا والسودان
المشهور والمحقق أن المغفور له محمد شريف باشا رئيس مجلس النظار
1
حتى سنة 1884 قد طلب إليه إخلاء السودان وجلاء الجيش المصري عنه، وقد أبى قبول هذا الطلب، واستقال محتجا، ولا تزال استقالته وصيغتها مرجع الكتاب الذين يكتبون عن السودان، ومفخرة للوطنيين المصريين الذين يرون استمرار ارتباط السودان بمصر، وأن النيل قد وحد بين مصر والسودان.
محمد شريف باشا.
وليس هذا الموقف الوطني التاريخي لشريف باشا هو الموقف الوطني الوحيد المشرف، بل إن للمترجم له مواقف وطنية رائعة؛ ولذا نرى لزاما علينا أن نترجم حياة هذا الرجل العظيم. •••
ولد الفقيد «محمد شريف باشا» بالقاهرة في نوفمبر سنة 1826؛ أي في أثناء حكم محمد علي، وفي إبان نهضته وفتوحه، وشريف باشا هو ابن حضرة صاحب السماحة محمد شريف أفندي قاضي قضاة مصر
2
وقتئذ، وكان تركيا، وبعد انقضاء مدة قاضي القضاة عاد إلى إستانبول «الأستانة» ومعه ابنه المترجم له، الذي كان - يومئذ - طفلا رضيعا، وبعد سنوات حضر سماحة قاضي القضاة إلى مصر في طريقه إلى الحجاز، وكان معه نجله، الذي رآه محمد علي ونصح لوالده بأن يترك ابنه في القاهرة ليتلقى العلوم في مدارسها، فدخل مدرسة الخانكا، وهي المدرسة الحربية التي أنشأها محمد علي سنة 1826، وكان من تلاميذها بعض أنجاله وأحفاده. وفي سنة 1844 سلك شريف باشا في البعثة العلمية الخامسة التي كان فيها الأميران حسين وعبد الحليم من أنجال محمد علي، وحفيداه الأميران الخديوي إسماعيل والأمير أحمد رفعت، ثم علي مبارك باشا، وانتظم شريف في سلك مدرسة سان سير
Saint Cyr
في فرنسا، ومنها إلى مدرسة تطبيق العلوم الحربية، والتحق بالجيش الفرنسي ونال رتبه يوزباشي أركان حرب، وعاد شريف إلى مصر سنة 1749 في عهد عباس باشا الأول، والتحق بالجيش المصري برتبة «يوزباشي أركان حرب»، وعين ياورا للقائد سليمان باشا الفرنساوي «الكولونيل سيف»،
3
ثم ترك الجيش وعين سكرتيرا للأمير عبد الحليم في دائرته سنة 1853، وبقي فيها حتى توفي عباس باشا الأول وخلفه سعيد باشا، فأعاد شريفا إلى السلك العسكري، ومنحه رتبة أميرالاي الحرس الخصوصي، وبعد سنتين رقي إلى رتبة لواء، فأصبح «باشا» وقائدا لآلاي المشاة وآلاي الحرس الخصوصي، وقد تزوج من كريمة الجنرال سليمان باشا «الفرنساوي»، وقد أسمى العامة شريفا، شريف باشا الفرنساوي بسبب هذه المصاهرة.
ثم عينه سعيد باشا وزيرا للخارجية سنة 1857 حتى سنة 1863؛ حيث خلف إسماعيل باشا سعيد باشا، وعين المترجم له وزيرا للداخلية والخارجية، ولما سافر إسماعيل باشا سنة 1865 عين «شريف» قائمقام، وفي سنة 1867 عين رئيسا للمجلس الخصوصي، الذي كان يشبه في سلطته «اختصاص مجلس الوزراء»، وكان يضم الوزراء وبشوات آخرين.
ولما أنشئت لجنة التحقيق الأوربية التي ألفتها إنجلترا وفرنسا للبحث في ديون مصر وحالتها المالية على عهد إسماعيل، كان «شريف» وزيرا للحقانية والخارجية، وطلبت اللجنة إلى شريف أن يحضر أمامها لتسمع أقواله، فأبى، ووقعت أزمة أدت إلى استقالته.
ولما اشتدت النزعة الدستورية في مصر تطلعت الأنظار إلى شريف باشا ليرأس الوزارة الوطنية الدستورية، فكلفه إسماعيل باشا بتأليف الوزارة على أساس اللائحة الوطنية، فألفها في أبريل سنة 1879، وأقصى منها الوزيرين الأوربيين للمالية والأشغال «وزير إنجليزي للمالية ووزير فرنسي للأشغال»، كانا في عهد وزارتي نوبار وتوفيق باشا، وأقر شريف مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس شورى النواب، فشريف من مؤسسي النظام الدستوري في مصر، والعاملين على توطيد قواعده، إن لم يكن هو المؤسس الأول الحقيقي، وفي وزارته الثالثة سنة 1881 أنشأ مجلس النواب على المبادئ الدستورية العصرية.
ولما خلع إسماعيل وخلفه توفيق باشا على عرش مصر، استقالت وزارة شريف باشا اتباعا للتقاليد التي تقضي باستقالة الوزارة عقب وفاة ولي الأمر أو باعتزاله الملك؛ لأنها تستمد التعيين منه، ولا بد من تكليف جديد من ولي الأمر الجديد، وقد كلف الخديوي توفيق باشا شريف باشا بإعادة تأليف الوزارة، فألفها مع الاحتفاظ بوزارتي الداخلية والخارجية لنفسه، وكان أعضاؤها: إسماعيل أيوب باشا للمالية، وعلي غالب باشا للحربية، ومحمود سامي البارودي باشا للمعارف والأوقاف، ومصطفى فهمي باشا
4
للأشغال، ومراد حلمي باشا للحقانية.
الخديوي محمد توفيق باشا 1879-1892.
وقد استقالت وزارة شريف باشا في أغسطس سنة 1879؛ لعدم موافقة الخديوي توفيق على تأليف مجلس النواب، ولم يعين الخديوي وزارة محلها، بل عين وزراء في النظارات «الوزارات» برياسة الخديوي مباشرة، وبدون رئيس لهم، على أنه في سبتمبر سنة 1879 عهد الخديوي توفيق إلى رياض باشا بتأليف وزارة برياسته، واشتد سخط البلاد على حرمانها من تأليف مجلس النواب وعقده، وظهرت الحركة العرابية بزعامة المرحوم أحمد عرابي باشا، ورأس الجند في ميدان عابدين يوم الجمعة 9 سبتمبر سنة 1881، وطلب من الخديوي عزل رياض باشا وتأليف مجلس النواب، فاضطر الخديوي للعودة إلى تكليف شريف باشا بتأليف الوزارة للمرة الثالثة؛ لتهدئة الحركة، فكان شريف رئيسا للوزارة ووزيرا للداخلية، وكان محمود سامي البارودي وزيرا للحربية، وحيدر باشا للمالية، وإسماعيل أيوب باشا للأشغال، ومصطفى فهمي باشا للخارجية، ومحمد زكي باشا للمعارف والأوقاف، وعين المشرع المعروف محمد قدري باشا للحقانية.
وألقى شريف باشا خطابا في زعماء الجيش المهنئين له فقال:
في علمكم ما قاله الأقدمون: «آفة الرئاسة ضعف السياسة، ولا حكومة إلا بقوة، ولا قوة إلا بانقياد الجنود انقيادا تاما، وامتثالهم امتثالا مطلقا.
كل حكومة عليها فرائض وواجبات، من أهمها صيانة الوطن، وحفظ الأمن العمومي فيه، وهذا وذاك لا يتأتيان إلا بإطاعة رجالها العسكريين، فترددي أولا في قبول الرئاسة ما كان إلا تجافيا عن تأسيس حكومة غير قوية تخيب بها الآمال، ويزيد معها الإشكال، فأكون عرضة للملامة بين إخواني في الوطن وبين الأجانب، وحيث أغاثتنا الألطاف الإلهية وحصل عندي اليقين بانقيادكم، فقد زال الاضطراب من القلوب، ورتبت الهيئة الجديدة من رجال ذوي عفة واستقامة، فأوصيكم بملاحظة الدقة في الضبط والربط؛ لأنهما من أخص شئون العسكرية، وأساس قواها، واعرفوا أنكم مقلدون أشرف وظيفة وطنية، فقوموا بأداء واجباتها الشريفة وعلي القيام بأداء كل ما يزيدكم فخرا وسؤددا، وفقنا الله وإياكم ...
وقد بر شريف بعهده، فتألف مجلس شورى النواب سنة 1881، ثم استقال شريف في 3 فبراير سنة 1882 إثر خلاف سياسي، وخلفه البارودي باشا، ثم استقال وخلفه راغب باشا الذي ضرب الأسطول الإنجليزي في عهده مدينة الإسكندرية بالمدافع يوم 11 يولية سنة 1882، واستقالت وزارة راغب باشا وخلفتها وزارة برياسة شريف باشا في أغسطس سنة 1882 عقب الاحتلال الإنجليزي وفشل الثورة العرابية، ثم ما لبثت الحركة المهدية أن استفحلت في السودان لظهور محمد أحمد المهدي، وقد رغبت الحكومة الإنجليزية إلى الحكومة المصرية إخلاء السودان فقدم الاستقالة الآتية: (1) استقالة شريف باشا التاريخية
رغبنا في نشر نص استقالة شريف باشا، تلك الاستقالة التاريخية المشهورة، ولكننا لم نجد نصا واحدا لهذه الاستقالة. (1-1) الوقائع المصرية
فقد أشارت الوقائع المصرية في عددها الصادر بتاريخ 12 يناير سنة 1884 إلى الاستقالة من غير نشر نصها، فقالت:
استعفت هيئة النظار التي كان يرأسها دولتلو شريف باشا فقبل استعفاؤها، وكلف الجناب الخديوي المعظم صاحب الدولة نوبار باشا بتأليف نظارة جديدة تحت رئاسته فقبل ذلك، وانتخب لها من رجال الحكومة المصرية من يعتمد عليهم في مهام الأعمال، ورفع أسماء حضراتهم للجناب الخديوي المعظم فصدر أمره العالي بتعيين كل منهم في النظارة التي انتخب لها، أدام الله توفيق الجميع لما فيه خير البلاد وصلاح العباد. (1-2) رواية جريدة الأهرام
وقالت جريدة الأهرام في العدد الصادر في 15 يناير سنة 1884 عن أسباب الاستقالة ما يلي:
أما الأسباب التي حملت حضرات النظار على الاستعفاء فهي أن حكومة مصر ترى أنه من الممكن المحافظة على أملاكها السودانية بواسطة خمسة عشر ألف جندي ليس إلا، وأن الحملة التي أرسلتها أولا مع ما سيتبعها كافية لإدراك الغاية، وأن التخلي عن السودان مضر بمصلحة مصر سياسيا وتجاريا، وفي حال تخلي مصر عن السودان تقفل بيوت عديدة تجارية شهيرة في القطر، ولا ترى الحكومة لزوما لترك الخرطوم وسواها من المدن الخاضعة، والتي لم يحصل فيها شيء من الهيجان، وحاميتها قادرة على حفظها وصونها. وإن حكومة مصر لا يمكنها أن تقبل مطلقا بتلغراف اللورد غرانفيل القائل بوجوب «قبول كل نصيحة إنكليزية بدون تردد، وأن كل ناظر لا يكون مشربه إنكليزيا لا يلزم وجوده في النظارة»؛ فهذا مناقض لنص الدكريتو الخديوي الصادر في 28 أغسطس سنة 1878، القائل بأن الوزارة مسئولة أمام الجناب الخديوي ليس إلا، وبناء عليه، فلا تستطيع النظارة الحالية قبول ما تطلبه الوزارة الإنكليزية، وهذه هي الأسباب التي حملت الوزارة على الاستقالة، فقدمت استعفاءها إلى الجناب الخديوي كما قدمنا أولا.
5 (1-3) نص الاستقالة في كتاب سرهنك باشا
ورد بذيل الصفحة 421 ج2 من كتاب حقائق الأخبار لسرهنك باشا، بعد الديباجة:
قد اقترحت علينا دولة ملكة إنكلترة المعظمة أن نخلي السودان، وليس لنا حق في فعل ذلك؛ لأن هذه الولايات من مستملكات الدولة العلية التي فوضت وقايتها إلى عهدتنا، وقد طلبت دولة الملكة
6
أيضا أن نقتدي بنصائحها بدون مذاكرة فيها، فلا يخفى أن هذه الاقتراحات مخالفة لفحوى النظامات الشورية الصادرة في 18 من شهر أغسطس سنة 1878م، التي نص فيها على أن الخديوي يجري أحكام البلاد باشتراكه مع النظار، فبناء على ذلك نضطر هنا إلى أن نطلب من مقامكم العالي أن تقبلوا استعفاءنا لأنه لا يمكن لنا - والحالة هذه - أن ندير البلاد على أصول شورية.
التواقيع
تعليق: تاريخ 18 أغسطس الوارد في هذا النص قد صحح في كتاب «البعثات العلمية» لحضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون ب 28 أغسطس؛ لأنه هو التاريخ الذي صدرت فيه النظامات الشورية المنوه عنها بالنص المذكور. (1-4) استقالة شريف باشا كما وردت بكتاب مذكراتي في نصف قرن ص266 تأليف أحمد شفيق باشا
إن الأسباب التي حملت النظار على الاستعفاء هي أن حكومة مصر ترى أنه من الممكن المحافظة على أملاكها السودانية التي بيدها الآن بواسطة 10 آلاف جندي ، وأن التخلي عن السودان مضر بمصلحة مصر سياسيا وتجاريا، وفي حال تخلي مصر عن السودان تقفل بيوت عديدة تجارية شهيرة بالقطر، ولا ترى الحكومة لزوما لترك الخرطوم وسواها الخاضعة والتي لم يحصل فيها هياج، وحاميتها قادرة على حفظها وصونها.
وإن حكومة مصر لا تقبل مطلقا تلغراف اللورد غرانفيل، القائل بوجوب قبول كل نصيحة إنجليزية بدون تردد، ما دام جيش الاحتلال موجودا في مصر لأن كل ناظر لا يكون مشربه إنجليزيا لا يلزم وجوده في النظارة، فهذا مناقض لنص الدكريتو الخديوي الصادر في 27 أغسطس سنة 1878، القائل بأن النظارة مسئولة أمام الخديوي ليس إلا، وبناء عليه، لا تستطيع النظارة الحالية قبول ما تطلبه إنجلترا.
تعليق: ذكر صاحب كتاب «مذكراتي في نصف قرن» أن هذه الاستقالة رفعها شريف باشا للخديوي توفيق في 8 أبريل سنة 1884، وهو خطأ بين؛ لأن وزارة نوبار التي خلفتها كانت في 10 يناير سنة 1884، فلعل الصواب في التاريخ المذكور 8 يناير سنة 1884.
ويظهر أن تعدد الروايات قد نشأ من أن الاستقالة كتبت بالفرنسية أولا كما جرت العادة يومئذ في الشئون السياسية الهامة، وأن اختلاف الصيغ وقع في الترجمة بتصرف أو من غير تصرف، أو وقع بسبب تدخل في صيغة الاستقالة.
مرض شريف باشا
وقد مرض شريف باشا بعد ذلك، وذهب للاستشفاء في الخارج، وتوفي في أبريل سنة 1887 في جراتز بالنمسا.
وقد وصفت جريدة الأهرام «في عددها الصادر سنة 1887» جنازة الفقيد عند وصولها إلى الإسكندرية ونقلها من المنشية إلى باب الترسانة، وفي القاهرة، وقد أغلقت المحال التجارية وسارت الألوف وراء النعش، وكان الجميع آسفين على فقد الأمة هذا الخادم الأمين؛ فلقد كان الفقيد واسع الذكاء والاطلاع، بعيد النظر، شديد التوافي لأصدقائه، نزيها عفيف اليد والقلم واللسان، محبا للدستور والحرية، مبغضا لتدخل الأجانب، شديد الاعتزاز بكرامته، مستقل الرأي، وكان جميل الطلعة طويل القامة مشرق الوجه، وكان عظيما في غير صلف، كبيرا في غير عنف.
وقد أعقب شريف باشا ولدا وبنتين، أما ابنه فهو محمد شريف باشا الذي كان وكيلا لوزارة الخارجية، ولمنع الالتباس بين الأب وابنه اصطلح الناس على تسمية الأب باسم شريف باشا الكبير، وأما كريمتاه فقد تزوجت إحداهن من محرم شاهين باشا، والثانية من المرحوم عبد الرحيم صبري باشا، والد حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلي، وصاحبي السعادة حسين صبري باشا محافظ الإسكندرية وشريف صبري بك وكيل الخارجية، صهر المغفور له عدلي يكن باشا.
استقالة شريف باشا المودعة مجلس الوزراء
كانت استقالة دولة المرحوم محمد شريف باشا موضع اهتمامنا ومحل تدقيقنا، وقد عرف القراء فيما تقدم أنه ليست هناك صيغة واحدة لهذه الاستقالة، فنقلنا روايات أربع عن الاستقالة، وأخيرا اتجهنا إلى نص الاستقالة التي أودعت مجلس الوزراء، ولكننا علمنا أنه ليس بديوان المجلس نص رسمي موقع عليه، وإنما هناك ورقة باللغة الفرنسية، غفل من التوقيع، وليس يدرى أهو نص الاستقالة أم كتاب خاص رفعه شريف باشا إلى الخديوي توفيق باشا مع نص الاستقالة الرسمية، ونحن نؤثر ترجمة ما في الوثيقة المحفوظة بمجلس الوزراء فيما يلي:
يا صاحب السمو
تعلمون سموكم الأسباب التي من أجلها كان من رأي زملائي ورأيي أن نبذل جميع جهودنا للمحافظة على النيل الأعلى حتى الخرطوم وشاملة لها، وقد عددنا هذه المحافظة لا غنى عنها لسلامة مصر وأمنها، وقد فكرنا في الوصول إلى هذه النتيجة، وأن ننزل عند الحاجة عن السودان الشرقي مع شواطئ البحر الأحمر إلى الباب العالي، وأن نخصص جميع القوات الموجودة للنيل.
ولكن هذه الأسباب لم تظهر كافية لحكومة صاحبة الجلالة البريطانية، التي أصرت على وجوب إخلائنا لوادي النيل كله، على أن لا نحتفظ إلا لغاية أسوان أو وادي حلفا، كآخر حد جنوبي، وفضلا عن ذلك، فإنه - كما كان لي الشرف أن أبلغ سموكم في المجلس - قد تلا علي السير بارنج تلغرافا من اللورد غرانفيل بموجبه، كلفه بإبلاغي بأنه ما دام احتلال الجنود البريطانية الوقتي لمصر قائما، فإنه يجب تنفيذ النصائح الصادرة من حكومة جلالة الملكة في كل مسألة هامة، وأن كل وزير لا يعمل طبقا للنصيحة يجب عليه أن يستقيل.
ولما كنا نرى أن مدلول هذه الرسالة يتعارض مع استقلال حكومتكم، بمعنى أن من شأنه أن يشل المسئولية الوزارية أمام سموكم، ويعدل شروط الحكم كما أنشأها المرسوم الصادر بتاريخ 28 أغسطس سنة 1878.
ولما كنا نعتقد أننا لا نستطيع - والحالة هذه - أن نحتفظ بمناصبنا التي ندين بها إلى ثقة سموكم السامية، فقد رفعنا استقالتنا جميعا بين يدي سموكم.
7 يناير سنة 1884 (2) نوبار باشا والسودان
وقد خلف نوبار باشا.
7
شريف باشا في تأليف الوزارة، وقد قبل نوبار ما لم يقبله شريف من قبل، وهو إخلاء السودان من الجيش المصري، وكانت وزارة نوبار مذ ذاك أول وزارة مصرية تألفت على أساس الإذعان للمشورة البريطانية، وقد ندب غوردون باشا للسفر إلى السودان للمرة الثالثة؛ لتنظيم إخلاء السودان، ولكنه فشل في مهمته، وقتل في الخرطوم في 26 يناير سنة 1885.
كان نوبار باشا رسول الخديوي إسماعيل في أوربا وتركيا؛ لزيادة نفوذ الخديوي بالفرمانات التركية الشاهانية المتوالية، وأخيرا فاوض نوبار الدول في إنشاء المحاكم المختلطة، وأسفرت المفاوضات عن إنشائها باتفاق مع مصر سنة 1875، لا يزال نافذا حتى اليوم، وإن كان أصبح غير متفق مع نهضة مصر الاستقلالية والدستورية وكثرة كفايات بنيها.
نوبار باشا.
الفصل الرابع والعشرون
عودة غوردون باشا إلى السودان
بعد استقالة وزارة شريف باشا خلفتها وزارة نوبار باشا، وقبلت إخلاء السودان من الجنود المصرية؛ أي: أذعنت للمشورة البريطانية التي قضت بهذا الإخلاء، وقضت بإعادة تعيين غوردون باشا للمرة الثالثة.
1
كان يومئذ في لندن حكمدارا عاما للسودان.
فحضر غوردون إلى القاهرة، حيث استقبل بمحطتها استقبالا رسميا حضره رجال التشريفات الخديوية وكبار الضباط الإنجليز والمصريين، وقبل حضوره تبادل التلغرافات مع السير أفلن بارنج «اللورد كرومر» معتمد الدولة البريطانية في مصر، كما قابل رجال الحكومة البريطانية، وقد أرسل غوردون قبل مبارحته لندن تعليمات إلى وزارة الحربية لاتباعها في سفر من يرافقه.
تمثال غوردون في مدينة الخرطوم ويرى فؤاد أباظة بك عند قاعدته في فبراير سنة 1935.
وبعد وصوله قابل اللورد كرومر
2
والخديوي توفيق ورئيس الوزراء «نوبار باشا» والوزراء «النظار».
كان وصول غوردون يوم 26 ربيع أول سنة 1301ه، وسافر في الساعة التاسعة من مساء يوم 28 ربيع أول «فبراير سنة 1884» بقطار خاص استقله من محطة بولاق الدكرور، وقد ازدحمت المحطة بالمودعين، وعلى رأسهم نوبار باشا رئيس الوزارة والوزراء، وقنصل إنجلترا الجنرال، وقائد الجيش.
ويقال إن عبد القادر حلمي باشا حكمدار السودان السابق أبلغ غوردون سوء الحالة في السودان، واستفحال أمر المهدي، ووجوب إرسال جيش من ألف جندي؛ لأن غوردون لم يسافر معه جيش، وكانت خطته ترمي إلى ملاينة المهدي بالوعود والهدايا، وبالاعتراف به حاكما على كردفان، كما كانت تلك سياسته عند فتح جنوب السودان «انظر الفصل الخامس عشر من هذا الجزء.»
وقد رافق اللواء إبراهيم فوزي باشا - الذي ورد ذكره في الفصل الخامس عشر من هذا الجزء - غوردون باشا في سفره بناء على طلبه قبل وصوله إلى القاهرة؛ لأنه رأى فيه جنديا كفؤا ومساعدا قديرا؛ لسابق خدمته بالسودان والحكم فيه، وقد ردت الحكومة إلى فوزي باشا رتبه ونياشينه العسكرية بعد أن نزعت منه لانضمامه إلى عرابي باشا.
وفي الساعة العاشرة مساء غادر القطار محطة بولاق الدكرور قاصدا إلى أسيوط بين هتاف المودعين، وفي صباح اليوم التالي وصل غوردون إلى أسيوط، واستقل منها باخرة نيلية إلى أسوان، حيث استقبل لفيفا من المبشرين والقسس الكاثوليك الهاربين من السودان، وقد أبلغوا غوردون سوء الحال والخطر.
وسافر من أسوان إلى الشلال، حيث استقل باخرة إلى كروسكو فوصل إليها بعد يومين، وكانت بها المعدات من جمال وغيرها حاضرة، وعين فوزي باشا قومندان للحملة، وكان مع غوردون الكولونيل استيوارت
3
والجنرال جراهم، وقد عين الأول وكيلا لغوردون، وعاد جراهم من كروسكو.
عبد القادر باشا حلمي حكمدار عموم السودان «انظر الفصل السابع عشر من هذا الجزء».
وفي كروسكو أرسل غوردون إلى المهدي كتابا ومعه هدية من الملابس، وفحوى الكتاب أن غوردون يعترف بالمهدي سلطانا على السودان الغربي كله، وملكا مطلقا على كردفان ودارفور، وأن حكومة جلالة الملكة فيكتوريا - ملكة إنجلترا يومئذ - قد عينت غوردون حكمدار للسودان، ووافقت الحكومة الخديوية على ذلك، وأنه يرغب في توثيق العلاقات بين سلطنة المهدي وبينه، وإعادة المواصلات، ووقف إراقة الدماء. وأرسل غوردون تلغرافا إلى حكمدارية السودان بالخرطوم باستقبال رسل المهدي إذا وصلوا، بإطلاق المدافع وإقامة الزينات، وجعل التلغراف تحت تصرفهم لمخاطبة غوردون، وأرسل تلغرافا آخر بإعفاء الأهالي من الضرائب المتأخرة، وبفصل حسين سري باشا من وكالة حكمدارية السودان، وتعيين الكولونيل دي كوتلجف بدلا منه، وكان مقيما في الخرطوم منذ سنة بمهمة سرية، وبتعيين عوض الكريم أبي سن زعيم قبائل الشكرية مديرا للخرطوم.
وبعد السفر على الإبل أربعة أيام وصل غوردون ومن معه إلى آبار المرات، وبعد أيام وصلوا إلى أبي حمد، وهي أول حدود مديرية بربر، وأول حدود دنقلة، وسكانها يسمون الرباطاب والمناصير من الجعليين، وألقى غوردون خطابا في أبي حمد بحضور حسين خليفة باشا مدير بربر والأعيان، أبلغهم تجاوز الحكومة عن المتأخر من الضرائب، وعن ضرائب ثلاث سنوات في المستقبل، وإحراق الدفاتر القديمة، ووعدهم بتخفيض الضرائب بعد مضي ثلاث السنوات، وحذرهم من تصديق دعوة المهدي. فقالوا نحن مؤيدون للحكومة الخديوية إلى النهاية؛ كل ذلك لكفالة ولائهم له وللحكومة.
وأرسل غوردون تلغرافا إلى اللورد كرومر يبشره بنجاح مهمته، وشهد لعبة الدللوكة، ثم سافر إلى بربر واستقبله القناصل والموظفون والأعيان، فوصفوا له حرج الموقف وضرورة وجود جيش لصد قوة المهدي الكبيرة، فطلب إليهم الاطمئنان والخلود إلى السكينة.
وعند السبلوكة تقدم أشخاص على جيادهم وقالوا: «نحن مظلومون يا أفندينا»، ولحظ فوزي باشا أن وراءهم كمينا من مائة فارس، وحذر غوردون من رسو الباخرة عند بلدة «السبلوكة»؛ لأنه ليس بالباخرة إلا 25 شخصا، فغضب غوردون وقال لفوزي: يظهر أنك انغمست في ترف القاهرة ونسيت شجاعتك! ورست الباخرة فأطلق عليها الكمين النار، فقال غوردون لفوزي: الحق معك يا فوزي، وأنا المخطئ.
4
ووصلت الباخرة بعد أيام إلى أم درمان، حيث كان بها نقطة من الجنود، ثم وصلت الباخرة إلى الخرطوم، حيث رست في «المقرن»، وهي نقطة اجتماع النيلين الأبيض والأزرق، فأدت الجنود التحية العسكرية، وتفقد غوردون الحصون، وكان الجنود صفوفا والأهالي واقفين.
نزل غوردون بسراي الحكمدارية، ووقف عند السلاملك وسلم ورقة إلى الشيخ حسين المجدي رئيس أساتذة المدرسة الأميرية، فقرأ فرمان التولية: «الأمر العالي الخديوي بتعيين غوردون حكمدار»، وأملى عليه الخطبة التالية:
يا أهالي السودان عموما، إن الجناب الخديوي يسلم عليكم؛ صغيرا وكبيرا، أحرارا وعبيدا، إناثا وذكورا، وكذلك جلالة الملكة فيكتوريا، ملكة بريطانيا العظمى وإمبراطورة الهند، وإنكم لا تجهلون شفقتي عليكم ومحبتي لكم، وقد ساءني ما سمعته عنكم، حيث نشبت الحرب بينكم وتعطلت تجارتكم، وسفكت دماؤكم، ومنعتم من تأدية فريضة الحج التي هي من أركان الإسلام وزيارة قبر النبي (عليه السلام)، وقد أساء هذا الحال كلا من جلالة الملكة وسمو الخديوي المعظم، فانتدبت من قبل حكومة جلالة الملكة لأكون واليا على السودان، ومرخصا فوق العادة، وقد صار فصل السودان عن مصر فصلا تاما، وفوض إلي الحكم المطلق، وقد خابرت حضرة السيد محمد أحمد المهدي بفحوى مأموريتي، واعترفت له بالسلطة المطلقة على السودان الغربي برمته، على شرط أن لا يمد يده لغيره. هذا وقد ألغيت جميع الأوامر الصادرة بمنع تجارة الرقيق، وتجاوزت عن جميع المتأخرات من الضرائب لغاية سنة 1883، وقد تجاوزت أيضا عن ضرائب ثلاث سنوات منذ أول سنة 1884، وأمرت بإحراق دفاتر المتأخرات، وأمرت بإطلاق سراح جميع المسجونين على اختلاف جرائمهم وتنوع جناياتهم، وعزمت منذ الآن أن لا يكون أعضاء حكومتي إلا من الوطنيين، حيث إنني أود تشكيل حكومة وطنية ليحكم السودان نفسه بنفسه، وقد عينت عوض الكريم أبا سن مديرا للخرطوم، وأحسنت عليه برتبة الباشوية، ولي الأمل بأن العلائق ستفتح بيني وبين سلطان الغرب «المهدي» وثيقة العرى، وقد أمرت منذ اليوم بفتح أبواب الحصون وإتلافها، وسحب الجنود؛ لتلتفتوا إلى عمران بلادكم وحرث أراضيكم وإنماء تجارتكم، ومني عليكم السلام.
وكان أهل الخرطوم يسمعون هذه الخطبة والدموع تنهمر من مآقيهم؛ لأنهم أيقنوا الهلاك؛ إذ إن المهدي، بعد أن أصبح قويا ظافرا، لا يمكن أن يقبل ذلك، وأنه لا بد زاحف على الخرطوم.
ثم استقبل غوردون العلماء فأبلغوه أن إتلاف الحصون نكبة؛ لأن المهدي لن يلتفت إلى كلامك، فعدل غوردون عن تخريب الحصون .
وعلى أثر ذلك، هجر المدينة كثير من الناس إلى مصر، واستقال موظفون كثيرون؛ ومنهم الكولونيل دي كوتلجف، ويقول فوزي باشا في كتابه السودانيين بين يدي غوردون وكتشنر «انظر الفصل التاسع والعشرون من هذا الجزء»: «وقد تعجبت من إصرار غوردون على رأيه الأول بعد أن رأى الخطر الذي أحدق بحياته مرتين في الطريق وعلم إجماع الآراء على عدم نجاحه».
وقد زار عبد القادر ابن أم مريوم - وهو فقيه من القرى المحيطة بمدينة الخرطوم - «غوردون» فرحب به وأعطاه 300 ريال، ثم عاد عبد القادر إلى قريته، وأرسل كتابا إلى «غوردون» ينصحه بالتسليم هو ومن معه من الموظفين للمهدي. (1) قبيلة الشكرية وزعيمها أبو سن
قبيلة الشكرية - أو قبائلها - قبائل رحالة تسكن شرقي النيل الأزرق في صحراء ريرة، بين عطبرة والنيل الأزرق، وماشيتها من الإبل والبقر كثيرة، وعددها - يومئذ - 500 ألف نسمة، وكان أحمد أبو سن باشا مديرا للخرطوم، وزعيما للشكرية، وقبل وفاته قدم إلى القاهرة وأهدى إلى الخديوي إسماعيل هدايا كثيرة وتوفي بها، وخلفه ابنه عوض الكريم أبو سن في زعامة الشكرية.
وقد ظلت الشكرية وزعيمها وآله على ولاء صادق وتفان مدهش للحكومة المصرية في أثناء الثورة المهدية، وقد حرض المهدي عليها قبيلة البطاحين القوية، والتي بها قطاع طريق، وقد اضطرت الشكرية عند حصار المهديين لكسلا أن تكتب للمهدي بالخضوع.
ولما وصل كتاب غوردون مع رسول خاص إلى عوض الكريم أبي سن باشا بتعيينه مديرا للخرطوم، سأل الرسول: هل حضر مع غوردون جنود؟ فقال الرسول: لا، ولكنهم سيجيئون، فحثا عوض الكريم التراب على رأسه وقال: يا ضيعة الأمل! ثم كتب إلى غوردون بحرج موقف أبي سن واعتذاره عن قبول المنصب، وأن بقاءه في مكانه أنفع؛ لمنع مغادرة البطاحين إلى بربر. (2) كتاب المهدي إلى غوردون ردا على كتابه
وأرسل المهدي إلى غوردون كتابا ردا على كتابه، وهذا نص كتاب المهدي:
الحمد لله الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد، فمن العبد المفتقر إلى الله المهدي بن عبد الله إلى عزيز بريطانيا والخديوية غوردون باشا ، قد وصلنا جوابك، وفهمنا ما فيه، وإنك تزعم إرادة إصلاح المسلمين، وفتح الطرق لزيارة قبر النبي - عليه الصلاة والسلام - واتصال المودة فيما بيننا وبينكم، وحل المسيحية من النصارى والمسلمانيين، وأن تجعلني سلطانا على كردفان، فأقول، والأمر لله، إني قد دعوت العباد إلى صلاحهم وما يقربهم من ربهم، وأن يفرغوا من الدنيا الفانية إلى دار البقاء، ويعملوا ما يصلحهم في آخرتهم.
وقد كتبت إلى حكمدار الخرطوم وأنا «بآبا» بدعايته إلى الحق، وبأن مهديتي من الله ورسوله، ولست في ذلك بمتحيل ولا مريد ملكا ولا جاها ولا مالا، وإنما أنا عبد أحب المسكنة والمساكين، وأكره الفخر وتعزيز السلاطين، ونبوهم عن الحق المبين، لما جبلوا عليه من حب الجاه والمال والبنين، وهذا هو الذي صدهم عن صلاحهم وأخذ نصيبهم من ربهم، فأخذوا الفاني وتركوا الباقي، واشتغلوا بما لا يكون من الفانيات، ولم يسمعوا قول الله ولا رسوله، ولم يذكروا خبر القرون الذين لم يغن عنهم ذلك شيئا، وندموا على قدر الذي تمتعوا به، فأيدني الله بالمهدية الكبرى لدلالتهم إلى الله تعالى، وليتركوا العز الفاني والنعيم الفاني إلى العز الدائم الأبدي في دار النعيم المقيم، ولأعرفهم غرور من يريد العاجلة، ويظن أنه ساع في رضى الله، ويكون له نصيب في الآخرة.
وقد قال المسيح - عليه السلام: يا معشر الحواريين ابنوا على موج البحر دارا، تلكم الدنيا، فلا تتخذوها قرارا، ومن ظن أنه يخوض البحر من غير بلل فهو مغرور، فكذلك من ظن أنه يجمع الدنيا ويريد عزها وجاهها، ويكون له في الآخرة شأن، فأنب إلى الله الباقي، واخضع لجلاله، واطلب عز الآخرة، ولا تظن أن هذه الدنيا دار حتى تسعى لملكها وعزها، وكيف من يكون على خلاف طريق النبي
صلى الله عليه وسلم ، يفتح باب زيارة قبره، ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
ممن يرغب زيارة الكلاب، كما ورد أن الدنيا جيفة وطلابها كلاب، ولم يكن يرغب من عبد غير الله، ونسي الله، وأعرض عن كلامه، وطلب متاع الحياة الفانية.
فإن كنت شفيقا على المسلمين فبالأولى أشفق على نفسك وخلصها من سخط خالقها، وقومها على اتباع الدين الحق باتباع سيدنا محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، الذي أحيا ما اندرس من ملل الأنبياء المرسلين، وأتى مصدقا لما بين يديه من الكتب؛ فجميع الأنبياء (عليهم السلام ) لو حضروه لما سلكوا غير ملته، وكلهم يتمنون أن يكونوا من أمته، ومن حضر بعثته ومن بعدهم لا يقبل منه دين غير دينه، فطهر نفسك أولا بالدخول في ملته، ثم أشفق على أمته بسلوك سنته، فعند هذا تكون الشفيق، ومن غير هذا فما لك من المحقين رفيق، كيف وقد قال الله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
إلى أن قال:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . وإننا قد امتثلنا أمر الله، فما نتخذ وليا إلا الله ورسوله والمؤمنين، وعلى ذلك قد وعد الله بالغلبة كما سمعته من قول الله هذا، حيث إن الله يقول هم الغالبون، فلا غلبة لغيرهم.
فإن رجعت عما أنت عليه من ملة غير الإسلام، وأنبت إلى الله ورسوله، واخترت الآخرة، نتخذك وليا وتكون من إخواننا، وتكون المودة المطلوبة عند الله ورسوله، وتكون ممن امتثل أمر الله بعد هذه الآيات، فاستحق الوعد والبشارة في قوله تعالى:
ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
الآية، فبعد هذا تتصل المحبة والمودة فيما بيننا وبينك، وتكون ممن عمل بالقرآن والتوراة والإنجيل، وتكون قد اتبعت، باتباع نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم ، عيسى وجميع الرسل والنبيين، وحزت الخير الأبدي، وإلا حيث علمت أن حزب الله الذين وليهم الله ورسوله، والذين آمنوا هم الغالبون من كلام الله، فاعلم أن حزب الله واصل إليك، ومزيل لك عما شاركت به خالقك، فادعيت ملك عباده وأرضه، مع أن الأرض لله يورثها عباده الصالحين.
وأما المسلمانيون
5
والمسيحيون الذين دعوت إلى إطلاقهم إليك، فأنا أريد لهم الصلاح والنفع عند الله وفي دار الأبد، كما أريده لك ولكافة عباد الله، فلا أبعدهم من جنتهم إلى محنتهم، فإن الله قد أيدني رحمة للعباد؛ لأنقذهم من الهلاك الذي هم واقعون فيه، لولا رحمة الله بظهوري فيهم، واعلم أن المهدي المنتظر خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلا حاجة لي بالسلطنة ولا بملك كردفان ولا غيرها، ولا في مال الدنيا ولا زخرفها، وإنما أنا عبد الله دال على الله وإلى ما عنده، فمن كان سعيدا أجابني واتبعني، ومن كان شقيا أعرض عن دلالتي فأزاله الله عن موضعه وأذله وعذبه عذاب الأبد.
وقد أيدني الله تعالى بالأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وجميع الأولياء والصالحين لإحياء دينه، وقد بشرني النبي
صلى الله عليه وسلم
أن جميع من يلقاني بعداوة يخذله الله ويهزمه، ولو كان الثقلين الأنس والجن، فلا تغتر فتهلك كما هلك إخوانك، فافهم وسلم تسلم.
وأما الهدية التي أرسلتها لنا فعلى حسب نية الخير جزاك الله الخير وهداك إلى الصواب، واعلم أنه كما كتبنا لك أنا لا نرغب متاع الحياة الدنيا وزينتها، وإنما هي قصد المترفين الذين لم يكن لهم عند الله نصيب، فها هي مرسولة إليك مع ما نرغبه من اللبس لنفسنا ولأصحابنا الذين يريدون الآخرة ويرغبون فيما عند الله من الخير الباقي الأبدي، ليستحقوا بذلك نعيم الأبد وملك الدوام، كما درج على ذلك الأنبياء والمرسلون وجميع السعداء من عباد الله الصالحين، وتعلم ذلك أنت حقيقة من سيرة عيسى - عليه السلام - وحوارييه، وقد قال: «كبيت لكم الدنيا فلا تنعشوها بعدي»، فتعلم بذلك أن من خالفه من الأحبار والرهبان وجميع من يدعي اتباعه ليسوا محقين، وإنما غرتهم الحياة الفانية والأمتعة الآيلة، إلى أن تكون جيفة وعذرة، ثم عدما محضا، فتكون حسرة وندما عند فراقها؛ لما فوتته من اكتساب خيرات الدوام. ثم إن مثل هديتك عندنا كثير، ولكن أعرضنا عنه طلبا لما عند الله، وأقول في ذلك كما قال سليمان - عليه السلام - لبلقيس وقومها:
أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون * ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ، واعلم أنك إذا أتيتنا مسلما نربيك ونريك من النور ما يطمئن به قلبك ويزول به طمعك في الدنيا وما فيها، ثم بعد ذلك إن رأينا فيك خيرا وصلاحا للمسلمين، وليناك كما فعلنا ذلك بمحمد خالد المشهور بزقل مدير «دارة» سابقا، فإنه لما أتانا ورأى الحق وفرح بلقائنا غاية، وندم على ما فات مما صنعه من عمره الفاني، واطمأن قلبه بالله واختار الآخرة ووثق بالله، وليناه على دارفور، وقد كتب لنا قبل ذلك «عبد القادر سلاطين»
6
بالتسليم فأكرمناه، وإلى الآن نريد كمال تربيته، وهو الآن في خير كثير.
وكذلك السيد جمعة الذي كان مدير الفاشر، الآن أرسلنا إلى محمد خالد المذكور يأتي به إلينا لكمال التربية والإرشاد، وبلغنا حسن إسلام «الدمتري سجادة»، وصدق اتباعه لنا وإنابته للآخرة، وكذلك جميع أمراء النقط بدارفور، وقد أذعنوا لله كباقي سلاطين دارفور، وسلموا جميعا أمرهم إلينا في حب الله ورسوله، فحسن تسليمهم واتباعهم لنا، وكذلك «المك آدم» بك
7
جبال تقلى الآن، أتي مهاجرا لما رأى الحق، وحسن اتباعه وصدقه، وقد أكرمناه، وهو معنا الآن بخير كثير، وهلم جرا.
فكل سعيد لا بد أن يتصل بنا من جميع أقطار الأرض، ومن أبى لا بد أن يخذله الله ويعذبه في الآخرة، كما أشار إلى ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم
مرارا، وليكن معلوما عندك يا حضرة الباشا أن جميع الذين قتلوا على يدي قد أنذرتهم أولا إنذارا بليغا، وها هو واصل إليك إنذار ولد الشلال بعد مخاطبته لي وإنذار هكس، بأجوبة عديدة للعامة، وجواب مخصوص له ولأكابر جيشه، وقد أرسلنا إلى باشة الأبيض
8
بجواب فقتل رسلنا، وبعد أن وقع في يدنا أكرمناه وأعطيناه جبة جميلة؛ ليتدرج إلى الصدق مع الله، ولا زلنا نكرمه ونعظمه ليقتدي بنا، ويصدق مع الله، فيكون من الأصحاب الذين هم كالنفس، فلم يصدق، ولا زال يقع فيما يهلكه ونحن نصفح عنه، حتى أخذته نيته فمات، ومع ذلك، لأجل مبايعته ومجالسته معي إياما، قد أتانا خبر بعد موته أنه عفي عنه في الآخرة، فصار من السعداء، والعبد إذا كان يسعد في الآخرة فهو المقصود، ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها، بل إنما متاعها يكثر الحسرة والحبس فقط يوم القيامة. ونيتي بالعباد سعادتهم في آخرتهم الأبدية، وإزالة الهلاك عنهم من الله؛ ولذلك لاطفت جميع الأكابر وأهل الدولة بالقول والفعل؛ ليعرفوا ما عند الله فيرغبوا فيه ويتركوا الخسيس الفاني، وهكذا جميع من وقع في قبضتنا من الأكابر من أهل الدولة والحكام، ما عملنا معه إلا الخير والإكرام، فمن صدق منهم معنا فهم الآن في خير كثير وازدياد شرف، والسلام - جماد أول سنة 1301.
وبعد هذا البيان، فإن اهتديت وسلمت لي واتبعتني حزت شرف الدنيا والآخرة، وفزت بأجرك وبأجر جميع من اتبعك، وإلا هلكت، فكان عليك إثمك ومثل آثام جميع من اتبعك، وإن كان لك حسن نور في العقل تعلم أني خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلا تتهمني فيما أسوق به إلى الله والدار الآخرة، ولا تسمع علي قول الظالمين الحساد، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى إلا أن يتم نوره، وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «من شك في نصرة المهدي، فليقرأ قوله تعالى:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وقوله تعالى:
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، ولزيادة الشفقة عليكم لزمت التحشية بهذا، والهادي هو الله، وكثرة البيان لا تهدي. هدانا الله والعباد إلى الصواب، آمين.
وأرسل المهدي مع الكاتب السابق الكتاب التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الولي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم «وبعد»، فمن عبد ربه الفقير إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى غوردون باشا، باطلاعك على ما تدون بالجواب إليك تعلم باطنه، وبه كسوة الزهاد أهل السعادة الكبرى، الذين لا يبالون بما فات من المشتهيات طلبا لعالي الدرجات، وهي جبة ورداء وسراويل وعمامة وطاقية وحزام وسبحة، فإن أنبت إلى الله وطلبت ما عنده فلا يصعب عليك أن تلبس ذلك، وتتوجه لدائم حظك، وها هو الرسول الذي أتى منك واصل إليك مع رسل من عندنا كما طلبت، والسلام.
صورة ما كتبه المهدي على ظهر المظروف الذي أرسل إلى غوردون: «سألتك بحق الله ونبيه عيسى - عليه السلام - أن تقف على أجوبتنا هذه بالحرف، وقد أبلغني محمد سعيد المسلماني، الذي يسمى جورجو إسلامبوليه، أن رجلا يسمى السيد أفندي نعيم الأجزائي له معرفة بلغتكم وبالخط العربي، وما دام أنه يعرف الخطين واللغتين نرغب منكم الوقوف على ما في هذا الظرف جميعه حرفيا على يد المذكور، أو من هو مثله، وقد سألتك السؤال المذكور لما ذكرته والسلام ا.ه.
وقدم على غوردون رسولان مع رسوله، يحملان الكتب والهدية التي هي جبة مرقعة وسراويل وعمامة، كلها من نوع قماش اسمه «الدمور» يصنع في السودان.
ولما وصل الرسولان إلى الخرطوم أشهرا سيفيهما، فأمرهما ضابط باب الحصن بإغمادهما فلم يطيعاه، فأمر غوردون بالمحافظة عليهما حتى يصلا إلى السراي، وهاج أهل الخرطوم عليهما - وهم الصبيان والرعاع - برجمهما بالحجارة فمنعوا، ولما دخلا على غوردون قالا له: «السلام على من اتبع الهدى»، وسلماه الكتب والهدية، ولما رأى الهدية غضب وركلها برجليه، وقال: «غوديم»، ثم اطلع على الكتب وأبقى الرسولين عند حاجب السراي ريثما كتب للمهدي كتابا قال فيه: «إنني أدعوك إلى السلم وأنت تدعوني إلى الحرب، وأدعوك إلى حقن الدماء وأنت لا تميل إلا إلى سفكها، فأقول لك الآن لا بد من قهرك وكبح جماح طغيانك، ومهما يكن عندك من الأتباع فلا بد أن ترضخ صاغرا أو تهلك حيال قوتي الحكومة الخديوية والدولة الإنكليزية»، ومنذ ذلك تغيرت سياسة غوردون، فأصبح يرى وجوب إخضاع الثوار والمهدي.
وعاد الرسولان إلى المهدي واشتغل غوردون بمخابرة مصر ولوندرة بالتلغرافات.
سياسة المهدي من كتبه
ويؤخذ من كتب المهدي - فيما تقدم - مايلي: (1)
أن الدعوة المهدية دعوة دينية إسلامية عامة، للأمم كافة، من مسلمة ومسيحية وغيرها، وأنها ليست بدعوة لإقامة حكم واحتلال بلاد فقط. (2)
أن المهدي قد «حاول» محاكاة كتب النبي
صلى الله عليه وسلم
وخلفائه في الدعوة إلى الإسلام. (3)
أن المهدي له نصيب من الذكاء السياسي في محاولته إقناع غوردون بالحجج ليؤمن بالمهدية، وأنه يجنح إلى التهديد مرة، وإلى الترغيب مرة أخرى. (3) رأي الخديوي توفيق في مهمة غوردون
والظاهر أن الخديوي كان مرتابا في نجاح مهمة غوردون بالطريقة السلمية التي كان متمسكا بها؛ ولذلك صرح الخديوي للبارون دي مالورتي بما يأتي - وقد نشر البارون التصريح في الصحف الإنجليزية الكبيرة كما يأتي:
لم يكن في استطاعتي أن أبدي دليلا على حسن مقاصدي بأحسن من تعيين غوردون باشا حكمدار عاما للسودان، ومنحه كل السلطة في عمل ما يراه ضروريا لإصابة الغرض الذي ترمي إليه حكومتي وحكومة جلالة الملكة، حتى إني قلدته نفس السلطة المخولة لي، وتركت له الحكم على الحالة الراهنة، ولا ريب في أن ما يستطيع إتيانه من الأعمال أحسن ما يكون. وقد قبلت سلفا ما يمكن أن يقترحه من الوسائل إلى ذلك؛ إذ ما يراه حسنا من التصرفات يكون إلزاميا بالنسبة إلينا، ثم إني بعد أن جعلت عظيم ثقتي بهذه الكيفية في هذا الباشا لم أشترط عليه إلا شرطا واحدا، وهو أن يبذل عنايته فيما فيه طمأنينة العناصر المتمدنة من أوربيين ومصريين، وها قد أصبح الآن الرئيس المفوض، يرافقه حسن آمالي في هذه المأمورية التي هي من الخطارة والأهمية بمكان، فإن قلبي يذوب عندما أفكر في الألوف المؤلفة من رعاياي المخلصين الذين تكفي غلطة منه لهلاكهم. وإني لا أشك في أنه سيبذل كل ما في وسعه لحقن دماء أكثرهم على الأقل، فإن نجح - بعون الله - في إخلاء الخرطوم وأهم مواني السودان الشرقي، فله الشكر مدى الدهر على رعيتي التي ترتعد فرائصها من توقع ما يخشى حصوله بعد حين. أما قولي لك إنه ينجح في مأموريته فهو من قبيل المجازفة مني في الكلام كثيرا؛ فإن أمامه قوات أكثر منه عددا وأهوالا، غير أنا نرجو الخير، وأما هو فيمكنه أن يعتمد على أصدق مساعدة، وأسرع معونة مني أنا وحكومتي، بقدر ما تصل إليه يد الإمكان.
على أن غوردون لم يكن جاهلا بكنه تلك النية، ولهذا كان يرسل التلغرافات تترى، ويدون المذكرات ليقنع قومه بالعدول عن سياسة الإخلاء، وليجعل التاريخ حكما بينه وبين قومه؛ لاعتقاده أن تلغرافاته ومذكراته لا بد أن تنشر على الجمهور، ويطلع عليها العالم أجمع، وهم لا بد أن يحكموا له لا عليه.
وقد تحققت أمنيته حيث نشرت الحكومة البريطانية تلك المذكرات والتلغرافات في كتبها الزرقاء، وكان لها من الأهمية فوق ما كان يتمناه صاحبها، وقد دارت مباحث كثيرة بشأنها في أندية إنجلترا وبرلمانها ومجلس لورداتها، وأهم هاته التصريحات ما فاه به مستر غلادستون في مجلس العموم حيث قال «إن حكومة جلالة الملكة تأخذ على عاتقها مسئولية المأمورية التي ألقيت مقاليدها إلى غوردون أدبيا وسياسيا وأنها ستعمل كل ما في وسعها للوصول إلى نتيجة مرضية».
ثم فاه غلادستون أيضا بتصريح أوضح من هذا، حيث قال: «إن مهمة غوردون هي إخلاء السودان وإنقاذ موظفي الحكومة».
ثم قال: «إن ثقتنا به عظيمة، ولسنا مبالغين في شيء من روايتنا، وإننا عقدنا النية على أن لا نفاجئه بعمل دون استشارته وأخذ رأيه.»
وأرسل غوردون تلغرافا في أول مارس سنة 1884 إلى السير بارنج
9
جاء فيه ما يأتي:
لم أزل أعتقد كمال الاعتقاد أن إخلاء السودان ممكن، لكن أقول لك إنه من المستحيل إجلاء المستخدمين المصريين عن الخرطوم إذا لم تساعدني الحكومة في الطريق الذي أوضحته لها.
فأجابه السير بارنج بتاريخ 2 مارس بالرسالة الآتية:
قد وصل إلي إحدى عشر الرسالة التلغرافية المرسلة إلي في أربعة الأيام الأخيرة بخصوص مسائل السياسة العامة، وإني شديد الرغبة في مساعدتك بكل طريقة، لكني لم أتمكن من معرفة ما ترغبه للآن، وأرى أن أحسن طريقة هي أن تلخص المسألة جيدا وتخبرني تلغرافيا بما تستصوبه.
فأجابه غوردون تلغرافيا بما يلي:
10
يجب على الحكومة مساعدتي، وأن إجابة مطالبي ضربة لازب.
وإليك تلغراف السير بارنج إلى اللورد غرانفيل بتاريخ 4 مارس، حيث قال ما يأتي:
إن الجنرال غوردون والسير استيوارت يلحان بوجوب فتح الطريق بين سواكن وبربر لنجاح مأموريتهما الحاضرة، أما أنا فلا يمكنني تعضيد ما جاء بتلغراف استيوارت من إرسال فرقة من الخيالة الإنكليزية أو الهندية إلى سواكن.
وأرسل السير بارنج إلى اللورد غرانفيل الرسالة الآتية أيضا:
أتشرف بأن أخبر سعادتكم أن الجنرال غوردون كتب إلي تلغرافيا بأننا لو أرسلنا مائة جندي إلى أسوان ووادي حلفا يأمن من كل خطر، ويكون في حالة اطمئنان؛ كالسواح المسافرين في النيل، وينتج منها تحويل صغير، أما أنا فلا أريد مطلقا أن أخاطر بحياة فرقة صغيرة مؤلفة من مائة جندي فقط.
الجنرال غرانفيل باشا الذي عين في سنة 1885 سردار للجيش المصري خلفا للجنرال وود باشا الذي استقال، وهو غير اللورد غرانفيل الوزير.
وكان قصد غوردون من هذه الرسائل مع السير بارنج أن يكون التاريخ حكما بينه وبين حكومته الإنجليزية كما قدمنا؛ ولذا بعث بتلغرافات قبل وصوله إلى الخرطوم فحواها أن الاضطرابات أقل مما كان يظن، وأنه يرى أن لا مندوحة له عن تمحيص حكومة جلالة الملكة النصح بتسكين الاضطراب في السودان الشرقي، وتقوية خطوط الاتصال بين بربر وشواطئ البحر الأحمر من جهة، وبين حدود مصر من جهة أخرى، وحاول إقناع السير بارنج بأن السودان مفتقر الافتقار كله إلى إشراف الحكومة الخديوية عليه، بما لها من حقوق السيادة، وسأله إبدال الفرمان الذي كان يحمله بآخر يحتم على السودان وجوب الخضوع إلى مصر، فذهبت مساعيه كلها أدراج الرياح. وكان غوردون يرى - بعد فشل سياسة الملاينة - أن وقوع السودان في قبضة المهدي سيكون خطرا على مصر، وأن احتلال إنكلترا لوادي النيل يحتم عليها العمل عاجلا لإبعاد الأخطار عن البلاد التي احتلوها؛ بحجة توطيد دعائم الأمن والراحة في أرجائها.
وجاء ضمن نصائحه أن حكومة جلالة الملكة ستضطر يوما لمناجزة المهدي وكبح جماح طغيانه، وسوف تتكبد من الضحايا ما يبلغ عشرة أضعاف ما تتكبده الآن لو عملت بمشورته وقبلت نصيحته، فلم يلتفت السير بارنج إلى شيء من ذلك كله، بل أصر على إنفاذ ما رسمه ساسة قومه، غير مكترث لشيء من الضحايا التي يتكبدها سكان السودان عموما، وسكان الخرطوم خصوصا، وأخيرا لما تعرض له غوردون نفسه من هلاك محقق. (4) اللواء إبراهيم فوزي باشا
كان المرحوم اللواء إبراهيم فوزي باشا مع غوردون في فتوحاته الجنوبية، وعاونه على إصلاحاته حتى استتب الأمن في هذه الجهات الاستوائية المتنائية، مما عاد إلى السودان بتأمين مواصلاته بعد أن فتك بالنخاسين، وكانوا أصحاب النفوذ والسلطان، فأخضعهم لسيطرة الحكومة.
11
ولد إبراهيم فوزي بالقاهرة، ودخل المدرسة الحربية في عهد إسماعيل، وبعد تخرجه ألحق بالخدمة في حكمدارية السودان، وكان حكمدارها إسماعيل باشا أيوب، ولما وصل غوردون إلى الخرطوم لأول مرة - وكان معينا مديرا مستقلا للمقاطعات الاستوائية - طلب من الحكمدارية انتخاب بعض الضباط ليعاونوه في مهمته، فامتنع أكثرهم عن قبول الخدمة معه؛ لبعد الشقة، وعذاب السفر، ومكافحة الأقوام المتوحشة التي يقصد غوردون إخضاعها، ولكن الضابط إبراهيم فوزي أظهر رغبته في مصاحبة غوردون لخدمة بلاده، فشكر له غوردون هذه الرغبة، وفوض له أمر فرز الجنود وتدريبها.
وبعد أن تم إعداد البواخر لسفر الحملة ولاه قيادتها، فسافرت البواخر عابرة النيل الأبيض، فبحر الزراف، فبحر الجبل، إلى أن وصلت إلى البحيرات الكبرى، وهو في خلال هذه الرحلة الشاقة يقودهم من نصر إلى نصر، مقاوما الزنوج وتجار الرقيق، إلى أن تم لغوردون بسط النفوذ المصري على جميع الجهات الاستوائية، فكافأه على بطولته بأن عينه مديرا لبحر الغزال، ثم مديرا للمقاطعات الاستوائية الجديدة، وبسبب وشاية قبلها غوردون فصل من وظيفته، ولما تحقق غوردون من كذب هذه الوشاية التمس من الخديوي إسماعيل إعادته إلى الخدمة.
المرحوم اللواء إبراهيم فوزي باشا.
ولما وقعت الثورة العرابية كان المترجم له قائدا للفرقة التي عسكرت في أبي قير لمقاومة نزول الإنكليز، ثم حوكم مع رفاقه الذين والوا العرابيين، فحكم عليه بالتجريد من رتبته وألقابه ونياشينه التي نالها بالمتاعب والمشاق واقتحام الأهوال في فتوحات خط الاستواء.
البارون السير اللواء رودلف فون سلاطين باشا. كان ضابطا نمسويا، وعينه غوردون مفتشا للمالية بالسودان، ثم رقي مديرا لدارفور، حيث أسر وتظاهر بقبول الإسلام والمهدية، وسمي عبد القادر، ثم هرب، وبعد إعادة السودان أصبح مفتشا عاما حتى سنة 1914، فلم يعد من النمسا بسبب الحرب، ثم مات سنة 1932، بعد أن زار السودان بعد الحرب، وكان محل ثقة ونجت باشا.
ولما ندبت وزارة نوبار «غوردون» لإخلاء السودان أرسل برقية عند إبحاره إلى وود باشا، سردار الجيش المصري، بضرورة مرافقة الضابط إبراهيم فوزي له في هذه المهمة الخطيرة، ولما وصل إلى القاهرة التمس من الخديوي توفيق العفو عنه، فردت إليه رتبه ونياشينه، وصحب غوردون إلى الخرطوم، وتولى قيادة حاميتها، وانتصر على الدراويش في وقائع كثيرة؛ أهمها واقعة الحلفاية، التي جرح فيها جرحا بليغا، وظل مع غوردون إلى أن سقطت المدينة في 25 يناير سنة 1885، فأسره الدراويش وعذبوه تعذيبا، وتزوج وهو في الأسر، وبقي يقاسي آلام الأسر والسجن أربعة عشر عاما، إلى أن أنقذه اللورد كتشنر في سبتمبر سنة 1898.
ولإبراهيم فوزي باشا كتاب تاريخي في جزءين اسمه: «السودان بين يدي غوردون وكتشنر».
الفصل الخامس والعشرون
مسألة المهدي المنتظر
من الأخبار المتواترة في البلاد الإسلامية أنه يظهر في آخر الزمان رجل عظيم يسمى «المهدي»، ينقذ الأمة الإسلامية والعالم من الفوضى التي نشبت أظفارها، ومن المجاعات والظلم.
وأورد المعتقدون في ظهور المهدي أحاديث نبوية، وقال خصومهم إنها أحاديث موضوعة.
المهدي المنتظر والأحاديث النبوية الواردة بشأنه
كتب ابن خلدون في مقدمته ص260 تحت عنوان «الفصل الثاني والخمسون»:
أعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته .
ويحتجون في هذا الباب بأحاديث خرجها الأئمة، وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار، وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى، ونوع من الاستدلال، وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم، ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن، وما للمنكرين فيها من المطاعن، وما لهم في إنكارها من المستند، ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم؛ ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى.
فنقول: إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي، منهم: الترمذي وأبو داود والبزار وابن ماجه والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة مثل: علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحرث بن جزء، بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره، إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل، فإذا وجدنا طعنا في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي، تطرق ذلك إلى صحة الحديث، وأوهن منها، ولا تقولن مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين؛ فإن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفع، وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك، فقد تجد مجالا للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك.
ولقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي، فقال مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من كذب بالمهدي فقد كفر، ومن كذب بالدجال فقد كفر»، وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب، وحسبك هذا غلوا، والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس، على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع.
أما الترمذي، فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عباس من طريق عاصم بن أبي النجود، أحد القراء السبعة، إلى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي»، هذا لفظ أبي داود، وسكت عليه، وقال في رسالته المشهورة إن ما سكت عليه في كتابه صالح، ولفظ الترمذي: «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»، وفي لفظ آخر: «حتى يلي رجل من أهل بيتي»، وكلاهما حديث حسن صحيح، ورواه أيضا من طريق موقوفا على أبي هريرة، وقال الحاكم: رواه الثوري وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم قال: وطرق عاصم عن زر عن عبد الله كلها صحيحة على ما أصلته من الاحتجاج بأخبار عاصم؛ إذ هو إمام من أئمة المسلمين. انتهى.
إلا أن عاصما قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلا صالحا قارئا للقرآن، خيرا ثقة، والأعمش أحفظ منه، وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث، وقال العجلي: كان يختلف في زر وأبي وائل، يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما، وقال محمد بن سعد: كان ثقة، إلا أنه كثير الخطأ في حديثه، وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه اضطراب، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قلت لأبي إن أبا زرعة يقول: عاصم ثقة، فقال: ليس محله هذا، وقد تكلم فيه ابن علية فقال: كل من اسمه عاصم سيئ الحفظ، وقال: أبو حاتم: محله عندي محل الصدق صالح الحديث، ولم يكن بذلك الحافظ، واختلف فيه قول النسائي، وقال ابن حراش: في حديثه نكرة، وقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن فيه إلا سوء الحفظ، وقال الدارقطني: في حفظه شيء، وقال يحيى القطان: ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ، وقال أيضا: سمعت شعبة يقول: حدثنا عاصم بن أبي النجود وفي الناس ما فيها، وقال الذهبي: ثبت في القراءة، وهو في الحديث دون التثبت صدوق فهم، وهو حسن الحديث، وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له فنقول: أخرجا له مقرونا بغيره لا أصلا، والله أعلم.
وخرج أبو داود في الباب عن علي - رضي الله عنه - من رواية قطن بن خليفة، وإن وثقه أحمد ويحيى القطان وابن معين والنسائي وغيرهم، إلا أن العجلي قال: حسن الحديث، وفيه تشيع قليل، وقال ابن معين مرة: ثقة شيعي، وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنا نمر على قطن وهو مطروح لا نكتب عنه، وقال مرة: كنت أمر به وأدعه مثل الكلب، وقال الدارقطني: لا يحتج به، وقال أبو بكر بن عياش: ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه، وقال الجارجاني: زائغ غير ثقة. انتهى.
وخرج أبو داود أيضا بسنده إلى علي - رضي الله عنه - عن مروان بن المغيرة، عن عمر بن أبي قيس، عن شعيب بن أبي خالد، عن أبي إسحق النسفي قال: قال علي - ونظر إلى ابنه الحسن: إن ابني هذا سيدكما، سماه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم، يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق، يملأ الأرض عدلا. وقال هرون: حدثنا عمر بن أبي قيس، عن مطرف بن طريف، عن أبي الحسن، عن هلال بن عمر، سمعت عليا يقول: قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحرث، على مقدمته رجل يقال له منصور، يوطئ - أو يمكن - لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وجب على كل مؤمن نصره - أو قال إجابته»، سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في هرون: هو من ولد الشيعة، وقال السليماني: فيه نظر، وقال داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس به، في حديثه خطأ، وقال الذهبي: صدوق له أوهام، وأما أبو إسحق الشيعي، وإن خرج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره، وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هرون بن المغيرة. أما السند الثاني، فأبو الحسن فيه، وهلال بن عمر مجهولان، ولم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه. انتهى.
وخرج أبو داود أيضا عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «المهدي من ولد فاطمة»، ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يذكر المهدي فقال: «نعم، هو حق، ومن بني فاطمة»، ولم يتكلم عليه بتصحيح ولا غيره، وقد ضعفه أبو جعفر العقيلي وقال: لا يتابع علي بن نفيل عليه، ولا يعرف إلا به.
وخرج أبو داود أيضا عن أم سلمة من رواية صالح أبي الخليل، عن صاحب له، عن أم سلمة، قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، فيبعث إن بعث من الشام فيخسف بهم البيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسم المال، ويعمل في الناس بسنة نبيهم
صلى الله عليه وسلم ، ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض، فيلبث سبع سنين - وقال بعضهم تسع سنين».
ثم رواه أبو داود من رواية أبي الخليل عن عبد الله بن الحرث، عن أم سلمة، فتبين بذلك المبهم في الإسناد الأول ورجاله رجال الصحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز، وقد يقال إنه من رواية قتادة عن أبي الخليل، وقتادة مدلس وقد عنعنه، والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع، مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي، نعم ذكره أبو داود في أبوابه، وخرج أبو داود أيضا، وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال: رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، يملك سبع سنين». هذا لفظ أبي داود وسكت عليه ، ولفظ الحاكم المهدي: «منا أهل البيت، أشم الأنف، أقنى أجلى، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، يعيش هكذا - وبسط يساره وأصبعين من يمينه، السبابة والإبهام، وعقد ثلاثة»، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ا.ه.
وعمران القطان مختلف في الاحتجاج به، إنما أخرج له البخاري استشهادا لا أصلا، وكان يحيى القطان لا يحدث عنه، وقال يحيى بن معين: ليس بالقوي، وقال مرة: ليس بشيء، وقال أحمد بن حنبل: أرجو أن يكون صالح الحديث، وقال يزيد بن زريع: كان حروريا، وكان يرى السيف على أهل القبلة، وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو عبيد الأجري: سألت أبا داود عنه فقال من أصحاب الحسن، وما سمعت إلا خيرا، وسمعته مرة أخرى ذكره فقال ضعيف، أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء.
وخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدري، من طريق زيد العمي، عن أبي الصديق التاجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث، فسألنا نبي الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: «إن في أمتي المهدي، يخرج ويعيش خمسا أو سبعا أو تسعا - زيد الشاك، قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: «سنين»، قال: فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني، قال: «فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله»، هذا لفظ الترمذي، وقال: حديث حسن.
وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولفظ ابن ماجه والحاكم: «يكون في أمتي المهدي، إن قصر فسبع وإلا فتسع، فتنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا بمثلها قط؛ تؤتي الأرض أكلها ولا يدخر منه شيء، والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل فيقول: يا مهدي، أعطني، فيقول: خذ.» انتهى.
وزيد العمي وإن قال فيه الدار قطني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنه صالح، وزاد أحمد إنه وفوق يزيد الرقاشي وفضل بن عيسى، إلا أنه قال فيه أبو حاتم: ضعيف، يكتب حديثه وهو ضعيف، وقال الجرجاني: متماسك ، وقال أبو زرعة، ليس بقوي، واهي الحديث ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بذلك، وقد حدث عنه شعبة، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ومن يروي عنهم ضعفاء، على أن شعبة قد روى عنه، ولعل شعبة لم يرو عن أضعف منه، وقد يقال إن حديث الترمذي وقع تفسيرا لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثيا، لا يعده عدا»، ومن حديث أبي سعيد قال: «من خلفائكم خليفة يحثو المال حثيا»، ومن طريق أخرى عنهما قال: «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده.» انتهى.
وأحاديث لم يقع فيها ذكر المهدي، ولا دليل يقوم على أنه هو المراد منها، ورواه الحاكم أيضا من طريق عوف الأعرابي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جورا وظلما وعدوانا، ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا»، وقال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الحاكم أيضا من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعا أو ثمانيا - يعني حججا»، وقال فيه: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من السنة، لكن ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يرد أن أحدا تكلم فيه، ثم رواه الحاكم أيضا من طريق أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن مطر الوراق وأبي هرون العبدي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «تملأ الأرض جورا وظلما فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعا أو تسعا، فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما»، وقال الحاكم فيه: حديث صحيح على شرط مسلم، وإنما جعله على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة، وعن شيخه مطر الوراق، وأما شيخه الآخر وهو أبو هرون العبدي فلم يخرج له، وهو ضعيف جدا متهم بالكذب ، ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه.
وأما الراوي له عن حماد بن سلمة فهو أسد بن موسى، ويلقب أسد السنة، وإن قال البخاري: مشهور الحديث، واستشهد به في صحيحه، واحتج به أبو داود والنسائي، إلا أنه قال مرة أخرى: ثقة لو لم يصنف كان خيرا له، وقال فيه محمد بن حزم: منكر الحديث، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهدلة عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «يخرج من أمتي يقول بسنتي، ينزل الله - عز وجل - له القطر من السماء، وتخرج الأرض بركتها، وتملأ الأرض منه قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، يعمل على هذه الأمة سبع سنين، وينزل بيت المقدس»، وقال الطبراني فيه: رواه جماعة عن أبي الصديق، ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحدا، إلا أبا الواصل فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد. انتهى.
وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد، من روايته عن أبي سعيد، ورواية أبي الصديق عنه، وقال الذهبي في الميزان: إنه مجهول، لكن ذكره ابن حبان في الثقات، وأما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة، وذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية، وقال فيه: يروي عن أنس، وروى عنه شعبة وعتاب بن بشر.
وخرج ابن ماجه في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود، من طريق يزيد بن أبي زياد، عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذرفت عيناه وتغير لونه، قال: فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه، فقال: «إنا أهل البيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق، معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤها جورا، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج.» انتهى.
وهذا الحديث يعرف عند المحدثين بحديث الرايات، ويزيد بن أبي زياد راويه قال: فيه شعبة كان رفاعا - يعني يرفع الأحاديث التي لا تعرف مرفوعة، وقال محمد بن الفضيل: كان من كبار أئمة الشيعة، وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ، وقال مرة: حديثه ليس بذلك، وقال يحيى بن معين: ضعيف، وقال العجلي: جائز الحديث، وكان بآخره يلقن، وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال الجرجاني: سمعتهم يضعفون حديثه، وقال أبو داود: لا أعلم أحدا ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وقال ابن عدي: هو من شيعة أهل الكوفة، ومع ضعفه يكتب حديثه، وروى له مسلم لكن مقرونا بغيره.
وبالجملة، فالأكثرون على ضعفه، وقد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وهو حديث الرايات، وقال وكيع بن الجراح فيه: ليس بشيء، وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال أبو قدامة: سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات: لو حلف عندي خمسين يمينا قسامة ما صدقته، أهذا مذهب إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ وأورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء، وقال الذهبي: ليس بصحيح.
وخرج ابن ماجه عن علي - رضي الله عنه - من رواية يس العجلي، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «المهدي منا أهل البيت، يصلح الله به في ليلة.» ويس العجلي وإن قال فيه ابن معين: ليس به بأس، فقد قال البخاري: فيه نظر، وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جدا، وأورد له ابن عدي في الكامل والذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له، وقال: هو معروف به.
وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن علي - رضي الله عنه - أنه قال للنبي
صلى الله عليه وسلم
أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله؟ فقال: «بل منا، بنا يختم الله كما بنا فتح، وبنا يستنقذون من الشرك، وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة، كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك»، قال علي: أمؤمنون أم كافرون؟ قال: «مفتون وكافر». انتهى.
وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف معروف الحال، وفيه عمر بن جابر الحضرمي، وهو أضعف منه، قال أحمد بن حنبل: روى عن جابر مناكير، وبلغني أنه كان يكذب، وقال النسائي ليس بثقة، وقال: كان ابن لهيعة شيخا أحمق ضعيف العقل، وكان يقول علي في السحاب، وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول هذا علي قد مر في السحاب.
وأخرج الطبراني عن علي - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن، فلا تسبوا أهل الشام، ولكن سبوا أشرارهم؛ فإن فيهم الأبدال، يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم، فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات، المكثر يقول هم خمسة عشر ألفا، والمقلل يقول هم اثنا عشر ألفا، وأمارتهم أمت أمت، يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك، فيقتلهم الله جميعا، ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ودانيتهم» ا.ه.
وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف معروف الحال، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، في روايته: «ثم يظهر الهاشمي فيرد الله الناس إلى ألفتهم ... إلخ»، وليس في طريقة ابن لهيعة، وهو إسناد صحيح كما ذكر.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن علي - رضي الله عنه - من رواية أبي الطفيل، عن محمد ابن الحنفية قال: كنا عند علي - رضي الله عنه - فسأله رجل عن المهدي، فقال علي: هيهات، ثم عقد بيده سبعا، فقال: ذلك يخرج في آخر الزمان، إذا قال الرجل الله الله قتل، ويجمع الله له قوما قزع.
1
كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم، فلا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد، دخل فيهم عدتهم على عدة أهل بدر، لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الآخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، قال أبو الطفيل، قال ابن الحنفية: أتريده؟ قلت: نعم، قال: فإنه يخرج من بين هذين الأخشبين، قلت: لا جرم والله، ولا أدعها حتى أموت، ومات بها - يعني مكة.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. انتهى. وإنما هو على شرط مسلم فقط، فإن فيه عمارا الذهبي ويونس بن أبي إسحق، ولم يخرج لهما البخاري، وفيه عمرو بن علي العبقري ولم يخرج له البخاري احتجاجا بل استشهادا، مع ما ينضم إلى ذلك من تشيع عمار الذهبي، وهو وإن وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم النسائي وغيرهم فقد قال علي بن المديني عن سفيان: إن بشر بن مروان قطع عرقوبيه، قلت: في أي شيء؟ قال: في التشيع.
وأخرج ابن ماجه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن علي بن زياد اليمامي، عن عكرمة بن عمار، عن إسحق بن عبد الله، عن أنس قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «نحن ولد عبد المطلب، سادات أهل الجنة، أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي» انتهى.
وعكرمة بن عمار وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له متابعة، وقد ضعفه بعض ووثقه آخرون، وقال أبو الحاتم الرازي: هو مدلس فلا يقبل إلا أن يصرع بالسماع، وعلي بن زياد قال الذهبي في الميزان : لا ندري من هو، ثم قال: الصواب فيه عبد الله بن زياد؛ وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين: ليس به بأس، فقد تكلم فيه الثوري، قالوا: لأنه رآه يفتي في مسائل ويخطئ فيها ، وقال ابن حبان: كان ممن فحش عطاؤه فلا يحتج به، وقال أحمد بن حنبل: سعد بن عبد الحميد يدعي أنه سمع عرض كتب مالك، والناس ينكرون عليه ذلك، وهو ها هنا ببغداد ولم يحتج فكيف سمعها؟ وجعله الذهبي ممن لم يقدح فيه كلام من تكلم فيه.
وخرج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عباس موقوفا عليه، قال مجاهد: قال لي ابن عباس: لو لم أسمع أنك من أهل البحث ما حدثتك بهذا الحديث، قال: فقال مجاهد: فإنه في سترك أذكره لمن يكره، قال: فقال ابن عباس: منا أهل البحث أربعة: منا السفاح، ومنا المنذر، ومنا المنصور، ومنا المهدي، قال: فقال مجاهد: بين لي هؤلاء الأربعة، فقال ابن عباس: أما السفاح فربما قتل أنصاره وعفا عن عدوه، وأما المنذر أراه قال فإنه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه، وأما المنصور فإنه يعطي النصر على عدوه الشطر مما كان يعطي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ويرهب منه عدوه على مسيرة شهرين، والمنصور يرهب منه عدوه على مسيرة شهر، وأما المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وتأمن البهائم السباع، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها، قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة. ا.ه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه، وإسماعيل ضعيف، وإبراهيم أبوه وإن خرج له مسلم فالأكثرون على تضعيفه. ا.ه.
وأخرج ابن ماجه عن ثوبان قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «يقتتل عند كبركم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق »، ثم قال: لا تقوم نزعة من الدعاء إلى الحق والقيام بالسنة، لا ينتحلون فيها دعوة فاطمي ولا غيره، وإنما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السنة وتغيير المنكر، ويعتني بذلك ويكثر تابعه، وأكثر ما يعنون بإصلاح السابلة لما أن كثر فساد الأعراب فيها؛ لما قدمناه من طبيعة معاشهم، فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا، إلا أن الصبغة الدينية فيهم لم تستحكم؛ لما أن توبة العرب ورجوعهم إلى الدين إنما يقصدون بها الاقتصار عن الغارة والنهب، لا يعقلون في توبتهم، وإقبالهم إلى مناحي الديانة غير ذلك؛ لأنها المعصية التي كانوا عليها قبل المقربة، ومنها توبتهم، فتجد ذلك المنتحل للدعوة والقائم بزعمه بالسنة غير متعمقين في فروع الاقتداء والاتباع، إنما الإعراض عن النهب والبغي وإفساد السابلة، ثم الإقبال على طلب الدنيا والمعاش بأقصى جهدهم، وشتان بين هذا الآخر في إصلاح الخلق ومن طلب الدنيا، فاتفاقهم ممتنع، لا تستحكم له صبغة في الدين، ولا يكون له نزوع عن الباطل على الجملة، ولا يكثرون، ويختلف حال صاحب الدعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعه، فإذا هلك انحل أمرهم، وتلاشت عصبيتهم، وقد وقع ذلك بإفريقيا لرجل من كعب من سليم، يسمى قاسم بن مرة بن أحمد في المائة السابعة، ثم من بعده لرجل آخر من بادية رياح، من بطن منهم يعرفون بمسلم، وكان يسمى سعادة، وكان أشد دينا من الأول وأقوم طريقة في نفسه، ومع ذلك فلم يستتب أمر تابعه كما ذكرناه، حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح، وبعد ذلك ناس بهذه الدعوة يتشبهون بمثل ذلك، ويلبسون فيها، وينتحلون اسم السفة وليسوا عليها إلا الأقل، فلا يتم لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم ا.ه.
أخبرني شيخنا محمد بن إبراهيم الآبلي قال: خرج برباط ماسة لأول المائة الثامنة، وعصر السلطان يوسف بن يعقوب، رجل من منتحلي التصوف يعرف بالتويزري؛ نسبة إلى توزر مصغرا، وادعى أنه الفاطمي المنتظر، واتبعه الكثير من أهل السوس من ضالة وكزولة، وأعظم أمره وخافه رؤساء المصامد على أمرهم، فدس عليه السكسوي من قتله بياتا وانحل أمره، وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السابعة وعشر التسعين منهم رجل يعرف بالعباس، وادعى أنه الفاطمي، اتبعه الدهماء من غمارة، ودخل مدينة عنوة وحرق أسواقها، وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتم أمره، وكثير من هذا النمط.
وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا، وهو أنه صحب في حجه في رباط العباد - وهو مدفن الشيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطل عليها - رجلا من أهل البيت من سكان كربلاء، كان متبوعا معظما كثير التلميذ والخادم، قال: وكان الرجال من موطنه يتلقونه بالنفقات في أكثر البلدان، قال: وتأكدت الصحبة بيننا في ذلك الطريق، فانكشف لي أمره، وأنهم إنما جاءوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر، وانتحال دعوى الفاطمي بالمغرب، فلما عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب حينئذ منازل ترمسان قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط، وليس هذا الوقت وقتنا. ويدل هذا القول من هذا الرجل على أنه مستبصر في أن الأمر لا يتم إلا بالعصبية المكافأة لأهل الوقت، فلما علم أنه غريب في ذلك الوطن، ولا شوكة له، وأن عصبية بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب، استكان ورجع إلى الحق، وأقصر على مطامعه، وبقي عليه أن يستيقن أن عصبية الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت، لا سيما في المغرب، إلا أن التعصب لشأنه لم يتركه لهذا القول، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ا.ه.
مفندو المهدية
وهناك فقهاء قاموا بتفنيد الدعوة المهدية، ومنهم الشيخ محمد الزاكي ود الزاكي، ومحمد الأمين يوسف الهندي، والد الشريف يوسف الهندي، وشاكر الغزي، وقد وضع رسالة في الرد على الدعوة المهدية، وكان مفتيا لمجلس استئناف السودان، ومحمد نور أحمد، من عمد بارة، والسيد أحمد الأزهري بن الشيخ إسماعيل الولي الكردفاني، شيخ الإسلام في عموم غرب السودان، والشيخ محمد شريف نور الدائم أستاذ المهدي
2
في التصوف، وصدرت فتوى من علماء الأزهر ومنشور من السلطان عبد الحميد خان الثاني بتفنيد الدعوة المهدية واستهجانها والتحذير منها.
مدعو المهدية
ادعى المهدية كثيرون، ظهروا في بلاد العرب ومراكش والهند وأمريكا وغيرها، ومثالهم: محمد بن عبد الله، الملقب بالنفس الزكية سنة 145ه، في عهد الخليفة المنصور ثاني الخلفاء العباسيين ، الذي قتله بعد أن استفحل أمره، وعبد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق مؤسس الدولة الفاطمية، ومحمد بن عبد الله بن تومرت، المعروف بالمهدي الهرعي، ويكنى أبا عبد الله من مراكش، وقد أسس دولة بني عبد المؤمن، والعباس الفاطمي في فاس، والسيد أحمد، على حدود بنجاب بالهند، ومهدي الصومال «الملا» الذي ظهر في بلاد الصومال في آخر القرن الماضي، ومحمد المهدي السنوسي، ومهدي تامة الأول، وهو فقيه من قرية الجميزة ادعى أنه المهدي المنتظر ولكنه قتل. وظهر دعي آخر اسمه أحمد بن عبد الله من الجميزة وقد قتل، وادعى محمد الأمين في سنة 1903 أنه المهدي، وظهر في جبال تقلى، وقد قبض عليه في 27 سبتمبر سنة 1903 وشنق، وقد تبين أنه رحالة من الأفاقين.
وجاء في تقرير الفيكونت كتشنر عن السودان سنة 1912 ما يلي:
جبل قدير - سار الكبتن دار وال بفصيلة من الهجانة من تالودي ليقبض على «فقي»
3
يسمى عكاشة أحمد، ادعى أنه المهدي.
فأبى الفقي التسليم، ودار القتال بين الفريقين، وأسفر عن قتل عكاشة أحمد و11 من أتباعه، وجرح ضابطين مصريين وصف ضابط.
الفصل السادس والعشرون
محمد أحمد المهدي
ولد «محمد أحمد المهدي».
1
في جزيرة ضرار من أعمال دنقلة، ويسمي إبراهيم فوزي باشا هذه الجزيرة باسم جزيرة «الخناق»، الواقعة جنوب مدينة العربي، ويقول نعوم شقير بك في كتابه «تاريخ السودان» إن ولادته كانت سنة 1258ه المقابلة سنة 1843م، واسم أبيه عبد الله، واسم أمه زينب، وقبيلته من العرب المتنوبة، وقد عرفت في دنقلة بصبرنسى؛ أي قبيلة صبر، وهو جد له، كما عرفت أيضا بالأشراف، وقد قال السيد محمد أحمد المهدي عن نسبه ما يلي: محمد المهدي بن عبد الله بن فحل بن عبد الولي بن عبد الله بن محمد بن حاج شريف بن علي بن أحمد بن علي بن حسب النبي بن بصر بن النصر بن عبد الكريم بن حسين بن عون الله بن نجم الدين بن عثمان بن موسى بن أبي العباس بن يونس بن عثمان بن يعقوب بن عبد القادر بن الحسن العسكري بن علوان بن عبد الباقي بن صخرة بن يعقوب بن الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب.
وكان له أخان، محمد وحامد، وكانا يشتغلان مع أبيهما نجارين يصنعان المراكب، وكانت لآل المهدي شهرة في تلك الصناعة، وكانت هذه الصناعة من الصناعات المشهورة الضرورية في السودان مع صناعة الأسلحة.
وقد أجدبت دنقلة وأمحلت الجزيرة المذكورة، فهجرها «عبد الله» والد المهدي ومعه أولاده من دنقلة إلى «كررى» الواقعة شمالي أم درمان بنحو 15 ميلا. وقد توفي عبد الله بعد قليل وترك ابنا أسمي عبد الله جنينا في بطن أمه، وعادة أهل السودان أن يسموا الابن الذي يكون جنينا عند وفاة أبيه باسم الأب نفسه.
امتاز محمد أحمد المهدي عن إخوته الذين كانوا يشتغلون بصناعة المراكب بكونه مال بالفطرة إلى حفظ القرآن، والتفقه بالعلوم الدينية من التوحيد والفقه والتصوف، وكان معروفا بالتقشف والزهد، وكان يقال إنه يمتنع عن أكل زاد شيخه الشيخ محمد الخير؛ لأنه كان يجري عليه من الحكومة، قائلا: إنه مال الظلم، فكان إذا لم يأته الزاد من أهله اصطاد السمك من النيل واكتفى به طعاما.
وأتقن مبادئ النحو، وكان من أساتذته الشيخ الأمين الصويلح في مسجد ود عيسى بالجزيرة، والشيخ محمد الخير في الغبش تجاه بربر، وقد تتلمذ في التصوف إلى الشيخ محمد شريف نور الدائم، حفيد الشيخ الطيب صاحب الطريقة السمانية، وقد برز في التقشف والتصوف على أنداده من تلاميذ الشيخ، وبلغ أمره في ذلك أنه كان يقوم بالاحتطاب والاستقاء والطحن والطبخ لأستاذه، وهو غير مكلف بذلك، وكان كلما وقف للصلاة يبكي حتى يبلل الأرض بدموعه، وإذا جلس أمام شيخه نكس رأسه إلا إذا كلمه، فيرفع عند ذلك طرفه في أدب وحياء.
ولما رآه شيخه على هذه الحال وأنه سالك طريق المريدين وناهج منهج الصالحين مال إليه وأحبه، وجعله شيخا وأعطاه راية، وأذن له في الذهاب حيث شاء لإعطاء العهود وتسليك الطريقة، فذهب إلى الخرطوم وتزوج بابنة عم له، وفي سنة 1286ه المقابلة سنة 1871م رحل مع إخوته إلى جزيرة «أبا»؛ لكثرة أشجارها وتوافر غاباتها بالانتفاع بهذه الأخشاب في صنع المراكب، فأما إخوته فقد باشروا صناعة المراكب، وأما هو فقد بث طريقته، وبنى في جزيرة أبا جامعا للصلاة وخلوة للتدريس، فاجتمع عليه سكان تلك الجزيرة، وهم: ضغيم وكنانة وغيرهم من عرب البادية، فأخذوا العهد عنه، وتتلمذ الكثيرون له، وفي جملتهم علي ود الحلو، الذي صار بعد قيام المهدية الخليفة الثاني للمهدي.
وقد ذاع صيت المهدي وكثر أنصاره، وكان يزور أستاذه الشيخ محمد شريف الذي انتقل إلى القاردية بالقرب من جبل أولى، على أن الشيخ محمد شريف لم يلبث أن حقد على تلميذه محمد أحمد المهدي الذي بزه شهرة وأنصارا، خصوصا بعد أن بدأ المهدي في الإفضاء بالدعوة المهدية إلى تلاميذه، فظهر الشيخ محمد شريف خصيما للدعوة المهدية، وكان عونا للحكومة في مناهضتها وتكذيبها، وتعزى للشيخ محمد شريف قصيدة طويلة نظمها بإيعاز عبد القادر باشا حلمي حكمدار السودان يومئذ سنة 1882، قصيدة جاء فيها:
لقد جاءني في عام «زع»، لموضع
على جبل السلطان في شاطئ البحر
يروم الصراط المستقيم على يدي
فبايعته عهدا على النهي والأمر
فقام على نهج الهداية مخلصا
وقد لازم الأذكار في السر والجهر
وأفرغ في نهج المحامد جهده
فرقيته جهلا بعاقبة الأمر
فقال أنا المهدي فقلت له استقم
فهذا مقام في الطريق لمن يدري
وفي رواية أخرى أن الشيخ شريف لم يكن خصيما للدعوة المهدية في أول الأمر، على اعتبار أنها هداية وإنقاذ للسودان لا على اعتبار أن المهدي هو المهدي المنتظر الذي ورد ذكره في الأحاديث، بل كان يرى الوقت غير ملائم - يومئذ - لظهور الحركة الثورية الاستقلالية.
وكان الشيخ شريف
2
نفسه يريد في الوقت المناسب أن يتزعم حركة دينية استقلالية من غير انتحال المهدية .
على أن المهدي قد تتلمذ لشيخ آخر من شيوخ الطريقة، وهو الشيخ القرشي، الذي كان في الحلاويين بين المسلمية والكاملين، وقد أخذ القرشي طريقة السمانية مباشرة عن مؤسسها الشيخ الطيب، وقال القرشي إلى محمد شريف: «إني رأيت محمد أحمد مستحقا، ومنع المستحق ظلم.» وقد استمر محمد أحمد المهدي في ذيوع الاسم وبعد الصيت، وقد حفر بجزيرة أبا غارا تحت الأرض، وكان الناس يحضرون إليه؛ إذ كان يتعبد في الغار للتبرك به، وكانت الهدايا تقدم إليه فكان يتعفف عن أخذها ويعطيها للفقراء، وكان يخرج من مكانه مع بعض أصحابه لدعوة الناس إلى طريقته، فسافر إلى دنقلة وسنار، وعلى النيل الأزرق وكردفان، وأخذ نوره يتألق، وكل الناس يتنافسون في التقرب منه، ويسردون على مسامعه ما كانوا يرونه من المظالم والبدع.
وقد وفد عليه عبد الله التعايشي، وعندما رآه وقع مغشيا عليه، ولم يفق من غشيته إلا بعد ساعة، ولما أفاق عاد فنظر إلى المهدي فأغمي عليه مرة ثانية، ثم أفاق، ثم قبل يده باكيا، فقال له المهدي: من أنت؟ وما شأنك؟ فقال عبد الله: «أنا عبد الله بن محمد تورشين، من قبيلة التعايشة البقارة، وقد سمعت بصلاحك إلى دار الغرب، فجئت لآخذ الطريقة عنك، وكان لي أب صالح من أهل الكشف قال لي قبل وفاته إنك ستقابل المهدي وتكون وزيره، وقد أخبرني بعلامات المهدي وصفاته، فلما وقع نظري عليك رأيت فيك العلامات التي أخبرني بها والدي بعينها، فابتهج قلبي لرؤية مهدي الله وخليفة رسوله، ومن شدة الفرح الذي شملني أصابني الذي رأيته.»
فوجد المهدي أن الذي يقوله عبد الله التعايشي مطابق لاعتقاده، ذلك الاعتقاد بأنه المهدي المنتظر، ومن ثم خرج بأصحابه سائحا إلى دار الغرب، وقد لبسوا لباس الدراويش، وهو الجبة المرقعة والسبحة والعكاز وإبريق فخار، وكان المهدي يسر دعوته إلى أخصائه وتلاميذه ومشايخ الطرق، ثم أخذ يرسل الكتب مصرحا بدعوته، وكان يقول: إنني رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم
بعيني رأسي يقظة، فأجلسني على كرسيه وقلدني سيفه، فغسل قلبي بيده وملأه إيمانا وحكما ومعارف منيعة، وأخبرني بأنني الخليفة الأكبر والمهدي المنتظر، وأن من شك في مهديتي فقد كفر، ومن حاربني خذل في الدارين.
ومن كتبه:
3
بسم الله الرحمن الرحيم، الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد، فمن العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى أحبابه في الله، المؤمنين بالله وبكتابه، أما بعد، فلا يخفى تغير الزمن وترك السنن، ولا يرضى بذلك ذوو الإيمان والفطن، بل أحق أن يترك لذلك الأوطار والوطن لإقامة الدين والسنن، ولا يتوانى عن ذلك عاقل؛ لأن غيرة الإسلام بالمؤمن تجبره، ثم أحبابي كما أراد الله في أزله وقضائه تفضل على عبده الذليل بالخلافة الكبرى من الله ورسوله.
وأخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأنني المهدي المنتظر، وخلفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه، مرارا بحضرة الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر - عليه السلام - وأيدني الله تعالى بالملائكة المقربين، وبالأولياء والأحياء والميتين، من لدن آدم إلى زماننا هذا، وكذلك المؤمنون من الجن، وفي ساعة الحرب يحضر معهم إمام جيشي سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بذاته الكريمة، وكذلك الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر - عليه السلام - وأعطاني سيف النصر من حضرته
صلى الله عليه وسلم ، وأعلمت أنه لا ينصر علي معه أحد ولو كان الثقلين الأنس والجن.
ثم أخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأن الله جعل لك على المهدية علامة، وهي الخال على الخد الأيمن، وكذلك جعل لي علامة أخرى، تخرج راية من نور، وتكون معي في حالة الحرب، يحملها عزرائيل - عليه السلام - فيثبت الله بها أصحابي، وينزل الرعب في قلوب أعدائي، فلا يلقاني أحد بعداوة إلا خذله الله.
ثم قال لي
صلى الله عليه وسلم : إنك مخلوق من نور عنان قلبي، فمن له سعادة صدق بأني المهدي المنتظر، ولكن الله جعل في قلوب الذين يحبون الجاه النفاق فلا يصدقون حرصا على جاههم. قال
صلى الله عليه وسلم : «حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل»، وجاء في الأثر: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم. وجاء في بعض كتبه القديمة: لا تسأل عني عالما أسكره حب الدنيا فيصدك عن طريق محبتي، فأولئك قطاع الطريق على عبادي.
ولما حصل لي - يا أحبابي - من الله ورسوله أمر الخلافة الكبرى، أمرني سيد الوجود بالهجرة إلى ماسة بجبل قدير، وأمرني أن أكاتب بها جميع المكلفين أمرا عاما، فكاتبنا بذلك الأمراء ومشايخ الدين، فأنكر الأشقياء وصدق الصديقون الذين لا يبالون في ما لقوه في الله من المكروه، وما فاتهم من المحبوب المشتهى، بل هم ناظرون إلى وعده - سبحانه وتعالى - بقوله:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ، وحيث إن الأمر لله، والمهدية أرادها الله لعبده الفقير الحقير الذليل محمد المهدي بن عبد الله، فيجب بذلك التصديق لإرادة الله.
وقد اجتمع الخلف والسلف في تفويض العلم لله، فعلمه سبحانه لا يتقيد بضبط القوانين، ولا بعلوم المتفننين، بل يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. قال تعالى:
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ،
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ،
لا يسأل عما يفعل
و
يخلق ما يشاء ويختار ،
يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وقد قال الشيخ محيي الدين العربي في تفسيره على القرآن العظيم: «علم المهدي كعلم الساعة، والساعة لا يعلم وقت مجيئها على الحقيقة إلا الله.» وقال الشيخ أحمد بن إدريس: كذبت في المهدي أربع عشرة نسخة من نسخ أهل الله، ثم قال: «يخرج من جهة لا يعرفونها، وعلى حال ينكرونه»، وهذا لا يخفي علمكم أن التأليفات الواردة في المهدي منها الآثار وكشف الأولياء وغير ذلك، فيختلف كل منها كما علمت من أنه (يمحو الله ما يشاء) الآية. ومنها الأحاديث، فمنها الضعيف والمقطوع والمنسوخ والموضوع، بل الحديث الضعيف ينسخه الصحيح، والصحيح ينسخ بعضه بعضا، كما أن الآيات تنسخها الآيات، وحقيقة ذلك على ما هي عليه لا يعرفها إلا أهل المشاهدة والبصائر.
هذا وقد أخبرني سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
بأن من شك في مهديتك فقد كفر بالله ورسوله، كررها
صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات، وجميع ما أخبرتكم به من خلافتي على المهدية إلى آخره فقد أخبرني به سيد الوجود
صلى الله عليه وسلم
يقظة في حال الصحة، وأنا خال من الموانع الشرعية؛ لا بنوم ولا جذب ولا سكر ولا جنون، بل متصف بصفات العقل، أقفو أثر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالأمر فيما أمر به، والنهي عما نهى عنه.
والهجرة المذكورة في الدين واجبة كتابا وسنة. قال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم
وقال
صلى الله عليه وسلم
من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه خليل الله إبراهيم ونبيه محمد - عليهما الصلاة والسلام - وإلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. وإجابة داعي الله واجبة، قال تعالى:
واتبع سبيل من أناب إلي .
فإذا فهمتم ذلك فقد أمرنا جميع المكلفين بالهجرة إلينا؛ لأجل الجهاد في سبيل الله، أو إلى أقرب بلاد منكم بقوله تعالى:
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار
فمن تخلف عن ذلك دخل في وعيد قوله تعالى:
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم
إلى آخره، وقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة
إلى آخر الآيتين. فإذا فهمتم ذلك فهلموا للجهاد في سبيله، ولا تخافوا من أحد غير الله؛ لأن خوف المخلوق من غير الله يعدم الإيمان، والعياذ بالله من ذلك، قال تعالى:
فلا تخشوا الناس واخشون
وقال تعالى:
فالله أحق أن تخشوه ، لا سيما وقد وعد الله في كتابه العزيز بنصر من ينصر دينه، قال تعالى:
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم
وقال تعالى:
إلا تنصروه فقد نصره الله .
وحيث إن لم تجيبوا داعي الله وتبادروا بإقامة دين الله تلزمكم العقوبة عند الله تعالى؛ لأنكم أدلة الخلق وأزمتها، فمن كان مهتما بإيمانه، شفيقا بدينه، حريصا على أمر ربه ، أجاب الدعوة واجتمع مع من ينصر دينه، وليكن معلومكم أني من نسل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فأبى حسني من جهة أبيه وأمه، وأمي كذلك من جهة أمها، وأبوها عباسي، والعلم لله أن لي نسبة إلى الحسين، وهذه المعاني الحسان تكفي لمن أدركه الله بالإيمان، فلا عبرة لمن يراها ولم يصدق بها، هذا والسلام.
صورة تخيلها بعض الكتاب الإنجليز للمهدي، ولكنها ليست صورته، فليس للمهدي صورة مطلقا.
الفصل السابع والعشرون
وقائع المهدي وانتصاراته
أرسل المهدي إلى محمد رءوف باشا حكمدار السودان سنة 1881 كتابا يبلغه فيه رسالته المهدية، ويدعوه إلى اتباعه، فأوفد رءوف باشا محمد أبو السعود بك من الخرطوم على باخرة إلى أبا، وحاول ثني محمد أحمد المهدي عن دعوته، فلم يقبل،
1
وحينئذ أرسل رءوف باشا بلوكين من الجنود مع أبي السعود بك للقبض على المهدي، ولكن المهدي وأنصاره هزموا هذه القوة، ثم هجر المهدي إلى جبل ماسة المجاور لجبل قدير على المراكب، وهذان الجبلان في الشمال الغربي من فاشودة.
وقد انتصر في طريقه على ملك يسمى المختار، ووصل إلى جبل قدير في 7 ذي الحجة سنة 1298 المقابل 31 أكتوبر سنة 1881، وقد رحب به الملك ناصر، وبنى المهدي مسجدا ومنازل للسكن، وقد هجم راشد بك مدير فاشودة على المهدي وأنصاره في 9 ديسمبر سنة 1881، فانتصر المهدي وقتل راشد بك ومعظم جنوده، وغنم المهدي الأسلحة والمال.
وقد أرسل عبد القادر باشا حلمي الذي عين حكمدار سنة 1882 قوة بقيادة جكلر باشا، الذي أصبح نائبا للحكمدار بعد عزل محمد رءوف باشا، وقبل وصول عبد القادر باشا حلمي جعل جكلر باشا القوة برياسة يوسف الشلالي باشا ومعه 13 بلكا و1500 باشبوزق، وقد انتصر المهدي على يوسف باشا الشلالي عند جبل الجرادة في 30 مايو سنة 1882، وقتل يوسف باشا الشلالي، وعبد الله محمد دفع الله، وعبد الهادي صبر، وطه الشيقي، واستولى المهدي على الذخائر والأسلحة، فزاد الانتصار في هيبة المهدي وشهرته، والاعتقاد بأنه المهدي المنتظر، والواقع أن الحركة المهدية لو جردت من ادعاء المهدية لكانت حركة دينية استقلالية، فأخذ الناس يبايعون المهدي على الصورة الآتية: (1) بيعة المهدي «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، أما بعد، فقد بايعنا الله ورسوله وبايعناك على توحيد الله، أن لا نشرك به أحدا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان، ولا نعصيك في معروف، بايعناك على زهد الدنيا وتركها، والرضا بما عند الله؛ رغبة بما عند الله والدار الآخرة، وعلى أن لا نفر من الجهاد.»
وكانت المبايعة على وجهين:
الأول باليد؛ بأن يضع المبايع يده في يد المهدي، جاعلا إبهامه على إبهامه، ثم يقرأ المهدي صورة المبايعة، فيعيدها المبايع بعده، وإن كانوا أكثر من واحد إلى العشرين وضع أحدهم يده في يد المهدي، وألقى الباقون أيديهم فوق يديهما.
والوجه الثاني المبايعة باللسان؛ وذلك متى زاد المبايعون على العشرين، فيرقى المهدي إلى منبر، أو يعلو جملا ويقف الناس أمامه ويبايعونه.
وكان المهدي يلبس جبة مرقعة فوق سراويل من الدمور، ويتمنطق بمنطقة من خوص، وعلى رأسه طقية مكية يلف عليها عمامة كبيرة بيضاء مفلجة كعمامة أهل الحجاز، ويسدل لها عدبة على كتفه اليسرى، طولها نصف متر، وعلى عنقه سبحة، وفي رجليه حذاء أو نعلين، وكان المهدي يطلق على رجاله اسم الأنصار، والأصحاب، والأحباب في الله، وكانت الحكومة تسميهم الدراويش والأشقياء! (2) حكومة المهدي
وقد كان المهدي يتشبه بسيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
في حكمه ومعاملة أصحابه، وقد عين أربعة خلفاء على جيشه؛ الخليفة الأول: عبد الله التعايشي خليفة أبي بكر الصديق، والثاني علي ود حلو من عرب دغيم خليفة عمر بن الخطاب، والخليفة محمد السنوسي الذي لم يقبل أن يكون خليفة عثمان وكذب المهدية، والخليفة محمد شريف خليفة علي بن أبي طالب.
وقسم جيشه ثلاثة أقسام؛ فكان محمد شريف لأنصار السودان الأوسط، أي: دنقلة وبربر والخرطوم وسنار مع الجلابة وأولاد النيل، ورايتهم حمراء. وعلي ود حلو على عرب دغيم وكنانة، ورايتهم خضراء. و«عبد الله» على السودان الغربي من التعايشة والرزيقات والحمر، وضم إليهم الجهادية وأولاد الريف، ورايتهم سوداء. وقد امتاز الخليفة عبد الله بالأمباية التي يبوق بها لجمع الجيش، وجعله رئيسا عاما على الإدارة والجند، وكان لكل خليفة وكيل على رايته، ودونه أمراء ومقاديم، ولكل أمير راية؛، ومما كان يكتب على الرايات : «بسم الله الرحمن الرحيم، سطر، لاإله إلا الله، سطر، محمد المهدي خليفة رسول الله، سطر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، سطر.»
وكان المهدي يعرض جيوشه كل يوم جمعة صفا واحدا نحو القبلة، ويتفقدهم راكبا جوادا أو هجينا. وأنشأ «بيت المال»، وكان فيه أموال الجند والعشور والزكاة والغنائم والغرامات، وأسند القضاء إلى الشيخ أحمد ود جبارة من علماء الأزهر الذين صحبوه من جزيرة أبا، ولقبه بقاضي الإسلام، وجعل دونه قضاة ونوابا، فالقضاة يفصلون في المسائل الشرعية، والنواب في الغنائم والحقوق المتعلقة ببيت المال. (3) الترحيب بالمهدي
إعجابا بظهور المهدي، كان السودانيون يرددون الأقوال التالية، على أنها أمثال أو أغاني أو أناشيد:
هواي هواي أسير المهدي في قدير، بشائر الخير جاءت لنا، واليوم ظهر مهدينا.
وحاة قولي صواب، خنق قميركم غاب، ألف في التربة، ولا قرش خردة في طلبة ود الريف شين جابه حربه، وكوكاب في جعابه. (4) راتب المهدي
كتاب يجمع الدعوات وآيات قرآنية وصلوات على النبي، وشيخ الطريقة يرتب قراءته على تلاميذه صبحا ومساء، انفرادا واجتماعا. (5) كبار الثائرين على الحكم المصري
سليمان الزبير، ثم رابح في بحر الغزال، هرون الرشيد أمير دارفور في دارفور، والصباحي في كردفان. (5-1) في كردفان
ظهر للمهدي أنصار في كردفان، منهم المكي ود إبراهيم، وحامد ود السنجق، والمكي إبراهيم، والسماني، والمنة ود إسماعيل شيخ الجوامعة.
كان محمد سعيد باشا مديرا لكردفان، وقد حصن الأبيض، وكان أحمد بك دفع الله من أعيان تجار الأبيض نصيرا لسعيد باشا، وكان إلياس باشا أم برير الجعلي النفيعاني خصما لدفع الله ونصيرا للمهدي.
تقدم المهدي في 12 رمضان سنة 1299ه 28 يولية سنة 1882م من جبل قدير، ونزل في منهل كابا على بعد ستة أميال إلى الجنوب الغربي من الأبيض في 1 سبتمبر سنة 1882، وندب اثنين إلى الأبيض لدعوة سعيد باشا والرؤساء والعلماء والتجار للتسليم، وقد أمر سعيد باشا بقتل مندوبي المهدي فقتلا، ولكن في الليل أخذ الأهالي يفرون إلى كابا ويبايعون المهدي، وكان جملة رجال سعيد باشا ستة آلاف، وقد حفروا خندقا حول الأبيض، وحاصر المهدي الأبيض لمدة أربعة شهور، وغلت الأسعار فبلغ ثمن إردب الذرة 3000 ثلاثة آلاف ريال، والحمار 500 ريال، والفرخة أربعين ريالا، والبيضة ريالا، والفار ريالين، ورطل البن ريالين، ورأس السكر خمسين ريالا.
ووقعت مجاعة، ومرض الجند، وهرب أكثرهم، وسلمت حامية بارة، وقد سلم سعيد باشا والضباط في يوم الجمعة 19 يناير سنة 1883 وبايعوا المهدي، وسأل المهدي سعيد باشا عن أمواله المخبأة، وكانت 7000 آلاف جنيه، فأنكرها، وقد قتل سعيد باشا وكبار ضباطه.
ويقول «سلاطين باشا» في كتابه «السيف والنار في السودان» إن الذي حمل المهدي على قتل سعيد باشا ومن معه هو ضبط كتاب أرسلوه إلى عبد القادر باشا حلمي، ولكن رواية أخرى تقول كان قتله انتقاما أراده المهدي لقتل رسوليه.
حملة هكس باشا
وعين علاء الدين باشا حاكما للسودان، وكان سليمان نيازي باشا قومندانا عاما، وهكس باشا ضابطا إنجليزيا، وقد تقدم هكس باشا بحملة كبيرة بقيادة نيازي باشا، وصلت إلى الدويم، وتوجهت إلى منهل الشيكان، ووقعت في 5 نوفمبر سنة 1883 واقعة شيكان، فقتل قائد الحملة سليمان نيازي باشا وأركان حربها هكس باشا ومن معه، وكانت نكبة ارتعدت لها الفرائص.
وورد في التقرير المرفوع من الأرل كرومر، قنصل دولة إنكلترا الجنرال ووكيلها السياسي في مصر إلى السير إدوار جراي وزير خارجيتها وقتئذ عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1906:
مضى نحو أربعة وعشرين عاما على الواقعة التي باد فيها جيش الجنرال هكس، ولا أظن أن أحدا من الأوربيين زار ميدان الواقعة في خلال هذه المدة، ولكن السير ريجنلد ونجت عرج على المحل في أثناء زيارته لكردفان في الشتاء الماضي، وقد كتب ما يأتي:
زرت ميدان الواقعة التي قتل فيها الدراويش المرحوم الجنرال هكس باشا، وأفنوا كل جيشه سنة 1883، ومن الغريب أن العساكر كانوا في حالة شديدة من العطش، مع وجود بركة كبيرة من المياه على بعد ميل واحد عنهم، ولكنهم لم يعلموا بها، والمحل واقع على بعد 30 ميلا جنوبي الأبيض، في وسط غابة كثيرة، ولا أشك في أنه لو كانت النجدة المرسلة لرفع الحصار عن الأبيض أكثر عددا وأقوى عددا لكانت لاقت ما لاقته حملة هكس، وإرسال تلك الحملة في أحوال كهذه يعد ضربا من الجنون، وهو أكبر دليل على أن الحكومة في ذلك الحين لم تكن عالمة بحقيقة الحال، ولم تحسب حسابا للصعوبات التي لا بد لكل جيش عظيم من ملاقاتها في أثناء مروره ببلاد كهذه.
هكس باشا، كان ضابطا إنجليزيا في الجيش الهندي، تقاعد برتبة كولونيل، ثم عينته الحكومة المصرية رئيسا لأركان حرب الجيش بالسودان، ووصل إلى الخرطوم في 7 مارس سنة 1883 ومعه فلول جيش عرابي المؤلفة من 4 آلايات، وكان عدد الحملة 12900 مقاتل، ومعهم مراسلو التيمس والديلي نيوز والجرافيك والجمال والإبل والحمير والخبراء، وقد قطعت رأس هكس وفني جيشه واستولى المهدي على ذخائره، وكان انتصارا عظيما للمهدي.
وكان رأي عبد القادر حلمي باشا عدم إرسال الحملة، وترك المهدي في كردفان حتى تفنى قوته بالحصار، ولو نفذ رأيه لتغير الموقف.
وكانت الحكومة الإنجليزية قد أرسلت الكولونيل استيوارت في أواخر سنة 1882، وقدم إليها تقريرا في 9 فبراير سنة 1883 ذكر فيه أن المصريين يعجزون عن حكم السودان وحدهم. (5-2) في دارفور
أخمد «سلاطين» مدير دارة، والنور عنقرة مدير كبكبية ثورة الأمير هرون في دارفور، وعين «سلاطين باشا» مديرا لدارفور سنة 1881، وقد ثار في دارفور الشيخ مادبو، وفي أواخر أكتوبر سنة 1882 هزم جيش سلاطين، وأصيب «سلاطين» نفسه برصاصة في بنصر يده اليمين، وجرح برصاصة في فخذه، وقد عصته حامية بارة، وسرى روح الثورة في جميع بلاد دارفور، وتمرد الجند، وكان محمد خالد زقل مدير دارة من أقارب المهدي، وكان سلاطين يخشاه، وقد دخل سلاطين دارة وحضر محمد خالد زقل العامل على دارفور بجيش عظيم، وسلم سلاطين إليه في 23 ديسمبر سنة،1883 وأعلن إسلامه، وبايع المهدي الذي سماه «عبد القادر»، وألزمه باب الخليفة عبد الله التعايشي. (5-3) في بحر الغزال
نشبت الثورة في بحر الغزال من أغسطس سنة 1882، وامتدت إلى خط الاستواء، وتقدم الجانقي ومعه الدراويش إلى الزريبة الخارجية عند بحر بيري، وجرد ملتون بك جيشا، ثم أسلم ومن معه وبايعوا الجانقي في 18 أكتوبر سنة 1884، وأسلو إلى أبي سعد، وتقع جنوبي أم درمان، ثم سجن واحتل كرمه الله بحر الغزال.
عثمان دقنة. (5-4) عثمان دقنة
عين المهدي عثمان دقنة أميرا على السودان الشرقي، وعثمان دقنة أصله من أكراد ديار بكر الذين حضروا إلى سواكن مع السلطان سليم الفاتح، واختلطوا بالهدندوة، وكان منهم قبيلة الدقناي.
وقد ولد في سواكن، ونشأ بها واشتغل بالتجارة مع السودان والحجاز وبالرقيق، ولما منعت الحكومة تجارة الرقيق ساءت حالته، وسجن مرة في جدة مع أخيه بسبب اتجارهما بالرقيق، وعندما علم بالدعوة المهدية اعتقد فيها وآمن بها ومات عليها، وكان يعرف العربية كتابة وقراءة، ولغة الهدندوة والبجة، وكان شهما شجاعا مهيبا.
كان للحكومة حامية في سواكن وحامية في طوكر، وقد فتح عثمان دقنة سنكات في 15 أغسطس سنة 1883، وحاصر طوكر، وحاصر سواكن، وسلمت الحاميات.
كان عثمان دقنة معسكرا في تماي، وله معسكر في تل هشيم على بعد 7 أميال من سواكن، ومعسكر في طوكر.
وقد وجهت حملة إنجليزية برياسة الجنرال جراهم إلى سواكن ومعه 13 ألف جندي، وقد احتل تل هشيم، واحتل تماي، وقد أخلى عثمان دقنة معسكره متحصنا في الجبال.
وعمل جراهم على مد سكة الحديد من سواكن إلى بربر، وقد أمرت الحكومة بإخلاء سواكن، وعاد إلى القاهرة في 17 مايو سنة 1885، وعاد عثمان دقنة إلى تماي. (5-5) قتل غوردون وسقوط الخرطوم
وقد أرسل المهدي كتبا إلى غوردون للتسليم، وسلمت حامية أم درمان، وحاصر المهدي الخرطوم، وقد جاعت العساكر، وكان غوردون يأمل أن يحضر جيش إنجليزي لإنقاذه، وكان يقضي أكثر الوقت على سطح السراي والمنظار بيده، فيوجهه إلى الشمال، ومضت مدة لم يدفع غوردون نقودا إلى الجنود، فجمع قرضا من التجار، وأصدر منشورا قال فيه:
إني سبقت فأنعمت على جميع العساكر والموظفين الملكيين بمرتب ثلاثة أشهر، ثم بمرتب ستة شهور ونصف، ثم بمرتب شهرين، والآن أعود فأثبت إنعامي هذا وأنا في انتظار الإنجليز القادمين لنجدتنا كل يوم، بل كل ساعة، وكلما تأخروا يوما حسبته لكم شهرا، وجلالة ملكة الإنجليز ضامنة لقولي هذا.
زاد الجوع، واستمر فرار الجنود من الخرطوم إلى المهدي في أم درمان، وقنع الجنود والسكان بأكل الصمغ والجمار والجيف والجلود.
وكان للخرطوم خندق يمتد من النيل الأزرق إلى النيل الأبيض، ولا يتصل بالنيل الأبيض إلا في الفيضان، وإذا انخفض انحسر عن ثغرة يسهل الدخول منها إلى الخرطوم.
وقد عرف المهدي ضعف الخندق وسوء حالة المدينة، وقد زحف الدراويش يقودهم النجومي، ودخل رجاله من الثغرة، وقتلوا الأورطة المصرية، ثم الأورطة الثانية السودانية، ثم الأورطة السودانية الثالثة والباشبوزق.
وقد قصد محمد نوباوي شيخ بني جرار ومعه عربان إلى سراي الخرطوم، حيث كان غوردون على سطح السراي، ولم يكن معه سوى خادمه محمد إدريس وثلاثة قواسين، وعلى باب السراي ضابط وخفراء قاوموا المهاجمين بالرصاص، وعندئذ كان غوردون واقفا عند رأس السلم بثيابه العسكرية والسيف عن جنبه، فقال لهم: «أين محمد أحمد؟» فأجابوه بالطعن بالحراب، وكان محمد نوباوي أول طاعن، وقبل أن فاضت روحه أمسكوه من رجليه على السلم إلى أسفل السراي، وقطعوا رأسه وحملوه إلى المهدي في أبي سعد، وكان على مائدة غوردون صحن به بيض مقلي، وعلبة لحم صغيرة فيها شوكة، وبجانبها ملعقة وصحن آخر به قطعة سكر.
وقد أخذت رأس غوردون إلى النجومي، وأرسلها النجومي إلى الخليفة محمد شريف، فأرسلها إلى المهدي الذي أرسله إلى سلاطين باشا حينما كان مسجونا ليتحقق أنه رأس غوردون، ثم علقه في المشنقة ثلاثة أيام، وقد فتحت أبواب المدينة وأخذت الغنائم والأسرى، ودخل الدراويش المدينة، وكان إبراهيم باشا فوزي المحافظ بين الأسرى. (5-6) حملة السير تشارلس ولسون
سار السير تشارلس ولسون في الباخرتين بردين وتل حوبن حتى وصل إلى ود حبشي في رأس شلال السبلوكة، واستمر حتى وصل التمانيات، وبات فيها إلى فجر 28 يناير سنة 1885، وفي الساعة 11 صباحا أطل على الخرطوم، حيث سمع رجلا ينادي: «الخرطوم سقطت والغوردون مات»، وقد ألقت شارلس جنود المهدي القنابل والرصاص من طابية أم درمان، وطابية المقرن، وقفل راجعا يحمل نبأ سقوط الخرطوم، وغرق وابور تل حوين، وانتقل رجاله إلى وابور بردين الذي غرق أيضا، فاضطر السير تشارلس ولسون إلى السير على الأقدام على شاطئ النيل، حيث قابل اللورد شارلس برسفور وعادا إلى القبة مع رجالهما على الباخرة الصافية.
وقد رجعت الحملة الإنجليزية النيلية إلى القاهرة سنة 1885.
إخلاء دنقلة
وقد قررت الحكومة إخلاء دنقلة، وأقامت فيها حكومة من الأهالي، ولكنها سقطت بيد المهدية.
في سنار
زحف عامر المكاشف على سنار، وكان بها حسين بك شكري «باشا»، ومعه 150 جنديا ومدفع واحد، وانتصر عامر المكاشف، وعاد عامر إلى غابة الكبوش، وعاد المدير إلى مدينة سنار بفلوله، وهرب عامر المكاشف، وقد استعان جكلر باشا بعوض الكريم أبي سن شيخ مشايخ الشكرية، وهزم الشريف أحمد طه من أنصار المهدي وقتله.
وقد أرسل المهدي من أصحابه أحمد المكاشف والشيخ المضوي وود الصليحابي وفضل الله ودكريف، وقد هزم المكاشف مرتين في الدويم، وحاول حصار سنار، وانتصر عبد القادر باشا حلمي في واقعة الداعي في 24 فبراير سنة 1883، وعين صالح بك المك على الشايقية والأتراك في سنار.
صعود الوابور فوق الشلال الثاني.
في كسلا
تقدم الأمير حسين عبد الواحد واحتل القضارف، ودانت له معظم القبائل العربية التي بين العطبرة والنيل، وحاصر الجيرة، وقد طلبت الحكومة المصرية - بعد فوز المهديين - من الملك يوحنا ملك الحبشة أن يساعدها على إنقاذ الحاميات المصرية على حدود الحبشة، وسلم الميرالاي سعيد بك رفعت الأسلحة والذخائر إلى الرأس دهنشوم من أمراء الحبشة، وخرج بالحامية من المتمة في 28 فبراير سنة 1885، وتوجه سعيد بك مع دهنشوم إلى ملك يوحنا لشكره، وعاد سعيد بك من مصوع إلى مصر، واحتل محمد ود أرباب القلابات في 5 مارس سنة 1885.
وسلمت محافظة مصوع إلى الإيطاليين منذ 6 فبراير سنة 1885، وعادت حاميتها إلى مصر، وأخليت أميدوب في 10 أبريل سنة 1885، وسنهيت في 19 أبريل 1885 إلى الحبشة، وأخليت هرر وزيلع وبربر سنة 1885، وعين في هرر عبد الله محمد عبد الشكور، واستمر حتى بداية سنة 1887، حيث غزاها منليك ملك شوه، ثم ملك الحبشة بعد ذلك، وصارت هرر مع الحبشة وزيلع وبربر من المستعمرات الإنجليزية.
وقامت الثورة في كسلا في أغسطس سنة 1888، وكان راشد باشا كمال قومندان عسكر شرقي السودان، ثم عاد راشد باشا إلى مصر وعاونوا الحكام المصريين.
وحدثت وقائع كثيرة كانت الحرب سجالا، وخرج السيد محمد عثمان الميرغني من الخاتمية بكسلا في 30 يونية سنة 1884، إلى مصوع، إلى مصر، حيث مات فيها في 10 ربيع الآخر سنة 1303، ودفن في باب الوزير، ومقامه فيها مشهور، وتولى الخاتمية بعده ابن عمه السيد بكري بن السيد جعفر الميرغني، ولم يبق معه إلا أخلاط من الدناقلة والجعليين والحلانقة والبجة، وبنو أسوارا.
وزحف مصطفى هدل على الخاتمية، وهزم السيد بكري الميرغني، وقد سقطت الخاتمية في 3 مايو سنة 1885 و18 رجب سنة 1302، وقد حاول قتل السيد البكري الذي ضحى أنصاره بأنفسهم وحموه، وتوجه إلى مصوع فسواكن فمكة، ومات فيها سنة 1304ه، واستولى مصطفى هدل على الخاتمية. (6) بعد سقوط الخرطوم
جعل المهدي معسكره في أم درمان في سنة 1885، وقام بسك النقود مقلدا الجنيه المصري والريال الفضي، وشرع في جمع الزكاة والعشور.
آلات سك النقود التي كانت تستعمل في أثناء الحكم المهدي.
وكان يبت في جميع المسائل الإدارية، وكان له كتاب، ثم جعل له أمناء وعاملين أجاز لهم الحكم بالقتل بدون استئذانه.
ولما أقبل رمضان سنة 1302 أصدر منشورا بجعل شهر الصوم فترة راحة، وامتناع عن نظر أحوال الدنيا، والتخصص بالذكر والتذكار. (7) عزم المهدي على غزو مصر وكتبه إلى أهلها وإلى الخديوي
أرسل المهدي منشورا إلى سكان مصر حكاما وتجارا وعمدا وغيرهم، يبلغهم فيه عزمه على غزو مصر، وأرسل كتابا إلى سمو الخديوي جاء فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد، فمن العبد المعتصم بالله محمد المهدي بن عبد الله إلى والي مصر، لا يخفى على من نور الله بصيرته وشرح صدره أن الدين الذي يكون المتمسك به ناجيا عند الله هو دين الإسلام، الذي جاءنا به نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم .
وبعد كلام طويل مملوء بآيات من القرآن والأحاديث، قال:
وقد حررت إليك هذا الكتاب وأنا بالخرطوم؛ شفقة عليك وحرصا على هدايتك، فأرجو الله أن يشرح صدرك لقبوله، ويدلك على صلاحك ورشادك في الدارين، وها أنا قادم على جهتك بجنود الله عن قريب إن شاء الله تعالى، فإن أمر السودان قد انتهى، فإن بادرتني بالتسليم لأمر المهدية والإنابة إلى الله رب البرية فقد حزت السعادة الأبدية، وأمنت على نفسك ومالك وأرضك، أنت وكافة من يجيب دعوتنا معك، وإن أبيت بعد هذا إلا الإعراض عن طريق الفلاح والرشاد، فإنما عليك إثمك وإثم من معك، ولا بد من وقوعك في قبضتنا، ولو كنت في بروج مشيدة، وهذا إنذار مني إليك، وفيه الكفاية لمن أدركته العناية، والسلام على من اتبع الهدى. (8) المهدي وغزو الشام
أرسل المهدي الحاج عبد الله الكحال من الرهد عاملا على بلاد الشام، فحضر إلى مصر واشتغل بالتجارة. (9) المهدي ومراكش
وأرسل المهدي منشورا إلى أهل مراكش وإلى السيد محمد الغالي ليكون عاملا عليها. (10) وفاة المهدي
في يوم الأربعاء 4 رمضان سنة 1302ه نزلت بالمهدي حمى خبيثة تعرف في السودان «باب دم»، وعند الأطباء بالالتهاب السحائي الشوكي، وأمر بأن يصلي الخليفة عبد الله التعايشي بالناس يوم الجمعة 6 رمضان، وأن يخطبهم، ودامت الحمى إلى يوم الاثنين 9 رمضان سنة 1302ه و22 يونية سنة 1885م، وأسلم الروح إلى خالقها عند الضحى، وكان عنده خلفاؤه، وقد حفروا قبره في محل فراشه في منزله، ثم صلى الخليفة عبد الله عليه إماما، ودفن عند الظهر، وبايع الناس الخليفة عبد الله التعايشي بعده، وأشيع أن المهدي مات مسموما في الطعام، ولكن الإشاعة لم تتحقق.
وقد رثاه الشعراء، فرثاه إبراهيم شريف الدولابي الكردفاني، قال في قصيدة:
كيف التئام فؤادي المفطور
ورقوء دمع محاجري المفجور
وختمها بقوله:
صلى الإله على ضريح ضمه
أزكى صلاة في المسا وبكور
وقال محمد بن الطاهر المجذوب من قصيدة:
دهتنا دواه يضرس القلب نابها
ويوقد في الأحشاء نارا منابها
ألا أبلغوا عنا ضريح أبي الهدى
تحايا إلى الله الكريم انتسابها (11) صفات المهدي وعاداته
كان الفقيد طويل القامة، كبير الرأس، عريض الوجه، أسمر اللون، أدعج العينين، أزج الحاجبين، واسع الجبين، أقنى الأنف، رحب الصدر ، واسع الفم، عريض الشفتين، عظيم المنكبين، ضخم العظام، واسع الكفين والقدمين، سائل الأطراف، مفلج الأسنان، مشرط الوجنتين، على كل وجنة ثلاث شرائط أفقية، مستدير اللحية واسعها، خفيف الشاربين، وكان يحلق شعر رأسه ويحسن لحيته، وكان كثير الابتسام، وكان يجلس على فروة من الضأن، ويقعد القرفصاء، ويجثو عند الطعام على إحدى ركبتيه، وكان الداخل عليه يخلع نعليه ويتقدم إليه حبوا حتى يقرب منه فيلمس يده، ويرجع عنه قليلا ثم يكلمه وهو منكس الرأس، ويخاطبه بقوله يا سيدي، وبعد الفراغ من حديثه ينصرف راجعا بظهره، وكان دائم الابتسام فلقب بأبي فلجة، ووصفه إسماعيل عبد القادر الكردفاني فقال: «إنه سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا فحاش ولا عياب، واسع الصدر، يواسي أصحابه، وفي لهم، كثير العفو ...»
وقد تزوج بأربع عرفن بأمهات المؤمنين، أما أولاده من السيدة فاطمة بنت أحمد شرفي فثلاثة: الفاضل ومحمد والبشري، وبنت تسمى زينب، وله من السيدة فاطمة بنت حاج أربع بنات: أم كلثوم تزوجها الخليفة عبد الله، ونور الشام تزوجها الخليفة علي ود حلو، ثم نفيسة وعائشة، ومن السيدة فاطمة بنت حسين الحجازي ثلاث بنات وولد يسمى الصديق، ومن السيدة مقبولة الدارفورية السيد عبد الرحمن، ومن السيدة مأمونة الحبشية التوأمان الطاهر والطيب، ومن السيدة قبيل الله النوباوية نصر الدين؛ أي كان له عشر بنات وعشرة ذكور، مات منهم ثمانية وعاش علي وعبد الرحمن.
أولاد الخليفة التعايشي: عبد الصمد ويحيى وعمر وإبراهيم وإسماعيل، وهم الصفان الثاني والثالث، والقاعدون القرفصاء أولاد المهدي: الطاهر، ونصر الدين، وعلي، عقب إعادة السودان سنة 1899.
وكان المهدي يريد أن يعيد الإسلام إلى فطرته، وكان ينهى عن البدع والترف، ومنع إرخاء الشعور ودهنها بالشحم، وحرم الإسراف في حفلات الزفاف، وخفض المهر فجعله عشرة ريالات وثوبا وقربابا للبكر، وخمسة ريالات وبدلنين للثيب، وأبطل الرقص والغناء والدلوكة، وحرم خصي العبيد، ومنع البكاء وراء الميت، وأبطل السحر والتعزيم والتمائم، وحرم شرب الدخان والحشيش والخمر، ومنع الألعاب، ووضع راتب المهدي الذي اشتمل على دعوات وآيات وأحاديث تحفظ وتتلى يوميا، ورجم الزاني وجلد الزانية وقطع يد السارق، وساوى بين الغني والفقير، وحرم الألقاب والأوسمة، وجعل الصلاة في جوامع المهدية، وجعل الدين محصورا في القرآن وراتب المهدي ومنشوراته، وكان يرى أن الجهاد في السودان يوجب التفرغ له وتأجيل الحج.
ولم يتمكن المهدي من إتمام كتاب اسمه المجالس، قصد منه تضمين الأحكام الشرعية.
الشيخ محمد شريف نور الدائم باشا أستاذ المهدي جالسا، وحوله ابنه وأبناء أخيه.
وكان لأصحاب المهدي مراتب متفاوتة، فالمرتبة الأولى لصحبه قبل إعلان الدعوة المهدية. وهم يقال لهم أبكار المهدي، والمرتبة الثانية أنصار «أبا»، والمرتبة الثالثة أنصار «قدير»؛ أي جبل قدير، والرابعة أنصار كابا، وهناك مراتب أخرى أدنى من ذلك؛ أي أن أنصاره الأوائل مقدمون رتبة على من بعدهم.
وقد صدق خاصة السودان وعامته دعوة المهدي، وأن من مات في سبيله كان نصيبه الجنة والحور العين، حتى كانوا يتمنون الموت، ولم يبق في السودان إلا قليل من الناس لم يصدقوا الرسالة المهدية، ولكن أكثرهم لم يجرؤ على الجهر بإنكارها.
وقد اهتزت البلاد الإسلامية للدعوة المهدية، وهرع جماعة من مصر والحجاز والهند والمغرب إلى المهدي، وخشي السلطان عبد الحميد خان الثاني التركي عاقبة انتشار الدعوة، فنشر منشورا سلطانيا كذب فيه الدعوة المهدية، وأصدر علماء الأزهر فتوى أذاعها مجلس النظار، وأوعز عبد القادر باشا حلمي إلى لفيف من علماء السودان لتكذيب الدعوة، وكان للمهدي خاتم وسيف، وقد تفرد بمذهب اجتهادي وحد فيه المذاهب الأربعة، أي إن المهدي كان إماما مجتهدا، ومنع زيارة الأضرحة.
الفصل الثامن والعشرون
الخليفة عبد الله التعايشي
منذ وفاة المهدي في يوم الإثنين 9 رمضان سنة 1302 و22 يونية سنة 1885، بايع أهل السودان الخليفة عبد الله التعايشي، وأذاع منشورا بأن المهدي قد مات.
وكانت سياسة التعايشي المحافظة على شعائر المهدية، وجعل أخاه يعقوب وزيره وقائد جيشه ومدبر أشغاله، وولى أقاربه التعايشة كبار المناصب . (1) التعايشي وفتح كسلا
وفي يوم الأربعاء 16 شوال سنة 1302ه المقابلة 29 يولية سنة 1885م سلمت حامية كسلا بعدما اشتد عليها الحصار، ومات فيها الكثيرون جوعا، وكان سقوطها على يد أمناء المهدي الحسين الزهرة، وإدريس عبد الرحيم، وعبد الله حمزة، ومحمد حمزة.
وحضر عثمان دقنة إلى كسلا، وكان المهدي قد مات فأعلن عثمان البيعة للخليفة عبد الله على سطح ديوان مديرية كسلا، قائلا: إن كنتم تعبدون المهدي فإن المهدي قد مات، وإن كنتم تعبدون الله فالله حي لا يموت. والخليفة عبد الله هو خليفة المهدي القائم بالأمر بعده، فهل أنتم طائعون له متبعون لأمره؟ قالوا جميعا: نعم، ثم بايعوه باسم الخليفة.
ثم قتل المدير أحمد بك عفت وبعض الموظفين والتجار.
وقد عزل التعايشي بعض القواد، وأخذ يجرد الخليفة شريف، والخليفة ود الحلو من سلطتهما.
وقد وجه التعايشي كتبا إلى خارج السودان؛ من ذلك أنه قد وجه كتابا إلى السلطان عبد الحميد، وإلى سمو الخديوي توفيق باشا، وإلى الملكة فيكتوريا؛ لدعوتهم إلى المهدية، ثم إلى قبائل نجد والحجاز، وإلى منليك ملك الحبشة، وإلى محمد السنوسي في غرب السودان الأقصى، وإلى سلطان واداي ورابح الزبير.
وقد انتقض بعض الولاة والأمراء على عبد الله التعايشي كما حدث في الأبيض؛ إذ عزل محمود عبد القادر وولى عثمان آدم مكانه. (2) في القلابات
احتل محمد ود أرباب القلابات في 5 مارس سنة 1885م. (3) على حدود الحبشة
طلبت الحبشة القبض على الحاج علي من قطاع الطريق اللاجئين إلى القلابات، وزحف الرأس عدار على القلابات، وقتل محمد أرباب وجيشه، وأحرق القلابات وعاد بالغنائم إلى الحبشة في أوائل يناير سنة 1887م.
وعين الخليفة عبد الله يونس الدكيم عاملا على القلابات، ودعا التعايشي الملك يوحنا ملك الحبشة للإذعان للمهدية، وبعث يونس حملات على الحبشة.
وقد ظهر في القلابات في ديسمبر سنة 1887م رجل تكروري يدعى آدم محمد البرقاوي، ادعى أنه نبي الله عيسى، وصدق به عشرة من الأمراء، وخمسة من جيش يونس، وكان التعايشي قد عين حمدان أبو عنجة ومعه جيش إلى القلابات، ومنها حاول غزو الحبشة في 9 يناير سنة 1888م، ودخل بلاد دمبيا الحبشية، وعاد إلى القلابات ومعه الغنائم، ثم عاد ثانية لغزو الحبشة في يونية سنة 1888م .
وطلب الملك يوحنا إلى حمدان أبي عنجة الصلح؛ لأن الملك كان مشتغلا بحرب الإيطاليين، ولكنه رفض الصلح وأغلظ في القول، فحشد الملك يوحنا جيشا من نحو 250 ألف مقاتل، ومات في تلك الأثناء أبو عنجة، وخلفه الزاكي طمل، وفي 9 مارس سنة 1889م وصل الملك يوحنا القلابات، وحدثت موقعة انتصر فيها جنود الحبشة في أول الأمر، ثم جرح الملك يوحنا جرحا مميتا، وأوقع موته الفشل وانهزم جيشه. (4) في سواكن
وجه كتشنر باشا محافظ سواكن في 17 يناير سنة 1888م حملة إلى هندوب، وهزم قوة عثمان دقنة، وقد جرح كتشنر وعاد إلى سواكن، ومنها إلى مصر، وناب عنه الميجر شكسبير.
ووقعت واقعة الجميزة في 20 ديسمبر 1888م، وهزمت قوة برياسة السردار غرانفيل باشا، ومعها أورطة إنجليزية، واللواء الثاني بقيادة اللواء هولد سميث باشا، جيش عثمان دقنة عند طابيتي الشاطة والجميزة اللتين تحميان آبار الماء لحامية سواكن. (5) عند خط الاستواء
ذكر الدكتور محجوب ثابت الخطاب المرسل إلى أمين باشا مدير خط الاستواء من قائد قوة الجيش المصري «سليم بك مطر».
وإليك صورة هذا الخطاب التاريخي المجيد، والصحيفة الخالدة مأخوذة من صورة فوتوغرافية عثرنا عليها في كتاب بعنوان «عشر سنين» بمديرية خط الاستواء، والرجوع منها مع أمين باشا للبكباشي «غيثانو كازاتي» مجلد 2 صحيفة 202 و203، نسخت مع المحافظة على حروفها وأسلوب رسمها:
مدير عموم خط الاستواء سعادتلو محمد أمين باشا حضرتلري
أفندم بتاريخ 18 نوفمبر سنة 1888 حضروا العساكر من محطتي موهي واللابورية ومائة وعشرون نفر من عساكر برنجي أورطة لمركز الأورطة، وفي يوم 24 منه صار تعيين بخيت أغا محمود الملازم ومعه فرق عسكرية إلى اللابورية لكشف أخبار الأشقياء، وفي الساعة 5 حضر بعض عساكر، وعرفوا على أن الأشقياء قابلوهم بخور الطين، ولغاية الغروب تم وصول الباقي وحضرت مكاتبة من رئيس الأشقياء عمر صالح يرغب التسليم، وأوضحوا فيها مثل حامد بك محمد وعبد الوهاب أفندي طلعت وعلي أغا جابور وسالم أفندي خلاف وحسن أفندي لطفي، وإن لم صار التسليم فتصير المحاربة، ولم عطى لهم الرد فضلا.
حرق محررهم، وفي يوم 25 منه احطاطه الأشقياء بالحصار، وصاروا يهللوا بمقالة إنهم مهدية، وفي الساعة 10 من هذا اليوم وردت منهم مكاتبة أخرى استعجالا للأولى، وصار رميها بمعرفة العساكر من خارج الحصار، وبالاستفهام من الآدمي الذي أحضرها عن الكيفية عرف على أن القصد التسليم، وفي يوم 29 منه حضروا المذكورين بجوار المحطة، وصاروا يضربوا الأسلحة علينا من الساعة 3 لغاية الساعة 9، وفي الحال صار خروج بعض عساكر إليهم، وانتشب الحرب بينهم، وهزموهم وقتلوا منهم 62 نفرا، بخلاف المجروحين، ولم يحصل لعساكرنا شيء، وفي يوم 27 منه لم يزل حضروا هؤلاء المفسدين، وشاغلوا العساكر بضرب النار، وفي الساعة 10 من ليلة يوم الأربع صار ضرب نوبة كبسة، وفي الحال اشتغل ضرب النار من الأشقياء وعساكر الحكومة الخديوية، ولغاية الصبح اشتد الحرب بين الفريقين إلى أن صار إصابة أحمد أغا علي الأسيوطي، وبخيت أغا علي، وسليمان أغا سودان، بالرصاص والسيف من أيادي الأشقياء، بأوجههم وأيديهم، وقليلا من الصف ضباط والعساكر وفي هذا الأثنى دخلوا من تلك المفسدين داخل المحطة بقصد امتلاكها، وقتلوا محمد أفندي علي النجار القبودان، والأسطى أحمد المهندس، ومرجان مزار 2 جي ريس الخديوي، وخميس سالم الباش عطشجي، وفرج الله مردة العطشجي، ولما ترآى لجميعنا ذلك صار الاجتهاد في قتل من دخلوا الحصار والمحطاطين به من خارج، وفي الساعة 2 تقريبا انقضت المعركة بين الطرفين بانتصار عساكر الحكومة، وهزم عدوهم باقتفاء، وما صار قتله منهم وجد مائتان نفر وعشرة، بخلاف الذي أمكن تعداده والمجروحين الذين وصلوا لمحل إقامتهم، واكتسبنا منهم إحدى عشر بيرق بما فيهم بيرق أميرهم، وبعضا من الأسلحة الرامنتون والبيادة وجملة سيوف وحراب، وأسر واحد منهم، وارتجعت العساكر في محلاتهم بعد عمل التشريفة اللازمة، وفي يوم الخميس لم حصل شيء بخلاف المشاغلة فقط، وفي ليلة الجمعة الساعة 1 تكامل حضور جماعة فأتوا لهنا، والساعة 2 حضر أحد الأهالي البيادة المأسورة بطرفهم، وعرف عن قتل أغلبهم، وأن غرضهم الفرار إلى الرجاف، وفي صباح اليوم المذكور حضر أدمي تعلق عدالين أغا شلبي وعرف عن فرارهم ليلا، وفي الساعة 1 من هذا اليوم حضر واحد عسكري أصله من ملحوقات 3 جي بلوك باللابورية، وصادق على قول من سبق حضورهم، وفي الوقت توجهوا العساكر إلى المحل الذي كانوا مقيمين به الأشقياء، فوجدوا جملة نفوس قتلى ومجروحين بخلاف ما سبق تعداده، ونقلوا المجروحين وأحضروا بعض صناديق جبخانة فوارغ، وفي يوم السبت الموافق غرة الجاري الساعة 6 حضر واحد عسكري أصله كان من توابع المرحوم ريحان أغا إبراهيم، وبمسؤوليته عن الكيفية أوضح أنه محضر معهم من الخرطوم، وأن ما قاله الأشخاص المحضرين منهم المورين عنهم بهذا هو حقيقي، وأن قوة الأشقياء صارت ضعيفة جدا، كذا عينا تراجمه لكشف أخبار، وتوجهوا لحد خور عبد العزيز، فوجدوا جملة أجربة داخلها ملبوساتهم وواحد سنكه رامنتون فأحضروهم.
وفي يوم تاريخه الساعة 5 حضر واحد عسكري يسما فضل المولى من جماعة بوجي من ضمن المأسورين بحركة الرجاف الأخيرة، وعرفوا بأن الأشقياء توجهوا إلى الرجاف مكسورين مجدين السير، والمجروحين الذين كانوا معهم يبلغوا مائة وخمسين نفر، وجاري وفاتهم بالطريق وسيرهم بالعجلة، وكلما مروا على محطة مثل الخور واللابورية جارين حرقها هذا ولإحاطة شريف علم سعادتكم بما قد حصل من عساكر الحكومة وجب ترقيمه بالعرض لسعادتكم أفندم.
في 2 ديسمبر سنة 1888.
بنده بكباشي 2ط
خاتم (سليم مطر)
سعادتلو أفندم حضرتلري
أفندم مع ما توضح أن جميع فرسانهم وريساهم وقاضيهم قتلوا في يوم الواقعة.
في تاريخه.
خاتم (سليم مطر)
وقد نشر سليم مطر بك، وهو ضابط بحري، رسالة عن رحلاته في أعداد يولية وأغسطس وسبتمبر من مجلة الجمعية الجغرافية سنة 1842، حيث كشف النيل الأبيض. (6) الخليفة عبد الله التعايشي
ربع القامة، أسمر اللون، أشيب الشعر، عربي الملامح، خفيف الشاربين واللحية مستديرها، وقد هذب لحيته وشاربيه، على وجهه آثار الجدري، أقنى الأنف، وقاد الذكاء، قصير الشفتين، تبرز منهما أسنانه، أميل إلى الابتسام، جم النشاط، وعلى الإجمال يشبه المهدي إلا أنه أقصر منه قليلا، وأقل سمرة، وأضيق جبهة، وأصغر لحية، وكان نحيفا ثم صار بدينا.
كان لباسه كالمهدي، أي الجبة المرقعة فوق سراويل من الدمور المعروف بالقنجة، والعمامة المفلجة فوق المكاوية، مدلاة منها عذبة على كتفه اليسرى، ويلقي على كتفيه رداء بطرف حرير أزرق، ويتمنطق بمرفعة حول خصره وكتفه اليسرى، ويتلثم برداء من الشاش الرفيع فوق العمامة، بحيث لا يظهر من تحته إلا دائرة وجهه، ويلبس في عنقه سبحة كبيرة، وفي قدميه الخف الأصفر في الحذاء الأصفر، فإذا جلس خلع الحذاء وأبقى الخف وتربع على عنقريب.
1
فوقه فروة من جلد الضأن، وهي التي يصلي عليها.
وكان نظيفا ويتطيب، وعن يساره سيفه، وفي يمينه حربة قصيرة هدندوية، ويعرج عرجا خفيفا لكسر ساقه عند سقوطه من جواده عند فتح الأبيض، وكان يمشي خلفه غلمان من الحبش، وله أربع زوجات، منهن أم كلثوم بنت المهدي، عدا الجواري.
وبلغ أولاده 21 ذكرا و11 أنثى، وكان عنده خصيان.
وكان يصلي الفجر في مسجده ويسمع راتب المهدي، ثم يخلع زيه الرسمي ويلبس الشقة، ويتناول الطعام، وهو زبدة بقرية ولبن بقري، وينام إلى الضحى ثم يستيقظ فيتناول طعاما من عصيدة الدخن مع ملاح التقلية أو أم دقدوقة، وهو ملاح مركب من السمن والشرموط البقري والويكة مع الشطة والملح والبصل، ثم اللحم المنصص.
ثم ينظر في المراسلات، ثم يدخل الحريم حتى الظهر، فيخرج للصلاة في المسجد في محرابه تحت الرواكيب، ثم يصدر الأحكام ما بين توبيخ وسجن ونفي وقتل، ويتناول الغداء في داره وهي الكسرة والطبيخ، ثم يصلي العصر في الجامع ويسمع الراتب، ويتفقد الجيش، ويصلي المغرب ثم يتناول العشاء في داره، ويعود لصلاة العشاء في المسجد، ثم يعود إلى داره ويجتمع مع وزيره يعقوب وقاضي الإسلام وشيخ السوق وأمين بيت المال، ويبقى الملازمون جالسين أمام باب داره حتى يتأكدوا من انصراف مجلسه فينصرفون، ثم ينظر مع رئيس خصيانه في نفقات منزله، ثم يدخل مخدعه ويجتمع بزوجاته، ثم ينام حتى الفجر.
ويستأذن الداخل عليه، ويخلع سلاحه وينكس رأسه، ويداه إلى صدره، ثم يقول: السلام عليك يا خليفة المهدي «عم»، فيجيب: وعليك السلام، ويشير عليه بالجلوس فيجلس جاثيا أو يقبل يده، ولا يخرج حتى يأمره بالانصراف.
وكان يولم للجيش وليمة، وكان النساء في عهده يصلين خلف الرجال.
حكومة التعايشي
جعل السودان عمالات ثمان: الجزيرة، وجبال إدريس، وغرب البحر الأبيض، وشات، والبادية الغربية، والبادية الشرقية، وشرق النيل الأكبر، وغرب النيل الكبير، وعمالة الشلك والدنكا «مديرية فاشودة».
ولم يحتل فاشودة وفازوغلي، بل كان يرسل إليها العمال لجلب الحبوب والعبيد على سبيل الجزية.
وكان يطلب إلى عماله المحافظة على الصلوات الخمس، وتلاوة راتب المهدي، والجهاد والطاعة، وإقامة العدل، والبعد عن الفساد.
وبلغ جيشه في أم درمان أكثر من 50 ألف في ستة أقسام: قسم الملازمية القديم وقائده بخيت جاموس النوبي، والملازمية الجديد وقائده شيخ الدين بن الخليفة، والكارة بقيادة إبراهيم الخليل، والراية الزرقاء بقيادة يعقوب أخي الخليفة، والراية الصفراء بقيادة محمد شريف، والراية الخضراء بقيادة الخليفة ود الحلو، وألحق بالجيش قسم الصحراء الشرقية بقيادة عثمان دقنة، وكان عند التعايشي مدافع وذخائر.
وكان يجمع الزكاة والعشور والغنائم، وأهمل الزراعة أولا، وراجت صناعة الأسلحة، وأبقى الترسانة والمراكب وخط التلغراف بين الترسانة وأم درمان، وأنشأ معملا للصابون، وضرب النقود من الفضة، وكان التعليم قاصرا على حفظ القرآن وتفسيره.
وقد أبطل أمناء ونواب المهدي، وحصر القضاء في قاضي الإسلام وأعوانه، وكان رفع الدعوى إليه شفهيا عند دخوله المسجد بالنداء عليه: يا خليفة المهدي، إني مظلوم، فيسمع قضية المتظلم ويفصل فيها.
وكان سجنه حوشا واسعا مسورا، في وسطه أكواخ من الحجر والطين، يزدحم فيها المساجين مقيدين في أرجلهم، وبالجنزير في أعناقهم، واستعمل المشانق والبربندي «الفلق».
وسياسته الخارجية قامت على دعوة الملوك والأمم إلى المهدية، أو محاربة جيرانه، وقد منع دخول الأجانب.
وكتب إلى منليك إمبراطور الحبشة، سنة 1308 هجرية:
وبعد، فمن عبد ربه خليفة المهدي - عليه السلام - الخليفة عبد الله بن محمد خليفة الصديق إلى منليك، نعلمك أنا قد كنا قبل هذا كاتبناك للدخول في الملة الإسلامية، والانتظام في سلك أتباع المهدية، رحمة بك وشفقة عليك وحبا لهدايتك وخوفا عليك من الموت على ملة الكفار الذين مصيرهم إلى النار وغضب الجبار، وحذرناك عاقبة الخلاف والإعراض، وقد مضت من عهد ذلك مدة، وما أتانا منك رد على المكاتبة التي حررناها إليك، وما علمنا السبب في ذلك. أفما وصلت إليك مكاتبتنا أم وصلت واخترت عدم مجاوبتنا كما حصل من الهالك النفس يوحنا عظيم الحبش؟ فإنا قد كاتبناه مرارا، ودعوناه إلى الإسلام جهارا، فاستكبر واستنكف حتى أهلكه الله - تعالى - على يد أنصار الدين، هو ومن معه من الوزراء والمشركين، وقطعت رءوسهم وحملت إلينا، فكانت عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين.
وغاية الأمر أنا قد ضربنا صفحا عن جميع ما مضى منك، ومن باب الشفقة عليك حررنا هذا ثانيا إليك بدعوتك إلى الدخول في ملة الإسلام، والانتظام في سلك أتباع المهدي، والإذعان لحكمنا والعمل بإشارتنا، فإن أجبت داعينا وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وحسن إسلامك والتزمت العمل بإشارتنا، وصرت من ضمن أتباع المهدية القائمين بأوامرها المرضية، فاعلم أنا سنقبلك ونجعلك أميرا من طرفنا على بلادك، وتكون مكرما لدينا، وإلا فإن أعرضت عن ذلك فذنبك عليك، لكن يلزمك أن تكون واقفا على حدودك، ولا تتعدى حدود الإسلام، وإلا فإن تعديت الحدود فلا بد من مناجزتك الحرب، ويكون عليك من الهلاك والدماء مثل ما كان على الهالك يوحنا لما طغى وبغى وتعدى الحدود، وها قد أنذرناكم بهذا، وفيه الكفاية لك. والسلام على من اتبع الهدى. في سنة 1308ه.
وقد رد منليك على التعايشي بتاريخ 11 يونية سنة 1896 بما يلي:
غلب الأسد من طائفة يهوذا منليك الثاني المجعول بإرادة المولى ملك ملوك الأيتيوبية، إلى جناب الخليفة عبد الله بن محمد، بعد مزيد السلام، كيف حالتكم؟ أما أنا فأشكر الله بخير وعافية، وأخبركم أني بعد حصول المحاربة بيننا وبين التليان بناحية مدينة عدوة، غلبتهم بإحسان الباري وعدت إلى مدينتي المحروسة بخير وسلام، وأما باقي الكلام الذي أريد أن أبلغه إياكم، فالرسول الواصل صحبة هذا، وهو الحاج أحمد يخبركم به شفاها ودمتم. كتب بمدينة أديس أبابا في سنة 1888 حبشية 29 ذي الحجة سنة 1313ه/11 يونية سنة 1896م.
وقد أرسل التعايشي إليه خطابا قال فيه:
إن ما أردته من انعقاد الصلح بيننا وبينكم فليكن بعلمك أننا لا نريد دخول أحد من الأوربيين في أي جهة من جهاتنا الإسلامية، لا بحرفة البيع والشراء ولا بصفة السياحة، وليس بينا وبينهم إلا الحرب، فإن كنت أنت كذلك ومنعت جميع الأوربيين من الدخول في بلدك إلا بالحرب بحيث لا يكن بينك وبينهم إلا بالحرب، وعلى هذا الشرط ينعقد الصلح بيننا وبينكم 6 ربيع سنة 1314ه / 14 سبتمبر سنة 1896م.
وحمل هذا الكتاب سفير التعايشي محمد عثمان، وقد طلب التعايشي من منليك تأديب ود تور الجوري في جبال فازوغلي؛ لأنه عصاه، فأدبه منليك وملك بلاده.
معاهدة
روى لنا أحد علماء السودان الرواية التالية:
في سنة 1897 أبرمت معاهدة بين منليك وإمبراطور الحبشة وبين الخليفة عبد الله التعايشي، وبمقتضاها نزلت الحبشة عن أراضي حبشية متاخمة للسودان إلى حكومة الخليفة، وقد حدث أن نسخة المعاهدة سلمت إلى المغفور له الشيخ أبي القاسم هاشم شيخ علماء السودان، وكان قبل ذلك كاتم السر للخليفة عبد الله، وسرقت ورقة المعاهدة من الشيخ أبي القاسم، ولما طلبها الخليفة عبد الله أجابه بأنها مفقودة، وكان ذلك يوم أحد، فأمهله إلى يوم الخميس التالي، وتوعده بالقتل إذا لم يحضرها إليه في اليوم المحدد، فمضى الشيخ أبو القاسم إلى باب، أي «ديوان»، شيخ الدين، وهو الابن الأكبر للخليفة عبد الله، حيث اجتمع أبو القاسم بشقيقه الشيخ الطيب أحمد هاشم، وخرج معه إلى بيته، وأخبره بوعيد الخليفة، واتفقا على الابتهال إلى الله - تعالى - أن يلهمهما أين توجد الورقة المسروقة.
ومضيا في ذكر الله حتى كان مساء يوم الأربعاء، فأغفى الشيخ الطيب، ورأى في غفوته كيف أخذ السارق الورقة، ومن هو، وأن الورقة مودوعة الآن جوف كتاب في دار السارق، فتوجه في الحال إلى ذلك المنزل، واسترد الورقة في غفلة منه، وعاد إلى الشيخ أبي القاسم وسلمها له، وقد تعاهد الشيخ أبو القاسم والشيخ الطيب بعدم البوح باسم السارق؛ خشية أن يصيبه عذاب أليم وهلاك محقق من التعايشي، وتوجه الشيخ أبو القاسم ومعه الورقة في صباح الخميس إلى الخليفة عبد الله ومعه ورقة المعاهدة، وقد حاول الخليفة أن ينتزع منه بيانا عن كيفية الحصول على الورقة، فأصر الشيخ أبو القاسم على أنه وجدها بين أوراقه الخاصة.
أما السارق فقد أدرك بعد خروج الشيخ الطيب أنه أخذ الورقة من الكتاب وسلمها للشيخ أبي القاسم، فخشي العاقبة وأدناها هلاك محقق من الخليفة، ولبث حائرا مذعورا ثلاثة أيام حتى ضمر وهزل، وتوجه إلى الشيخ أبي القاسم وكاشفه بشعوره، وقال له إنه يعرف العاقبة ويريد أن ينزل به المكروه المنتظر حالا، فأصر الشيخ أبو القاسم على أن الورقة كانت بين أوراقه، وأنه لم يأخذها من دار السارق، فلم يسع السارق - وكان خصما منافسا كائدا للشيخ أبي القاسم - إلا أن يقر بنبل فضيلته وكرم أرومته، وأدرك أن إخفاء الحقيقة مقصود به إنقاذه من الهلاك، وقد أوصى الشيخ أبو القاسم أولاده بكتمان اسم السارق أبد الآبدين.
أما الورقة فقد ظلت في دار الشيخ أبي القاسم حتى قبيل استعادة السودان على يد كتشنر باشا في واقعة أم درمان، فأمر الخليفة بإحراقها فأحرقت.
بين التعايشي ومشايخ السودان
عند تولية التعايشي كتب إلى مشايخ السودان كافة بالحضور إلى أم درمان؛ لتجديد البيعة عليه، والتبرك بزيارة قبر المهدي، وقد نكل بالممتنعين، مثل: صالح الكباشي وأهله الكبابيش، ومادبو شيخ الرزيقات، وعوض الكريم باشا أبي سن شيخ الشكرية، الذي امتنع أولا عن إجابة دعوة المهدي، ثم أحضر بعد سقوط الخرطوم إلى أم درمان وعفا عنه المهدي، ولكن أبا سن لم يجب دعوة الخليفة، فسجنه ومات قهرا، ونكل التعايشي بالشكرية، وقتل محمد البشير علي طه بن جن شيخ الحمدة، وسجن محمود ود زايد شيخ الضباينة، ثم عفا عنه، وشنق إبراهيم ود عدلان أمين بيت المال.
قاضي الإسلام
أحمد ود جبارة أول قاض للإسلام في المهدية، وقتل في الأبيض، فخلفه ود حلاب، ثم أحمد علي، الذي سجنه التعايشي سنة 1894، ومات مسجونا، وخلفه سليمان الحجاز من بربر، ثم الحسين الزهرة الذي سجن سنة 1895.
الأسرى
كان رجال المهدية يسمون المسلمين المصريين الأسرى «أولاد الريف»، والنصارى الذين أسلموا «المسلمانية».
وقد انتفع المهدي وخليفته بمعارف المصريين والمسلمانيين الفنية والحربية والكتابية، مع دوام مراقبتهم والحذر منهم.
مؤامرة
وقع خلاف بين التعايشي والخليفة شريف وأقارب المهدي، وظن التعايشي أنهم يؤلبون مؤامرة لاغتياله، فسجن الخليفة محمد شريف مكبلا بالحديد بعد الحكم عليه من الخليفة ود الحلو والقضاة، ثم توسط آل المهدي فأفرج التعايشي عن محمد شريف.
المجاعة
حدثت مجاعة سنة 1306 وسنة 1888م؛ لعدم نزول مطر كاف، ولغارة الجراد، وانتشرت الأمراض على النيل والسودان الشرقي والغربي، ما عدا فاشودة التي أرسلت الحبوب فخففت المجاعة، وأدرك التعايشي أن الاهتمام بالزراعة واجب.
في عهد المهدية
ألغيت الضرائب، وجمعت الزكاة والعشور والغنائم في بيت المال العام بأم درمان، وأقام التعايشي عاملا على كل عمالة، ولكل عمالة بيت مال خاص، وللعامل وكيل، ومعه قاض، ونائب قاض، وكتاب. (7) غزوة عبد الرحمن النجومي لمصر
كان من خطة المهدي وخليفته عبد الله التعايشي فتح مصر، وقد زاد اهتمام الخليفة بهذا الفتح بعد أن أصبح السودان كله خاضعا لحكمه، فكاتب رؤساء القبائل والعشائر في الصعيد، واستنفرهم للاشتراك في فتح مصر.
وقبل أن يتقدم الجيش الكبير الذي سار من دنقلة إلى فتح مصر بقيادة عبد الرحمن النجومي، وقعت مناوشات في شمال السودان لتبديد شمل الحاميات المصرية.
جلت الجنود الإنجليزية التي كانت مشتركة مع الجيش المصري في حماية الحدود من مصر والسودان، واشتغل الجيش المصري وحده بقيادة سرداره غرانفيل باشا بعبء المحافظة على الحدود.
كان عبد الرحمن النجومي عاملا على دنقلة، وكان «قيدوم» من أهل التعايشي وكيلا له، وفي سنة 1885 خرب محمد الخير سكة الحديد بين عكاشة وسرس، ثم أرسل النجومي مقدمة جيش برياسة النور الكنزي، فخرب السكة الحديدية بين سرس وعبكة في نوفمبر سنة 1885.
وقد انتصر شرمسيد باشا قومندان حلفا في 28 أبريل سنة 1887 على النور الكنزي في واقعة سرس، ولكن النجومي أرسل عبد الحليم مساعد مع جيش احتل سرس.
وقد أنشأ السردار سنة 1885 نقطة من العبابدة المليكاب في آبار المرات برياسة صالح خليفه بك، لتكون في صدر بوغار أبي حمد.
كانت حملة الدراويش في سرس تواصل الغزو، فغزت أرمنة والتوفيقية وطابية خور موسى ودبيرة وسرا الغرب، ثم تقدم النجومي بجيش كبير بلغ نحو 15 ألفا، ومعه النساء، و14 مدفعا والبنادق والرماح والجياد والإبل والغلال والتمر، فوصل معتوقة في 28 يونية سنة 1889، وكشف حلفا، حيث قسم جيشه إلى ثلاثة أقسام، ووصل قبالة البلينة جنوبي هيكل أبي سمبل.
وحشد السردار غرانفيل باشا الجنود، ووصل إلى البلينة، وكتب النجومي يدعوه إلى التسليم، فأبى وحشد السردار الجيش من أسوان إلى توشكى، وكان رؤساء الجيش ضباطا إنجليز، بينهم كتشنر باشا وونجت بك «باشا».
وتوشكى بلدة مستطيلة على غربي النيل، على بعد 60 ميلا من حلفا، وبها نخيل، ومن ورائها سهل رملي تتخلله الآكام والصخور والجبال، التي وصل النجومي بجيشه إليها ولم يبق معه عندئذ إلا 3300 من الرجال، و3600 من النساء والغلمان والأتباع.
ووقعت واقعة توشكى، فانتصر الجيش المصري في 6 الحجة سنة 1306ه، وأسر ابن النجومي، وتعلم في مصر، وأصبح بكباشي بالبوليس المصري بعد انسحاب الجيش سنة 1924، وغنم الجيش الأسرى والرايات والحراب، وقد ضمت الأشلاء ووضعت في قبر، ووضع له أثر سجلت فيه الواقعة إلى اليوم.
ومدت الحدود حتى سرس، فاحتلتها الأورطة الثالثة عشرة.
وفي أكتوبر سنة 1889 أصدرت الحكومة منشورا إلى أهل السودان تدعوهم إلى نبذ المهدية، ووزعته على يد أسرى توشكى، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيد المرسلين، وبعد، فلا يخفى عليكم ما كانت عليه بلادكم السودانية أيام الحكومة الخديوية من رغد العيش وراحة البال، وما آلت إليه حالتها من الضنك والاضمحلال بأسباب الفتنة المهدوية ... إلخ. (8) بعد حملة النجومي
بعد هزيمة النجومي، جعل السودانيون «سواردة» أقصى نقطة لهم شمالا ثلاث سنوات، وقد وقعت مناوشات، منها: غزوة سرس، وسرا الغرب، وقستل، وحمابي، وأمبقول، وبريس، والمرات، حيث قتل فيها صالح بك محمد خليفة، وخلفه أخوه عبد العظيم، وغزوة الشب وأدندان وسرس القديمة، وكانت هذه الغزوات بين سنة 1892 وسنة 1896.
كسلا
وفشل أحمد فضيل في محاولة دخول كسلا بين مارس وأبريل سنة 1896، ورده الإيطاليون إلى القضارف.
تقدم الإيطاليون بإذن الحكومة المصرية، ففتحوا كسلا بقيادة الكولونيل بارتياري، وهرب مساعد قيدوم عاملها من قبل الخليفة الذي سبق له عزل أميرها حامد علي، ثم خلفه أبا قرجة.
غزوة دقنة لطوكر
فشل عثمان دقنة في الاستيلاء على طوكر سنة 1896 في واقعتي سدني وفنك.
في أم درمان
ترك رجال المهدية الخرطوم حتى خربت، واهتموا بعمران أم درمان التي تقع تجاهها على النيل الأبيض، وبنوا ديما، كما كانت عادتهم في بناء الديوم - وهي مساكن خارج المدن - وبنى المهدي جامع الصفيح، وبنى الخليفة بجانبه جامعا متسعا - وهو حوش عظيم مربع يحيط به سور وله ثمانية أبواب - بغير سقف، ووضع الحجر الأساسي في 20 نوفمبر سنة 1887، وبني بعد 73 يوما، وكان الأهالي يؤدون الصلوات الخمس فيه جماعة، ثم بنى قبة المهدي، وبدأ البناء في 7 نوفمبر سنة 1888، وقد وصفها إسماعيل عبد القادر الكردفاني في قصيدة مطلعها:
سمت قبة المهدي مجدا وسؤددا
ونيطت بها الجوزاء عقدا منضدا
قبة المهدي بعد واقعة أم درمان.
وقد نقش تاريخ القبة على حجر رخام فوق عتبة بابها الجنوبي سنة 1306 هجرية. (9) المصريون في السودان والثورة المهدية
ذبح أنصار المهدية آلافا من التجار والمستخدمين المصريين في مدينة الطيارة - أكبر مركز لتجارة الصمغ وريش النعام في مديرية كردفان، وبقرت بطون الحبالى، وقذف الأطفال في الجو، وكان الثوار يتلقايونهم على أسنة الرماح، في عهد الفقير المنه زعيم قبائل الجوامع والجمع.
وقد استنكر المهدي هذا العمل، ومات أكثر سكان الأبيض، التي عاش فيها ألوف من المصريين جوعا في أثناء الحصار ولغلاء الحاجيات - كما تقدم، وقيل إن الناس أكل بعضهم بعضا، وسبيت الفتيات، وانتحر الكثير منهن ومن أوليائهن.
ونكل محمد خالد زقل بك - وكيل مديرية دارة بدارفور، ثم مديرها قبل الثورة المهدية، وابن عم المهدي، الذي أمره على دارفور - بالموظفين المصريين، وانتحر الصاغ حمادة أفندي بعد أن ضرب بالسوط ثلاثة أيام متوالية، وكانت تملأ جروحه بالملح والفلفل لكي يدل على أمواله المخبوءة، ولكنه مات دون أن يفعل مصرا على أن المال ماله، وأنه ورثه عن أبيه، وأن المهدي ما كان أخا له حتى ينازعه تراثه .
العربة التي كانت عند الخليفة عبد الله التعايشي، وهي من غنائم الخرطوم، ولا تزال في متحف أم درمان.
وذبح أكثر التجار المصريين ووكلائهم في السودان، وسلبت بضائعهم، وكذلك في بربر، وقتل من سكان الخرطوم يوم سقوطها 24 ألفا، عدا الجيش الذي كان عدده حوالي ثمانية آلاف، وسبيت 35000 فتاة وسيدة، ولم يبق من سكان حامية كسلا وأسرهم يوم سقوطها إلا 4800 شخص، في حين أن عددها كان 50 ألفا، ولم يبق من سكان مدينة سنار - وكان يسكنها كثرة من المصريين - غير ثلاثة آلاف شخص يوم سقوطها.
دار محافظة سواكن، وكان بها كتشنر باشا محافظا لها في عهد الثورة المهدية، ويرى أمامها لفيف من أعضاء البعثة المصرية في السودان سنة 1935.
ومات في سقوط كسلا اللواء أحمد عفت باشا، والسنجق حسن سليمان بك، وأحمد شوقي بك معاون المديرية، وفي سقوط سنار اللواء حسن صادق باشا، والقائمقام حسن عثمان الكريتلي بك، وأحمد مكوار بك وكيل المديرية، وفي سقوط خط الاستواء الأميرالاي سليم مطر بك، والقائمقامان حامد محمد بك، وفضل المولى بك، والبكباشية مرجان وعبد الوهاب طلعت، وعلي جبور، وبخيت وسالم خلاف، وفي الأسر صالح المك باشا، وفرج الله باشا.
وقدر غوردون في إحصائه أن عدد المصريين في السودان قبل سقوط الخرطوم كان يبلغ 200 ألف، وبعد فاة المهدي أمر الخليفة التعايشي بأن يجتمع المصريون في صعيد واحد، فبلغ عددهم - عندئذ - خمسة آلاف من الرجال، وكان يسميهم «فضلة سيف المهدي».
وقد وقعت مجاعة في عهد التعايشي «1888-1889»، وفتكت بمئات الألوف من أهل السودان والمصريين فيه.
ومات من الضباط العظام بالجيش المصري، من مصريين وسودانيين، راشد أيمن بك في واقعة راشد بك، ويوسف الشلالي باشا، والقائمقام محمد عثمان بك، والبكباشي حسن رفقي في واقعة الشلالي، والقائمقام علي لطفي بك في واقعة علي لطفي بك، واللواء محمد سعيد باشا، والميرالاي علي شريف بك، والبكباشية محمد الفولي، وباشا حماد ومحمود حسن، ونظيم، ومحمد يسن بك ناظر قسم كردفان عند سقوط الأبيض، واللواء علاء الدين باشا، واللواء حسين مظهر باشا ، والأميرالايات البكوات سليم عوني ، والسيد عبد القادر، وحسين فهمي، وعباس وهبي، ورجب صديق، والسنجقات البكوات عبد العزيز يحيى كامل، وخير الدين. «والسنجق رتبة كانت أعلى من رتبة البكباشي، وأقل من رتبة القائمقام، وقد ألغيت»، والدكتور جورجي بك حكيمباشي الحملة المصرية.
منظر لقرية من قرى الشلك.
وفي وقائع دارفور قتل البكباشية شرف الدين، وعلي الطوبجي، ومحمد فرج، وفي وقائع سنكات وطوكر وسواكن قتل الأميرالاي عبد الرزاق نظمي بك، والقائمقام محمد توفيق المصري بك، والبكباشية محمود خليل، ومحمد فهمي المصري، وكاظم، وفي وقائع حصار الخرطوم وأم درمان وسقوطهما اللواءات محمد علي حسين باشا، وموسى شوقي باشا، وفرج الزيني باشا، والأميراليان بخيت بطراكي بك، ومحمد القباني بك، والقائمقامية البكوات سلطان عبد الله، ومحمد المك، وعثمان حشمت، وفرج صالح، والسيد أمين، وسرور بهجت، ويوسف عفت، وحسين القباني، وأحمد أبو القاسم، وعبد الله العبد، وعبد القادر حسن، وحسن العقاد، ومصطفى عصمت، ومحمد إسلام، وإبراهيم لبيب، وأحمد عبد الوهاب، والسناجقة البكوات متولي، وعلي، وميتو، وعبد الهادي، ومحمد كرسي، ومحمد قرضية، ومحمد السنجق، ونصر وبشير خشم الموس، ومحمد نعمان، والبكباشية إبراهيم سودان، ومنصور عبد العال، ومحمد عثمان، وأحمد حماية، ومحمد دسوقي، وحسين محمد، وعلي صقر، وسليمان النشار، وحسن فؤاد، ومن كبار الموظفين محمد حسن باشا مأمور المالية، والشيخ محمد حتيك قاضي القضاة، والشيخ شاكر الرئيس مفتي السودان، وعصمت بك مدير التلغراف، وإبراهيم رشدي بك سكرتير غوردون، وقرياقص القمص بك باشكاتب الخرطوم، ومحمد إبراهيم بك، والشيخ محمد موسى مفتي المحاكم الشرعية، والشيخ محمد السقا شيخ القراء، والشيخ حسين المجدي رئيس أساتذة المدرسة الأميرية بالخرطوم، والسيد فايد شيخ السجادة الأحمدية، وأحمد جلاب بك مدير الخرطوم، ومحمد عطية بك صراف الخزينة.
أمين باشا في خط الاستواء
حضر اثنان أحدهما ينكر الألماني والكبتن كازاتي الإيطالي، لمساعدة أمين بك «باشا» مدير خط الاستواء عند قيام الثورة المهدية، وقد تبرع الرحالة الشهير المستر ستانلي بحملة من مصر إلى زنجبار، إلى الكونغو، إلى بحيرة ألبرت، فوصل إليها في 15 ديسمبر سنة 1887م، وقد التقى استانلي بأمين بك في نسابي في 29 أبريل سنة 1888م، وتسلم أمين بك من استانلي أمرا عاليا بتوقيع الخديوي توفيق بترقيته إلى رتبة اللواء وترقية ضباطه.
وقد هاجم عمر صالح خط الاستواء سنة 1888م، وسجن أمين باشا ثم أفرج عنه.
وقد عاد إلى زنجبار وترك خدمة الحكومة المصرية وقتل. (10) سقوط الخرطوم ورأي الإنجليز في الموقف
خلص لنا من مطالعتنا الكثيرة عن موقف الإنجليز في السودان، أن الحكومة الإنجليزية - في لندن - عند الثورة المهدية، لم تتوقع النتائج التي أدت إليها، وأنها افترضت أن انسحاب الحكام والجيش المصري من السودان سيترتب عليه أن ينقسم السودان إلى إمارات أو ممالك وسلطنات صغيرة، كل منها يدعي استقلالا، ولكن الذي حدث هو أن المهدي انتصر انتصارا شاملا، وأصبح السودان في قبضة يده وطوع بنانه ورهن إشارته، وأضحى المهدي يهدد مصر والبلاد المجاورة، بل يهدد الاستعمار الإنجليزي في إفريقيا.
لم يصل نبأ سقوط الخرطوم إلى مصر والعالم في حينه؛ لانقطاع المواصلات، وقيل إن القاهرة لم تعلم بسقوط الخرطوم إلا بعد شهر منه.
تقرير سير شارلس ولسون
2
نشرت جريدة «الأهرام» بعددها الصادر بتاريخ 30 مايو سنة 1885 تقريرا رفعه السير شارلس ولسن إلى اللورد هرتنتون بواسطة اللورد ولسلي، بحوادث التجريدة التي سيرها تحت إمرته إلى الخرطوم، وهذا نص التقرير:
سيدي، أقلعت بعض السفن من الخرطوم فبلغت قوبات في 21 يناير؛ إذ كنا نناوش الثائرين القتال بجوار المطعمة، فتربص ربانها فيها ريثما أرفضت المعمعة، ثم جاء إلي بين الساعة الثالثة والرابعة فناولني ودائع سلمها له الجنرال غوردون، ففضضت أختامها، وإذا هي كتب من خطه، فقرأتها وصممت في الحال على أن أتوجه إلى الخرطوم لو لم أجد بواعث عديدة حملتني على تأخير ذلك، ولكن لا يخفى محيط علمكم أنني لو سافرت في صبيحة 22 الشهر المذكور، وقطعت المسافة بمعدل ما قطعتها، لما تمكنت من الوصول إلى الخرطوم قبل ظهيرة 26 منه، أي بعد سقوطها في أيدي الثائرين بيوم، فإذا ما تبين ذلك أبتدأ الآن بإثبات تلك الأسباب التي دعت إلى تأخيري عن السفر، وهي:
أولا:
لضعف قوتنا الناشئ عن كثرة قتلانا وجرحانا، ولأن قاسم الموس ربان السفن المذكورة أنبأني بأنه رأى وهو مقبل نحونا القائد فقي مصطفى زاحف بقوة عظيمة نحونا، فاستنبأته عن موعد وصولها إلينا، فقال إنها ربما تصل في الغد «أي 22 يناير»، فصرفت يوم 21 منه في التهيؤ والاستعداد، ثم سرت في صبيحة اليوم التالي بشرذمة قليلة، فتقدمت بها على ضفة النيل حتى بلغت شندى، كل ذلك لأرى ما إذا كان نبأ الربان صحيحا.
ثانيا:
لأن الجنرال غوردون
3
ألح في كتابه بأن نتخذ قيادة السفن بأنفسنا، وإلا فنعيدها إليه بعد أن ننزل منها جميع الباشاوات والبكاوات، وكل رجل كان مصري النزعة أو تركيها، فوالحالة هذه اعتمدنا بادئ بدء على تجهيز تلك السفن بالفرقة البحرية، على أن أعباء اللورد شارلس برسفورد وفقدان عدد عظيم من تلك الفرقة حالا دون تتميم خطتنا، فرأينا حالتئذ أن ننتخب من السفن الأربعة الضباط والعساكر السودانية، وننقلها إلى السفينتين اللتين رأينا أن نسير بهما إلى الخرطوم، وهذا ما أعاقني عن تأخير سفري إلى 23 من الشهر المرقوم.
ثالثا:
لأني رأيت السفن في حالة رثة، فاقتضى أن أصلحتها بقدر الطاقة، وأعددتها بحيث تقوى على احتمال ضربات المدافع التي توقعت سقوطها علينا متى وصلنا إلى أم درمان، التي وقعت في أيدي الثائرين قبل سقوط الخرطوم بزمن مديد.
تلك هي أهم الأسباب التى دعتني إلى تأخير سفري إلى الخرطوم، فترون بعد التروي والفحص أني كنت محقا في عدم السفر حالا، وترون أيضا أنني لو كنت سافرت في اليوم الذي تناولت فيه كتب الجنرال غوردون لما قدرت على إنقاذ المدينة؛ إذ هي قد سقطت في أيدي الثائرين في 25 يناير.
التوقيع: شارلس ولسون (11) وثائق رسمية
قالت «الأهرام» أيضا في عددها الصادر بتاريخ 13 يونيو سنة 1885 إن الحكومة الإنكليزية نشرت الأوراق البرلمانية التي تحتوي على مكاتبات تبودلت بشأن بعض موان في البحر الأحمر وخليج عدن ومقاطعة هرر، وهذه المكاتبات تشتمل على 148 رسالة، الأولى من هذه الرسائل بتاريخ غرة يناير سنة 1884، وآخرها بتاريخ 6 فبراير سنة 1885، وملخص هذه الرسائل أن الحامية المصرية كانت في أوائل سنة 1884 تحتل المواني والمقاطعة المومى إليها، وقد اقترحت الحكومة المصرية أن تجلي حاميتها عن مقاطعة هرر لتبينها أن الدارعات الإنكليزية كانت تقوى على حماية البحر الأحمر دون هذه المقاطعة؛ لبعدها عن البحر، وخشية هجوم القبائل المجاورة، خصوصا قبيلة الصومال وملك شوا، فاستشارت الحكومة الإنكليزية في الأمر فأجابتها بالقبول، وقد مارست الحكومة المصرية إجلاء الحملة، وأرسل الماجور هنتر «باشا» رسائل كثيرة تتضمن آراءه في هذا الجلاء الذي كان قائما بإنجازه الماجور هيث والمستر بيتون.
هنتر باشا.
وفي أثناء ذلك أبدت الحكومة المصرية ارتياحها إلى التخلي عن المواني الأخرى الواقعة على البحر الأحمر وفي خليج عدن، وعن زيلع وبربرة، وأخذت في سحب جنودها منها، وقد ساعدتها الحكومة في عدن على تتمة ذلك، ثم أرسل إلى الماجور هنتر تعليمات تؤذنه بإبرام عهدات مع القبائل المختلفة.
وفي جملة هذه الأوراق كتابات أخرى واردة إلى الحكومة الإنجليزية من حكومات فرنسا وإيطاليا وتركيا، تحتوي على مخابرات تبودلت في أمر احتلال المواني المذكورة بعد تخلي الحاميات المصرية عنها، وأثبت اللورد فيتز موريس لدى مجلس العموم في 3 مارس سنة 1884 أنه قد بلغ حكومته نبأ يشف عن ابتغاء فرنسا لابوخ، وحينما بلغ المسيو وادنكتون قول اللورد فيتز موريس، بادر فأرسل كتابا إلى اللورد غرانفيل يدحض فيه هذا النبأ، وبين فيه أن «لابوخ» لم تكن مبتغاة فرنسا، وإنما هي ملك لها من قديم الزمان، فأرسل إليه اللورد رسالة أبدى فيها عدم رغبته في إقامة مناقشات وصعوبات في صدد تملك فرنسا لابوخ المذكورة.
وفي خلال تلك السنة حدث أن فرنسا ضربت أعلامها فوق صروح رأس علي وانجر وساغالوا، حتى تاجورة التي اضطرت الحاميات المصرية إلى الجلاء عنها بعلة مضايقة قبيلة الدناقيل «الدناقلة» لها، وفي 11 يناير من تلك السنة أرسل السير بارنج إلى اللورد غرانفيل كتابا يذكر له فيه أن قنصل فرنسا في عدن أبلغ المستر بلار أمير اللواء الإنكليزي أن فرنسا وضعت حمايتها على السواحل المتوسطة بين رأس علي حويت خراب.
ويلوح من الأوراق البرلمانية أيضا أن الحكومة الإنكليزية أرادت بادئ ذي بدء أن تحيل مسألة احتلال سواحل البحر الأحمر إلى الدولة العثمانية، فتحتلها بعد انجلاء الحاميات المصرية عنها، فأرسلت إلى الدولة العثمانية - بواسطة اللورد دوفرين سفير إنجلترا في الأستانة وقتئذ - كتابا تقترح عليها فيه ذلك، ومضت مدة خمسة عشر يوما ولم يرد الرد، فعاد اللورد غرانفيل فكتب إلى اللورد دوفرين رسالة ذكر فيها أنه قد وقع القرار على ترك مقاطعة هرر، وانجلاء الحامية المصرية عنها، وأن في النية إعادة المصريين من سائر السواحل التي احتلوها إلى الآن، وهي الممتدة من مضيق باب المندب إلى رأس حافون، بما فيه مواني تاجورة وزيلع وبربرة، فإذا شاء الباب العالي أن يوطد سيادته السابقة لسيادة مصر على تاجورة وزيلع فالحكومة الإنكليزية تعترف له بهذه السيادة، على شريطة أن يعمل فيها على منع الاتجار بالرقيق، ويتعهد بأن لا ينزل أي قسم منها لأية دولة كانت، ولا يضرب رسوما على تلك المواني المذكورة في الوفاق المبرم سنة 1877 بين الحكومة المصرية وحكومة الملكة.
فأبلغ اللورد دفرين هذه الرسالة إلى الباب العالي، واستحثه على الرد، ولما لم ير فائدة من حثه، أرسل إلى اللورد غرانفيل رسالة قال فيها: «إنني قدمت رسالتكم إلى وزير الخارجية في الأستانة، وأطلعته على فحواها، فوعدني بادئ ذي بدء بالإجابة عنها حالا، فأعدت عليه السؤال يوما بعد آخر، فكان يماطلني مقدما لي في كل حين أعذارا جديدة.»
ومضت على هذه الحال أيام حدث في أثنائها أن أرسلت عساكر من عدن احتلت هرر، وعزمت الحكومة الإيطالية على إرسال تجريدة من قوتها إلى البحر الأحمر، فما كان من الباب العالي - حينئذ - إلا أنه ادعى السيادة المطلقة على سواحل البحر الأحمر طرا، وبنى ادعاءه على شروط وفاق أبرم في 7 سبتمبر سنة 1877.
وختمت الأوراق البرلمانية المومى إليها برسالة بعثها اللورد غرانفيل إلى السير بارنج في 6 فبراير، وضمنها ما يأتي:
يرى اللورد كمبرلي أن يعهد تدبير وسياسة الساحل الممتد من رأس حافون إلى زيلع إلى حكومة الهند، فتنظر في جميع مسائلها، وتقضي بها حسبما شاءت ورأت، وأن تمد مراقبتها حتى زيلع نفسها، اللهم إلا إذا لم يقبل الباب العالي إعادة سيادته عليها طبقا للمطالب التي اقترحتها عليه الحكومة الإنكليزية.
بيد أنه «أي اللورد كمبرلي»، يرى عدم وجود امتداد مسئولية الحكومة الهندية إلى ما وراء زيلع وأن تكون جميع المسائل المتعلقة بالسواحل الواقعة بين زيلع وباب المندب والمرتبطة بأراضي هرر متعلقة بنظارة الخارجية بلندن. أما أنا فصدقت على هذه الآراء وسأبعث بها إلى الحكومة الهندية بالتعليمات اللازمة بشأنها.
التوقيع: غرانفيل
ومن بين الأوراق البرلمانية التي نشرتها الحكومة الإنكليزية في 9 يونيو سنة 1885 رسالة هامة بآراء اللورد ولسلي في الانجلاء عن السودان، وتاريخها 16 أبريل سنة 1885، جاء فيها ما يلي:
ولا خفاء أن المهدي نال نفوذه بواسطتين اثنتين؛ أولاهما: نجاح رجاله في الحروب، واستيلاؤه على مواقع مهمة كالخرطوم وبربر، وبهذه الواسطة كان تقدمه بطيئا، واتخذ لنفسه عادة هي أن يقف بعد افتتاحه مدينة ما، هنيهة دون أن يخطو إلى الأمام خطوة. والأخرى: إنفاذه الرسل الذين يتنقلون من مكان إلى آخر فيبثون أخبار نجاحه بين الأهلين، ويحثونهم على الجهاد ضد الجميع، وهكذا يبثون روح البغضاء والكره للأحوال الحاضرة، ويستميلون القبائل إلى الانحياز للمهدي. وفيما أرى أن هؤلاء الرسل لا يمكن درء مخاطرهم بالوسائط الدفاعية، وليس من وسيلة لملاشاة تأثيراتهم إلا باقتلاع الجرثومة التي يتناولون منها نفوذهم، أي بتبديد شمل المهدي، وشق عصا أعوانه، أجل، إن هؤلاء الرسل هم الذين أثاروا أهالي وادي النيل من حد بربر إلى هندوب، واستمالوهم إلى طاعة المهدي، مع أنه لم يتقدم بنفسه إلى أبعد من أم درمان.
إلى أن قال: «وخلاصة ما ذكر أن محاربة المهدي لا بد أن تقوم قيامتها إن عاجلا أو آجلا. أما نحن فيمكننا أن نقوم بها الآن ونسحقها، ويمكننا أيضا أن نضحي بكل ما اكتسبناه من الشرف العسكري بالمشاق والأتعاب، وبكل ما أرقناه من الدماء وبذلناه من الأموال في الحملة الماضية، وأن يذهب أدراج الرياح وتؤجل الحرب الفاصلة إلى بضع سنين، ولكن لا يخفى أن هذه السنين ستكون سني قلاقل واضطراب لمصر، وحملا ثقيلا على عسكريتنا، وأن الحرب التي سنقوم بها أخيرا لا تكون أقل ضنكا من الحرب التي هي أمامنا في الوقت الحاضر؛ ذلك لعمر الحق كل ما سنكتسبه من سياسة الدفاع عن القطر المصري.
من وزير الخارجية الإنجليزية إلى القنصل فيفيان
في قسم المحفوظات بوزارة الخارجية بإنجلترا وثائق تحمل تعليمات وزارة الخارجية بلندن إلى قنصلها بمصر «فيفيان»، ويتبين منها أنه قدمت شكاوى إلى الحكومة الإنجليزية من جمعية تبشيرية وجمعيات منع الرقيق، وأنه في 29 مارس سنة 1877 أرسل وزير الخارجية إلى فيفيان كتابا، أرسل معه الشكاوى المشار إليها، وسأل القنصل أن يبلغه هل صحيح ما يقال من أن الخديوي «إسماعيل» يريد ضم أقاليم إفريقيا الوسطى حوالي بحيرة فيكتوريا وبحيرة ألبرت، وقد رد عليه القنصل في 9 أبريل سنة 1877 بمذكرة مسهبة، قال فيها إنه قابل غوردون فأبلغه أن الملك كاباريكا ملك أونيورو قد خضع لمصر، وضمت مملكته إليها على يد «بيكر»، ولكن الملك أمتيسة ضم بعض بلاد أونيورو إلى مملكته، وأن التعليمات الصادرة من مصر إلى غوردون تقضي بأن يصل إلى بحيرة فيكتوريا، ومن رأيه الاعتراف باستقلال أمتيسة ومجيدة هذه البحيرة.
وثائق عن حكم محمد علي في السودان
4
في دار المحفوظات بالقلعة، وفي دور المحفوظات الرسمية للحكومات الإنجليزية والفرنسية والتركية وغيرها، وثائق رسمية هامة تتعلق بعهد محمد علي، واهتمامه بإنشاء إمبراطورية إفريقيا تشمل السودان والحبشة وأعالي النيل وطرابلس والغرب والجزائر، فضلا عما لمحمد علي من توسيع ملكه وزيادة نفوذه في سوريا والأناضول، والاشتراك مع الباب العالي في حرب اليونان وفي الحرب الوهابية.
وقد نشر الدكتور محمد صبري في كتابه «الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي» بالفرنسية طبعة 1930 - باريس - جانبا من هذه الوثائق، ويؤخذ مما نشره من وثائق مصرية، ومما نشرته الجمعية الجغرافية الملكية من وثائق فرنسية، وما نشره دريولت في كتابه «محمد علي ونابليون 1807-1814»، وكتابه «تأليف إمبراطورية محمد علي من البلاد العربية إلى السودان 1814-1823»، ومسيو كايو في كتابه «رحلة إلى مروى»، ومؤلفين آخرين أسماؤهم ومؤلفاتهم مدونة في باب المراجع، أن محمد علي قد أراد أن يتخلص من عساكره الألبانيين والترك، الذين لم يقبلوا النظام العسكري الجديد، فأراد أن ينتفع بهم في فتح السودان وأعالي النيل في إنشاء الإمبراطورية الإفريقية، وفي تجنيد ألوف العبيد، لما عرفوا به من الطاعة والخضوع والإخلاص، وبذلك يوجد جيشا نظاميا جديدا مطيعا، ولم يكن سكان السودان على حالة يستطيعون معها مقاومة الجيش الغازي، وقد طلب «إسماعيل» بن «محمد علي» قائد الحملة عن السودان من «الشايقية» أن يسلموا أسلحتهم وجيادهم، وثار نزاع ترتب عليه قطع أذن بعض العصاة، وكان إسماعيل يدفع 25 قرشا عن كل زوج من الأذن، وأن محمد علي عندما وصلته الأذن المقطوعة المرسلة من ولده «إسماعيل» بادر بإرسال كتاب
5
إليه يحذره من سلوك هذا المسلك، بعد أن أبلغه وصول كتابه وتسلم أذن الشايقية، وقال محمد علي: «إن الحكومات جميعا تعلم أنه بالعدل وحده تملك قلوب السكان، وأنه لكسب مملكة ما، يجب استعمال الحكمة واللباقة وحسن السياسة، ولن تستطيع حكومة ما أن تقوم بمهمتها بنجاح بغير العدل، الذي هو شرط لا غنى عنه لتحقيق كل مطلب عظيم، ولقد كان الأفضل لك أن تستعمل اللين في حمل الشايقية على تسليم جيادهم وأسلحتهم بدلا من إثارة أحقادهم وحملهم على الثورة.»
وقد ألف إسماعيل من الشايقية فرقة من السواري بالجيش المصري. وانتفع إسماعيل من المنافسة القائمة بين الوزير عدلان - من وزراء مملكة الفونج - ومنافسه حسن رجب، الذي قتل عدلان، فانضم أنصاره إلى الجيش المصري، الذي احتل مملكة الفونج، وحضر ملكها الملك بادي بنفسه طائعا أمام الجيش المصري الذي دخل مدينة سنار في 12 يونية سنة 1821، حيث بقي إسماعيل فيها حتى 5 ديسمبر.
وكان جيش إبراهيم باشا يقصد غزو دارفور والوصول إلى بلاد قبائل الدنكا، واتجه جيش إسماعيل إلى فازوغلي، واستعمل الجيشان طريق النيل الأبيض للوصول إلى غايتهما، وبحث «إسماعيل» عن مناجم ذهب الكماميل، التي كانت تافهة جدا، فاتجه جيشه إلى الغرب فتلاقى مع جيش «إبراهيم باشا» الابن الأكبر لمحمد علي، وكان طريقهما النيل الأبيض، وكان قد وصل جيش محمد الدفتردار بك - صهر محمد علي - إلى الدبة في دنقلة، وتابع سيره حتى وصل إلى بارة في كردفان، وانتصر على جيش الملك مسلم مخدوم.
وقد بلغ عدد قرى مديرية حلفاية وسنار 3000، وفازوغلي 1000، وكردفان 1500، وترك فتح دارفور - يومئذ - لعدم كفاية الجيش، ولاهتمام محمد علي بحرب المورة والثورات في السلطنة العثمانية، فكانت كتب محمد علي إلى «إبراهيم» تطالبه وتلح عليه بإرسال العبيد، وكان انهماك إسماعيل في فازوغلي، ثم سفر «إبراهيم» إلى مصر، والطرق التي كانت تجمع بها الضرائب،
6
من أسباب فتنة شندى.
وقد ترك انتقام الدفتردار من حادث قتل إسماعيل في شندى 30000 من الضحايا.
وثائق عن عهد إسماعيل
يقول بعض السياسيين الإنجليز
7
إن السياسة الإنجليزية قد أخطأت خطأ كبيرا بكونها ظلت حتى سنة 1875 لا تحرك ساكنا في إفريقيا، وأن هذا عدم بعد نظر من رجال الحكومة الإنجليزية.
ولكنا نرى هذا النقد في غير محله؛ لأن الحكومة البريطانية نجحت النجاح الأكبر في إفريقيا، وقد استفادت من سياسة البطء والتدريج التي سارت عليها في تقسيم إفريقيا ووراثة السلطنة العثمانية في بعض أجزائها.
8
لقد نهج «إسماعيل» منهج جده «محمد علي» بإحياء فكرة إنشاء إمبراطورية مصرية مستقلة عن تركيا، ولكن «إسماعيل» قد اضطر أمام معارضة أوربا له في توسيع ملكه واستقلاله، أن يعتمد على المال في تحقيق أغراضه البعيدة، بما دفع للسلطان العثماني ووزرائه والصحف من أموال، وبينما كان نشاط محمد علي ممتدا في النواحي جميعا في إفريقيا، وآسيا، والجزيرة العربية وإلى أوربا «حرب المورة»، وجه «إسماعيل» نشاطه، أو اضطر إلى توجيهه إلى إفريقيا، إلى شواطئ البحر الأحمر وكشف منابع النيل، والتوسع جنوبا.
وقد جعل إسماعيل شعاره كلمة «هيرودوت»: «مصر هبة النيل»، وأدرك أن النيل هو «وحدة مصر الجغرافية والاقتصادية والسياسية»، قال «سيلفا هوايت»:
9 «إن وحدة حوض النيل الكاملة يجب أن تكون هي القاعدة السياسية الوطنية التي توجبها الطبيعة وتمليها المعلومات التاريخية.»
ومما سهل حكم محمد علي ثم حكم إسماعيل للسودان أن الإسلام كان منتشرا في تلك الجهات وحولها. قال بونيفون في كتابه
10
الفرنسي: «ليس في وسع إنسان إلا أن يلحظ أن البلاد التي لم تدخلها المحمدية «الإسلام»، فإن الفتشية «الوثنية» تكون هي المنتشرة بعاداتها الوحشية، فتذبح وتبيد عدوها المهزوم، بينما يقنع المسلم بأسر عدوه، وباستخدامه في حاجاته ولمسراته، أما المسيحي فإنه يترك الرجل لأرضه ويرد إليه حريته.»
وثائق حول سياسة غوردون
ومن رسائل غوردون
11
إلى «بارنج»: «أما عن تملك الأسرى فإنه حتى ولو أصبحنا سادة للسودان، فإنه لا يمكننا أن نتدخل في تجارة الرقيق، فلقد سبق لي أن قلت إن معاهدة 1877 مستحيلة»، قال غوردون هذا عند مهمته الأخيرة سنة 1884، في إخلاء السودان، ولكن الحكومة الإنجليزية لم توافق على رأي غوردون في هذا الصدد، فأبلغت قنصلها في مصر «بارنج» بتاريخ 31 مارس سنة 1888 رفضها العدول من محاربة تجارة الرقيق.
ولم يكن مسيو شايي لونج بك راضيا عن سياسة غوردون، فقال: «إن إدارته كانت على اضطراب يؤسف له، من وجهة اختيار مرءوسيه، ومن وجهة الرجال الذين كان يعهد إليهم بإدارة ماليته؛ فعندما قدم إلى السودان، وجده في سلام وفي رفاهية تامة، ولكنه عندما تركه سنة 1879 تركه مدينا وعلى شفا الثورة ...»
ويؤخذ من الوثائق المودعة دار المحفوظات بإنجلترا في 29 مارس سنة 1887 أن غوردون كان يرى ضمان حيدة بحيرة فيكتوريا واستقلال الملك أمتيسة، وأنه لا يعتقد أن مصر ترفض رأي وزارة الخارجية البريطانية في هذا الصدد.
وثائق حول سياسة الإنجليز
وقد كتب الرحالة الإنجليزي المشهور جرانت
Grant - من كاشفي مجاهل إفريقيا ووسطها - في جريدة «التيمس»، بعددها الصادر في 30 يناير سنة 1877، كتابا جاء فيه: «إن السبب الأصلي في عودة غوردون هو ضم بحيرة فيكتوريا نيانزا، وإنني أحتج بكل قوة على احتلال الخديوي لهذه البحيرة؛ فإن هذا الاحتلال سيكون وخزة في المدنية، وسيزيد الصعوبات التي تواجه محاربة تجارة الرقيق.
12
لقد كان جرانت وأنا كاشفي هذه البحيرة، وقد طاف استانلي حولها.» •••
في سنة 1887 أنشأ مستر فرانسيس فوكس «إنجليزي» شركة كشركات الاستعمار الإنجليزية في جنوب إفريقيا والنيجر وإفريقيا الشرقية، ورغب في إنشاء مصانع في الشمال، وفي جنوب سواكن، وإنشاء سكة حديدية بين سواكن وبربر لفتح السودان لتجارة أوربا.
وقد وصفت جريدة «التيمس» في مقال رئيسي لها في 3 يونية سنة 1887 الثروة الطبيعية في السودان، وألقى الماركيز سالسبوري خطابا في تأييد إنشاء شركة استعمارية أنشأها سير ويليام ماكنسون سنة 1885، وجعل دائرة عملها من تجاه جزيرة بمبا إلى شمال زنزبار إلى بحيرة فيكتوريا نيانزا محاذية الحدود المصرية ...
وفي الوثائق المصرية المحفوظة بقصر عابدين مذكرة كتبها إلى الخديوي بتاريخ 21 أكتوبر سنة 1876 رئيس أركان حرب الجيش، عن طريق رئيسه الكولونيل ستون باشا، يقول فيها: «إن مركز الجنرال غوردون - طبقا للكتب الواردة والأخبار التي وصلت من أوربا عن خطط الإنجليز وغيرهم فيما يتعلق بإفريقيا الوسطى - تدل على خطورة، وعلى وجوب العمل السريع، وأن التأخير قد يترتب عليه زوال السيادة المصرية من أقاليم خط الاستواء»، ونصح بأن تكون بحيرة فيكتوريا بحيرة مصرية كما أصبحت بحيرة ألبرت، وبوجوب إخضاع الملك أمتيسة الذي يضم بلادا إلى مملكته ويجمع الأسلحة، وقال: «إن أعضاء البعثات التبشيرية يسيرون نحو بحيرة فيكتوريا على باخرة، تؤيدهم الكنيسة، ولا ينقصهم المال أو الموظفين اللازمين.»
وجاء على لسان كاباريكا
13
ملك أونيورو أن «بين رجال بعثة بيكر رجل يدعى إسماعيل أغا، استعمل هو ومن معه من الجنود ضروبا من القسوة لا يسع القلم وصفها.»
وثائق عن تطور السياسية البريطانية
عرض الدكتور محمد عوض في رسالته التي وضعها في سنة 1926 لمناسبة اجتماع لجنة المؤتمر الإنجليزي - المصري الذي عقد في لندن في تلك السنة، للبحث في شئون مصر السياسية، إلى كتاب أرسله كبير وزراء بريطانيا العظمى اللورد «بالمرستون» في سنة 1857 إلى اللورد «كلارفون» وزير خارجيتها، «وكان الوزير الأول المفوض من قبل بريطانيا العظمى في مؤتمر باريس المنعقد في سنة 1856»، يقول فيه:
نحن لا نريد أن تكون مصر لنا، إنما نريد أن نتعامل تجاريا مع مصر، وأن نسوح بها، ولكننا لا نريد حمل عبء الحكم بمصر، فلنسع لرقي هذه البلاد «أي مصر وتونس ومراكش» بما يكون لتجارتنا من النفوذ، ولكن لنجتنب شن حرب صليبية للفتح؛ فإن ذلك يستنزل علينا حكم الإجرام في الأمم المتمدينة.
وكان ذلك ردا على اقتراح لنابليون الثالث بأن تأخذ كل من فرنسا وسردينيا وبريطانيا ومراكش وتونس ومصر على الترتيب، وهذا يدل على أن سياسة بريطانيا تتغير، أو أن الإنجليز يكتمون سياستهم حتى ينكشف الموقف الغامض.
وفي سنة 1875 لما اشترت الحكومة البريطانية أسهم مصر في شركة قناة السويس، ابتدأت الظنون تحوم حول نيات بريطانيا، وتوقع الناس تدخلها في الشئون المصرية إن عاجلا أو آجلا، وفي تلك الأثناء جاءت بعثة المستر «كيف» المالية، فأكدت الظنون وقوت الشبهات بالرغم من تصريح اللورد «دربي» «وزير خارجية بريطانيا آنئذ» بأن إرسال البعثة المالية إلى مصر يجب أن لا يفهم منه أن هناك أية رغبة في التدخل في شئون مصر الداخلية، ولما وضع المستر «كيف» تقريره عن حالة البلاد المالية، ثم جاء بعده المستر غوسن ووضع هو الآخر تقريرا مثل تقرير صاحبه، كانت نتيجتهما صدور الأمر العالي بتأليف لجنة المراجعة «التحقيق»، فكانت مبدأ المنافسة بين إنجلترا وفرنسا.
ويقال إنه حينما اشترى «دزرائيلي» من إسماعيل باشا أسهم مصر في شركة القناة بمبلغ أربعة ملايين جنيه إسترليني، لم تكن هذه الأسهم تساوي تلك القيمة في ذاك الوقت.
وقد علقت جريدة «التيمس» على ذلك بقولها: «إن الجمهور في هذه البلاد «أي إنجلترا» وفي غيرها سينظر فيما يختص بهذا العمل الهام الذي قامت به الحكومة البريطانية إلى مظهره السياسي أكثر مما ينظر إلى مظهره التجاري، تظاهرا، بل أكثر من تظاهر، أي تصريحا بنيات وفاتحة لأعمال تجري وفق النيات، فمن المستحيل حينما نفكر في هذا الأمر أن نفرق بين مشتري أسهم قناة السويس وبين مسألة علاقات إنجلترا بمصر في المستقبل، أو المصير المقدور لمصر من الغيوم التي تلقي ظلا قاتما على الإمبراطورية التركية ... فإذا حصل أن وقعت فتنة أو اعتداء من الخارج، أو فساد داخلي يؤدي إلى انهيار الإمبراطورية التركية سياسيا وماليا، قد يصبح من الضروري اتخاذ التدابير التي تضمن سلامة ذلك الجزء من ممتلكات السلطان الذي نتصل به أقرب اتصال.»
الفصل التاسع والعشرون
المسألة الحبشية وجارات السودان
يجاور السودان بلاد كثيرة، ومن تمام الكلام عن السودان التحدث عن جاراته ؛ فيحده شمالا مصر - وقد تكلمنا عن علاقتها في السودان في أجزاء كتاب «السودان» الثلاثة - ثم طرابلس الغرب، ومن الغرب واداي التي أصبحت الآن وبعد توزيع المستعمرات الألمانية، جزءا من «إفريقيا الاستوائية الفرنسية»، وفي الجنوب الكونغو البلجيكية، ومستعمرتي أوغندا الإنجليزية وكينيا الإنجليزية، وفي الشرق إريتريا والحبشة.
ولما كانت المسألة الحبشية من أهم حوادث العالم الحالية، والحرب بينها وبين إيطاليا وشيك الوقوع، فقد أسهبنا الكلام عليها. (1) طرابلس الغرب
مستعمرة إيطالية، وكانت حتى سنة 1912 ولاية تحت حكم الأتراك، وتقع في أقصى الشمال بين الأمم العربية الشمالية، وتحد من الغرب بتونس، وفي الجنوب بصحراء ليبيا، وفي الشرق بالقطر المصري، وفي الشمال بالبحر الأبيض المتوسط، وقد وافقت بريطانيا على أن تضم جغبوب وواحة الكفرة إلى طرابلس، وقد قبلت الحكومة المصرية ذلك في مقابل تعديل حدودها عند السلوم، وتبلغ المساحة على وجه التقريب حوالي 500 ألف ميل مربع، ويختلف السكان اختلافا نوعيا في الأصل، والتعداد في سنة 1921 بلغ نحو 550000 (منهم 20 ألف أوربي) في القسم المسمى طرابلس، أما في القسم الآخر برقة، فبلغ العدد 235000 (منهم 10 آلاف أوربي)، وكل جزء له حاكم ومجلس، والقسم الأول عاصمته طرابلس، والقسم الثاني عاصمته بنغازي. (2) واداي من إفريقيا الاستوائية الفرنسية
واداي
Waday
منطقة تقع في إفريقيا الاستوائية الفرنسية، بين بحيرة شاد ودارفور، وكانت سلطنة وطنية قوية، ولكنها لا تزال نصف مستقلة، وهي بين البداوة والحضارة، وبها واحات خصبة؛ حيث تنمو المحاصيل فيها وفي الجنوب الغابات، وعاصمتها أبو شير، وتبلغ مساحة المنطقة حوالي 170 ألف ميل مربع، وعدد السكان 1000000 نفس. (3) الكنغو البلجيكي
وصفتها الدول الأوربية كدولة حرة في مؤتمر برلين سنة 1885، وهي مستعمرة بلجيكية كبيرة، ومساحتها تبلغ 900 ألف ميل مربع، وتقع بين الكونغو الفرنسي في الشمال الغربي وإفريقيا الغربية البرتغالية في الجنوب الغربي، وروديسيا في الجنوب والجنوب الشرقي، وتنجانيقا وأوغندا في الشرق، والسودان المصري الإنجليزي في الشمال الغربي، والشاطئ يمتد نحو 35 ميلا شمال مصب نهر الكنغو، وتقترب في الشرق من البحيرات: مويرا، تنجانيقا، إدوارد، والإقليم ليس بجبلي، وتتكاثف أشجار المطاط في الغابات السوداء، ويقطنها حيوانات كثيرة غريبة ، ويوجد بها الماس والذهب والنحاس والقصدير، والقبائل مختلفة، وفي بقاع عديدة يعيش الأقزام في الغابات، وتتبع إدارتها حكومة بروكسل، ويحكمها الحاكم العام للمستعمرة، كما أن الكنغو البلجيكي أهم منبع تستمد منه مادتي الراديوم والسكريلت، والسكان حوالي 8 مليون وخمسمائة ألف (منهم ثمانية آلاف من الأجانب). (4) أوغندا
تحت الحماية الإنجليزية، وهي في شرق إفريقيا، وتقع على جانبي خط الاستواء، وتحد من الشمال بالسودان، ومن الشرق بمستعمرة كينيا، وفي الجنوب ببحيرة فيكتوريا ومستعمرة تنجانيقا، وفي الغرب بالكونغو، المساحة 98776 ميلا مربعا، بما في ذلك 15017 ميلا مربعا يشمل بحيرات كيوجا وأجزاء من البحيرات: فيكتوريا، إدوارد، ألبرت، وفي الشمال الأرض منبسطة، ما عدا في الوسط، والجو حار جاف، وسكانها ثلاثة ملايين ومائة وخمسون ألفا، منهم سبعمائة ألف تابعون لأوغندا، وهم مسيحيون نبهاء، والباقي سودانيون وقبائل أخرى، بينما بعض الأقزام التابعون للكنغو يعيشون بالقرب من نهر السمليكي. (5) كينيا
كانت حتى سنة 1920 تحت حماية شرق إفريقيا، والآن هي مستعمرة إنجليزية تحت الرعاية الإنجليزية، يحدها أرض الصومال الإيطالي والحبشة وبحيرة رودلف وأوغندا وبحيرة فيكتوريا ومستعمرة تنجانيقا والمحيط الهندي، وتغطي الغابات مساحات شاسعة، فهي نحو 3600 ميل مربع، وتحتوي على بعض أنواع الأخشاب المتينة، ومساحتها 245 ألف ميل مربع، ويبلغ عدد السكان نحو مليونين وخمسمائة ألف، بما في ذلك نحو عشرة آلاف أجنبي، و22 ألف هندي، وعشرة آلاف عربي.
خريطة بلاد الحبشة. (6) الحبشة والمسألة الحبشية
يطلق عليها اسم سويسرة إفريقيا، وهي من وادي النيل العلوي إلى الجزء الجنوبي الغربي من البحر الأحمر، ممتدة جهة المحيط الهندي، وتقع - بوجه أصح - بين السودان المصري والشاطئ الإيطالي إرتيرا، وقد تكونت مناظرها الجبلية الخلابة نتيجة ثوران بركاني شديد، وتنقسم إلى الأقسام الأساسية الآتية: نياجرا في الشمال، وأمهارا في الوسط، وشوا في الجنوب، وتقع أرض منخفضة جرداء بين الأراضي المرتفعة والبحر الأحمر، تقطنه قبائل مميزة عن الأحباش تمت للمصريين، ومساحتها تبلغ 350 ألف ميل مربع، بما في ذلك أرض الصومال الحبشي.
وهي عبارة عن هضبة عظيمة يبلغ ارتفاعها سبعة آلاف قدم، ويكون الانحدار نحو ساحل البحر الأحمر شديدا ، ونحو حوض النيل تدريجيا، وتنقسم الأرض إلى ما يشبه الجزائر بواسطة مجاري المياه التي نحتت لنفسها في الصخر إلى عمق كبير يصل إلى أربعة آلاف قدم، وقد تصل قمم الجبال إلى علو 15 ألف قدم، وتبلغ درجة حرارة السهول المتوسطة الارتفاع التي تزدحم بالسكان (علو 5000-8800 قدما) من 77°-95°، وتنمو فيها النباتات الاستوائية، وفي أثناء فصل الأمطار الذي يقع من أبريل إلى سبتمبر يغطي الثلج قمم الجبال العالية، ولا يذوب هذا الثلج على علو 13 ألف قدم، وفي وديان الأنهار وفي الأراضي الغدقة تكون الحرارة والرطوبة مميتة وخانقة، وفي الجهات المنخفضة تجاه البحر الأحمر يصبح الجو حارا جافا.
ويزرع محصولان أو ثلاثة في بعض الجهات سنويا، ومن المحاصيل المهمة: الموز - النخيل - القصب - العنب - البرتقال - الليمون - القطن - النيلة البرية والبن، وتزرع الهضاب العليا القرطم والشعير، ويبلغ سكانها ما بين أربعة وخمسة ملايين بين عناصر مختلفة، وبعضهم يقدر عدد السكان بعشرة ملايين، وليس هناك إحصاء صحيح؛ نظرا لاتساع المساحة وكثرة القبائل، ويقال إن مسلمي الحبشة هم ثلث سكانها. (6-1) أصول السكان
الأحباش من حيث الدم سلالتان، إحداهما زنجية: لأفرادها كل ملامح الزنوج من الشعر المفلفل إلى الأنف الأفطس، وهؤلاء يسكنون الأقاليم الغربية، وهم متأخرون يمارسون ضروبا من القسوة التي تبلغ التوحش، ويزينون أكواخهم بغنائم القتال. والسلالة الثانية سامية: لها شعر سبط، وملامح تقرب جدا من الملامح العربية في الأقاليم الجنوبية من الجزيرة العربية، وهم متمدنون قد ثقفوا شيئا غير قليل من الحضارة، وهم يدينون بالإسلام والمسيحية. أما في الأقاليم الغربية فالمسيحية منتشرة بعض الشيء، ولكن معظم السكان لا يزالون في الوثنية، أو هم يؤمنون بالمسيحية مع خلطها بالشعائر الوثنية.
والكنائس كثيرة في الحبشة، وكذلك القسوس، ومع أن الكنيسة الحبشية هي إلى الآن تحت رياسة الكنيسة القبطية فإنها تختلف عنها من حيث إنها تبنى مستديرة، والقسيس وقت الصلاة لا يختلط بجمهور المصلين كما هي الحال في الكنائس القبطية في مصر، ولا بد أن هذه التقاليد قد ورثها الأحباش عن اليهود؛ لأن المسيحية دخلت الحبشة حوالي سنة 330 من اليمن في وقت كانت تلبست فيه بالتقاليد اليهودية التي كانت سائدة في اليمن قبل المسيحية، ولقد دارت معارك دموية بين اليهود والمسيحيين يذكرها التاريخ قبل ظهور الإسلام.
والمنازل تبنى مستديرة أيضا في الحبشة، وهي أشبه بأكواخ الزنوج منها بالمعنى الذي نفهمه من المنازل، والمنزل يبنى من القصب أو البوص، ويطين من الخارج ومن الداخل، وتزرع حوله الأشجار، ويتسلق على جدرانه الفرع فيكسوه ورقه، وترقد ثماره على سطحه، وأحيانا تبنى مصطبة داخل المنزل يقعد عليها السكان الذين يعيشون مع الدواجن والماشية في مكان واحد، أما الأغنياء فلا تختلف منازلهم إلا من حيث الملابس، فإنهم يشترون الحرير الزاهي، ويقتنون السجاد الإيراني ويطرحونه على الأرض في أي مكان للجلوس، ويزينون جدرانهم من الداخل بجلود الأسود والنمور والسيوف وقرون الوعل.
والأحباش لا يعرفون القرى كما نفهمها في مصر، فإن الحبشي يعيش وحده في حقله مع زوجته وأولاده لا يجاوره آخر، وقد تتكاثر أسرته فتتألف قرية صغيرة بها عشرة منازل - مثلا - هم أولاده وأحفاده وزوجاتهم. والزراعة الفاشية عندهم هي زراعة أسلافنا قبل نحو 3000 سنة، فإنهم يزرعون الثوم والبصل ويأكلونهما كثيرا، وقد تفشت بينهم زراعة البطاطا والبطاطس هذه الأيام، أما الفواكه فكثيرة، وأشجارها تبسق وتشتبك حول المنازل.
1
وقد أخذ الأحباش بكثير من تقاليد الفراعنة، ولا يزال الإمبراطور هيلاسلاسي يكتب اسمه بالهيروغليفية في خرطوش على نحو ما كان يفعل رمسيس أو توت عنخ أمون. (6-2) الأرض والطقس
وقد نشرت جريدة التيمس بحثا تحت هذا العنوان بقلم الكولونيل س. ل كراست، الذي زار الحبشة لأول مرة وبسط أحوال أراضيها في حالتي الدفاع والهجوم عند القيام بحملة عسكرية في بلاد الحبشة، وقد آثرنا نقل هذا البحث فيما يلي:
في عصر قديم جدا من العصور الجيولوجية اعترى القشرة الأرضية ضعف بين خطي طول 30 و40 شرقا، ولدينا الآن دليل على التشقق الذي حدث إذ ذاك في بعض المظاهر الطبيعية؛ أهمها الانخفاضات العميقة في البر والبحر (وهي وادي الأردن) الذي يشمل بحيرة لوط والبحر الميت وخليج العقبة وخليج السويس والبحر الأحمر ووادي النيل، الممتد جنوبا إلى البحيرات الكبرى من بحيرة ألبرت في الشمال إلى نياسا في خط عرض 14 درجة جنوبا.
ومثل هذا الاضطراب الواسع المدى في القشرة الخارجية للأرض يؤثر على الأجزاء المجاورة في كثير أو قليل من العنف، ويحتمل أن يكون هبوط الأرض مسئولا عن بروز الهضبة الحبشية.
والمساحة التي تأثرت أكثر من غيرها مباشرة بهذا التشقق تبلغ حوالي 700 ميل من الشمال للجنوب، و500 ميل من الشرق للغرب داخل الحدود الحبشية، وهي مساحة تزيد على أربعة أمثال مساحة إنجلترا، وفي الشرق والجنوب الشرقي توجد وديان شاسعة واسعة مفتوحة تتدرج في الارتفاع، محرومة من الماء، مغطاة بالحشائش الغليظة التي يبلغ ارتفاعها حوالي خمسة أقدام، وهي تنخفض بالتدريج إلى الشرق والجنوب الشرقي إلى المحيط الهندي من رأس جاردفوي إلى قسمايا على مصب نهر بوبا في الصومال الإيطالي، وهذه الأراضي يخترقها ثلاثة أنهر (نذكرها من الجنوب إلى الشمال)، وهي التوبا والويبي شبيلي وتج فافان. ومقطع ويبي معناه المجرى الذي يستمر الماء فيه طول العام، أما (تج) فمعناه المجرى الذي ينحط إلى نهير أثناء فترة الجفاف، ومن هذه الأنهر الثلاثة يرتفع الأولان في جوار بحيرة شالا على مستوى تسعة آلاف قدم، بينما ينبع الأخير من جبل مقدس (كونديودو) وعلوه عشرة آلاف قدم على ثلاثين ميلا شمالي شرق هرر.
تربة هذه السهول - التي تعرف محليا باسم هود - صلصالية لونها شديد الحمرة، تختلف كثافتها من مائة قدم بقرب هارجية في الصومال البريطاني إلى قدم واحد أو قدمين على طول ساحل الصومال الإيطالي أو بنادير، هذه حقيقة يجب أن تظل في الذهن، وذلك أن الإيطاليين إن كانوا يرمون إلى الحصول على أراض غنية ليقطنوها فإن وديان الحبشة قد تجذبهم؛ لأن هذه الأراضي صالحة لزراعة القطن.
بين خط 10 شمالا وخط طول 40 شرقا وساحل البحر الأحمر يوجد منخفض صغير يعرف باسم دناكل، أو دناجل الشمالية والجنوبية، وعند النهاية الشمالية لهذا الإقليم يقع (وادي الملح) الكبير، أو منخفض دناكل الشمالي، الذي ارتاده ورسم خريطته في سنة 1928 المستر نسبت، مع اثنين من الرفاق الإيطاليين ، وامتحان مسطحات هذا المنخفض قد أظهر مساحة طولها 100 ميل من الشمال للجنوب، وخمسين ميلا من الشرق للغرب، أقصى عمقها (في النهاية الشمالية) 400 قدم تحت سطح البحر الأحمر، وهذه هي المساحة الواقعة عند كولولي، حيث توجد مناجم البوتاس الإيطالية.
أما مسألة الطقس فإنها جديرة بالنظر فيها باختصار، فمرتفعات الحبشة تقوم إلى علو 12 قدما أو أكثر، وتبعا لهذا فإن الإيتيوبي الحقيقي الذي يكره الحر يرفض أن يعيش في مكان آخر غيرها، أي: على علو يزيد على ثلاثة آلاف قدم، وطقس الهضبة والمرتفعات يقارن بطقس إنجلترا في سبتمبر، إلا في الفترة بين أبريل وسبتمبر حين يكون موسم الأمطار على أشده، وتهب رياح جنوبية غربية شديدة.
وفي زمن الصيف تكون البقاع الحبشية التي على علو 3000 قدم في بعض الأحيان حارة ورطبة حتى تأتي زوبعة عنيفة تخفف عن الناس الحر، أما الأراضي الواطئة فإنها على العكس من ذلك حارة لا ترتاح إليها النفس، وبالرغم من أن الهواء قد يترطب وقتا ما بعد المطر، فإن هذا يكون على حين أن نتيجة مطر المناطق الحارة تجعل التربة السطحية موحلة والسير فيها متعبا.
على أنه مهما يكن من رداءة الطقس في الأراضي الواطئة في الشرق والجنوب الشرقي فإن الطقس في منخفض دناكل أردأ بكثير، فإن الرحالة قد سجلت هناك درجات حرارة فوق 155 فهرنهيت يوما بعد يوم، ولا يسع الإنسان إلا أن يبدي إعجابه بالإقدام والمثابرة اللذين تحلى بهما هؤلاء الرجال الذين شقوا طريقهم إلى الشمال، بقدر يسير من الماء، في هواء مملوء بالغبار، ودخان الكبريت يحيط بهم من كل الجهات، بسكان رحل أهم ما يحترفونه الحرب والقتل. (6-3) اللغات الحبشية
أشهر اللغات الحبشية ثلاث: (1)
اللغة الإيتيوبية القديمة:
وهي لا تستعمل الآن إلا في الكتابة الأدبية. (2)
اللغة التجرانية:
وهي لغة الإرتريا وشمال الحبشة، وهي المستعملة الآن. (3)
اللغة الأمهرية:
وهي اللغة الرسمية؛ نسبة إلى أمهرا.
وحروف الهجاء الحبشية مأخوذة من لهجات العرب القديمة، مثل: الصابئية والحميرية. (6-4) العادات في الحبشة
يجري ختان الطفل الذكر في يومه السابع أيام الأربعاء والجمعة، والأنثى يجري ختانها بعد ذلك. وإذا كانت الأم مريضة ينبغي أن يبقى طفلها دون ختان حتى شفائها.
وينصر الطفل الذكر في اليوم الأربعين، وتنصر الطفلة في اليوم الثمانين.
ولا تدفن المرأة في أماكن الرجال، ولا يجوز للرجل أن يشرب البيرة قبل زوجته إذا كانت حاملا؛ لأنها تتألم باشتياقها للشراب.
وعندما يغيب أحد الآباء عن بلده يختار صديقا له لحراسة بيته والإشراف على أولاده.
ويوسط الخطيب أصدقاءه لدى والد الفتاة ليقبل الزواج، ومعظم الآباء يقاسمون بناتهم نصف مهورهن، وتقام أعراس بها مزامير وتنحر الذبائح. (6-5) المرأة الحبشية
المرأة الحبشية مشهورة بالجمال؛ وخاصة جمال العينين، وبالجاذبية، ولها أنف دقيق، وشفتان غليظتان مستديرتان، وقامة هيفاء، وطالما كانت بيوت أمراء المصريين والحجازيين والأتراك والأعيان مزدانة بالجواري الحبشيات، وطالما تزوجوا منهن.
والمرأة الحبشية مثال الشجاعة والإقدام والتضحية، وهي تشترك في الحرب مع الرجال، وهي وافرة الذكاء، بسيطة الهندام والأثاث.
وفي أديس أبابا جمعية اسمها جمعية نساء إيتيوبيا الوطنية، وقد قامت بمظاهرة وحملت لوحة جاء فيها باللغة الأمهرية: «أيها الشبان، انهضوا ولا تخافوا، ودافعوا عن وطنكم، دافعوا إننا سنموت معكم.»
لا تتزوج المرأة الحبشية إلا بإذن أبيها وإلا كانت ملعونة، وهي تشجع بجاذبيتها الشبان على خطوبتها، وأحيانا تهرب مع عشيقها.
والمرأة الحبشية تشرب البيرة، وقد يتخذ الرجل الحبشي عشيقة له لمدة سنة - وهي زوجية مؤقتة - وعلى المرأة الحبشية أن تطيع زوجها.
وينتشر البغاء في الحبشة بالرغم من موانع الدين المسيحي، والطلاق كثير، وأكثر بغايا السودان من الحبشيات المهاجرات، وتكثر بينهن الأمراض التناسلية بصورة مخيفة محزنة. (6-6) ممالك الحبشة وإمبراطورها
الحبشة منقسمة إلى ولايات وممالك صغيرة وقبائل متنازعة، وقلما تهدأ الحالة الداخلية في الحبشة، فهناك حروب بين ملوك الحبشة، أو بين بعضهم، أو بين إمبراطورها.
وقد نادى «ساهالاسلاسي» ملك شواه وإيفات والجالا سنة 1813 بنفسه ملكا على ملوك الحبشة، وجعل الملك بطريق التوارث في أسرته.
و«ساهالاسلاسي» الذي ولد سنة 1795، وعين ملكا سنة 1813، ومات سنة 1847، ولد له ستة أولاد، كان منهم «هيلا ملا كوت»، الذي ولد سنة 1825 ومات سنة 1885، وخلفه ابنه منليك الثاني الذي ولد سنة 1844، وصار ملكا لشوا سنة 1866، وإمبراطورا سنة 1889، ومات سنة 1913، وتزوج الإمبراطورة تاتو سنة 1883 ولم يرزق منها ذكورا، وقد كان من بناته ثواراجا التي تزوجت الرأس ميكاييل، ورزقت بولد اسمه ليج ياسو سنة 1896، وعين إمبراطورا سنة 1913 خلفا للإمبراطور منليك إلى سنة 1916، ثم قامت ضده فتنة؛ لأن الأحباش المسيحيين قد اتهموه بأنه يمالئ مسلمي الحبشة، ويقربهم ويؤثرهم، وبأنه اعترف بخلافة سلطان تركيا، وحالفه وحالف الألمان وأغضب الحلفاء. وقد أعلن مطران الحبشة حرمانه، وهرب ياسو، ولكنه لم يذعن لقرار المطران، وجمع جيشا وآزره الرأس ميكاييل حاكم ولاية جايا، وقد خلفته الإمبراطورة زوديتو ابنة منليك الثاني التي ولدت سنة 1876، وتوجت سنة 1916، وقد قامت بينها وبين أتباع ياسو والرأس ميكاييل مذبحة عنيفة في ساجال، في أكتوبر سنة 1919، وأسرت الرأس ميكابيل، وهرب ياسو، وتوجت زوديتو رسميا سنة 1917.
الرأس تفري والإمبراطور هالاسلاسي
ولد الرأس تفري سنة 1881، وهو ابن الرأس ماكونن بن وازيروتانا أحد أبناء الملك ساهالاسلاسي.
وعين الرأس تفري وصيا للعرش مع الإمبراطورة زوديتو التي ماتت سنة 1930، حيث توج الرأس تفري إمبراطورا سنة 1930 باسم الإمبراطور هالاسلاسي، وقد تزوج سنة 1912 من الأميرة وازيرو منن، وولدت له سنة 1912 ماميتي التي ماتت طفلة، ثم أصفا واصين سنة 1916 وهو ولي العهد الرسمي، ولكن أباه الإمبراطور غاضب عليه، وزينب ورك ولدت سنة 1918، ويشي أمابت ولدت سنة 1920، وماكونن ولد سنة،1923 وهو محبوب من أبيه، ويقال إنه هو المرشح الحقيقي لولاية العهد، وقد أسماه والده «دوق هرر». ومن الإشاعات التي لم نقف على صحتها أن «زوديتو» ماتت مسمومة ليخلو الجو للإمبراطور هالاسلاسي.
حول إسلام النجاشي
وقد ذكرت روايات عن إسلام نجاشي الحبشة في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
الذي أرسل كتابا إلى النجاشي أصحمة، وهذا رده على النبي
صلى الله عليه وسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم» إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا الله الذي هداني للإسلام، «أما بعد» فقد وصلني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت فيه من أمر عيسى ابن مريم فورب السماء والأرض إن عيسى ابن مريم لا يزيد على ما ذكرت، ولا علاقة ما بين النواة والقمع، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وشهدنا بأنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك بواسطة ابن عمك جعفر، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ولما قرأ النبي هذا الكتاب قال:
اتركوا الحبشة ما تركوكم.
فمن أجل هذا الأمر هيمن العرب على آسيا وبعض أوربا، وبلغت طلائع جيشهم أقاصي النيجر وبلاد السنغال والهند وغيرها، ولم يخطر ببال أمراء الإسلام احتلال الحبشة وبسط نفوذهم عليها، بل كانت دول الإسلام وإماراته في سلام ووئام مع الإمبراطورية الحبشية إلى ما بعد القرون الوسطى.
وقد أفتى بعض علماء الصومال الإيطالي ومفتيه بعدم جواز محاربة المسلم للحبشة.
الحبشة والجندية
الأمة الحبشية هي أمة جندية؛ جميع أفرادها على استعداد للقتال، وهو حرفتهم وسجيتهم.
وقد أنشأ الإمبراطور هالاسلاسي جيشا باسم الحرس الإمبراطوري، قام بتدريبه ضباط سويسريون وبلجيكيون وسويديون، وعدده ستة آلاف، وبه وحدات من البيادة والسواري والطبجية، وله بنادق عصرية، ومجهز بمدافع كبيرة وصائدات للطائرات.
ولكل رأس من رءوس الحبشة «حكامها» حرس أو جيش لا يقل عدده عن ربع مليون، وجيش غير نظامي لا يقل عن نصف مليون، ولدى إمبراطور الحبشة طائرات وذخائر.
ويقول الأديب محمد عبد الرحيم: ليس للإمبراطورية الحبشية نظام مخصوص للجندية كنظام القرعة العسكرية المصرية، أو كنظام التطوع لدى الدول الغربية، بل تطلب الجنود من الولايات كل بحسب سعة الولاية وضيقها، والجيش العامل في حفظ الأمن في وقت السلم 200 ألف جندي، أما في وقت الحرب فتصبح الجندية فرض عين على كل رجل يستطيع حمل السلاح.
والأحباش أكثر العالم شغفا بالحروب وأسرعهم قبولا لويلاتها، وقد دلت التجارب على أن الشعب الحبشي إن هو إلا بركان ثائر يحركه الإمبراطور بسبابته متى شاء، هكذا كان في غارته على مملكة سنار، وفي حربه للحملة المصرية التي كان يقودها السردار محمد راتب باشا في سنة 1292، وكذا في واقعة القلابات سنة 1306، وواقعة عدوة في سنة 1895م، أما القيادة العامة فللإمبراطور نفسه، والذي يراجع تاريخ الحبشة قل أن يرى إمبراطورا مات حتف أنفه كما حدث للإمبراطور ياهنس الرابع، أي «يوحنا» الذي قتله أنصار المهدية وخلافه من أسلافه.
إذن فليس بغريب عزم جلالة الإمبراطور هالاسلاسي على تولي زمام القيادة في الحرب المزمع نشوبها. فما أجود الجندي بروحه عندما يرى مليكه يسير تحت قساطل الجيوش للذود عن الأمة! ولا غرو أن هذا أعظم محرك لحماس الأحباش في حروبهم المتواصلة التي كانت تكلل بالنجاح.
وقد قرر الإمبراطور إلباس 200000 جندي الملابس العسكرية، وتناول 15000 منهم طعام الغذاء مع الإمبراطور في قصره في شهر أغسطس سنة 1935، وأكثر الجنود حفاة، وأكثر أسلحتهم بنادق قديمة، ولكنهم يجيدون الرماية.
ولايات الحبشة
تتألف بلاد الحبشة من ثلاث عشرة ولاية، لكل منها ملك يلقب بالرأس، وهو حاكم الولاية القائم بشئونها الإدارية والسياسية تحت إشراف الإمبراطور أو النجاشي، وهناك ألقاب أخرى؛ وهى: دجاج ودجاز وداز جماح دفيتواري وقيفا زماج، وغير ذلك من الألقاب، وتتألف من تلك الممالك الصغيرة إمبراطورية ذات شأن عظيم، ويلقب الإمبراطور هناك بالنجاشي، وهو لقب كلقب بطليموس عند دولة البطالسة، وقيصر عند الروس، وشاه عند العجم، وباي تونس عند التونسيين، وخديوي عند ولاة مصر سابقا.
وللحبشة لقب ثان، وهو منليك، إلا أنه يقصر على الملوك من سلالة نبي الله سليمان - عليه السلام - لأنه تزوج بلقيسا ملكة سبأ، ولما رزق منها بولد قال لها: «مني إليك»، فمزجت الجملتان فصارت «منليك»، وجاء في رحلة الدكتور محمد نيازي الذي كان طبيبا لأحد الآلايات المصرية في سنة 1282ه بالسودان، قال: سمعت من أحد الأطباء الإفرنج يقول إنه قرأ في بعض المؤلفات القديمة أن ذلك المولود الذي هو منليك الأول بن سليمان كانت بلقيس تخاف عليه من قومها، فبعثته إلى مدينة سوبا ليربى بها، وسميت المدينة سبأ، ثم حرف الاسم إلى سوبا لتقادم الزمان، وقد تبوأ عرش الحبشة كثير من الملوك، فلا حاجة إلى بيان أسمائهم وزمن ولاية كل منهم تجنبا للتطويل.
القضاء في الحبشة
ويقول الأديب محمد عبد الرحيم: «إنه بالرغم عن كساد الثقافة الحبشية، وبوار سوق العلوم العقلية والنقلية، فإن القضاء سائر بطريقة كافلة للحقوق المدنية والاجتماعية، والقائمون به يؤدونه بأمانة ونزاهة جديرتين بالإعجاب، حتى كان كل آمنا على حقه، وكل بما فعلت يداه رهين، وما كان للحبشة نواميس شرعية ولا قوانين وضعية فيما يختص بالمعاملات القضائية، بل كان القضاء يسير مع العرف إلى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، وهناك قام أحد رجال الدين المسيحي - المدعو أسعد عسال القبطي - ووضع للحبشة قانونا نسقه تنسيقا بديعا، قسمه على قسمين: الأول منهما يختص بالكنيسة وتعاليمها الدينية، وقد لخص ذلك من تعاليم المذهب الأرثوذكسي والديانة الإسرائيلية، والثاني في المعاملات، وكان مرجعه فيه كتاب التنبيه لأبي إسحق الشيرازي في فقه السادة الشافعية، وقد أطلق على هذا القانون اسم «فتانفوس»، وقد صدق جلالة الإمبراطور على المعاملة به في جميع أنحاء الأقاليم الحبشية.
أما المسئولون عن تنفيذه في القرى هم أكبر سكانها سنا وأكثرهم حنكة، وفي العواصم الرءوس ما عدا «أديس أبابا» التي يباشر القضاء فيها جلالة الإمبراطور بنفسه، وهو يجلس في ساحة مكشوفة، ثم ترفع على رأسه مظلة كبرى «شمسية» كملوك الفور وواداي، ويجلس عن يمين الإمبراطور 12 رجلا، وعن شماله 12 رجلا من أعيان المملكة الذين يشترط أن يكون فيهم رئيس الكهنة بردائه الكهنوتي، ويحمل القانون المسمى «فتانفوس» كاهن آخر، ثم يؤتى بالمتقاضين فيقفون صفا أمام الإمبراطور على بعد 30 مترا منه، ثم يؤذن لهم في عرض ظلامتهم على هيئة القضاء، فينادي المظلوم بأعلى صوته قائلا: «جاتهوه جاتهوه»؛ أي: يا حضرة الإمبراطور، يكررها سبع مرات، وذلك بين دائرة من جنود الحرس المدججين بالسلاح، والناس في سكون شامل لهيبته.
ومن المألوف في الحبشة نظام التحكيم، وكثيرا ما يلجأ المتخاصمان إلى رجل محترم في الطريق يحتكمان إليه وينزلان عند حكمه. (6-7) إيطاليا والحبشة: الجيش الإيطالي
منذ بعيد تستعد إيطاليا لغزو الحبشة، وقد بلغ ما أرسلته من الجنود إلى إرتريا حتى آخر سبتمبر سنة 1935 ربع مليون جندي إيطالي، مرت من قناة السويس على سفن حربية إيطالية، ومعها ستمائة طائرة، ومدافع كثيرة رشاشة ، وسيارات مدرعة، هذا عدا الجيش الإيطالي الذي في شمال إيطاليا وعدده 500 ألف، وعدا الجنود الوطنيين.
بدأت إيطاليا استعمارها الإفريقي بإنشاء شركة إيطالية اشترت ثغرا صغيرا يدعى «عصب» سنة 1869 من شيخها، وكانت من أملاك الباب العالي التركي، فاحتج على هذا البيع، وعده باطلا لصدوره من غير مالك، ولكن الشركة الإيطالية «شركة روباتينو» نزلت عن «عصب» إلى الحكومة الإيطالية التي أرسلت بعض التجار الإيطاليين للإقامة بها، وعلى رأسهم «الكونت أنتونيللي» الذي عقد مع إمبراطور الحبشة منليك الثاني معاهدة صداقة، واحتلت إيطاليا ثغر مصوع وجزرا غيرها، وتألفت مستعمرة إرتريا، منتهزة فرصة الثورة المهدية في السودان وضعف مصر، وسعى كل من إنجلترا وفرنسا لتقسيم إفريقيا الوسطى والشرقية.
وواصلت إيطاليا احتلال بلاد الحبشة، وطلب الإمبراطور منليك إلى الجنرال (جيته) الإيطالي إخلاء البلاد، وضم منليك (هرر) إلى أملاكه، ووقعت حرب بين الرأس ألولا وهزم الجيش الإيطالي في يناير سنة 1887 على مقربة من دوجالى، فأرسلت الحكومة الإيطالية في أواخر سنة 1887 جيشا عدده (25) ألفا؛ نصفه من الإيطالين والباقين من الأهلين، واحتل الجيش «صاتى».
وقد حدث في أثناء ذلك أن الملك يوحنا انتقض على إمبراطور (القلابات) منليك الذي حارب جنود المهدي، وقتل في مارس سنة 1888، وانهزمت جنوده بعد انتصارها في حياته.
وقد عقدت إيطاليا مع (منليك) معاهدة أوتشيالي، وبناء عليها قبل الإمبراطور أن تكون حكومة إيطاليا وسيطا بين الحبشة والدول الأجنبية في جميع المسائل.
وقد كتبت هذه المعاهدة من نسختين؛ نسخة باللغة الحبشية ونسخة باللغة الإيطالية، والنسخة الحبشية تقول: «يجوز لجلالة الإمبراطور أن يتخذ وساطة حكومة جلالة ملك إيطاليا سبيلا إلى تسوية جميع المسائل المتعلقة بالدول الأجنبية.»
فأما النسخة الحبشية فتقول «يجوز»، والنسخة الإيطالية تقول: «يوافق إمبراطور الحبشة ... إلخ»، وقد وقع منليك النسخة الحبشية ولم يوقع على النسخة الإيطالية، وفي 12 فبراير سنة 1893 أبلغ منليك الثاني الدول بأنه غير مرتبط بالمعاهدة الإيطالية التي نشرتها إيطاليا وفسرتها على أنها جعلت الحبشة تحت حمايتها.
غضبت إيطاليا من الحبشة، وزحفت جنودها بقيادة الجنرال باراتيري فاحتلت كسلا من بلاد السودان سنة 1894، ثم تقدمت إلى الحدود الحبشية، فانتصرت الجنود الإيطالية على جيش الرأس مانجاشا سنة 1895، واحتلت أديجران وميكالي وأمبا ألاجي، ولكن منليك تقدم بجيشه ومعه الرأس ماكونن فهزم الجيش الإيطالي شر هزيمة، وقتل منه ألوفا، وغنم ذخائره، وانتحر القائد الإيطالي الماجور توسلي، وانسحب الإيطاليون.
وطلب منليك أن تدفع إيطاليا له فورا 25 مليون ريال حبشي حتى يقبل وقف الحرب وعقد الصلح الذي عرضه القائد العام للجيوش الإيطالية في إفريقيا، وهو الجنرال باراتيري، ولكن إيطاليا رفضت الصلح على هذه الشروط، فاستعد الجيش الإيطالي للحرب، وقسم نفسه إلى أربعة أقسام أحدقت بها الجيوش الحبشية وهزمتها.
وأعاد براتيري تنظيم الجيش الإيطالي وهجم على (عدوة)، التي وقعت فيها الموقعة المشهورة، وقتل الجنرال أريمندي والجنرال دامبراميدا، وأسر الجنرال ألبريتوني، وأصيب الجنرال أنلينا بجرح خطير، وغنمت الحبشة 72 مدفعا وذخائر وأعلاما إيطالية، و7000 أسير، وقتل وجرح 10000 إيطالي.
وهرب باراتيري، وواصل منليك زحفه، ودخل إرتريا واستولى على حصن «أدي أوجري»، وحاصر الجنرال برستناري، وحمله على التسليم في مايو سنة 1896.
وعينت الحكومة الإيطالية الجنرال بالديسيرا، وأراد أن يتقدم بجيش عدده 30 ألف جندي، ولكنه وجد الهزيمة محققة، وأشار على حكومته بالصلح، فذهب وفد إيطاليا في 26 أكتوبر سنة 1896 إلى أديس أبابا، حيث عقدت معاهدة بين إيطاليا والحبشة اعترفت فيها إيطاليا باستقلال الحبشة استقلالا تاما.
على أن الإيطاليين لن ينسوا موقعة عدوة وهزيمتهم الهائلة، ومن أسباب استعدادهم الحربي الحاضر الرغبة في غسل الإهانة التي لحقتهم بهزيمتهم في عدوة.
وقد تسلم منليك غرامة قدرها 700000 جنيه إنجليزي، وأطلق سراح الأسرى الإيطاليين، وكان عقد المعاهدة في أديس أبابا في 26 أكتوبر سنة 1896، وعقدت بعدها معاهدات واتفاقات أخرى في صدد تحديد التخوم بين الحبشة وإرتريا.
موسوليني والحرب
وقد صرح السنيور موسوليني علنا أنه يريد الاستيلاء على الحبشة كلها، وأنه لا بد من محاربتها، وأنه لن يمسك عن الحرب أمام أي قرار من عصبة الأمم أو سواها، وأنه لا يمنع الحرب إلا شيء واحد، هو أن تسلم الحبشة نفسها لإيطاليا بغير قتال. (6-8) الاتحاد بين الحبشان
جمعت الحرب الحبشية القادمة بين القلوب المتنافرة وبين رءوس الحبشة المتنافسين، وقد تحمسوا للدفاع عن الوطن، وقد عني الإمبراطور بكسب رضاء المسلمين من رعاياه، وقد أصبحوا يدا واحدة مع إخوانهم. (6-9) الجاليات الأجنبية
بالحبشة جاليات أجنبية من جميع الجنسيات، ومنها جاليات عربية ولبنانية وسورية ويونانية وأرمنية، وأكثر أفرادها تجار، ومنهم من جمع ثروة كبيرة وأنشأوا المدارس. (7) البعثات في الحبشة
في الحبشة بعثات تبشيرية لمختلف الأديان، ولا سيما البروتستانتية الأمريكية، وبعثات تجارية لمختلف الدول، وقد عقدت البعثة الإنجليزية الذي كان يرأسها السير رنل رود معاهدة صداقة مع الحبشة في 15 مايو سنة 1897، وللبعثات مدارس ومستشفيات وملاجئ.
ورأس الدجاز «تاساما» بعثة أوربية في عضويتها مسيو فايفز، ومسيو بوتو السويسري، ومسيو أرتومونوف الروسي، واجتازت الحبشة إلى نهر النيل عند مصب نهر السوباط في يونية سنة 1898، وبعد أيام وصل إليه الماجور مارشان الذي صار جنرالا فرنسيا، وهو صاحب مسألة فاشودة.
عينت الدول ممثلين لها في العاصمة الحبشية، فكان السير هارنجتن قنصلا جنرالا لإنجلترا فوزيرا مفوضا.
وعقدت بعثة أمريكية سنة 1903 معاهدة تجارية بين الولايات المتحدة والحبشة، وعقدت بعثة ألمانية سنة 1905 معاهدة تجارية مع الحبشة، وعين وزير مفوض ألماني لدى إمبراطور الحبشة.
وقد وضعت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا اتفاقا في ديسمبر سنة 1906 جاء فيه: «إن مصالح هذه الدول الثلاث تقضي بالمحافظة على سلامة أملاك إيتيوبيا»، وقضت المادة الأولى من الاتفاق على التعاون بينهم في المحافظة على كيان إيتيوبيا من الوجهة السياسية وسلامة أراضيها، ونصت على أنه إذا وقعت طوارئ تخل بالكيان السياسي للحبشة فإن هذه الدول تتفق على صيانة مصالحها الخاصة، وقد تم الاتفاق في شهر يولية في سنة 1906، وأبلغ في الحال إلى النجاشي، وقد رد الإمبراطور منليك على تبليغ الدول بأنه يشكر لها نياتها الطيبة، ويشترط أنه لا يكون من شأن هذه الاتفاقية الحد من حقوق سيادته، ثم عين في شهر يونية سنة 1908 حفيده ليج ياسو وليا لعهده. (8) السكة الحديدية ودوليتها
وقد تقرر في الاتفاقية المذكورة أن تكون السكك الحديدية في الحبشة دولية، وليس في الحبشة سوى سكة حديدية واحدة بين أديس أبابا وميناء جيبوتي الواقع في الصومال الفرنسي، ولا تسير القطارات إلا نهارا، وتقف عند إحدى المحطات ليلا، ويستغرق مسيرها بين جيبوتي وأديس أبابا ستة أيام.
مراجع الكتاب ووثائقه
اطلع المؤلف على طائفة كبيرة من الكتب والوثائق مما يعد بالمئات، وباللغات العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية، عن مصر والسودان والنيل والآثار وإفريقيا واستعمارها ومكتشفاتها وتواريخ مصر والقبائل العربية، في سبيل وضع هذا الكتاب، ونذكر فيما يلي أمثلة من هذه المراجع، وهناك مراجع أخرى ورد ذكرها في غضون فصول الكتاب، وننشرها لتسهل زيادة البحث والتقصي للراغبين من حضرات القراء:
L’Empire Egyptien Sous Mohamed Ali, par M. Sabry
الإمبراطورية المصرية في عهد محمد علي - بقلم الدكتور محمد صبري رئيس البعثة المصرية في سويسرا.
تولية الخديوي إسماعيل - تأليف إدوين.
لائحة ترتيب المحاكم المختلطة - الدستور المصري.
Letters of General C.G.Gordon to his sister
رسائل غوردون إلى أخته - طبعت في لندن سنة 1888.
الكولونيل غوردون في إفريقيا الوسطى
Colonel Gordon in Centeral Africa .
وثائق رسمية محفوظة بدور المحفوظات في لندن وباريس وبروكسل وروما وعابدين والقلعة.
سبع سنوات في السودان
Sette Anni nel Sudan Egiziano .
Voyage en Abyssinie et chez les Gallas-Raiss par Gabril
رحلة في الحبشة وفي بلاد الجالا ورءوسها - تأليف جبريل سيمون
Simon .
Dix Années en Equatoria .
عشر سنوات في خط الاستواء - ترجمة لويس وهيسين سنة 1892 - عن أمين باشا وبعثة استانلي.
L’Empire Egyptien sous Ismail et L’Ingerence Anglo-Francaise, par M. Sabry .
الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل والتدخل الإنجليزي الفرنسي - تأليف الدكتور محمد صبري مدير البعثة المصرية في جنيف.
مذكرات سير صمويل بيكر
Sir Samuel Baker, Memoir .
الخطط التوفيقية.
تاريخ، الجبرتي.
تاريخ، الطبري.
عجائب الآثار - الجبرتي.
الكافي - شاروبيم بك.
تاريخ النوبة - حتة.
محاضر الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين والجمعية التشريعية.
مضابط البرلمان: مجلس الشيوخ ومجلس النواب - من سنة 1924-سنة 1934.
أعداد كثيرة ومختلفة من القرنين الماضي والحاضر من التيمس والطان وغيرها، ومن الأهرام والمؤيد والمقطم واللواء وغيرها.
السودان المصري ومطامع السياسة الإنجليزية - تأليف داود بركات.
كتاب الإسماعيلية
Sir Samuel Baker, Ismailia .
ألبرت نيانزا
albert Nyanza
بقلم
Sir Samuel Baker .
يوميات غوردون
Journal of Gordon at Khartoum .
مصر والسودان.
L’Egypte el Le Soudan .
السودان وغوردون والمهدي -
Le Soudan, Gordon et Le Mahdi
للكابتن هومان
Heumann
طبع سنة 1886.
تركة مصر في الأقاليم الاستوائية
La Succession de L’Egypte Dans Les Provinces équatoriales
للمسيو ديهران «مجلة العالمين» عدد 15 مايو سنة 1894.
سبع سنوات في السودان - تأليف جسي باشا
Sept ans au Soudan
.
عشر سنوات في مديرية خط الاستواء والعودة مع أمين باشا - تأليف كازاتي
Dix années Dans Afrique equatoriale Par Casati .
مصر ومديرياتها المفقودة - بقلم شايي لونج بك - طبع 1892
L’Egypte et Les Provinces Perdues Par Chaillé Long Bey .
إفريقيا الوسطى - بقلم شايي لونج بك
Central Africa Par Chaillé Long Bey .
الأنبياء الثلاثة : غوردون والمهدي وعرابي - طبع سنة 1886
Les trios Prophétes Par Chaillé Long Bey .
منابع النيل - تأليف شايي لونج بك
Les Sources Du Nil .
Egypt, Africa, Africans
مصر وإفريقيا والإفريقيون - بقلم شايى لونج بك - طبع سنة 1878.
L’Egypt, Soudan, KasaLa
مصر والسودان وكسلا - مجلة العالمين الفرنسية عدد أول نوفمبر سنة 1894.
يوميات عن كشف منابع النيل - تأليف سبيك
Journel of the Discovery of the Sources of the Nile by Speke .
النيل والسودان ومصر - تأليف شيلو بك
Le Nil, Le Soudan et l’Egypte par Chelu Bey .
الكتاب الأزرق الإنجليزي سنة 1883
Blue Book, 1883 .
الكولونيل غوردون في إفريقيا الوسطى - تأليف مستر هيل
Colonel Gordon in Central Africa, by Hill .
مصر والسودان - تأليف هنري بنسا
L’Egypte et Le Soudan, par Henri Pensa.
نشرات هيئة أركان حرب الجيش المصري عن السودان - طبع سنة 1877
.
السودان المصري - تأليف واليس بودج - جزءان - طبع سنة 1907
The Egyptian Sudan, by Wallis Budge.
مصر المسلمة والحبشة المسيحية - تأليف وليم داي
Moslem Egypt and Christian Abyssinia, by W. Dye .
الحملة المصرية ضد الحبشة - بقلم مسيو سوتزار - في مجلة مصر أعداد مارس وأبريل ومايو سنة 1896
Expedition des Egyptiens contre l’Abyssinie, Par Suzzera Revue d’Egypte .
فاشودة وفرنسا وإنجلترا - تأليف روبرت دى كي - طبع سنة 1899
Fachoda, la France et l’Angleterre, Par Robert de Caix .
تقسيم إفريقيا - تأليف بانينج - طبعة سنة 1888
Le Partage de l’afrique par Banning .
مسألة إفريقيا - تأليف دي فيل
La question d’Afrique, Par Deviélle .
مسألة إفريقيا
La question d’Afrique, par Raymond .
الري في مصر - تأليف بروا
L’Ronze L’Irrigation e Egypte Par Barrois .
تقارير اللورد كرومر - تقارير غورست - تقارير كتشنر.
جبر الكسر في الخلاص من الأسر - محمد رفعت بك.
مجلة الجمعية الجغرافية - والوقائع المصرية - ومجلة العالمين الفرنسية.
تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته - تأليف نعوم شقير بك - طبع سنة 1903 في ثلاث أجزاء.
إنجلترا في مصر- تأليف ملنر سنة 1893
England in Egypt by Alfred Melner .
مصر الحديثة - تأليف كرومر
Modern Egypte-by Cromer .
تاريخ مصر في عهد الخديوي إسماعيل باشا - تأليف إلياس الأيوبي بك - طبع سنة 1923.
Sluation Internationale de L’Egypte et du Soudan .
The Litteráture of Egypte and the Sudan, by Prince Ibrahim Hilmy .
رحلة سعيد باشا في السودان - تأليف الدكتور أباتة باشا - طبع سنة 1858
Voyage de Mohammed Said Pacha dans ses Provinces du Soudan, Par Abbate .
دائرة المعارف الفرنسية الكبرى
La Grande Encyclopedie .
Bulletin de La Société Royale de Geographie .
Bulletin de l’Institut Egyptien, Revue des deux Mondes .
الخطط التوفيقية - تأليف علي مبارك باشا.
حقائق الأخبار عن دول البحار - تأليف إسماعيل سرهنك باشا - طبع سنة 1312ه
L’Egypte et ses progrés Sous Ismail Pacha Par Ronchette .
طبع سنة 1867.
الأثر الجليل لقدماء وادي النيل - لأحمد كمال بك.
الأدب السوداني - لعباس سعيد.
الدليل في موارد أعالي النيل - للمستر وليم جارستن.
تاريخ الأمة القبطية من سنة 1893-1912 ليوسف منقريوس.
رحلة مصر والسودان - لمحمد مهدي.
قوانين سودانية - العقوبات، تحقيق الجنايات وغيرهما.
شعراء السودان - لسعد ميخائيل.
التوفيقات الإلهامية - للواء محمد مختار باشا.
تاريخ هيرودوتس - للمؤرخ اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد.
تاريخ ديودور الصقلي - وهو من سيسيليا، زار مصر سنة 57 قبل الميلاد.
تاريخ يوسنيوس - وهو مؤرخ يوناني في القرن الأول قبل الميلاد .
التاريخ العام - بالإنجليزية - تأليف لجنة من العلماء الإنجليز سنة 1749.
العقد الثمين - أحمد كمال باشا.
فجر العمران سنة 1894 - مسيبرو.
تاريخ الإسلام العام - جورجي زيدان.
أنسيكلوبيديا - بريتانيكا.
هو إذ هو بالإنجليزية - أسماء مشاهير الرجال وتراجمهم.
المسعودي - تاريخ أبو الحسن علي بن حسين سنة 346ه.
تاريخ، ابن الأثير.
تاريخ، ابن العذراء.
تاريخ، ابن خلدون.
مقدمة ابن خلدون.
تاريخ مصر لابن إياس.
سيرة السير صمويل بيكر - بالإنجليزية سنة 1815.
تاريخ الدافع - بخط يد إبراهيم عبد الدافع من الفتيحاب الجعليين - عن ملوك سنار والفتح المصري الأول.
رحلة بورخارت الألماني - بالألمانية عن سياحته في النوبة وسنار سنة 1814.
تاريخ دارفور - بالفرنسية للدكتور برون سنة 1832.
تاريخ مصر الحديث - جورجي زيدان بك منشئ مجلة الهلال، وقد رافق الحملة لفتح السودان، وشهد واقعة أبي طليح.
تاريخ الحملة السودانية - جبرائيل حداد بك.
كتاب أسر عشر سنين في معسكر المهدي - بالألمانية - سيرة الأب أوهرولدر من المرسلين النمسويين بالسودان.
كتاب المستهدي إلى سيرة الإمام المهدي - بخط يد الشيخ إسماعيل عبد القادر الكردفاني.
تاريخ السودان - تأليف الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن عمران بن عامر السعدي من علماء القرن الحادي عشر.
تاريخ السودان المتقدم - تأليف الدكتور حسن كمال.
تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس، وذكرى وقائع التكرور وعظائم الأمور وأنساب العبيد من الأحرار - تأليف العلامة الفقيه محمود كعت بن المتوكل كعت الكرنتي.
تاريخ سكت إحدى مدن السودان - عني بنشرها وطبعها المستشرق هوداس.
تاريخ مدينة سنار - تأليف أحد أفاضل علماء القرن الثالث عشر الهجري.
تاريخ الحرب السودانية - تأليف الأديب جبرائيل حداد الطرابلسي.
تاريخ ملوك الفونج بالسودان وأقاليمه إلى حكم محمد باشا سعيد بن محمد علي باشا رأس العائلة الملوكية.
دليل مصر والسودان لسنة 1905 تأليف ثابت وأنطاكي.
تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان - تأليف الشيخ محمد بن السيد عمر التونسي بن سليمان.
تاريخ الجامع الأزهر - تأليف مصطفى بك بيرم.
الأزهر - تأليف محب الدين الخطيب.
كنز الجوهر في تاريخ الأزهر - تأليف الشيخ سليمان رصد الحنفي الزياتي.
ذيل المقريزي - تأليف المرحوم عبد الحميد بك نافع.
أقوال الترمذي .
أقوال أبو داود.
أقوال البزار.
أقوال ابن ماجه.
كتاب الإمام القرطبي.
كتاب نور الأبصار.
تاريخ، ابن الوردي.
صحيح الإمام البخاري.
صحيح الإمام مسلم.
تقويم البلدان - جغرافية أبي الفدا.
خطط المقريزي.
مختصر الشعراني.
العلقمي.
صحيح الحاكم.
الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة - تأليف العالم المحدث شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي بمكة.
بلغة الخواص - للإمام محيي الدين بن عربي الصوفي الطائي الأندلسي.
معجم البلدان - ياقوت.
تاريخ الأمة القبطية - جزءان - للجنة التاريخ القبطي.
تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي - لحسن كمال.
الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام - للمقريزي.
فتح العرب لمصر - تعريب محمد فريد أبو حديد.
مصر والسودان في نظر العلم والتاريخ - للدكتور أحمد فؤاد.
شعراء السودان - لسعد ميخائيل.
دليل السودان - لأحمد عزام.
الحوادث في السودان من سنة 1881-1889.
تاريخ السودان القديم - للدكتور كمال.
السيف والنار في السودان - لسلاطين باشا - بالألمانية والإنجليزية والفرنسية والعربية.
رحلة مصر والسودان - لمحمد مهدي.
المهدية والسودان المصري سنة 1891 - ونجت.
أسر عشر سنين في معسكر المهدي سنة 1893.
كتاب ضبط النيل سنة 1920 - للسير مردوخ ماكدونالد - وزارة الأشغال.
غوردون ومكافحة الرقيق الأبيض - القاضي كرابيتس
Gordon, the Sudan, and Slavery-by Pierre Crabités .
إسماعيل الخديوي المفترى عليه - تأليف القاضي كرابيتس، القاضي الأمريكي بالمحاكم المختلطة
Ismail, The Maligned Khedive, by Pierre Crabités .
استعادة السودان - تأليف القاضي كرابيتس
The winning of the Sudan-by Crabités .
سر تقدم الإنجليز السكسونيون - إدمون ديمولان سنة 1893.
سر تطور الأمم - للدكتور جوستاف لوبون.
مصر
Egypt - بقلم الكولونيل الجود المراقب العام لمصلحة التموين سابقا.
Sudan Gordon Memorial College at Khartoum .
Report and accounts to 31 St December, 1926-1927 .
Sudan, foreign relations .
رسائل خاصة بالغزوات الحبشية على مستعمرات بريطانية وعلى السودان المصري الإنجليزي.
Sudan Correspondence resepecting Abyssinian Raids and incursions into Brithish Territory and the Anglo - Egyptian sudan 1928 .
الحبشة
Apyssinia No. 1 (1928) .
Sudan Government Annual report of the Education Department 1929 Me - Corqudale, 1930. PP.99. 2 pls. 4°.31 Cm .
السودان الإنجليزي المصري - تأليف سير هارولد ماكميكل السكرتير الإداري السابق بحكومة السودان
The Anglo-Egyptian Sudan by Sir Harold Macmichael .
تاريخ العرب في السودان - تأليف سير ماكميكل
A History of the Arabian in the Sudan ..., by H.A.Macmichael 2 vols. 1932 .
المركز الدولي لمصر والسودان - تأليف جولز كوشيريس
Situation internationale de L’Egypte et du Sudan. By jules Cocheris. March 1932. T. .
ضبط النيل والسودان الحديث.
كتاب السودان بين يدي غوردون وكتشنر - تأليف اللواء إبراهيم فوزي باشا.
رحلة كايو.
السودان المصري في عهد محمد علي - مسيو ديهيران.
تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر - الجزء الثالث عصر محمد علي - عبد الرحمن الرافعي بك.
عصر إسماعيل - الجزء الأول - عبد الرحمن الرافعي.
السودان الإنجليزي المصري - بالإنجليزية - الليفتنانت كولونيل جلايشن، مدير المخابرات بحكومة السودان والجيش المصري سابقا.
مصر منذ كرومر - بقلم اللورد جورج لويد المندوب السامي البريطاني الأسبق
Egypt Since Cromer .
إلى السودان.
A Foreigners’Look at the Sudan-Odette Keun Pagan Tribes of the Nilotic Sudan .
The Ethnology of Africa, by Direbrgo Schapera Sudan Sand, by Stella Court Treatt .
Gordon and the Sudan by Bernard Allen .
Slavery by K. Simon .
تجارة الرقيق «النخاسة» - تأليف الليدي كاترين سيمون قرينة السير جون سيمون الوزير الإنجليزي المشهور.
تقارير حكومة السودان، وتقارير إدارتها السنوية، وتقارير الغرفة التجارية بالخرطوم.
لمحة عامة إلى مصر - تأليف كلوت بك، عشرة أيام في السودان - تأليف هيكل بك، النيل - تأليف دكتور عوض، ذكريات الطفولة في السودان - بقلم القباني، دارفور - بقلم التني، تقارير مصلحة الآثار، مذكرات سليمان محجوب عن القبائل العربية في وادي النيل، تاريخ مصر - أجزاء مسلسلة تأليف المؤرخ الإيطالي أنجلو ساماركو، عباس الثاني - تأليف لورد كرومر، بدائع الزهور - لابن إياس، مذكرات للأمير عمر طوسون، بطولة الأورطة السودانية المصرية في المكسيك لسموه، الأجوبة السديدة في إنذار وتهديد أهل المكيدة.
ثمانية خطابات صادرة من المرحوم الزبير باشا رحمت الجميعاني أمير جيوش المرحوم إسماعيل باشا الخديوي، ومدير مديرية بحر الغزال سابقا، إلى السلطان إبراهيم بن السلطان حسين أحد أمراء السودان، وإلى علماء دارفور سنة 1290، سنة 1291ه، بخصوص ما يجري في بعض الأقطار السودانية من الحوادث.
1 - الأمير عمر طوسون والسودان
2 - كيف سافرت البعثة المصرية للسودان؟
3 - الأسرة الأباظية
4 - النشاط الاقتصادي
5 - من القضارف إلى سنار
6 - سنار - خزانها - سنجة
7 - من سنار إلى الأبيض
8 - عند السيد عبد الرحمن المهدي مشروعات هندسية وزراعية واسعة
9 - يوم عاصمة النيل الأزرق
10 - أيامنا في مدينة الخرطوم
11 - بعد عودة البعثة
كلمة المؤلف الختامية
1 - الأمير عمر طوسون والسودان
2 - كيف سافرت البعثة المصرية للسودان؟
3 - الأسرة الأباظية
4 - النشاط الاقتصادي
5 - من القضارف إلى سنار
6 - سنار - خزانها - سنجة
7 - من سنار إلى الأبيض
8 - عند السيد عبد الرحمن المهدي مشروعات هندسية وزراعية واسعة
9 - يوم عاصمة النيل الأزرق
10 - أيامنا في مدينة الخرطوم
11 - بعد عودة البعثة
كلمة المؤلف الختامية
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثالث)
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثالث)
تأليف
عبد الله حسين
كلمة المؤلف عن الجزء الثالث
بقلم عبد الله حسين
بسم الله الرحمن الرحيم
أتممنا الجزء الثاني من كتابنا «السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية»، وقد خصصنا هذا الجزء، وهو الجزء الثالث، للبعثة المصرية في السودان، وقد رأينا أن نقدم فيه حضرات أعضاء البعثة للقراء، وأن نكتب بيانا عن الهيئات التي اشتركت فيها، ليقف قراء السودان على المهمة التي تقوم بها هذه الهيئات. ولما كان لحضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون الأثر العظيم في سفر البعثة، والفضل الكبير في توثيق العلاقات بين مصر والسودان، فقد عقدنا فصلا ترجمنا فيه حياته الكريمة، كذلك تكلمنا عن الأسرة الأباظية، لأن لها اسما مشهورا في السودان، حتى إن اسم «أباظة» أوشك أن يكون اسما سودانيا، بسبب النصيب الوافر الذي كان لحضرة مقرر البعثة صاحب العزة فؤاد أباظة بك المدير العام للجمعية الزراعية الملكية، ولأنه قد اشترك في البعثة رجل آخر من الأسرة الأباظية، هو حضرة صاحب العزة عبد الحميد أباظة بك، ولأن أهل السودان معجبون بقلم الكاتب المتفنن زميلنا الأستاذ محمد فكري أباظة، المحامي ورئيس تحرير المصور؛ ولا سيما لما علموا أن «أباظة» اسم لقبيلة عربية بعد أن ظنوه اسما تركيا، وقد أسمى الكثيرون من أهل السودان مواليدهم باسم «أباظة»، فرأينا لزاما علينا أن نعرف أهل السودان على الأقل بتاريخ هذه الأسرة.
أما الفصول التي كتبت عن رحلة البعثة فهي، على الغالب، قد نشرت بجريدة «الأهرام» وقد أضفنا إليها بيانات مهمة أخرى عن السودان وشئونه.
إننا نعد رحلة البعثة حادثا تاريخيا جليلا في العلاقات بين مصر والسودان، وقد ساعدنا اشتراكنا في هذه البعثة على جلاء المسألة السودانية، إن صح أن هناك مسألة بهذا الاسم، وإنني لأعد من حسن السياسة ومن الفأل الحسن سفر هذه البعثة، أيا كانت الأغراض التي بعثت رجال الحكومة السودانية على تسهيل مهمتها.
فيجب أن لا يعزب عن البال أن علاقاتنا الفعلية بالسودان قد وهنت منذ خروج الجيش المصري، وأن جيلا جديدا في السودان سيجيء فلا يعرف شيئا عن المصريين، أو يعرف شيئا لا غناء فيه، وأن اتصال المصريين بإخوانهم السودانيين قد جدد الروابط القديمة، وأحيا العلاقات الماضية ، وفتق الأذهان لآراء جديدة.
لهذا كله أفردنا هذا الجزء لرحلة البعثة، ونرجو أن نكون بتأليفنا الكتاب في أجزائه الثلاثة، قد حققنا الغاية التي رمينا إليها، وهي أن يقف القراء على تاريخ السودان ووجوه نشاطه، ورابطته بمصر، وأن يعود ذلك كله بالخير على مصر والسودان والبلاد المتصلة بهما، وعلى الإنسانية جمعاء.
الفصل الأول
الأمير عمر طوسون والسودان
لا يسع المؤرخ الصادق إلا أن يعرض لنصيب حضرة صاحب السمو الأمير العظيم عمر طوسون في الاهتمام بأمر السودان، فلسموه المقالات والمذكرات والاحتجاجات والكتب والنداءات في صدد العلاقات القديمة والحاضرة بين مصر والسودان، وسموه يبذل الكثير في معونة طلاب العلم السودانيين الفقراء في الأزهر والخارج، ويكرم مثوى الضيوف السودانيين، ويساعد جهات البر والعلم في السودان، كملجأ القرش ومعهد أم درمان والمساجد والأندية، ويغتنم سموه كل فرصة للوقوف على أنباء السودان من الذين يزورون سموه من أهله والذين أقاموا به كالضباط والموظفين المصريين، ولا يزال سموه يبحث وينقب لكشف ما خفي من تاريخ السودان ورجاله وعلاقاته بمصر، ويقدح زناد الفكر، لكي يعيش السودان سعيدا ويحيا السودانيون حياة سعيدة، ويكاد حديث السودان يغلب كل حديث آخر في حضرة سموه. ولما عاد أعضاء البعثة المصرية دعا سموه من أمكن مقابلتهم، لاستطلاع رأيهم في نتائج رحلة البعثة.
وسيذكر تاريخ السودان وعلاقاته بمصر النصيب الأول الذي لسمو الأمير في هذا الشأن، وقد قدر السودانيون أنفسهم بره بهم وحبه لهم، فأحلوه من نفوسهم أسمى منزلة، وأجمعوا على حبه، ولهجت ألسنتهم بذكره والدعاء له.
على أن مسألة السودان، على ما لها من الأهمية وعظيم الشأن عند سموه، ليست المسألة الوحيدة التي يعنى بها سموه، فإن سموه - كما هو المعروف - العلم في بيئته، بمتابعة الاهتمام بالشئون العامة في مصر والشرق والإسلام وإبداء الرأي في كل فرصة؛ لهذا رأيت أن أعقد هذا الفصل خصيصا أترجم فيه حياته.
ترجمة صاحب السمو الأمير عمر طوسون
ولا نقصد من هذه الترجمة مدح الأمير، فهو غني بصيته الذائع وشهرته الواسعة عن المدح والإطراء. ولقد أبى علينا مرارا درج ترجمته في كتابنا، ذهابا مع ما عرف عنه من التواضع والبعد عن الزهو، فلما توسلنا إليه برغبة الأمة وإلحاح الكافة من الأدباء والعظماء أذن لنا: فنحن نترجمه للأمة وللسودان ومصر لا لنفسه؛ ليكون للبلاد من تاريخ حياته الحافل بجلائل الأعمال نبراسا يضيء لها الطريق؛ طريق المجد الصحيح ومحبة الخير للخير.
وفي اعتقادنا أن في ترجمة الأمير أكبر درس للعظاميين الذين يرون في مجرد الحسب والنسب كل الفخر، وفي الغنى الموروث عن الآباء والأجداد غنى عن كل منقبة تكسبهم مجدا جديدا وذكرا حميدا، بل درسا في الأخلاق الفاضلة.
قدمنا هذه المقدمة ليعرف الأمير قصدنا من ترجمته، وأننا لم نعد ما في نفسه ولم نتجاوز غرضه، وليكون القارئ على بصيرة من الغاية التي حدت بنا إلى الإفاضة في هذه السيرة فتشرق عليه شمس العظمة من سمائها الصافية، وتنعكس أشعتها على مرآة نفسه، فيقتبس من أنوارها ما يشاء ويحتذي ببعض ما فيها من أمثلة العلاء، ولعله يقتفي مثالا كريما ويهتدي صراطا مستقيما. ومن قرأ تراجم العظماء وترسم آثارهم لا يلبث أن يكون عظيما:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالرجال فلاح
ولد الأمير عمر بن طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير بمدينة الإسكندرية في 8 سبتمبر سنة 1872م. وفي السنة الرابعة من عمره توفي والده فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعنيت بتربيته هو وإخوته وأخواته أجل عناية، فنبت نباتا حسنا، وشب على الكمال خلقا وخلقا، ودرس مبادئ العلوم على أساتذة قصر والده إلى أن بلغ الحلم فنزح إلى سويسرا ودرس فيها دراسة مستفيضة، ولما تخرج تاقت نفسه إلى السياحة فرحل إلى إنجلترا وفرنسا باحثا مدققا معتبرا بما هنالك من تقدم اجتماعي وعلمي وصناعي وزراعي، ثم قفل إلى الديار المصرية حاملا بين جنبيه همة علية ونفسا زكية وقلبا ألمعيا وأدبا عليا. وهو يجيد اللغات التركية والعربية والفرنسية والإنجليزية قراءة وكتابة، ويشارك في مختلف العلوم مشاركة تدل على سمو مداركه، وسعة معارفه. وقد نال من الرتب والوسامات المصرية أسماها وأعلاها، واقترن بإحدى كريمات الأمير حسن باشا ابن الخديوي إسماعيل فرزقه الله منها النجباء والنجيبات من البنين والبنات. وسعادتهم بتثقيفه وتعليمه لهم تتفق مع سعادة طالعهم، وتبشر بأنهم سيطلعون نجوم سماء ويسطعون كواكب علاء.
ومنذ بلغ أشده جعل نصب عينيه أن يقبض يوما ما على زمام دائرته ويدير شئونها بنفسه، فانكب على التمرن، وكان من وقت لآخر يطوف بمزارعه الواسعة ويمعن النظر في كتب الفلاحة، ويعنى بالوقوف على أسرارها وأصولها العملية، كما يعنى إذا رجع إلى ديوان دائرته بالشئون الإدارية والمالية. ولما كملت أهليته تولى أمره بنفسه، وقد أصبح الآن ممن يشار إليهم بالبنان في سعة الاطلاع على المعارف الزراعية والمعاملات المالية. وعهدت إلى إدارته بعد دائرتان من أكبر الدوائر؛ وهما دائرة الأمير حسن باشا وزوجه الأميرة خديجة هانم، ودائرة الأمير محمد إبراهيم فتبرع بإدارة شئونهما غيرة منه على مصالح المستحقين فيهما من أبناء أسرته الكريمة، وأبى أن يأخذ على ذلك أجرا، وطالما كلفه الطواف على مزارع الدائرتين ورعاية مصالحهما مالا، فتأبى نفسه الكريمة إلا أن يكون على حسابه الخاص. فهو يضحي الكثير من وقته وماله في سبيل منافع بعض أعضاء أسرته شأنه في محبة الخير وإسداء النصيحة إلى القريب والبعيد. وقد بلغت الدوائر الثلاث بحسن إدارته أفضل المبالغ، وغدا مركزها المالي ثابتا على أقوى الدعائم، ونهضت بها عزيمته نهضة جعلتها في مقام رفيع.
وللأمير ولع بالفروسية وكل ما يؤدي إليها؛ فلذلك كانت دائما جميع أندية الرياضة في البلاد ملحوظة بجميل رعايته؛ كمضامير السباق في الديار المصرية، فهو رئيسها منذ أمد بعيد، ومن أكبر المنشطين لها، كما له ولع قديم بالصيد والقنص جعله من أمهر الرماة، واكتسب الأمير من وراء هذا الميل الغريزي فيه صحة ونشاطا، ينطقان بفوائد الرياضة بأفصح لسان؛ فهي لا تدخل في باب اللهو كما يظن العامة، بل هي إلى الجد أقرب لعودها على الصحة بأجل الفوائد. والصحة ملاك الحياة وعليها يبنى العلم والعمل، وما يعمله الصحيح في يوم لا يقدر عليه السقيم في أيام، كما أن العقل السليم في الجسم السليم .
وسموه ميال بطبعه إلى الرحلات والاستكشافات؛ فقد قام برحلات كثيرة إلى الصحراء الغربية ودرس طبيعة هذه الجهات وما فيها من الواحات وغيرها دراسة مستفيضة، وقد نشر سموه في الجرائد معلومات قيمة عنها. ولا ننسى هنا ما جادت به يده السخية في سبيل الله والخير: من إنشائه الآبار في طريق الغادي والرائح في هذه الجهات. ومن استكشافات سموه الجديرة بالذكر بعض الآثار القديمة التي توالت عليها الدهور والأعصار؛ فمن ذلك أنه كشف في أطلال بناء قديم في جنوبي غرب واحة الدلة عن صليب قبطي من الشبه «البرنز» يرجع عهده إلى القرن الخامس أو السادس للمسيح، وكذلك عن بعض الأواني الفخارية الأثرية القديمة بتلك الجهة، ثم اكتشافاته لسليا وآثارها غربي وادي النطرون، ورأس تمثال الإسكندر الأكبر بخليج أبي قير وإرشاده لجمعية الآثار وبلدية الإسكندرية للتنقيب بجوار مسجد نبي الله دانيال، ورحلته الأخيرة في شهر يونية سنة 1935 إلى الواحات الخارجة. •••
ومن وقف على حياة الأمير عجب أشد العجب من انكبابه على العمل دون سآمة أو ملل؛ فهو، مع أعمال الدوائر العظيمة، لا ينقطع عن القراءة والدرس في مكتبته الحافلة بالنفائس، وله غرام باقتناء كتب التاريخ والوقوف على آثار الأقدمين، ولا يخلو الكثير من أيامه من النظر في شأن هام، أو دعوة لاكتتاب أو رياسة جمعية، كما لا يخلو شهر من سفره إلى ضياعه مرة أو أكثر، وقد يبقى في الأرياف أسبوعا لمشارفة الأعمال الجارية في أراضيه.
والأمير بعيد بفطرته السليمة، وتربيته القويمة عما يغضب الله، وهو يكره الخمر ويكره شاربيها، ويعاقب من يعلم أنه يشربها من موظفيه أشد العقاب. وجمعية منع المسكرات بالإسكندرية تحت رياسة شرفه، ويمدها دائما بمساعداته. ونذكر له بهذه المناسبة اقتراحه على الحكومة المصرية بقبول اشتراكها في مؤتمر مكافحة منع المسكرات الذي انعقد بمدينة أنفرس ببلجيكا، ومعاونته للجمعيات التي أنشئت في نواحي القطر لمحاربة المخدرات بمختلف الوسائل. وهو يجل الإسلام وأوامره. وإيمانه بالله عظيم، واعتقاده راسخ. يعجبه من الناس الصدق والإخلاص ، ويقربهم إليه أكثر مما يقربهم جاههم ومناصبهم. وهو مشهور بدفاعه عن القومية المصرية وعن الدين والأمة الإسلامية، وصد تيار المبشرين والملحدين، وبنصائحه الاجتماعية الثمينة الغالية. وآراؤه معروفة ومقدورة في مسائل مساواة المرأة للرجل في الميراث وإبدال القبعة من الطربوش، ومزاحمة المرأة للرجل في ميدان العمل، وما يرى سموه أنه ينجم عن ذلك من الأضرار الأدبية والمادية والاجتماعية. ومحبته للمصريين تعدل محبتهم له، وهم في نظره سواء لا فرق بين مسلمهم ومسيحيهم. وكثير من موظفي دوائره من الأقباط وبينهم من بلغوا مراكز كبيرة، وتولوا المناصب العالية عنده، وفيهم سوريون وأجانب. وهو شرقي في ميوله. ويعد سموه أن أكبر جزاء له من الأمة المصرية على التفاته السامي نحوها، وعنايته التي يظهرها في ظروف مختلفة - هو ذلك الحب الخالص الذي يتجلى لسموه في غدوه ورواحه وعند كل فرصة تمكنها من إظهار ما تكنه لشخصه المحبوب. وفي أيام المظاهرات الوطنية الكبرى كان يقف الجمع المحتشد تحت شرفات دائرته هاتفا له داعيا، ولا ينصرف حتى يطل سموه عليهم ويحييهم، وكذلك حالهم معه في كل مشهد واحتفال.
بعض مآثر الأمير ومبراته
لا ينتظر القارئ منا أن نحصي له مبرات الأمير وأعماله العظيمة في هذه العجالة، وإنما سبيلنا في ذلك أن نلمع إلى بعضها إلماعا، ونذكر ما حضرنا منها ليقاس عليه ما غاب عنا: فكرمه الواسع لا تحضرنا عبارة تفي بالإفصاح عنه؛ خصوصا إذا أهابت بجدواه دواعي البذل، ونزلت بالناس سنو الشدائد؛ فهناك تتجلى أريحيته للعطاء ويكون بأياديه الجسام أندى كفا من الغمام؛ فالحرب الطرابلسية إنما كانت مادتها ماله، ولو لم يسعفها بمعونته وجاهه ومبرته لما أمكن أهلها الدفاع عن حوزتهم بضعة أشهر، وكذلك حرب البلقان التي شبت نارها على أثر حرب طرابلس فقد أقر فيها عين الدولة والملة، ورأس لجنة الإعانة في مصر، فلبته الأمة والتفت حوله، وألفت اللجان في المديريات والبلدان، وكان يستندي الأكف بنفسه، ويخطب الخطب الرنانة في المشاهد الحافلة بالأمراء والأعيان فيجري النضار بين يديه سيلا متدفقا وهو يبعث به إلى الدولة العثمانية العلية تباعا.
ولقد عرفت الدولة العثمانية مواقفه العظيمة لها في مواطن كثيرة؛ خصوصا في هاتين النازلتين، ومن جمعية الهلال الأحمر، وأرادت أن تكافئه بالأوسمة والرتب، بل بالولايات فأبى شاكرا وقال: إني لم أفعل غير الواجب، وليس على الواجب جزاء.
وغرضه الأقصى من أعماله هذه إحياء عاطفة التعاون والتعاضد بين الشرقيين وإحكام روابط الألفة والاتحاد التي تقويهم لعلمه أنهم إذا لم يتمسكوا بهذه العروة الوثقى فقد ذهبت ريحهم.
والأيام تبين عن كثب صدق ما نرى، وليس أصدق من عبر الدهر وحوادثه، وهذا هو مذهبه السياسي للشرقيين عامة، ورأيه أنهم لو عملوا بهذا المبدأ؛ مبدأ التكافل، ما تخطفتهم ذئاب الغرب، ولا التهمت بلدانهم واحدة تلو الأخرى. وطالما مد يد المساعدة للدولة في ظروف مختلفة؛ فقد حدث حريق هائل في الآستانة، وحدث مثله في الشام ومصر في وقت واحد، فأعمل همته وجمع للمصابين بين البلدان الثلاثة مبالغ ذات بال نفست من خناقهم، وأزالت بعض كربتهم. ولم ننس تبرعه للأسطول العثماني والطيارين العثمانيين واحتفاله بهم في مضمار الإبراهيمية من رمل الإسكندرية في يوم مشهود.
ومن مآثره الغراء عوله لجماعة البخاريين الذين سدت عليهم الحرب الأوروبية الكبرى طريق الوصول إلى بلادهم بعد أدائهم فريضة الحج؛ فقد كفاهم ببره معرة السؤال والتكفف أكثر مدة هذه الحرب المشئومة، وحاطهم بمعروفه في ستر وكفاية، حتى تمول منهم المعدم واشتغل العاطل وفتحت في وجوههم الطريق ... إلى غير ذلك من المكارم الكثيرة، التي تعيد لنا ذكرى الأجواد في سالف الأيام. ولما تمخضت الحرب الكبرى عن انتصار الحلفاء واقتطاعهم أكثر الولايات العثمانية، واحتلالهم عاصمة الخلافة، وانحازت فلول الجيش التركي وعلى رأسها مصطفى كمال باشا إلى داخل الأناضول يدافعون عن البقية الباقية من بلادهم وهم خلو من المال والسلاح، أهاب هذا الأمير الكبير بالمصريين فلبوه مسرعين إلى معاضدة هؤلاء الأبطال ومساعدتهم بالمال، ونهجت الأمم الإسلامية؛ وخصوصا الهنود، هذا السبيل مقتفين أثره في هذا العمل الإنساني، الذي بيض وجه مصر وعطر الخافقين بذكرها.
وقد دامت هذه المعونة ثلاث سنوات متواليات وهي تتدفق على الأناضوليين من غيث جوده سيلا منهمرا، حتى فازوا على اليونان وأخرجوهم مدحورين من بلادهم، ثم استمرت - ولا زالت - لإعالة أيتام الأناضول إلى أن توارى شبح الموت والجوع عن أعينهم.
ولكن بعد أن تم الفوز للكماليين ألغوا السلطنة العثمانية وقلبوها جمهورية على رأسها مصطفى كمال، ثم تمادى بهم السير في هذا الطريق فألغوا الخلافة وأخرجوا الخليفة عبد المجيد وسائر أسرة آل عثمان مشردين في الممالك الأجنبية مجردين مما يقوم أود معيشتهم، فظهر بطل الإسلام مرة أخرى في ميدان العمل وأثارت هذه الكوارث نخوته المعروفة، فقام يدافع عن مقام الخلافة ويذود يد الدهر عن هذه الأسرة الكريمة، وألف جمعية لإمداد الخليفة عبد المجيد وأمراء البيت العثماني وأميراته، كان أول مدد لها أرسل إليهم أربعة آلاف جنيه.
أما أعماله لمصر والمصريين فهي أجل وأعظم؛ فبابه مجتمع العفاة، ومزدحم الواردين والصادرين عن ذلك المنهل العظيم، وسدته قبلة عرائض أولي الحوائج وكعبة آمال ذوي الخلة من الفقراء والمستورين. وهو يسعهم بفضله، ويعمهم بسببه. وهو يواسي موظفي دائرته في مرضهم وفي موتاهم، ويعينهم في زواجهم وفي ولادة أولادهم وختان ذكورهم. وقد رتب لهم الأطباء، ويتبرع لهم بما يحتاجون إليه من الدواء، وهو الذي يمون بيوتهم بالغلال منذ بداية الحرب، ومدارسه لأبناء الفلاحين في ضياعه العامرة وأبناء الموظفين فيها، تعلمهم بدون أجر مبادئ العلوم، وتصرف لهم أدوات الدراسة كلها بغير مقابل.
وذلك غير إقامته للمساجد فيها وتعليم موظفيه عامة على نفقاته علوم اللغة العربية في دروس يومية تعطى لهم عقب فراغهم من أعمالهم، وإعطائه الجوائز للناجحين في امتحانها كل عام. وقد يرى في بعض هؤلاء نجابة فيعينه على تتميم دراسته. ومن أبناء الموظفين وغيرهم من بعث بهم إلى مدارس أوروبا العالية على نفقته الخاصة لامتيازهم بالنبوغ، ولا يزال بعضهم فيها إلى الآن.
وأعطياته لمعاهد العلوم والجمعيات الخيرية، لا تدخل تحت حصر: نذكر منها تلك الهبة الجليلة التي نفح بها جمعية العروة الوثقى، وجمعية المواساة على أثر رجوعه الأخير من أوروبا؛ فقد وهبهما من أجود أطيانه ما جعل الألسنة تنطلق بشكره عليه. وكم وهب هاتين الجمعيتين والملجأ العباسي هبات أخرى جزيلة سابقة ولاحقة في ظروف متعددة. وله في مشيخة العلماء بالإسكندرية مآثر جميلة؛ فمنها عطاياه لترقية المتعلمين بها، وهباته لمكتبتهم، وإننا نثبت هنا أبياتا من قصيدة لفضيلة الشيخ إبراهيم سليمان أحد شيوخهم، تلاها بين يدي سموه على أثر عطية من تلك العطايا، وقد جاءه منهم وفد شكر تحت رياسة شيخهم إذ ذاك، وهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر الأسبق، وهي:
أكلما ناب خطب قيل «يا عمر»
كأنما «عمر» من جنده القدر
وكل خطب دجا يبدو له «عمر»
كأنه الشمس للآفاق والقمر
البدو يسأله والمدن تأمله
كأنما من ذويه البدو والحضر
لو كان في زمن القرآن إذ نزلت
آياته أنزلت في مدحه السور
فلا عدمنا هبات منه واكفة
لم يسقنا مثلها في كفه المطر
حنا على العلم واستسقت معاهدنا
منه فظل عليها الخير ينهمر
ومن شكر العروة الوثقى لسموه أنها سمت مدرستين من مدارسها؛ إحداهما للبنات والأخرى للبنين، باسمه الكريم. والدار التي فيها مدرسة البنين موهوبة لها من سموه. ومن أفضل أياديه المشكورة إيعازه لجمعية المؤاساة التي يرأسها سموه رياسة شرف بتوزيع مقدار كبير من الدقيق على فقراء الإسكندرية عندما اشتدت الضائقة بهم، وخلت الأسواق أو كادت من هذه المادة الضرورية للحياة.
وقد أخذ يعاضد مشروع الكشافة لعلمه بما فيه من الفوائد الجلى لنابتة البلاد، فلقب عن جدارة من جمعية الكشافة بالإسكندرية بلقب «الكشاف الأعظم» بعد أن جعلها تحت رعايته العالية.
وإذا لم تقم في وجه هذا المشروع الجليل عقبات فسيبلغ بجميل رعايته مبلغا عظيما ويجني شبان مصر منه نفعا عميما.
أما أعماله العامة، فلا تكاد تجد مشروعا نافعا ظهر تحت سماء مصر إلا وله فيه يد بيضاء، ومن ذلك تشجيعه للمعارض الزراعية، واشتراكه في الاكتتابات لإحياء العلم وتشجيع المشروعات الأهلية، وبلغ به هذا التشجيع أن تفضل واشترك مع الإسكندريين بخمسمائة سهم في جمعية المشروعات الأهلية، وكان غرضها تجاريا محضا. ولما كان الكثير من أعماله العظيمة واقعا تحت أعيننا، وهو كل يوم يتجدد، فلا حاجة بنا إلى عده، وإنما نذكر له هنا إعانته «الوفد المصري» إلى مؤتمر فرساي بعشرة آلاف جنيه، وبهذه المناسبة نذكر أن سموه أول من تكلم مع الزعيم الخالد رئيس الوفد المصري «سعد زغلول باشا» في هذه الفكرة عندما وضعت الحرب أوزارها، وأول من أراد جمع المصريين عليها بدعوة صدرت منه فعلا في يوم معين ونشرت في الجرائد، ولكن الظروف حالت دون هذا الاجتماع «راجع خطاب الأستاذ الكبير مكرم عبيد في المؤتمر الوطني العام ومذكرات المغفور له سعد زغلول باشا».
ومما لا يفوتنا ذكره اكتتابه في لجنة الأمراء التي صرفت جل مالها في تخفيف الويلات التي نتجت عن ضحايا المظاهرات، ولم يكتف - حفظه الله - بذلك، بل دعا السكندريين إلى مثل هذا العمل ليكون خاصا بضحايا المظاهرات في الإسكندرية وحدها، وكان لهم نعم القدوة الحسنة. وشأنه في انضمام الأمراء إلى بقية الأمة في نهضتها الوطنية الأخيرة عند حضور لجنة «ملنر»، والمطالبة بالاستقلال التام مشهور معلوم.
ومما نذكره لسموه مقرونا بالشكر والإعجاب دعوته في الصحف للمصريين عامة إلى مد يد المساعدة للجمعية الخيرية الإسلامية وتقدمهم إلى الاكتتاب لها بمبلغ خمسة آلاف جنيه بمجرد ما علم سموه بحاجة الجمعية إلى المال، واستصراخها لذوي البر والإحسان، فكان أول الملبين وإمام المحسنين.
وعلى أثر هذه الدعوة لفت نظره العالي بعضهم إلى الجمعية الخيرية القبطية، وأنها أيضا في حاجة إلى بر سموه فنفحها بألف جنيه، ودعا الأقباط إلى الاكتتاب لها كما دعا المسلمين إلى الاكتتاب لجمعيتهم في نشرة مذيلة باسمه الكريم جاء في آخرها ما نصه:
والغرض الأقصى لي من ذلك أن أشرف على مضمار للخير في مصر بين الأخوين الشقيقين «المسلم والقبطي» تتسابق فيه العزائم، وتتبارى الهمم؛ لأنظر إلى أية غاية يجري الأخوان المتباريان، وأيهما يحرز قصبات السبق في هذه الحلبة الخيرية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
تلك سجية فيه عرفتها له مصر، فهي ما هزت مواضع الأريحية من أنفس كرمائها إلا رأت ذلك الأمير المحبوب يرتجل الندى ارتجالا ويرسل مكارمه إرسالا.
وكثيرا ما تقدمت أريحية سموه دعوة الداعين فأحالت دعوتهم دعاء وثنتهم عن الطلب إلى الثناء.
فإنا لم نكد نسجل للأمير الجليل تلك النفحة التي شمل بها الجمعية الخيرية الإسلامية حتى ارتجل مبرة أخرى، فشمل الجمعية الخيرية القبطية بنفحة ترفع القواعد من بنائها. ولم نكد نفرغ من شكر هاتين المبرتين حتى بدهنا بثالثة لا ينقطع برها، ولا ينقضي شكرها.
فإنه لم يكد تمثال (نهضة مصر) يتصل حديثه بسموه حتى تفضل فتبرع بخمسمائة جنيه مصري من ثمن ذلك التمثال.
ومن مبراته الخالدة التي زادت أواصر الاتحاد متانة ما تبرع به أخيرا لمدرستي البطركخانة والمشغل البطرسي على أثر زيارته غبطة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس؛ فمنح المدرستين سندات من الدين الموحد لتعطى أرباحها السنوية جوائز لأوائل الناجحين والناجحات منهما، وهكذا غرس يديه الكريمتين يبقى نفعه ما توالى الجديدان.
وما ننسى لا ننسى تبرعات سموه المتوالية في وجوه البر والخير؛ فمن ذلك تبرعه بمائة جنيه في مشروع شراء قطعة أرض بإنجلترا لدفن موتى المسلمين بها، وحثه المسلمين في مصر على الاكتتاب لهذا المشروع، وتبرعه بمثل هذا المبلغ لجمعية المحافظة على القرآن الكريم برمل الإسكندرية، وبمبلغ أربعين جنيها كل سنة لجمعية مشروع القرش، وتبرعه المتتالي لترميم مساجد السودان في مدنه المختلفة ومدها ببعض الكتب الدينية والعلمية، وتبرعه لنادي الضباط المصريين بالسودان، وللنادي السوداني بالقاهرة، ولنادي الطلبة المصريين بإنجلترا، وبالكئوس الفضية للألعاب الرياضية للمدارس الأميرية وغيرها.
مكارم يتلو بعضها بعضا، ومبرات يسطع في العصر شذاها، وإن مصر التي تقدر كل عامل لها في أبنائها لتحمد للأمير أياديه البيضاء، وتذكر له أنه لم يدع فرصة سانحة للبر بها إلا انتهزها مشكورا، وأن حياته المباركة نجاح لكل عمل عميم النفع.
ولا يفوتنا أيضا معاضدات الأمير وتشجيعاته المادية والأدبية، فمن ذلك تأليف سموه جمعية للاحتفال بالطيار المصري محمد صدقي بالإسكندرية ومنحها له خمسمائة جنيه، ومساعداته للمؤلفين والمفكرين على نشر مؤلفاتهم، وطبعه على نفقته الخاصة مؤلفات بعض رجال مصر العاملين ومذكراتهم، وتشجيعه للعلوم والآداب، إلى غير ذلك مما له أكبر الأثر في حياة هذا الوطن وشئونه.
وأما نصائحه إلى أبناء وطنه مصر فهي غالية مجدية، وكلها تنهى عن الشقاق والخصام وتأمر بالاتحاد والوئام كلما دبر لها أعداؤها فتنة أو ألقوا في جموع الأمة عصا التفرقة.
وبالجملة، فالأمير عمر - بإجماع الأمة المصرية - صاحب الأيادي العديدة، والأعمال المجيدة والآثار الخالدة، والسيرة الطاهرة، في بعد عن الشهوات، وترفع عن الغايات، وثبات عند الملمات، واجتهاد وجد يشبه سميه سيد المسلمين عمر بن الخطاب في الصلابة في الحق، والثبات على العهد، والميل إلى الجد. ثابت على مبادئه ثبوت الجبال حتى ليس في مقدوره أن يقول ما لا يعتقد، أو يعمل ما لا يريد، أو يعد فيخلف أو يحكم فيجحف، صبور وقور، ذو أناة وحلم، لا تنال الملمات من نفسه الكبيرة، ولا يظهر لها أثر عليه، وذلك من عجيب ما أودعه الله فيه من الخلائق، فهو في بيئته نسيج وحده، ووحيد هذا العصر، في كرم الخلال وشرف الفعال، فما أجدره بقول القائل:
ولو صورت نفسك لم تزدها
على ما فيك من كرم الطباع
أما العلم والتأليف، وهما مما تنبو عنه، عادة، طباع أهل النعمة والثراء، فضلا عن الأمراء، فقد بلغ الأمير فيهما الشأو البعيد.
وإن بحوثه التاريخية والعلمية لفي غنى عن الإيضاح والبيان، وهي تتناول مواضيع كثيرة هامة، وقد نشر معظمها في جرائد مصر العربية والإفرنجية. وسمو الأمير يعمل بجد ومثابرة على إظهار مكنونات تاريخ جده الأكبر محمد علي باشا، وإثارة دفائن هذا التاريخ الحافل بجلائل الأعمال؛ فمن ذلك أنه لفت نظر وزارة الأشغال على أثر عثوره بجريدة الوقائع المصرية على مقطوعات شعرية بها تواريخ إنشاء بعض القناطر المصرية في هذا العهد السعيد، واقترح عليها نقش هذه المقطوعات التاريخية الأثرية على ألواح توضع في مواضع هذه القناطر، فنالت فكرته استحسانها ونفذت مقترحه.
وما ظهر إلى الآن لهذا الأمير النابغة من آثار قلمه البليغ باللغتين العربية والفرنسية، ودبجته براعته من المباحث الممتعة، وكلها من الطريف الذي لم يكن معروفا من قبل، يجعل له القدح المعلى في هذا المضمار.
وذلك مثل مقالاته التي نشرتها الصحف والمجلات العلمية عن الجيش المصري أيام محمد علي، وعن المدارس والصنائع والبعثات العلمية، وفي ذلك العهد ومحاضراته القيمة التي ألقاها في المجمع العلمي المصري وتلقتها أندية العلم في الشرق والغرب بمزيد الاهتمام. وكتابه النفيس عن أفرع النيل القديمة الذي ظهر منذ عهد قريب مطبوعا باللغة الفرنسية، وسيظهر عن قريب باللغة العربية، ورسائله التاريخية العديدة، إلى غير ذلك مما شارك الأمير فيه أكابر العلماء المحققين وسلكه في سلك جهابذة المؤرخين المتميزين.
وقد تغنى الشعراء بمدحه وأكثروا من القول فيه مما لو جمع لكان ديوانا كبيرا، وإننا نختم هذه السيرة المتضوعة بقصيدة في الأمير لشيخ شعراء الجيل الغابر إسماعيل صبري باشا، بعث بها إلى سموه أيام حرب البلقان والهلال الأحمر وهي:
لك الإمارة والأقوام ما برحت
بكل عالي الذرى في الكون تأتمر
لو لم تنلها لما ألقت أعنتها
إلا إليك: خلال كلها غرر
يا ابن الألى لو أطلوا من مضاجعهم
يوما عليك لقالوا إيه يا «عمر»
أعدت أيامهم في مصر ثانية
حتى توهم قوم أنهم نشروا
وسرت سيرتهم حتى كأنهمو
إذا خطرت بأرض مرة خطروا
لله درك! كم نبهت من همم
تثني على أهلها الآصال والبكر
وكم تعهدت جرحى من أسود وغى
إن يكشر الدهر عن أحداثه كشروا
مستنجدا من بني مصر أولي شمم
إذا رأوا ثلمة في حوضهم جبروا
مستهميا هاميا والنيل في وجل
من أن تجود به أيمانكم حذر
حتى تفاهمت الأرحام وادكرت
ما بينها الأهل والخلان والأسر
وآذن البر بالسقيا وما فتئت
منهم ومنك صنوف البر تنتظر
وحركت كل كف بالندى مقة
حتى تعجبت الأنهار والغدر
والناس، إن قام يستسقي الكريم لهم
سحائب الفضل بشرهم، فقد مطروا
أبي علاء سعيد أن يشابهه
إلا ابن دوحته إن قام يفتخر
ما زال يحمده رائيك مدكرا
والأصل بالفرع إن حاكاه يدكر
مؤلفات سمو الأمير
المؤلفات الفرنسية: (1)
تاريخ أفرع النيل القديمة قبل الفتح العربي وفي مدته (2 جزءان). (2)
تاريخ النيل (3 أجزاء). (3)
مالية مصر من عصر الفراعنة إلى الآن (1 جزء). (4)
جغرافية مصر في عصر العرب (ظهر منه جزءان وباقي ثلاثة تحت الطبع). (5)
الأديرة القبطية بوادي النطرون. (6)
الإسكندرية في سنة 1868م.
المؤلفات العربية: (1)
كلمات في سبيل مصر. (2)
صفحة من تاريخ مصر في عهد محمد علي «تحت الطبع». (3)
مالية مصر من عهد الفراعنة إلى الآن. (4)
الصنائع والمدارس الحربية والبعثات العلمية في عهد محمد علي. (5)
الجيش المصري البري والبحري في عهد محمد علي. (6)
مصر والسودان. (7)
مذكرة عن مسألة السودان بين مصر وإنكلترا. (8)
البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهد عباس الأول وسعيد. (9)
صفحة مجد للجيش المصري البري والبحري في حرب القريم. (10)
بطولة الأورطة السودانية المصرية في المكسيك.
الفصل الثاني
كيف سافرت البعثة المصرية للسودان؟
أذاعت الجمعية الزراعية الملكية في يناير سنة 1935 البيان التالي عن الأسباب التي حملتها على تنظيم البعثة المصرية إلى السودان:
أوفدت الجمعية الزراعية الملكية في شهري يناير وفبراير من العام الماضي حضرة مديرها للسفر للسودان وأعالي النيل والأوغاندا والبلاد المكونة لأفريقيا الشرقية والشلال الشرقي لجمع المعلومات والمشاهدات عن زراعة القطن في وادي النيل، وقدم بها مذكرة للجمعية الزراعية وللجنة القطن الدولية المنعقدة في القاهرة في شهر فبراير من العام الماضي، ثم قدم حضرته اقتراحات لحضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون رئيس الجمعية بشأن تنمية العلاقات بين مصر والسودان.
وبعد أن درستها لجنة المشروعات بالجمعية قرر مجلس إدارتها بجلسة 9 أغسطس سنة 1934 الموافقة على ما يأتي: (1)
إعداد مكان لمعروضات السودان في المعرض الزراعي الصناعي القادم. (2)
تنظيم رحلة للسودان في شهر يناير سنة 1935 مكونة من أعضاء الغرف التجارية والجمعية الزراعية وكبار الزراع والتجار في مصر. (3)
مشروع تأليف شركة من أهالي مصر والسودان لمشتري أراضي زراعية بالسودان واستثمارها. (4)
دراسة إنشاء فرع للجمعية الزراعية بالخرطوم. (5)
دعوة بنك مصر لإنشاء فرع له بالخرطوم.
وفي صباح الخميس 26 يوليو سنة 1934 قابل مدير الجمعية حضرة صاحب الدولة رئيس الوزراء بالإسكندرية، وعلم من دولته موافقته على ذلك، كما أنه قابل حضرة صاحب السعادة الحاكم العام للسودان وباحثه في ذلك، ووافق سعادته على وجهة نظر الجمعية بإنماء العلاقات الاقتصادية بين مصر والسودان، وعلى عزم الجمعية تخصيص محل في المعرض الزراعي الصناعي القادم لمعروضات السودان الزراعية والصناعية، وعلى اتصال المدير بالغرف التجارية بمصر والإسكندرية والخرطوم للقيام بما يلزم لهذا الشأن وترتيب رحلة من التجار والزراع للسودان في شهري يناير وفبراير سنة 1935 لدراسة المشروعات الزراعية والتجارية.
كما أن بنك مصر رحب بفكرة وجود فرع له بالخرطوم متى وجد السبل ممهدة لهذا المشروع، وبناء على كل ذلك قامت لجنة الجمعية الزراعية المكونة من حضرات أصحاب السعادة والعزة عبد الحميد بك فتحي ناظر مدرسة الزراعة العليا بالجيزة سابقا، وحضرة صاحب العزة ألفونس بك جريس مدير قسم الزراعة سابقا، وحضرة صاحب العزة فؤاد بك سلطان، وحضرة صاحب السعادة رشوان باشا محفوظ وكيل وزارة الزراعة سابقا، وعبد الحميد أباظة بك، وفؤاد أباظة بك مدير الجمعية - بدراسة كل ما يلزم لتنفيذ الفكرة، وفعلا قد تمت جميع الإجراءات الخاصة بذلك، واشترك فيها مندوبون عن الجمعية الزراعية والنقابة الزراعية العامة والغرف التجارية بمصر والإسكندرية والمنصورة وكبار التجار والزراع ... إلخ، وقد زاد عددهم عن الثلاثين عضوا (كشف الأسماء طيه). وعمل بروجرام للسفر والتنقلات بقطار مخصوص فيه معدات الراحة والنوم والأكل.
وجاء في المحاضرة التي ألقاها حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك المدير العام للجمعية الزراعية الملكية في الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الخميس 25 أبريل سنة 1935 بدار الجمعية الجغرافية الملكية بالقاهرة ما يلي:
كان لي الشرف بأن حاضرتكم في العام الماضي عن رحلتي لأعالي النيل وشرق أفريقيا، وقد كنت سافرت في صباح 7 يناير سنة 1934 بالطيارة من مصر الجديدة للخرطوم فوصلتها مساء اليوم نفسه، واستأنفت السفر في اليوم التالي طائرا أيضا إلى جوبا في حدود السودان القبلي، وفي صباح ثالث يوم كنت في عنتبة وكمبالا، ثم جنجا على شواطئ فيكتوريا نيانزا والبلدة الأخيرة ينبع منها النيل عند مساقط ريبون، وبعد أن تفقدت مزارع القطن في أوغندا وكينيا ركبت الباخرة من ممباسا إلى مقديشو عاصمة الصومال الطلياني التي زرتها سنة 1911 ثم عدن وجيبوتي، وتركت الباخرة عند مصوع مخترقا الإرتريا بالسيارة إلى كسلا حيث بدأت رحلتي السودانية الثانية في العام الماضي، وكانت الأولى في سنة 1911 والثالثة في هذا العام.
وقد ذكرت في ختام كلمتي عن رحلة سنة 1934 ما يأتي:
أن العناية تامة بإعطاء مصر ما يلزمها من مياه الري واستعمال ما يزيد عن احتياجاتها في ري وزراعة أراضي إخواننا السودانيين، ولكن الأحوال «بالسودان» في الوقت الحاضر من الوجهة الاقتصادية والتجارية البحتة ليست على ما يرام، بل يلزم زيادة التعاون والتآزر الزراعي والتجاري (بين مصر والسودان). أما كيف يكون ذلك، فمن الوجهة الاقتصادية البحتة حسب تخيلي الضعيف ليس من الصعوبة بمكان.
ثم عرضت فكرتي بتكوين بعثة مصرية لزيارة السودان لغرض تنمية العلاقات الاقتصادية بين القطرين الشقيقين على حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون رئيس الجمعية الزراعية الملكية، فشمل المشروع بعطفه وتشجيعه، واشتغلنا بدرس الفكرة بعد ذلك في لجنة خاصة شكلت بالجمعية الزراعية الملكية لهذا الغرض، واتصلت بمندوب حكومة السودان في مصر، ثم كان لي السرور بأن قابلت بالإسكندرية في يوليو الماضي دولة رئيس الوزراء إذ ذاك عبد الفتاح يحيى باشا وسعادة السير استيوارت سايمز حاكم عام السودان، وشرحت لكل منهما على انفراد أغراض البعثة وما ينتظر منها من النتائج بين مصر والسودان، فوافق عليها كل منهما، إذ إن ذلك في صالح علاقات البلدين، ثم اتصلت بجناب رئيس الغرفة التجارية السودانية الذي كان موجودا وقتها بالقطر المصري، وتباحثت معه لأول مرة في تفاصيل المشروع وكان يعمل لتحقيق مثل هذا الغرض أيضا من جانبه.
وفي 9 أغسطس سنة 1934 قرر مجلس إدارة الجمعية الزراعية الملكية برئاسة حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون ما يأتي: (1)
إعداد بناء للسودان في المعرض الزراعي الصناعي القادم. (2)
تنظيم رحلة للسودان في شهري يناير وفبراير سنة 1935 مكونة من أعضاء الغرف التجارية وكبار الزراع في مصر. (3)
دراسة مشروع تأليف شركة من أهالي مصر والسودان لمشتري أراض زراعية واستثمارها. (4)
بحث إنشاء فرع للجمعية الزراعية بالخرطوم. (5)
دعوة بنك مصر لإنشاء فرع له بالخرطوم.
وقد نفذ البرنامج بحذافيره حيث تكونت البعثة المصرية ممن يمثلون الجمعية الزراعية وجمعية خريجي الزراعة والنقابة الزراعية العامة والغرفتين التجاريتين بالقاهرة والإسكندرية وكبار الزراع والتجار والأعيان، وفيهم الطبيب والمهندس والحقوقي، ومندوبين عن الصحافة المصرية، ويرافقهم مصور الجمعية للسينما والفوتوغرافية وفراش يساعده وجابوا جميعا أنحاء السودان الشمالية، ووقفوا بأنفسهم على الحالة ورأوا بأعينهم ما كان غامضا علينا، وتحروا الأغراض التي سافروا من أجلها، وبحثوا محتملات كل منها، وكان قيام البعثة من مصر في 25 يناير سنة 1935 عن طريق السويس. ا.ه. •••
وهذه هي الشروط التي وضعتها الجمعية الزراعية وطلبت من كل مسافر قبولها:
أنا ... أقرر ما يأتي: (1)
مبلغ الخمسين جنيها الذي دفعته لمصاريف الرحلة هو قيمة تقدير مصاريف السفر من القاهرة إلى بور سودان - طوكر كسلا - سنار - الأبيض - واد مدني - الخرطوم - وادي حلفا - الشلال - القاهرة، بما في ذلك اللوكندات وعربات النوم والأكل، أما مصاريف المشروبات والطلبات الزائدة عن الترتيبات المعتادة مثل طلب حمام خصوصي في اللوكندات أو عربة نوم مفردة في الباخرة أو في عربات النوم أو أكل مخصوص، فيدفعها المسافر زيادة عن الخمسين جنيها أولا فأولا للوكندات وخلافه. (2)
اجتماع المسافرين يكون بمكتب الجمعية الزراعية الملكية صباح الجمعة 25 يناير سنة 1935 للنقل بعربات ثورنيكروفت وأمتعة المسافرين تنقل بعربات اللوري، ويصير إخطار حضراتهم فيما بعد عن ساعة القيام بالضبط، أما من يريد السفر للسويس مباشرة فيكون على حسابه. (3)
بما أن الرحلة لها حالة خاصة فمن المفهوم أن حضرات أعضاء الرحلة يراعون الظروف المحيطة بها فيبتعدون عن الاشتغال أو المباحثة في الأمور السياسية والدينية؛ لأن الغاية المقصودة من هذه الرحلة هي تنمية العلاقات الزراعية والاقتصادية بين مصر والسودان، ولهذا فإن إلقاء الخطب أو البيانات في الحفلات أو غيرها لا يكون إلا بعد اطلاع اللجنة المنظمة للرحلة على ما سيقال مقدما، وتسليم كل كلمة لحضرة فؤاد أباظة بك. (1) خطاب مسيو كونتو ميخالوس الرئيس الفخري لغرفة السودان
في أبريل سنة 1934 خطب مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم يومئذ ورئيس شرف لها الآن، فقال:
كلكم تعلمون أن جنود الجيش المصري أجلوا عن السودان بسبب الحوادث التي وقعت - لسوء الحظ - في سنة 1934، فكان خروج الجيش خسارة كبيرة أصابت تجارة البلاد، وهذه الخسارة تقدر بمليون جنيه على الأقل في العام ولم تعوض من مورد آخر. وقد جاءت سنوات الرخاء بعد خروج الجيش فلم تشعر البلاد بوطأة حرمانها من هذا المورد إلى درجة خطيرة، وإن تكن المدن التي تشبه الخرطوم بجزى وشندي والأبيض والعطبرة والمراكز الأخرى قد شعرت بالصدمة على أثر وقوعها تقريبا، ولما حلت الأزمة ساءت الأحوال فاضطرت الشركات التجارية، حتى في الخرطوم نفسها، إلى غلق أبوابها، وأخليت دور الأعمال والعمارات، ولا تزال خالية إلى يومنا هذا.
مسيو كونتو ميخالوس رئيس شرف غرفة السودان التجارية.
وكم أود أن أرى المساعي تبذل لزيادة روح التعاون بين مصر والسودان، وفي الإمكان القيام بأول خطوة في هذه السبيل، بإلغاء جميع القيود والموانع بين البلدين، ولست أشك أنه إذا أزيلت القيود التي تمنع المصريين من دخول البلاد فإنه لا يأتي إلى السودان شخص واحد من غير المرغوب فيهم أكثر من ذي قبل، بل يجد المصريون المسالمون الأذكياء طريقهم إلى هنا، فيساعد وجودهم ومصالحهم مساعدة كبيرة على ترقية السودان ورخائه.
وتنفق مصر اليوم بضعة ملايين من الجنيهات على إنشاء خزان جبل الأولياء، وستنفق ملايين أخرى في خلال السنوات القادمة على مشروعات أخرى للري، علاوة على الإعانة السنوية التي تدفعها للمحافظة على النظام.
فلأجل كل هذه الأسباب، ولأجل المصالح الأخرى الكبيرة الموجودة بين البلدين، أرى أن الصداقة وحسن النية أمران جوهريان بالنسبة إليهما. وإني أرجو أن لا يسيء أحد إدراك غايتي، ولا يراني قد تجاوزت حدودي في توجيه هذه الدعوة. ومن حسن حظنا أن حاكمنا العام اكتسب خبرة طويلة بأحوال الشعب؛ سواء في مصر أم في السودان، لذلك تجدونني موقنا بأنه سيفسر ملاحظاتي هذه تفسيرا صحيحا.
وقد علق فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي على هذا الخطاب بأنه لا توجد قيود لمنع سفر المصريين.
تصريحات سير مافي
وفي سنة 1933 صرح سير جون «مافي» الحاكم العام للسودان يومئذ لجريدة «المقطم» بأن مصر سوق طبيعية للسودان «لحاصلاته»، وأن السفر إلى السودان مباح للمصريين، وأنه لا يمنع من السفر سوى العنصر المثير؛ سواء أكان مصريا أم إنجليزيا أم أجنبيا.
زيارات الشيخ أحمد عثمان القاضي
وكان فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير جريدة «حضارة السودان» في أثناء إجازاته الصيفية التي ابتدأت في مصر منذ صيف 1932 في مصر يعنى بحث كبار المصريين والصحفيين على السفر إلى السودان.
لفيف من أعضاء البعثة في ميناء بور سودان في قارب ينظرون في سطح زجاجي قاع البحر العجيب. (2) الجمعية الزراعية الملكية
تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة الملك «فؤاد الأول» ورياسة حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون
أسست الجمعية
1
في 22 أبريل سنة 1898 على يدي المغفور له حضرة صاحب السمو الأمير حسين كامل، وسميت حينذاك بالجمعية الزراعية الخديوية، وفي سنة 1915 سميت بالجمعية الزراعية السلطانية على أثر ارتقاء مؤسسها عرش مصر، فتكون مدة رياسة سموه لها من سنة 1898 إلى سنة 1915. وفي سنة 1925 سميت بالجمعية الزراعية الملكية لوضعها تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر الحالي، ورئيسها الثاني هو المغفور له الأمير كمال الدين حسين نجل المغفور له السلطان حسين كامل، ومدة رياسته لها سنة 1915 إلى يوم وفاته في 6 أغسطس سنة 1932. وقد انتخب حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون رئيسا للجمعية في يوم 3 سبتمبر سنة 1932 خلفا للمرحوم الأمير كمال الدين حسين.
أما أغراض الجمعية الأساسية فهي السعي في تحسين الشئون الزراعية وترقيتها بالقطر المصري بالوسائل المشروعة جميعا وإقامة المعارض الزراعية والصناعية ... إلخ.
وليست الجمعية الزراعية الملكية ملحقة بأية جمعية أو نقابة أخرى، بل لها نظام يكاد يكون فريدا في بابه.
فمع أنها ليست جمعية تعاونية بالتعريف التعاوني فإن اتجاه أغراضها وسير أعمالها يتمشى مع روح التعاون بين الزراع والجمعية.
وهي تتألف من أعضاء أصليين وعددهم 400 عضو، ولهم وحدهم حق الحضور في جلسات الجمعية العمومية السنوية، وأعضاء منتسبين لا حد لعددهم.
وفيما عدا ذلك فجميع الأعضاء؛ أصليين ومنتسبين، متساوون في الحقوق والامتيازات في أثمان ما يشترونه من الأسمدة والبذور ودخول المعارض، وليست لهم حصة أو نصيب في أموال الجمعية ولا في أرباحها أو خسائرها.
ويجتمع هؤلاء الأعضاء مرة في كل سنة بهيئة «جمعية عمومية» تعرض عليها نتيجة الأعمال التي قامت بها الجمعية في خلال السنة والمشروعات التي يقترح مجلس إدارة الجمعية القيام بها.
ويتولى شئون الجمعية مجلس إدارة لا يزيد على اثنين وثلاثين عضوا من أعضاء الجمعية، أربعة عشر منهم يجب انتخابهم من الأربع عشرة مديرية، والثمانية عشر الباقون ينتخبون بناء على معارفهم وخبرتهم.
الرئيس:
حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون.
الوكيل الأول:
حضرة صاحب السعادة سيد خشبة باشا.
الوكيل الثاني:
حضرة صاحب السعادة عيسوي زايد باشا.
وللجمعية لجان فرعية مختلفة؛ وهي: (1)
اللجنة الإدارية. (2)
لجنة الأسمدة والبذور. (3)
لجنة المعرض. (4)
لجنة متحف القطن. (5)
اللجنة المالية. (6)
اللجنة الزراعية. (7)
لجنة تربية الحيوانات. (8)
لجنة القضايا والمطالبات. (9)
لجنة المشروعات.
مركز إدارة الجمعية العام بداخل الحديقة التابعة للجمعية، وهي الواقعة على شارع الخديوي إسماعيل بالجزيرة بمصر، حيث يوجد بها ديوان الجمعية والأقسام الفنية الملحقة بها ومتحف القطن.
وتنقسم أعمال الجمعية إلى أربعة أقسام رئيسية؛ وهي: (1)
قسم الإدارة العمومية والأسمدة والبذور. (2)
الأقسام الفنية. (3)
قسم تربية الحيوانات والطيور. (4)
متحف القطن.
أولا:
قسم الإدارة العمومية والأسمدة والبذور
أهم أعمال هذا القسم هو الإشراف العام على إدارة جميع أعمال الجمعية بوجه عام وعلى توزيع الأسمدة الكيماوية والبذور وإقامة المعارض الزراعية والصناعية ... إلخ إلخ.
ثانيا:
الأقسام الفنية
وهي أقسام تكاثر البذور، تربية النباتات والكيميا والحشرات.
وتقوم هذه الأقسام بتجارب زراعية، ومباحث كيماوية على الأراضي وطرق إصلاحها، وخواص الأسمدة، ودرس طبائع الحشرات ومقاومتها، وطبائع النباتات واستكثار أنواع جيدة منها. وقسم تربية النباتات التابع للجمعية الزراعية الملكية هو الذي ابتكر نوع القطن المعروف باسم «القطن المعرض»، وقد انتشرت زراعته نظرا لصفاته الطيبة ومحصوله الوافر.
ويدير هذه الأقسام أخصائيون في علوم النباتات والكيميا والحشرات والزراعة.
ثالثا:
قسم تربية الحيوانات والطيور
أهم أعمال هذا القسم تربية الماشية والأفراس العربية الأصلية، وتوزيع خيول طلائق لتحسين نسل الخيول بالقطر المصري، وكذلك تحسين أنواع الدجاج، ويوزع هذا القسم الخيول في أنحاء القطر في المدة ما بين شهر أكتوبر وشهر أبريل من كل سنة، وتبقى في البلاد لاستخدامها في الوثب.
ويدير هذا القسم أخصائيون في تربية الماشية والخيول والدجاج.
رابعا:
متحف القطن
للجمعية الزراعية الملكية متحف خاص للقطن تأسس سنة 1923 بناء على اقتراح رئيس الجمعية السابق المغفور له الأمير كمال الدين حسين، ويحتوي هذا المتحف على كل شيء له علاقة بزراعة القطن وصناعته؛ مثل: أنواع الأقطان التي تزرع في القطر المصري، وفي مختلف البلدان الأجنبية؛ الصناعات القطنية وجميع أدوارها من غزل ونسج وخيوط ومنسوجات مع بيان عيوبها؛ الصناعات التي تستعمل فيها الأقطان وبذرة القطن على العموم؛ الآفات والحشرات التي تفتك بالقطن وطرق إبادتها؛ الطرق الحديثة المتبعة لتحسين أنواع الأقطان ونقاوة بذرها وحليجها؛ الأسمدة الكيماوية وما يحسن استعماله منها؛ خرائط عن المناطق العالية التي يزرع فيها القطن؛ إحصائيات ومعلومات فنية ... إلخ.
ويفتح المتحف للجمهور من الساعة 9 صباحا إلى الساعة 1 بعد الظهر يوميا، ما عدا أيام الاثنين والأعياد الرسمية ... والدخول مجانا.
وقد زار هذا المتحف بعد ظهر يوم 26 يناير سنة 1927 حضرات أعضاء مؤتمر الاتحاد الدولي لأصحاب مغازل القطن ومعامل نسجه الذي عقد في القطر المصري من 27 يناير إلى 5 فبراير سنة 1927، وأجمعوا في قراراتهم على أن المتحف المذكور فريد في بابه من كل الوجوه.
أماكن توزيع أسمدة الجمعية وبذورها
توزيع أسمدة الجمعية وبذورها معهود به إلى:
مركز الجمعية بالجزيرة بالقاهرة.
ووكلاء الجمعية بالإسكندرية.
مخازنها في أنحاء القطر وعددها 24.
عملائها بالبلاد وعددهم 249.
حلقات الأقطان وعددها 4.
وقد بلغ مجموع متوزعات الجمعية سنة 1931-1932 من أنواع نيترات الصودا وسوبر فوسفات الجير وسلفات النوشادر وسلفات البوتاسا وسياناميد ونيترات الجير والجبس الزراعي ما ينوف عن 55040 طنا.
رأس مال الجمعية
لما كان لا بد للجمعية من موارد مالية لتقوم بأعمالها خدمة للمزارع المصري فقد اتبعت في تصريف الأسمدة والبذور طريقة تعود عليها ببعض الربح للقيام بحاجتها ولتنمية رأس مالها تدريجيا.
والشطر الأكبر من رأس مال الجمعية من أرباح الأسمدة الكيماوية التي تجمدت عاما بعد عام، وكذلك من الإعانات المالية التي كانت الحكومة تقدمها للجمعية في سنيها الأولى. وقد بلغ رأس مال الجمعية الزراعية الملكية في آخر أكتوبر سنة 1932 (الاحتياطي العام) مبلغ 500000 جنيه مصري، وبلغ قيمة الاحتياطات مبلغ 41456 جنيها و952 مليما، هذا بخلاف الأطيان والمباني ... إلخ، التي تبلغ قيمتها 116076 جنيها و27 مليما حسب قيمتها في 31 أكتوبر سنة 1932، وبلغ الإيراد في سنة 1933 المنتهية في 31 أكتوبر سنة 1934 مبلغ 87745 جنيها و763 مليما، والمصروفات مبلغ 70045 جنيها و209 مليمات، والأرباح مبلغ 17700 جنيه و554 مليما.
وليست لأحد من أعضاء الجمعية حصة في رأس المال المذكور، بل هو ملك مشاع للأمة المصرية موقوف على خدمتها والعمل لصالحها.
رشوان محفوظ باشا رئيس البعثة.
ولد سعادته في يوم 5 أبريل سنة 1883 ميلادية، وتعهده والده المرحوم محفوظ رشوان بك من أعيان الحواتكة، وقد كان - رحمه الله - عضوا بأول مجلس نواب في عهد ساكن الجنان إسماعيل باشا الخديوي، واستمر بعد ذلك عضوا بالجمعية العمومية.
وقد تلقى الباشا أول تعليمه بمكتب قريته الحواتكة من أعمال مركز منفلوط مديرية أسيوط، ثم انتقل إلى مدرسة أسيوط الابتدائية ونال منها الشهادة الابتدائية سنة 1895، ثم التحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية بالقاهرة ونال الشهادة الثانوية «بكالوريا» سنة 1899، ثم التحق بمدرسة الحقوق الخديوية وتخرج منها حائزا لليسانسيه سنة 1903.
بعد ذلك ابتدأت حياته العملية؛ فعين في يوليو سنة 1903 في وظيفة معاون إدارة بمركز الجيزة، فمعاون ضبط مديرية الجيزة، فمأمورا للضبط بمديرية الدقهلية في نوفمبر سنة 1905، فمأمورا لمركز ميت غمر دقهلية في مارس سنة 1910، فوكيلا لمديرية الفيوم في يناير سنة 1914، فوكيلا لمديرية الغربية في أبريل سنة 1914 فوكيلا لمديرية البحيرة في مايو سنة 1915 فمديرا لأصوان في أول فبراير سنة 1916 فمديرا لبني سويف في أغسطس سنة 1917 فمديرا لقنا في يونية سنة 1919 فمديرا للمنوفية في مايو سنة 1921 فمديرا للغربية في ديسمبر سنة 1924 فوكيلا لوزارة الزراعة في مارس سنة 1925 فوكيلا للداخلية في أبريل سنة 1929، فوكيلا للزراعة في أكتوبر سنة 1929، وأحيل إلى المعاش في يناير سنة 1930.
الإعانات المالية
تمنح الجمعية إعانات مالية لبعض الهيئات الزراعية تشجيعا لها على مواصلة أعمالها المتعلقة بالزراعة، وكذلك لبعض الجمعيات الأخرى على سبيل المعونة في أعمالها الخيرية.
وقد منحت أخيرا الهيئات الآتية المبالغ الموضحة؛ وهي:
جنيه
100
النادي الزراعي.
300
النقابة الزراعية المصرية العامة.
100
اتحاد المزارعين.
50
جمعية العروة الوثقى الخيرية الإسلامية.
50
جمعية المؤاساة الإسلامية. (3) أسماء حضرات أعضاء البعثة المصرية (1)
رشوان محفوظ باشا:
رئيس البعثة وعضو مجلس إدارة الجمعية الزراعية (وكيل وزارة الزراعة سابقا). (2)
عبد الحميد فتحي بك:
عضو مجلس إدارة الجمعية الزراعية (ناظر مدرسة الزراعة العليا سابقا). (3)
ألفونس جريس بك:
عضو مجلس إدارة الجمعية الزراعية (مدير قسم الزراعة والإكثار بوزارة الزراعة سابقا). (4)
عبد الحميد أباظة بك:
عضو مجلس إدارة الجمعية الزراعية (مدير الجمعية الزراعية الملكية سابقا ومندوب جمعية خريجي مدرسة الزراعة). (5)
فؤاد أباظة بك:
مقرر البعثة ومدير عام الجمعية الزراعية الملكية. (6)
الدكتور إبراهيم الشوربجي بك:
طبيب الجمعية الزراعية الملكية. (7)
محمود مصطفى علي أفندي:
رئيس قسم التفتيش بالجمعية الزراعية. (8)
إسكندر ناجي:
مصور الجمعية الزراعية الملكية.
من النقابة الزراعية: (9)
يوسف نحاس بك:
سكرتير عام النقابة. (10)
الأستاذ مصطفى نصرت المهندس:
عضو النقابة. (11)
الأستاذ أحمد أبو الفضل الجيزاوي:
عضو النقابة.
من الغرفة التجارية بمصر: (12)
السيد عبد المجيد الرمالي:
سكرتير الغرفة التجارية. (13)
محمد حسين الرشيدي أفندي. (14)
محمد حسن قاسم أفندي. (15)
محمد عبد الرحيم سماحة أفندي. (16)
محمود مصطفى الجمال أفندي - والأربعة تجار وأعضاء بالغرفة.
من الغرفة التجارية بالإسكندرية: (17)
الأستاذ علي شكري خميس:
سكرتير الغرفة. (18)
محمود أبو العلا أفندي. (19)
عبد الرحمن نوفل أفندي. (20)
عبد المجيد السيد محروس أفندي - تجار وأعضاء بالغرفة.
من الغرفة التجارية الإنجليزية بمصر: (21)
المستر سدني ساير.
من كبار الزراع والتجار والصحافيين وغيرهم: (22)
إلياس عوض بك. (23)
عطا عفيفي بك. (24)
الدكتور محجوب ثابت. (25)
إسماعيل بركات بك. (26)
الحاج أمين حجاج الزيني. (27)
الأستاذ السيد حسين عيسى. (28)
أحمد الحناوي أفندي. (29)
الأستاذ فخري لوقا الزق. (30)
المستر حكيم «لم يسافر». (31)
الأستاذ عبد الله حسين المحامي:
مندوبا عن «الأهرام». (32)
الدكتور رياض شمس المحامي:
مندوبا عن «الجهاد». (33)
أحمد حسن قاسم أفندي (مسافر بالطيارة يوم 6 فبراير سنة 1935). (34)
علي أحمد:
فراش الجمعية الزراعية.
وبسبب انحراف صحة حضرة صاحب العزة أحمد حمدي سيف النصر بك نائب رئيس النقابة الزراعية العامة وعضو الوفد المصري ورئيس المجلس الأعلى لاتحاد نقابات العمال، لم يستطع أن يرافق البعثة عند سفرها، وهو ما كان موضع أسف الأعضاء وأهل السودان جميعا، الذين يحبونه حبا صادقا وهو يبادلهم هذا الحب بأضعافه.
محطة الخرطوم. (4) برنامج الرحلة
أذاعت الجمعية الزراعية قبيل السفر ما يأتي:
يكون اجتماع حضرات المسافرين الساعة
مساء الجمعة 25 يناير سنة 1935 في ديوان الجمعية الزراعية بالجزيرة، والقيام يوم الجمعة 25 يناير الساعة 3. السفر من القاهرة إلى السويس بالسيارات في الساعة 3 مساء يوم 25 يناير سنة 1935.
السفر من السويس إلى بور سودان.
مساء الجمعة 25 يناير على مركب شركة هندرسن.
الوصول إلى بور سودان.
صباح الاثنين 28 منه.
زيارة جزء من المسافرين لطوكر وجزء آخر لسواكن وجزء لبلدة بور سودان وأسواقها.
الثلاثاء 29 منه.
السفر من بور سودان.
الساعة 6 مساء يوم الأربعاء 30 منه.
الوصول إلى كسلا.
الساعة 4:15 مساء يوم الخميس 31 منه.
السفر من كسلا.
الساعة 8 من مساء يوم الجمعة أول فبراير.
الوصول إلى القضارف.
الساعة 4:35 صباح يوم السبت 2 فبراير.
السفر من القضارف.
الساعة 0:30 مساء يوم السبت 2 فبراير.
الوصول إلى سنار.
الساعة 11:35 مساء يوم السبت 2 فبراير.
السفر من سنار.
الساعة 11:30 مساء يوم الأحد 3 فبراير.
الوصول إلى كوستى.
الساعة 3:40 صباح يوم الاثنين 4 فبراير.
السفر من كوستى.
الساعة 9:45 صباح يوم الاثنين 4 فبراير.
الوصول إلى تندلتي.
الساعة 0:21 مساء يوم الاثنين 4 فبراير.
السفر من تندلتي.
الساعة 0:32 مساء يوم الاثنين 4 فبراير.
الوصول إلى أم روابة.
الساعة 3:34 مساء يوم الاثنين 4 فبراير.
السفر من أم روابة.
الساعة 4:54 مساء يوم الاثنين 4 فبراير.
الوصول إلى الأبيض.
الساعة 9:45 مساء يوم الاثنين 4 فبراير.
السفر من الأبيض.
الساعة 7:30 مساء يوم الثلاثاء 5 فبراير.
الوصول إلى كوستى.
الساعة 4:50 صباح يوم الأربعاء 6 فبراير.
السفر من كوستى.
الساعة 8 مساء يوم الأربعاء 6 فبراير.
الوصول إلى واد مدني.
الساعة 2:55 صباح يوم الخميس 7 فبراير.
السفر من واد مدني.
الساعة 12 ظهر يوم الجمعة 8 فبراير.
الوصول إلى الخرطوم (زيارات مختلفة في الخرطوم وأم درمان لها برنامج خاص).
الساعة 6 مساء يوم الجمعة 8 فبراير.
زيارة جبل الأولياء.
يوم الأحد 10 فبراير.
السفر من الخرطوم.
الساعة 8 صباح يوم الجمعة 15 فبراير.
الوصول إلى العطبرة.
الساعة 3:30 مساء يوم الجمعة 15 فبراير.
السفر من العطبرة.
الساعة 3:55 مساء يوم الجمعة 15 فبراير.
الوصول إلى وادي حلفا.
الساعة 7:45 صباح يوم السبت 16 فبراير.
السفر من وادي حلفا.
الساعة 9 صباح يوم السبت 16 فبراير.
الوصول إلى الشلال.
الساعة 1:30 مساء يوم الأحد 17 فبراير.
السفر من الشلال.
الساعة 3:30 مساء يوم الأحد 17 فبراير.
الوصول إلى مصر.
الساعة 7:30 صباح يوم الاثنين 18 فبراير.
أعضاء البعثة في ميناء بور سودان عقب نزولهم من الباخرة. (5) المعرض الزراعي الصناعي لسنة 1936
ننشر فيما يلي بيان الجمعية الزراعية عن المعرض:
بدأت لجنة المعرض بالتماس مقابلة حضرة صاحب الجلالة الملك لاستئذانه في إقامة المعرض الزراعي الصناعي القادم وتحديد ميعاده.
وفي الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الثلاثاء 17 أبريل سنة 1934 تشرف بالمقابلة حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون رئيس الجمعية، وحضرات أصحاب السعادة والعزة سيد خشبة باشا وعيسوي زايد باشا وحسن سعيد باشا ورشوان محفوظ باشا وعلي إسلام باشا ومحمود مهنا بك والمسيو بيو بك وفؤاد أباظة بك، أعضاء لجنة المعرض، فاستأذنوا جلالة الملك في إقامة المعرض الخامس عشر بالجزيرة بمصر في أواخر سنة 1935، فتفضل جلالته وأذن للجمعية بإقامته تحت رعايته السامية في ديسمبر سنة 1935 بدلا من أكتوبر سنة 1935؛ نظرا لوجود جلالته في ذلك الوقت بالإسكندرية للمصيف.
وعقب التشرف بالمقابلة السنية قابلت اللجنة حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء طالبة من دولته وحضرات أصحاب المعالي الوزراء مد يد المعونة لمشروع المعرض، وإحاطته بكل وسائل المساعدة حتى يأتي خليقا برعاية حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم، ولائقا بمقام الأمة المصرية وبمكانة الجمعية الزراعية الملكية.
وقد كتبت رياسة مجلس الوزراء إلى جميع الوزارات بتقديم كل معاونة لتمهيد سبل النجاح للمعرض، وقد أجل افتتاح المعرض إلى فبراير القادم سنة 1936. (5-1) إشغال حديقة الخديوي إسماعيل للمعرض
طلبت الجمعية من وزارة الأشغال التصريح بإشغال حديقة كوبري إسماعيل بالجزيرة لإقامة الملاهي والمطاعم والمقاهي بها؛ نظرا لأن أرض الجمعية الحالية سيشغل جزء كبير منها بإقامة سرايتين كبيرتين لتخصيصهما لمعروضات الوزارات والمصالح الحكومية، وقد صرحت الوزارة بذلك.
رغبة من الجمعية في اقتباس ما تقوم بعمله البلاد الأخرى في معارضها الزراعية لزيادة العناية بتحسين المعرض، قد انتدبت الجمعية حضرة حسين فريد بك وكيل المدير العام لزيارة المعرض الزراعي الذي أقيم في أول الصيف الماضي بإيرفروت بألمانيا، وستعمل الجمعية ما يلزم نحو تنفيذ اقتراحاته بما تراه، وقد قدم به تقريرا خاصا.
وانتدبت وزارة التجارة والصناعة حضرة الأستاذ أحمد صادق عفيفي مدير قسم المعارض بالوزارة للمعاونة في إقامة القسم الصناعي بالمعرض، وكذلك ستعاون الغرف التجارية واتحاد الصناع في هذا القسم، وقد انتخبت شركات بنك مصر المكان اللائق لها والمناسب لمعروضاتها. وقد وضع كتالوج للمعرض.
واتجهت الإدارة نحو تحويل إحدى المباني الباقية من المعرض السابق لجعله مصلى لائقة بإقامة الفروض الدينية.
ووافقت إدارة السكة الحديد على الامتيازات الآتية:
تخفيض 50٪ من أجور نقل المعروضات من بلاد القطر المصري إلى مصر وبالعكس.
تخفيض 50٪ من أجور سفر العارضين والعمال.
تخفيض 50٪ من أجور سفر الزائرين.
وطلبت الجمعية من وزارة المعارف التصريح باستلام أرض ملاعب الكرة بالجزيرة لاستعمال جزء منها في إقامة معروضات المدارس الصناعية والزراعية وغيرها التي تشرف عليها وزارة المعارف، والجزء الباقي منها لمعروضات أخرى. وقد وافقت الوزارة على طلبها.
واتصلت الجمعية بوزارة المعارف في صدد موافقة مصلحة التنظيم على عمل شارع بين حديقة الزهرية وأرض ملعب الكرة للوصول به للنادي الأهلي وشارع الجبلاية، فوافقت وزارة المعارف على ذلك.
وقد وافقت مصلحة التنظيم على وضع مواسير من الأسمنت المسلح في قناة وابور مصلحة التنظيم الموجود برصيف شارع الجبلاية بجوار سور الجمعية لغاية سور نادي الألعاب؛ وذلك لغرض تسهيل إيجاد مكان لوقوف العربات المنتظرة.
واتخذت إدارة الجمعية الإجراءات التنفيذية لطرح مناقصة بناء سرايتين لمعروضات الحكومة. وبعد عمل الرسومات بمعرفة حضرة مهندس الجمعية والمقايسات التفصيلية، وعرض ذلك كله على مجلس الإدارة، رسا العطاء لبناء السراي الكبرى على الخواجه بيانكي وشركائه بمبلغ 29500 جنيه، وتعهد المذكورون بإتمام البناء في مدة سنة، انتهت في منتصف أغسطس، وقد نفذ العمل.
أما مدخل المتحف والسراي الصغرى فقد طرحت المناقصة عنها فرسا العطاء على المعلم صيام محمد وشركاه بمبلغ 19500 جنيه ، على أن يتم البناء في تسعة أشهر، انتهت فى منتصف يوليو، وقد انتهي البناء كله الآن.
ولما كانت واجهة سراي الزراعة محجوبة عن شارع المعرض ببناء مظلة الدواجن، وكان المقرر في التصميم الأصلي لتقسيم باقي أرض المعرض المعمول بمعرفة المغفور له الأمير كمال الدين حسين أن ينشأ أمام السراي من الجهة المذكورة حديقة مكان هذه المظلة، فقد نقلت المظلة المذكورة لمكان أنسب.
وعملت كذلك عمليات أخرى مناسبة لقسم تربية الحيوانات.
وعندما تقرر تنفيذ فكرة بناء سراي معروضات الحكومة والمصالح التابعة لها استلزم هذا التنفيذ نقل مظلتين كانتا موجودتين في الأرض المخصصة للأبنية المذكورة، ولما كانت المحلات الباقية لمعروضات الآلات الزراعية غير كافية لذلك نقلت هذه المظلات لاستعمالها في توسيع مكان عرض الآلات الزراعية. ا.ه.
مكتب شركة مصر للسياحة ببور سودان. ويرى عبد اللطيف أبو رجيلة أفندي مدير المكتب وعن يساره فؤاد أباظة بك.
الفصل الثالث
الأسرة الأباظية
لمحة عن أصلها، وكيانها، وتاريخها
نسبها
يتصل نسبها الأعلى مباشرة بالعرب العاربة، وهم بنو قحطان سكان اليمن ومنشئو مدنيتها ودولتها، وهم أرسخ العرب قدما في العروبة وأقواهم شكيمة. ونوجز سرد التسلسل التاريخي مرجعين أساسه إلى المؤرخين المحققين: (1)
من يعرب جد العرب إلى كهلان: فقد انقسم شعب يعرب إلى قبيلتين: حمير وكهلان. والأسرة الأباظية من القبيلة الثانية. (2)
من كهلان إلى جذام: وكهلان تداولوا الملك باليمن، ثم بقيت الرياسة وحدها لبني كهلان «صبح الأعشى، مجلد أول، ص318». (3)
قال ابن خلدون في تاريخه: إن «العائذ» بطن من بطون «كهلان». (4)
وإن العائذ تنسب مباشرة إلى «جذام» «صبح الأعشى، ص318 وما بعدها». (5)
قال الحمداني: «وجذام أول من سكن مصر من العرب حين جاءوا في الفتح الإسلامي مع عمرو بن العاص، فأقطعوا بلادا لا تزال بأيديهم إلى الآن.» «صبح الأعشى، الجزء الأول.» (6)
قال «المقريزي»: إن أهل العائذ فخذ من جذام نزلوا بين القاهرة والعقبة. (7)
جاء في الخطط التوفيقية «جزء 14 ص3» أن العائذ نزلوا في بلاد قديمة ببلبيس فاستولوا على أرضها ومزارعها واستخدموا من بقي من أهلها بما لهم من البأس والقوة. وكان كبيرهم شيخ العرب - إبراهيم العائذي جد الأسرة الأباظية - متكلما على القبيلة في زمن الفرنسيين ، وكان ورودهم في القرن السابع من الهجرة. ومن أشهر أسر قبيلة العائذ «الأباظية». وكبيرهم حسن توفي سنة 1265 هجرية.
فيكون إذن تسلسل نسب الأسرة الأباظية هكذا: حسن أباظة - إبراهيم العائذي - جذام - كهلان - يعرب - كما ورد في الكتب سالفة الذكر.
وتكون الأسرة قد هبطت أرض مصر في أول القرن السابع من الهجرة؛ أي يكون لهم بمصر للآن حوالي ثمانمائة عام ...
لفظ أباظة
أما هذا اللفظ الذي غلب على لقب «العائذ» فيرجع سببه إلى أن الجد الأكبر تزوج من شقيقة أحد المماليك الحاكمين، وكان من قبيلة أباظة الشركسية الممتدة بالنفوذ في بلاد الشركس - القوقاز - فلما أنجبت «حسن» لقبوه بابن الأباظية نسبة إلى الأم، فغلب اللقب الذي جرى به عرف تلك الأيام على لقب العائذ.
كيف خرجت الأسرة من طائفة العرب
إن مؤسس الأسرة المباشر هو «حسن أباظة» الكبير، ملك أطيانا عديدة وعقارات كثيرة، وكان ذلك التملك مما لا يسمح به لأبناء العرب. قال العالم الكبير علي مبارك باشا: «وكان الأباظية قد خولهم الله عقارات وأموالا فخيرهم محمد علي الكبير بين معافاتهم في أن يعاملوا معاملة العرب بشرط أن ينزع ما تحت أيديهم من الأراضي، وبين أن يعاملوا معاملة الفلاحين ويبقى لهم ما تحت أيديهم. فاختاروا الفلاحة.» «جزء 14 ص3.»
حسن أباظة:
كان المؤسس الأول على ما نعتقد. كان رجلا كبير الذهن واسع الحيلة فساد إقليما بأسره، أو كما قال فيه علي مبارك باشا: «هو الأمير الجليل ذو المجد الأثيل حسن أباظة. كان جوادا كريما ... إلى آخره.» له معارك طريفة مع «محمد علي الكبير». ولكن كان مؤسس العائلة العلوية يحبه ويكرمه لكبر سنه ويميزه عن غيره من رؤساء العشائر، وقد خلف لذريته ثروة طائلة ورسخ أقدامهم في الشرقية ...
السيد أباظة باشا:
الابن الأكبر لحسن أباظة. أول من نال رتبة الباشوية من أبناء العرب. وصاحب هذه الرتبة الوحيدة في الوجه البحري صديق حميم لسعيد باشا. تنقل مديرا للأقاليم ، ثم تربع في منصب له خطره ومكانته وسعة نفوذه إذ ذاك، وهو «مفتش الأقاليم»، فامتدت سلطته إلى الوجهين القبلي والبحري، ثم كان من المغضوب عليهم في حكم «عباس الأول» وصدر الأمر بإعدامه، ولكن كان يوم التنفيذ هو يوم اغتيال عباس الأول فنجا ... كان أديبا وشاعرا.
سليمان أباظة باشا:
شقيق السيد أباظة باشا. تولى حكم الأقاليم مديرا، ثم عين وزيرا للمعارف، وانتخب الوكيل الأول لمجلس النواب الأول، وألقى خطبة الافتتاح ممثلا للشعب فكانت من أكثر الخطب تطرفا، وقد نشرها أمين الرافعي بك - رحمه الله - كاملة، ونصح المغفور له توفيق باشا نصحا خالصا فلم تقبل النصيحة، واضطهد في عهد «إسماعيل» اضطهادا عنيفا، وكاد ينفذ فيه حكم الدنيا ولكن رحمة الله أنقذته في آخر اللحظات. عرف بجبروته وشدته. وكان شاعرا له في الوقائع المصرية آثار تشهد باطلاعه.
أحمد أباظة باشا:
الزعيم التالي وساعد الحركة العرابية الأيمن، سجن من ضمن مسجوني الثورة، وظل ثابتا على مبدئه.
عثمان بك أباظة:
من زعماء الأسرة. كان حلو الشمائل، عذب الحديث.
إسماعيل أباظة باشا:
كان من أقطاب السياسة والصحفيين المبرزين، ونائبا من النواب الذين حسموا أدق مواقف التاريخ المصري ببراعته وكياسته ودهائه وجرأته، ثم كان مستشار الخديوي الأسبق، نصحه أصدق النصح في الحرب العظمى فلم يصغ لوحي بعد نظره وحدث ما حدث. والكلام عنه يطول. بدأ حياته موظفا، فمحاميا، فنائبا في مجالس الإقليم النيابية، فنائبا في مجلس شورى القوانين والجمعية التشريعية حتى سنة 1913، وأسس جريدة «الأهالي» فعرفت بحملاتها القاسية على «كرومر»، وتعرض للمحاكمات. والخلاصة أنه كان حركة لا تكل ولا تمل، وطرازا من رجال السياسة القليلي النظير. وحين توفاه الله رثاه الخديو الأسبق بأفضل رثاء في الأهرام، ورثاه الزعيم سعد زغلول أبلغ رثاء في مجلس النواب رغم مخالفة ذلك التقاليد البرلمانية، وأقيمت له حفلة التأبين الكبرى في «الأوبرا» برياسة رشدي باشا، فسمع الناس من العظماء تاريخه مفصلا تفصيلا ...
ونجمل أدواره بكل اختصار فيما يلي: (1)
ولد سنة 1271ه، وتخرج من مدرسة الإدارة «الحقوق» سنة 1875 ميلادية، واشتغل بالوظائف وبالمحاماة. (2)
أنشأ جريدة الأهالي في سنة 1894، ثم طاف كاتبا بيانه «بيان لا بد منه» في جرائد المؤيد، واللواء، والأهرام. وهاجم رياض باشا ومصطفى فهمي باشا وكرومر. (3)
في دور النائب يلقبه المؤرخ المحقق أحمد شفيق باشا «بكليمنصو مصر!» دعك من المجالس الإقليمية وانتقل بنا إلى مجلس شورى القوانين حيث انتخب نائبا في سنة 1896، وكان بحق زعيم المجلس كله. ومعاركه التي ربحها في نيابته الطويلة تناولت حق سؤال الوزراء، علنية جلسات مجلس شورى القوانين، اللغة العربية في المدارس، مقاومة قانون المطبوعات، ثم نضاله المعروف به في مشكلة قناة السويس.
1
ثم سافر على رأس وفد مصري لإنكلترا في سنة 1908، فأثار حملة على الحكم الإنجليزي في مصر، أحدث أثرها السريع في أروقة مجلس العموم وفي جلساته البرلمانية بطلب الحكم النيابي وإلغاء الامتيازات.
وهو صاحب فكرة رحلة الخديو عباس سنة 1914 في الأقاليم قبل الفاجعة، ثم ختم حياته السياسية بجهاد صحفي عنيف إلى أن سجل مجلس النواب في 14 يناير سنة 1927 رثاء بليغا لصديقه الزعيم سعد زغلول - وكذلك في مجلس الشيوخ خلافا للتقاليد.
محمد أباظة باشا:
الزعيم التالي. ولد سنة 1864، وتعلم التركية والعلوم الأخرى، وانتخب في سنة 1894 عضوا في لجان تعديل الضرائب، فوضع أساسها بخبرته وتجاربه فكانت الأساس المالي لمصر حتى يومنا هذا، وانتخب عضوا بمجلس مديرية الشرقية من سنة 1896 إلى سنة 1913 بالتوالي. سافر مع الوفد المصري المشار إليه في سنة 1908 إلى إنكلترا. انتخب في سنة 1913 عضوا بالجمعية التشريعية وظل بها حتى ألغيت. وانتخب نائبا بمجلس نواب سنة 1925.
وكان - رحمه الله - رب أسرة وزعيم أسرة، واشتهر بالكرم والجود وبمساهمته في الجامعة المصرية وفي الأعمال العامة.
وكان وثيق الصلات بأسر القطر المصري الكبرى وبكل أقطابه. وكم شهدت «الربعماية» موطن الأسرة بالشرقية أسواقا سياسية وأدبية واجتماعية، ولعل من أهمها دعوته للوزراء الإنكليز - العمال - في سنة 1929، حيث توفي فرثته الجرائد الكبرى كلها أجل رثاء ...
وقد ورث عنه نجله «سليمان نجاتي أباظة بك» عضو الشيوخ السابق - رحمه الله - في سنة 1930 زعامة الأسرة، وهو كشقيقه من البارزين.
من تقاليد الأسرة الأباظية (1)
الروح الرياضية:
أسرة رياضية بأوسع المعاني الرياضية. الرياضة يتوارثها الشبان عن الشبان. كان المرحوم نجاتي أباظة بطل القطر كله في المسابقات والجمباز، وبطل كمبردج، الجامعة الخالدة في إنكلترا ...
وسجلت الملاعب المحلية والدولية العالمية أسماء: السيد أحمد أباظة - السيد خليل أباظة - المرحوم محمود أباظة - السيد نجاتي أباظة - فؤاد أباظة (بك ...) - فكري أباظة - الدكتور محمود أباظة (شارة جامعة أدنبرة).
وشغلت الجرائد الإنكليزية والمجلات الخارجية في سنتي 1916، 1917 بأخبار فريق الكرة الأباظي الذي هزم القطر كله رياضيا! فكان أعجوبة من الأعاجيب أن تخرج الأسرة فريقين للكرة من أبنائها وحدها! (2)
المجالس النيابية:
احتكرت الأسرة الأباظية كامل مقاعد مجلس مديرية الشرقية عدة سنوات ولجان الشياخات، وهذا عجيب في بابه، ثم تسللت إلى مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية لغاية سنة 1913، فكان من أعضائها البارزين: إسماعيل أباظة باشا، عبد الله أباظة بك، صادق أباظة بك. ثم تسللت إلى مجلس النواب والشيوخ سنة 1924 إلى 1930 فكان من أبرز أعضائها النواب: عبد الله سليمان أباظة بك، سليمان نجاتي أباظة بك، محمود إسماعيل أباظة بك، الأستاذ دسوقي أباظة «وكيل مجلس النواب السابق»، الأستاذ فكري أباظة، الأستاذ إسماعيل نجاتي أباظة، الأستاذ سليمان إسماعيل أباظة، الأستاذ عزيز محمد أباظة ومحمد باشا عثمان أباظة. وعذرا إذا لم يعن بالترتيب ...
ولهم في تلك المجالس المتعاقبة جولات وحملات سجلتها المضابط.
البعثات والمؤتمرات
وتسللت الأسرة إلى البعثات العالمية الحكومية، وفي المؤتمرات العامة: اشترك الأستاذ دسوقي أباظة في مفاوضات سنة 1921 مع عدلي يكن باشا. وفؤاد أباظة بك، والمرحوم محمود أباظة بك مدير البساتين إذ ذاك، ونجاتي أباظة بك وكيل مصلحة الأملاك في المؤتمرات الدولية في أمريكا وأوروبا نيابة عن الحكومة المصرية ...
الوظائف
تحتل الأسرة الأباظية من زمن المناصب الكبيرة: وزراء، ووكلاء وزارات، ومديري عموم، ومديرين ومديري شركات، وكبار موظفين إلى اليوم. والسرد يطول وهم - بحمد الله - في كل مصلحة بلا استثناء ...
الحياة العامة
وقد ساهموا في الحياة العامة: فهذا الأستاذ دسوقي أباظة من الكتاب الأدباء «الغزالى» ومن رجال الحزب الوطني إبان نهضته الأولى، وكان من رجال الأحرار الدستوريين، وهو اليوم مستقل. وهذا فؤاد أباظة بك المدير العام للجمعية الزراعية وروح البعثة المصرية للسودان ومنظم المعارض وعضو في أكثر من عشرين شركة وهيئة وجمعية. وهذا الأستاذ عبد الله فكري أباظة مدير شركتي الحليج والملاحة ببنك مصر ورئيس نادي التجارة العليا ومنشئ الشركات الاقتصادية واليد العاملة في كل عمل عام. وقبل هؤلاء جميعا كان عبد الحميد أباظة بك مدير الجمعية الزراعية، عمل في تأسيسها وحياتها. وغيرهم في الطب والزراعة والهندسة والكهرباء والمحاماة والتجارة والتعليم؛ بحيث كان متخرجو الأسرة وحملة الشهادات ممن ملأوا مقاعد الحكومة والحياة الحرة من زمن طويل بمحصول وافر يتزايد عاما بعد عام ...
عدد أفراد الأسرة
أجري إحصاء لهم فبلغ ثمانية آلاف نفس. ولهم أقارب في الشام وفلسطين والحجاز واليمن، وهي بلا جدال أكبر الأسر المصرية في وحدتها وعدد أفرادها.
أعضاء البعثة على سطح الباخرة بالبحر الأحمر بعد سفرها من السويس إلى بور سودان، ويرى من اليسار: محمد حسين الرشيدي. عبد الله حسين. فخري الزق. علي شكري خميس. رشوان محفوظ باشا. عبد الحميد فتحي بك. عبد المجيد الرمالي. فؤاد أباظة بك. محمد حسن قاسم.
فؤاد أباظة بك - ترجمة حياته
هو فؤاد أباظة بن حسين أباظة بك بن السيد أباظة باشا، ولد ببلدة كفر أبو شحاتة مركز منيا القمح بمديرية الشرقية في 23 يوليو سنة 1890، وحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة النحاسين سنة 1903، وشهادة البكالوريا من المدرسة الخديوية سنة 1906، ودبلوم مدرسة الزراعة بالجيزة سنة 1909، وألحق بخدمة الجمعية الزراعية الخديوية (يومئذ) في 15 يوليو 1909، وكان رئيسها سمو الأمير حسين كامل، وتقلب في وظائفها وعين مساعدا بفرع الجمعية بمديرية الشرقية في أول نوفمبر في السنة نفسها، ثم سكرتيرا زراعيا لمديرية الجيزة في أول مايو سنة 1910، ثم كبيرا للمفتشين في أول يونية 1911، ثم رئيسا لقسم التجارة في أول مايو 1912، ثم سكرتيرا عاما للجمعية الزراعية في 22 يونية سنة 1914، ثم مديرا للجمعية الزراعية في سنة 1923، ومديرا عاما سنة 1935. وكانت تسمى الجمعية الزراعية الخديوية منذ تأسيسها في سنة 1898 حتي سنة 1917، حيث سميت الجمعية الزراعية السلطانية. وفي سنة 1923 سميت الجمعية الزراعية الملكية .
وعندما تولى المغفور له السلطان حسين مؤسس الجمعية ورئيسها الأول عرش السلطنة في ديسمبر سنة 1914، خلفه نجله في رياسة الجمعية المغفور له الأمير كمال الدين حسين، ولما توفي إلى رحمة الله في 6 أغسطس 1932 خلفه في رياسة الجمعية حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، وكان سموه وكيلها الأول منذ تأسيسها.
وفي سنة 1911 انتدب «دولة الأمير حسين كامل» فؤاد أباظة أفندي بالاشتراك مع «دولة الأمير أحمد فؤاد»، وهو جلالة الملك بعد ذلك، للسفر للصومال الإيطالي لبحث الأحوال الزراعية هناك واحتمالات زراعة القطن على جوانب نهر ألوبي شبالي، وعند عودته لمصر زار مصوع وأسمرا بالإريتريا، وبور سودان وعطبرة والخرطوم وأم درمان بالسودان. وهذا ما دعاه إلى القيام برحلة بالطائرة في 7 يناير سنة 1934 إلى بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل، ثم التجوال في أوغندا وكينيا ومقديشو عاصمة الصومال الطلياني حتى نهر ألوبي شبالي، ثم الإريتريا والسودان للمرة الثانية، حيث شاهد أعمال بناء خزان جبل الأولياء، وزار منطقة زراعة القطن بالجزيرة وخزان أصوان، وكل ذلك لجمع مشاهدات عن زراعة القطن في وادي النيل، حيث قدم مذكرته عن رحلته هذه للجنة القطن الدولية المشتركة المنعقدة بالقاهرة في 17 و18 و19 فبراير سنة 1934.
وكانت من نتائج رحلته الثانية إلى السودان وأعالي النيل أن تمت رحلة البعثة المصرية للسودان في 24 فبراير سنة 1935، وكان نجاحها فوق كل تقدير.
وقد أنعم السلطان حسين كامل على فؤاد بك بالبكوية من الدرجة الثانية في ديسمبر سنة 1916، وأنعم حضرة صاحب الجلالة الملك أحمد فؤاد عليه بالبكوية من الدرجة الأولى في مايو سنة 1926 على أثر إقامة الجمعية الزراعية الملكية للمعرض الزراعي الصناعي في أوائل سنة 1926، وبنيشان إسماعيل من الطبقة الثالثة سنة 1931 على أثر إقامة المعرض الزراعي الصناعي في أوائل تلك السنة، وكان فؤاد بك مديرا للمعرض.
ومنحت الجمهورية الفرنساوية فؤاد بك نيشان الليجون دونير سنة 1929؛ اعترافا بجهوده في إقامة المعرض الفرنسي بالقاهرة في تلك السنة.
وعرف فؤاد بك من حداثة سنه بروحه الرياضية. ويضيق المكان عن تعداد أعماله في الأوساط والهيئات والأندية الرياضية.
كما أنه عرف شغوفا بالأسفار؛ فبينما تراه في القاهرة إذا به بالإسكندرية، وإذا به في روما، ثم تسمع به فجأة في السودان أو في عدن، وتسمع أنه في مجاهل إفريقية. وهو ديموقراطي وصريح وواقف على أصول الإتيكيت، وهو صحفي بروحه وبتحريره مجلة الفلاح. وقد زار النرويج والسويد والشام وإستامبول.
وقد حضر مؤتمرات كثيرة بالخارج وفي القاهرة، وبذلك أصبحت روحه دولية، مما أفاده كثيرا في حياته العملية وإدارته لشئون الجمعية الزراعية الملكية. وله أصدقاء كثيرون من جميع الطوائف والبلاد.
وقد تزوج فؤاد أباظة بك في 20 يناير سنة 1916 من ابنة خاله المرحوم محمد فخر الدين بك، فأنجب قدري أباظة في 23 يوليو سنة 1917، ويسري أباظة في 29 أبريل سنة 1919.
الأستاذ فكري أباظة المحامي والصحفي
محمد فكري أباظة المحامي ورئيس تحرير المصور.
هو زميلنا الكاتب المتفنن المبدع، صاحب القفشات، ومسدد الوخزات، ومبتكر الأسلوب الخاص الرقيق. وهو الخطيب المتحمس، والمنافح المتنمر، الهادئ في ثورته، الثائر في سكينته، وهو مع هذا محبوب من الجميع لأدبه ووفائه لأصدقائه من جميع النحل والمذاهب حتى لا يكاد الناس يعرفون أنه من رجال الحزب الوطني أو أنه شقيق فؤاد أباظة بك.
عبد الحميد أباظة بك
المدير السابق للجمعية الزراعية الملكية، وكان في البعثة يمثل خريجي الزراعة. رجل كريم، ديموقراطي في أوسع معاني الديموقراطية «البلدية!» وهو من القائلين: اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب. حركة واسعة. كان وكيلا للملك الشريف حسين ولغيره من أمراء مكة وأشرافها، وبالرغم من مجتمعاته وجولاته، فهو يعشق المعيشة القروية ويحب الفلاحين، محب للأسفار الفجائية غير الانتظارية، يظهر فجأة ويختفي فجأة!
عبد الحميد أباظة بك.
عبد الحميد بك فتحي
ولد في بلدة ههيا شرقية في 12 جمادى الأولى سنة 1276 هجرية الموافق 20 أغسطس سنة 1869.
عبد الحميد بك فتحي.
أتم الدراسة الابتدائية بمدرسة عابدين والقربية، والدراسة الثانوية بمدرسة الخديوية سنة 1889، وفي هذه السنة افتتحت مدرسة الزراعة بالجيزة فالتحق بها في سنة 1894. نال دبلوم المدرسة وعين مساعد مدرس بها. وفي سنة 1909 عين وكيلا للمدرسة، وفي أول أبريل سنة 1915 عين مديرا للتعليم الزراعي بوزارة الزراعة «يومئذ»، ثم أضيفت إليه أعمال وكالة مدرسة الزراعة بالجيزة علاوة على وظيفة مدير التعليم الزراعي في نوفمبر سنة 1915، ثم عين ناظرا لمدرسة الزراعة العليا بالجيزة سنة 1924، وهو أول ناظر مصري عين لها، وقد أنعم عليه بجملة رتب؛ أعلاها رتبة البكوية من الدرجة الأولى، ونيشان النيل الرابع.
ثم أحيل إلى المعاش في أغسطس سنة 1930، وهو الآن عضو مجلس إدارة الجمعية الزراعية الملكية، وعضو مجلس إدارة مدرسة الطب البيطري، وعضو اللجنة الإدارية لجمعية خريجي مدرسة الزراعة بالجيزة.
ألفونس جريس بك
تلقاه فتشعر بأنه رجل وقور، وتظنه من رجال القضاء، وهو زراعي فني ذو رأي صائب، كان مديرا لقسم المباحث الزراعية بوزارة الزراعة، وهو عضو بمجلس إدارة الجمعية الزراعية.
الدكتور إبراهيم الشوربجي بك عن يمينه الشيخ البربر.
من خريجي الطب المصرية وكليات الطب بإنجلترا وإرلندا. متخصص في أمراض النساء، كبير أطباء السكة الحديد وطبيب الجمعية الزراعية الملكية، ذكاؤه لامع، ومجتمعاته محبوبة، حلال المعضلات، شديد التوافي لأصدقائه، يؤثر البساطة والقصد في الحديث مع الروية، طبيب مطمئن لا مهوش!
الفصل الرابع
النشاط الاقتصادي
(1) النقابة الزراعية المصرية العامة
أسست في سنة 1921 بحضور جمهور كبير اجتمعوا للدفاع عن مصالح الزراع، وانتخب حضرات أعضاء مجلس إدارتها من بينهم.
وهذه خلاصة صغيرة جدا من أعمالها التي تملأ القرارات الصادرة منها بعد البحث المستفيض، مجلدين كبيرين، وتملأ تفاصيل تلك الأعمال مجلدات كثيرة موجودة في محفوظاتها، إذ كان يستغرق البحث في كل موضوع من المواضيع التي اهتمت بها اجتماعات كثيرة، ويشتمل على ما يصعب إحصاؤه من المطالعات والمراجعات والمداولات.
وقد أوجدت النقابة منذ تأسيسها روح الكفاح عند الشعب عن قطنه وسائر محصولاته، تفاديا من أن تباع سلعه بخسة، واستخدمت لذلك تارة طريقة الوساطة لدى الحكومة في تبيين مواضع العلل لتداركها، وتارة طريقة النصح للزراع والدلالة على وجوه الصواب مما فيه جلب خير لهم أو درء شر عنهم.
كان أول عملها في سنة 20-1921 أنها توصلت بمداولاتها ومساعيها لدى الحكومة إلى أهم الأمور الآتية؛ وهي: إقرار تكليف البنك الزراعي فتح أبواب التسليف لصغار الفلاحين من غير إخلال بقانون الخمسة الأفدنة، والإيعاز إلى البنك الأهلي بإقراض كبار الزراع بضمان الخزينة، على أن لا يضطرهم إلى بيع أقطانهم، ودخول الحكومة سوق القطن شارية في داخلية البلاد وفي ميناء البصل، ووقف إنفاذ قانون الحلج قبل 30 أبريل مؤقتا. فكان من أثر هذه القرارات نهوض سعر القطن من 18 ريالا إلى 28 فما فوق، وإنقاذ البلاد من كارثة اقتصادية كانت شديدة التهديد لها.
وما زالت منذ عشر سنين توالي مباحثها في أسعار القطن يوما بيوم ولا تنقطع عن الاتصال بالحكومة لإبلاغها كل ما يطرأ من الأمور الموجبة لاتخاذ الحيطة أو دفع المحذورات، وهي تدعو كلما أنذرت الحالة بخطر إلى اجتماع عام كبير للزراع. وقد بلغت هذه الاجتماعات العامة أربعة، فكان الذين يشهدونها ينظرون في الوسائل التي تتفادى منها الأزمات، وترفع نتائج قراراتهم وأمانيهم إلى الحكومة، وتنشر في الصحف على أثر كل اجتماع.
وقد مثلت النقابة مصر حكومة وشعبا في المؤتمر القطني العالمي الذي عقد في مانشستر وليفربول بين 13 و21 يونية من سنة 1921، حيث ناب عن وزارة الزراعة وعن النقابة عضوان من مجلس إدارتها في حضور ذلك المؤتمر، وأسمعا الغزالين لأول مرة صوت مصر ومطالبها ودلا على وسائل حسن التفاهم بين المنتجين المصريين والغزالين، وهي التي قامت بقسم ذي بال في أعمال المؤتمر القطني العالمي الذي عقد في القاهرة سنة 1927 والمؤتمر القطني العالمي الذي عقد في برشلونة سنة 1930. ومن أعضائها من يعمل بكل جد ومثابرة في لجنة القطن الدولية المختلطة التي ألفها اتفاق الرأي في المؤتمر لدراسة كل حالة توطد بها الصلات وتزال منها وجوه الخلاف بين المنتجين والغزالين.
النقابة ناضلت في مسألة التنافس على شحن القطن المصري سنة 1920 وسنة 1921 نضالا مشهودا، كان من نتيجته هبوط أجر القطن المشحون من 60 شلنا لأمريكا إلى 35 شلنا لإنجلترا و40 شلنا لأمريكا.
النقابة والت مساعيها لتقليل الوسطاء بين منتجي القطن وغزاليه، فلم تظفر بتحقيقه مباشرة، ولكنها فازت فوزا كبيرا من طريق آخر برد الأرباح الطائلة التي كان يغنمها الوسطاء إلى أرباح معتدلة. ومن هذا القبيل نذكر أهم وسيلة استخدمتها وهي الآتية:
النقابة درست أحوال بورصة العقود وأحوال بورصة البضائع، وتباحثت فيه سنوات كثيرة في عشرات من الجلسات، وقدمت عنها مذكرات ضخمة وافية للحكومة، وظلت تتعقب أنواع الحيف الواقعة فيها على المنتج حتى أفضت إلى إقناع ولاة الأمور بضرورة تعديل لائحتي البورصتين المذكورتين، وفي خلال العمل على تعديلهما كانت النقابة توالي معاونة الحكومة في دراسة تلك المواضيع من وجهاتها العلمية والعملية الدقيقة، وتدل على مظنات الخطر حتي يسر الله تحقيق تلك الأمنية بعد العناء الذي لم ينقطع مدة العشر سنوات.
النقابة سعت مساعي متكررة، بعد تقديمها مباحث ومذكرات متعددة، لتعين مندوبا للحكومة في بورصة ميناء البصل، وقد تقرر وعين في النهاية. وأهمية هذه الرقابة لمصلحة المنتجين لاتخفى.
النقابة سعت وكررت القرارات والالتماسات في تخفيض أجور النقل بالسكة الحديدية على المنتجات الزراعية، وقد تحقق جانب مهم من أمانيها.
النقابة بدأت المباحث في مسألة نقاوة بذرة القطن، فلما اقتنعت بها وزارة الزراعة وشرعت في الأخذ بها. كان لمندوبي النقابة عمل متصل جليل الأثر فيما أعدت لذلك من القوانين التي يجني القطر الآن فوائد جمة منها.
النقابة سعت لخفض السعر المقرر للحليج بعد أن كان قد جاوز في الغلاء حد المعقول منذ سنة 1921، فاستمعت لها المحالج الوطنية آنئذ وأنزلت السعر إلى نصف ما كان عليه، وقد ظلت النقابة عاما بعد عام تكرر مجهودها لذلك كلما آنست مسوغا.
النقابة بذلت أكبر مجهود عندما شرع في فرض الضريبة الأمريكية على القطن الطويل الشعرة، وقدرها سبعة دولارات على القنطار لتحول دون إقرار تلك الضريبة، فاجتمعت بحضرات ممثلي الولايات المتحدة في القطر وأدلت لديهم بحججها، وبعثت بالبرقيات الكثيرة الكلفة وبالتقارير الوافية والبيانات إلى الصحف الكبرى والغرفة التجارية العليا في واشنطن، وإلى رياسة اللجنة المالية بمجلس شيوخ الولايات المتحدة، وإلى جميع الغزالين الأمريكيين الذين يشتغلون في القطن المصري، وكان من حسن الطالع أن عدل عن تلك الضريبة في المرة الأولى.
فلما فكرت فيها حكومة الولايات المتحدة للمرة الثانية منذ عامين، بذلت النقابة مجهودا كالأول لإقناعها بالإقلاع عنها، وتوسلت لحكومتنا المصرية التي فعلت ما في وسعها لدرء ذلك الحيف، وما زالت تعمل له.
النقابة كررت مساعيها لدى الحكومة بعد هبوط سعر القطن إلى إلغاء ضريبة الخمسة والثلاثين قرشا التي فرضت على كل قنطار يباع من القطن المصري، وقد فازت على توالي السنين بتخفيض بعد آخر في تلك الضريبة، فأصبحت عشرة قروش في هذا العام ثم ألغيت.
النقابة هي التي بمباحثها وتكرار مساعيها أقنعت الحكومة بضرورة إلغاء البيع تحت القطع، فوضعت لذلك مشروع مرسوم، ولكن محكمة الاستئناف المختلطة عاقت صدوره إلى الآن مع ما له من النفع العظيم للمنتجين.
النقابة بدأت منذ تأسيسها المباحث والمساعي لتقرير التسليف الزراعي، وقد وافقتها عليه الحكومة المرة بعد المرة حتى انتهت إلى تأسيس البنك الذي خصته بهذا العمل، وكم من اقتراح مفصل رفعته إليها النقابة لتحقيقه.
النقابة آزرت بمباحثها ومساعيها زراع قصب السكر تارة وزراع البصل طورا، بما يتسنى معه تحسين حالهم لضمان تنويع الزراعة في القطر بما في الوسع.
النقابة عملت غير مرة مع منتجي الغلال، وعاونتهم ما تستطيع على التماس إقرار الحماية الضرورية لهذه المحصولات في البلاد، وقدمت في ذلك المذكرات والبيانات المقنعة، وآخر ما رفعته منها وباحثت أولي الأمر فيه كان في الأشهر الثلاثة الأخيرة.
النقابة طالبت منذ عام 1922 بإنشاء الجمعيات التعاونية وبينت في مذكرات مفصلة فوائدها إلى أن شرع في تأسيسها.
النقابة رفعت الاقتراحات المتعددة في التماس المؤازرة على تأسيس مغازل القطن وتبين وجوه منافعها للبلاد مما بدأ يتحقق عمليا في هذا العام على مد الشركة التي وفق بنك مصر إلى تأليفها والمصنع الذي أقامه في المحلة الكبرى.
النقابة بحثت وناضلت سنين متوالية في مشكلة الرطوبة القطنية إلى أن حلت أخيرا.
النقابة التمست المرة بعد المرة تحديد الزمام القطني حين قضت به ضرورة الدفاع عن سعر المحصول، وقد قدمت في ذلك مذكرات متضمنة صنوف البيانات المقنعة.
النقابة رفعت إلى الحكومة في السنتين الأخيرتين ما أفضت إليه مباحث أعضائها والزراع الذين لبوا دعوتها من الوسائل المقترحة لتخفيف ويلات الكارثة الاقتصادية الحاضرة، وقد شهدت بارتياح موافقة الحكومة على معظمها.
النقابة عملت على استصدار قانون بمنع خلط القطن في داخلية البلاد، وبعد أن تبينت عدم كفايته لما علمته من مندوبيها المتصلين بالغزالين اقترحت استصدار قانون آخر بمنع خلط القطن في المكابس، وكررت فيه مساعيها، وما زالت على أمل بإنفاذه ولو عاقته محكمة الاستئناف المختلطة إلى الآن.
النقابة اقترحت كبس القطن المخزون لدى الحكومة كبسا بخاريا لصونه من التلف وتقليل نفقاته. وقد أجابت إليه وزارة المالية.
النقابة بدأت منذ سنة 1923 في الدعوة لإنشاء بورصة الغلال، وقد أخذت أمنيتها تتحقق، وستفتح هذه البورصة في 15 مايو المقبل.
النقابة بدأت منذ سنة 1924 مباحثها في حقيقة مركز القطن السكلاريدس لدى عالمي الصناعة والتجارة، وفيما ينبغي لمصر أن تعتمد عليه من جهة هذا الصنف الممتاز، واستحضرت إذ ذاك بيانا لجميع المنتجات الصناعية التي يدخل فيها، كما أن النقابة هي التي نبهت الحكومة والزراع في العام الماضي إلى ما طرأ من قلة الطلب على الأقطان الجيدة، وكررت الرجاء أن تستخدم الحكومة وسائلها في الخارج لتبين حقيقة هذه الحالة ومعرفة المقدار الذي تستطيع زراعته من هذه الأصناف، حتى لا يجني محصولنا على السعر بزيادة المعروض منه على المطلوب.
النقابة التمست تعيين مندوبين تجاريين لدى ممثلي مصر في الخارج، فلما آنست من الحكومة أن صعوبة تحول دون ذلك التمست تعيين مندوبين؛ أحدهما في المفوضية المصرية بلندن، والثاني في مفوضية واشنطن، وقد بينت الأسباب المتعددة التي تدعو إلى هذا التعيين، والفوائد التي تترتب عليه لمصلحة محصولات القطن في أسعارها وفي رواجها.
النقابة اقترحت عدم مجاوزة سعر القطن صعودا أو هبوطا ريالين في الجلسة الواحدة، وذلك منذ سنة 1925، وقد أخذت به وزارة المالية.
النقابة اقترحت إنشاء المصارف والصناديق القروية لتسهيل التسليف الزراعي، وهو ما يعمل على إنفاذه اليوم في صورة أخرى باعتبار تلك الصناديق فروعا لبنك التسليف الزراعي.
النقابة بحثت في رخص الآلات الرافعة من حيث اعتبار الحكومة إياها شخصية لا عينية، وأبانت أن اعتبارها عينية أيسر لمصلحة المالك وأعدل من جانب الحكومة مع عدم المساس بأية مصلحة من مصالحها.
النقابة بحثت مرارا في شئون الصرف والري، وقدمت في ذلك اقتراحات متعددة، وهي الآن توالي البحث من جهة الصرف على وجه خاص؛ لأنه لم يتيسر له من وسائل التحسين والإصلاح ما هو جدير به بعد التوسع في أعمال الري الكبرى.
النقابة توالي العمل كل سنة لإخراج تقدير للمحصول القطني بجانب التقدير الرسمي وغيره مما تصدره الهيئات التجارية، وذلك لتضرب بسهم في تقريب الإحصاء إلى الحقيقة جهد المستطاع.
النقابة التمست وألحت في إنشاء مكتب خاص للقطن، وتعيين خبراء فيه من النخبة المدربين الذين يعول على آرائهم في عالم المشتغلين بمزاولات القطن، وقد حققت المالية جانبا من هذا الاقتراح.
النقابة اتصلت بغزالي فرنسا عام 1925 وغزالي إنجلترا بعدهم، وطرحت عليهم أسئلة لتعرف بها آراءهم في تصريف القطن المصري وتبين هل لهم شكايات مما يصدر منه إليهم؛ لإزالة أسبابها وتسهيل السبيل لاتساع نطاق التصدير وتسهيل إقبال الغزالين على القطن المصري، وقد تلقت أجوبتهم وعرضتها على أولي الشأن، وكان منها إصلاح كبير في تفادي وجود المواد الغريبة في القطن، وتنوير ما كان غامضا من جوانب التصدير.
النقابة اتصلت بالوفد التجاري الأمريكي الذي حضر في عام 1925 واستفادت من مداولاتها من أشياء تعود بالنفع على المنتجين المصريين ونشرتها في حينها. وكذلك اتصلت بالبعثة التجارية البريطانية التي جاءت فيما مضى، وجرت بين الفريقين مبادلة في الآراء أذيعت في الصحف أيضا.
النقابة ناضلت في مسألة الفليارات وسوء استعمالها للضغط على السوق أحيانا، وجاهدت في منع تسليم القطن القديم فليارات منذ عامين؛ للتخفيف عن السوق وصيانة حقوق المنتجين.
النقابة سعت لتعيين الفرازين الرسميين بميناء البصل منعا للحيف الذي كان يقع على المنتجين المصريين.
النقابة ممثلة من اللجان الحكومية في المجلس الاقتصادي والمجلس الاستشاري الزراعي ولجنة القطن الدولية ومجلس التعاون الأعلى، وقد مثلت في لجان أخرى حكومية؛ منها اللجنة التي تشرف على أعمال شراء القطن، ومنها اللجنة التي ألفتها وزارة الزراعة حين قررت تحسين بذرة التقاوي ووضعت لها القوانين الجديدة.
النقابة أصبحت معروفة في أمريكا وأوروبا ومعظم هيئاتها الاقتصادية. بدأت تخاطبها منذ سنة 1921، وما زالت تخاطبها العام بعد العام فيما يتعلق بالشئون الاقتصادية المصرية.
ولدى النقابة مجلدان لمحاضرها، ومجلدان نقلت إليهما مذكراتها واقتراحاتها؛ ما رفع منها إلى الحكومة وما نشر لاطلاع الجمهور عليه، وفي عزمها أن تطبع مجموعة أعمالها في خلال هذا العام إن شاء الله.
النقابة بذلت في السنتين الأخيرتين مجهودات متواصلة حتى أقنعت الحكومة بالتجاوز عن مليوني جنيه من الضرائب للزراع، وأقنعتها بالتنازل عن ضريبة القطن وقدرها عشرة قروش، وأقنعتها بتسوية الديون العقارية للمرة الأولى وهي الوقتية، وللمرة الثانية وهي التي أنجز منها الاتفاق مع بنك الموركدج والبنك العقاري المصري، ويعمل لإنجازه مع بنك الأراضي وصندوق الرهنيات العقارية ومع أصحاب التسجيلات الثانية. (1-1) الدكتور يوسف نحاس بك
الدكتور يوسف نحاس بك.
سكرتير عام النقابة الزراعية. زارع قمح، واقتصادي مطلع، وباحث. عضو في لجنة القطن الدولية والمجلس الاقتصادي وفي لجان وجمعيات كثيرة، وآخر ذلك البعثة الاقتصادية في السودان ثم في لندن، وهو من الذين عرفتهم فأحببتهم. في حديثه جاذبية، وهو قوي الحجة، محب للسلام والتوفيق، وكم وفق بين الوزراء إذ كانوا مختلفين! (1-2) المهندس مصطفى نصرت
ولد مصطفى نصرت بالقاهرة في 2 فبراير سنة 1894، وترك مصطفى نصرت في سنة 1908 المدرسة السعيدية وسافر إلى جلاسجو والتحق بجامعتها في سنة 1909 بمدرسة الهندسة المدنية، وفي شهر مارس سنة 1913 تخرج من الجامعة بعد أن نال درجة
B. S. C.
في فن الهندسة مع لقب شرف، ثم التحق بشركة درايزديل وشركاه
Drys dale & CO
للأعمال الهندسية بجلاسجو، حيث اشتغل مدة سنة كمهندس، وبعدها عرضت عليه الحكومة العثمانية أن يشتغل في مصلحة الري بالعراق كمهندس، فقبل وذهب إلى بغداد في شهر يونية سنة 1914، وهناك اشتغل في مشروعات الري؛ وأهمها قناطر الهندية التي كانت الحكومة قائمة ببنائها بواسطة شركة جاكسون وزملائه المقاولين المشهورين الذين قاموا ببناء قناطر نجع حمادي. وعند نشوب الحرب بين الحكومة العثمانية وإنجلترا في فبراير سنة 1914 انسحب الإنجليز من العراق وباشرت الحكومة العثمانية تنفيذ مشروعات الري هناك بواسطة مهندسيها، وكان مصطفى نصرت من القائمين بذلك.
المهندس مصطفى نصرت.
وفي سنة 1916 عين مصطفى نصرت مهندسا مقيما لقناطر الهندية على نهر الفرات. وفي الوقت نفسه كلف بإصلاح أساس القناطر المذكورة الذي كان قد اختل اختلالا يخشى سقوطها في أي لحظة، وكان السبب في هذا الخلل غلطات فنية وقعت في أثناء بنائها. وفي الوقت نفسه عزمت قبائل العرب هناك على أن تقاوم الإصلاح وتمنع العمل بالقوة؛ لأن عملية الإصلاح تمنع المياه من الوصول إليهم لري أطيانهم، فوصلت للحكومة أخبار هذا الاتفاق فأطلعت مصطفى نصرت عليه نظرا لخبرته بأحوالهم، وكان القرار الذي صدر هو أن يقوم مصطفى نصرت بهذه العملية بالرغم من تهديد العرب على شرط إعطائه القوة المسلحة الكافية للمحافظة على القناطر، ووضع هذه القوة تحت أمره مباشرة فذهب على رأس هذه القوة المسلحة لقناطر الهندية، وقام بعملية الإصلاح خير قيام، وفي أثناء العمل قامت ثورة في البلاد المحيطة بالقناطر؛ مثل كربلة والحلة وبلدة الهندية، فانقطعت المواصلات بينه وبين الحكومة العثمانية، ولكنه قاوم العرب هناك، ومنع امتداد الثورة لقناطر الهندية؛ تارة بالسياسة وتارة بالتهديد وتارة بمحاربتهم حتى تم الإصلاح والترميم.
وبعد ذلك أرسلت الحكومة العثمانية قوة عسكرية لتأديب الثوار مكونة من 6000 عسكري، وبطارية مدافع سريعة الطلق، وطابور متراليوز وطيارتين، فقامت هذه القوة وعلى رأسها عاكف باشا القائد السواري المشهور، وكانت الخطة المرسومة لها أن تفتح الطريق لقناطر الهندية أولا، وفعلا وصلت للقناطر وتقابل قوادها مع مصطفى نصرت وهنأوه على العمل الجليل الذي قام به وقت أن كانت الحكومة العثمانية لا نفوذ لها في هذه الجهة، ثم زحفت القوة العسكرية هذه على بلدة الحلة حيث نكلت بالثوار وفتحت البلد، وحاكمت العصاة أمام المحاكم العسكرية وحكمت على 136 شخصا بالإعدام ونفذ الحكم.
بعد ذلك ندب مصطفى نصرت مهندسا لقيادة الجيش العثماني السادس المعسكر في العراق علاوة على وظيفته الأصلية، وهو مهندس مقيم لقناطر الهندية، فقام بتأدية وظيفتيه خير قيام مما استأهل به الإنعام عليه بميدالية الحرب العثمانية في سنة 1917.
وبعد سقوط بغداد في مارس سنة 1917 في يد الإنجليز تقهقر الجيش العثماني إلى الموصل، ولحق به مصطفى نصرت الذي عهد إليه بدراسة مشروعات الري بولاية بورسة في الأناضول، ثم عين للقيام بعمل مشروعات ري ولاية أطنة في الأناضول أيضا، وقبل تمامها عين في سنة 1918 مساعد باشمهندس ولاية قونية، ومكث بها لغاية 1920، حيث صرح له بدخول مصر، واستقال من وظيفته وجاء مصر، ومن يومئذ التاريخ لم يدخل وظيفة حكومية، بل باشر أعماله الخصوصية فقط. (1-3) السيد أحمد أبو الفضل
السيد أحمد أبو الفضل الجيزاوي.
كان من رجال الإدارة مأمورا للجيزة والزقازيق، واعتزل الإدارة، وانتخب شيخا في مجلس الشيوخ عن الجيزة سنة 1930. نجل فضيلة الأستاذ الأكبر المغفور له الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي. مهذب، يتخير أصدقاءه، وهو تقي مؤمن.
في ميناء بور سودان القارب الذي استقله الأعضاء حيث شاهدوا من سطح صندوقه الزجاجي صخور البحر العجيبة. (2) وزارة التجارة والصناعة
كانت مصلحة أنشئت في أبريل سنة 1920 بناء على اقتراح لجنة التجارة والصناعة المشكلة بقرار من مجلس الوزراء الصادر في 8 مارس سنة 1916، وألحقت بوزارة المالية، ومهمتها إنشاء نظام دائم لتنشيط التجارة والصناعة في مصر وترقيتها.
وكان بالمصلحة معرض للنماذج به طرائف فاخرة من قطع الأثاث المستوردة من أشهر مصانع العالم، وفيه موظف مصري خبير في الأثاث، وآخر أجنبي خبير بتصميمه لإرشاد الجمهور والصناع. كذلك به حجرة للرسم لمن يشاء من أرباب الصناعة، وهو مفتوح للجمهور أيام الأسبوع ما عدا المواسم والأعياد.
وقد أصبحت المصلحة في هذا العام وزارة بمرسوم ملكي، ووزيرها الحالي سعادة أحمد نجيب الهلالي بك وزير المعارف أيضا، وهو أول وزير لها، وقد عين لها خبير فني إنجليزي يقوم الآن بتنظيمها. (2-1) المجلس الاستشاري للتجارة والصناعة
أنشيء هذا المجلس بقرار أصدره وزير المالية في 3 نوفمبر سنة 1929 مكونا من: وكيل وزارة المالية ... رئيسا.
المستشار الملكي لوزارة المالية. جناب المستر أ س بارنس رئيس مجلس إدارة فرع بنك باركليز بالإسكندرية، مدير عام مصلحة الأملاك الأميرية، وهنري نوس بك المدير العام لشركة السكر، ومدير عام مصلحة التجارة والصناعة، ومراقب التعليم الفني والصناعي بوزارة المعارف ومراقب مصلحة المناجم ، ومندوب يمثل الغرفة التجارية المصرية بالقاهرة، ومندوب يمثل الغرفة التجارية المصرية بالإسكندرية. أعضاء. (2-2) أقسام الوزارة
وتنقسم الوزارة إلى فرعين رئيسيين: أحدهما الفرع الاقتصادي والإداري والتجاري، والآخر الفرع الصناعي.
وينقسم الفرع الاقتصادي والإداري والتجاري إلى الأقسام الآتية: (1)
قسم المباحث. (2)
الإحصاء. (3)
التشريع التجاري. (4)
النقل والتعاريف. (5)
الغرف التجارية. (6)
المخابرات التجارية. (7)
المشتريات. (8)
قسم المعارض. (9)
النشر والترجمة. (10)
المكتبة. (11)
الحسابات والمستخدمين. (12)
المحفوظات. (13)
السواحل وأسواق الغلال: في أثر النبي والجيزة وروض الفرج وغمرة وبولاق والإسكندرية ورشيد.
وينقسم الفرع الصناعي إلى الأقسام الآتية: (1)
قسم الجلود والدباغة. (2)
الصباغة. (3)
الغزل والنسج. (4)
قسم الاقتصاد الزراعي. (5)
الصناعات الكيماوية. (6)
قسم المباحث الصناعية. (7)
الأثاث. (8)
الصوف والسجاد. (9)
الزجاج.
ويوجد معمل كيماوي بالوزارة التي تصدر مجلة اسمها «صحيفة التجارة والاقتصاد». (2-3) الغرف التجارية المصرية
الغرض من هذه الهيئات هو حماية مصالح التجار والصناع، والدفاع عن حقوقهم، وإيجاد رأي تجاري عام، وإعداد أداة صالحة لجمع المعلومات والبيانات التي تهم التجارة والصناعة وتبويبها ونشرها، وكان إنشاء أول غرفة تجارية مصرية بمدينة القاهرة عام 1913 إذ وضع أساسها جماعة من تجار العاصمة؛ على رأسهم المرحوم عبد الغني سليم عبده وعبد الخالق مدكور باشا. ومنذ سنة 1920 أخذت تنتشر في هذه البلاد فكرة إنشاء الغرف التجارية؛ إذ تكونت غرف تجارية في معظم مدن القطر، إلا أن تلك الغرف كان يتنازعها عاملان: عامل النجاح، وعامل الفشل، لأسباب كثيرة؛ أهمها: ضعف ماليتها وفقدان روح التعاون بين أعضائها، وعدم وجود رقابة حكومية منظمة عليها لضمان إرشادها ومساعدتها ماديا وأدبيا، مما كان من أثره ظهور عجزها عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها.
قانون الغرف التجارية
رأت وزارة التجارة والصناعة ضمانا لحياة الغرف أن تسن لها قانونا يتسنى معه أن تكون لهما الشخصية المعنوية، وتحدد به اختصاصاتها، وتنظم به رقابة الحكومة عليها، وقد صدر القانون رقم 14 لسنة 1933 بتاريخ 23 مارس سنة 1933 لهذا الغرض، ونصت المادة 38 منه على إصدار لائحة عامة للغرف التجارية تبين النظام الداخلي لسير العمل فيها وتنظيم لجانها، وتحدد القواعد الخاصة بماليتها، وبانتخاب أعضاء مجلس إدارتها، ولذلك صدر مرسوم بتاريخ 3 أغسطس سنة 1933 بالموافقة على اللائحة المذكورة .
إعادة تكوين الغرف التجارية
وبمجرد صدور اللائحة العامة للغرف التجارية نشطت المصلحة «الوزارة» في تنفيذ أحكام التشريع الجديد، فعملت على حل الغرف الحالية وإعادة تكوينها.
وطبقا لأحكام التشريع الجديد، لكل غرفة لائحة داخلية يصدق عليها، وللغرف معارض، وتمنح المصلحة الغرف إعانات سنوية.
أنشئت «غرفة مصر التجارية» في أول يوليو سنة 1927، وانتخبت جمعيتها العمومية مجلس إدارة.
ولقد سارت منذ نشأتها سيرا حثيثا بفضل مقاصد الأعضاء وتساندهم، وبما كسبته من الثقة لدى الهيئات الرسمية والهيئات الأخرى في مصر وفي الخارج، فأصبح يرجع إليها في كل أمر يتعلق بالتجارة.
ولم يقف مجهود الغرفة عند هذا الحد، بل رأت أن تخص الصناعة بشيء من عنايتها فافتتحت معرضا دائما للصناعات المحلية دون سواها وبثت لها الدعاية، فقابل الجمهور المصري هذا العمل بالتشجيع، وأقبل على مشترى مصنوعات بلاده إقبالا ترتب عليه استخدام كثير من الأيدي العاملة وإتقان الصناعات إتقانا جعل مصر تفاخر بها في المعارض الخارجية. ولقد اشتركت الغرفة اشتراكا فعليا في المعرض العربي بالقدس وفي معرض باري بإيطاليا، وكان لاشتراكها هذا أكبر الأثر في الدعاية لمصر ولمصنوعاتها.
ولقد طالبت الغرفة منذ تكوينها الحكومة بتنظيم الغرف التجارية المصرية والاعتراف بها رسميا، وظلت كذلك حتى فازت بأمنيتها وصدر القانون رقم 14 لسنة 1933 الخاص بالغرف التجارية فحلت بموجبه جميع الغرف وأعيد تكوينها، وصدر بعد ذلك قرار وزاري رقم 81 في 2 أكتوبر سنة 1933 بإنشاء «الغرفة المصرية التجارية للقاهرة»، وهو الاسم الرسمي الذي تحمله غرفة العاصمة، كما حدد هذا القرار عدد أعضاء مجلس إدارتها فجعلهم ثلاثين عضوا، وجعل دائرة اختصاصها محافظة القاهرة.
ويتألف المكتب الذي يدير الغرفة من حضرات: يوسف قطاوي باشا رئيسا، ومحمد حفني الطرزي باشا وعبد الفتاح اللوزي بك وكيلين، والسيد عبد المجيد الرمالي سكرتيرا، وإبراهيم نصير أفندي أمينا للصندوق.
الوجيه عبد المجيد الرمالي
الوجيه عبد المجيد الرمالي.
بعد أن تخرج من المدارس رأى والده أن يشركه معه في إدارة مخابزه ومطاحنه، وبعد أن توفي إلى رحمة الله قام بإدارتها، وأنشأ مطحنا على أحدث طراز، ومصنعا تصنع به الحلوى على اختلاف أنواعها، فنالت الرضاء العام وسدت فراغا كان يشغله الأجانب، وفابريقة لصنع الجيلاتي بأحدث الآلات الأمريكية.
وقد انتخب من يوم اشتغاله بالتجارة قاضيا محلفا بالمحكمة المختلطة، وعضوا مؤسسا في جمعية المواساة الإسلامية، وسكرتيرا عاما للغرفة التجارية بالقاهرة من تاريخ إنشاء الغرفة للآن، وعضوا بمجلس النواب سنتي 1927 وسنة 1930، ووكيلا للجنة التنفيذية للجان الوفد بالقاهرة، وسكرتير شرف جمعية اتحاد الصناعات بالقاهرة.
محمد عبد الرحيم سماحة
محمد عبد الرحيم سماحة.
من أسرة سماحة بفارسكور ومصر، وهو تاجر عصامي مجتهد نشيط كثير الطموح كثير الدعاية سيكون له مستقبل رشيد ...
الوجيه علي شكري خميس
الوجيه علي شكري خميس.
وقد نشأ حضرته نشأة تجارية، وقد كان أول من فكر في إنشاء غرفة مصرية لتجار الإسكندرية تجمع شتاتهم وتنظم جهودهم وتؤلف منهم جبهة للنهوض بتجارة المصنوعات المصرية.
ففي أمسية من أمسيات سنة 1922 اجتمع ببعض أخصائه وبسط لهم مشروعه بتأليف لجنة تحضيرية، فاستجابوا الدعوة ووضعوا أيديهم في يده، ودعوا التجار لعقد اجتماع كان بمثابة جمعية عمومية للغرفة.
وقد مضت اللجنة التحضيرية لهذا قدما في سبيلها، فعدت نفسها لجنة تنفيذية وألفت من أعضائها مجلسا لإدارة الغرفة، واستأجرت غرفة متواضعة في ميدان المنشية، وطفقت تباشر فيها عملها وتنشر نشاطها، وواصلت النمو. ويرأسها الآن سعادة أمين يحيى باشا ووكيلها التاجر الكبير الخواجة أسعد باسيلي.
وللغرفة الآن عمارة من أجمل العمارات في شارع سعيد الأول بالإسكندرية، أما المعرض فهو أول معرض عام دائم أنشئ للصناعات المحلية في القطر المصري، وعلى منواله نسجت الغرفة المصرية لتجار القاهرة وغيرهما من المعاهد والهيئات التي عنيت بعد ذلك بالمعارض الصناعية العامة، وهو في الحقيقة فخر أعمال غرفة الإسكندرية؛ فقد عرف الجمهور إلى صناعه، وعرف الصناع إلى جمهورهم، وبلغ من نجاحه أن بلغت مبيعاته في السنة الماضية زهاء عشرة آلاف جنيه.
وفي الغرفة قسم للاستعلامات التجارية على أحدث النظم، وقد اشتركت الغرفة في إعداد اللوائح والقوانين المنظمة للأسواق التجارية في الإسكندرية، كما كانت لها اليد الطولى في تنظيم أحوال الطوائف العاملة في التجارة والصناعة والسوابق الطيبة في توثيق العرى التجارية بين الأسواق المصرية والأسواق الخارجية، و«خميس» عضو في المجلس الاقتصادي الأعلى لمصلحة التجارة والصناعة، وعضو في المجلس الحسبي بالإسكندرية، وقاض محلف في المواد الجنائية والتجارية بالمحكمة المختلطة، وعضو في هيئة الاتحاد السكندري، وعضو في جمعية المواساة الخيرية الإسلامية بالإسكندرية.
الشقيقان محمد قاسم وأحمد قاسم
هما نجلا المرحوم حسن أفندي قاسم، كان من كبار تجار مصر والسودان، وكان له جملة أفرع في جميع أنحاء السودان، كما أنه تخرج على يديه كبار التجار الحاليين هناك، وقد ورث الوجيهان محمد وأحمد حسن قاسم التجارة عن والدهما، وقد اتسعت دائرة أعمالهما هناك. وقد أصبح لهما وكلاء في جميع أنحاء أوروبا لتصريف حاصلات السودان من سمسم وصمغ وفول، فضلا عن تأسيسهما فابريقة بمصر لعمل الحلوى وزيت من سمسم السودان، ولهم مقطوعية عظيمة من هذا الصنف.
أحمد حسن قاسم.
هذا فضلا عن تصدير كثير من البضائع اليابانية إلى السودان. وكانا معنا بالبعثة، وكنا نلاحظ في أثناء مصاحبتنا للأول في جميع أنحاء السودان مقابلته من جميع التجار هناك ومعرفته لهم ومعرفتهم له معرفة تامة، وكان يقابل في جميع المحطات بالترحاب والإجلال، وقد كان التاجر المهم في البعثة الذي يشتغل في المحاصيل السودانية، وبفضله وفضل شقيقه الذي انضم إليه في الخرطوم تحسنت أسعار المحاصيل حيث اشتريا كميات وافرة تقدر بعشرين ألف جنيه مصري في برهة وجيزة، وكان لهما في العام الماضي مشتريات جمة من الذرة السودانية، ولولاهما لبارت هذه الذرة في محلها وما بيعت بمصر. هذا فضلا عن كون سمعتهما التجارية طيبة جدا في الدوائر التجارية والمالية بمصر والسودان.
إلياس عوض بك (1)
حصل على الليسانس في علم الحقوق من كلية باريس. (2)
عين بقسم قضايا الحكومة للمرافعة في القضايا المدنية لوزارات الأشغال والحقانية والخارجية ومصلحة السكة الحديد. (3)
وفي سنة 1892 عين وكيل النائب العمومي لدى محكمة الاستئناف الأهلية. في سنة 1896 عين رئيسا للنيابة العمومية بمحكمة الاستئناف. وفي 1897 عين رئيسا لمحكمة بني سويف، وبينما كان جاريا التفتيش على البوليس سقط من الجواد الذي كان يركبه، وكانت إصاباته خطرة، ومكث ثلاثة شهور مريضا، وبعد أن شفي نقل إلى محكمة الاستئناف، وفي سنة 1904 طلب إحالته إلى المعاش احتفاظا بصحته، ثم اشتغل في المحاماة ، ولكن في سنة 1925 طلب نقل اسمه إلى جدول المحامين غير المشتغلين. وفي سنة 1930 عين عضوا بمجلس الشيوخ، وكان من الأعضاء البارزين في المجلس كما تدل على ذلك آراؤه ومناقشاته ومباحثاته المدونة في مضابط جلسات المجلس، وهو من أرباب الثروة والمصالح الكبيرة، وكان أيام البعثة هادئا، كثير الصمت، دقيق الملاحظة مغتبطا بالرحلة.
إلياس عوض بك.
عطا عفيفي بك
ولد سنة 1890، وتعلم بمدارس الفرير ونال منها البكالوريا، والتحق بكلية الحقوق بباريس فنال منها شهادتي الليسانس والدكتوراه وعين بوظائف الحكومة حتى شغل وظيفة تشريفاتي، ثم استقال، وكان من أعضاء الوفد المصري، ثم من أعضاء نادي الوفد السعدي، وهو مولع بالصيد والرحلات، وهو أنيق الملبس دقيق المحافظة على الإتيكيت، أقرب في طبعه إلى رجال الدبلوماسية والأرستقراطية منه إلى سواهم.
عطا عفيفي بك.
أحمد الحناوي
أحمد الحناوى.
عرفنا هذا الشاب فلمسنا فيه عنصرا كريما من أبناء السلف الصالح لأعيان الزراع في الشرقية، أدب في حياء، وحياء في كرامة وهو من مندوبي الزراع.
لفيف من أعضاء البعثة في ممر الباخرة إلى بور سودان. من اليسار: محمد حسين الرشيدي. عبد الله حسين. محمد عبد الرحيم سماحة. فؤاد أباظة بك. عبد المجيد الرمالي. محمد حسن قاسم. محمود مصطفى الجمال.
محمد حسين الرشيدي
من مندوبي الغرفة التجارية بالقاهرة، وصاحب «فابريقة حلويات وطحينة ومعصرة زيوت الميزان» رقم 234 السيدة زينب شارع الخليج المصري، وهو أكبر مصنع لعمل هذه الأصناف بالقاهرة، وله شهرة ممتازة بين سكان مصر، وهو يستهلك من محصول السمسم السوداني كمية كبيرة، ويورد منتجاته إلى الخرطوم وبور سودان وأم درمان وبقية عواصم السودان، فضلا عن البلاد الغربية والشرقية؛ ومنها سنغافورة ومرسيليا وشيكاغو وتريستا وأزمير على شهرتها واختصاصها بعمل الحلوى، ويوزع 75 في المائة للقاهرة من مقطوعية سكانها من الحلوى الطحينية. وماركة الميزان هي شعار الفابريقة المسجل، ولها شهرة عالمية تنفرد بها.
وهو مصري صميم وعصامي متواضع صادق الود والوعد، نجل المرحوم الوجيه الحاج حسين حسن الرشيدي، ومن أسرة عريقة في التجارة برشيد، وقد زار الأناضول وأوروبا.
عرف بالإخلاص لأصدقائه وسهره على راحتهم، ولم ينس أحد الأعضاء حلاوة حديثه «كحلاوته الطحينية».
فابريقة الوجيه محمد حسين الرشيدي بالخليج المصري، وترى صورته في أعلاها.
الدكتور محجوب ثابت
الدكتور محجوب ثابت.
ولد الدكتور في دنقلة، إذ كان والده قومندانا في سنار ووكيلا لمديرية فازوغلي المندمجة مع سنار.
ثم تزوج بوالدة الدكتور في سنار، وهي من أسرة تنتمي إلى سيدي طلحة خال السيد البدوي بكفر الشيخ، وكان والدها يوزباشيا بالجيش، وحضر حروب الشام وساعد في إطفاء الثورة المهدية تحت إمرة عبد القادر حلمي باشا الذي أطفأ الثورة في شرقي السودان.
والدكتور محجوب أنيس المجالس، وأنس المجتمعات، وحبيب الأصدقاء والأعداء، وله جولات سودانية وخطب رنانة ومحاضرات طنانة.
والدكتور محجوب فريد في البيئة الطبية والاجتماعية، وهو أديب وطبيب، قوي الذاكرة والحافظة، ولو كنت صاحب حزب سياسي لجعلت الدكتور داعية للحزب؛ لأن الدكتور يصلح للدعاية، ولا سيما إذا كانت للسودان ...!
وكان الدكتور يحب السودان دون أن يعرفه، فقد نقل منه طفلا إلى مصر، وكانت رحلة البعثة فرصة لرؤيته للسودان، وقد بدا منه التقاعس عند أوبتنا وخشي فؤاد أباظة بك أن ينسى الدكتور مصر، فتصعب عودته من السودان، فما زال به حتى حمله على السفر مع الفوج الثاني، وهو منذ عودته يقص على أصدقائه وطلبته ما رأت عيناه في السودان. فهل تتاح الفرصة للدكتور ليعود إليه ويقضي ما بقي من حياته به؟!
الأستاذ فخري الزق
نال إجازة الليسانس من مدرسة الحقوق الخديوية سنة 1914، وقبل للمرافعة أمام محكمة الاستئناف سنة 1917، وهو نائب طائفة الإخوة البليموثيين بالقطر المصري، ونائب جمعية الشبان المسيحيين بأسيوط، ومن أعضاء نقابة المحامين بأسيوط، ولأسرة الزق علاقة قديمة بالسودان، فكانت تتجر بسن الفيل وريش النعام والمصنوعات الأسيوطية، وأسسوا مراكز تجارية بالسودان، وكان الاتجار عن طريق درب الأربعين - وهو أحد الطرق الأربعة بين مصر والسودان - بالقوافل، وكان المرحوم لوقا الزق والد الأستاذ فخري وجده المرحوم ميخائيل الزق من أشهر تجار أسيوط.
فخري لوقا الزق المحامي بأسيوط.
الدكتور رياض شمس
هو زميلنا الفاضل الدكتور رياض شمس المحامي، ومندوب جريدة «الجهاد» في البعثة، وصاحب كتاب الحرية الشخصية بالفرنسية والعربية. ومع اشتغاله بالمحاماة يميل إلى الصحافة ويكتب في الصحف المقالات المدعمة ... (3) البعثة المصرية (3-1) كلمة المؤلف المنشورة بالأهرام الصادرة في 25 يناير سنة 1935
يسافر بعد ظهر اليوم حضرات أعضاء البعثة المصرية إلى السودان، وقد وقف القراء على أغراضها من هذه الرحلة وبرنامجها منذ يوم السفر حتى أوبتها إلى مصر، وقد تحددت الأغراض المشار إليها فيما يلي: (1)
إعداد مكان لمعروضات السودان في المعرض الزراعي الصناعي القادم. (2)
مشروع تأليف شركة من أهالي مصر والسودان لمشترى أراض زراعية بالسودان واستثمارها. (3)
دراسة إنشاء فرع للجمعية الزراعية بالخرطوم. (4)
دعوة بنك مصر لإنشاء فرع له بالخرطوم.
لهذه الأغراض تسافر البعثة، محوطة برعاية المصريين، وبترحيب إخوانهم السودانيين؛ فأما المصريون فإنهم يرون في بعثتهم النواة الأولى لتدعيم العلاقات الاقتصادية والودية مع السودان، بعد زوال الظروف الأليمة الماضية المعروفة التي أعقبت حادث السردار المشئوم، ولذا جردت البعثة مهمتها من كل طابع سياسي، وقصرت أغراضها على الناحيتين الاقتصادية والزراعية. وقد صدق حضرة فؤاد أباظه بك مدير الجمعية الزراعية في قوله: «إن للسياسة رجالها وميدانها، كما أن لبعثتنا مهمتها المحدودة.» ومن حسن الحظ أن المندوب السامي والحاكم العام للسودان ووكيل حكومة السودان - وهؤلاء الثلاثة أصحاب الكلمة العليا في السودان اليوم - قد عملوا على تسهيل سفر البعثة والترحيب بها، وهذا يدل على صحة ذلك القول المأثور للمغفور له شريف باشا: «إذا تركنا السودان فهو لا يتركنا، وإذا نسيناه فهو لن ينسانا.»
لقد كنا على اعتقاد دائما بأن انفعالات السياسة والحوادث الطارئة، لن تؤثر في العلاقات التاريخية والروابط الاقتصادية بين مصر والسودان، وأنه إذا جمدت السياسة أو شذت، فإن النشاط الاقتصادي والزراعي مفتوح، أو فتح على مصراعيه.
لن تكون زيارة السودان محصورة في المستقبل في التجار والزراع كما هو شأن البعثة الأولى المسافرة، بل في اعتقادنا أن هناك رحلات مدرسية وزيارات فردية للترويح عن النفس ومشاهدة البلاد السودانية وخزاناتها، ستتوالى على الأيام، وتتعاقب على الأعوام.
إن الروابط الحقيقية بين بلدين هي ما تقوم على أساس تبادل المنافع؛ فالمنافع هي اليوم متجه الأفراد والأمم، وإذا قلت المنافع، وهنت العلاقات، وإذا كثرت المصالح، نمت الصلات. ونحن نشكو من نظام الامتيازات، والواقع أن مصدر قوتها هي قوة المصالح الأجنبية في مصر، فهذه المصالح من الوفرة والتغلغل ما يجعل الأجانب يحرصون على الامتيازات، وما يجعل الوزارات المصرية تتردد في إلغائها، ومنذ بدأ المصريون يساهمون في الأعمال المالية وينشئون المصانع، قويت حركة المطالبة بإلغاء الامتيازات، وهكذا تقوى الروابط بين بلدين بوفرة المصالح المشتركة.
لقد صور لنا رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم كيف شقي السودان بخروج الجيش المصري، وكيف يسعد بعودة المصريين إليه. ونحن نقول أيضا إن مصر تجد في السودان المنفذ الطبيعي لها، ويكفي أن يكون بالسودان منابع النيل وخزانات مصر عليه، حتى تكون علاقتنا بالسودان وثيقة أبدية. (3-2) يوم السفر
عند الساعة الثانية بعد ظهر 25 يناير سنة 1935 بدأ المودعون للبعثة المصرية للسودان يفدون على أرض المعرض بالجزيرة، وفي تمام الساعة الثالثة ركب حضرات أعضاء البعثة عربتين من عربات شركة الأوتوبيس المصرية التي قامت بهم بين تصفيق الحاضرين ودعواتهم الطيبة بسلامة الذهاب والعودة مع تمنياتهم الحارة بنجاح البعثة وتوفيقها في تنمية العلاقات الاقتصادية والزراعية بين مصر والسودان. وقد لمحنا بين حضرات المودعين الذين يربو عددهم على الثلاثمائة حضرات أصحاب السعادة والعزة والأفاضل جناب المستر هاملتون مندوب حكومة السودان، وعيسوي زايد باشا، وحسن سعيد باشا، وحسين بك السيد أباظة، وعثمان بك زكي أباظة، والأستاذ فكري أباظة المحامي، ومحمود حمدي إسماعيل بك، والأستاذ توفيق دياب، ومصطفى بك محفوظ، والأستاذ راغب إسكندر المحامي، ومحمود بك إسماعيل أباظة، ومحمد سرور قنصل مصر سابقا، وعبد العزيز بك رضوان، وعباس الرمالي، وسعيد بك جميعي، والمستشار ذهني بك، ومحمود أبو العلا وعلي البرير وعلي أفندي القوش أعضاء الغرفة التجارية السودانية بالقاهرة، ومحمد إبراهيم سماحة بك، وعبد الحميد أفندي كيرة، ومحمد عبد الله، ومحمد الإمام سماحة أفندي ، وأحمد بك الحناوي، وسليم عز الدين، وحسن بدران أفندي، وعبد الحميد بك سماحة، والدكتور سعد الدين التاودي، وأحمد شعير أفندي، والخواجة توتنجي سامي، والخواجة إسكندر أوجي، ومصطفي بك الشوربجي، ومصطفى بك سرور، وغيرهم من أفاضل القوم من أجانب ومصريين.
وتفضل حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون فأوفد حضرة حسين بك فريد وكيل مدير الجمعية الزراعية الملكية إلى السويس لتوديع البعثة نيابة عن سموه.
وقد أرسل صاحب العزة فؤاد بك أباظة المدير العام للجمعية الزراعية الملكية قبل قيام البعثة التلغراف الآتي:
حضرة صاحب المعالي كبير الأمناء، سراي عابدين القاهرة:
أعضاء بعثة السودان وعددهم اثنان وثلاثون عضوا المجتمعون الآن بالجمعية الزراعية الملكية وهم على أهبة القيام للسويس فالسودان، يلتمسون أن ترفعوا للأعتاب الملكية خالص ولائهم والدعاء لجلالة الملك بكمال الصحة وتمام العافية.
كما أنه أرسل لحضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون التلغراف التالي:
حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون بباكوس:
أعضاء بعثة السودان وعددهم اثنان وثلاثون عضوا المجتمعون الآن مندوبين عن الجمعية الزراعية والنقابة الزراعية وخريجي الزراعة والغرف التجارية بمصر والإسكندرية، وكبار التجار والزراع ومندوبي الصحافة المجتمعون الآن بسراي الجمعية الزراعية الملكية بالجزيرة، كلفوني جميعا وهم على أهبة القيام للسويس فالسودان أن أتقدم لسموكم معبرا عن عميق شكرهم لتوفيق الجمعية الزراعية تحت إرشادكم، وتشجيع سموكم الشخصي لتنظيم هذه الرحلة وتنفيذ هذا العمل القومي لتوطيد العلاقات الاقتصادية والزراعية بين مصر والسودان، ودوام إمداد البعثة بإرشاداتكم الطيبة، ويتمنون لشخصكم الكريم كمال الصحة وتمام العافية، ويرفعون للمولى أكف الضراعة أن يحفظكم ذخرا للبلاد.
كما أنه قد أرسل تلغرافا لحضرة صاحب العزة حمدي بك سيف النصر الذي كان مزمعا السفر مع البعثة لولا مرض انتابه أخيرا بالنص التالي:
أسف أعضاء البعثة عظيم. نرجوكم اللحاق بنا قريبا.
وقد وصلت الردود على هذه التلغرافات.
وقد تلقى صاحب العزة فؤاد بك أباظة من المسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم «يومئذ» التلغراف الآتية ترجمته:
بالنيابة عن أعضاء الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم وأعضاء لجنة تنظيم البعثة الاقتصادية المصرية أرجو أن تبلغوا جميع زملائكم أعضاء البعثة خالص التمنيات لرحلة سعيدة وموفقة، وأؤكد لكم أن أعضاء البعثة سيلاقون حفاوة قلبية واستقبالا رائعا من السودانيين في كل مكان يمرون به أو ينزلون إليه، وتقبلوا جميعا تحياتنا الصادقة.
في استقبال الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني.
فرد عليه بالتلغراف الآتي:
جناب المسيو كونتو ميخالوس بالخرطوم:
أبلغت زملائي أعضاء البعثة الاقتصادية المصرية التمنيات الطيبة التي عبرتم عنها بالنيابة عن أعضاء الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم وعن أعضاء لجنة التنظيم، فتقبلوها شاكرين ممتنين وطلبوا مني أن أعبر لكم عن اغتباطهم العظيم بتلك التمنيات الطيبة، ولما سيلاقونه من حفاوة واستقبال، وهم يتطلعون بشوق عظيم إلى ملاقاة السودانيين إخوانهم الأعزاء. (3-3) الوصول إلى السويس والإبحار منها
وصلت السيارة الأولى في الساعة السابعة مساء، ووصلت السيارة الثانية الساعة الثامنة بعدها، وقد قابلهم الجمهور بالتصفيق عند وصولهم إلى السويس.
وكان في استقبالهم بالفندق حضرة صاحب العزة عباس سيد أحمد بك محافظ السويس وكبار الموظفين وأعضاء المجلس المحلي والأعيان.
وفي الساعة التاسعة مساء أقام حضرة المحافظ حفلة عشاء فاخرة في كازينو السويس تكريما لأعضاء البعثة، وكانت الموسيقى تعزف وتطرب المدعوين.
وقد وصلت الباخرة «شندوين» عند منتصف الليل، واستقلها المسافرون وأبحرت بهم من السويس في الساعة الثانية والنصف من صباح السبت.
وكانت صحة أعضاء البعثة جيدة، وقد تلقوا تلغرافيا دعوات كثيرة من السودان؛ من ذلك حفلة شاي يقيمها سعادة الحاكم العام بقصره في الخرطوم، ودعوة من السيد الميرغني ومن حضرة عبد القوي أحمد بك المهندس المقيم بخزان جبل الأولياء، ومن الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير حضارة السودان، ومن مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم، ومن علماء السودان، ودعوات أخرى.
مزارع القطن في طوكر، وترى امرأة هدندوية تجني القطن وعلى ظهرها طفلها، وإلى جانبها فؤاد أباظة بك. (3-4) اليوم الأول من الرحلة (الباخرة شندوين في 26 يناير)
ركوب البواخر
إنني مولع الولع كله بركوب البواخر خاصة وبالأسفار عامة، وكنت أود أن تسمح الظروف لي بأن أكون رحالة. ومنذ خمس سنوات لم أسافر إلى الخارج بحرا، وقد أتيح لي في أكتوبر الماضي السفر إلى السلوم بحرا على الباخرة «نفتس» طوافة مصلحة خفر السواحل، ولكن الطوافة كانت سقيمة؛ هانت على البحر وأسخطتنا على السفر فيه، فكان السفر متعبا ومزعجا، ولذا آثرت العودة من السلوم برا.
وأتيح لي السفر في البعثة المصرية بحرا، وكانت باخرتنا إنجليزية، وللبواخر الإنجليزية عادات هي العادات الإنجليزية، فالباخرة ليست إنجليزية، ملكية ولواء خفاقا فقط، ولكنها إنجليزية خلقا، وكان بحارتها من الهنود المسلمين في برما، وهي تبحر من ليفربول حتى رانجون، وقد أحسنوا الخدمة وكانوا مثال الأدب والنظافة.
الجنس اللطيف
حرمت بعثتنا من عنصر الجنس اللطيف، وقد علمت أن السيدة منيرة صبري كبيرة المرشدات ومفتشة التربية البدنية للبنات قد رغبت إلى فؤاد بك في السفر مع البعثة، فأبلغها أن قبول السيدات ليس مسموحا به، وقد يكون السبب في ذلك أن للبعثة مهمة معينة، ليس للنساء سبيل إلى المساهمة فيها، أو محافظة على التقاليد في مصر والسودان. على أنني أعتقد أنه في البعثات التالية - ولا سيما المدرسية - سيكون مستطاعا قبول السيدات.
طعام البواخر
تتنافس شركات الملاحة في إعداد الطعام وتنويعه وكثرة وجباته وصنوفه:
والشركات الإنجليزية تعنى بهذا عناية أصبحت مثلا لغيرها: ففي الصباح الباكر - الساعة السادسة صباحا - نستيقظ على نداء الخادم يقدم لنا قدحا من القهوة وقطعة من الخبز وتفاحة، وفي الساعة الثامنة والنصف صباحا نتناول طعام الإفطار وقائمته حافلة بصنوفه من الشاي واللبن والحلوى والسمك والبطاطس المقلي والعجة والبيض المقلي والبيض المسلوق والروزبيف والهام «لحم الخنزير البارد» والفاكهة.
وقد أضاف زميلان لنا هدية إلى قائمة الطعام وهما: السيد عبد المجيد الرمالي والسيد محمد حسين الرشيدي. الأول أهدى إلينا الملبس والشكولاتة، والثاني «الحلاوة الطحينية»، فكانت دعاية ظريفة وكرما بديعا.
وقائمة الغداء في الساعة الأولى والعشاء الساعة السابعة مساء حافلة بصنوف الطعام من لحوم السمك والديكة والأرز والطيور واللحوم الساخنة والباردة ... إلخ. وبين الساعة الرابعة والساعة الخامسة مساء نتناول «الشاي الكامل» وقائمته حافلة باللبن والسندوتش والبسكويت وأنواع الجاتو.
وبين هذه الوجبات تقدم لنا قطع السندوتش والشربة في أقداح، خوفا علينا من الجوع!
ويزعجني في البواخر صنوف الطعام المتعددة ووجباته الكثيرة، وأعتقد أن وزن الراكب يزيد يوما بعد يوم، ومن جهة أخرى يعد الطعام من المسليات والمرفهات والمنومات.
اسموكن ...!
إنني شديد الكراهة للملابس الرسمية؛ ولا سيما السموكن والسهرة، ولما كانت باخرتنا إنجليزية فمن اللائق لبس سترة السموكن عند العشاء، وقد احتاط الأعضاء فأحضروها معهم، ولكني اقترحت عليهم أن نقرر عدم لبسها؛ خصوصا لحرارة الجو، فقال فؤاد أباظة بك: لا بد من سؤال قبطان الباخرة عن هل لبسها إجباري فيها. فقال له: إن لبسها غير إجباري، وعندئذ لم نلبس «السموكن».
هذه الملابس الرسمية عادات وتقاليد، ولست أدري ما الذي يحملنا على مجاراة تقاليد غريبة علينا، إن جونا حار، وحاجتنا ملحة إلى الثياب الفضفاضة.
وبهذه المناسبة أذكر رواية سمعتها عن شدة احتفاظ الإنجليز بتقاليدهم؛ ولا سيما السموكن عند العشاء، ذلك أن سائحا وصل إلى جبل من جبال الهملايا في الهند فدهش لرؤيته إنجليزيا وحيدا أقام ثلاثين سنة فيها ويحتفظ بلبس السموكن عند العشاء وحده، مع أن لبسها في الواقع هو من باب تكريم السيدات واحترامهن والرقص معهن مساء. الإنجليز يحتفظون بالتقاليد ولا يسألون عن الحكمة فيها. (3-5) اليوم الثاني (الباخرة شندوين في 27 يناير سنة 1935)
الجو حار، وقد اضطررنا إلى ارتداء ثياب الصيف. والبحر الأحمر هادئ جدا، والباخرة تسير قدما، والسماء مصفية، والجو صحو.
عصاميون وعظاميون
جمعت البعثة بين العصاميين؛ وهم من نالوا النجاح بجهدهم وكفايتهم، والعظاميين؛ وهم من ورثوا المجد عن آبائهم.
وقد حدثنا الشيخ الوقور إسماعيل بركات بك - وجده من أبناء ديروط ووارث تجارة الغلال عن جده وأبيه - حديثا ممتعا عن حياته، وعن حياة مصر قبل انتشار المواصلات الحديدية وتعميم المدنية، وهو شديد السخط على تلك المواصلات وهذه المدنية، ويراها مجلبة الشر ومفسدة الأخلاق والرجولة، ومهلكة الشباب الناضر، والمقادة إلى الشيخوخة العاجلة.
روي لنا أنه كان يقطع أحيانا المسافة بين حلوان - حيث يسكن - وروض الفرج - حيث توجد مخازن غلاله - راجلا.
وهو يأسف على اختراع السيارات والترمويات، فإنها لم تدع له فرصة لتحريك عضلاته وتقوية بدنه. على أنه يحمد الله لأنه ينعم بصحة وافرة وقامة مديدة غير مقوسة، وقد تنافست معه في الطواف على سطح الباخرة، وسرنا ثلاثة كيلو مترات، وقد دعا حضرته الشبان لهذا الطواف فلم يلبوا النداء، فأسف على شباب تدب إليه الشيخوخة.
ويرى إسماعيل بركات بك أن التربية المدرسية الحالية قد أفسدت العقول وعطلت نشاط البدن، وأنه يجب أن يحتفظ التاجر أو الزارع بحالته الأولى من النشاط ومن احتمال الشدائد، وقال إنه يوم منح رتبة البكوية غم عليه، وقال لأحد مهنئيه: «هذا يوم شر؛ فإنني لن أستطيع أن أشارك عمالي تنقية القمح وغربلته، لأنني إذا فعلت سلقني الناس بألسنة حداد قائلين: «شوفوا البيه البخيل مش هاين عليه يجيب له عامل بخمسة قروش ويريح نفسه!»
بعض الناس لا يوافقون إسماعيل بك على رأيه، ولكنني مقتنع به الاقتناع كله، وأرى أننا لن ننجح النجاح المنشود، إلا إذا كانت التربية المدرسية على أسس جديدة، وإلا إذا تقشفنا وصابرنا الأيام.
والحق أن المدنية تحمل معها متاعب وأمراضا، إلى جانب مباذلها ومناعمها.
روح الجماعة والنظام
عند ظهر يوم الأحد 27 يناير عقدت البعثة اجتماعا شهده جميع الأعضاء فتعارفوا وتآلفوا وتناقشوا، وكم كانت المناقشة بديعة، وقد سادتها الألفة، وكم سعدنا بمجتمع تملؤه المحبة وينتظمه الود، ويدعو إليه حب مصر والسودان.
إنني أعتقد أننا ننمو، وتنمو فينا روح الاجتماع والنظام. وقد ذكرت هذا في تعليقاتي على المؤتمر الوطني العام، وأذكره ثانية لمناسبة اجتماع أعضاء البعثة.
رحلات الجماعات
دفع كل عضو في البعثة خمسين جنيها مصريا لمدة 24 يوما لأداء جميع النفقات من سفر بحرا وبرا بالدرجة الأولى ونزول الفنادق، وهو مبلغ زهيد أمكن الحصول عليه لأن القوم جماعة. ومن الممكن أن تكون النفقة أقل إذا لم يكن الركوب بالدرجة الأولى، وإذا لم يكن النزول بفنادق الدرجة الأولى أيضا، فقد كان راكب الباخرة من السويس إلى بور سودان يدفع ثمانية جنيهات ونصف الجنيه، ولكن تمكنت البعثة من تخفيض الأجرة إلى خمسة جنيهات.
تستطيع البعثات المدرسية والرحلات الاجتماعية أن تأخذ طعامها وفراشها معها، وأن تفترش سطح الباخرة وركوب الدرجة الثالثة بالقطارات، ولن يجد الأعضاء غضاضة في ذلك؛ لأن عامل الخجل أو عاطفة الكبرياء أو مزعوم الكرامة لن يكون له وجود؛ لأن الأعضاء سواسية، وقد ينعمون بهذه الحياة البسيطة أكثر من نعيم الدرجات الأولى والطنافس والرياش.
إن أكثر الناس رفاهية ونعيما وترفا ليمل أحيانا حياة الترف، ويصبو إلى حياة البساطة والتقشف. بل هذا المترف المجدود، لن يحس أنه وافر الخير ومتمتع بمناعم الحياة، إلا حين يحيا حياة أخرى، هي حياة الزهد والبساطة والشظف، وهو على هذه الحال يحس بسعادتين، أو يتمتع بغبطتين؛ الأولى: غبطة القدرة على دفع المال مع محبة التغيير، ثم غبطة الإحساس بأن الله قد أعطاه مناعم وحباه بخير حرم منه السواد.
وفوق ذلك كله، تتآلف الطبقات وتزول الوحشة والجفاء بين الأكثرين.
القطن في مصر والسودان
بين مصر والسودان روابط عديدة، وفي رأيي أن المهم فيها اشتراك مصر والسودان في زراعة القطن، وحاجة هذه الزراعة في البلدين إلى إقامة الخزانات على نهر النيل. لقد فشل مشروع الجزيرة وخابت الآمال التي عقدتها الشركة الإنجليزية في زراعة السكلاريدس في أرضها، وضاعت ملايين الجنيهات، وكان من وراء ذلك أن تبين أن خطة الاقتصار على جهود الشركة ليقف السودان وحده ويستغني عن مصر والمصريين ليست صالحة، وأحس ولاة الأمر أن من المصلحة تسهيل سفر المصريين واشتراكهم في تعمير السودان.
إن مصر تجود بسبعة ملايين قنطار في العام، ومحصول السودان 700 ألف قنطار؛ منها 650 ألف قنطار سكلاريدس «مشروع ري الجزيرة».
الدكتور محجوب ثابت
آلمنا يوم سفر البعثة من القاهرة وفي اليوم الأول من ركوبنا الباخرة؛ أي يوم 26 يناير، أن الدكتور محجوب ثابت كان معتكفا في غرفته متألما من التهاب قدمه بسبب اصطدامها بحجر في بعثة طلبة الجامعة في فلسطين وسوريا. وابتهجنا في 27 يناير حين رأينا الدكتور ينهض ويفرفش.
ونذكر أن الدكتور محجوب ولد في دنقلة، وكان والده ضابطا بالجيش المصري، ولكن الدكتور لم يزر مسقط رأسه بعد انتقال والده إلى القاهرة.
وسن الدكتور 53 سنة - كما يقول هو - وعلى الرغم من عدم معرفته السودان، لأنه كان صغيرا عند انتقاله منه، فإنه يحدثك عن السودان قبيلا قبيلا ودربا دربا، ويأبى على العارفين وأبناء السودان أن يناقشوه في صحة معلوماته. (3-6) اليوم الثالث (الوصول إلى بور سودان)
بور سودان في 28 يناير سنة 1935.
استيقظنا مبكرين صباح اليوم، متطلعين إلى بور سودان، وقد ظهرت لنا عند الساعة الحادية عشرة والنصف، وسارت الباخرة الهوينا، فوصلت إلى الرصيف الساعة الأولى بعد الظهر، ونزلنا بفندق البحر الأحمر. وقد أرسلت التفاصيل بالتلغراف كما يأتي:
بيان البعثة بالتلغراف
أرسلت البعثة المصرية التلغراف التالي لدى وصولها إلى بور سودان:
بورت سودان في 28 يناير:
وصلت الباخرة شندوين المقلة للبعثة المصرية إلى السودان في الساعة الأولى بعد ظهر اليوم إلى ميناء بور سودان، وقد قوبلت بمزيد الحفاوة والحماسة، وكان في استقبالها جمهور كبير من رجال الحكومة والقضاء والعلماء والتجار والأعيان ومديري الشركات والبنوك ورؤساء الجمعيات وغيرهم، وفي مقدمتهم محافظ بور سودان ومدير الميناء ومدير الجمارك والمسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم والسيد عمر الصافي والشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير جريدة حضارة السودان ومصطفى أفندي أبو العلا ومحمد أحمد البرير والسيد محمد البرير ووكيل شركة مصر للملاحة ومدير شركة جلاتلي وهانكي وقومندان البوليس وضابط قلم الجوازات ووكيل محلج دباس بسواكن ومدير شركة الشحن ومستر فلبس هاوس والمسيو عزيز كفوري والمسيو توتنجي ووكيل السيد إبراهيم عامر بك.
وفضلا عن ذلك فقد ازدحم رصيف الميناء بالموظفين السودانيين وضباط البوليس وجنوده وجنود الجمارك وخفر السواحل، وقد أدوا التحية للبعثة. وقدم رجال الحكومة كل ما في استطاعتهم من التسهيلات للنزول من الباخرة للميناء، وأخذ المصورون صورا عديدة للبعثة مع مستقبليها. وقد نقلت أمتعة البعثة مباشرة إلى القطار الفاخر الخاص الذي أعدته حكومة السودان لسفر الأعضاء اليوم إلى سواكن، وسيظل هذا القطار تحت تصرف البعثة في جميع تنقلاتها حتى وصولها إلى الخرطوم.
فندق البحر الأحمر ببور سودان الذي نزلت به البعثة.
وقد توجه الأعضاء من الميناء إلى فندق البحر الأحمر ببور سودان، حيث استراحوا واستقبلوا وفود المهنئين.
وقد تلقت البعثة لدى وصولها إلى بور سودان خمس دعوات لتناول الشاي عند الساعة الخامسة مساء اليوم من المحافظ ومدير الجمارك ومدير شركة جلاتلي هانكي ومدير شركة مسيو كونتو ميخالس ومستر ورمس، فاضطرت البعثة إلى تقسيم نفسها خمس جماعات لتتمكن من تلبية الدعوات الخمس. وفي الساعة السابعة والنصف من مساء اليوم يستقل الأعضاء القطار الخاص إلى سواكن حيث يبيتون به الليلة.
وفي صباح غد يتوجه بالسيارات من سواكن وفد مؤلف من مندوبي الجمعية الزراعية والنقابة الزراعية العامة والغرفة التجارية بإسكندرية إلى طوكر لمشاهدة زراعة القطن في منطقتها، ويظل باقي الأعضاء في سواكن غدا حيث يعود إليها وفد طوكر مساء ويتلاقى مع الأعضاء المنتظرين ويعودون جميعا بالقطار الخاص إلى بور سودان، فيصلون إليها عند منتصف الليل وينزلون في فندق البحر الأحمر. ا.ه.
وفي صباح الأربعاء يزور الأعضاء مصانع ومنشآت بور سودان، ويلبون الدعوات الموجهة إليهم. وفي الساعة السادسة مساء يستقلون القطار إلى كسلا.
وصحة جميع الأعضاء جيدة جدا، وسرورهم عظيم، ووسائل الراحة متوفرة، وقد اغتبطوا الاغتباط كله عندما علموا أن جلالة مولانا الملك - حفظه الله - تفضل بالإنعام على المسيو كونتو ميخالس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم بنيشان النيل من الطبقة الثالثة، وقد تلقوا تلغرافا من القاهرة يفيد تحسن صحة حمدي سيف النصر بك، فكان له وقع عظيم في نفوسهم، وتمنوا له عاجل الشفاء، وقد أرسلت البعثة تلغرافا إلى معالي كبير الأمناء ترجو رفعه إلى الأعتاب الملكية ينبئ بوصولها، داعية لجلالته بدوام الصحة والعافية، وأرسلت لسمو الأمير عمر طوسون تلغرافا آخر تعبر فيه عن عظيم شكرها لسموه، وتلغرافا لدولة رئيس الوزراء ولمحافظ السويس تشكره فيه على حفاوته بالبعثة عند سفرها من السويس.
فؤاد أباظة
ووزعت شركة روتر التلغراف الآتي:
بور سودان في 28 يناير: وصلت البعثة التجارية المصرية بعد ظهر اليوم فقوبلت بمظاهر الترحيب الحماسية، وقد حياها على ظهر الباخرة القومسيير وكبار الموظفين، وكذلك المسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية. وقد اشترك كبار التجار في بور سودان في استقبالهم كذلك.
تحية البعثة: للأديب محمد حسني العامري
دع السكون إلى الأوطان والكسل
ومتع النفس بالأسفار والعمل
سافر وجد تجد عزا ومكرمة
في كل ناحية كالسادة الأول
ترى الأوائل جابوا الأرض قاطبة
بحرا مع الريح أو برا على الإبل
ولم تكن سبل الأسفار دانية
ولا البخار جرى في البحر والجبل
فما لنا قد قبعنا في منازلنا
ولا نفر من الأزمات والعلل
ماذا رأينا ببور سودان
بور سودان ميناء صغير هادئ جديد على البحر الأحمر، دفعت مصر نفقة بنائه. أنشئت في محل قرية تدعى الشيخ بوغوث يرجع تاريخها إلى سنة 1905، مبانيه أكثرها مؤلف من دور واحد، والكثير منها من الأكشاك والمنازل مخصصة في الغالب للموظفين الحكوميين ورؤساء الشركات وموظفيها. وسكان بور سودان خليط من السودانيين واليمنيين والحجازيين والهنود، وهي مركز تجاري عظيم، وهي الميناء البحري المباشر الوحيد للسودان.
وقد وضعت الحكومة تحت تصرفنا قطارا خاصا، كل صالون من صالوناته لعضو واحد من الأعضاء، وتتوافر في مركباته وسائل الراحة، وفي كل صالون حنفية ماء بحوضها، والمركبات نظيفة، وقطارات السودان خير من قطارات مصر من جهة الاستعداد.
وأهالي بور سودان أهل جد وسكون واتزان، وكان البشر باديا على محياهم والسرور ظاهرا في أساريرهم. وبينهم شبان مديدو القامة وافرو الصحة والعافية، وفتيات جميلات، في أعينهن سحر، وفي حدقاتهن إيناس ونبل، وفي مسيرهن خفر.
وهذا المسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم عصامي كبير من أبناء اليونان، له نفوذ بعيد كسبه بكفايته التجارية حتى قبلت جميع الجاليات؛ ومنها الجالية البريطانية أن يكون رئيسا للغرفة. وللرجل مكتب في إسكندرية، وفروع لتجارته في مدن السودان. وتجارته شاملة تصدير حاصلات السودان والاتجار في الواردات وتسيير البواخر والشحن والتفريغ والتأمين.
والرعايا اليونانيون منبثون في بور سودان، وقد علمت أنهم هكذا في أنحاء السودان؛ فهم أصحاب المعامل والمحالج والمصانع ومديرو البنوك وأصحاب الزراعات الواسعة.
وهكذا يدلل الشعب اليوناني على جده وكفايته وعصامية أبنائه وصبرهم، ويبرهن على أن النجاح حليف المجد الصبور المتواضع.
تنار بور سودان بالكهرباء، وشوارعها نظيفة ، وفيها فيلات صغيرة وكبيرة، وسيارات التاكسي بها مريحة وجديدة، وهي من ماركة فورد وشفروليه.
وقد بلغت نفقات تشييد ميناء بور سودان من سنة 1905 إلى سنة 1909 914320ج.م، وبلغت قيمة تجارتها سنة 1906 أربعمائة وسبعين ألف جنيه مصري، وفي سنة 1908 سبعمائة وخمسين ألف جنيه مصري، وتبعد عن السويس 700 ميل بحرا، وعن الخرطوم 495 ميلا برا، وعن سواكن 36 ميلا، وعن جيبت 40 ميلا. (3-7) اللجنة السودانية لاستقبال أعضاء البعثة ومرافقتها
مصطفى أبو العلا.
قديس عبد الملك.
فضيلة الشيخ أحمد عثمان رئيس تحرير جريدة حضارة السودان.
مسيو توتنجي.
وتألفت لجنة لاستقبال البعثة في بور سودان ومرافقتها حتى نهاية رحلتها، وهي مؤلفة من حضرات: مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم سابقا، ومسيو عزيز كفوري التاجر الشهير بالسودان، والشيخ محمد أحمد البرير التاجر الكبير، ومصطفى أبو العلا أفندي التاجر بمصر والسودان، ومسيو توتنجي، وفضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير حضارة السودان، ومستر فيليبس ومستر ريد ومستر كوكسين رئيس تحرير جريدة سودان ديلي هيرالد الإنجليزية ووكيل شركة روتر بالخرطوم، وقديس عبد الملك أفندي وكيل بوستة الخرطوم سابقا، هذا عدا لجان الاستقبال المحلية الكثيرة. (3-8) يوم طوكر وزيارة سواكن (في الثلاثاء 29 يناير سنة 1935)
استيقظنا صباح اليوم مبكرين، وتوجهنا - نحن وفد البعثة - لزيارة زراعة القطن في طوكر، فقد رئي ندب وفد مؤلف من حضرات فؤاد أباظة بك وعبد الحميد أباظة بك وعبد الحميد فتحي بك، والأساتذة علي شكري خميس وحسين الرشيدي ومحمود مصطفي ومصطفى نصرت ورياض شمس، ومؤلف هذا الكتاب؛ ذلك لأن طريق السيارات - وهو طريق القوافل والطريق الوحيد من سواكن إلى طوكر، التي لا تتصل بالبلاد السودانية بالسكك الحديدية - طريق وعر شاق، ولأن الغرض من زيارة طوكر زراعي محض، فإن حضرة فؤاد أباظة بك لم يتمكن من زيارتها في رحلته إلى السودان والحبشة في العام الماضي. «وطوكر» اسم معروف في مصر؛ فيقول الجمهور عن كل مكان بعيد «أنت عاوز توديني طوكر!» فقد كانت طوكر منفى المجرمين السياسيين وغير السياسيين.
بدأت السيارات مسيرها قبيل الساعة السابعة صباحا من سواكن، ووصلت الساعة العاشرة والنصف، وكان في استقبالنا مستر بترسون مفتش الزراعة بطوكر وعبد الله شفيع أفندي مأمور مركز طوكر، ومعهما الموظفون. وكان معنا سندويتش وبيض وخبز وجبن وشاي ولبن وقهوة في زجاجات الترموس وليمون. ولضيق الوقت تناولنا طعام الإفطار بمجرد وصولنا إلى استراحة الحكومة بطوكر. وكانت ثيابنا محملة بالغبار، والعرق يتصبب من أبداننا، فبادرنا بالاغتسال بالماء.
وفي الساعة الحادية عشرة صباحا توجهنا بالسيارات ومعنا مفتش الزراعة وحضرة مستر فيليبس مدير شركة كونتو ميخالوس إلى مزارع القطن بطوكر، فوصلنا إليها بعد نصف ساعة، وهناك شهدنا منطقة واسعة خضراء قد فرشت بشجيرات القطن، فنزلنا من السيارات ومررنا بين الحقول.
وفي مكتب مستر بترسون مفتش الزراعة شهدنا خريطة منطقة طوكر، وهي على شكل دلتا مساحتها 250 ألف فدان ترويها السيول والأمطار وروافد الأنهر الصغيرة - كنهير بركة - وهي غير متصلة بالنيل. وتنزل هذه السيول في هذه المنطقة في أثناء فصل الصيف، ولكن ما يزرع منها عشر مساحتها؛ من ذلك 32 ألف فدان من القطن، وسبعة آلاف فدان من الدخن والعدس والذرة.
وقبل بدأ الأمطار يبذر الزراع بذرة القطن بواسطة أداة تسمى «السلوكة»، وهي قطعة من الحديد يحفر بها الزارع حفرة في الأرض ويضع البذر. وعلى بعد متر ونصف المتر من الحفرة الأولى يفتح حفرة أخرى وهكذا، وتسمى الحفرة عند سكان طوكر «جورة».
وفي أول أغسطس يكون فصل الأمطار قد انتهى وينبت الزرع. وفي أواخر نوفمبر تظهر بواكير لوز القطن، وبين أواخر يناير وفبراير يمكن الحصول على «الجنية الأولى» من القطن. ويستمر الجني حتى وسط شهر يونية. ثم يبدأ فصل الصيف وتهب فيه ريح صرصر خطرة تسمى «الهبوب»، ويسمون الريح التي تهب في أثناء موسم الزراعة «الهبهب» مصغر «هبوب»، ويسمون «الجنية» من القطن «تلجيطة»؛ أي «تلقيطة» من «لقط» يعني جمع.
وفي أثناء فصل الصيف - أو فصل الهبوب - يهجر الزارع طوكر إلى أعالي الجبال أو إلى مساكنهم الأصلية، فإن كثرة الزراع من غير سكان طوكر، وإنما ينتقلون إليها من أنحاء مختلفة من السودان ومصر في فصل الزراعة وهو فصل الشتاء .
والأراضي ملك للحكومة، ولكنها توزعها للزراعة على القبائل، وعددها 72 قبيلة مسجلة، وهناك قبيلتان غير مسجلتين. وتوزع الأرض الصالحة للزراعة على القبائل بنسبة عددها، والأهالي لايملكون أرضا. على أن الحكومة تستبقي بضعة آلاف من الأفدنة لتوزعها على الأفراد من غير القبائل لزراعتها فقط أيضا، ومنهم يونانيون.
ويحضر الزراع القطن بعد جنيه إلى مركز طوكر، ويتولى بيعه سماسرة رسميون، وعددهم 12 من الأهالي. ويكون بيعه في بورصة مجاورة لمكتب مفتش الزراعة تحت إشرافه. وثمن القنطار 80 قرشا في المتوسط، وتختلف الأسعار سنة عن أخرى ويوما عن يوم. وقد حدد بدء بيع المحصول الجديد في 11 فبراير القادم، ويستمر في الأيام التالية إلى يونية حتى يباع كله.
ويوضع القطن عند وصوله إلى المركز في شونة مسورة ويوزن، وبعد البيع ينقل إلى شونة أخرى ويوزن مرة ثانية، وينقص وزنه نحو 8٪ في الوزن الثاني بسبب تبخر ماء القطن.
وأهم مشتري قطن طوكر هم مسيو كونتو ميخالوس وبيل بالإسكندرية، وشركة إسكندرية التجارية وأولاد إلياس دباس بمصر والسودان، ومستر راي إيفانس بليفربول. ويصدر القطن إلى إنجلترا وفرنسا. وقطن طوكر كله سكلاريدس.
ويجود الفدان الواحد بنحو ستة قناطير صغيرة. والقنطار الصغير هو ما كان وزنه مع بذرته مائة رطل. ويحلج هذا القنطار؛ أي بعزل البذرة منه فيصبح قطنه متراوحا بين 30 و35 رطلا والباقي بذرة. وكان محصول العام الماضي سيئا؛ إذ كان حوالي قنطارين ونصف، ولكن بشائر المحصول الجديد تنبئ بأن متوسط محصول الفدان سيكون ستة قناطير صغيرة، وأجود محصول فيه ثمانية قناطير.
وهناك مشروع لإنشاء خزان للانتفاع بماء السيول؛ لأنه يجري نحو البحر الأحمر فيضيع أكثره.
ويهرع أكثر الزراع بعد انتهاء الموسم إلى جبال سنكات العالية، أو إلى جبل أركويت، مصيف الحاكم العام للسودان، وهذه المناطق الجبلية العالية - على ما يقول العارفون - تشبه جبال سويسرا ولبنان في جوها وصلاحيتها كمصيف.
ولطوكر ميناء يسمى «ترنكتات»؛ منها سكة حديد بضائع ضيقة تصل إلى طوكر، وتحمل قطنها على بواخر مسيو كونتو ميخالوس.
وأهم القبائل قبيلة الهدندوة، ولأفرادها رطانة، وفيهم جمال، ويقول بعض المؤرخين إن أصل المصريين من هذه القبيلة أو إنهم مع المصريين من أصل واحد. قامتهم متوسطة، وأنوفهم مدببة، نحاف، ونساؤهم بارعات الجمال، ويساعدن الرجال. ويحمل الرجل منهم قوسا وسكينا مقوسة، وشعرهم أسود فاحم، وهم حديدو البصر، ويعرفون العربية ويتعلمونها، ولكن لهم رطانة خاصة من أصل غير عربي يتحدثون بها.
وبعد هذه المشاهدة عدنا بالسيارات إلى المركز، حيث كانت الساعة الأولى والنصف، وبعد الاستراحة قليلا ورد الزيارة لمفتش الزراعة والمأمور ووكيل البريد والتلغراف - والثلاثة سودانيون - ركبنا السيارات عند الساعة الثانية بعد الظهر وعدنا إلى سواكن في الساعة الخامسة، حيث كان باقي الأعضاء في المدينة.
وقد أقام حضرة جورج شكري أفندي وكيل شركة أولاد دباس بسواكن بمحلهم بها حفلة شاي، وقال: إن أنجال المرحوم إلياس دباس كانوا يودون الحضور إلى سواكن لاستقبال البعثة، وهم يعتذرون بارتباطهم بأعمال منعتهم من السفر. وقد أسس المحلج المرحوم إلياس دباس في سنة 1874؛ أي في أثناء الحكم المصري للسودان، وقد نهبه الثوار في الثورة المهدية، وبعد إخمادها فتح من جديد، وهو يحلج قطن طوكر. وأصحاب المحلج مصريون، وجميع عماله من سكان سواكن، ولذا يمون قسما كبيرا منها بالعمل والأجور.
وزاروا مصبغة الشيخ محمد السيد البربري وبها عشرون عاملا، ثم زاروا منزل الشيخ الكبير محمود عثمان أرتيجه بك عمدة سواكن وزعيم قبائل الأرتيجة، ويبلغ عمره تسعين سنة، وقد فقد بصره. وعندما اعتذروا عن تناول القهوة بداره، دمعت عينا الرجل تأثرا، وقال: هذا خيركم، فإن الخير جاء على يديكم. فاضطروا لتناول القهوة وشكره. وأخذ الرجل يروي قصصا تاريخية غريبة عن حوادث السودان في عهوده المختلفة، وكان اللورد كتشنر باشا يزوره ويقدره.
وزاروا دار المحافظة القديمة بسواكن، وهي مشيدة على الطراز التركي القديم كقصور القاهرة القديمة في الأحياء الوطنية، وهي تشرف على ميناء سواكن. وأمام الدار مدفعان تركيان، وبجوارهما وقعت المعركة الفاصلة والختامية في حرب استعادة السودان، وأقام اللورد كتشنر باشا السردار العام للجيش المصري يومئذ في تلك الدار، حيث أسر البطل السوداني الكبير المرحوم عثمان دقنة زعيم دنقلة.
كانت سواكن الميناء السوداني الوحيد، وكانت مركزا تجاريا عظيما بين السودان وأفريقيا من جهة، وبين الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب وفارس والهند وغيرها من جهة ثانية. ومن تجارتها تجارة النخاسة، حيث كان للرقيق الأسود سوق رائجة، ولذا كان بين سكانها السابقين والحاليين الكثير من أبناء اليمن ومكة وحضرموت.
وبها قصور وعمارات للسادة الميرغنية وللشناوي - وهو غير شناوي المنصورة - والبربري وأصله من السويس. وتدل المباني والشوارع على أنها مدينة قديمة المدنية، وأنها كانت ترفل في حلة العز، وتنعم بالجاه والثروة، ولكن كارثتين حلتا بها بدلتا بسعادتها بؤسا، وبعمرانها خرابا، وبعزها ذلا:
الكارثة الأولى:
إنشاء ميناء بور سودان. ويقال إن اللورد كرومر هو الذي أوحى بإنشاء الميناء الجديد؛ لأن سواكن كانت موقعا مهما في خلال الثورة المهدية، ولأن سكانها شجعان وكانوا على ولاء للمصريين والأتراك ومتصلين بحركة الخلافة الإسلامية. ومن جهة أخرى قيل بأن ميناءها لم يكن يصلح لرسو البواخر الكبيرة، وأن موقع بور سودان أصلح طبيعة للميناء من سواكن.
الكارثة الثانية:
خروج الجيش المصري من السودان. فقد كان هناك معسكر كبير لذلك الجيش، وكانت النقود التي ينفقها الضباط والجنود تتداول بين السكان.
وقد رأينا أكثر بيوتها بين مهدمة ومغلقة ينعق فيها البوم، وأكثر دكاكينها موصدة. وبهذا أصاب الفقر المدقع أغنياءها؛ فقد زالت تجارتهم وأقفرت عماراتهم الكبيرة جدا، حتى إنهم لم يجدوا سكانا ولو مجانا لتعميرها والحيلولة دون تهدمها. وقد هاجر أكثر من أربعة أخماس السكان إلى بور سودان وطوكر وغيرهما.
والحق أن الإنسان ليتأثر من هذا المنظر، والحق أن الشقاء مقدور للبلدان كما كتب للإنسان.
ولم يبق لسواكن من مظاهر الجاه، غير أنها ظلت حتي اليوم ميناء حجاج السودان، فتقلهم الباخرة «تلودين» التابعة لشركة البوستة الخديوية يوم الاثنين كل أسبوعين، وتزورها الباخرة الثانية يوم الأربعاء كل أسبوعين، ولأهمية سواكن كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر والسودان، وقد منحت ولايتها لمحمد علي مضافة إلى ولايته على مصر. وبعد استعادة السودان ظلت تابعة لمصر، حتى ضمت بعد عشرة أعوام تقريبا إلى السودان وصار شأنها كالبلاد التي شملتها اتفاقية سنة 1899. وكانت إدارتها الصحية تابعة لمصلحة الكورنتينات المصرية حتى بعد خروج الجيش المصري سنة 1924، ولكنها فصلت أخيرا، وأنشئت فيها مصلحة سودانية يديرها مفتش إنجليزي يندب في موسم الحج، وله مساعد وهو طبيب سوداني مستديم.
وبها مدرسة أولية فيها 120 تلميذا. وتناولنا العشاء بالقطار الخاص وبتنا فيه.
توفيق بك بطل سنكات
قال الأديب محمود ذو الفقار الكاشف:
قرأت مقالا للأستاذ عبد الله حسين يصف رحلة البعثة المصرية عند زيارتها سواكن وطوكر وسنكات، وفات الأستاذ أن يذكر ما لسنكات من تاريخ حافل بالبطولة والشجاعة؛ فقد ترك قائد هذا الموقع الضابط توفيق بك صفحة خالدة من صفحات المجد في تاريخ مصر الحديث، إذا ذكرت حوادث السودان الشرقي ومعارك عثمان دقنة الزعيم السوداني المشهور. ويؤلمني جهل أبناء مصر التاريخ، وأمثال هؤلاء الضباط الذين أراقوا دمائهم في سبيل مجدها ونشر نفوذها في مجاهل السودان، وخليق بمصر أن تؤدي واجب الوفاء نحو هذا البطل وقد عرف له الإنكليز بطولته وقدروا بسالته فوضع جلالة ملكهم الحالي تذكارا له ولجنوده الشجعان عند زيارته سنكات في سنة 1912. ولمناسبة ذكرها في مقال حضرة مندوبكم رأيت أن أكتب على صفحات «الأهرام» لمحة موجزة من تاريخ هذا الضابط العظيم.
ولد توفيق بك من أب مصري وأم سورية، وتعلم في المدرسة الحربية في عهد إسماعيل، وبعد أن جاز امتحانها ألحق بالخدمة في محافظة سواكن، وتدرج في الرقي إلى أن عين محافظا لها في عهد الخديوي توفيق، ولما استتب الأمر للمهدي في السودان الغربي بعد إبادته لحملة هكس «أكتوبر 1883» أرسل عثمان دقنة أحد أمرائه إلى سواكن ليدعو أهل السودان الشرقي لمبايعة المهدي ونصرته، فتمكن أميره من إثارة القبائل، والتف حوله عدد كبير منهم بجهات سنكات وما حولها، ولما بلغ توفيق بك أمره - وكان محافظا لسواكن - توجه إليه بنفسه على رأس ستين جنديا، ولما وصل إلى هذه الجهة طلب من عثمان دقنة الحضور إليه فلم يحضر، بل فاجأه هذا بالهجوم عليه بغتة، فتحصن توفيق بك ومعه هذا العدد القليل من جنوده داخل سنكات، وكان ذلك في أكتوبر سنة 1883، ولما زاد عدد الثوار تحت إمرة زعيمهم حتى بلغوا عشرين ألف مقاتل، واشتد الحصار على طوكر وسنكات التي استبسل قائدها في الدفاع عنها، رأت الحكومة المصرية تجهيز حملة بقيادة محمود باشا طاهر لإنقاذ المحصورين فهزمت شر هزيمة «نوفمبر 1883»، ثم عادت وسيرت حملة أخرى بقيادة بيكر باشا فدحرها الدراويش «فبراير سنة 1884»، ولما رأى توفيق بك ما حل بالحملتين من هزيمة منكرة خرج بجنوده وهو شاهر سيفه مخترقا صفوف محاصريه وهم يبلغون عشرين ألف مقاتل، وظل يقاتل مستبسلا على رأس جنوده إلى أن وقع أسيرا، فأمر عثمان دقنة بقتله بعد أن عذبه كثيرا. وكان أمير الدراويش قد طلب منه تسليم سلاحه ليؤمنه على حياته، فرفض الضابط الباسل الاستسلام مفضلا الموت في ساحة الوغى على الخضوع والتسليم بعد أن قاوم أعداءه أربعة أشهر كاملة مقاومة دلت على بسالة وشجاعة نادرة.
فهل آن لمصر أن تذكر أمثال هؤلاء الضباط البسلاء فتهم بتخليد ذكراهم ولو بكتابة تاريخ موجز لكل منهم في كتب التاريخ التي توزع على المدارس! إذ بينما نجد فيها ذكر غوردون وكتشنر وصمويل بيكر وغيرهم من الضباط الإنكليز نجد هذه الكتب تغفل ذكر ضباطنا الذين استشهدوا والإنكليز جنبا إلى جنب في مجاهل السودان. ألا يجدر بنا ونحن نذكر السودان ونتحدث عنه الآن أن نقيم في أرضنا تذكارا خالدا لهؤلاء الأبطال الذين أفنوا حياتهم في سبيل مجد مصر كي يحدث الأبناء عما فعله الآباء؟ وإنه لواجب أدنى لا يجوز التهاون فيه.
وصول أعضاء البعثة إلى ميناء بور سودان (ويرى من اليمين: محمود مصطفى الجمال. أحمد السيد أبو الفضل الجيزاوي. مسيو كفوري. فؤاد أباظة بك. عبد اللطيف أبو رجيلة. محمد عبد الرحيم سماحة. محمد أحمد البرير.) (3-9) العودة إلى بور سودان (يوم 30 يناير سنة 1935)
بتنا ليلة أمس - 29 يناير - بالقطار الخاص الذي وضعته حكومة السودان تحت تصرفنا للانتقالات وللمبيت فيه حتى نصل إلى الخرطوم.
وقد استيقظنا الساعة السادسة صباحا وتوجهنا إلى فندق البحر الأحمر، التابع لمصلحة السكك الحديدية السودانية.
هذا الفندق الأنيق الصحي الفسيح المشيد على أحدث طراز للفنادق الصيفية الأوروبية من مفاخر مصلحة السكك الحديدية في السودان، فقد أنشأت المصلحة طائفة من الفنادق التي تتوافر فيها وسائل الراحة ؛ من جريان الماء الساخن والعادي، والإنارة بالكهرباء، والمراوح، والأبهاء، والصالونات، والحدائق، وبكل غرفة سريران وحمام متصل بها، والأجرة اليومية مع الأكل 110 قروش، ولكن يمكن الاتفاق على أكثر من ليلة بأجر مخفض.
وخدم الفنادق من سكان حلفا والشلال وأسوان، يلبسون العمائم السودانية ويتمنطقون بحزام أخضر اللون، وهم مؤدبون وأذكياء، وكثير منهم اشتغل في مصر.
أنشأت المصلحة فندقا في كل من الشلال وجوبا والخرطوم وبور سودان.
ومن العجيب أن مصلحة السكك الحديدية المصرية - وهي أغنى من زميلتها بالسودان - لم تنشيء فندقا على الأقل في مدينة كطنطا ثالث عواصم المملكة المصرية وعاصمة الوجه البحري، فليس بطنطا فنادق من الدرجة الأولى أو حتى الثانية، ومن المخجل أن لا يجد النزيل فندقا يماثل الفنادق الحكومية بالسودان.
وبعد الاستحمام في فندق البحر الأحمر تناولنا طعام الإفطار، وكان مليئا من البيض والسمك والفاكهة والجبن والكبد والقهوة والشاي والحلوى. وفي الميناء ركبنا قوارب صغيرة لمشاهدة قاع السواحل المرجانية، ومن أجل هذا ربطت بالقوارب صناديق خشبية كان قعرها من الزجاج العادي وسطحها الأعلى غير مغطى، وإذا نظر الإنسان في الصندوق، رأى قاع البحر عند الساحل المرجاني. رأى عجبا؛ فهناك صخور وأحجار قد طويت وتحلت وأشبهت عناقيد العنب والإسفنج والعقيق والأصداف، كأنما هناك أطباق عرضت فيها أنواع الفاكهة والزهور. وهناك أسماك اختلفت ألوانها بين الأحمر والأسود والأصفر والأخضر، والملون بأشكال الطيور؛ كألوان الببغاء والعصافير الزاهية. ولولا أن الرائي يعرف أنه يشاهد أنواعا من السمك، لحسبها أنواعا أخرى من الطيور. وهناك أسراب بديعة فيها ألوف من السمك صفوفا وصفوفا.
أمضينا نحو ساعة ناظرين دهشين في هذا الساحل العجيب، وقد تساءلت متى يجيء اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان أن يعيش في البحر وفي جوف الماء وبين الأسماك بعد أن استطاع أن ينتفع بالجو طائرا ومتنزها.
ألا تكون هناك اختراعات تسهل للإنسان أن يعيش في الماء، حيث هناك جبال وتلال وأودية وسهول وحزون وألوف من الحيوانات، وحيث يستنقذ حياته من شقاء المدينة أو عذاب البر.
وقد دفع كل شخص عشرة قروش عن هذه المشاهدة، وأهدى إلينا البحارة قطعا من هذه العناقيد الصخرية العجيبة اقتطعوها أمامنا بمهارة مدهشة.
وقد أنشأت مصلحة السكك الحديدية حماما في المينا به عشرة كابينات؛ وذلك لأن الاستحمام في البحر مباشرة خطر، لوجود سمك القرش وعقارب الأسماك، فتصيب الأبدان بجروح دامية.
وهناك حوضان للحمام: حوض كبير طوله مائة قدم وعرضه 75 قدما، ويسع 1200 طن، ويملأ في ساعتين ونصف ويفرغ في ساعة ونصف. ويكون ملؤه بموتور كهربائي من البحر الأحمر مباشرة، وعمق الحوض طبقات:
و4 و5 و7 أقدام. وحوض صغير للأطفال عمقه قدمان ونصف قدم.
وأجرة دخول الحمام خمسة قروش، وللأطفال قرشان ونصف القرش.
ثم زرنا حضرة عبد اللطيف أبو رجيلة أفندي وكيل شركة مصر للملاحة البحرية في مكتب الشركة ببور سودان، حيث أنشأه على نفقته لمعاونة الشركة في أعمالها، وهو شاب نابه ألف شركة مع حضرات السادة يونس أحمد وعبد المنعم محمد وآخرين للاتجار والشحن والتصدير والتأمين وتعاطي أعمال بنك مصر. وهو من أبناء إسنا، ووالدته سودانية، وتعلم بالمدرسة السعيدية الأميرية.
وسينشئ فرعا لشركة مصر لمصايد الأسماك في بور سودان بإنشاء ثلاجة بها، فيصاد السمك - وهو غزير - في مينا بور سودان ويوضع في سيارة لوري بها ثلج، وينقل إلى بور سودان، ويصدر إلى مصر.
زار الأعضاء محلج الحكومة، واستقبلهم مديره الإنجليزي. ويحتوي المحلج على ثمانين دولابا، ويدار بالكهرباء، وطرازه حديث، وبه 300 عامل سوداني، ورؤساؤهم مصريون. وبجانب المحلج مخازن مسيو كونتو ميخالوس، وهي تسع مليون قنطار من القطن.
وزرنا مصبغة إبراهيم عامر بك ومديرها نصري أفندي، وبه 42 عاملا من أسيوط، وقد شكر فؤاد بك حفاوة إبراهيم عامر بك، ورد عليه حضرة نصري أفندي شاكرا.
وأقام مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم حفلة شاي مساء اليوم بفندق البحر الأحمر، حضرها مديرو الشركات والبنوك، وألقى فؤاد بك خطابا بالإنجليزية، وقد تجلت المودة بين الحاضرين وهم من مختلف الجنسيات، وكانت حفلة اجتماعية جامعة.
وببور سودان مدرسة حكومية ومدرسة كاثوليكية، وبها مستشفى، وهو خير من أي مستشفى في عواصم المديريات المصرية.
وبور سودان تشبه مصر الجديدة من حيث سعة شوارعها ووجود البواكي والمتنزهات ونظافتها وهدوئها، وقد احتملت أزمة شديدة، ولكن منذ العام الماضي أخذت الحالة في التحسن، والدلائل تنبئ بأنه سيكون لها مستقبل كبير.
وفي الساعة السادسة استقل الأعضاء القطار الخاص إلى كسلا، حيث يمضون 26 ساعة لمشاهدة دلتا الجاش ومزارع القطن وغيره.
لقد كانت رحلتنا شاقة ومتعبة، وأشعر أن معرفة هذه البلاد تنقصنا، ولكن احتملنا العناء بلذة واغتباط. (3-10) بين بور سودان إلى كسلا (يوم 31 يناير سنة 1935)
يقصر القلم حقا عن وصف حماسة إخواننا سكان بور سودان؛ أعيانا وحكاما وأهلين، عند توديعنا في فندق البحر الأحمر ببور سودان وفي محطتها، ولم يتمالك بعض الأعضاء والمودعين من ذرف دموع امتزج فيها فرح اللقاء بأسف الفراق. وقد شعر كل عضو بأنه يودع أهلا وإخوانا، وأنه يفارق ذوي الأرحام. وكنا نسمع لغة عربية فصيحة ونشاهد عادات مصرية طيبة في الكرم والاستقبال الباسم؛ «أهلا وسهلا» يقولونها دائما. وقد نسيت أنني في رحلة مع رفاق، وأن لنا برنامجا محدودا، وأن لي عملا وأهلا ومقاما بالقاهرة، فوددت لو بقيت مع البور سودانيين!
وهؤلاء الشبان أعضاء «نادي السواكنيين» ببور سودان التفوا حول الدكتور محجوب ثابت، ودعوه ولفيفا من صحبه لزيارة ناديهم، وخطبوا وخطب الدكتور وخطب السيد علي شكري خميس وصفق الجميع، فكأنهم كانوا في حفل مصري بالقاهرة. ولقد كنا كلما وصلنا إلى محطة أو بلد، ألفينا الأهالي - رجالا ونساء، شيبا وشبانا - قد خرجوا للقائنا ثم عادوا لتوديعنا كأننا الغيث ينزل عليهم، أو ذوو الأرحام الغائبون يعودون إليهم، وكانت الأسرات الأوروبية - من إنجليزية ويونانية وغيرها - تشترك في استقبالنا وتوديعنا: عاطفة شاملة من الحب، وفيض عميم من الود.
عشرات من الدعوات لتناول الطعام والشاي والزيارة تلقيناها، وكنا نألم ونأسف لعجزنا عن إجابتها جميعا.
وكنا نتبين في وجوه الداعين أثر الخيبة في عدم إجابة دعواتهم، فيقول لسان حالنا: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وفي الساعة السادسة من مساء أمس - الأربعاء 30 يناير - سار القطار بنا إلى كسلا.
وتناولنا طعام العشاء الساعة الثامنة مساء بالقطار، وتفرقنا جماعات إلى الطاولة والبريدج والشطرنج.
في سوق درديب
وقد سار بنا القطار حتي محطة درديب وشهدنا بها سوقا لبيع الدوم، ومحصوله 8 آلاف طن قيمتها عشرون ألف جنيه تشحن من درديب، ونهايته إلى اليابان وإيطاليا لعمل الزراير، ويباع بالمزاد العلني. وقد تقدم للمزاد رجل يدعى الشيخ بكاش محمد من تجار السودان ووكيل مسيو كونتو ميخالوس. وفي أثناء المزايدة تقدم الدكتور محجوب ثابت عندما كان المزاد بسعر 16 قرشا ونصف للقنطار، وأعلن الدكتور أنه يزايد بمبلغ 17 قرشا. فقال المنادي: «يستاهل.» ومعنى ذلك أن المزاد قد رسا على الدكتور، وطلب إليه المنادي أن يشتري كل الكمية على هذا السعر؛ لأن المزايدة كانت على الكمية كلها لا على إردب وحده.
فتحرج مركز الدكتور، إذ كان قد قدم مبلغ 17 قرشا للمنادي، وحينئذ تقدم «بكاش» المشار إليه وأعلن أنه يقبل الكمية بهذا السعر، وثمن الكمية التي كانت بالسوق 60 جنيها، فأنقذ الدكتور من الورطة ...!
ثم عدنا إلى القطار وتناولنا طعام الغذاء، وفي الساعة الأولى وعشر دقائق وصلنا إلى بلدة «أرومة» حيث استقبلنا لفيف من مفتشي الزراعة الإنجليز، وركبنا معهم السيارات حتى مزارع القطن في دلتا نهر الجاش، وهو نهر يروي أراضي مديرية كسلا، ومساحة المنطقة 150 ألف فدان، يزرع منها 32 ألف فدان، منها 28 ألفا يزرع من السكلاريدس.
والأطيان المزروعة - بل جميع أراضي مديرية كسلا - ملك لحكومة السودان، وهي تؤجرها للأهالي، وهم من قبائل مختلفة، يحضر أكثرهم من جهات بعيدة، وتشرف مصلحة الزراعة على إعداد الأرض للزراعة والري، وتسلم الأرض للزراع. وهناك ترع رئيسية ومساق لتوزيع ماء نهر الجاش، وتتولى الشركة الزراعية الإنجليزية بيع قطن الجاش في إنجلترا مباشرة، وتعطى نصف الأرباح إلى الزراع والنصف الثاني تستولي عليه الحكومة.
والزراعة بالمنطقة بالدورة الثلاثية؛ فيزرع القطن عاما، وتظل الأرض خالية من زراعة القطن أو أية زراعة أخرى في العامين التاليين.
وقد قرأنا في أول المنطقة لوحة مكتوبا فيها ما يلي:
تاريخ الزراعة 1934/9/14، التربة أرض كثيرة تغطى بالطمي، الري: 17يوما.
حالة الزراعة معتادة، والحش ثلاث مرات.
وشهدنا حقلا تجريبيا جربت فيه زراعة القطن الأمريكي من الصنف المسمى «ويبار»، وقد بدأ موسم الجني في 15 ديسمبر، ويستمر إلى آخر مايو القادم. وتنزل الأمطار من يونية حتى 15 سبتمبر. وقد رأينا امرأة شابة تجني القطن من الحقل وهي حاملة طفلها الرضيع مربوطا على ظهرها في وهج الشمس، وهي صابرة تبتسم لنا.
وفي وسط الحقل أعدت «منظرة» ذات أعمدة خشبية ومغطاة بالقش، جلسنا فيها واسترحنا قليلا، ثم عدنا إلى القطار وواصل سيره.
في محطة كسلا
سافر القطار الخاص من محطة «أرومة» الساعة الرابعة والنصف، وقد ازدحمت المحطة بالمودعين من إنجليز ومواطنين، ثم سار القطار حتى وصل إلى محطة كسلا الساعة السادسة مساء. وكان في استقبال البعثة حضرة المأمور وجميع الموظفين والأهالي، وركب الأعضاء السيارات فزاروا نادي مستخدمي كسلا حتى الساعة الثامنة مساء. وقد تناول العشاء على مائدة مدير مديرية كسلا الإنجليزي حضرات رشوان محفوظ باشا وفؤاد أباظة بك ويوسف نحاس بك والأستاذين على شكري خميس وعبد المجيد محمد الرمالي، مندوبي البعثة.
وقد تقرر سفر فؤاد أباظة بك وبعض زملائه صباح الجمعة أول فبراير إلى مديرية تسانايا في إريتريا لمشاهدة زراعة القطن بها. ويستقبل المدير حضرات الأعضاء الساعة الحادية عشرة صباحا.
والطريق بين المحطة ونادي الموظفين وعرة وخطرة، وقد رأينا في الطريق منازل حقيرة يسكنها زراع رحل يسيرون على الأقدام إلى الحجاز للحج، ويسمون «فلاتة».
ودار النادي من مخلفات الجيش المصري بكسلا، وتحيط به حديقة. (3-11) زيارة كسلا وبيانات عنها
بتنا الليلة بالقطار الخاص أيضا، حيث كان واقفا أمام محطة كسلا وتناول الأعضاء الطعام صباح اليوم - الجمعة أول فبراير - وتوجهنا بالسيارات الساعة التاسعة صباحا إلى داخل مدينة كسلا، وهي تبعد عن محطتها
كيلو مترات وطريقها وعر، وتبلغ المسافة من بور سودان التي قام منها القطار إلى محطة كسلا، 550 كيلو مترا. ورأينا في الطريق بين محطة كسلا وكسلا نفسها منازل «الفلاتة» بتشديد اللام، ويسمون أيضا «الهوسة» و«التكارنة»، وأصلهم من مهاجري السودان الفرنسي والحبشة، وهم أهل جد وعمل، يشتغلون بالزراعة في موسمها، وفي الأوقات الأخرى يقومون بحمل الذين يعبرون حوض نهر الجاش بين المدينة ومحطتها ، وذلك عند فيضانه صيفا بين يونية وأكتوبر، حيث يغمر ماؤه مجراه الذي عرضه كيلو متر واحد، ويبلغ عمقه عندئذ مترين أحيانا، وهو عرضة للارتفاع والهبوط في اليوم الواحد، تبعا لحالة المطر، وامتصاص الأرض للماء وانتشارها في أنحاء المجرى، وبعد الفيضان يظل المجرى في أشهر السنة الأخرى جافا.
ويبلغ عدد السكان الفلاتة عشرة آلاف نسمة، ولهم جلد غريب على العمل، إذ يؤدون فريضة الحج سيرا على الأقدام، ونساؤهم سافرات في الغالب، ما عدا «العرائس» وهن في دور الشباب، ويشاركن الرجال في جميع الأعمال من زراعة وتجارة، ويتزوج رجالهن أكثر من امرأة واحدة، والكثير منهم متزوج بأربع نساء، وللرجل في المتوسط زوجتان.
ويبلغ سكان مدينة كسلا حوالي ثلاثين ألفا، بينهم العشرة آلاف المشار إليها من الفلاتة.
وعلى جانبي الطريق أشجار «العشر» بضم العين وفتح الشين. وهو شجر قصير الساق ينتج طبيعيا من غير غراس، بداخل أوراقه وفروعه مادة لزجة بيضاء، تجهض المرأة، وتعمي البصر، وتمتص الشوكة التي تدخل في جلد الإنسان. ويستخرج من زهره سكر قليل يشبه السكر «السنترفيش»، وثمرته كبيرة بداخلها وبر حريري يصلح لعمل الورق والأقمشة الحريرية، ويستخرج من عيدانه مادة السبرتو.
البعثة في تسانايا وكسلا (وحفلة شاي بنادي موظفي كسلا في يوم الجمعة أول فبراير)
ازدحمت المعلومات والأخبار لدي في أثناء الرحلة، وتزاحمت الخواطر عندي، حتى لأجدني حائرا في صياغة ما اجتمع لدي، ولكل شيء عندي أهميته وفائدته. ومن الأسف الشديد أننا نكتب عن بلد كان يجب أن تكون تفاصيل تاريخه وحوادثه معروفة للعامة؛ لأن السودان ارتبط بمصر قديما، وفيه دماء مواطنينا وأموالنا، ونحن بناة خطوطه الحديدية وطرقه، ومؤسسو حضارته، وكان معسكرا لجيوشنا، ومستزادا لضباطنا، وللمصري في كل ناحية أثر: في العادات واللغة والدين، وفي بناء المساكن، في تأثيث الدور، وبناء المساجد.
ونحن - الكتاب والسياسيين، صحفيين وغير صحفيين - طالما دبجنا المقالات من السودان ونبهنا الأذهان إلى علاقته بمصر، ولكنني - وقد زرت بعض مدنه - أقول إن ما كنا نتصوره عن السودان على ضوء الكتب التي طالعناها والروايات التي سمعناها، لا يصور الواقع كله، وسنعود إلى مصر وفي أذهاننا صورة أخرى صادقة.
إن بين مواطنينا الألوف ممن عاشوا في السودان - كرجال الجيش المصريين الحاليين والمتقاعدين، وكالموظفين المصريين السابقين في حكومة السودان أو في وزارتي الحربية والأشغال المصريين والتجار - ولكن من منهم عني بوضع كتب أو إلقاء محاضرات عن السودان أو بعض مناطقه أو حوادثه أو حاصلاته؟! وإذا وجد شيء من ذلك فهو النذر الذي لا يحتسب، والقليل الذي لا يشفي بعض الغلة.
وأعتقد أن البعثة المصرية للسودان ستعرف مواطنينا بالسودان، وأنها قد آصرت بين المصريين والسودانيين بما لم يقم به الألوف الذين عرفوا السودان وعاشوا فيه.
وقد دار حديث بيننا وبين أحد أعيان السودان، تناول هذه المسألة فقال: «لقد كانت غاية علمكم بالسودان ما سمعتموه من بعض الموظفين المصريين الذين يرون في السودان منفى، ولا يقنعون بشيء إلا أن يسكنوا القاهرة دائما فهم لا يرضيهم أن ينقلوا إلى أسيوط أو حتى إلى بنها!»
بعثتنا تزور السودان بروح أخرى غير روح الموظف الحانق على بعده عن القاهرة، ذلك الموظف الذي يأنس إلى حياة المقاهي والبارات والملاهي والرخاوة، أو يقبع في بيته، ويريد الحياة آمنة، ليس فيها شوك قتاد، أو بعد مزار.
إنني أدعو مواطني - وخاصة شباننا بالجامعة وغيرها - إلى زيارة السودان، وأدعو وزارة المعارف أن تحفل بدروس الجغرافيا والتاريخ عن السودان، فالكتب الحالية هي أسوأ سبيل للوقوف على حالة السودان.
لو كتبنا ألوف المقالات عن السودان وقدمنا البراهين والأسانيد على علاقته بمصر، لما أفادنا هذا شيئا، إذا لم نواصل زيارة السودان، وإذا لم تغير وزارة المعارف منهج دروس الجغرافيا والتاريخ عن السودان.
زيارة تسانايا بإريتريا
في الساعة الثامنة من صباح اليوم زار حضرة فؤاد بك أباظة ومعه عشرة من زملائه مزارع تسانايا على الحدود السودانية الإريترية، وقد زارها حضرته في العام الماضي وفي سنة 1911، بدعوة حضرة الدكتور جسباريني عضو مجلس الشيوخ الإيطالي لإريتريا والصومال سابقا الذي استقال من هذا المنصب، وألف شركة لزرع القطن في تسانايا، في مساحة تبلغ ثلاثين ألف فدان قابلة للزراعة، وقد تم حتى الآن زراعة 6500 فدان من القطن السكلاريدي والأشموني، ولم تفلح تجربة زراعة القطن الأمريكي؛ فإن بذوره لم تثمر شيئا، فعدل عن زراعته. ويجود الفدان بقنطارين أو أربعة، ولتسهيل الري أنشئ على مجرى الجاش سد، وأقيمت قناطر على الترعة المتفرعة منه، وينتفع بالسد في ري كسلا وبالقناطر في ري تسانايا بمقتضى اتفاق بين حكومتي إريتريا والسودان، وتدفع حكومة السودان ثمنا للماء لحكومة إريتريا، التي تقرض زراعها 40 ليرة على كل فدان، وتقرضهم البذرة وتخصم القرضين من ثمن المحصول.
والجاش يجيء من الحبشة ويروي كلا من إريتريا وكسلا، وتربة الأرض تكاد تكون واحدة، وتزيد الشركة الإيطالية مساحة زراعة القطن في تسانايا سنة بعد أخرى؛ فقد زادت هذا العام ألفي فدان. أما ماء الري فهو كاف، ولكن العقبة هي في إعداد الري وفي إنشاء ترع جديدة؛ لأن الأرض ليست مسطحة، فهى في ارتفاع وانخفاض، والأيدي العاملة قليلة.
والوقت في إريتريا متقدم ساعة عن الوقت في السودان، فإذا كان الوقت به الساعة السابعة صباحا كان في إريتريا الساعة الثامنة صباحا. ومباني تسانايا منتظمة ومقبولة، وبها أحجار الجرانيت ومعدن الذهب، وبها محلج ومعصرة للزيت ومصنع للصابون. وقد عين نجار مصري من المنصورة لصنع دواليب المحلج، بمرتب شهري قدره 25 جنيها، وله إجازة ستة أشهر في السنة.
وموعد جني القطن في تسانايا يقع في موسم زراعة القطن عندنا، فهم الآن يجنون قطن تسانايا ويستمر الجني حتى مايو القادم، ونحن في مصر نبدأ بزرع القطن الآن. وأنفقت إيطاليا نحو نصف مليون جنيه لتنظيم الري.
وبين كسلا وحدود إريتريا 21 ميلا، وبين الحدود وتسانايا 22 ميلا عند سد الجاش المشار إليه، وفي تسانايا دوم له مصنع بها لصنع ألواح الزراير وتصدر للهند، حيث تستكمل صناعتها وتباع فيها. وسكان إريتريا جميعا مسلمون، ويتألف منهم جيش وطني حسن الزي العسكري «يماثل جنود قوة الدفاع عن السودان»، ويلبس جنوده طرابيش ذات أزرار حمراء وبأحزمة صفراء.
وطريق السيارات بين تسانايا وكسلا سهل.
وقد تناول الأعضاء طعام الغذاء على مائدة وكيل جسباريني وعادوا إلى كسلا الساعة الثانية والنصف بعد الظهر.
حفلة موظفي كسلا
أقام حضرات موظفي بندر كسلا حفلة شاي تكريما للبعثة الساعة الخامسة من مساء اليوم - الجمعة أول فبراير - حضرها الأعيان والتجار، وألقيت فيها الخطب. وقد تجلت روح الأخوة والإخلاص في هذه الحفلة، وشعرنا جميعا أننا أبناء أسرة واحدة.
ولحضرات الموظفين ناد رئيسه عمر الأمين العمرابي أفندي، وأمين صندوقه إبراهيم البلولة أفندي، وسكرتيره أحمد فرج الله أفندي، والأفندية: حسن عبد الغني مدير أعمال، وتوفيق صالح جبريل أمين مكتبة، وحسن قورين سكرتير ألعاب، والأفندية: محمد عثمان العوض المرضي، والشيخ إبراهيم مالك، وشفيق رمزي، وإبراهيم الجندي، والدكتور علي أحمد باخريبة، والدكتور عباس حمد نصر، وحمد النيل، وإبراهيم حاج أحمد، أعضاء.
وأعجبني حسن إلقاء الخطباء مع أنهم من التجار ومن غير محترفي الأدب؛ ولذا أسجل فيما يلي شيئا من هذه الخطب:
خطاب الحسن العوضي
ألقى حضرة الشيخ الحسن العوضي بالمعهد العلمي بأم درمان سابقا خطابا قال فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم .
وبعد، فإني أتشرف بالمثول أمامكم لأتلو كلمات، فإن أحسنت فذلك الغرض والحمد لله. أيها السادة، إن الحياة تستلزم العمل، وهو ذو طرق شتى، ومظاهر جمة تختلف باختلاف النفسيات. وقديما قالوا إن طرق الكسب الناجعة أربعة: الإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة، وهذه كلها أسها المتين الذي ترتكز عليه، وقوامها الحق الذي تنمو به شيئان: الإخلاص والصدق.
أيها السادة، إنا نحتفل بأمة هي ذات القدر العظيم - أستغفر الله - بل أمم في هذه الشخصيات التي بين ظهرانيكم، أمم لها النصيب الأوفر والقدح المعلى في جميع ضروب الحياة. أمم التفكير، أمم الرقي، أمم التمدن، أمم الإحسان.
وواصل خطابه على هذا النحو، وقوبل بالتصفيق الحاد.
خطاب أحمد البشير حسن
السلام عليكم ورحمة الله. بالأصالة عن نفسي ونيابة عن إخواني التجار الأجانب والوطنيين، أقف لأحييكم تحية حارة، وأهنئكم بسلامة الوصول لبلدتنا «كسلا» التي أشرقت عليها شمس مصر المضيئة، وإننا سنسجل لكم هذه الزيارة في سويداء القلوب لكي تظل خالدة كلما مر هذا اليوم.
سادتي، إن هذا الحفل الصغير في مبناه، الكبير في معناه، هو أقل ما يعمل لهذه الزيارة الميمونة.
وقد قوبل خطابه بالتصفيق والإعجاب، وقد ألقى كل من حضرات فؤاد أباظة بك، والأستاذين عبد المجيد الرمالي وعلي شكري خميس، كلمة شكر وإخلاص وود. وقد ودعنا الأهالي حتى المحطة خير وداع، تشيعنا قلوبهم قبل أبصارهم. وركبنا القطار الخاص مساء إلى القضارف.
وقبل سفرنا زرنا المدينة وشهدنا حوانيتها ومساكنها. والمدينة مخططة، وطرقاتها صغيرة منتظمة، ومنازلها ذات دور واحد، وبها تجار يونانيون مع عائلاتهم. وزرنا الشركة التجارية الحبشية التي يملكها أربعة يونانيين، ولها وابور النور الذي يضيء المدينة بالكهرباء، وسعر اللمبة الواحدة 15 قرشا في الشهر بالنسبة للأهالي، وخمسة قروش لكل 4 كيلوات لمكاتب الحكومة. وللشركة مطحنة تجارية ومصنع للثلج والكازوزة ومخازن لمبيع الأقمشة والخردوات.
على أن أكثر السكان يستضيئون بالكلوبات والغاز العادي، وكل من يسير خارج المدينة يجب عليه حمل مصباح وإلا قبض عليه.
وزرنا دكان مسيو كوستي لبيع جلد النمر. وللمدينة أسواق منظمة تباع فيها المأكولات والذرة وأفمام السجاير.
وأكثر مساكنها وعقاراتها للحكومة التي تعطي الأرض للأهالي حكرا.
وبالمدينة لوريات لحمل البضائع والركاب، وعربات نقل تجرها الحمير.
ويؤخذ ماء الشرب من آبار ماؤها عذب هي قريبة جدا من سطح الأرض، وكلما وجدت أشجار العشر كانت دليلا على قرب الماء. وتبنى المنازل من الطوب الأخضر والبوص والجريد. ودور الحكومة والحوانيت الكبيرة من الطوب الأحمر.
وزرنا المجزرة حيث تباع اللحوم، وسوق بيع الخضر، «وسوق النسوان»؛ وهي سوق تتولي البيع فيها النساء والعجائز.
ثم زرنا عند الجبل «الخاتمية»، وهي موطن السادة أصحاب الطريقة الميرغنية التي لها أشياع في أكثر أنحاء السودان؛ ولا سيما مديريتي كسلا ودنقلة. وقد زرنا منزل فضيلة الحسيب النسيب السيد محمد حسن الميرغني، واستقبلنا فضيلتة بالإكرام. وهو شاب في العقد الثالث من عمره، مديد القامة، نحيف الجسم. ثم زرنا ضريح زعماء السادة الميرغنية، ثم صعدنا إلى جبل «الختمية» وشهدنا «السرف» بفتح السين والراء، وهو نبع ماء معدني عذب في أسفل الجبل، به ماء جار بين أحجاره - وهي من الجرانيت - ورأينا حوله بعض النساء والأولاد يملآن بأيديهم الجرار من ماء النبع بسهولة. وشربنا جرعة فوجدناه ماء صافيا. ويستعمل الأهالي هذا النبع أيضا في غسيل الملابس حوله ولشرب الماشية.
ثم زرنا دار فضيلة الحسيب النسيب السيد محمد عثمان الميرغني، وهو الشقيق الأكبر للسيد محمد الحسن الميرغني، واستقبلنا بحفاوة وإكرام.
والطريقة الميرغنية يتزعمها الآن حضرة الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني بالخرطوم. وقد تعلق الأهالي بزعمائها، حيث يلثم عامتهم الأعتاب عند زيارتهم. وللسادة الميرغنية نفوذ عظيم جدا. ويزور الأهالي ضريح الخاتمية يوم الجمعة من كل أسبوع.
وزرنا المكتبة الميرغنية لصاحبها السيد «الطيب الدويح»، وهي تتولى بيع الجرائد والمجلات المصرية والخردوات وغيرها.
وفي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا زرنا مستر «ريدفورد» مدير كسلا في ديوان المديرية، حيث استقبلنا بحفاوة، وألقى محاضرة على ضوء خريطة مديرية كسلا. ونظرا للحر كانت هناك مروحة من القماش تبلغ مساحتها 12 مترا مربعا معلقة في سقف الغرفة ومرتبطة بحبل يخرج من ثقب في جدرانها إلى جوار بابها، وهناك عامل يمسك بالحبل ويحركه فتتحرك المروحة وترطب جو الغرفة.
وقابلنا حضرة مأمور مركز كسلا عمر أمين أفندي وحضرة إبراهيم الجندي أفندي الموظف بهندسة السكة الحديدية السودانية.
وننشر فيما يلي خلاصة محاضرة المدير.
محاضرة مدير كسلا
بلغ محصول الذرة المصرية 224911 إردبا، والسمسم 35588 إردبا، والدخن 5400 إردب. 59840 قنطارا من القطن، و142530 إردبا من الذرة.
ونقل بالسكة الحديد 9971 طنا من الذرة، ومن السمسم 6855 طنا، ومن الصمغ 1578 طنا، ومن حب الدوم 2631 طنا.
وتتولى الشركة الزراعية الإنجليزية بيع قطن «نهر الجاش» بكسلا في إنجلترا، وتعطي الأهالي 50٪ من الأرباح. وقد بلغ نصيبهم في العام الماضي 95 ألف جنيه. وتأخذ الحكومة 25 في المائة من أرباح بيع قطن طوكر، الذي يتولى بيعه الأهالي أنفسهم. وقد بلغ نصيب الحكومة في العام الماضي 15862 جنيها، ونصيب الأهالي 47586 جنيها.
وبلغ ما أنتجته مديرية كسلا من الذرة 367441 إردبا في العام الماضي.
وتشتهر مديرية كسلا بتجارة الجمال، وتتولى هذه التجارة «قبيلة الرشايدة»، وهي من عرب جزيرة العرب ، أقامت بالسودان منذ 80 سنة، وتصدر الجمال إلى مصر فتباع بأسواق فرشوط وإمبابة، ويقول بعض الأهالي إن الجمال تسير من كسلا إلى فرشوط في مدة 14 يوما، وهي تسير ليل نهار ومعها حراسها الأكفاء الساهرون. ويتراوح ثمن الجمل بين ثلاثة جنيهات وأربعة وستة وثمانية وعشرة، ومتوسط الثمن ستة جنيهات. وقد بلغ ثمن الجمال المبيعة، وعددها 14105، سنة 1934، 84 ألف جنيه.
وتتألف مديرية كسلا من مديريتي كسلا والبحر الأحمر؛ فقد ضمتا أخيرا وأصبحتا مديرية واحدة طولها 740 ميلا، وعرضها 250 ميلا، ومساحتها 135600 ميل؛ أي مثل مساحة فرنسا وسويسرا معا. وهي ثالث مديريات السودان اتساعا، فتأتي بعد كردفان ودارفور. وللمديرية مدير ونائب مدير ومفتش مديرية، وفيها عشرة مفتشين لمراكز كسلا. ومن مراكزها: سواكن وكسلا والقضارف وسنكات وطوكر. لها مأمورون.
وعدد سكان مديرية كسلا 378109 نسمة، وهم من قبائل الهدندوة والبجة وبني عامر والبشاريين والحلانقة والرفاعية والشكرية والبطاحين، ومن مهاجري مكة والحجاز واليمن وحضرموت والحبشة وإريتريا والسودان الفرنسي وبربر.
ولكسلا شاطيء على البحر الأحمر، به سلسلة جبال تبتدئ من جبل المقطم، وهناك شركتان لاستخراج الذهب من بعض مواقع هذه الجبال بكسلا، وفيما بين يونية وأغسطس تنزل الأمطار بكثرة، وأشد برودة في الشتاء في نوفمبر وديسمبر، وفي القضارف يخزن الماء في آبار تحفر، وتدفع حكومة السودان إلى حكومة إريتريا خمسين ألف جنيه ثمنا لماء نهر الجاش الذي ينبع من جبالها. •••
ثم زرنا بستان البكباشي عثمان علي كيلة، وهو ضابط مصري من أصل سوداني، له بستان مؤلف من واحد وعشرين فدانا يرويه وابور، وينتج من الفاكهة: العنب والموز والجوافة والتين والرمان والباباز. واستقبلنا استقبالا كريما، ثم تناول الأعضاء طعام الغداء، وقد أقام تجار المدينة وموظفوها حفلة شاي تكريما لأعضاء البعثة.
وقد توجه صباح اليوم الساعة الثامنة فؤاد أباظة بك ومعه تسعة من أعضاء البعثة إلى تسانايا داخل حدود مستعمرة إريتريا، وحصلوا على ترخيص باجتياز الحدود لمشاهدة زراعة قطن الجاش في إريتريا، وعادوا إلى محطة كسلا الساعة الثامنة والنصف بعد الظهر.
موسيقى فرقة العرب الشرقية بالقضارف تحيي البعثة.
الفصل الخامس
من القضارف إلى سنار
في يوم السبت 2 فبراير
بارح القطار الخاص محطة كسلا الساعة الثامنة من مساء أمس إلى «القضارف»، فوصلنا إليها الساعة الرابعة والنصف من صباح اليوم، وعند الساعة السابعة والنصف استقبلنا جمع غفير من الموظفين والتجار والأعيان يتقدمهم حضرات الشيخ حمد أبو سن ناظر خط القضارف ورئيس فرع قبيلة الشكرية، والشيخ عبد الكريم زايد ناظر عربان الضباينة، والسيد مدني، والحاج علي الكردي، وأحمد الحاج عبد الله، والحاج علي الحسين، والحاج محمد يوسف علقم، وعبد القادر الخانكي، وعباس تولة، وجعفر النصيري، وكرار كشة، ومحمد سيد ميزو، وعوض السيد جابر، والخواجات كيكوس جوانيدس، وجورج مكريدس، وروفائيل جريس، وكرياكو بابا جورجي، ويعقوب أجيب بشيان، وباغوص كالباكيان صاحب معصرة الزيت بالقضارف.
وشارة مديرية كسلا التي يضعها الجنود على ملابسهم «الشوتال»، والشوتال هو سكين ملتوية يحمله أفراد قبيلة الهدندوة. ولكل مديرية في السودان شعار مأخوذ من عادات سكانها أو شهرة حيواناتها.
وتوجهنا بالسيارة إلى «نادي الوطنيين»، وهو ناد للأعيان والتجار، وقد رفعت أمامه الأعلام وأعدت موائد لتناول طعام الإفطار، ووضعت في وسطها منضدة عليها أوعية تحمل كل منها صنفا من حاصلات القضارف.
وقد حيت البعثة موسيقى فرقة العرب الشرقية، وهي الفرقة المخصصة لحماية الحدود. وعندما وصل الميرالاي «كير» بك صدحت الموسيقى بسلام السردار، وهو السلام المعتاد في الحفلات العسكرية والرسمية. وفي الحفلات الرسمية الأخرى تؤدي الموسيقى سلام ملك إنجلترا. وبين القضارف وحدود الحبشة مسافة تقطعها السيارات في 6 ساعات. وهناك فرقة العرب الشرقية مؤلفة من البيادة والسيارات والجمال.
وأصل كلمة «القضارف» «الغضارف».
وسكان المدينة من الشكرية والجعليين والمغاربة والمهاجرين إليها من المديريات الأخرى؛ إذ قد منع دخول المهاجرين الأحباش نظرا لما لوحظ فيهم من الميل للإجرام والاتجار بالأعراض، وحمل الأمراض.
وتتصل القضارف بمدينة «القلابات» على حدود الحبشة، ونصف سكانها من الأحباش، وبها مصنوعات الحبشة والبن والعسل والدوم والفول والعدس والكسبرة والكمون والبقر.
وبعد تناول طعام الإفطار ألقى حضرة الشيخ محمد سيد ميزو - من تجار القضارف - الخطاب المنشور بعد.
وزار الأعضاء غربال مسيو كونتو ميخالوس، وهو غربال آلي لتنقية الذرة من الطين، وثمن التنقية مع الحزم والشحن 25 قرشا للطن.
ثم شهدنا سوق السمسم - وبه بورصة للمضاربة - فيقيد البائعون أسماءهم في دفاتر، وكذلك طلاب الشراء الذين يقفون صفا وبيد كل منهم نمرة، فيمر المنادي بكل منهم ويذكر له الثمن الأساسي. فإذا زاد عليه أحد المشترين، عرضه المنادي على المشتري التالي، فإذا لم تحصل زيادة عرض المنادي الثمن الذي رست عليه المزايدة على البائع، وسأله هل يقبل البيع بهذا الثمن، فيقول نعم أو لا كما يشاء، فإذا قال نعم تم البيع. وكان ثمن إردب السمسم 156 و151 قرشا اليوم. والإردب 16 كيلة، والأسعار أغلى من أسعار بور سودان. ويجود الفدان بأربعة أو خمسة أرادب.
وكذلك للصمغ سوق وبورصة على الطريقة السالفة، وكان ثمن قنطار صمغ الهشاب متراوحا بين 55 و60 قرشا، وثمن صمغ الطلح 22 قرشا؛ لأن العادة أن تكون أسعار الأسواق الصغيرة أعلى؛ نظرا لكثرة من يستطيعون شراء الكميات الصغيرة. أما في الأسواق الكبيرة فإن الكميات كبيرة والمشترون قليلون والمضاربة ضعيفة.
وفي القضارف مدرسة ابتدائية أميرية بها 191 تلميذا في أربع فرق وثلاثة مدرسين، وناظرها الشيخ إبراهيم عامر. وكذلك توجد جمعية رياضية باسم «جمعية التعاون الرياضية».
خطاب الشيخ محمد سيد ميزو
سادتي الأجلاء:
أحييكم تحية المودة والإخلاص، وأحيي في أشخاصكم الكريمة الهمم العالية والعقول النيرة، ولي الشرف أن أقف بين أيديكم معبرا عن سرور تجار القضارف.
ثم قال:
وبما أن مهمة هذه البعثة الاستطلاع على حالة البلاد التجارية والزراعية وتحسين العلاقات الاقتصادية، وبما أن القضارف هي بلدة زراعية، فإني أود أن أشرح لسعادتكم حالتها بإيجاز فأقول:
هذه البلدة ذات أراض واسعة جدا وخصبة، ويتوقف ريها على الأمطار التي تهطل بكميات وافرة من أوائل يونية إلى أوائل أكتوبر، حيث تزرع فيها المحصولات المتنوعة من الذرة بأنواعها والسمسم والفول السوداني والقطن، هذا بخلاف ما تنتجه غاباتها الكثيفة من الصمغ بنوعيه؛ هشاب وطلح، وأيضا القرض.
الحاصلات:
السمسم:
كان محصوله في العام الماضي سبعة آلاف طن تقريبا، وهو - بلا شك - أجود أنواع السمسم السوداني، ونوعاه: طبيعي «ناتورال»، ومغربل بغربال مسيو كونتو ميخالوس. ويصدر معظمه للقطر المصري.
الذرة:
وأهم أنواعها «الفتريتة»، ومتوسط محصولها حوالي أربعين ألف طن تقريبا، يستهلك معظمها محليا في السودان.
الذرة المقد والقصابي والحميري صدر منها في العام الماضي أربعة آلاف طن تقريبا للقطر المصري. وأنواعها: الشامي، وتزرع على شاطيء الرهد بعد الخريف، وصدر منها في العام الماضي حوالي 300 طن.
ويمكن إنتاج القطن الأمريكي هنا، وقد أهملت زراعته لتدهور أسعاره.
الصمغ الهشاب:
كان محصوله في العام الماضي 130 طنا، وكان سنة 1932 أربعة آلاف طن صدرت للخارج. الصمغ الطلح: وقد كان محصوله في العام الماضي 70 طن صدرت للخارج. القرض: ويصدر إلى مصر.
وأهم ما نستورده من مصر: السكر والصابون، والسجاير، والحلوى وبعض الأقمشة نسيج نقادة وأخميم، والأحذية، وغيرها. ا.ه.
كلمة فؤاد أباظة
وألقى حضرة فؤاد أباظة بك كلمة شكر فيها الداعين وقوبلت بالتصفيق.
زيارة الشيخ حمد أبو سن
وقد زار الأعضاء دار الشيخ حمد أبو سن ناظر خط القضارف وعين أعيانها، وهو الشيخ حمد بن محمد بن عوض الكريم بن أحمد باشا أبو سن ناظر خط أبي سن بالقضارف، وهو شيخ في منتصف الحلقة السابعة من عمره، مديد القامة، وافر الصحة، وضاح الجبين، واسع الكرم، يرأس محكمة القضارف الأهلية. وللمحاكم الأهلية في السودان نظام خاص يشبه نظام محاكم الأخطاط في مصر أو المحلفين في أوروبا. يتناول مرتبا كبيرا، وله أملاك ومزارع وماشية، وله ولدان يعاونانه في أعماله الزراعية، وكلاهما رئيس محكمة في منطقة؛ اسم كبيرهما محمد، والصغير أحمد.
وقد قدم أبو سن للأعضاء نوعين محليين من الشراب البارد؛ أحدهما اسمه «الآيري»، وهو خبز رقيق جاف كالورق ينقع في الماء ويشرب منقوعه مسكرا أو غير مسكر «بفتح الكاف المشددة»، وله حموضة مقبولة تقرب من مذاق شراب التمر هندي.
ويصنع هذا الخبز من عجينة الذرة الناعمة جدا المخمرة ، كطريقة صنع الرقاق في مصر.
والثاني «غباشة»، وهو شراب يتخذ من اللبن الرائب، سواء أنزع منه الدهن الذي يسمى «الروب» أم لم ينزع، ويضاف إليه شيء من الماء، ويمكن تحليته بالسكر. وهو شراب مغذ مرطب للجسم، ملين لذيذ الطعم، ناقع للغلة. وسأثابر على تعاطيه عند عودتي.
وقد زرنا المدينة وشهدنا بها حيا بريطانيا يسكنه الموظفون الإنجليز، ودكاكين المدينة ومنازلها. وطرقها مخططة خطوطا مربعة، وقد جعلت الحوانيت في منطقة، ولم تبن المساكن فوق الحوانيت، بل جعلت إلى جوارها. وكلها دور واحد، وجديدة البناء. وبالمدينة مستشفى يسع 60 مريضا، وبه طبيب إنجليزي وآخر مواطن سوداني، ومستشفى عسكري يسع 25 سريرا، ومستشفى للجذام يسع ثلاثين مريضا، ومحكمة أهلية، ومدرسة بنين أولية، ويلبس تلاميذها الجلاليب البيضاء، ويجلسون القرفصاء في الفصول - كما في جميع المدارس الأولية بالسودان - ومسجد، ومصنع للكازوزة والثلج. وليس بها كهرباء، وجوها معتدل صحي إلا في الخريف، وسكانها أهل جد وسماحة، وفيهم يونانيون وأرمن كثيرون يتجرون في كل شيء. وفي الغالب يشتمل الحانوت الواحد على العطارة والخردوات وأدوات المنازل والأحذية والسجاير. والأرض ملك للحكومة، وتعطى حكرا للأهالي لمدة ثمانين سنة لهم حق الانتفاع، وتؤجر الحوانيت بين جنيه وخمسة جنيهات. ورخصة الحانوت جنيه في السنة، وتؤجر الحوانيت بالمزاد، وبناؤها ملك للأهالي وفقط الأرض للحكومة، وتنتشر البضائع اليابانية في المدينة وفي السودان كله. ولمسيو فيليب كالفاكيان فابريقة للزيت والثلج، وهو صياد ماهر، وللشركة التجارية الحبشية بكسلا فرع بالقضارف. وللخواجة روفائيل جريس «مصري» متجر كبير.
وجامع القضارف بني سنة 1912 في عهد صالح عبد الرحمن أفندي المأمور سابقا.
وقد ودعنا الأهالي في المحطة حيث سافر القطار في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر.
ويبلغ عدد سكان القضارف 5 آلاف داخل البندر، و50 ألفا بضواحيها. وواصل القطار سيره من القضارف حتى سنار، وكان الجو حارا، وكان السكان على طول الطريق في كل محطة يخرجون لاستقبال البعثة، وتلقي الخطب.
عبد الرحمن مصطفى بقلع النخل
وقد ألقى حضرة الشيخ عبد الرحمن مصطفى بقلع النخل كلمة قال فيها:
أراني سعيدا جدا بتقديمي هذه العجالة للترحيب بكم أصالة عن نفسي ونيابة عن إخواني التجار بقلع النخل، وإن لم أكن أهلا للوقوف أمام سدتكم، ولكن داعي الغبطة والسرور دفعني دفعا لهذه الجرأة.
سادتي، لا أكون مبالغا إذا تجرأت وقلت إن التجار السودانيين على أتم الاستعداد الكامل لأن يبرهنوا على أن السودان تجارا وشعبا يرحبون بهذه الزيارة التي هي بمثابة الحلقة المفقودة.
فقوبل خطابه بالتصفيق ورد عليه فؤاد أباظة بك بكلمة شكر.
وقد مررنا بمحطات ود الحوري هلت، ومتنا، وقلع النخل، وجبل قرين، وحواتة هلت، والحصيرة، وخور العطشان، والدندرد.
ثم السوكى حيث استقبلنا استقبالا رائعا لوقوف القطار 25 دقيقة، وقد أدهشنا هؤلاء القرويون بمعرفتهم لأسماء الأعضاء وسؤالهم عن الأعضاء المتخلفين في القاهرة؛ كسعادة جعفر والي باشا وحضرة حمدي سيف النصر بك، وسؤالهم عن الدكتور محجوب ثابت ومعرفته بمجرد رؤيته، وسؤالهم عن الدكتور يوسف نحاس بك وطلبهم مشاهدته، وكسؤالهم عني. فلما سألتهم كيف يعرفونني، قالوا لي: إننا نقرأ مقالاتك، ونعرف أن لك مجلة تسمى الجريدة القضائية، وأنك محام. فكنت دهشا لهذه المعلومات التي يوجد كثيرون في مصر لا يعرفونها. وسألوا عن الأستاذ فكري أباظة، وذكروا لنا - في ذكاء عجيب - أخبارا كثيرة عن مصر.
ثم مررنا بمحطات حمدنا الله وكساب الدوليب، وشهدنا خزان سنار الذي كان معروفا فيما مضى باسم خزان مكوار - ومكوار قرية. وقد رؤي أن ينسب الخزان إلى سنار أولى من مكوار - ووصلنا محطته الساعة الحادية عشرة مساء، وبتنا في القطار.
أحراش وأشجار
وقد رأينا أحراشا على طريق السكة الحديدية بين كسلا والقضارف شاملة أشجارا متوسطة الطول حمراء السيقان، أكثرها الطلح الذي يؤخذ منه صمغ معروف باسم «صمغ الطلح» بواسطة فتح لحايته فتتجمع المادة الصمغية اللزجة في الفتحة وتتجمد، وعند ذلك تجنى. وتشبه هذه العملية تجمع الدم وتجمده إذا ما جرح الجسم.
سوق سودانية.
وبين شجر الطلح ظهر شجر آخر أبيض الشكل يسمى «اللعود»، له صمغ خاص أقل قيمة من صمغ الطلح وأشجار «السدر»، وله ثمر يعرف بالنبق أقل حلاوة من التمر، وهو مكور صغير الحجم يشبه العنب ، تؤكل جلدته امتصاصا وترمى نواته، وقد يجفف ويدق ويعمل من دقيقه أقراص تؤكل كأقراص التمر هندي الذي يسمى في السودان «عرديب»، ويوجد أيضا أشجار السلم والشمر والسيال المعروف «بالغضا»، وهو خشب صلب الجمر في النار.
وقد ورد «الغضا» في قول مالك بن الريب:
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه
وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
ويغمر هذه المنطقة أيضا حشائش تستوي على سوق دقيقة وترتفع نحو المتر والنصف، وساقه ذات عقل وهو هش الجوف، ولهذه الحشائش أسماء؛ منها: النال، ويستعمل في صنع الأخواص للمساكن، ولا ينفذ من قبابها ماء المطر. والنال عطري الرائحة. ويتخلل حشائش النال قصب العدار، حبه يشبه حب الدخن لونا وحجما، ويمكن أن يصنع منه خبز خشن يأكله الفقراء أو يؤكل في المجاعات، وهو أيضا مرعى خصيب للأبل.
وخشب شجر السرح يستعمل في الوقود.
وعلى الطريق مزارع الذرة التي بعد أخذ حبها ورعي المواشي أوراقها الخضراء تحرق بالنار لإعداد الأرض للزراعة الجديدة. والرماد المتخلف يكون سمادا صالحا للتربة، وتعرف حبوب الذرة على اختلاف أنواعها باسم «العيش».
وأرض المنطقة خصبة جدا، وتنقصها اليد العاملة.
في القضارف (يرى من اليسار: عبد الله حسين. عبد الحميد أباظة بك. الشيخ حمد أبو سن. فؤاد أباظة بك. عبد المجيد الرمالي. خميس. عبد المجيد السيد).
الفصل السادس
سنار - خزانها - سنجة
(1) غابات الخشب والقردة وصيد السمك والطيور (في يوم الأحد 3 فبراير سنة 1935)
يحتاج كل رحالة أو وصاف رحلة إلى تدوين المذكرات، وكذلك كان شأني في تدوين أنباء البعثة المصرية في السودان، وكنت في بداية الأمر بين أن أدون رءوس المسائل، على أن أعد بحوثي عند عودتي إلى القاهرة أو أن أبادر بوضعها يوما بعد يوم وساعة فساعة، فأخذت بالرأي الثاني حتى تتتابع الرحلة عملا وتتتابع على صفحات «الأهرام» وصفا؛ لأستطيع أن ألم بالتفاصيل خشية أن أنساها لازدحام الأخبار وتراكم المشاهد، ولأذكرها وأنا في محيط السودان.
وكان في الأخذ بهذا الرأي عناء احتملته في لذة، وإن استأداني إهمال الطعام وتقاضاني السهر الطويل، فأنا أكتب في القطار والسيارة، وفي أثناء تناول الطعام، وبين غفوات القيلولة - في حر وصلت درجته أحيانا إلى الخمسين بميزان سنتيجراد!
وإنني كلما فاضلت بين الكاتب يحتمل الجهد والعناء ويحرم النوم والغذاء وبين الصحفي السياسي يجهد أن يحصل على خبر من وزير مصري، فضلت الكاتب في حرمانه على الصحفي في استمتاعه براحة، وكم ثارت نفسي على بعض الوزراء والكبراء الذين لا يقدرون مهمة الصحافة أو يفهمونها على أنها آداة تسخر للدعاية لهم، ولا يجوز لها أن تطالبهم بالثمن، والثمن هو الخبر الصحفي المعقول، أو لا يجوز أن تعارضهم في رأي. (2) في سنار
استيقظنا مبكرين صباح اليوم - الأحد 3 فبراير - وتناول الأعضاء طعام الصباح ثم توجه فريق منهم عند الساعة التاسعة صباحا إلى محلج القطن التابع للحكومة والمجاور لمحطة سنار، ويديره - مقاولة - الصياد الإنجليزي المشهور مستر جاكسون، الذي صاد أكبر سمكة عرفها متحف لندن؛ فقد صاد حضرته من النيل الأزرق عند سنار سمكة وزنها 126 رطلا إنجليزيا من صنف يدعى في مصر «البياض» وفي السودان «العجل».
ويقوم المحلج بحلج القطن الأميركي المزروع في بلاد النوبة في السودان.
وعند الساعة التاسعة والنصف صباحا زار الأعضاء مكتب مستر إلين المهندس المقيم لخزان سنار - الذي عرف قبلا باسم خزان مكوار - وأطلعهم جنابه على رسم برنزي للخزان: أبوابه ومناوره وترعته الرئيسية التي تروي أرض الجزيرة. ثم توجه معهم إلى معاينة الخزان نفسه، بادئا بالترعة الرئيسية التي تأخذ ماءها من النيل الأزرق، الذي ينبع في بلاد الحبشة.
يشبه خزان سنار خزان أسوان والقناطر الخيرية في حجزه الماء خلفه، وفي إحاطته بحديقة واسعة للنزهة، وفي حبس الماء للانتفاع به في ري أراض زراعية، وفي أن سقف الخزان طريق عام لمرور العربات والجمهور. وعرض النيل الأزرق عند خزان سنار 300 متر، على أنه يفيض على جانبيه ويغمر جزءا من الأراضي المجاورة، فيزداد عرضه عند الخزان أحيانا، وأحجاره من الجرانيت قد اقتطعت من جبل «سجري» على بعد 25 كيلومترا من سنار. وللخزان أبواب فوقها مناور، تفتح الأبواب لمرور الماء في مجرى النيل الأزرق إلى نهر النيل حاملة الطمي، وإذا كان الماء كثيرا فتحت المناور أيضا. وعدد الأبواب 80، وعرض كل باب متران، وارتفاعه 8 أمتار ونصف.
ويملأ الخزان من نوفمبر إلى يناير من كل سنة، ثم يفرغ حيث تكون الجزيرة قد أخذت نصيبها من الماء.
وارتفاع ماء النهر عند الخزان 20 مترا، حيث يخزن الماء. وارتفاعه حيث يفرغ ثلاثة أمتار، وارتفاعه عند الونش 24 مترا.
لوحة خزان سنار التي تبين تاريخه بالإنجليزية.
وفي مجرى النيل الأزرق - قريبا من الخزان - مرتفعات ومنخفضات، وكانت هناك جزيرة في المجرى أخذت تتلاشى، وبجانب جرفها منخفض عمقه 45 مترا يظهر أنه تآكل بقوة ارتفاع الماء على سطح الجزيرة الآخذة في التلاشي.
وتصيب الملاريا في السنة من الموظفين بنسبة 4 إلى 130. وقد تم بناء الخزان في عهد مستر أرشر الحاكم العام، وهناك لوحة في أعلى الخزان كتب فيها أسماء الحكام العامين الذين تعاقبوا على السودان من كتشنر وونجت إلى ستاك وأرشر، وسنوات مشروع الخزان وأدوار بنائه منذ سنة 1899 و1917 و1924 إلى 1926 حيث تم الخزان، وكان إنشاؤه موضوع خلاف بين مصر وإنجلترا، وطلب المهندسون المصريون وقفه محافظة على ماء النيل الأزرق الوارد إلى مصر، وأوقف إنشاؤه فترات في سنة 1914 بسبب الحرب، وقررت وزارة عدلي باشا سنة 1921 وقف العمل فيه مع وقف العمل في خزان جبل الأولياء. وزار شفيق باشا وزير الأشغال فيها السودان لهذا الغرض، ولكن سير لي ستاك لم يقبل، وتم العمل فيه مدة خلفه، وفتح في 21 يناير سنة 1926.
وذكر أسماء المقاولين والمهندسين، وأولهم السندريني مقاوله، ومردوخ ماكدونالد، وسير أرثروب «مستشار المشروع»، وغيرهم. (2-1) خزان سنار وافتتاحه
احتفل بافتتاح خزان سنار احتفالا رسميا بحضور اللورد لويد المندوب السامي وبعض وزراء الأشغال المصريين وكبار الموظفين والحاكم العام والصحفيين، وناب صاحب العزة الدكتور محمد حسين هيكل بك مدير السياسة عن الصحافة المصرية، وتحدد يوم الأربعاء 20 يناير سنة 1926 الساعة الثامنة والدقيقة أربعين مساء، لقيام المدعوين بالقطار المخصوص من الخرطوم إلى مكوار لافتتاح خزان سنار رسميا يوم الخميس 21 يناير سنة 1926 عند منتصف الساعة التاسعة صباحا. وقد وصلوا إلى «مكوار»، وإلى خزان سنار الساعة الحادية عشرة صباحا، وكانت حفلة الافتتاح الساعة الرابعة بعد الظهر، مع مشاهدة وابورات الحليج ببركات.
وتحدد يوم الجمعة 22 يناير سنة 1926 الساعة السابعة صباحا لعودة المدعوين إلى الخرطوم.
وقد جلس اللورد لويد المندوب السامي البريطاني والحاكم العام وقرينتيهما ، وجلسوا إلى المنصة وجلس معهم معالي إسماعيل سري باشا وزير الأشغال بالوزارة الزيورية يومئذ، وجلس خلفهم فضيلة الشيخ محمد الطيب هاشم قاضي النيل الأزرق الذي وكل إليه إلقاء ترجمة الخطب من الإنكليزية إلى العربية، ثم ألقى السير جوفري آرشر حاكم السودان العام خطابا بالإنجليزية تعريبه فيما يلي:
يا فخامة اللورد، إني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن ضباط وموظفي حكومة السودان وهذا الجمع المحتشد، وفي الواقع بالنيابة عن سكان هذه البلاد، نرحب بفخامتكم ترحيبا قلبيا. كلنا نعلم حق العلم مابذلتم فخامتكم أثناء تقلدكم منصب حاكم بومباي من العناية الفائقة والهمة العظيمة في أمور الري وغيرها من المشروعات الآيلة لإسعاد الشعب وترقيته المادية. ولم يمض بعد سنتان على وضعكم الحجر الأساسي لهذا العمل العظيم على نهر السند الذي أطلق عليه اسم فخامتكم، فدعي قناطر لويد. إننا نقدر عظم ملاءمة هذه الفرصة بمناسبة زيارتكم الأولى للسودان كمندوب سام للاحتفال بإقامة خزان سنار، ذلك العمل العظيم الشأن لخير هذه البلاد.
هذا وإننا يا فخامة اللورد لنتفاءل خيرا بحسن المستقبل لوجودكم بيننا في هذا اليوم، ولا ريب عندي أن السودان في أيامكم وبفضل عنايتكم يبلغ شأوا بعيدا في سبيل التقدم والفلاح. وكذلك أود يا فخامة اللورد أن أعرب لكم اليوم عن أمل عظيم، هو أنكم كممثل جلالة الملك في مصر تتمكنون بالاتفاق التام مع مصر من ترويج وتوسيع نطاق الأعمال التي من شأنها حفظ وصيانة مياه النيل لدرجة يستطاع معها - بدون أن تتعارض مصالح القطرين - زيادة الثمرات، ليس في مصر فقط، بل في السودان أيضا.
وإن العمل العظيم الذي نشاهده كاملا أمامنا في هذه اللحظة ما بلغ هذه النهاية إلا بفضل جهاد أناس كثيرين؛ فقد ظل مشروع ري سهول الجزيرة موضوع بحث المستشارين البريطانيين الذين تعاقبوا في وزارة الأشغال المصرية من عهد السير ويليم جارستين، فالأبحاث الأولية التي بدأها المستر ديبوي أكملها السير مردوخ ماكدونلد بمعاونة المرحوم اللورد كتشنر والسير ريجنالد ونجت والمرحوم السير لي ستاك. وإني لا أشك في أن جميع الحاضرين يأسفون أشد الأسف لعدم تمكن السير مردوخ ماكدونلد والسير ريجنالد ونجت من الحضور معنا في هذا الاحتفال. وقد وصلني اليوم الرسالة الآتية من السير ريجنالد ونجت: «عسى أن يكون افتتاح الخزان ومشروع الجزيرة فاتحة عصر فلاح جديد للسودان وشعبه.» ولا بد لي في هذا المقام من القول بأننا نحن الذين تربطنا بالسودان روابط خاصة نقدر أعظم تقدير اهتمام السير ريجنالد ونجت لخير شعوب هذه البلاد الذين حكمهم مدة سبع عشرة سنة بالحلم واللطف. وقد تكرمت وزارة الأشغال المصرية فوضعت بعناية السخاء تحت تصرف حكومة السودان كل ما كان لديها من الموارد للقيام وإنفاذ هذا المشروع العظيم.
وإني لأنتهز فرصة وجود صاحبي المعالي السيد إسماعيل باشا سري، وعبد الحميد باشا سليمان هنا اليوم لأعبر لهما بالنيابة عن السودان عما نحن مدينون به لجميع الوزراء الذين تعاقبوا في وزارة الأشغال العمومية، وللمهندسين القديرين الذين جاءوا من مصر وكان لمجهوداتهم فضل في المعاونة على إتمام هذا المشروع، وسوف لا أجهد فخامتكم في مثل هذا الظرف السعيد بسرد الصعوبات التي صادفت العمل في بدئه، وما زادت الحرب ونتائجها في تلك الصعوبات، وكذلك لا أطمع في أن أضمن هذا الخطاب القصير ما يجب من الاعتراف لفضل كل أولئك الذين عملوا لإتمام هذا المشروع الذي نحتفل اليوم به. هذا وإني أتقدم بالشكر للسير إدجار نارد والسير إدجار لونهام كارتر والسير جيمس كري لما قاموا به وهم في حكومة السودان من ابتكار هذا المشروع وتنفيذه.
وبعد أن أثنى الحاكم العام على خدمات كل الذين اشتركوا في هذا العمل العظيم ختم خطابه بالكلمات الآتية:
ولي الشرف أن أدعو فخامتكم إلى تكريس هذا العمل الهندسي العظيم لخير السودان وشعوبه.
وقام من بعده لورد لويد فألقى خطبة هذه ترجمتها:
يا صاحب المعالي، ويا حضرات ضباط وموظفي حكومة السودان وعلماء ومشايخ وأعيان وأهالي السودان، حقا إني لكبير الحظ أن تكون أول زيارة لي لهذه البلاد كمفوض سام كانت لأجل الاحتفال بإنجاز هذا العمل العظيم الذي تم لي الشرف بافتتاحه هذا اليوم، وقد قابلت أكثركم لأول مرة في الاستقبال الذي أقيم في الخرطوم احتفالا بيوم الملك، وأثر بي ما رأيته من روح المودة الخالصة التي تسود ذلك الاجتماع الممثل لمصالح متعددة وهامة، وإني أرحب بهذا الاحتفال الذي تقيمه الآن، حيث قد ختمت تلك المودة بفضل عظيم، الغرض منه جلب المنافع الدائمة لكم يا أهالي السودان للبلدان الأخرى التي تستورد المواد لصناعتها من محصولات أراضيكم، وإن السواد الأعظم منكم اليوم ليستطيع أكثر مني تلك الحكمة والبصيرة والجراءة التي جعلت خزان سنار في حيز الاستطاعة. إن السودان اليوم يجني ثمار عبقرية اللورد كرومر المقرونة بطول الأناة؛ فقد كانت سياسته كما تذكرون ترمي إلى ترقية البلاد ترقية ثابتة دون أن تتجاوز حدود طاقتها، وقد اقتفى السير ريجنالد ونجت والمرحوم السير لي ستاك هذه الخطة وواصلا العمل بإخلاص ونجاح باهرين؛ الأول لمدة سبع عشرة سنة، والثاني لمدة السبع عشرة سنة الأخيرة من حياته. ويجب أن لا ننسى اليوم ما نحن مدينون به لهؤلاء الثلاثة. وعلي أيضا أن أؤيد السير جيوفري أرشر فيما فاه به من ثنائه على البراعة والمثابرة والهمة التي أبداها أولئك المهندسون الشهيرون الذين منذ أن وضع السير ويليم جارستن المشروع الأصلي سعوا الواحد تلو الآخر لأجل تحقيقه. وللسودان في شخص السير جيوفري آرشر الحاكم العام الذي أثق كل الثقة أنه سيحافظ على تقاليد الماضي. وقد جاء للسودان في وقت مناسب وفي دور حيوي في تاريخ البلاد؛ فإن خزان سنار - كما تعلمون - ليس سوى جزء من مشروع عام لأجل ترقية وتحسين موارد النيل، وقد أثبتت المباحث الدقيقة التي أجراها الخبراء في الماضي أن مياه النيل إذا أحسن صيانتها وتوزيعها بالعدل والإنصاف يجب أن تكفي وتزيد عن احتياجات مصر والسودان الحالية والمنتظرة في المستقبل.
ومن دواعي سرورنا الخاص أن يكون حضرة صاحب المعالي السير إسماعيل باشا سري، أحد أبناء مصر والمعروف بالنبوغ والشهرة حاضرا معنا اليوم؛ وذلك نظرا لاشتراكه شخصيا في إعداد هذا المشروع، وكذلك نتفاءل خيرا بوجود صاحب المعالي عبد الحميد باشا سليمان، فإني واثق أن مقدرته وسعة نظره يبعثان على إزالة ما بقي عالقا من سوء الإدراك للمسائل العلمية الحاسمة بالمشروع.
أما والوقائع الجوهرية هي كما تعلمون، فإذا ساد المفاوضات روح الحكمة السياسية فلا يجب أن تقوم صعوبة في سبيل الوصول إلى تسوية تضمن ضمانا وافيا حاجة مصر، وفي نفس الوقت تمكن السودان من السير في طريق العمران بقدم ثابتة حسبما تسمح له موارده. وللسودان في أحوال كهذه أن ينظر إلى المستقبل بعين الثقة والطمأنينة، وعسى أن يبقى العمل الذي افتتحه اليوم شاهدا دائما على الفوائد الناجمة عن قيام الحكومة بعمل كهذا بغاية الحكمة والتبصر، ويجب أن يكون من نتائج هذا المشروع ليس فقط ازدياد رفاهية المزارعين الوطنيين، بل يجب في نفس الوقت أن يعود بفائدة عاجلة مقابلة لرأس المال الكبير الذي أنفق على إنشائه.
وختاما أقول إنه بالرغم من أن زراعة القطن هي الغرض الأول من مشروع الجزيرة، فهناك شرط على جانب عظيم من الحكمة يضمن وفرة المواد الغذائية محليا وعدم تعرضها للنقص، وأود في الختام أن أشير إلى موضوع آخر عام وعلى جانب من الأهمية، وهو أن الروابط التي تربط الحكومة وأهالي السودان لهي روابط صداقة شخصية. ومن المبادئ الأولية في مشروع الجزيرة كما في غيره من المشاريع التي يمكن أن تقام في هذه البلاد أن تلك الروابط المرغوبة يجب أن يحتفظ بها بغاية الاعتناء. والحكومة تعتقد أن من الأمور الجوهرية ترقية الشعب على موجب طبيعته، وأن التحسين المتعاظم في الأمور المادية لا يجب أن ينتج ضياعا أو انحطاطا في الأفكار والتقاليد التي هي أساس أخلاق الشعوب. ولي ملء الثقة أن يقوم قادة الأفكار في السودان؛ سواء كانوا رؤساء دينيين أو زعماء قبائل أو ذوي معارف ممتازة، بالواجب عليهم للمحافظة على الحالة السعيدة الحاضرة. ويسرني أن أخاطبكم بلهجة المتفائل بحسن المستقبل أن الرجم بالغيب محفوف دائما بالمخاطر، وإنما يمكنكم أن تتأكدوا من شيء واحد، هو أني سأبذل أقصى الجهد وروح التساهل الودي لإزالة كل العوائق التي قد تقف في طريق المشروعات العظيمة لارتقاء وعمران السودان في المستقبل. وإن ما اختبرته في هذه المدة الوجيزة أثناء زيارتي الأولى للسودان يبعث في نفسي الاعتقاد بأن في استطاعتي الاعتماد على ولاء ومساعدة كل شخص في السودان سعيا وراء تلك الغاية العظمى التي لا بد أن تثير اهتمام وعطف العالم المتمدن بأسره.
ثم وقف حضرة صاحب المعالي سري باشا وألقى خطبة هذا نصها:
يا فخامة المندوب السامي، ويا صاحب المعالي الحاكم العام، ويا سيداتي ويا سادتي:
كان من بواعث سروري العظيم أن أدعى لحضور هذا الاحتفال الزاهر بافتتاح خزان سنار المعد لإحياء موات جزء عظيم من الأراضي السودانية بالري الصناعي الذي ما دخل أرضا إلا زاد إنتاجها كما هو معلوم. ومن بواعث الفخر لمصر أن تكون هي واضعة مشروع ري الجزيرة بواسطة كبار مهندسيها، وفي مقدمتهم المرحومان السير ويليم جارستن والسير آرثروب، ومن تبعهما كالمستر ديبوي والمستر توتنهام والسير مردوخ ماكدونلد الذي تم على يديه تحضير المشروع نهائيا وإعداده للتنفيذ. ولا حاجة لأن أذكر أن كل هؤلاء من أعاظم المهندسين التابعين لوزارة الأشغال العمومية المصرية على العمل في مدة تنفيذه.
ويمكنني أن أزيد مع الفخر اشتراك شخصي الضعيف في تحضير المشروع، وإني أذكر هنا مع مزيد السرور لأهالي السودان الحاضرين معنا عطف الأمة المصرية عليهم بهذه المناسبة السعيدة، وأخبرهم بأنها يسرها أن ترى السودان في بحبوحة من الرغد والسعة، وأن يزداد أهله رفاهية وتقدما في العمران. ولا ريب عندي أن ما يجري من الماء في النيل السعيد يكفي، بل يزيد عن احتياجات مصر والسودان لريهما معا إذا أحكم تدبيره بالأعمال الصناعية التي أولها هذا الخزان. وإني أسأل المولى القدير المتعال أن يوفقنا جميعا للوصول لأداء واجباتنا.
ثم وقف المندوب السامي وأمسك باليد التي صيغت على مثال
1 «امينمحعت الثالث»، فجرى الماء من الخزان إلى القناة. وإنما صيغت اليد على مثال «امينمحعت الثالث» الذي حكم مصر منذ ألفين وثلاثمائة سنة تقريبا لما عرف عن هذا الملك القديم في التاريخ من أنه أول من حاول بصفة جدية ضبط مياه النيل لحسن ري الأراضي، كما تذهب الأساطير إلى أنه هو الذي أنشأ بحيرة موريس.
وفيما كان الماء يندفع من إحدى بوابات القناطر في ترعة الجزيرة وقف مطران السودان المحترم جوين، ووقف إلى جانبه مفتي السودان الشيخ إسماعيل الأزهري فوق العين التي يتدفق منها الماء، وتليا عبارات التبريك لهذا الماء الخصب المنساب إلى أراض لم تكن تعرف الخصب ولا الزراعة من قبل. ووقف الحضور جميعا في أثناء تلاوة صلاة التدشين التي فاه بها الأب المحترم جوين والخطبة المباركة التي ألقاها المفتي الأزهري وصلاة المطران جوين الثانية.
فتحات السد معمولة باتساع يسمح بمرور أكبر تصرف للنيل الأزرق وزيادة، وهو 15000 متر مكعب في الثانية، والفتحات كالآتي:
أولا:
الفتحات السفلى، وعددها 80، وعرض كل واحدة 2 متر، وارتفاع 8,40، ومنسوب العتب 44,2، ويعمل عليها الموازنة ببوابات حديد تفتح بواسطة ونش بخاري.
ثانيا:
الفتحات العليا، وتسمى فتحات التخفيف، وهي 72 فوق الفتحات السفلى. عرض كل واحدة 3 متر، وارتفاعها 2 متر. وهذه الفتحات يعمل عليها الموازنة بواسطة أخشاب غما أفقي، وترفع بهلب باليد.
ثالثا:
يوجد بالجبهة الشرقية من الفتحات المبينة عاليه 20 فتحة عليا ومثلها في الجهة الغربية. وعرض كل فتحة 5 متر، وارتفاعها 2 متر. وعتب عموم الفتحات العليا على منسوب 417,2، وتفتح وتقفل بواسطة أخشاب غما أفقي.
سعة الخزان وملوه وتفريغه:
أولا:
أعلى منسوب تصل إليه المياه أمام الخزان هو 420,7، ويخزن على هذا المنسوب 636 مليون متر مكعب.
ثانيا:
في أول يوليو من كل سنة يكون منسوب أمام الخزان على 414,5، ويرتفع تدريجيا في مدة خمسة عشر يوما إلى 417,20 لإعطاء مياه لري القطن بالجزيرة، وتحفظ المياه على هذا المنسوب إلى أول نوفمبر.
ثالثا:
من أول نوفمبر إلى ديسمبر يرتفع منسوب المياه تدريجيا إلى 420,7، ويبقى على هذا المنسوب إلى 18 يناير.
رابعا:
من 18 يناير تأخذ الجزيرة كافة احتياجها من الماء المخزون أمامها والتصرف الذي يكون في النيل الأزرق في الروصيرص؛ أي تصرف النهر الطبيعي يمر خلف الخزان كما هو لاحتياجات القطر المصري لغاية أول يوليو حيث يتكرر الترتيب المبين عاليه.
ملحوظة:
قد اتبع نظام خاص في الحجز على الخزان هذا العام لعدم أخذ مياه كثيرة في يوليو يمكن أن يحصل منها ضرر للقطر المصري، وفي أول ديسمبر من هذا العام تم حفظ أمام الخزان على الدرجة المطلوبة وهي 420,7.
ترعة الجزيرة:
أولا:
فم الترعة عبارة عن 14 فتحة، عرض الواحدة 3 متر وارتفاع 5 متر، والعتب على منسوب 411,10. من هذه الفتحات سبعة مقفولة بالخرسانة المسلحة، وتعمل الموازنة بواسطة بوابات حديد ترفع بونش يدار بواسطة رجلين.
ثانيا:
الترعة عرض قاعها 26 مترا، وارتفاع المياه بها 3,45 متر، وانحدار 7 سنتي في الكيلو، وذلك كاف لري المساحة الحالية وهي 300000 فدان ومسطاح الترعة يسمح بتوسيعها عند زيادة الزمام.
ثالثا:
أول قناطر حجز على الترعة عند كيلو 57 ويتفرع أمامها خمس ترع ومصرف على النيل لتخفيف المياه بالترعة، وعندها يبدأ الري بالجزيرة، وكل الري بالراحة.
رابعا:
ثاني قناطر للحجز عند كيلو 77 وأمامها ثلاث ترع ومصرف على النيل للتخفيف ثم قناطر حجز أخرى عند كيلو 99 ثم عند كيلو 144.
وبلغت الأرض المقرر زراعتها بالجزيرة سنة 1926 تم ري ثمانين ألف فدان قطن و49000 فدان ذرة وعشرة آلاف لوبيا، والزراعة حالتها حسنة.
والمقرر هو أن يزرع مائة ألف قطن ومثلها ذرة وبقول، ويترك ألف فدان بور.
السبع فتحات المقفولة بفم الترعة والمسطاح المتروك بالترعة يسمحان بزيادة الزمام إلى مليون فدان.
وقد طرأ على بعض ما في هذه المذكرة تعديلات فيما يتعلق بالتواريخ التي تبدأ فيها حاجة مصر لتصرف النهر الطبيعي، نعرض إليها حين الكلام عن مشروعات ضبط النيل كافة. كما أن سعة الخزان بعد ملئه للمرة الأولي تبين أنها 800 مليون متر مكعب. والمناسيب المذكورة فيها مذكورة بالمقارنة إلى ارتفاع مياه البحر الأبيض المتوسط، أما ما ورد على مسطاح الترعة وكونه يسمح بتوسيعها عند زيادة الزمام، فذلك لأن الخزان يتسع لخزن مياه تكفي زراعة نصف مليون فدان؛ أي ضعف المساحة الحالية إلا قليلا. والسبع فتحات المقفلة بالخرسانة من فتحات ترعة الجزيرة تكفي لإمداد هذا المقدار بالمياه اللازمة له.
ويحسن أن ننبه القارئ كي يسهل عليه إدراك حكمة تواريخ الملء والتفريغ الواردة في هذه المذكرة إلى أن زراعة القطن بالسودان تبدأ في أواخر شهر يوليو أوائل أغسطس. فرفع مستوى الماء في الخزان من 414,5، وهو الرقم الموازي لمنسوب الفيضان الطبيعي للنهر إلى 417,20 في النصف الثاني من شهر يوليو، إنما يقصد به إلى تغذية أرض الجزيرة بمياه الراحة اللازمة لري الأرض وزرعها قطنا. ويبقى هذا المنسوب ثابتا إلى شهر نوفمبر حين تخلو مياه النهر من الطمي ويمكن التخزين. وفي شهر نوفمبر يرفع منسوب التخزين في سنار إلى مستوى 420,7 ويبقى أن تبدأ حاجات مصر للماء لزراعة القطن وتغذية النهر. وإذا كانت أولوية مصر أمرا مقررا مقدما به من الجميع فقد وجب البدء في تفريغ الخزان بحيث تأخذ أراضي الجزيرة كل حاجاتها منه ويبقى تصرف النهر الطبيعي وقفا على مصر. والواقع أن حاجة أراضي الجزيرة للماء تقل بعد شهر يناير الذي تبدأ فيه الجنية الأولى من جنيات القطن، ينتهي في شهر مارس، فلا تبقى ثم حاجة لغير مياه الشرب. وهذا يكفيها ما مقداره تصرف عشرة أمتار في الثانية، فإذا كان شهر يوليو ابتدأت الحاجة إلى المياه في الجزيرة لزراعة القطن وابتدأ الفيضان يجعل رفع الماء في الخزان غير ضار بحاجات مصر، بدئ في عملية رفع المياه في الخزان من جديد.
كيف نفذ مشروع خزان سنار
يعد السير ويليم جارستين مستشار وزارة الأشغال المصرية أول من أشار بري سهل الجزيرة ريا صناعيا في سنة 1899، وذكر ذلك في تقرير قدمه في سنة 1904 إلى اللورد كرومر قنصل بريطانيا الجنرال في مصر. وقد عرفت زراعة القطن في السودان، فقد روى المسيو بونسيه الذي زار سنار مع المبشر زافريوس دي برفان سنة 1699 أنه وجد بها مائة ألف من السكان رائجة تجارتهم في تصدير القطن إلى حد أن اتفق السلطان الأزرق - وذلك هو اللقب الذي يطلق على أمير هذه المنطقة الواقعة على النيل الأزرق - مع ملك الحبشة على إبقاء ضابط بالنيابة عنه في شلجا عند حدود الحبشة لتحصيل العوائد على القطن الصادر واقتسامها شطرين، يأخذ كل أمير منهما شطرا. كذلك روى بركار الذي زار شندي في سنة 1814 أن أهم صادرات سنار كان الدمور المصنوع من القطن، كما روى أن مصانع القطن في سنار وبجرمي هي التي كانت تمون القسم الأكبر من أفريقيا الشمالية بالملابس. على أن هذه الصناعة انحطت في السودان وتدهورت لقيام الصناعة الكبرى في أوروبا ومزاحمتها الصناعة اليدوية في الأسواق.
فعاد السودان إلى زراعة الحبوب وأصبح سهل الجزيرة مخزن حبوب السودان كافة. وقد أدخلت زراعة القطن عند فتح محمد علي السودان، ثم بعد ثورة المهدي كانت زراعة القطن وصناعته قد تدهورت.
ولما قدم السير جارستن تقريره عن إمكان ضبط مياه النيل الأزرق لري الجزيرة بدأت حكومة السودان في ديسمبر سنة 1904 بمساحة أراضي هذا السهل المترامي الأطراف وبتقرير حقوق ملاك هذه الأراضي، وقد استمرت المصلحة التي أنشئت لهذه المساحة قائمة بعملها حتى أتمت القسم الأعظم منه في سنة 1912. كذلك بدأت الحكومة خطا حديديا ما بين الخرطوم وسنار، وبدأت العمل فيه في سنة 1909 ووصلت
2
به إلى سنار في سنة 1912، ثم اخترقت به أرض الجزيرة من جنوبها حتي وصل إلى كوستى على شاطئ النيل الأبيض اتجه إلى بلدة الأبيض.
وفي أثناء ذلك بدأت الحكومة تجربة زراعة القطن، فأقامت في سنة 1911 محطة طلمبات عند بلدة الطيبة على الشاطئ الغربي للنيل الأزرق، وحفرت الترع التي تأخذ مياهها من محطة الطلمبات هذه لتغذي ثلاثة آلاف فدان زيدت بعد ذلك إلى خمسة آلاف. وعهدت حكومة السودان في القيام بهذه التجارب إلى نقابة زراعة القطن بزيداب في شمال الخرطوم، وبدا نجاح تجربة الطيبة نجاحا باهرا في سنة 1913، فدعا هذا النجاح إلى ضرورة التفكير في أصلح طرق الاستغلال. وكان لورد كتشنر يومئذ قنصل بريطانيا الجنرال في مصر، فتوسط في الأمر وأتم الاتفاق على أن تكون حكومة السودان مسئولة عن الترع الكبرى في كل ناحية يزرع القطن فيها، وأن تكون نقابة زراعة السودان مسئولة عن الترع اللازمة لهم، وأن يقوم الزراع بالعمل في الأراضي، وأن يوزع محصول القطن الناتج من الزراعة بنسبة خمس وثلاثين في المائة منه للحكومة، وخمس وعشرين في المائة للشركة، والأربعون في المئة الباقية تكون للمزارع، كما تكون له سائر الحاصلات التي تنتجها الأرض.
في هذه السنة عينها سنة 1913، وعلى أثر زيارة لورد كتشنر للسودان مع الفنيين في الري من رجال الحكومة المصرية، وبعد أن رفضت الحكومة المصرية ضمان القرض الذي أريد إصداره بمبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات لإقامة خزان سنار، ونجاح مشروع ري الجزيرة. في هذه السنة أقر البرلمان البريطاني الحكومة الإنكليزية على ضمان القرض، وعلى ذلك بدئت الأعمال التمهيدية لبناء الخزان في سنة 1914، لكنها وقفت عندما شبت نيران الحرب الكبرى.
وقد رفضت الحكومة المصرية إذ ذاك ضمان هذا القرض؛ لأنها رأت الأمل ضعيفا في استرداد ما دفعته للسودان سدادا لعجز ميزانيته، ولأن السياسة الإنجليزية كان ظاهرا ميلها إلى استئثار إنكلترا بالسودان بعد أن تكون مصر قدمت له من الأموال ما مكنه من الاستقلال ماليا عنها. وربما كان للحكومة وللجمعية التشريعية عند ذلك من العذر أن الأموال التي دفعتها مصر للسودان في السنوات المتعاقبة كانت ملايين كثيرة. وضمان مصر لقرض الجزيرة قد ينتهي بأن تدفعه مصر فتضاف هذه الملايين إلى تلك لتعود فائدتها آخر الأمر على إنكلترا وحدها.
تنحت مصر إذن عند الاشتراك في استغلال سهل الجزيرة فأقدمت إنكلترا بتشجيع لورد كتشنر على الانفراد بهذا الاستغلال، وأقر البرلمان البريطاني ضمان الحكومة الإنكليزية قرض الجزيرة، فبدئ بالأعمال التمهيدية لإنشاء خزان سنار، ثم استعرت نار الحرب فوقفت هذه الأعمال. لكن وقفها لم يمنع من الاستمرار في قيام نقابة زراعة السودان بإجراء تجارب جديدة؛ خصوصا بعدما تقرر أن تكون مساحة الأراضي التي يرويها خزان سنار ثلاثمائة ألف فدان يزرع ثلثها قطنا في كل عام، فأنشأت النقابة المذكورة في أوائل سنة 1914 محطة طلمبات جديدة في بركات لري ستة آلاف فدان، ثم أنشأت بعد ذلك محطة أخرى لري 19500 فدان في ناحية الحوش بدأت استغلالها سنة 1921، ومحطة رابعة في وادي النور لري ثلاثين ألف فدان بدأت استغلالها سنة 1922، وكان هذا الاستغلال على قاعدة زراعة الثلث قطنا والثلث ذرة ولوبيا، والثلث الباقي بغير زرع؛ أى على قاعدة الدورة الثانية .
ولم يكن غاية حكومة السودان ولا نقابة زراعة السودان من إنشاء محطات الطلمبات هذه مجرد القيام بتجارب لزراعة القطن، فقد كانت تجربة الطيبة كافية منذ سنة 1913، لكن زراعة القطن كانت قد اندثرت من السودان قبل ثورة المهدي بزمن غير قليل، والمصريون المدربون على زراعة القطن رفضوا الاشتراك في الاستغلال. وقد عطلت الحرب استمرار القيام بأعمال إنشاء الخزان فرأت الحكومة ورأت النقابة الاستفادة من هذا الظرف لتدريب أكبر عدد ممكن من المفتشين الإنكليز ومن أهالي السودان ومن الوافدين عليه من النيجر والسودان الفرنسي، والحث على القيام بهذه الزراعة ومراقبتها، حتى إذا تم بناء الخزان وإنشاء الترع والقنوات في الثلاثمائة فدان أمكن زرع ثلثها أو ما يقرب من الثلث قطنا دفعة واحدة، والزراع الوطنيين والمستأجرين الذين مرنوا على زراعته. وأمكنت زراعة ثمانين ألف فدان قطنا على أثر تمام بناء الخزان مباشرة في شتاء سنة 1925-1926.
أما هذه الثلاثمائة ألف فدان التي تقرر منذ البداية أن يتكون منها مشروع ري الجزيرة فتمتد على الشاطئ الغربي للنيل الأزرق مبتدأة عند قرية الحاج عبد الله على بعد سبعة وخمسين كيلو مترا إلى شمال مكوار حيث يقوم الخزان، «وقد نسي الناس في السودان اسم قرية الحاج عبد الله وأصبحت هذه النقطة معروفة عند المهندسين باسم الكيلو سبعة وخمسين.» ثم تستمر في امتدادها شمالا على محاذاة النهر وسكة الحديد مدى خمسة وثمانين كيلو مترا. ويختلف عرضها من الشرق إلى الغرب بين أربعة عشر وخمسة وعشرين كيلو مترا، ويسير - وأمامك هذه الأبعاد - أن تتصور هذه النقطة من السهل المطمئن لا تقوم عليه ربوة من الربى ولا عقبة من العقبات محاذية النيل الأزرق المخصب، وأن نتصور إلى جانب ذلك أنها ليست إلا جزءا من عشرة أجزاء من تلك الأراضي التي يمكن ريها بالمشروعات والتي تبلغ ثلاثة ملايين فدان من خمسة ملايين هي مجموع مساحة سهل الجزيرة. وأن نتصور أخيرا أن هذه الثلاثمائة ألف فدان تقررت سنة 1913، وها هي حكومة السودان ونقابة زراعة السودان تراها الآن غير كافية بالحاجة الزراعية مع أنه لم يبدأ بزرعها إلا عام 1925 و1926؛ أي منذ عام فقط.
لم تكن الثلاثمائة ألف فدان كغيرها من أراضي سهل الجزيرة ملكا لحكومة السودان، وهي ليست إلى الآن ملكا لها، بل هي في ملك أهالي السودان الذين كانوا يزرعونها على المطر حبوبا. وقد رأت الحكومة أن نظام مشروع الجزيرة لا ينتج ثمراته إذا بقيت هذه الأراضي تحت يد ملاكها، ورأت من ناحية أخرى أنه لا بد لنجاح المشروع من أن تكون للأهالي مصلحة مادية فيه، فاستأجرت أراضي المشروع لمدة أربعين سنة بإيجار سنوي عشرة قروش للفدان، كما اشترت الأراضي اللازمة للترع الرئيسية وغير الترع الرئيسية من المنافع العامة بثمن جنيه واحد للفدان. وكانت هناك هيئة حددت مساحة هذه الأراضي تحديدا دقيقا وأتمت عملها في سنة 1912، وسجلت أملاك الأهالي بأسمائهم.
وتحاذي هذه الثلاثمائة ألف فدان ترعة الجزيرة حينا وتحيط بها حينا. وقد قسمت الحكومة والنقابة هذه المساحة إلى تسع عشرة قطعة، كل منها تبلغ نحو خمسة عشر ألف فدان، ثم قسمت كل قطعة مساحات مربعة. وتمر بها الترع الرئيسية الآخذة من ترعة الجزيرة، وبين كل واحدة وما بعدها نحو 1500 متر، ومن هذه الترع تروى الأرض عن طريق فتحات منتظمة أدق نظام.
3
وقد رأت الحكومة أن قدرة الزارع في الاستغلال الصالح لا يمكن أن تعدو العمل في ثلاثين فدانا يزرع منها عشرة أفدنة قطنا وعشرة ذرة ولوبيا، وتترك العشرة الباقية بغير زراعة؛ لذلك جعلت هذه الثلاثين فدانا وحدة ما يضع الرجل عليه يده في أراضي الجزيرة. وملاك الأراضي الأصليون يفضلون على من سواهم في الاستغلال؛ فكل مالك يضع يده على ثلاثين فدانا من أرضه، وجعلت القاعدة أن يكون للمالك حق اقتراح الأشخاص الذين يستغلون سائر ما استأجرته الحكومة من ملكه، وهو غالب الأحيان يقترح من يتصلون به بصلة القربي. وما دامت تقارير المفتشين عن هؤلاء المزارعين صالحة فلا محل لإجلائهم عن الأرض التى يستغلونها.
بعد انتهاء الحرب عاد المسيو السندرينى الذى كلفته الحكومة مباشرة أعمال إنشاء الخزان، وجعل ارتفاع الأسعار على أثر الحرب المبالغ التى قدرت لإتمام البناء غير كافية، على أنه استمر في العمل لحساب الحكومة، وباشر منه قسما غير قليل، ورأت حكومة السودان النفقات باهظة، فلما قررت الحكومة البريطانية رفع قرض السودان إلى ستة ملايين طرح إكمال بناء خزان سنار في المناقصة، ورسا على محلات بيرسون وأولاده بلندرة فبدأوا العمل فيه من أبريل سنة 1921، وهم الذين قاموا بإتمامه، ويبلغ طول خزان سنار ومعه الحوائط الصماء 3250 مترا، وعليها شريط سكة الحديد، وهناك مذكرة فنية عن خزان سنار وضعها ألفي بك الذى كان مدير أعمال بتفتيش ري مصر بالخرطوم. (3) زيارة سنجة
وبعد مشاهدة الخزان والترعة الرئيسية ركبنا السيارات إلى سنجة عاصمة مديرية الفونج، تلبية لدعوة حضرة الفاضل السيد مصطفى أبو العلا أفندى وعوض أبو العلا أفندي وإخوتهما. وهم من كبار تجار السودان، نشأوا في إسنا وأنشأوا مكاتب ومخازن تجارية في الخرطوم وبور سودان وسنجة وأم درمان والقاهرة وغيرها.
عملية قطع الخشب في غابة القزازة في سنجة. العمال والأخشاب ثم الآلة في الطرف الأعلى.
وزرنا مدير المديرية مستر ووكر، وكان طريق السيارات بين سنار وسنجة سهلا، وكان الحر شديدا بلغ 42 درجة مع أننا في الشتاء ...
وزرنا الساعة الأولى بعد الظهر غابة القزازة، حيث شهدنا أشجار السنط ورأينا آلة قطع الأخشاب يشرف عليها أحد اليونانيين وعمال سودانيين معهم البلط والمناشير. وتستعمل الألواح في فلنكات السكة الحديدية وفي أعمدة التلغراف، ولا تصلح لنجارة الأثاث؛ لأن الخشب خشن لا يقبل النعومة بالفارة. ويعطى قاطع الخشب أربعة قروش عن كل متر، ويستطيع العامل أن يقطع من الخشب المتر والنصف والمترين في اليوم، ويشتغل العمال في حرارة الشمس ولا يلبسون غير السروال. ونفاية الخشب وكساؤه يستعملان وقودا لوابورات نشر الأخشاب والرفاصات. والأرض هناك جيدة التربة تنقصها اليد العاملة، وأشجار السنط التى على النيل ملك «لعمر الخضر»، وبقية أشجار المنطقة ملك للحكومة. (3-1) عند آل أبي العلا
وعند الساعة الأولى والنصف تناولنا طعام الغذاء في منزل الوجيه مصطفى أبي العلا في سنجة، وقوبلنا بالحفاوة والإكرام، وألقى الداعي خطابا رقيقا، وألقى كل من حضرات فؤاد أباظة بك والأستاذ علي شكري خميس والسيد محمد عبد الرحيم سماحة كلمات مناسبة للمقام في بيان فضل آل أبو العلا في توثيق الروابط التجارية والاجتماعية بين مصر والسودان، واشتهارهم بالصدق، وشكر سكان «سنجة»، وقد قوبلت الخطب بالتصفيق.
خطبة الوجيه مصطفى أبو العلا
سادتي، إخواني التجار:
بالأصالة عن نفسى وبالنيابة عن إخواني أشكر لحضراتكم جميعا تفضلكم بقبول دعوتنا، وتحملكم مشقة السفر، وأحمد الله على سلامتكم.
وكم كان بودي لو أن زيارتكم لمدينة سنجة كانت مرتبة في برنامج الرحلة حتى نكون على استعداد عظيم للقائكم والحفاوة بكم، ولكن رب صدفة خير من ميعاد، فالحفاوة بكم هي محبتكم في قلوبنا، وهذا الشعور الجميل المتبادل معكم، والتوفيق الذي يلازم بعثتكم الموقرة. وحسبكم ما رأيتم في بقاع السودان جميعا من البشر والابتهاج، وما يطلقه السودانيون على مجهوداتكم العظيمة من الخير العميم الذي يعود على القطرين بالسعادة والفلاح.
وفي هذه الفرصة السعيدة يمكننى أن أذكر لكم ملخصا بسيطا عن سنجة؛ فهي من أقدم المدن التجارية في السودان، ولا زالت موردا عظيما للسمسم الأبيض والأذرة والصمغ. والأراضي الزراعية بها من أجود أراضي السودان.
وأرجو قبل الختام أن أوجه خالص شكري لسعادة فؤاد بك أباظة الذى طالما بذل الجهود الطيبة في توثيق العلاقات بين مصر والسودان.
أيضا مسيو كونتو ميخالوس الذي يسهر دائما على سعادة السودان ودوام الروابط الاقتصادية بين القطرين. والسلام عليكم ومرحبا بكم ألفا. «تصفيق».
خطبة محمد عبد الرحيم سماحة
أيها السادة:
أشكر الظروف السعيدة التى هيأت لنا فرصة الحضور إلى مدينة سنجة وزيارة السادات أبو العلا، وأشكر لهم جزيل الشكر على دعوتهم لنا وحسن استقبالهم وجميل شعورهم.
اسمحوا لي أيها السادة أن أذكر مع الفخر أن السادات أبو العلا تجار مصريون أسس المرحوم والدهم محلهم التجاري بالسودان منذ سبعين عاما، وسار في تجارته سيرا حميدا حتى وصلوا الآن إلى مقام محمود في تجارة السودان. وقد اتصلوا بتجارة مصر منذ إقامتهم في السودان، ولما راجت تجارتهم واتسعت أعمالهم افتتحوا فرعا لهم في مدينة القاهرة، وحازوا في القاهرة شهرة واسعة، وكانوا خير مثل للصدق وحسن المعاملة. ويسرني أن أذكر لكم بعض ما أعلمه عن تجارتهم.
ذلك أنهم تقدموا الصفوف في العمل على زيادة الروابط بين القطرين الشقيقين فأصبحوا بفضل جهودهم التجارية أكثر المحلات التجارية اتصالا بمصر، والدلائل كثيرة على استمرار نموهم التجارى.
وقد صدروا وحدهم إلى مصر في العام الماضي ما يزيد على نصف صادرات السودان إلى مصر، ولم يقعدهم نشاطهم على تجارة مصر والسودان فحسب، بل اتصلت تجارتهم بأوروبا وأمريكا، فكانوا في مقدمة المصدرين لتلك البلاد من محصولات السودان.
هذه عجالة من أعمالهم؛ لذلك أرى لزاما علينا أن نفخر بهم، ونحيي فيهم الشجاعة والإقدام. وقبل الختام أكرر لهم شكري، وأخص بالشكر منهم حضرة مصطفى أفندى الذي عمل كثيرا مع مسيو كونتو ميخالوس وإخوانه جميع أعضاء الغرفة على تهيئة هذه الرحلة الميمونة. (4) العودة إلى سنار
وحوالي الساعة الثانية والنصف عدنا من سنجة إلى سنار، ورأينا في الطريق بيتا من الخوص به حانوت من القش؛ حيث كانت شابة سودانية تدعى «بنتوم» تعايشية من طاما متزوجة عمرها 13 سنة، تتولى بيع القهوة والبيض المسلوق.
وفي طريق السيارات حوانيت تقدم فيها القهوة السودانية المعروفة بالجبنة (بفتح الجيم والباء والنون)، وهي تصنع من البن العادى الذي يحمص على النار أولا أمام الزبون وتغلى في إناء من الفخار الأحمر يشبه الإبريق الصغير بدون «بزبوز»، ولهذه القهوة مذاق خاص يعجب به الدكتور محجوب ثابت كثيرا.
ويجلس الدكتور على مقعد خشبى أمام أمثال هذه الحوانيت التي تسمى «رواكب» ويسأل النساء اللواتي يقمن منفردات أو مع الشيوخ بهذه المهنة عادة، عن أسمائهن وقبائلهن. وطالما استوقفهن وبعولهن في الطريق يقص عليهم حديثا في أنساب القبائل السودانية
وعند ذهابنا إلى سنجة صاد فؤاد أباظة بك طيورا ببندقيته ، وهي «دجاجة الوادي» وقمريا وغرنوبا ودرا وطيرا ملونا، وعدنا إلى محطة سنار الساعة الرابعة مساء، وتوجه الدكتور محجوب إلى المستشفى الأميري، وهو يسع 126 سريرا منها 40 للنساء والأطفال، وبه أقسام للحميات والجروح وأمراض النساء والعمليات، وعملت مكمدات لقدم الدكتور ، ثم توجهنا ومعنا حضرة الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير جريدة «حضارة السودان» لنلحق برفاقنا إلى غابة النسانيس، وهي تبعد 19 ميلا عن خزان سنار، ومررنا في طريقنا عند الخزان بحديقة الخزان، وتبلغ مساحتها 80 فدانا، زرع منها 40 بالفاكهة من موز وباباي وجوافة وتفاح ويوسفي وغيره، وتباع فاكهتها، ويسمح للجمهور بالتنزه فيها، ما عدا حوض السباحة فهو خاص بالموظفين الإنجليز وعائلاتهم، وكان طريقنا إلى الغابة يقع بين النيل الأزرق والترعة الرئيسية، ومررنا بأنقاض مدينة سنار القديمة التي هدمتها الحروب، وكان في سنار ملك ودولة قبل أن يفتحها إسماعيل وقبل أن تحتلها «المهدوية» في ثورتها وقبل استعادتها مع استعادة السودان. وبين الأنقاض جامع كان مكتوبا عليه «بني بأمر الحاج محمد علي». وكان لملوك سنار صداقة ببني عثمان، وينتمي الملوك إلى بني أمية، وكانوا يرسلون في القرون الخالية بعثات من الطلبة السناريين إلى الجامع الأزهر.
وقد جنحت حكومة السودان إلى إطلاق «سنار» على «مكوار»، ومكوار اسم شخص وضع علما على «حلة»، والحلة «بكسر الحاء وتشديد اللام» هى قرية أو عزبة، وسمي الخزان أولا خزان مكوار ثم دعي خزان سنار. وسنار اليوم هي المباني الجديدة التى للحكومة من مباني المهندس المقيم وموظفي الري السوداني والمصري الذي يتولاه المهندس حسن الديب، والمحطة والمستشفى، والحديقة والحوانيت المخططة، والحلل المجاورة. وهناك سنار التقاطع؛ لتقاطع الخطوط الحديدية إلى القضارف والأبيض، وهى تبعد عن سنار المركز بنصف ساعة.
وفي غابة القردة والنسانيس في جبل المشايخ حارس، وكان العلم المصري موضوعا عن يمين باب الدخول لمكاتب الحكومة، وعن اليسار العلم البريطاني، وكذلك في جميع مصالح الحكومة السودانية.
وتصاد النسانيس بإحدى طريقتين: بعمل حفرة في جوز هند فيدخل النسناس يده ولا يستطيع أن يخرجها، أو بوضع شراب المريسة في إناء، فإذا شرب منه النسناس أغمي عليه وسهل القبض عليه. وتستعمل الطبقة الأرستقراطية جلد النسناس في صنع الحقائب وغيرها. (4-1) صيد السمك
الأستاذ عطا عفيفى - من أعضاء البعثة - صياد ماهر في البر والبحر، وقد اتفق مع صديقه مستر جاكسون مدير محلج الحكومة في سنار على صيد السمك من النيل الأزرق الذى هو غني بالسمك، فصاد الأستاذ عطا سمكة من نوع العجل وزنها 26 رطلا إنجليزيا، وأخرى وزنها 8 أرطال، وقد هنأه الأعضاء على مهارته، وتبرع بالسمكتين لمطبخ القطار الخاص، حيث يقدم السمك عند غذاء اليوم التالى 4 فبراير.
وطريقة صيد السمك الكبير أن يستعمل الصائد سنارة مدلاة من حبل طويل مربوط بقصبة من الغاب، فإذا أمسكت السنارة السمكة وجب على الصائد إرخاء الحبل؛ لأنه إذا جذبه إليه قاومت السمكة، أما إرخاؤها فهو مضعف لقوتها، حتى بعد ربع ساعة مثلا تصبح بغير مقاومة فيجذبها الصائد بسهولة. (4-2) حفلة شاي سنار
وأقام حضرات تجار مدينة سنار حفلة شاي تكريما للبعثة عند منتصف الساعة السابعة مساء، كان يتقدم الداعين حضرات السيد حميدة سر تجار المدينة ووكيل شركة شل ومتعهد مقاولات وتوريدات الحكومة، والخواجة جورجي هب الريح، والطيب أحمد سليمان، ويوسف حامد، وعباس الضوي، وعثمان الحسن، وعبد السلام العجل، وعزت شامي، وأكثر التجار من بربر.
وألقى حضرة الشيخ خليفة عبد السلام تاجر الحبوب كلمة ترحيب بالبعثة باسم التجار. وأقيمت الحفلة في دار الخواجة جورجي هب الريح - وهو من أصل سوري - وحضرها مستر كين مفتش سنار والدكتور أحمد عبد الحليم طبيب المستشفى الأميري وكبار الموظفين.
وقال مستر كين: إنني لم أشهد منذ حفلة افتتاح خزان سنار سنة 1926 اجتماعا في سنار كاجتماعنا اليوم.
وفي داخل بيوت المدينة غرست أشجار الحناء. ويدعى عمدة سنار «الفضل المرجى».
وبجوار سنار حلة الفلاتة - مهاجري السودان الفرنسي وغيرهم - تدعى «حلة مايرنون» عليها شيخ يلقبونه «بسلطان» يسمى «الحاج طاهر».
وبسنار مخبز إفرنجي، واستراحات ثلاث: (1)
للحكومة. (2)
للسائحين الإنجليز وأمثالهم. (3)
للأفندية.
وبسنار خزان لماء الشرب الذى يؤخذ بآلة رافعة من النيل الأزرق وثلاجة، فيوضع الماء في الأزيار.
ويورده للمنازل مقاول عنده عمال يحملون الماء في جرادل من صهريج الماء، والأجرة تدفع بحسب الدور. والدور قدره صفيحتان من الماء، يأخذ المقاول النصف والعامل النصف. والأجرة يتفق عليها بين الساكن والمقاول.
وبين سنار وواد مدني ثلاث ساعات بالقطار وساعتان ونصف بالسيارة، وهناك لوريات تحمل بضائع وركابا يدفع المسافر فيها إلى واد مدني 4 قروش، ورخصة كل دكان مائة قرش في السنة، ورخصة عربة الكارو عشرون قرشا في السنة، وهناك ضريبة على الأرباح تقدر بسبعة في المائة. وبالمدينة لجنة من التجار برياسة سر تجارها لتقدير رأس مال كل تاجر وما يجب عليه دفعه للحكومة في السنة، وتفتح الحوانيت منذ الفجر وتغلق الساعة السادسة مساء عند الغروب عادة، ما عدا القهاوي ومحلات الشاي فتبقى لمنتصف الليل.
وأهالى سنار معروفون بإكرام الغرباء، ولا يوجد بها بار لبيع الخمور. ورخصة الخمر خمسون جنيها في السنة. وتنار مكاتب الموظفين ومنازلهم بكهرباء مستمدة من الخزان، أما الأهالى فليس عندهم كهرباء. والبضائع اليابانية منتشرة في سنار وفي السودان كله، وخاصة الدامور والدبلان والخامات الهندية. وقد شرع ممول إنجليزى يفاوض الحكومة في إنشاء مصنع للنسيج بسنار.
ومحاصيل سنار: الذرة بأنواعها من فتريتة ودغفر وشامي ودجني والسمسم واللوبيا، وتشتهر بمراعي الأبقار ذات اللون الأسود في بياض والعنق المرتفع، ولا يوجد بها جاموس. وأرض بندر سنار ملك للحكومة وحكر للأهالي، وسنار مركز. وأمراض سنار: الملاريا والبلهارسيا والزهري.
وفي الساعة العاشرة مساء، سار القطار إلى محطة سنار التقاطع فوصلها الساعة العاشرة والنصف واتخذ طريقه إلى كوستى.
الفصل السابع
من سنار إلى الأبيض
(1) يوم الاثنين 4 فبراير زيارة كوستى وتندلتي وأم روابة
يلحظ زائر مدن السودان أنها نظيفة منظمة، وأن سكانها متحلون بأدب وذكاء، عارفون للنظام، على بساطة حياتهم وقلة كسب سوادهم، وهذا دليل على أن الإنسان يستطيع أن يكون مهذبا نظيفا، ولو كان فقيرا مدقعا وجاهلا. وفي الواقع لقد أدهشنا المواطنون السودانيون بهذه الأخلاق الفاضلة، والاحتفاظ بالسجايا العربية، وبالأخذ بشيء من المدنية التي لم تطغ على تقاليدهم الكريمة، وكثيرا ما يحزن القلب أن تكون مدننا الصغيرة غير نظيفة، وأن جانبا كبيرا من سكان القرى وبعض المراكز قذر الثياب، أو أنه ينقصهم شيء من الكياسة، مثال ذلك ما رأيته - ورآه غيري - من قذف غلمان القرى والأزقة السيارات بالحجارة وتشييعها بصيحة الاستهزاء، وتدافع الجمهور أحيانا عند استقبال الكبراء بما يحدث مضايقة وتبرما. أما غلمان السودان وأطفاله فلا يعبثون ولا يفحشون. (1-1) موظفو الحكومة
وموظفو الحكومة السودانية متحلون أيضا بخلق رضي، وهم قادرون الواجب نحو الجمهور، هم مدركون أنهم خدام الجمهور لا سادته، ولم يحتج البوليس إلى استعمال الهراوات للمحافظة على النظام عند اجتماع الألوف، على تباين قبائلهم وتنابذ عشائرهم. (1-2) المستشفيات
العناية بالمستشفيات ظاهرة في السودان، والمستشفيات وافية نسبيا، ومقابلة المرضى الفقراء حسنة جدا، ونذكرها مع الاغتباط لمواطنينا السودانيين، ومع الأسف لما هو سائد في مستشفيات الحكومة بمصر - أو أكثرها - من سوء معاملة الفقراء، أحيانا بضربهم، فضلا عن إهمال علاجهم. (1-3) في كوستى
وصلنا إلى مركز كوستى الساعة الرابعة صباحا، ووقف القطار في محطتها، وكان أكثر الأعضاء لا يزالون نائمين في القطار الخاص الذي استمر في سيره منذ سافر الساعة العاشرة من مساء أمس من محطة سنار - وكان الجو باردا.
وعند الساعة السادسة صباحا رأينا كبار الموظفين والأعيان يجتمعون قريبا من المحطة، وموائد الشاي والحلوى والمرطبات قد أعدت لإفطارنا.
وفي الساعة السابعة نزل أعضاء البعثة من القطار، وكان في استقبالهم وفد التجار؛ وهم حضرات المشايخ: حميدة جامع سر تجار البندر، وفضل الله بركة حمزة، وعبد الرحمن جميل، ومبروك الطيب وكيل شركة شل، وسليمان أبو مرين، وعبد القادر الشيخ، وطه قاسم، وأحمد كوكو، والخواجة هادي جورج إستامبولي، والخواجة ساراتدة أنطوناكيس، وعبد الكريم أحمد، والخواجه ميشيل بربرى، والخواجه يوسف معري، والشيخ عثمان موسى، والخواجه باغوص دورينيان، والشيخ دفع الله بابكري، ومن الموظفين حضرات مستر كرول معتمد المركز، ومستر هاريسون المفتش، والشيخ مدثر القاضي الشرعي، والشيخ أحمد الطاي مساعد القاضي الشرعي، واليوزباشي عبد الرازق أفندي مأمور المركز، والعوض صالح الملك أفندي نائب المأمور، وبابكر الرياح أفندي رئيس الحسابات، والشيخ رضوان عبد الرحمن كاتب المحكمة الشرعية، وحسين الحكيم أفندي المفتش التجاري، والدكتور خليل عبد الرحمن طبيب المركز، وإلياس إبراهيم أفندي ناظر المحطة، والصاغ المتقاعد موسى أبصام، والملازم أول المتقاعد سلام مرسال أفندي، والملازم أول المتقاعد الدود محمد سليمان، والملازم أول المتقاعد فرج الله بشارة أفندي، والملازم الثاني المتقاعد نورين بحر أفندي، والحارث محمد إبراهيم أفندي مترجم المركز، وإبراهيم حسن أفندي صراف المركز، وعبد المجيد سليمان أفندي كاتب حسابات، وعبد اللطيف بابكر كاتب بالمحكمة الشرعية، ومحمد حسن عمران مخزنجي، ومحمد عثمان حسن رئيس مكتب تلغراف المحطة، والشيخ حسن عبد النور ناظر المدرسة الأولية، ومن الأعيان: محمد التوم عمدة كوستى، والشيخ محمد الطيب إمام مسجدها، والشيخ يعقوب سلام. ومن تجار ناحية الدويم: عبد القادر كريم الدين، ومحمد حمودي، وعثمان شبيكة، وسليمان السباعي، والخليفة الحسن، والخواجة عبود جرجفليا التاجر بالقويقة.
واصطف جميع أهالى البندر وصبيته صفوفا منتظمة فرحة مرحة، ووقفت فرقة موسيقي نادي الموظفين بكوستى تحيينا وتطربنا منذ نزولنا من القطار حتى عودتنا، وهي فرقة مؤلفة من 24 جنديا من جنود الرديف السودانيين الذين كانوا بالجيش المصري ويعزفون أدواره، فهتفت بنا ذكريات، وهي موسيقى ذات آلات نحاسية وملحق بها قربتان، وأنفارها يلبسون زيا يشبه زي الكشافة، برباط أصفر فاقع، وهم مديدو القامة، عليهم سيماء الشجاعة، ولهم سيمة الفروسية، وأنفار الموسيقى هؤلاء يشتغلون الآن كفلاحين، ونادي الموظفين هو الذي اشترى لهم الأزياء وآلات الموسيقى وقرر لهم إعانة، وفي المناسبات يعزفون ويعطى كل منهم خمسة قروش عندئذ، ولا شك أن من سلامة ذوق سكان كوستى وكياسة موظفيها إحياء هذه الموسيقى، وحبذا لو كانت مراكزنا وقرانا المتقدمة تنتفع بأبنائها من رديفها في إنشاء فرقة للموسيقى وغيرها، فإننا نرى الكثير من مدننا الريفية خلوا من المسليات ومن بروز شخصية كل مدينة.
وبعد تناول الشاي والتحدث إلى هؤلاء الفضلاء والموظفين الأعزاء، شاهدنا حاصلات البلاد على مائدة، ثم زرنا أسواق البندر: سوق الحوانيت، حيث ترى الدكاكين تنتظمها شوارع مربعة، ولا تعلوها دور، وبها بضائع يابانية ومقاه ومحال أشبهت كثيرا دكاكين المناخلية والتربيعة بالقاهرة، ويغلب في التجار وأصحاب الحوانيت أن يتجروا في أصناف كثيرة - هذا ما خبرته في بنادر السودان - كما لحظت أن لكبار التجار دائما فروعا ووكالات في جميع البنادر.
ثم زرنا سوق الحاصلات، وبها بورصة للمبيعات وتحديد الأسعار. وتعقد يوميا صفقات بمزادات، والعادة أن أصحاب المحاصيل يسكنون البوادي والجبال، ويرعون الماشية ويزرعون الأرض الزراعية ويحضرون الحاصلات إلى أسواق البنادر القريبة.
وكان موعد فتح بورصة الحاصلات الساعة العاشرة، وكانت زيارتنا لها الساعة الثامنة صباحا، وهناك مكتب للبورصة له ملاحظ اسمه محمد توفيق فتح الله أفندي، وهو شاب مهذب. وتجري الأعمال في البورصة كما يلي:
يحضر الباعة الحاصلات إلى السوق - والسوق يقوم على فضاء واسع، بعض أنحائه مسور أو مخطط - وتقيد أسماؤهم وأسماء المشتركين في البورصة في سجل، ويعطى لكل بائع ورقة ونمرة نحاسية، ويوضع محصوله في مكان معين، وينادي الملاحظ على الثمن الأساسي، في حضور التجار طلاب الشراء وهم مصطفون فتحصل المزايدة، فإذا استقر الثمن عند حد، عرضه الملاحظ على البائع، فإن قبل تمت الصفقة وإلا لم تتم، وقد يستعيد بضاعته من السوق لو شاء، وإذا تمت الصفقة أعطى الملاحظ البائع ورقة رسمية بها اسمه ونوع بضاعته والقيمة وتاريخ البيع، وبمقتضاها يتسلم الثمن. وقال لي الملاحظ إن قيمة الورقة كقيمة الشيك.
ثم زرنا سوق البقر، وشهدنا طريقة حقنه بالمصل الواقي من الطاعون، وتعلم أبقار كل تاجر بعلامة خاصة، تسمى «دمغة»، وذلك بحديدة تنتهى بنمرة - كنمرة «44» - فتحمى في النار وتكوى بها عجل البقر، وبعد الحقن بالمصل والدمغة، يجوز شحنه بالسكة الحديد وقبل ذلك لا يمكن الشحن.
والبقر في كوستى ألوان: الأسود والرمادي والأبيض والمختلط بين لونين، وأكثره ذو قرون طويلة مقوسة.
ثم زرنا المستشفى الأميري مع طبيبه الدكتور خليل عبد الرحمن، وكان معنا الدكتور محجوب ثابت الذي كان يسأل كل مريض ويشخصه ويسأل عن نسب القبائل، وهو ما يحفل به الدكتور محجوب دائما؛ حيث يسأل المواطن السوداني: «جعفرى، والا مولد، والا فلاتة؟» ويأنس السامعون لحديث الدكتور.
هذا وتتصل بورصة كوستى مع البلاد الأخرى بالتلغراف لمعرفة الأسعار وتدوينها، وقد قرأنا في سبورة كتب عليها بالطباشير الأسعار كما يأتي:
كوستى 3 فبراير سنة 1935
44 الصمغ.
114 السمسم.
43 الفول.
77 الماريق.
76 الصفراء.
56 الفترينة.
56 الهجرج.
والأصناف الأربعة الأخيرة هي أصناف الذرة التي تجود بها منطقة كوستى، ويقابل ما تقدم على السبورة ما يلى:
أم درمان 2 فبراير سنة 1935
48 صمغ.
135 سمسم.
54 فول.
100 ماريق.
90 صفراء.
80 الدخن.
73 القصابي.
68 الفتريتة.
هذا و«كوستى» مدينة أنشئت سنة 1904 عرفت باسم تاجر يوناني نزل في منطقتها ويدعى «كوستى»، وقد ودعتنا موسيقى الدراويش وهى مؤلفة من نفرين، كما ودعتنا موسيقى النادي. (1-4) في تندلتي
عند الساعة العاشرة صباح الأربعاء تحرك القطار بين الهتاف والتصفيق، وعند الساعة الثانية عشرة والدقيقة 20 وقف القطار ونزلنا في محطة تندلتي، وهي ليست مركزا ولكنها بندر تجاري، وقد استقبلنا من التجار حضرات السيد يونس عبد المنعم محمد، وهو عضو غرفة الخرطوم التجارية وشريك رفيق البعثة حضرة مصطفى أبو العلا أفندي، والسيد الفقيه عمدة قبيلة الجمع (بكسر الجيم وفتح الميم)، والسيد أحمد طه الشامي، والمشايخ محجوب نعمان ومجدوب فضل الله بركة ومحمد عبد اللطيف صادق الأمين وعلي عبد اللطيف مبارك ومحمد أحمد عثمان إدريس وعبد الله موسى ودفع الله الضو وإبراهيم مالك وعثمان إبراهيم السيد وعثمان إبراهيم وبشير إبراهيم ومصطفى كوكو ومحمد البشير وسليمان فرج وناظر تندلتي الشيخ المكي أحمد عساكر والشيخ حمد علي عمدة تندلتي وعبد الماجد غرجاج وحمزة علي وإخوانه، والخواجات رياض سكلة وإسكندر جرجس وشفيق إبراهمشة وفؤاد عبد المجيد شكري ... إلخ.
ثم توجهنا إلى سوق الدكاكين، وتباع فيها الأقمشة اليابانية والإنجليزية والمصرية «من نقادة» بالصعيد، حيث تصنع الغزالى يدويا وتصدر للسودان. وزرنا محل تجارة الشيخ يونس عبد المنعم محمد وشريكه السيد مصطفى أبو العلا وآخرين، حيث نظمت موائد الشاي والقهوة والمرطبات والشكولاتة والحلوى، وألقى حضرات فؤاد أباظة بك والسيد عبد المجيد الرمالي والأستاذ علي شكرى خميس كلمات شكر قوبلت بالتصفيق.
وعرضت حاصلات «تندلتي» على مائدة؛ وهي الذرة الصفراء والفاتاريتا وزناري مريح ولب البطيخ والسمسم والدخن والشطة والفول، وشهدنا عصارة زيت السمسم الآلية حيث ينقى السمسم ويضغط بين ألواح وينزل منه الزيت يجمع في أوان تحت سطح الأرض. وشهدنا العصارة الخشبية يديرها جمل.
وفي تندلتي صمغ هشاب وحب بطيخ وتجارة بقر، ويسكنها عرب الجعليين والبقارة والجوامعة.
خطبة السيد عبد المجيد الرمالي
إخواني التجار:
شكرا لكم على حفاوتكم العظيمة بإخوانكم المصريين . لقد كنا مشتاقين إليكم شوقا كثيرا فلم نشعر بأي مشقة في رحلتنا الطويلة من مصر. لقد أنسانا أشقاؤنا السودانيون أهلنا وأصدقاءنا المصريين. نحن نشعر بينكم أننا في بلدنا، بين أهلنا وأحبائنا، وإني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جميع إخوانكم المصريين عموما، وعن التجار المصريين بصفة خاصة، وعن الغرفة المصرية التجارية بالقاهرة بصفة أخص، أتشرف بأن أبلغ إليكم سلام مصر وأهلها التى حملتنا إياه أمانة لإخواننا السودانيين.
نحن نحب أن نراكم في مصر، كما أننا سوف لا نسلو أبدا السودان، بل ننتهز كل فرصة لزيارته.
سنصف للمصريين عند عودتنا جمال السودان وكرم أهله وخصوبة أرضه وكثرة موارده، ونرجو أن تكون هذه البعثة فاتحة عظيمة لتوثيق عرى التبادل التجاري بين القطرين بما يعود على البلدين بالخير والرفاهية. «تصفيق». ا.ه.
ثم عدنا إلى القطار حيث قام الساعة الأولى والربع، وقد ألقى الحاج عبد اللطيف في تندلتي ما يلي:
يا ركب هب لي بيانا
أقضي به واجباتي
ويا كرام اسمحوا لي
بهذه الكلمات
لعل ساعات عمري
كهذه العجالات
تمر مرا سريعا
إلى مقر الحياة
وعل تخليد ذكرى
فى هذه اللحظات
وعل يوما كهذا
أبز فيه لداتي
حسبته يوم أنس
لكل غاد وآت
إذا به مهرجان
للبر والحسنات
شهدت فيه نفوسا
بهذه البسمات
بدت خلال وجوه
تخشع بالطيبات
أحيت موات رجائي
بهذه المبتسمات (1-5) في أم روابة
وفي الساعة الرابعة وقف القطار عند محطة أم روابة.
واستقبلنا الأعيان والتجار يتقدمهم حضرات الشيخ علي جاد الله عمدة البندر، والمشايخ عبد الرحمن علوان وإبراهيم الكوباني وعبد الحفيظ عبد الله ومحمد علي السيد وحسين السيد ومنصور سوار الذهب والحاج عثمان محمد صالح وإبراهيم البلك والدكتور محمد النيل طبيب المستشفى والزبير محمد التوم أفندي مأمور المركز وصديق عبد الوهاب أفندي نائب المأمور والمستر لونج مفتش البندر وعبد العظيم حسن.
وسكانها من الجعليين والبقارة وبرنو والفلاتة والهوسة.
وركبنا الخيل والحمير التي أعدها لنا المستقبلون من المحطة حتى البندر، وشهدنا سوق الصمغ والسمسم والبورصة، وقد أخروا موعد افتتاحها - وهو الصباح - خصيصا لكي نشهد أعمالها، وهي تماثل بورصات البنادر المتقدم ذكرها.
وإردب السمسم في سوق أم روابة 15 كيلة، وكان الإردب منه في سعر بورصة اليوم 120 قرشا، ويبلغ ما بيع فيها من أول نوفمبر حتى الآن حوالي 82 ألف إردب، وكان بالسوق اليوم 6 آلاف إردب. وثمن قنطار صمغ هشاب 42 قرشا، وقد ربحت الحكومة أكثر من 800 جنيه من النولون.
وكانت النساء يزغردن عند وصولنا وعودتنا.
وتأخذ الحكومة عوائد دخولية على قنطار الصمغ 8 مليمات، وقنطار السمسم 6 مليمات، وقنطار الفول 7 مليمات، وقنطار الذرة 4 مليمات.
ثم سافرنا إلى الأبيض فوصلنا إليها الساعة العاشرة إلا ربع واستقبلنا التجار والحكام بحفاوة.
الحفاوة بالبعثة وحماس جماهير السودانيين. (2) زيارة الأبيض وبورصتها الكبيرة (في 5 فبراير سنة 1935)
حوالي الساعة العاشرة إلا ربعا من مساء أمس الاثنين 4 فبراير سنة 1935 وصل القطار الخاص المقل للبعثة المصرية في السودان إلى محطة الأبيض، حيث كان في استقبالها حضرات مأمور مركز الأبيض وتجارها وأعيانها، وبعد تحية أعضاء البعثة والتعرف بهم، بقي بعض المستقبلين في القطار مع الأعضاء إلى وقت متأخر من الليل، بينما زار بعضنا مدينة الأبيض فوجدوا حوانيتها مغلقة وأكثر سكانها نياما.
واستيقظنا اليوم مبكرين، لعلمنا أن البريد المسافر إلى مصر ينقل بقطار الساعة الثامنة صباحا، فبادر كل منا إلى إعداد رسائله والرد على الخطابات الواردة إليه، ولم يكن الدكتور محجوب ثابت - وهو من جيراني، في المركبة - يعلم بموعد البريد، ولم يكن قد تلقى خطابا أو كتب لأحد كتابا، لأن الدكتور تشغله الرحلات والأسفار - وخصوصا رحلة السودان - عن الكتابة، فقد وجد أهلا بأهل وإخوانا بإخوان، وهو دائما واجدهم في كل مكان؛ وخاصة في السودان!
ولكن يظهر أن الدكتور قد أخذته الغيرة من رفقته، إذ ألفاهم جميعا منهمكين في الكتابة، فطلب من السيد سماحة ورقة ليكتب فيها فأعطاه «كارت بوستال».
وكان قد حان موعد قيام القطار، وكان الدكتور من جهة أخرى في صالونه خالع العذار استعدادا للاستحمام، فنبهت سائق القطار وعامل البريد لانتظار بريد الدكتور. ولما تسلم العامل «رقعة البريد» التى كتبها الدكتور، سافر القطار في الحال إلى الخرطوم .
وكان بين مودعي المسافرين فتاة بكت متأثرة من فراق جدتها قائلة: «مع السلامة يا حبوبة.» والحبوبة معناها الجدة، فقال لها الدكتور: «وليش تبكى يا بنية ...؟» (2-1) في سوق الصمغ
ثم وصلت وفود المدينة عند الساعة التاسعة صباحا، وقد أعد الملاك سياراتهم الخصوصية لأعضاء البعثة، فركبوها في منتصف الساعة العاشرة صباحا مع المستقبلين إلى المدينة ... إلى سوق الصمغ، وهو أكبر سوق له بالسودان، وهو منظم تنظيما بارعا، بحيث لا يغبن منتج، ولا يضل تاجر، ولا يوجد للغبن محل.
يقع السوق في فضاء واسع، وقد وضع الصمغ في أكياس من الجلد - وصمغ الأبيض من صنف «هشاب» - وبه مكتب يديره ملاحظ سوداني اسمه «عباس علي رحمة أفندى»، وهناك رفوف وضعت عليها قطع من ألواح صغيرة من أخشاب الغابات السودانية القريبة من الأبيض، وأهمها خشب الموجني، وزجاجات صغيرة بها أنواع الصمغ وبذوره، ورسوم ظهرت فيها أشجار الصمغ على اختلاف أنواعها.
وإلى جانب هذا سبورة سوداء كتب في رأسها ما يلي:
سوق صمغ الأبيض
يوم 5 شهر 2 سنة 1935
حمير - ثيران - جمال - رسالة
ولا تعني أسماء الماشية المذكورة أنها للبيع، فإن السوق للصمغ لا للماشية، وإنما يعني ذكرها حمولة حمار أو ثور أو جمل.
ويوضع للرسالة رقم، وتتضمن محصول الصمغ لكل بائع. والباعة من أعراب السودان في البيداء. هذا وتنبت أشجار الصمغ من غير غراس وبدون ري، وكل ما يفعله الأعرابي أنه يجمع الصمغ من أشجار الغابات والأحراش ويضعه في أكياس ويبيعه في أسواق المدن والرسائل تكون على الترتيب: 1 و2 و3 و4، وأمام رقم الرسالة - على السبورة - الحمولة من الحمير أو الثيران أو الإبل.
وقبل موعد افتتاح السوق والجلوس في البورصة، يدون الملاحظ في دفتر خاص بيانات الرسائل وأرقامها، وأسماء أصحابها وتاريخ السوق، ويعطي لكل من أصحابها وصلا، ثم يحضر المشترون، وهم تجار في المدينة أو وكلاء لكبار التجار في الخرطوم وأم درمان وبور سودان ومصر. ولكل من التجار أو وكلائهم في الأبيض دفتر صغير يدونون فيه بيانات الرسائل كالوارد في دفتر الملاحظ.
وبورصة السودان بناء فسيح به مقاعد أمامها مناضد تشبه ما يوجد في حجر التدريس بالمدارس، ولكل مقعد رقم نحاسي معلق في عمود يجلس أمامه كل تاجر أو وكيله من المشترين. ولا يسمح بالاشتراك في مضاربات البورصة ومزادها إلا للتجار أو وكلائهم المسجلة أسماؤهم في سجل السوق. والتسجيل يكون بناء على طلب يقدم للملاحظ، وكل من حصل على قيد اسمه يجب عليه أن ينفذ جميع الشروط، وفي مقدمتها عدم الغش، ودفع الثمن الذي رسا مزاده على المشتري في اليوم نفسه للبائع، وإلا استبعد اسمه نهائيا من السوق وحرم من التعامل فيه. ويسمون صاحب البضاعة بائع الصمغ، وغيره «خبير».
وفي السوق سبورة مكتوب فيها ما يلي:
المشتريات الشهرية
يونس
96
1576
العشار
80
1559
البر
21
1135
الفرنساوي
51
1072
البتو
12
995
محمد طه
11
849
اكسبورت
38
735
لانسج
23
696
متري
617
عدلان
74
470
هنري
67
365
شون
9
257
رامجي
3
31
الوارد الشهري
1036187
الثمن
3256975
المتوسط الشهري
382
وقد فتح السوق اليوم الساعة العاشرة والدقيقة 10 صباحا، وانتهى الساعة العاشرة والدقيقة 35، وكان وارد اليوم إلى السوق 600 قنطار من صمغ هشاب. والسوق مفتوحة يوميا.
وبعد أن راجع الدلال والتجار البيانات المشار إليها ظهر اختلاف مرة واحدة فقط، فرفع التاجر أصبعه، فقال الدلال: «فيه ملاحظات.» وصحح الخطأ. ثم بدأت العملية، وعند بدئها يفتح صاحب رقم 1 المزاد، ويقف الدلال على منبر ومعه جرس وأمامه الكشف وفي يده قلم، ويشير إلى أصحاب رقم 2 و3 وهكذا لكي يزايدوا، حتى إذا انتهت المزايدة سأل الدلال «الخبير» - أي البائع: «بتبيعوا؟» فيقول: «نبيع.»
وعند انتهاء المزاد يعطي الملاحظ لكل بائع ورقة يتسلم بها الثمن من المشتري في الحال، ويوزن الصمغ ويقيد وزنه في الورقة. وقد بيع قنطار الصمغ بمبلغ يتراوح بين 40 و50 قرشا، والصمغ القديم بين 35 و40 قرشا.
وقد أعدت لنا في بورصة الصمغ كراسي جلسنا عليها بجوار مقاعد التجار، وشهدنا العملية تجري في نظام وسكون. وقد عزم تجار البعثة على اقتباس هذه الطريقة وتعميمها في البلاد المصرية؛ لأنها تعود بالخير والراحة والنظام على التاجر والبائع.
وانصرفنا إلى مخازن تنظيف الصمغ، وهى مخازن أعدت للتجار المشترين، ويشتغل فيها فتيات ونسوة من كل سن، وتأخذ كل منهن 25 مليما أجرا على تنظيف الصمغ الذي يملأ كيسا «زكيبة». وكان الفتيات في أزياء جديدة ملونة وبضفائر مجدلة لمناسبة زيارتنا، وقد زغردن وطفقن ينشدن ويبدعن ويرقصن في أثناء زيارتنا، كأنهن في عرس وزفاف.
وقد أطلق الدكتور محجوب نفسه على كامل سجيتها وحريتها مع الفتيات العاملات في تنظيف الصمغ، وكان يعاونهن في أناشيدهن ويصفق معهن، وقد أخذت له صور عديدة وهو في وسطهن، وقد أخذت للأعضاء معهن صور عديدة. وكانت ساعة سعيدة تلك التي قضاها الدكتور والأعضاء في مخازن تنظيف الصمغ! وكنا نشعر أننا في ليلة زفاف أعدت لزيجات متعددة في ساعة واحدة. واختار الدكتور محجوب أربع فتيات أعجب بهن، وقد ود لو تكون إحداهن زوجا صالحة له.
وقد بلغ من فرط ابتهاج الدكتور والأعضاء بهذه الزيارة أنهم تأخروا عن موعد زيارة سوق الحاصلات وسوق الماشية.
وبهذه المناسبة نذكر أن حضرة فؤاد أباظة بك قد أعد شريطا سينمائيا بمناظر الرحلة كلها - وسيرى مواطنونا مشاهد زيارة اليوم بين مناظر الرحلة وسيشاركوننا الابتهاج والأفراح والليالى الملاح!
زرنا بعد ذلك سوق الحاصلات من سمسم ونحوه، وقد قال لنا حضرة نائب المأمور إن تجربة بورصة الصمغ في سوق الحاصلات لم تفلح؛ ولذا فالبيع في سوقها بالممارسة لا بالمزاد.
ثم زرنا سوق الماشية وبه خراف وأبقار، وثمن الأقة من اللحم الضأن المذبوح قرشان ونصف، ولحم البقر قرش ونصف القرش.
ثم انتشرنا في شوارع المدينة حيث زرنا متاجرها وحوانيتها، ورأينا تجارا من مصر وسوريا ولبنان، وتجارا من الهنود واليونانيين والأرمن، فضلا عن تجار المدينة. وقد احتفوا جميعا بنا واستقبلونا وتنافسوا في إكرامنا.
وزار بعض الأعضاء مطار الأبيض، ومسجدي المدينة: مسجد الأبيض الذي بني سنة 1912 في عهد الجيش المصري ومسجد الإسماعيلية. والمسجد الأول واسع وأنيق، به مئذنتان وبه مكان خاص يصلي فيه السيدات صلاة الجمعة، وبه حلقتان للدروس الدينية عقب صلاة العشاء. وقد صلى الشيخ المحترم السيد أحمد أبو الفضل صلاة العشاء بمسجد الأبيض. وهنا حضر معنا الدكتور محجوب وعرف المصلين بأن السيد أبو الفضل نجل المرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى شيخ المالكية والأزهر سابقا.
وزاروا أيضا الاسبتالية الأميرية، وبها 120 سريرا وثلاثة أطباء، كبيرهم إنجليزي. وبالمدينة كنيسة إنجليزية وكنيسة للروم الكاثوليك وكنيسة للأقباط الأرثوذكس.
وكان ماء الشرب في المدينة من الآبار، وكان ثمن الصفيحة يصل إلى ثمانية قروش؛ خصوصا في الصيف، وكان من يملك بئرا يملك ثروة بسببها. وقد أنشأت الحكومة آلة لرفع الماء من بئر ارتوازي، وأقامت مستودعا عاليا، ومواسير بحنفيات في المنازل بأجرة معتدلة معينة، ولكن الفقراء ما زالوا يشربون من ماء الآبار.
وقد خصص للماشية مكان للشرب يؤخذ ماؤه من الآبار.
وهناك أسواق منظمة: سوق للخضر، وسوق للحم - واللحم يذبح في مجزر تحت إشراف طبيب بيطري ويختم - وسوق للفاكهة، وسوق للنسوة، ويتولى البيع فيه سيدات يبعن خبزا وخرزا وحبوبا ... إلخ. (2-2) الفلاتة والحلبة
وفي خارج المدينة منازل من الأخصاص وغيرها لفئة تعرف باسم «الفلاتة» بتشديد اللام، وهم مهاجرو السودان الفرنسي ونيجيريا وجنوبي السودان ونحو ذلك، يحضرون مع عائلاتهم إلى السودان للحج مشيا على الأقدام لفقرهم المدقع، فإذا عادوا من الحج فضل الكثير منهم العمل في السودان كزراع وخدم وفعلة وحمالين؛ لأنهم لا يأنفون من العمل، فوق حاجتهم إلى القوت الضروري، ولأنه ليس لهم في بلادهم الأصلية ما يغريهم بالعودة إليها؛ خصوصا وأن صغارهم وزوجاتهم معهم في حجهم.
ولكن سكان المدن يعدونهم غرباء، ويأنفون من الزواج منهم، فاحتفظ الفلاتة بعاداتهم ولهجتهم. ونساؤهم سافرات الوجوه، وأكثرهن يعملن في تنظيف الصمغ. وهم من قبائل منوعة، ويوجدون دائما حوالي المدن.
أما «الحلبة» أو «الحلب» بفتح الحاء واللام، فهم فئة الغجر، وهم يشتغلون بالحدادة، ويعيشون في بيوت من الشعر ونحوها خارج المدينة وبعيدا عن سكانها وعن أعراب الصحراء وعن الفلاتة.
وفي الأبيض مدرسة أولية للبنين ومدرسة للبنات ومدرسة يونانية، وحي للموظفين الإنجليز ، وملاعب للتنس، وترام تمتد خطوطه من المحطة إلى مخازن التجار، ويمر ببعض الشوارع ويجره ثوران، وتحمل مركباته البضائع، وفي النادر يركبه الناس. ويوجد فرع لشركة سنجر يديره مواطننا زكي بطرس أفندي، ويبيع الفرع 150 ماكينة في السنة، ويعهد إلى بعض خريجات مدرسة الخياطة للبنات بتعليم مشتريات الماكينة الخياطة. والمنازل مبنية من الطوب الأخضر والمحروق المسمى «قلوص».
وتوجد في الأبيض فرقة من الهجانة والحملة الميكانيكية، وهى مؤلفة من خمسة بلوكات وسيارات مسلحة، ويوجد فرع للبنك الأهلي، ويوجد جبن بقري وعسل نحل. والبضائع اليابانية تغمر السوق، وأرض السوق حكر للحكومة، ويؤجرها الأهالي لمدة طويلة ويبنون عليها الحوانيت لمدة 40 سنة عادة، وعند انتهائها تسلم للحكومة من غير بناء. وإذا أعدت الحكومة أرضا للتأجير أقامت مزادا، وتتراوح أجرة المتر في السنة بين 15 مليما و20 قرشا. وجو الأبيض معتدل في أكثر فصول السنة، وأرضها رملية، ولشوارع المدينة يفط، وهى لوحات من الخشب مكتوب على كل منها بحروف صغيرة اسم الشارع بالعربية والإنجليزية. واللغة الإنجليزية تسود أكثر مكاتبات الحكومة. (2-3) مأدبة غداء وحفلة شاي
وقد أقام أعيان المدينة وموظفوها مأدبة غداء، وفي المساء حفلة شاي في ساحة مولد النبي في سرادق كبير، حضرها مستر بريدن نائب المدير؛ لأن المدير مستر نيوبولد كان متغيبا، ومستر كوليات مفتش المديرية، ومستر آجلن مفتش المركز، وحضرات التجار والأعيان الأفندية والمشايخ: محمد أحمد الإمام سر تجار الأبيض، وعمر التني نائب ناظر البندر، ونايل عثمان وبناجة حسن، وعبد الرحمن محمد صالح ناظر المدرسة الأولية، وفضيلة القاضي الشرعي الشيخ عبد الله أمين، ومجدوب علي حسيب نائب القاضي الشرعي، وعبد الله أحمد محمد خير، ومجدوب البر، ومحمد باي عوض خليل، وعبد الله الفقيه، وبشير الفقيه، وعبد الرحيم مبارك، والدليل المحسي وحسن أبوه، ومكي إلياس، وعوض الكريم العشر، وكلنج همشتد، وجورج بريمو، وشماع بريمو، ودلماك كوركوجيان، وجندي نخلة، وأنطون الحياح وكيل الشركة الغربية للصمغ، وميشيل ميخاليديس صاحب محل أبو نجمة، ورئيس الجالية السورية حضرة قناوي أفندي وإخوته، وكوتكوجيان، وفارس عجم، وجورج فتال، وسيد أحمد نور، وميخائيل مصرية ، وديمتري ميخائيل قسيس الكنيسة القبطية، ولطيف نخلة أفندي باشكاتب المديرية. ومن الضباط المتقاعدين اليوزباشي صادق الجزولي، والحاج عبد الرحمن محمد، وعبد الله عدلان، والملازمون الأول عبد المنعم عبد الله وحسن عبد التام، ومحمد مصطفى.
وقد بذل حضرة الشاب المهذب الفاتح محمد البدوي أفندي نائب مأمور مركز الأبيض مجهودا كبيرا في تنظيم حفلات الاستقبال والغداء والشاي والتوديع.
وألقى حضرات فؤاد أباظة بك كلمة شكر، ثم ترك الكلمة لمندوبي التجارة فخطب السيد محمد عبد الرحيم سماحة والوجيه علي شكري خميس والسيد عبد المجيد الرمالي فأجادوا.
خطبة الوجيه محمد عبد الرحيم سماحة بالأبيض
أيها السادة:
لم يكن لي أن أقول شيئا بعد الذي سمعتموه، ولكن دفعني للقول لكم عوامل كثيرة أثارتها في نفسي هذه المظاهر الفخمة التى قابلتمونا بها. ففي مساء الأمس جئتم إلينا بالقطار بعدما أسدل الليل ستاره وكنتم في حاجة إلي راحتكم، ولكن أبت عليكم مروءتكم إلا أن تطوقونا بجميلكم، واليوم هو يوم مشهود تجلت فيه كل المعاني التي تخالج نفوسنا ونفوسكم: وجوه مستبشرة وثغور ضاحكة ونفوس مشوقة إلى اللقاء بعد طول الغياب، فالحمد لله والثناء له جلت قدرته، فقد جمع بين الشقيقين بعد أن ظنا ألا تلاقيا.
إخواني، كنا نحسب للسفر ومتاعبه حسابا، ولكن حسابنا لم يكن صحيحا؛ فعندما نزلنا إلى بور سودان وجدناها زاخرة بالمستقبلين من الأجانب والوطنيين، وبالغوا في الحفاوة بنا، وذهبنا إلى سواكن الخالدة فرأينا عظمتها التاريخية، وبيوت الكرام فيها لا زالت قائمة، وعدنا إلى بور سودان ومنها إلى كسلا والقضارف وسنار وسنجة وكوستى وتندلتي وأم روابة، فزرنا المدن وقطعنا السهول والغابات وكنا في كل بقعة من بقاع السودان المترامية نقابل فيها بكل مظاهر الحفاوة. وجئناكم فوجدناكم قد جمعتم كل الحفاوات في حفلاتكم، وقد يملك السرور على إنسان كل مشاعره حتى يفقده قوة التعبير عما يخالج نفسه، فإن عجزت فإني لا أعجز عن أتلمس من كل هذه المظاهر معنى ساميا فوق كل المعاني، ذلك هو قوة الله تعالى. فالله أكبر الله أكبر الله أكبر.
كيف لا وقد خلق الله مصر والسودان أرضا واحدة تسقى بماء واحد!
إخواني، هل تعلمون ما هي أغراض البعثة المصرية للسودان؟ إن أغراضها اقتصادية زراعية تجارية، فمنا أعضاء الجمعية الزراعية والنقابة الزراعية وجمعية خريجي مدرسة الزراعة وتجار مصر والإسكندرية وذوو فضل من المصريين، كل أولئك جاءوا في البعثة المصرية ليدرسوا أحوال السودان عن رؤية وروية، ولكي يعملوا كل مجهود في سبيل زيادة الروابط بين البلدين.
إخواني، سهلت لنا رحلتنا حكومتكم السنية ورجال غرفتكم التجارية، وعلى رأسها جناب مسيو كونتو ميخالوس وإخوانه الأماجد؛ خصوصا الذين رافقونا من بور سودان، وبدأنا مباحثاتنا على ضوء الحقيقة ورأي العين، وإني وإن كنت لا أنكر عليكم أن الإحصاءات الرسمية دلت على أن مصر هي أول سوق لحاصلاتكم، وأنتم لا شك واثقون أننا سنعمل متفقين مع غرفتكم بالخرطوم على زيادة النمو التجاري.
وحتى تتحقق أمانينا وأمانيكم أرجو منكم أن تتصلوا بغرفة الخرطوم بكل ما يعن لكم من اقتراحات أو طلب تسهيلات في سبيل تجارتكم مع مصر. ونحن من جانبنا سنعمل كل مجهود في سبيل ذلك.
وإذا كانت الأبيض من أقدم مدن السودان في التجارة فإنا نراها لا تزال في مقدمة مدن السودان التجارية. ويسرني جدا أن أعلن فيكم أن تجار مصر يفضلون دائما حاصلات مديرية كردفان؛ خصوصا الأذرة الزناري التي صدرتم منها وحدكم في العام الماضي ما يزيد على عشرة آلاف طن. كذا الفول، كذا حب البطيخ وارد الأضية والنهود والأبيض. وقد صدرتم منه في العام الماضي سبعة آلاف طن لمصر، وهو ما يوازي تسعين في المائة من محصولات السودان جميعه. وطبعا لا تجهلون أن محصول حب البطيخ ليس له تصريف عندكم إلا لأسواق مصر. أليس كذلك؟
إخواني، هل لي بعد أن أطلت عليكم الكلام أن أرجو منكم التفاتا إلى محصولات وصناعات مصر لتزيدوا صادراتنا إليكم فتكونوا بذلك قد حققتم بعض ما ننشده جميعا من زيادة الروابط بين البلدين؟
إخواني، أرجو أن تتقبلوا منا خالص الشكر، وأخص بالشكر جناب نائب المدير وحضرة نائب مأموركم الهمام وحضرات أعضاء لجنة الاستقبال ، وكذا حضرة الشيخ خليل عكاشة الذي هيأ لنا كل مظاهر السرور والتفريح ونحن في زيارة محل تنظيف الصمغ التابع للسادات أبو العلا ويونس بإدارة حضرته.
ولتعلموا أن محبتكم في نفوسنا خالدة إلى يوم الدين، وإننا نودعكم ولكن إلى اللقاء القريب، وأنتم في خير ونعيم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
خطبة السيد عبد المجيد الرمالي
جناب نائب المدير، حضرات التجار والأعيان المحترمين:
في اليوم الذي تطأ فيه أقدامنا أرض الأبيض، وتصافح فيه أكفنا أيدي مواطنينا وإخواننا الكرام أبناء السودان السعيد ونزلائه الأفاضل، تهتز كل مشاعرنا طربا بترحيبكم، وتخفق قلوبنا بالتفاؤل البالغ حده بأن الله سيكتب لأبناء النيل صفحة جديدة في تاريخ الصداقة والتعاون بين القطرين اللذين ظلا ألوف السنين مرتبطين بأقوي روابط الدم والجنس والدين والجوار وكل ما يمكن أن يوجد بين أمتين شقيقتين. لقد كنا مشتاقين إليكم شوقا كثيرا، كذلك جئنا إليكم فرحين مسرورين بلقائكم، تتحرك في نفوسنا عوامل كثيرة تملك علينا مشاعرنا وتهتز لها حواسنا، فإن تاريخ مصر والسودان قد ارتبطا بصلة طبيعية منذ ربط النيل بينهما لا تفصمها الأجيال.
لقد جئنا وشاهدنا بأعيننا مبلغ التقدم الذي وصلت إليه بلادكم بفضل جهادكم ومثابرتكم، وإن المصريين جميعا يرجون لكم كل رواج في التجارة وتقدم في الزراعة وارتقاء في العمران.
إني أحمل إليكم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن الغرفة المصرية التجارية بالقاهرة آلافا، بل ملايين من التحيات الطيبات الصادرة من قلوب عامرة بحب السودان وأهل السودان، وها هي بعثتنا قد جاءت إليكم لتوطيد العلاقات الاقتصادية بين القطرين التوأمين، فنرجو من الله أن يحقق آمالها.
وإني أنتهز هذه الفرصة السعيدة لأعبر عن شكري الخالص لحضرة فؤاد أباظة مدير الجمعية الزراعية الملكية، وجناب المستر كونتو ميخالوس وزملائه الأفاضل أعضاء غرفة الخرطوم الذين هيأوا لنا هذه الرحلة المباركة التى تركت أثرا طيبا في نفوسنا، والتي نرجو أن يعم خيرها على القطرين الشقيقين إن شاء الله. (2-4) في القضاء الشرعي
الشيخ عبد الله الأمين هو القاضي الشرعي لمديرية كردفان، وقد حادثته في شئون القضاء الشرعي، وبهذه المناسبة أذكر أن عدد قضايا الأبيض الشرعية 430 قضية في سنة 1934، وجلسات القضايا في أيام السبت والاثنين والأربعاء لنظر النفقات، وتعقد جلسة في كل من يومي الأحد والثلاثاء لنظر قضايا التركات، ويتخرج القضاة الشرعيون من قسم القضاء الشرعي بكلية غوردون، ويعين المتخرج أولا في وظيفة عامل قضائي بمرتب ثمانية جنيهات، ويتعلم الآن الإنجليزية في الكلية، وكان مرتبه قبل إدخال اللغة الإنجليزية خمسة جنيهات، وتكون درجته السابعة، فإذا عين قاضيا منح الدرجة السادسة.
ومما يذكر في القضايا الشرعية أنه قد عرضت على فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي زميلنا رئيس تحرير جريدة حضارة السودان في أثناء توليته القضاء الشرعي في الأبيض، قضية زوجة من «الفلاتة» تزوجت أربعة رجال. ونشأت هذه الحادثة من حياة أفراد الفلاتة نفسها، فهم عرضة للتنقلات؛ فتزوجت هذه المرأة من رجل، ثم انتقلت إلى بلد آخر - لأن رجال الفلاتة يعملون منفردين عن نسائهم اللواتي يشتغلن أيضا ويكسبن القوت من عملهن كما سبق ذكره - فتزوجت المرأة المذكورة بآخر من غير أن يعلم بأنها متزوجة، ثم تزوجت بثالث ورابع، وكل زوج لا يعلم بالأزواج السالفين، فجاء الزوج الأول فطلبها للطاعة، وفي أثناء القضية ظهر الزوج الثالث. وباستقراء حوادث القضية ظهر الزوج الثاني فأعلنته المحكمة بالحضور، وثبت للمحكمة أن المرأة زوجة لأربعة رجال، فقضت ببطلان الزيجات الثلاث الأخيرة، وبأنها زوجة للأول فقط. (2-5) أخبار منوعة
كانت المسافة من أم درمان إلى الأبيض 18 يوما على الجمال، فأصبحت منذ إنشاء السكة الحديدية سنة 1914، 24 ساعة.
وقد زرنا بالأبيض دار خليفة المهدي، وهي أنقاض تخلفت من دار المديرية في عهد حكم الحكومة المصرية، حيث كان المرحوم محمد سعيد باشا مديرا لمديرية كردفان، فلما هزمه المهدي حوصر في هذه الدار وأطلق الرصاص عليها، وخلفت قنابل المدافع المهدية أثرا في جدرانها. واحتلها المهدي، ومنها كان ينظر إلى الجيوش، ثم سكنها، ولم يبق منها اليوم غير الباب والغرفة التي فوقه.
وهناك لوحة لإعلانات الحكومة عن العطاءات والتنبيهات ... إلخ في وسط المدينة، وبها مدرسة ابتدائية تلاميذها 150، وبها 125 قبطيا و14 أرمنيا و236 سوريا و55 يونانيا، وسكانها حوالي 40 ألفا.
والقبائل: جعليون وكبابيش وحمر - بفتح الحاء والميم - وشنابلة وجوامعة ... إلخ.
ويشتد الحر في شهور أبريل ومايو ويونية، وهو معتدل في الشهور الأخرى، بارد أحيانا.
وفي حفلات الأفراح يستعير صاحب الحفلة الكراسي والأثاث من أصدقائه. وكذلك في المأتم، حيث تفرش الأرض بالسجاجيد ويجلس المعزون عليها، وتوزع أجزاء القرآن الكريم على الفقهاء فيقرأها كل منهم بصوت منخفض. وللمدينة ضوار. والضواري هي الضواحي أو الحلل.
ويوجد بها المخبز الأهلي لصاحبه جندي نخلة أفندي، ويدعون الزوج «أخو البنات».
وقد توجهنا مع الدكتور محجوب والسيد أحمد أبو الفضل إلى قهوة بلدي حيث سمعنا الغناء التالي:
سيدة وجمالها فريد
خلقوها كما تريد
في خدودها وضعوا الريد
وقد دعا نائب المدير حضرات رشوان محفوظ باشا وفؤاد أباظة بك ومسيو كونتو ميخالوس لتناول الطعام على مائدته نيابة عن الأعضاء الذين كانوا في حفلة التجار، ثم سافرنا مساء من الأبيض. (2-6) حفلة المسيو كونتو ميخالوس
احتفلنا مساء اليوم بالقطار بذكرى ميلاد مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم، إذ بلغ الثانية والخمسين، فأديرت المشروبات وألقى فؤاد أباظة بك كلمة، والدكتور محجوب ثابت ونحاس بك خطابا، ذكر فيه فضل المحتفل به، وعلاقة مصر باليونان، واتصال المدنيتين. فصفق الحاضرون للدكتور.
ويرجع تاريخ كونتو ميخالوس إلى سنة 1903، إذ حضر إلى الخرطوم للعمل مع خاله في دكان بقالة، ثم أنشأ بجده محلا مستقلا، نمت فروعه في مدن السودان، ثم اشتغل بجميع صنوف التجارة؛ شراء حاصلات السودان وبيعها وتصديرها والشحن والتأمين والملح وإنشاء المحالج، وفي سنة 1929 سافر إلى لندن حيث أسس مع الممولين البريطانيين شركة رأس مالها 750 ألف جنيه، له فيها 150 ألف جنيه بأسهم، وأسميت الشركة باسم شركة كونتو ميخالوس ودارك، وهو شديد الرفق كثير المعاونة للتجار الوطنيين، فهو يذكر فضل السودان في تكوينه وثروته، وعلاوة على ذلك لحضرته أملاك. وهو مثل يضرب على الصبر والجلد، ومجد يذكر للشعب اليوناني الكريم. (2-7) قبائل تتحضر ومذهب العري
الحسيب النسيب السير السيد عبد الرحمن المهدي.
أحسب القارئ المتابع للمقالات السابقة قد أدرك أن السودان لا يزال يعيش على نظام القبائل، وأن هذه القبائل تسكن الجبال وتنتشر في البوادي، وأحيانا تجاوز الغابات والوحوش الضارية، بل إن هناك في مديرية كردفان التي زرنا عاصمتها الأبيض أمس، توجد قبيلة تدعى: النوبة، تسكن جبال النوبة العليا، وتعيش في حالة من البداوة على مذهب العري، ذلك أنهم - رجالا ونساء - يعيشون عارين، حتى من غير خرقة تستر موضع العفة من أبدانهم. ويتوجه بعض سكان المدن والسائحين بالسيارات لزيارتهم وأخذ صور لهم. هم ما زالوا على الفطرة، ولكن هذه الفطرة لم تدنس عرضهم، وهم يسكنون المغاور والكهوف، ويصيدون الحيوانات ولا يعتدون على أحد، ويرقصون ويدندنون، وأحيانا يرعون الماشية.
لكن هذا استثناء، فإن أكثر قبائل السودان عربية الأصل محافظة على الصفات العربية الأصيلة كالكرم والشجاعة والأخذ بالثأر والأنفة، ولكن بقيام الحكم المصري في السودان ثم على عهد محمد علي، أخذ السودان يتحضر، فظهرت مدن جديدة أدخلت فيها الحضارة الحديثة من حيث إنشاء المباني والطرق، ومن الخطوط الحديدية والمدارس. ومدن السودان هي فقط نقطة ارتكاز للقبائل الضاربة في الصحاري والجبال، فتخرج إليها في مواسم الزراعة أو بيع محاصيل الأشجار؛ ولهذا نجد في كل مدينة خليطا من القبائل المختلفة في السودان ومن نيجيريا والصومال والأريترية والحبشة والكونغو واليمن والحجاز والهند ومصر، وأكثرها محتفظ بأنسابه وأصوله متعلق بقبائله.
الفصل الثامن
عند السيد عبد الرحمن المهدي مشروعات هندسية وزراعية واسعة
جزيرة آبا في 6 فبراير
يطالعنا كل يوم بجديد في السودان، فتتجدد حيرة القلم المتعب المشتت، يحركه رأس قد تزاحمت فيه المشاهد وانعكست صورتها في خزانته؛ صور شتى لا تكاد تستقر حتى تزاحمها صور أخرى أكثر إشعاعا وأوسع نورا.
هكذا أبدأ الكتابة في وصف زياراتي مع حضرات أعضاء البعثة المصرية في السودان لمزارع حضرة صاحب السماحة السير الشريف السيد عبد الرحمن المهدي.
بالسيارات إلى جزيرة أبا
وقف القطار االساعة الثامنة من صباح اليوم بمحطة كوستى، وفي الساعة الثامنة صباحا ركبنا السيارات إلى جزيرة أبا. وقد تفضل حضرة صاحب السماحة الشريف السير السيد عبد الرحمن المهدي فأبى واسع كرمه إلا أن يرسل إلينا سيارته وسيارات أخرى إلى محطة كوستى، وكان مقررا أن نسافر إلى جزيرة أبا في سفينة بخارية، ولكن صاحبها لم يتمكن من إرسالها، فبادر سماحة السيد المهدي بتكليف نحو خمسة آلاف عامل بإقامة جسر على خور النيل الأبيض لمرور السيارات، فأقاموه في 15 ساعة ، وتمكنا من أن نمر بالسيارات فوق الجسر يوم الثلاثاء «أمس». وكان في استقبالنا في كوستى وعند الجسر من آل المهدي أصحاب الفضيلة السادة محمد السيد عبد الكريم ونجله السيد صديق عبد الرحمن المهدي، وعبد الله الفاضل، والسيد الطيب الحلو، وجعفر شرفي، ومحمد أحمد شرفي، وخالد شرفي، وحسن الأمير، وعبد الحميد المهدي، والسيد عبد الكريم، ومحمد عبد الكريم، ومحمد خليفة الشريف.
ثم وفد الخرطوم، وعلى رأسه أصحاب السيادة والأفندية: عبد العزيز القباني، وعبد المنعم وإبراهيم محمد وإبراهيم عامر.
ووفد أم درمان، وعلى رأسه حضرات عبد القادر العتباني، وصديق عيسى، ومحمد أحمد نقد، وحسين خليل، ودفع الله شبيكة، وبابكر بدري ناظر مدرسة الأحفاد، وكوكو عبد الله، وإبراهيم السيد، وعبد الرحمن عبد الله، والسيد عوض الجعلي، وسالم حسن أبو زيد، وداود قنديل، واليوزباشي موسى الطيب هاشم، وعبد القادر الدالي، والبكباشي أحمد عقيل، والحاج عبد الرحمن، وحسين خليل.
والسيد عبد الرحمن المهدي هو نجل المغفور له زعيم السودان الأسبق السيد محمد أحمد المهدي الكبير
1
الذي تلقى العلوم الدينية وحفظ القرآن الكريم على فريق من أجلاء علماء السودان، فقرأ الفقه على الشيخ محمد الخير وعبد الله بربر، والنحو والبلاغة على الحسين الزهرة والفقيه الأمين الضريري، وأخذ الطريقة السمانية على الشيخ محمد شريف نور الدايم من أولاد الطيب.
وكانت جزيرة الأشراف بمديرية دنقلة مسقط رأسه، وهى أيضا مسقط رأس الدكتور محجوب ثابت «الدنقلي»، وقد انتقل السيد المهدي الكبير مع والديه وشقيقه الأكبر إلى قرية كررى «بفتح الكاف والراء»، وكان إخوته وأعمامه من صناع المراكب الشراعية وتجارها، ثم انتقلوا إلى جزيرة أبا ومعهم صاحب الترجمة، وكانت مملوءة بالغابات الثمينة بأخشابها، وكان بها حيوانات متوحشة، ثم أخذ في نشر الدعوة المهدية، وهي تقوم على العمل بالقرآن وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وترك البدع، فزار جميع مساجد السودان واختلى ببعض علمائها وأهلها، وأنبأهم أنه هو المهدي، وأنه يدعو إلى ترك البدع. ولم يكن يبث دعوته جهرا في بادئ الأمر، وبعد أن اطمأن إلى أن دعوته لقيت أنصارا عديدين جهر بها، وكان على السودان الحاكمدار رءوف باشا، فأرسل إليه علماء لمراجعته عن دعوته، وقد مات الباشا بالخرطوم، واستدعت الحكومة عبد القادر حلمي باشا. وانتقل المهدي إلى جبل قدير من جبال النوبة، وإلى كردفان، وقام لمحاربته يوسف الشاذلي باشا كنزي. وفتح المهدي الأبيض، ووجهت إليه حملة برياسة هكس باشا فنيت عن آخرها. وهكذا انتشرت دعوته في السودان، وتوالت هزائم جنود الحكومة المصرية، فزاد ذلك من هيبته ورفع من نفوذه في أعين مواطنيه، وأيد ما كان يعتقده السودانيون فيه من الكرامات. وقد وجه إلى الحكومة المصرية تلغرافا مطولا، ينحى فيه باللائمة على البدع، التي منها عقد زواج رجل برجل في الأبيض. فدعوته دينية، ساعد عليها في الواقع ظلم الحكام واستبدادهم وإرهاق الأهالي بالضرائب. ومن الروايات في هذا الصدد أن مدير المديرية كان يأمر بالقطط أن تجمع وتجوع عدة من الأيام ثم تربط في موضع الشرف من الرجل، ملاصقة لبدنه فتأكل منه، ويموت معذبا، وكل هذا لكي يدفع الضرائب التي كانت فوق طاقة البشر ولمصلحة المرتشين. لذلك كانت النفوس مستعدة لقبول الدعوة المهدية.
ومن جهة أخرى كان اضطراب الحكم في مصر بسبب الثورة العرابية - التي تقدمت الثورة المهدية بقليل - باعثا على إهمال الجيش المصري في السودان. وأخيرا أوفدت الحكومة غوردون باشا حاكمدارا للسودان وسردارا للجيش المصري بالخرطوم، للعمل على إعادة فلوله المنقطعة في المديريات التي وقعت تحت يد المهدي، فهاجمه المهدي بجيوشه، وذبح وهو بملابسه الرسمية ونياشينه وهو على سلم قصر الحاكم العام، وأخذ رأسه وصار ينقل من بلد إلى آخر في السودان ليتأكد الناس أن غوردون قتل، وأن المهدي قد انتصر. ويقول بعض المؤرخين إن التهاون في حالة الجيش المصري في السودان وإرسال غوردون باشا وتعريضه لقتل محقق بسبب ما كانت عليه الحالة عند وصوله إنما كانت خطة إنجليزية مدبرة لإخلاء السودان والعودة إلى فتحه تحت قيادة كتشنر باشا وبمشاركة جنود إنجليزية.
وبدأت دعوة المهدي في رمضان سنة 1298 هجرية، وتوفي في 8 رمضان سنة 1302 هجرية، وخلفه الخليفة عبد الله التعايشي، ثم جردت الحكومتان المصرية والإنجليزية حملة نجحت في استعادة السودان بعد أن ظل محكوما بالدراويش والتعايشة مدة 14 سنة. وقد تم استعادته سنة 1899 حيث عقدت اتفاقية السودان المعروفة بين مصر وإنجلترا.
وقد عرف المهدي بالزهد والتقشف، وكان يتعبد في غار تحت الأرض عند بيت السيد عبد الرحمن بجزيرة أبا، وقد وضع عنده أثر يدل عليه، وكان يتعبد في جزيرات وسط النيل.
وكان للسيد المهدي أولاد؛ منهم عبد الرحمن المهدي، وكان جنينا في بطن أمه عند وفاة أبيه، وكان للمهدي وآله أملاك في جزيرة أبا، فأخذ السيد عبد الرحمن يشتري ما يملك أقاربه حتى أصبح الآن مالكا قدرا كبيرا من مساحة الجزيرة كلها، ومساحتها أكثر من 30 ألف فدان، ولقد ملك أراض أخرى على شاطئ النيل الأبيض، وفي أرض شركة الجزيرة، ولا تعرف بالضبط مساحة ما يملكه السيد عبد الرحمن المهدي اليوم، ولكن المزروع فعلا عشرة آلاف، وهناك طائفة من المشروعات الهندسية لإنشاء ترع ومساق وإقامة جسور ومشروعات زراعية لإصلاح بقية الأطيان وإعدادها كلها للزراعة.
وجزيرة أبا هي جزيرة مستطيلة خصبة في النيل الأبيض، طولها 60 كيلو مترا، وكانت شهرتها الأولى بالأخشاب المأخوذة من غاباتها، وكان آل المهدي يستعملون الأخشاب في بناء المراكب الشراعية. وقد باع السيد عبد الرحمن المهدي ما كان يملكه من أخشاب الغابات فحصل على ثروة كانت أساسا لشراء ألوف الأفدنة. وكان بدء مشروعاته الزراعية زراعة 170 فدانا من القطن السكلاريدي سنة 1927-1928 كتجربة، فنجحت نجاحا باهرا، فزاد المساحة إلى 850 فدانا في السنة التالية، فجاد الفدان، في المتوسط، بخمسة قناطير مصرية من القطن. وظل يزيد المنزرع عاما بعد عام حتى وصل ما زرعه هذا العام سنة 1934-1935 3600 فدان، وسيزرع 5000 فدان في سنة 1936. ويسكن جزيرة أبا سكان آخرون لهم أملاك بها غير السيد عبد الرحمن وأقاربه. وفي أراضي شركة الجزيرة تأخذ الحكومة 40 في المائة من المحصول؛ لأن الحكومة هي التي تعد الأرض والماء للزراعة، ويأخذ السيد عبد الرحمن 60 في المائة. وقد دلت التجربة على أن أطيان المهدي بالجزيرة تنتج أكثر مما تنتجه أراضي الشركة الإنجليزية بالجزيرة كما سنبين بعد.
وقد أعد سماحته 150 فدانا في جزيرة أبا لزراعة الفاكهة، وجلب لها البذور من مصر، واستولد شتلا في الجزيرة. وجربت زراعة ستة أفدنة من الفاكهة فنجحت التجربة. وقد اقترح فضيلة الشيخ المراغي على السيد عبد الرحمن أن يأخذ الشتل من بساتين بركات أو وزارة الزراعة.
ويشتري مسيو كونتو ميخالوس جميع كميات القطن، وكلها سكلاريدس، التي تجود بها أطيان السيد عبد الرحمن المهدي.
ويزرعون في أطيان المهدي القطن على قاعدة الدورة الثلاثية؛ كانوا يزرعون في سنة قطنا، وفي العام التالي ذرة، وفي العام الثالث يتركون الأرض خالية للتشميس، فرأوا أن الأفضل زراعة الأرض قطنا وتركها عامين متواليين بغير أي زراعة للتشميس. وتخصص مساحة معينة لزراعة الذرة؛ ذلك أن الفلاح السوداني ليست له خبرة الفلاح المصري من حيث التسميد، ولأن الأراضي كثيرة جدا، وقد فرضت الحكومة عشرة قروش ضريبة على كل فدان في جزيرة أبا؛ سواء أكان مزروعا أم لا، على أنها في كل عام تعيد النظر؛ فإذا وجدت المحصول صغيرا والأزمة طاحنة خفضت الضريبة، وإذا كان جيدا اكتفت بتحصيل هذه الضريبة العامة.
وينزل المطر في أغسطس وسبتمبر، وتمكث زراعة القطن 9 شهور من أول أغسطس حتى آخر أبريل. وإردب البذرة يكفي زراعة عشرة أفدنة. والأطيان مقسمة إلى 750 حواشة - والحواشة 5 أفدنة (جزيرة أبا).
وعند وصولنا إلى جزيرة أبا كان هناك سرادق صغير أعد لجلوسنا حيث استقبلنا السيد عبد الرحمن وسار معنا حيث شهدنا وابوري الرى الكبيرين.
أعضاء البعثة في سرادق الحسيب النسيب السير السيد عبد الرحمن المهدي.
ثم توجهنا لدار السيد ببلدة الرحمانية بجزيرة أبا، فنحر جمل على عتبة الباب عند وصولنا، ثم جلسنا قليلا وتناولنا طعام الإفطار.
ثم خرجنا بالسيارات إلى أطيان الجزيرة، حيث شهدنا شون القطن، وقسم الغار وشونته، وقسم دار السلام، وقسم طيبة. ولكل رئيس ومكتب وحاسبون.
ويبلغ عدد من يشتغلون في الأطيان المزروعة في جزيرة أبا لحساب السيد 750 زارعا فضلا عن أسرهم، وقد أقام لهم السيد عبد الرحمن منازل ومستشفى ومدرسة كانت في نتائجها أحسن مدرسة في النيل الأبيض، نالت جائزة التفوق، ولها فرقة كشافة.
وقد تناولنا الغداء الساعة الثانية بعد الظهر. والسيد عبد الرحمن شديد العناية بفلاحي مزارعه، فقد أعد لهم المنازل، ويقوم بنفقات زواجهم ويواسيهم، وصحتهم أحسن من صحة الفلاحين الآخرين وأهنأ بالا، ويعطي الفلاح في الشهر أجرة تتراوح بين 20 و30 قرشا، فضلا عما تقدمه الدائرة لهم من الطعام والثياب وجميع النفقات.
وفي الساعة الرابعة جلسنا في سرادق كبير وتناولنا الشاي، وشهدنا ألعاب الكشافة، وعرضت أمامنا الجياد الأصيلة والهجن، وفي فضاء واسع يبلغ ثلاثين فدانا نظم استعراض من الألوف من الزراع والوافدين لتحيتنا بالملابس البيضاء، وعزفت موسيقى الكشافة، وكان النظام بديعا جدا.
وقد قامت كشافة المدرسة بألعاب عديدة دلت على سلامة الذوق وحسن الاختيار، وأن العناية تامة بتقدم الزراعة والحالة المحلية؛ مثل مناجاة الطيور وتقليدها والوقوف على رجل واحدة. وسد مسقي. وغير ذلك.
والسيد عبد الرحمن المهدي طويل القامة يلبس على رأسه عمامة، تشبه عمائم الحجازيين واليمنيين، وجبة وقفطانا أبيض، وحذاء أصفر، وشالا كشميريا. وقد أتم العقد الخامس من عمره المديد.
وقد ألقى فؤاد أباظة بك كلمة في شكر سماحته على حفلته الممتازة وإكرامه الذي يعجزنا عن الوصف لأننا لم نر له ضريبا في مصر وغيرها ولا في جميع حفلات السودان.
وألقى الدكتور محجوب ثابت خطابا أشار فيه إلى مناقب البيت المهدي الكرام، وإلى أن له الشرف أن تكون مسقط رأس الزعيم المهدي الكبير مسقط رأس الدكتور «دنقلة»، وأشار إلى حفاوة السيد عبد الرحمن ... إلخ.
ثم وقف سماحة السيد عبد الرحمن فشكر لفؤاد بك والدكتور محجوب وتمنى للبعثة نجاحا في مهمتها بتوطيد العلاقات الاقتصادية بين القطرين الشقيقين. وقد قوبلت الخطب بالتصفيق الحاد.
وفي مجلس السيد عبد الرحمن كان سماحته يتحدث إلينا عما بين مصر والسودان من علاقات، وما يجب أن يقوم بيننا من صلات، قائلا إن السوداني الذي يدفع نقودا لشقيقه المصري إنما ينقلها من جيبه إلى جيبه الآخر. وسماحته حائز للقب «سير» بسبب الإنعام عليه بنيشان الإمبراطورية البريطانية.
ولا تزال حفاوة السيد عبد الرحمن بالبعثة مثلا بارزا في الكرم والنظام، ولا تزال مشروعاته الزراعية مثلا يضرب في الصبر، وقدوة يجب أن يتبعها أصحاب الأطيان عندنا؛ فإن سماحته يستيقظ عند الساعة السادسة صباحا ويشرف على مزارعه بنفسه، وقد تعلم نجله الفاضل السيد صديق الهندسة، وعينه والده مديرا للدائرة يعمل فيها، ويعيش مع الفلاحين متواضعا نشيطا، وليس كأبناء السراة عندنا؛ كثيرون منهم لا يعرفون حدود أطيانهم، وقد لا يزورونها العمر كله. وقد استطاع السيد عبد الرحمن أن يحل مشكلة الأيدي العاطلة في السودان، وهي مشكلة عصيبة جدا؛ لقلة سكان السودان وعدم خبرتهم كالمصريين بالزراعة، ولقناعة السوداني بالدون، ومتى حصل على القليل آثر الراحة حتى ينفقه وبعد ذلك يبحث عن العمل.
حل السيد عبد الرحمن المشكلة بإنشاء مساكن صحية مناسبة لحياة السودانيين وبساطة معيشتهم، وعني بتعليمهم وتطبيبهم، فاحتفظ بهذه الأيدي في المزارع أبديا، وساعد على ذلك اعتقاد الزراع أن الله سبحانه وتعالى يثيبهم في الدنيا والآخرة على خدمتهم وإخلاصهم لسيدهم عبد الرحمن المهدي. ويقول مهندس الدائرة إن الفدان المزروع عند المهدي يكلف سماحته ثمانية جنيهات، بينما الشركة الزراعية بالجزيرة تنفق على الفدان ستة جنيهات، ولكن السيد المهدي يستفيد من وراء الزيادة إخلاصا وأيدي عاملة موجودة دائما وإنتاجا زائدا على إنتاج الشركة.
وقد حدث في أثناء استعراض إبل المهدي أن سقط أحد راكبيها على الأرض فأغمى عليه، فحضر السيد المهدي بنفسه وواساه، وأسعفه الأطباء، وأفاق بعد خمس دقائق شاكرا لمولاه فضله ودعاءه وكرامته. وقد لاحظنا أن الصفوف ظلت متراصة وأن النظام لم يختل.
عدنا بعد ذلك إلى محطة كوستى، وسار القطار عند منتصف الساعة الثامنة مساء إلى واد مدني.
برقية الأمير عمر طوسون إلى السيد المهدي
إن الحفاوة البالغة التي قابلتم بها البعثة الاقتصادية المصرية، والكرم الحاتمي الذي غمرتموها به، والجموع الحاشدة الذين خرجوا معكم لاستقبالنا وظلوا مجتمعين لتحيتها طول مدة إقامتها في ضيافتكم بجزيرة أبا - كل هذا يقابل منا ومن المصريين بعظم الغبطة والارتياح؛ إذ من شأنه أن يزيد روابط الإخاء بين مصر والسودان إحكاما، ويوثق عرى التعاون ، ويثمر أحسن الثمار بمشيئة الله تعالى في علائقهما الاقتصادية والأدبية حاضرا ومستقبلا. فنشكركم على ذلك أجل الشكر، ونثني على أريحيتكم وشهامتكم العربية أطيب الثناء، ونهدي إليكم وإلى أخيكم ونجلكم ونجل الخليفة التعايشي وسائر آلكم وأتباعكم وآلهم أبناء السودان جميعا خالص تحياتنا وعظيم إجلالنا واحترامنا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عمر طوسون
برقية شكر من السيد المهدي إلى الأمير عمر
أشكركم كثيرا على برقيتكم الرقيقة، وإني وأفراد عائلتي والجميع لمغتبطون بزيارة البعثة الاقتصادية المصرية للسودان، وشاكرون لكم هذا التقدير والثناء، ونرجو أن يكون لهذه الزيارة الأثر الحميد في إحياء الروابط الاقتصادية بين القطرين، وسيكون لسموكم فيها أكبر الأثر وأطيب الثناء، وتقبلوا منا جميعا التحية وأزكى السلام.
الزواج والمهور
وجه حضرة صاحب السيادة الحسيب النسيب السير السيد عبد الرحمن المهدي النداء التالي إلى الأمة السودانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة المحترم ...
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعد، فقد وصل لعلمكم نداءنا للأخصاء من أمتنا الكريمة بالدعاية إلى الزواج ومحاربة العزوبة بقلة المهر، وبشتى الوسائل التي تسهل أمر الزواج وتجعله ميسورا وبقدر الاستطاعة. وإنه مما يجعلنا مطمئنين على نجاح هذا الأمر الاجتماعي العظيم سلطان رب الأسرة في بلادنا على أفراد بنيه، وإنكم خير من يرجى منه النهوض بهذا الشأن؛ لكلمتكم النافذة ورأيكم الحكيم، وإن الله سبحانه وتعالى يحب من عباده من يريد الخير بهم، وإن أعظم ما يرضي الله مراعاة حرماته وعدم انتهاكها.
ولقد تفشى الفساد في النساء والأولاد، وهذا يخالف قواعد ديننا الحنيف، وينافي كرامتنا القومية وعوايدنا في حفظ عروضنا والغيرة عليها، ولا يمكن ملافاة الأمر إلا بتعميم الزواج والتساهل في المهر بقوله
صلى الله عليه وسلم : «أكثرهن بركة أقلهن مهورا.» وقوله : «أشراركم عزابكم.» وقوله: «من تزوج فقد حفظ ثلثي دينه، فليتق الله في الثلث الثالث.» وإن الأزمة الحاضرة قد تكون مانعا للزواج إذا لم يتساهل أولياء الزوجة في أمر المهر للحد الأدنى، وأن يتركوا الأمور غير المشروعة.
لذلك كله فقد اجتمعنا مع عدد عظيم من أهل البلد وقد قررنا الزواج بالجنيهين للبكر وواحد للثيب، وبالأكثر 3 جنيهات للبكر وجنيهان للثيب، ولقد عقدت لولدي وابنتي وعدد يربو عن العشرة من آل بيتي بربع الدينار الذي يباح به النكاح.
فالرجاء أن تقدروا ومن معكم من الإخوان معنا الفائدة في ذلك مع ما يترتب على الزواج من كثرة النسل الذي أرجو الله أن يكون برا بوالديه. وإني سأدعو لجميع من يحيي هذه السنة الحسنة في نفسه وولده بالدعاء الذي أرجو قبوله من الله الكريم، وأن يجعل لهم البركة في الرزق والذرية والسلام.
عبد الرحمن المهدي
الفصل التاسع
يوم عاصمة النيل الأزرق
زيارة واد مدني يوم 7 فبراير سنة 1935 (1) حفلات السودان
أبى المواطنون السودانيون الأعزاء إلا أن يجددوا في كل يوم وساعة عواطف الكرم والإخاء والمودة بالنسبة إلينا، وهم في هذا التكريم، يرون أنهم يكرمون مصر ذاتها، مصر التي يحبونها حبا لمسناه وأحسسنا به، وهو لا يقل عن حبنا لها، ويشاركهم في هذه العواطف الكريمة موظفو الحكومة وأعضاء الجاليات الأجنبية والشرقية، ويقدر الجميع ما خسره السودان بعد خروج الجيش المصري منه، حيث كان ينفق الجنود والضباط مرتباتهم، وقد ترتب على ذلك إفلاس متاجر وطنية وأجنبية، أو على الأقل قلة ربحها. (2) الرتب والنياشين
وقد كان لإنعام جلالة الملك على مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم بنيشان النيل من الطبقة الثالثة وقع عظيم في نفوس أعضاء البعثة والسودانيين؛ لأن الإنعام جاء دليلا على قدر الحكومة المصرية وجلالة الملك لمجهود حضرته في توثيق العلاقات بين مصر والسودان والحفاوة بالبعثة المصرية.
ويجب أن ننتهز هذه الفرصة لتنبيه الحكومة المصرية إلى وجوب السعي للإنعام بالرتب والنياشين على زعماء السودان وأعيانه وكبار موظفيه، والحكومة الإنجليزية نفسها تمنح النياشين؛ فقد منحت وسام القديسين ميخائيل وجورج من درجة فارس للسيد علي الميرغني، ومنحت نيشان الإمبراطورية مع لقب «سير» للسيد عبد الرحمن المهدي، وكان واجبا أن تمنحهما الحكومة المصرية وتمنح غيرهما رتبة البشوية والنياشين الرفيعة، وهكذا. (3) حياة الأندية الاجتماعية والرياضية واليقظة
لفت نظرنا في السودان انتشار الأندية ونجاحها وحسن نظام أعضائها، وهذا دليل على الاستعداد للتقدم، والأخذ من المدنية بلبابها ومنافعها، فإن الأندية تعلم النظام، وتوجد التكافل، وتنشئ مجتمعا يتمتع باللهو البريء.
كما لفت نظرنا تتبع مواطنينا السودانيين لجميع الحوادث السياسية وغيرها، وهم في هذه اليقظة والتعلق بمصر كإخواننا أبناء فلسطين ولبنان وسوريا، ورأيت القوم متتبعين لتفاصيل المسائل. (4) في حقول التجارب
وصلنا إلى واد مدني عند الساعة الثالثة والنصف صباحا، وفي الساعة الثامنة من صباح اليوم توجهنا بالسيارات لزيارة حقول التجارب لنقابة الشركة الزراعية الإنجليزية لأراضي الجزيرة.
خطاب زراعي
ألقى مفتش حقل التجارب في واد مدني المحاضرة الزراعية التالية:
بالنيابة عن موظفي حقل تجارب شركة الجزيرة، يسرني السرور كله أن أرحب بكم في هذا الصباح هنا، ولأن نضع ترتيبا يمكنكم من رؤية شيء من عملنا.
أنشئ حقل تجارب الجزيرة منذ 17 عاما، وقد تخصص موظفوه بالمشاكل الزراعية؛ وخاصة ما يتعلق بزراعة القطن التي ظهرت في أرض الجزيرة.
ولا يزال فريق من الناس يشك في إمكان الحصول على محصول مرض من زراعة القطن بالجزيرة، وصدرت أخيرا تصريحات قالت بأن تربة الجزيرة قد فسدت إلى مدى خطير، وأن الآمال المعقودة على زراعة القطن فيها قد استهدفت للخطر.
إن من أولويات واجباتنا هنا في حقل التجارب ملاحظة عوامل الفساد في تربة الجزيرة، ودراسة نتائج الري وتكون المحصول على هذه التربة. وبناء على وقوفنا على هذه النتائج، نستطيع أن نصرح بأنه لا صحة مطلقا في القول بأن هناك دلائل صادقة على اطراد الفساد في الجزيرة حتى الآن، ونحن نستطيع أيضا أن نقول بأنه لا محل للتشاؤم في المستقبل.
سترون، في أثناء طوافكم في الحقول، أن قطعة أرض رويت وأنتجت محصولا من القطن أو اللوبيا منذ 1917، ولدينا ما يدل على أن المحصول الذي ينتج من الأرض المذكورة في الموسم الحاضر يساوي - أو ربما يفوق - المحصول الناتج منها منذ خمسة عشر عاما.
وستوضح لكم مشاهدتكم - كما آمل - أن لا أساس للإشاعات القائلة بأن أرض الجزيرة عرضة لفساد خطير وعاجل.
وقبل شروعكم في معاينة الأرض أود أن أذكر لكم شيئا عن حقل التجارب: كما ذكرت لكم قبلا أنشئت المزرعة منذ 17 عاما، وبلغت الآن 800 فدان، منها 180 فدانا لزراعة القطن و220 لزراعة الذرة واللوبيا.
ويوزع العمل في هذه المزرعة على أقسام، تتعاون للوصول إلى غرض واحد.
القسم الزراعى:
ووظيفته القيام بتجارب زراعية والتسميد والتخطيط وري الزرع والقيام بتجارب الاستنبات.
قسم ملاحظة النبات:
يقوم بإحصاءات وأرقام فيما يتعلق بتقدم المحصول.
القسم الفيزيولوجي:
يدرس فيزيولوجية المشروعات القطنية.
القسم الكيمائي:
التغيرات الطارئة عند الري والمحصول ولابتكار وسائل تحسين حالة التربة.
قسم الحشرات:
يدرس آفات المحاصيل الناتجة من الجزيرة ويقوم بتجارب ويرقبها.
القسم الباتولوجي:
يدرس أمراض النباتات ومنها حشرة البلاك آرم والليف كيرل.
وأخيرا قسم استيراد النبات:
ويختص بانتخاب وتوليد أصناف عديدة من القطن والمحاصيل الأخرى. ا.ه.
ثم زرنا حقول التجارب، وشهدنا ما يأتي: (1)
حقلا زرع قطنا وفي السنة التالية زرع لوبيا. (2)
حقلا زرع قطنا وفي السنة التالية زرع ذرة. (3)
حقلا زرع قطنا وفي السنة التالية ترك بورا.
فكانت نتيجة التجربة أن الثالث جاءت زراعته القطنية بعد ذلك بزيادة محسوسة، والأول جاء بنتيجة أقل من الثالث بشيء يسير، والثاني جاء بنقص في المحصول.
وهناك حقل استمر مزروعا قطنا لمدة 11 سنة، ثم ترك بورا لمدة سنة، ثم زرع قطنا فجاد المحصول بزيادة 34 في المائة. وحقل ثان استمرت زراعته القطنية 11 سنة، ثم ترك بورا لمدة سنتين متواليتين، فجاءت زراعته القطنية بعد ذلك بزيادة قدرها 17 في المائة.
وحقل ثالث زرع قطنا 11 سنة، وترك بورا لمدة ثلاث سنوات، فجاء بزيادة قدرها 40 في المائة.
ونفهم من ذلك أن ترك الحقل سنة واحدة بورا كاف في زيادة الإنتاج زيادة محسوسة، وأن زيادة الإنتاج، بعد عامين أو ثلاثة في البور، قليلة جدا، فلا تبرر الحرمان من إنتاج الأرض عامين أو ثلاثة.
ثم شهدنا ما يلي: (1)
حقلا زرع قطنا وزرع لوبيا في السنة التالية. (2)
وحقلا زرع قطنا ثم زرع ذرة ثم ذرة. (3)
وحقلا زرع قطنا ثم زرع ذرة ثم زرع لوبيا.
فكان الأول أكثر الحقول إنتاجا ويقاربه الثالث.
وحقلا زرع قطنا عدة 9 سنوات متوالية، ثم زرع ذرة، ثم زرع لوبيا، فكانت النتيجة لا بأس بها.
ينتج من ذلك أن الذرة تجهد الأرض، وأنه ليس من المصلحة زراعة الذرة بعد القمح، وأن زراعة اللوبيا لا تجهد الأرض ويحسن زرعها بعد القطن.
ثم زرنا معامل الأقسام، ورأينا الحشرات، وأخصها ذبابة البلاك آرم، تنقل العدوى من ورقة إلى ورقة في شجيرات القطن.
ويجنى قطن الجزيرة ثلاث مرات في السنة، والجنية الأولى - وتسمى في السودان «تلجيطة»؛ أي «تلقيط» - هي الجنية الكبرى، وتزهر الشجيرات عقب الجنية الأولى وتموت الحشرات عند اشتداد الحر.
ثم شهدنا قطعا من طينة حوض نهر الجاش وطينة من أرض الجزيرة، فتبين أن تربة الجزيرة بها أملاح تعطل سير الماء في الوصول إلى عمق كبير، وينتج الفدان في دلتا الجاش محصولا أكبر من محصول الجزيرة. ولوحظ أنه كلما قل محصول الجزيرة، قل معه محصول الجاش نسبيا، وهذا يدل على أن العوامل الجوية لها تأثيرها الأقوى والأفعل؛ لأن كلا من أرض الجزيرة ودلتا الجاش لا يرتوي من الآخر.
في محلج القطن
أعضاء البعثة أمام محلج واد مدني.
زرنا محلج القطن التابع للشركة، وهو أربعة عنابر، لكل عنبر ماكينة و80 دولابا، ويشتغل به 300 عامل، ويوجد به نجار مصري. وباشملاحظ المحلج هو حضرة علي زكي أفندي. وبعد عزل البذرة من القطن يكبس القطن بالآلات، وتسع كل آلة بين 400 و500 رطل.
ثم زرنا المديرية وقابلنا المدير.
وفي واد مدني مدرستان ابتدائيتان، ومدرسة راقية أو ثانوية، ومدرسة يونانية، ومدرسة بنات إنجليزية بها خمسون بنتا وأكثرهن غير إنجليزيات، وتوجد مدرسة ليلية لتعليم الأميين، وثلاث مساجد. وتنار المدينة بالكهرباء، وتروى من خزان للماء، وعلى شاطئ النيل الأزرق حديقة واسعة محلاة بالأشجار والزهور، وتعطي منظرا جميلا يوحي بأسمى الخيال.
وواد مدني مدينة كبيرة نسبيا، منازلها من الطوب الأحمر المحروق.
وقد مررنا بالسوق وزغرد النساء، وكن يقلن: حيتكم تحية الرخاء والرزق. وقد سأل الدكتور محجوب إحداهن: هل أنت دنقلاوية؟
فقالت: «بنت ريف ما دنجلاوية.» أي لست من دنقلة.
ثم قالت: «مرحبا بكم، الله يفرج عليكم. حبابكم، أهلا وسهلا. أبيض اليوم اللي جابكم.»
ثم تناولنا طعام الغداء مع الدكتور محجوب والشيخ أحمد عثمان القاضي على مائدة حضرة محمد صالح أفندي باشكاتب المديرية.
ثم حضرنا الساعة الخامسة حفلة الشاي التي أقامها حضرات التجار والأعيان، وكانت في متنزه واسع المدى على النيل الأبيض، وقد حضرها حضرات المشايخ والسادة والأفندية: مستر كنجدن نائب المدير، ومحمد صالح باشكاتب المديرية، وسليم جرجس رئيس الحسابات، ومستر ديفز مفتش أول، ومحمود العراقي نائب رئيس الحسابات، وكوسة بطرس مقاول وتاجر، ومستر بولتون مفتش المركز، وبولس بطرس وكيل بوستة، ومصطفى ندا مأمور مدني، ورشدي بطرس المحامي، ومحمد كنتباي أبو جيرجة مأمور ثان - جنايات، وعبد الرحيم عبدون، ومحمد الحسن عمر نائب مأمور، وأحمد الحاج العاقب قاض شرعي، وحكيم بطرس محاسب أول، والشيخ مدثر علي البوشي قاض شرعي مساعد، والقس طوبيا عبد المسيح عن الكنيسة الإنجيلية، وشمس الدين الحنفي، والقس بشارة من كنيسة الأقباط، وعثمان زيات سر تجار، وبقطر محروس بالمعاش، وإلياس تناوي، ومحمود خيري أفندي مساعد رئيس التسجيلات، وسيد شكري التاجر، وسلام مهنا محاسب أول المركز، وتوفيق فلتاءوس محاسب أول الري المصري، والدكتور طاهر يوسف، ومحمد أحمد عبد القادر مدرس، وحسن الصاغ شيخ السوق، ومحمود برهان رئيس حسابات مصلحة التجارب، ومصطفى العجاتي، ومحمد بادية، وعثمان أبو العلا، وأحمد البوشي، وأحمد الحضري، وأركستدس خسال، ورامجي سامجي، وإبراهيم الريح، وعلي محمود يحيى، وعيسى أبو عيسى، وشمس الدين الشافعي، وأبو زيد أحمد، والكوردي إخوان، وأحمد رمضان، واوارد قريوة، وعبد القادر إسماعيل، وإبراهيم السني، وتوفيق حبيب مهندس مقاول، ومستر واي مدير البنك الأهلي، وعبد العزيز عثمان القباني، وتوفيق عطا الله مدير الشركة الزراعية، ومستر تسيتورس مدير بنك باركليز، وكوستى بليفاتلش، والدكتور إفراميدس ، والدكتور حاج ميخالي، وجون بوتاميتس محام. وقد ألقى كل من حضرات الشيخ عثمان عوض أبو العلا وراغب دلال أفندي خطابا، وفضيلة الشيخ مدثر البوشي القاضي الشرعي قصيدة عامرة.
وألقى صاحب العزة فؤاد أباظة بك كلمة شكر، وألقى الدكتور محجوب خطبة رقيقة فيها دعابة وفكاهة. (5) في نادي الموظفين
وقد استقبلنا بنادي الموظفين حضرات أعضاء لجنة النادي، وعلى رأسهم رئيس النادي حضرة محمد أفندي صالح باشكاتب مديرية النيل الأزرق، وسكرتير النادي الشاب عبد الله أفندي حامد البدوي، وكل من حضرات الندر أفندي مصطفى، ومحمد أفندي كنتباى، وأحمد أفندي بكر، وفهمي أفندي تادرس، وحبيب أفندي مصطفى، والأستاذ بشير أفندي حامد، ويوسف أفندي الديب، والأستاذ الشيخ عبد الله عبد الرحمن، والشيخ عباس صالح.
ومن الوجهاء فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد العاقب قاضي شرعي المديرية، والأستاذ فيليب البستاني قاضي جزئي المديرية، وعبد الرحمن أفندي عبدون كبير مهندسي الري بواد مدني، ومدثر أفندي محمود كبير مهندسي الري بالمريبيعة، ونجيب أفندي شنودة، وبقطر أفندي محروس، ومحمود أفندي العراقي.
وألقى الشيخ عبد الله الأمير قصيدة جاء فيها:
قد طالع السودان يوم قدومكم
فأل سيسدل ضيقها برخائها
أوليتمونا إذ هبطتم أرضنا
مننا خشينا العجز عن إحصائها
فالله يكلؤكم ويكلؤها معا
وكفى بربك سامعا لدعائها (6) في النادي اليوناني
ثم زار الأعضاء في الساعة العاشرة مساء النادي اليوناني في واد مدني المعروف باسم (كلوب هلنج)، ويرأسه مسيو بليفاندس، ويشغل منصب نائب الرئيس الدكتور إفراميدمس وسكرتيره مسيو زاويديس الذين استقبلونا مع حضرات أعضاء النادي من رجال وسيدات بالترحاب، وقدموا إلينا الحلوى والمشروبات، وقد أسس النادي سنة 1925، ويبلغ عدد أعضائه 90 عضوا، ويبلغ عدد أعضاء الجالية اليونانية 350، من بينهم التجار وطبيبان ومحام، ورسم اشتراك العضو في السنة جنيهان، وللنادي حديقة، وتقام به الحفلات، ولا يشترك فيه سوى اليونانيين. (7) في النادي المختلط
ثم زرنا بعد ذلك النادي المختلط، ويرأسه حضرة الفاضل القاضي نسيب البستاني من أسرة البستاني الشهيرة بلبنان، وقاضي المحكمة الجزئية بواد مدني، وقد استقبلنا حضرته ومعه حضرة عطا الله باشكاتب شركة أراضي الجزيرة الإنجليزية ، وحضرات الأعضاء من رجال ونساء بالحفاوة والإكرام. وقد أنشئ النادي منذ سنتين، وله حديقة فسيحة وشرفات بديعة، ويقع قريبا من محطة واد مدني، وله غرف للمطالعة والتنس والألعاب الرياضية وصالة راقصة، ورسم العضوية فيه جنيهان في السنة، وأكثر أعضائه من الجالية السورية واللبنانية، و15 عضوا يونانيا، وأعضاء من الإيطاليين والأرمن، وعشرة أعضاء مصريين . وباب العضوية مفتوح لجميع الجنسيات.
وفي الساعة الحادية عشرة انصرف الأعضاء إلى القطار الخاص، حيث باتوا فيه إلا الدكتورمحجوب، فقد بقي حتى منتصف الليل يسمر ويتحدث، والجميع ملتفون حوله يصغون إلى أحاديثه وملحه وترديده العلاقات الطبيعية بين أبناء العربية في مصر والشام ولبنان وفلسطين والسودان، وكان يدخن النرجيلة - التي هي أحب الأشياء لدى الدكتور محجوب وصديقه المؤانس - وكلما هم الدكتور بالإنصراف ألح عليه الحاضرون بالبقاء والمبيت في النادي، وطلبوا أن يتخلف عن البعثة في سفرها غدا إلى الخرطوم. والدكتور متردد بين التخلف والسفر، ولكنه مقيد برابطة البعثة ومجتمعها فلا يستطيع تخلفا. (8) النادي الإنجليزي
هذا وللإنجليز الموظفين في مديرية النيل الأزرق، التي عاصمتها واد مدني، وفي مكاتب شركة أراضي الجزيرة بها، ناد لا يؤمه إلا الأعضاء الإنجليز، وهم لا يختلفون مع أعضاء الأندية الأخرى، ورسم العضوية ستة جنيهات للرجل وخمسة للسيدات في السنة. (9) التضمخ بالصندل
في السودان عادة لا بأس بها، ذلك أنه قد تعمد المرأة السودانية إلى إحداث حفرة في الأرض تضع فيها صندلا أو أخشابا ذات رائحة عطرية وتوقد النار فيها، ثم تجلس على الحفرة ويصعد الدخان إلى لباس المرأة وبدنها فتصيب من ذلك رائحة عطرية جميلة.
الفصل العاشر
أيامنا في مدينة الخرطوم
(1) اليوم الأول الجمعة 8 فبراير
سافرنا اليوم من واد مدني حوالي الظهر إلى الخرطوم، وكان توديعنا حافلا كاستقبالنا، وقد وقف القطار عند «الحصاحيصة» لمدة ربع الساعة قدم سكانها المرطبات والقهوة والسجاير مع ترحيب عظيم. وعند الساعة السادسة مساء وصل القطار إلى محطة الخرطوم، حيث كان في انتظاره مئات المستقبلين من كبار الموظفين والقضاة وخريجي كلية غوردون، وموظفو الري المصري والشبان، فتعانق الفريقان وحمل الشبان الدكتور محجوب ثابت على الأعناق وأركبوه السيارة، وسار رتل السيارات من المحطة حتى فندق «جراند أوتيل» على النيل الأزرق، بين التصفيق والزغاريد على طول الطريق، وينزل بالفندق الموظفون الإنجليز، الذين ليست لهم مساكن ويدفعون أجرة خاصة، وينزل به كبار السائحين، وأعدت للأعضاء باخرتان حكوميتان أمام الفندق، فملأ الأعضاء الفندق والملحق المجاور له والباخرتين ، لكل منهم غرفة. وبعد أن استراح الأعضاء من وعثاء السفر، وبدلوا ملابسهم، نزلوا إلى شرفة الفندق وخرج بعضهم لشراء بعض الحاجيات ومقابلة بعض الأصدقاء، وحضر آخرون من علية القوم يتقدمهم أصحاب الفضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي قضاة السودان، والشيخ أحمد محمد أبو دقن شيخ علماء السودان، والشيخ الفيل مفتي السودان، وغيرهم. (1-1) مأدبة عشاء أقامها كونتو ميخالوس
لبس الأعضاء ملابس السموكن ونزلوا إلى قاعة الطعام بالفندق حيث أقام مسيو كونتو ميخالوس مساء مأدبة عشاء حضرها 120 مدعوا من كبار موظفي الحكومة الإنجليز، ومحمد بهي الدين بركات بك الذي وصل إلى الخرطوم قبل البعثة بأيام، وعبد القوي أحمد بك وأعضاء الغرفة التجارية بالخرطوم، وبعض آل المهدي. وألقى كونتو ميخالوس خطبة، وألقى رشوان باشا خطبة أخرى.
وتم التعارف بين الأعضاء وكبار المدعوين، ثم انتهت الحفلة قبيل منتصف الليل، وآوى الأعضاء إلى فراشهم. (2) اليوم الثاني 9 فبراير
عند السيد الميرغني - في الغرفة التجارية - في مكتب حضارة السودان - في سراي الحاكم - حفلة شاي في الغرف التجارية - خطاب مسيو كونتو ميخالوس - خطاب رشوان محفوظ باشا - خطاب أباظة بك. •••
توجهت مع إخواني الساعة التاسعة صباحا إلى دار حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني شيخ الطريقة الميرغنية المنتشرة في ربوع السودان والحجاز وأفريقيا وقسم كبير من البلاد المصرية.
استقبلنا فضيلته بالخرطوم في قصره الواسع الفناء، المتجمل بحديقة غناء، فأما البناء فهو آية في البساطة وحسن الذوق، وجلسنا في سرادق مجاور للبناء يتوسطنا فضيلته، وجلس يحادثنا خير الأحاديث، فكان مما قاله:
أظن حضراتكم قد أدركتم من زيارة السودان أنه على صورة تختلف عن الصورة التي ارتسمت عندكم قبل زيارته، وقد وددنا لو كان عدد البعثة أكبر؛ لأنه كلما زاد العدد، زاد عدد المتحدثين بالخير عن السودان وحقيقته.
والتفت فضيلته إلى الدكتور محجوب وقال له: هل تنوي أن تزور مسقط رأسك دنقلة؟ فقال الدكتور: من الأسف أنها لم توضع في البرنامج.
فقال فضيلته: «إن هذا الوقت هو خير وقت لزيارتها، ولكن الطريق ليس سهلا، وطريق النهر أفضل؛ لأنه لا يوصل إلى دنقلة بالسكة الحديدية، ويظهر أن ضيق الوقت هو الذي أخرجها من البرنامج، وأظن الدكتور يحن إلى مسقط رأسه.»
فقال الدكتور: آي والله.
فقال الأستاذ خميس: إن الدكتور يريد أن يبقى في السودان.
قال فضيلته: ما هو الدكتور محجوب بتاعنا وليس بتاعكم ... «ابتسام».
وقد أنشأ الجد الأعلى للسيد علي الميرغني الطريقة الميرغنية في مكة، وهاجر جده السيد محمد عثمان الميرغني من مكة إلى سواكن فكسلا، فنشر طريقته في شرقي السودان، ولما توفي قام مقامه ابنه السيد الحسن الميرغني، وبعده ولده السيد محمد عثمان والد السيد علي الميرغني، وقد وطد آل الميرغني دعائم الدين الإسلامي في السودان، بما نشر السيد محمد عثمان الميرغني الكبير من الأهازيج والقصائد والمدائح النبوية، بما يوافق حداء الإبل وأغاني الأفراح والمآتم في البادية في لغة سهلة ولهجات تلائم كل قبيلة. وللطريقة الميرغنية في باب الوزير بالقاهرة زاوية وتكية، ويأخذ بها النوبيون وسكان أسوان وإريتريا، ولهم خلفاء.
ومنذ عهد بعيد منحت الحكومة البريطانية السيد الميرغني وسام القديسين ميخائيل وجورج ونيشان فيكتوريا من درجة فارس، وهما يمنحان لقب سير.
والسيد علي الميرغني في الخامسة والخمسين من عمره - بالحساب الهجري - وهو نحيف الجسم، قصير القامة، حاد البصر، هادئ الطبع، متواضع، حلو الحديث، أسمر البشرة كسكان مديرية أسوان. هاجر وهو صبي من كسلا إلى سواكن إلى القاهرة، حيث نشأ فيها، ثم عاد إلى السودان بعد انتهاء الثورة المهدية؛ لأن الميرغنيين كانوا خصوما لها وأنصارا للحكومة المصرية.
والسادة الميرغنية من أشراف الحسينية بمكة، وينظر إليهم السودانيون كأبناء بيت النبوة.
ثم انصرفنا من دار السيد الميرغني وزرنا سراي الحاكم العام بالسودان، ويقولون عنها «السراي» وهو معدود نائب الملك ، ولذا فهو عادة لا يقبل دعوة من فرد، وقد قيدنا أسماءنا في دفتر المقابلات، في مدخل السراي، وشهدنا سيوفا وخناجر وحرابا وبنادق ومتراليوزات ودروعا وتروسا للإنجليز والجيش المصري والدراويش المهديين، تمثل الأسلحة التي استعملت في فتح السودان واستعادته والثورة المهدية، كما يرى الزائر لديوان وزارة الحربية المصرية شارع الفلكي بالقاهرة الأسلحة المعلقة بجدرانها . ورأينا الأثر الذي كان به السلم إلى دار غوردون باشا، وفي محله صورة تمثله في ملابسه الرسمية وجاكتته مفتوحة عند أعلى درج السلم والدراويش يحملون الحراب ويهجمون عليه.
ثم زرنا الغرفة التجارية بالخرطوم واستقبلنا مسيو كونتو ميخالوس والسيد عبد المنعم ويونس محمد ومصطفى أبو العلا وتوتنجي وكفوري والأديب معاوية محمد نور سكرتير الغرفة، وغيرهم.
وقد عقد اجتماع تأيد فيه القرار السابق بتأليف لجنة زراعية مصرية سودانية وأخرى تجارية.
ثم زرت منفردا مكتب جريدة حضارة السودان مع فضيلة رئيس تحريرها فضيلة الأديب الشيخ أحمد عثمان القاضي، ثم زرت جريدة السودان لصاحبيها الشيخ عبد الرحمن أحمد والسيد السواكني.
بعد ذلك مررت بشوارع الخرطوم فألفيتها واسعة نظيفة وهادئة، والمباني من طبقة واحدة، والأسواق عامرة بمطالب الحياة، وللترام خطوط ثلاثة؛ هي خط دائري، وخط إلى خرطوم بحري، وخط من الوسط إلى أم درمان يمر بالخرطوم بكوبري على النيل الأبيض، الذي يلتقي بالنيل الأزرق عند الخرطوم، ويشبه ترام الخرطوم أقدم طراز لترام القاهرة، وبه درجتان، ويوجد تذاكر ذهاب وإياب بقيمة مخفضة. وأسعار التاكسي معتدلة، وتوجد عربات ركوب يجرها جواد واحد.
وليس بالخرطوم ولا بأي مدينة مجار، ولكنهم في كل مكان يضعون الجرادل تحت المراحيض وتنقل الجرادل ليلا ويوميا، كما في رأس البر.
ومررنا بكلية غوردون، وتعد من مصاف المدارس المتوسطة في مصر، ولكن برنامجها أصبح أقل من قبل، وبها الأقسام التالية: قسم لتخريج المترجمين والكتبة، قسم المحاسبين، قسم القضاة الشرعيين، قسم المهندسين، قسم المعلمين، قسم إعدادي يدخل خريجوه مدرسة كتشنر الطبية، ويوجد قسم داخلي للكلية.
وأكثر منازل الخرطوم من الطوب الأحمر المحروق، وتتصل بالحدائق. وهي مدينة حديثة أنشأها محمد علي الكبير، وخربتها الثورة المهدية ونقلت العاصمة إلى جارتها أم درمان التي تحتفظ بالحي الوطني والمنازل القديمة. وقد جدد بناء الخرطوم بعد استعادة السودان.
وتوجد بها «شركة النور والقوة الكهربائية»، وهي توزع النور الكهربائي وتدير الترام، وهي صاحبة الكبريين.
أعضاء البعثة المصرية في حديقة الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني وترى سيادته في وسط الأعضاء.
في سوق القضارف. (2-1) حفلة الغرفة التجارية السودانية
خطب رئيس الغرفة وبعض أعضاء البعثة
أقامت الغرفة التجارية السودانية بالخرطوم في دارها الخاصة المنظمة الأنيقة الملحق بها حديقة، بعد ظهر اليوم، حفلة شاي تكريما لأعضاء البعثة، حضرها الكثيرون من التجار والوجهاء.
خطاب مسيو كونتو ميخالوس
فيما يلي الخطبة التي ألقاها مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية السودانية:
بالنيابة عن لجنة وأعضاء الغرفة التجارية أريد أن أبث إليكم جميعا ترحابا قلبيا. لما كان لي الشرف في مقابلة بعضكم في القاهرة في يوليو الماضي، صرحت بمحاولة ترتيب زيارة السودان.
وبأننا نحن من جهتنا هنا سنعمل على رد هذه الزيارة؛ ذلك لأني فكرت أن هذه أحسن وسيلة لتقريب التجار بعضهم لبعض، وبعمل كهذا نكون قد مهدنا الطريق لحسن التفاهم بين بلدينا.
وإني أعبر عن جميع من في السودان بشعور الشكر والامتنان لحضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون وللجنة الجمعية الزراعية الملكية، ولسعادة يوسف باشا قطاوي، ولحضرة عبد المجيد أفندي الرمالي الأول رئيس والثاني سكرتير غرفة القاهرة التجارية، ولسعادة أمين يحيى باشا وشكري خميس أفندي الأول رئيس والثاني سكرتير غرفة الإسكندرية التجارية، وللجنة النقابة الزراعية المصرية العامة؛ لتلبية الدعوة وترتيب هذه البعثة في السودان.
للسودان أصدقاء كثيرون في القطر المصري، ولكن ليس فيهم الحماس الكافي الذي نشهده في ضيفنا الرفيع فؤاد أباظة بك؛ فنحن مدينون له أكثر مما نحن مدينون لغيره؛ نظرا للمتاعب التي يتحملها ليوحي إلى الشعب في مصر الثقة بالسودان، ولأنه رسول التعاون وترويج صلات الصداقة بين شعبي القطرين. للعائلة الأباظية أبناء ممتازون كثيرون، ويحق لي أن أطلب من فؤاد بك أن يتنازل عن لقب «أباظة» وأن يسمي نفسه «فؤاد بك السوداني ».
لقد انقضى أسبوعان على نزولكم في بور سودان، ولقد سافرنا معا إلى سواكن وطوكر وكسلا والقضارف وسنار وسنجة وكوستى وتندلتي وأم روابة والأبيض، وقفلنا راجعين إلى أبا وجزيرة الخرطوم، وهي المراكز المهمة، ولقد حييتم في كل جهة تحية ودية، وقابلكم الموظفون بوجوه باسمة، وتباحثتم مع الأعيان والتجار الأجانب والوطنيين في جو يسوده الود والصفاء، كما أن جميع أهالي السودان قابلوكم في كل قرية ومحطة مررتم بها ليحيوكم تحية أخوية، وليعبروا عن آمالهم بأن تكون لزيارتكم نتيجة لها أثرها.
نعم نحن هنا زعماء التجارة وطلائع التقدم في السودان ننظر إلى حضوركم بيننا بنفس الآمال الزاهية التي تملأ قلوب سائر السكان.
لقد تكلم المصريون كثيرا عن السودان، ولكن قليلا منهم من يلم إلماما كافيا بأحوال معيشتنا وحالات الحياة هنا. وإني متأكد أن بعضهم ليس عنده فكرة صائبة عن التقدم الذي وصلت إليه البلاد منذ إعادة الاحتلال، والطريق الذي مهد السلام، والقانون الذي تسير عليه.
لقد قابلكم حكام المقاطعات في كل محطة، ولقد رأيتموهم في العمل، ولقد سمعتم من أفواههم تاريخ محنهم والصعوبات التي تعوق واجباتهم المعقدة التي يقومون بها، ولقد رأيتم الصداقة التي يعاملون بها الأهالي، وكيف ينظر هؤلاء لتلك الفئة القليلة من الرجال الموزعة هنا وهناك لإقامة العدل والصراحة.
ولقد شاركتمونا قليلا في رداءة الجو الذي يشتغل فيه هؤلاء الحكام، ولم تسمعوا منهم أي شكوى، بل بالعكس لم يكن هناك سوى حماس وثقة في النفوس، ورضاء عام.
وإذا علمتم أن الحكام والتجار وجميع الأهالي كانوا يشتغلون في السنوات الأخيرة تحت حالات غير طبيعية بأجور مخفضة وخسائر في رأس المال تتوالى، فإني متأكد أنكم تشعرون بأكثر من الإعجاب نحوهم، وأنكم دون شك ستحملون معكم لبلدكم هذا الإعجاب، وستبلغون مواطنيكم ما علمتموه عن الإدارة والأهالي والحياة في السودان، وأن تبينوا لهم الخطوات العظيمة التي خطتها هذه البلاد في طريق التقدم والمدنية بالرغم من الأزمة التي أوقفت نشاطنا وشتتت أفكارنا، وإني أرجو بما توصلتم إليه من معرفة أن تبلغوا مواطنيكم أن السودان لا يحتاج إلى العطف قولا، وإنما نحن نرجو المساعدة العملية لإنماء مواردنا وزيادة نشاطنا.
في الساعات القليلة التي لم نشتغل فيها بالقطار سنحت لنا الفرصة بأن نتبادل الآراء - كما سنتبادلها مدة إقامتكم هنا - في المسائل المختلفة التي تلفت النظر من الوجهة التجارية والزراعية.
وإني لا أنتظر حصول معجزة لتغيير الحالة بقوة سحرية؛ إذ كل تقدم يحصل سيكون نتيجة مجهود متحد دون ملل من الطرفين.
لهذا السبب أنا لا أنتظر نتائج سريعة من محادثاتنا وتبادل آرائنا، ولكنني أنظر إلى المستقبل بثقة، وآمل أننا في مدة إقامتكم هنا سنضع أساس التعاون بيننا، وبعد رجوعكم إلى مصر ستبدأون في بناء الأعمدة لربط المصالح المختلفة وتكوين لجنة دائمة للسودان تجمع ممثلي تجارتكم وصناعاتكم وزراعتكم.
والغرفة التجارية السودانية تمثل هنا جميع هذه المصالح، وحينئذ ستجعل الهيئتان من واجبهما تبادل الآراء بطريقة مستمرة لإنماء التجارة بين القطرين، ويجب عمل ترتيبات أيضا لكي تجتمع اللجنتان مرة كل سنة في القاهرة وفي الخرطوم على التعاقب؛ إذ إن اتصال الأفراد بعضهم ببعض ضروري لنجاح مجهوداتنا.
ستقيمون في القاهرة معرضا في ديسمبر القادم
1
وإني أقترح أن تنتهز لجنة الغرفة التجارية في الخرطوم هذه الفرصة لتقابلكم هناك لأول مرة، وبذلك ترد إليكم رسميا زيارتكم الحاضرة لنا.
إن المسائل الاقتصادية والتجارية تقود العالم اليوم كما ستقوده في القابل أكثر من أي قوة مسلحة؛ ولهذا السبب آمل في أن زيارتكم سيكون من شأنها أن تمحو شبهات الماضي السيئة بين بلدينا، وأنها ستجمعهما بمجهود خالص نحو الصداقة والمودة.
وأزيدكم القول إن زيارتكم سيكون لها تاريخ وأثر في مستقبل بلدينا، كما ظهر لكم من الاستقبالات الودية التي قابلكم بها جميع الموظفين. حكومة السودان تميل نحو بلدكم، وإن إقامتكم في الخرطوم ستهيئ لكم الفرصة لأن تتبينوا بأنفسكم الحق في كلماتي.
إن السودان كان موضوع نزاع بين ممثلي بلدكم والحكومة البريطانية في المحادثات العديدة التي حدثت، وزيارتكم لنا، واتصالكم بموظفي الحكومة ومن يعتد به، سيجعلكم تعتقدون بأن الأحوال في السودان ليست كما يعتقد مواطنوكم، وأن الأثر الشخصي الذي يرتسم لكم سيجعلكم - كما آمل - قادرين على تذليل الصعاب، وأن يساعد على تحقيق تفاهم شريف بين البلدين اللذين يرفرف علماهما على رءوسنا.
وفي ختام ترحيبي بكم أريد أن أعبر عن امتاننا لسعادة حاكم عام السودان، وكذلك لجميع الحكام وللجنة الغرفة التجارية السودانية الذين عاونوني قلبيا على أن تكون زيارتكم سارة. ويصعب علي أن أذكرهم جميعا بأسمائهم، ولكنكم تتفقون معي أن أخص بالثناء مصلحة السكة الحديد للترتيبات العظيمة التي عملتها لراحتكم.
وأرجو أن تكون ذكريات إقامتكم في السودان سارة ومفيدة. ا.ه. «تصفيق حاد في مواضع مختلفة.»
خطاب رشوان محفوظ باشا رئيس البعثة
جناب المستر كونتو ميخالوس
حضرات السادة:
وصلت بعثتنا إلى عاصمة السودان، ونفس كل واحد منا مفعمة بعاطفتين تملكانها ولا تزالان تتجاذبانها: عاطفة الشكر وعاطفة الإعجاب.
فإذا أردنا أن نعبر عن شكرنا ألفينا كل بيان عاجزا عن إيفائكم حقكم؛ فمنذ وطئت أقدامنا هذه البلاد ونحن نقابل بمنتهى الحفاوة والتكريم في كل مرحلة من مراحل طوافنا وأمارات البشر والترحيب تعلو الوجوه.
ناهيك بما هيئ لنا من أسباب الراحة وطيب العيش، ومن إتقان في دقائق ذلك يعز مثيله على أي بلد آخر من بلاد الحضارة. ونحن لا ندري - وايم الحق - من من حضراتكم نخص بشكرنا وكلكم قد طوقتم أجيادنا بفضل لن ننساه. على أننا نتوجه بأخلص عبارات الامتنان لحضرة صاحب المعالي الحاكم العام ولحضرات رجال حكومته لما تفضلوا علينا به من جميل الاستقبال والحفاوة، ولما قدموه لبعثتنا من تسهيلات حملت بعضهم مشقة وجهدا جهيدا. ونذكر بأطيب الثناء أيضا حضرات رجال غرفة السودان التجارية، وجناب رئيسها المحترم المستر كونتو ميخالوس لتنظيم رحلتنا تنظيما دل على التناهي في حسن الذوق والكرم، وقد جشمهم ذلك تعبا كثيرا.
أما باقي إخواننا السودانيين؛ تجارهم وزراعهم وأعيانهم ومن انضم إليهم من الأجانب، فلهم منا خالص الحمد وجزيل الشكر على ما غمرونا به من الحفاوة وحسن الاستقبال، ونسأل الله أن يجزيهم عنا الجزاء الأوفى.
إنا نغتبط غاية الاغتباط بما شاهدناه من دلائل التقدم والرقي في مرافق الحياة المختلفة بالسودان من منشآت اقتصادية وأعمال عمومية يفسح المجال لأكبر الآمال، ونشهد للقائمين بها بالحكمة وحسن التدبير. وإن حسن النية المتبادل بين البلدين في العمل على زيادة التعاون الزراعي والاقتصادي بها جدير بأن يتغلب على أية صعوبة لو وجدت في هذا السبيل. ويسرنا أن نعلم أن المناقشات التي تدور بين المختصين من الهيئتين تبشر بالوصول إلى نتيجة ترضاها البلدان، وبذلك يوضع الأساس لمستقبل كله خير وسعادة لهما، وإنه ليهون علينا ما لاقيناه من حرارة الجو في هذه البلاد في بدء رحلتنا في سبيل المهمة التي نسعى إليها، وقد أنستنا حرارة الاستقبال حرارة الجو.
وختاما نشكر للمسيو كونتو ميخالوس حسن ضيافته لنا في هذه الليلة، كما نشكر له ما بذله وما يبذله دائما من جهود في سبيل الغاية المشتركة التي نسعى لها كلنا، وهي زيادة يسر ورخاء السودان ومصر بإحكام الروابط الاقتصادية والزراعية بينهما. «تصفيق متكرر.»
خطاب فؤاد أباظة بك
حضرة رئيس لجنة وأعضاء الغرفة التجارية السودانية
نيابة عن البعثة المصرية أريد أن أقدم لكم خالص تشكراتنا وامتناننا لتنظيم رحلتنا الذي مكنا من إدراك وجمع المعلومات الهامة التي توصلنا إليها باتصالنا رأسا بالعناصر التجارية والزراعية في بور سودان وسواكن وطوكر وكسلا وقضارف وسنار وسنجة وكوستى وتندلتى وأم روابة والأبيض وجزيرة أبا وواد مدني وحصاحيصة وجزء كبير من شرق الجزيرة ومزارع طوكر والخرطوم.
نحن بالفعل نضع - كما قال خطيبكم المفوه - أساسا لمظهر تجاري بين مصر والسودان، وربما كان هذا هو الوقت المناسب لأسرد لكم قصة هذه الحركة الحالية.
في مثل هذا الوقت تقريبا من السنة الماضية انتدبت من الجمعية الزراعية الملكية المصرية لأقوم برحلة جوية سريعة لأجمع معلومات عن نمو القطن وطرق الري في وادي النيل، ولأقدم مذكرة بملاحظاتي للجنة القطن الدولية المنعقدة في القاهرة بتاريخ 17 فبراير سنة 1934.
كنت موفقا في إنجاز مهمتي؛ حيث رجعت إلى القاهرة في وقت مناسب لرفع مذكرة جامعية مختصرة، واختتمتها بقولي: «أقول من أهم مسائل وقتنا الحاضر المنظورة هي إعانة القطر المصري بكل ما يحتاج إليه من ماء يزيد فيصرف في أراضي إخواننا المزارعين السودانيين، ولكن يظهر لي من الاعتبارات الاقتصادية والصناعية أن الحالة الحاضرة بين مصر والسودان تحتاج إلى تعاون اقتصادي واتصال مستمر، ومن وجهة نظري فإنه من الممكن حل المشكل على أساس اعتبارات اقتصادية بحتة ليس من الصعب الوصول إليها، وأما من الوجهة السياسية فلا دخل لي في التكلم عنها .»
وقد عرضت فكرتي على صاحب السمو الأمير عمر طوسون رئيس الجمعية الزراعية الملكية الذي شملني بعطفه وشجعني، واشتغلنا بها بعد ذلك في لجنة الجمعية الزراعية الملكية، ثم كان لي السرور أن تشرفت بمقابلة جناب السير استيوارت سايمز حاكم االسودان العام في الإسكندرية في يوليو الماضي، كما قابلت صديقي الممتاز المستر ج كونتو ميخالوس لأول مرة.
وفي اجتماع مجلس إدارة الجمعية الزراعية الملكية المنعقدة في 9 أغسطس الماضي قد تقرر تنمية العلاقات الاقتصادية بين مصر والسودان على الوجه الآتي: (1)
إعداد بناء خاص للسودان في المعرض الزراعي الصناعي القادم. (2)
تنظيم رحلة للسودان في شهري يناير وفبراير القادمين مكونة من أعضاء الغرفة التجارية وكبار الزراع في مصر. (3)
دراسة مشروع تأليف شركة من أهالي مصر والسودان لمشترى أراض زراعية واستثمارها. (4)
إنشاء فرع للجمعية الزراعية بالخرطوم. (5)
دعوة بنك مصر لإنشاء فرع له بالخرطوم.
حضرات السادة:
لا يمكنني الاستمرار في سرد القصة قبل أن أذكر أنني مدين حقا لجناب حاكم السودان العام ومستشاريه الممتازين ووكيل حكومة السودان في مصر، الذين مهدوا لي الطريق.
فقد عرضت الأمر بصراحة على صاحب المعالي الحاكم العام الذي أحمل له كل إعجاب واحترام، وقد شجعني بثاقب فكره على أن أستمر في فكرتي لمصالح مصر والسودان. ومن جهة أخرى وجدت في مستر كونتو ميخالوس الرجل الدائب العمل للوصول إلى غرضه؛ فقد تكاتفنا معا للوصول إلى معلومات كافية خاصة بتنمية العلاقات التجارية، كما كان لي الشرف أيضا في مقابلة المسيو كافوري في القاهرة، وقد زودني بمعلومات وافية.
سادتي:
من دواعي إسداء الجميل لمسيو كونتو ميخالوس الذي كان له الشجاعة التامة بتصريحه جهارا بأفكاره وآرائه، وقد تكرم حضرة صاحب الجلالة ملك مصر بمنحه نيشان النيل من الدرجة الثالثة.
سادتي:
بفضل تشجيع وزعامة صاحب السمو الأمير عمر طوسون الذي يرجع فضل وجودنا اليوم هنا إليه، سنتباحث جديا مع رئيس وأعضاء الغرفة السودانية وأعضاء الجمعية الزراعية والغرفة التجارية في الإسكندرية في المسائل المختلفة التي تقف في طريقنا، وإني واثق من أن حسن الإرادة والنية من الطرفين سيصل بنا - كما آمل - إلى نتائج مرضية.
يا حضرة الرئيس: أشكركم كثيرا على الكلمات الطيبة الخاصة بمعاونتي الوضيعة للسودان. إنه شرف لي أن أدعى «فؤاد بك السوداني»؛ فإني أحب السودان، والحاضرون هنا من مصر وجميع المصريين عموما يشعرون بنفس شعوري وزملائي بما قوبلنا به منذ نزولنا لبور سودان إلى وصولنا للخرطوم، كما أننا مغتبطون مما رأيناه وسمعناه من جميع أصدقائنا السودانيين وجميع رجال الحكومة والسكان الأجانب وسائر أهل السودان الذين غمرونا بفضلهم وعملوا على أن تكون زيارتنا لطيفة وموفقة.
إن المدينة كبيرة وذات جاذبية، وقد تحمل أعضاء ومندوبو الغرفة التجارية تعبا شديدا لكي يجعلونا نشعر بأننا في بلادنا، كما أن رجال مصلحة السكك الحديدية والهيئات الأخرى سهلوا لنا الإقامة، حتى إن زملائي لم يشعروا بأي تعب، ونحن نأسف أن نرى برنامج رحلتنا يقرب من النهاية.
سنجلس للعمل ونتفاهم على كل النقط من وجهة المعاملة، وسنحمل إلى مواطنينا في مصر وصف مقابلات السودان الحماسية، ونخبرهم بما رأينا وما سمعنا، وستقوم لجنة متحدة بتبادل الآراء في سبيل التقدم المستمر. والمصريون ينتظرون زيارتكم للقاهرة والقطر المصري في وقت افتتاح المعرض الزراعي الصناعي الذي أرجو أن يكون فرصة مناسبة لتحقيق أغراضنا.
زميلاي السيد عبد المجيد الرمالي سكرتير غرفة القاهرة التجارية، وعلي أفندي خميس سكرتير غرفة الإسكندرية التجارية، سيتكلمان معكم في المسائل التجارية.
حضرات السادة:
أحمل إليكم شكر سمو الأمير عمر طوسون لكل ما قدمتموه لنا، وإن لسموه رغبة قوية في تنمية العلاقات التجارية لفائدة ومنفعة الطرفين. «تصفيق حاد في مواضع مختلفة.»
كلمة السيد عبد المجيد الرمالي
أعضاء البعثة أمام مكتب الجمعية الزراعية يتأهبون للسفر إلى السودان.
جناب المسيو كونتو ميخالوس رئيس غرفة الخرطوم وحضرات زملائه الأفاضل
إخواني:
أرجو أن تسمحوا لي بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن حضرة صاحب السعادة يوسف قطاوي باشا رئيس الغرفة المصرية التجارية للقاهرة الذي كان بوده الحضور شخصيا لولا ظروف طارئة حالت دون ذلك - أن أقدم إلى التاجر الكبير والرجل العامل المسيو كونتو ميخالوس رئيس غرفة الخرطوم التجارية جزيل الشكر على دعوته الكريمة لنا وتمهيده السبيل لهذا الاجتماع الحافل، كما أشكر السودانيين جميعا ما لقيناه ونلقاه من الكرم والحفاوة في كل مكان نزلنا به.
إن أكبر أمل يجيش بنفوسنا نحن المصريين وأرباب الأعمال والتجارة بوجه خاص، هو أن تصبح العلائق الاقتصادية أوثق ما يمكن أن تكون بين مصر والسودان؛ لا سيما وقد أتاحت زيارة جناب المستر كونتو ميخالوس لبلادنا المصرية وزيارته للغرفة التجارية واتصاله بكبار رجال المال والأعمال في مصر - فرصة للتعبير عن ذلك الأمل، وها هو يهيئ لنا اليوم فرصة أخرى بهذا الاجتماع.
والواقع أنه إذا وجب أن تتوطد الصلات التجارية والاقتصادية بين بلدين فإن ذلك أوجب ما يكون بين القطرين الشقيقين: مصر والسودان، اللذين يصل النيل بينهما ويجعلهما بمثابة أرض واحدة. وهذا فضلا عن الأواصر التاريخية والاجتماعية والدينية التي تربط المصريين بإخوانهم السودانيين.
وجدير بهذه الروابط القوية أن تكون سببا في زيادة الحركة التجارية بين القطرين؛ حتى يكون كل منهما أول سوق تتجه إليها حاصلات الآخر ومنتجاته.
وإن حضراتكم لا شك تعلمون مبلغ التقدم الذي بلغته الصناعات في مصر، وهو تقدم مطرد تغذيه الحكومة المصرية بالمعونة وتمده الآمة بالتشجيع. وبديهي أن تتجه أنظار أرباب المصانع المصرية إلى السودان؛ خصوصا وأن الذوق المصري يناسب أهله لتشابه العادات والأحوال الاجتماعية في البلدين.
والذي نرجوه نحن أرباب التجارة والأعمال في مصر، وتأمله جميع الغرف التجارية المصرية، هو أن تجد البضائع المصرية في السودان كل تسهيل مستطاع، وأن تلقى البضائع السودانية في الوقت نفسه كل معونة في مصر، وبهذا تزيد الحركة التجارية بين القطرين وتنشط النشاط المأمول، وبه تتحقق أمنية عزيزة عند المصريين والسودانيين سواء بسواء.
وإني كممثل لغرفة القاهرة التجارية يسرني أن أعلن لحضرتكم أن الغرف التجارية المصرية ستكون خير عون لتوثيق الروابط التجارية بين القطرين، كما أنها ستكون أكبر عامل لتوطيدها والسلام. «تصفيق متكرر.» (3) اليوم الثالث: زيارة خزان جبل الأولياء
تفاصيل وافية عن الأعمال الهندسية والإدارية (3-1) الخرطوم في يوم الأحد 10 فبراير
بعد أن تناول الأعضاء طعام الإفطار صباح اليوم - الأحد 10 فبراير الجاري - توجهوا بالسيارات يرافقهم حضرات أعضاء لجنة الاستقبال وكبار المصريين بالخرطوم، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي قضاة السودان وفريق من أعيان الخرطوم - لزيارة خزان جبل الأولياء. (3-2) السياسة وخزان جبل الأولياء
أصبح اسم «خزان جبل الأولياء» مشهورا في التاريخ المصري، مذكورا في السياسة المصرية، وطالما كان اسما مرعبا. كان المشروع مثار جدل ومناقشات فنية ومالية وسياسية في الهيئات الرسمية وغيرها، لقد ترددت الوزارات المصرية التي وافقت عليه في تنفيذه، ولكن وزارة واحدة - هي وزارة دولة إسماعيل صدقي باشا - قد نفذته في وسط سخط الرأي العام وفي أتون مخاوفه، وطالما حوكمت صحف بسبب انتقاد المشروع.
والآن وقد أصبح المشروع عند منتصف تنفيذه، وتقيدت الحكومة المصرية بمقاولته، فقد صار من الطبيعي أن يهتم المصريون بالوقوف على حالة العمل، وأن تزور البعثة المصرية للسودان الخزان ومنطقته، حتى ينقلوا لإخوانهم ما عرفوا عن كثب. وهذا برنامج صباح اليوم. (3-3) تاريخ مشروع الخزان
في سنة 1902 قامت بعثة المهندسين الإنجليز برياسة جناب سير ويليم جارستين مستشار نظارة الأشغال المصرية سابقا، بدراسة دقيقة لأعالي النيل وفروعه، وقد أودع جنابه أبحاثه ومقترحاته كتابا ضخما طبعته الحكومة المصرية عام 1904 بعنوان «الدليل في موارد أعالي النيل»، وهو يتضمن برنامج الأعمال المقترح تنفيذها على النيل من منابعه إلى مصبه، وبالكتاب نبذة لحضرة مستر ديبوي تتناول بحوثه أنهار السودان الشرقي وبحيرة تانا بالحبشة.
وقد كان مستر ديبوي المذكور مفتشا عاما لري السودان عندما قام ببحوثه، وعين بعد ذلك مستشارا للأشغال المصرية، وهو صاحب مشروع خزان جبل الأولياء الجديد الذي أقره مجلس الوزراء في 3 يناير سنة 1932 مع تعديل خفيف في تفصيلات المشروع.
ويعد كتاب «الدليل في موارد أعالي النيل» لويليم جارستين دستور الحكومة البريطانية وحكومة السودان في ضبط النيل وفي إقامة مشروعات الري الكبرى، ويجب أن يعلم الناس أن البرلمان الإنجليزي قد أقر الدستور الذي وضعه سير جاستين عام 1904، وحرصت وزارة الأشغال المصرية على تنفيذ هذا الدستور بولاء.
أساس دستور ضبط النيل أنه: «إذا كان الغرض تخزين مياه لسد جميع حاجات القطر المصري فإنه يوجد داخل حدود مصر مواقع تكفي لتخزين ما يكفي لهذا الغرض.» «بما أن السودان فقير الميزانية ويحتاج للتعمير وبه أراض واسعة وصالحة للزراعة على ضفاف النيل، فيجب عند التفكير في أعمال الري الكبرى أن يراعى صالح السودان أيضا.»
وقد اعتمد مجلس الوزراء الأموال اللازمة لإنشاء خزان جبل الأولياء، وأدرجت بميزانية سنة 1932 المقدمة لمجلس النواب طبقا لتصميم المستر ديبوي.
والخزان يمر بمديرية النيل الأبيض بطول 330 كيلو مترا، ومساحة هذه المديرية ثمانية ملايين من الأفدنة ذات أراض زراعية لا طريق لريها إلا من مياه هذا الخزان.
قال السير ويليم ويلكوكس بتقرير لجنة 1920 عربي ص31 ملحق (1) ما نصه:
مساحة الأراضي التي تحصل وزارة المالية المصرية ضرائب عنها هي 5554000 فدان.
وألاحظ بغرابة أن وزارة الأشغال بكتاب ضبط النيل صحيفة 11 (إنكليزي) قدرتها ب 200000 فدان، ومع المساحة السابقة مليون فدان تروى ريا حوضيا والباقي ريا مستديما، ويلزم لري هذه المساحة سنويا 35300 مليار متر مكعب.
ويلزم مصر للملاحة وللأعمال الصحية ولمياه الشرب وغيره في المدن نحو ستة مليارات.
وتكون حاجة مصر في الوقت الحاضر أكثر من 41 مليارا المعادل لكل تصرف النيل في سنة 1913-14.
إذن تكون الزيادة المقدر خزنها بجبل الأولياء وقدرها 7,37 مليار متر مكعب هي خيالية لا وجود لها.
وقال جنابه بكتاب أرسله للمستشار المالي بتاريخ 19/11/1 ما ترجمته:
مشروعات سد النيل الأبيض وسد النيل الأزرق يضعان مصر تحت رحمة القابضين على أمر السودان، وبهذا تفقد مصر حريتها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخها من أيام مينا لليوم. لقد أعميت مصر ثم أجبرت أن تصيغ بنفسها لنفسها قيودها الفولاذية.
وقال المستر ديبوي بتقريره العربي ص27 ما نصه:
لا نزاع أن لمشروع جبل الأولياء عيوبا جلية؛ فموقع هذا السد مع احتمال استخدامه للأضرار بمصر قد أثار ثائرة الشعور السياسي، ثم إن ارتفاع نسبة ما يضيع من الماء في الخزان قد عرض المشروع لمطاعن شديدة من الوجهة الهندسية، هذا إلى أن نفقات العمل هي من الجسامة بحيث لا تحتملها موارد مصر المتيسرة في الوقت الحاضر.
وقال اللورد كتشنر في الكتاب الأزرق لسنة 1911 بصحيفة 104 ما نصه:
وفي معرض النظر الآن إنشاء خزان تبلغ نفقته نصف مليون جنيه أو ثلاثة أرباع مليون جنيه، وهو يقتضي إنشاء قناطر على النيل الأبيض بقرب موضع اقترانه بالنيل الأزرق، وقد تصل هذه القناطر الخرطوم بأم درمان، فهذا الخزان يسد النقص في الماء اللازم لري الجزيرة ويزيد ماء الري الصيفي في القطر المصري زيادة كبيرة، ومن فوائده أيضا التحكم بمياه الفيضان في أشهر سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، فتنتفع حياض الوجه القبلي بمصر، ويروي أراضي شاسعة من بر مديرية كردفان على النيل الأبيض ري فيضان.
والأرجح أن هذا المشروع يكون جزءا غير قابل الانفصال من مشروع الجزيرة، فيدور العمل في المشروعين معا. وقد وجدوا مكانا ملائما لخزان سنار.
وقال اللورد كتشنر أيضا بالكتاب الأزرق لسنة 913 عربي بصحيفة 64 ما نصه:
وكان للفيضان الواطئ للنيل سنة 1913 نتيجة أخرى تدعو إلى الخوف؛ لأنه يتبعه انخفاض في مناسيب الماء أكثر من المعتاد في فصل الربيع، وهذا يستلزم أن يكون الماء الصيفي أقل جدا من المعتاد. وقد ذكرت في تقريري السابق أنه يحتمل أن تدعو الحال إلى عمل شيء يوقى به القطر المصري من هذا المحذور، وأشرت إلى بناء سد في البحر الأبيض على مقربة من جبل الأولياء، وأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك. وهذا السد لا يكفي وحده لكل حاجة القطر المصري إذا تم استحياء كل أراضي الوجه البحري القابلة للزراعة، وتم تحويل الحياض إلى ري صيفي في كل الوجه القبلي، ولكنه يفي بالحاجة من الآن إلى سنين كثيرة.
وقد لا يكون من حسن التقدير إنشاء هذا السد إذا أريد به مجرد زيادة الماء الصيفي في القطر المصري ؛ لأن الحل الحقيقي لهذه المسألة يقوم على ما يظهر بمعالجة النيل حينما يخرج من البحيرات الكبيرة لكي يجري فيه مقدار كاف من الماء دائما، ولكن المكان الذي اختير لإنشاء السد يصلح لأن يتحكم فيه بالنيل على نوع لمنع أمواج الفيضان العالية جدا من النزول إلى مصر؛ ولذلك فالحكمة تقضي بإنشاء هذا السد لغرضين؛ الأول - وهو المقصود بالذات: منع ضرر الفيضان الفائق الحد. والثاني: صيرورته خزانا لخزن الماء فوقه. ولكن إنشاؤه لا يغني عن الأعمال اللازمة للتحكم بالمياه عند مصادر النيل في البحيرات الكبيرة لأجل حل مسألة الري الصيفي لكل القطر المصري.
وقال المستر ديبوي بتقريره المقدم للحكومة المصرية عن المشروعات بالنسخة العربية ما نصه:
إن سعة خزان جبل الأولياء الفعلية المعدل لمشروع ماكدونالد يجب أن تكون 4,9 مليار متر مكعب في جبل الأولياء، وهذا يعادل 2,1 مليار متر مكعب عند أسوان (ص92).
وإبقاء الخزان مملوءا طول الشتاء سيحول تماما دون قيام السودانيين بزراعة الأراضي بطريقة السلوكة كما يفعلون الآن في أشهر الشتاء. بيد أن إبقاء الخزان على منسوب 377 باستمرار من أكتوبر إلى مارس مع إنشاء بضع ترع تمتد من حافة النهر إلى الأراضي الواسعة الواقعة فوق هذا المنسوب قليلا - خليق بأن يمهد الوسائل لزراعة مساحات واسعة من الأراضي التي تزرع الآن على المطر؛ وذلك إذا شاء الأهالي الانتفاع بما يتهيأ لهم من هذه الوسائل بتركيب السواقي والشواديف على الترع (ص93).
وهناك مناطق بحري الخرطوم عديدة تصلح للتخزين لصالح مصر، نذكر بعضها لإعادة بحثها بلجنة وطنية من المهندسين الأكفاء المخلصين لإعطاء حكم عنها يصلح التعويل عليه، وها هي بعض تلك المواقع:
أولا:
هدارات الدال بالشلال الثاني.
ثانيا:
جزيرة شيري بالشلال الرابع.
ثالثا:
الهدارات الواقعة تحت أبي حمد بالشلال الخامس.
رابعا:
هدارات شابلوكا المعروفة بالشلال السادس.
أما المشروعات الواجب تنفيذها على وجه السرعة لزيادة إيراد النيل بمصر فهي:
أولا:
زيادة التخزين بأسوان حتى تصل كمية الانتفاع الصافي منها إلى 5500 مليار متر مكعب بدل 2300 الجاري الانتفاع بها من خزان أسوان الحالي.
ثانيا:
إنشاء قناة بالسدود لتنتفع منها مصر في مثل 13-14 بالمقادير الآتية:
1200 مليار متر مكعب تخزن بأسوان في مثل سنة 13-14.
2100 مليار متر مكعب زيادة للري زمن الصيف.
2500 مليار متر مكعب زيادة في مياه الفيضان لتخزن بخزان وادي السريان في مثل سنة 13-14.
ثالثا:
إنشاء خزان بوادي السريان لخزن ثلاثة مليارات إيرادا صافيا.
وقد نشرت جريدة «الأهرام» بتاريخ 28 يوليو سنة 1925 بيانا لوزارة الأشغال جاء فيه أن اللازم لمصر بعدما يتم زراعة كل أراضيها هو سبعة عشر مليارا في سنة 13-14 زيادة على إيراد النيل في زمن الصيف (أول فبراير - 20 يوليو)، فإذا تيسر لمصر إنشاء المشروعات الثلاثة السابقة، وكانت الأرقام الواردة بكتاب ضبط النيل صحيحة، فإنها تحصل على زيادة في إيرادها الصيفي قدرها:
5500 من خزان أسوان بعد تعليته عشرة أمتار.
3000 من خزان وادي السريان.
2100 من إنشاء قناة منطقة السدود.
10600 مليار متر مكعب.
لا غرابة
2
في أن حكومة السودان أوجست خيفة في بادئ الأمر من مشروع يكون من ورائه إغراق جانب من مديرية النيل الأبيض، ولكن استقصاء البحث أثبت أن الخزان المقترح فضلا عن أنه لن يكون منه أدنى ضرر على المديرية المذكورة سيعود عليها بالخير والفائدة؛ وذلك أن إجمالي مساحة هذه المديرية 34000 كيلو متر مربع لم يبلغ المزروع منها قط في حده الأقصى أكثر من ربعها.
وحالة الزراعة هناك بسيطة أولية، ومدار أمرها إما على المطر أو على الارتفاع والهبوط الطبيعي للنهر. والأمطار في الجهات الشمالية قليلة، ولكن مساطيح النهر واسعة، أما في الجهات الجنوبية فالأمطار أغزر، ولكن المساطيح أضيق. وتعريف لفظة مسطاح في هذا السياق: المساحة المحصورة بين متوسط منسوب الفيضان العالي ومتوسط المنسوب الصيفي المنخفضة.
أما أهالي الأقاليم فشعب فقير جاهل، وطرق الزراعة عندهم في غاية البساطة؛ ففي أثناء هبوط النهر تحفر في الطين حفر بعصا أو «سلوكة» وتوضع البذرة ثم تترك وشأنها لتنمو، ومن ثم أصبح هذا النوع من الزراعة يعرف بزراعة السلوكة. والمحاصيل المستنتجة بهذه الطريقة مقصورة على الحاصلات الغذائية؛ أعني الذرة الشامية وأنواع شتى من الجلبان يتخللها هنا وهنالك قطع متفرقة من القطن للاستهلاك المحلي. وجدير بالذكر أن الأراضي الأكثر ارتفاعا من الآنفة الذكر؛ أعني الأراضي التي لا يغطيها النيل في حالته العادية، هي الأخصب تربة، وإليها يتحول الأهالي بعد الفيضان العالي أو غب الأمطار الغزيرة فيزرعونها ويتركون الأراضي المنخفضة بورا.
وأرض هذه المديرية على الإجمال ضعيفة بالنسبة لأرض الجزيرة؛ فتربتها عسرة المراس صعبة الاختراق جدا؛ فالأراضي التي تزرع في الوقت الراهن سيصير إغراقها برمتها، ولكن يعتاض عنها بمساحات أعلى منسوبا، وهذه ستغمر بالفيضان وتستصلح للزراعة كل عام بالطريقة الموضحة في الفصل الثاني من الباب الثالث. وبذلك لا تكون الفائدة مقصورة على اعتياض أرض جيدة بدل الضعيفة، بل يضاف إلى ذلك أن عين المساحات المحددة تصبح متيسرة عاما فعاما، وهذه مزية إدارية ليست بالقليلة الأهمية. هذا وإن رفع منسوب الخزان كل عام إلى درجة كافية لغمر المساحات المتيسرة للزراعة يستلزم حتما ري مساحات أخرى أعظم كثيرا مما يستطيع سكان المديرية أن يزرعوه بالحاصلات في حالتهم الراهنة، وهذه المساحات ستكسوها الأعشاب بلا شك وتصبح مراع صالحة لتربية المواشي. ويبلغ إجمالي السكان في إقليم النيل الأبيض نحو 180000 نسمة. ويبلغ عدد القسم المجاور للنهر من هذا الإجمالي - أعني القسم الذي ستعلقه بناء الخزان عن مواطنته - 40000 نسمة حسب تقدير حاكم المديرية. وقد كان أقصى المساحة المزروعة 107000 فدان في سنة 1917، وبرفع منسوب الخزان نحو نصف متر فقط لمدة أسبوع أو اثنين؛ أي من 378,50 إلى نحو 379، ثم تخفيضه، تصبح المساحة التي تغمر واسعة فتتيسر للزراعة نحو 100000 فدان. وفي السنين التي يستعمل فيها الخزان كمصرف للفيضان ويرتفع المنسوب إلى 380 (ثم يخفض ثانيا حتى يبلغ 378,50 في 15 ديسمبر)، تكون المساحة التي غمرت ثم انكشفت نحو 480000 فدان. ومن ذلك يتضح أنه متى أنشئ الخزان لم تكن فائدة السكان منه مقصورة على استزادتهم من الأراضي الصالحة للزراعة سواء من حيث المقدار والجودة، بل يصبح أمر الزراعة عندهم غير متوقف على تقلبات فيضان النيل. فستكون فوائد الخزان مشابهة لفوائد أعمال الشراقي التي قام بها الكولونيل روس في الوجه القبلي منذ ثلاثين عاما.
3
المعارضة الشديدة في إنشاء الخزان
لقد كان أول صوت في العالم ارتفع بمعارضة إنشاء خزان جبل الأولياء لأنه يضر بمصر هو صوت المرحوم الكولونيل كندي باشا المهندس القدير ومدير الأشغال بالسودان سابقا، وقد انتقد المشروع لجنة المهندسين المصريين الأحرار سنة 1920، والمهندس إبراهيم زكي، وكان الوفد المصري معارضا في المشروع، وله بيانات في هذا الصدد، وكذلك انتقده سعادة عثمان محرم باشا وزير الأشغال سابقا والمرحوم محمد زغلول باشا وكيلها الأسبق في مذكرة نشرت سنة 1929، ووضع حضرة الأستاذ عبد الحليم إلياس نصير مذكرة وافية بوجوه الاعتراض على إنشاء ذلك الخزان، وللأستاذ حسن صبري بك وزير المالية السابق ووزير مصر المفوض بلندن الآن مذكرة وزعت على أعضاء مجلس الشيوخ سنة 1932، وكان نواب الحزب الوطني في البرلمان السابق معارضين للمشروع، وانتقدته الصحف الحرة.
وقد وصف الأستاذ نصير «سير ولكوكس» الذي عارض المشروع فقال: «شيخ جاوز الحلقة الثامنة وتراه كأنه في ميعة الصبي، قامة معتدلة، وهامة مرتفعة، وصحة بادية، ونور من اليقين يشع بين عينيه ويملأ شفتيه ويبدو على أسارير وجهه، وهو مهندس إنجليزي تربى في الهند، وشاد مجده العلمي بالاطلاع والدرس والاجتهاد في ساحة الحياة العملية، فظهر نبوغه وذاع صيته في الآفاق، واشتهر الرجل بالشجاعة والعلم والإخلاص وحب الفلاحين؛ لهذا عندما رأى إصرار الحكومة الإنجليزية على حمل الحكومة المصرية على قبول إنشاء خزان جبل الأولياء أعلن رأيه بصراحة ولم يدع دائرة من دوائر النفوذ دون أن يكاشفها بمضار المشروع على مصر والمصريين، وشهر بحكومة بلاده تشهيرا عظيما أمام حكومات العالم، ودافع عن حقوق مصر الضعيفة دفاعا باهرا تتعطر بذكره جميع الأجيال، ولولا مناهضة هذا الرجل لتمت المشروعات التي أرادها الإنجليز في الخفاء وأهل مصر في سبات ونوم عميق. ولقد ضحى الرجل بنفسه وماله ومركزه الأدبي أمام حكومة بلاده.
وقد أمرت الحكومة البريطانية بمحاكمته أمام محكمة القنصلية البريطانية بمصر في سنة 1921، وأقيمت الدعوى عليه هو وكندي باشا بتهمة قذفهما في حق سير مكدونالد صاحب المشروع الكبير لخزان جبل الأولياء، وبتهمة تشهيرهما بمشروعات الري وإثارة الشعور المصري، وبتهمة أخرى لم تنشر وهي تحريض الشعب المصري ضد مقام الدولة البريطانية. وتعد هاته المحاكمة من أهم القضايا الفنية.
وكان من أثر تلك الحملة أن أقرت الحكومة الإنجليزية العدول مؤقتا عن مشروع خزان الأولياء، ولكنها في الوقت نفسه قضت بمحاكمة كندي وويلكوكس، فجردت كندي باشا من جنسيته الإنجليزية ومن ألقابه ورتبه ونقصت معاشه، وحكمت على السير ولكوكس بالصمت التام عاما كاملا، وبحرمانه من الكتابة في مشروعات الخزانات بالسودان لمدة عام.
المشروع بعد الحرب
لجنة المهندسين الوطنيين
بعد الحرب الكبرى اتجهت أنظار الإنجليز إلى تنفيذ المشروع بالسودان؛ وذلك لاستثمار الأموال الإنجليزية، ثم لإيجاد أعمال للشركات والمقاولين الإنجليز، علاوة على تنفيذ برنامج ضبط الماء بالسودان. ونظرا لخطورة مشروعات النيل الكبرى في السودان بالنسبة لمصر، ونظرا لوقوف ولكوكس وكندي باشا في وجه تلك المشروعات، فقد استفز هذا الموقف النبيل بعض المهندسين الوطنيين فألفوا من بينهم لجنة برئاسة المرحوم عبد الله وهبي باشا، وعضوية حضرات موسى غالب باشا والمهندس إبراهيم زكي ومحمد إسماعيل حب الرمان بك وعبد القوي أحمد بك المهندس المقيم لمشروع خزان جبل الأولياء.
أما سكرتيرية اللجنة فعهد بها إلى المهندس إبراهيم زكي، وقد قامت هذه اللجنة بأعمال باهرة، ويرجع إلى مجهوداتها كثير من الفضل في عدول وزارة دولة عدلي يكن باشا عن إقرار مشروع خزان جبل الأولياء. وقد نشرت تلك اللجنة على الرأي العام مذكرة هامة بنقد مشروعات الري.
وقد أرسل المرحوم سير ويليم ولكوكس الكتاب التالي إلى دولة عدلي يكن باشا سنة 1921 رئيس الوزارة يومئذ.
لقد قضيت أربعين عاما بمصر، وأكلت ملحها، وشربت ماء نيلها، لهذا أرى من الجبن والنذالة أن أقف مكتوف اليدين، بينما أشاهد بعيني رأسي أن مصر الضعيفة يراد قتلها باستعبادها وإذلالها بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ؛ إذ يراد قتلها بواسطة مشروعات الري التي يراد إقامتها بالسودان للتحكم في مياه مصر ولاغتصاب حقوقها في ماء النيل لاستعماله بالسودان.
الإمضاء: سير ويليم ويلكوكس ا.ه.
تقرير المستر ديبوي في مايو سنة 1923
بقرار مجلس الوزراء الصادر في نوفمبر سنة 1921 ندب المستر ديبوي الذي كان مستشارا لوزارة الأشغال العمومية لمهام منها بحث مشروعات الري الكبري، وإبداء رأيه فيها، وفي أحسن برنامج لترقية شئون القطر الزراعية - وفي حالة وأعمال مصلحة الري المصرية مع الإشارة بصفة خاصة إلى علاقاتها بغيرها من المصالح الأميرية - ولقد قام بمهمته ووضع تقريره في جزءين كبيرين قدمهما إلى رياسة مجلس الوزراء.
جاء بالصفحة الثانية من تقرير المستر ديبوي ذلك المهندس الكبير والخبير العالمي:
ثم فحصت الموقف الراهن فألفيت البلاد مثقلة ببرنامج أعمال مترامي الأطراف واسع النطاق، يرمي إلى تحسين الأحوال الزراعية واستثمار الأراضي البور، ولكن البلاد عاجزة من الوجهة المالية عن السير به ... ... وعندي أن السبب الذي أدى إلى هذا الموقف يرجع بالأكثرية ... ثانيا إلى عدم وجود أية رقابة مالية فعالة على الشروع في أعمال كبيرة تقتضي إنفاق أموال طائلة.
وأما فيما يختص بالسبب الثاني فقد أبديت من المقترحات ما أرجو أن يؤدي إلى إيجاد رقابة مالية أعظم إحكاما وأشد فعلا؛ وذلك - أولا - بأن جعلت الاعتبار الأهم مقدرة القطر المالية لا حاجته المفروضة إلى سرعة النمو.
وأخيرا بأن أشرت بعدم فتح اعتمادات مالية لهذه الأعمال إلا بعد تقديم مقايسات مفصلة وافية ...
وجاء بصفحة 27:
لا نزاع في أن لمشروع سد جبل الأولياء عيوبا جلية؛ فموقع هذا العمل مع احتمال استخدامه للأضرار بمصر قد أثار ثائرة الشعور السياسي، ثم إن ارتفاع نسبة ما يضيع من الماء في الخزان قد عرض المشروع لمطاعن شديدة من الوجهة الهندسية ...
هذا إلى أن نفقات العمل هي من الجسامة بحيث لا تحتملها موارد مصر المتيسرة في الوقت الحاضر ...
فنظرا إلى خطورة هذه الاعتراضات الموجهة إلى المشروع كان القرار الذي أصدر في مايو سنة 1921 بإيقاف العمل مبررا - فيما أرى - كل التبرير.
ولا أظن أن استئناف العمل يكون من الأمور الممكنة أو المستحسنة، اللهم إلا بعد أن يعاد النظر في الحالة بدقة وعناية.
وجاء في الباب السابع من هذا التقرير تحت عنوان «أعمال الاستثمار الأخرى» بالصفحتين 29 و30:
والذي يلاحظ لأول وهلة أن الآراء في هذا الصدد متشعبة أيما تشعب، ولكن الاتجاه العام لما تلقيناه من المقترحات والآراء يشير - كما هو منتظر - إلى اتفاق عظيم على أظهر ما تفتقر إليه البلد في الوقت الحاضر وهو: (1)
تحسين الصرف. (2)
زيادة المياه الصيفية. (3)
التوسع في استصلاح الأراضي البور وفاء بمطالب السكان المتزايدة بسرعة. والظاهر أن التحسين المطلوب للصرف هو على ثلاثة أضرب:
أولا:
تحسين المصارف الحالية.
ثانيا:
تجديد وسائل الصرف في الجهات الخالية منها الآن. وهذا ينحصر بوجه عام في تمديد بعض المصارف الحالية أو إنشاء مصارف فرعية.
على أن تدبير المزيد من المياه الصيفية عمل باهظ الكلفة بطبيعة الحال، ولئن كنت أميل شخصيا إلى اعتباره في المنزلة الأولى من الأهمية والاستعجال، فإن هناك من الصعوبات المالية وغيرها ما قد يحتم تأجيل الأعمال اللازمة لهذا الغرض زمنا معينا يمكن في أثنائه تخصيص كل ما يتيسر من الأموال لتحسين الصرف.
وجاء بالصفحة 41:
والواقع أن هذا البرنامج (البرنامج المبسوط في كتاب ضبط النيل) قد وجد بعيد المطمح فادح النفقة، فتقرر إيقاف العمل به. والظاهر أنه لا مفر من الاعتراف بأنه بحالته الأصلية خليق بالإهمال نهائيا، وأنه لا بد من الاستعاضة به ببرنامج معدل يرمي إلى مباشرة العمل اللازم على مراحل متتابعة وبنسب محتملة.
ثم تكلم عن أعمال الصرف اللازمة في الوجهين القبلي والبحري.
رأت الوزارة أن تأخذ بنظرية المستر ديبوي في إنشاء الخزان الواطي لا الخزان العالي، كما كان يرى ذلك السير مردوخ ماكدونالد.
وعلى ذلك فالتكاليف يجب أن تكون تكاليف الخزان الواطي.
وقد قدر الخزان وفق هذا المنسوب أن تكون سعته 3000 مليون متر مكعب عند جبل الأولياء، وأن هذا المقدار من الماء يصل إلى خزان أسوان أقل من ذلك بحيث يفقد بالتبخر في الطريق تسعمائة مليون متر مكعب، وبذلك يصبح الرصيد الصافي فقط مليارين ومائة مليون متر مكعب عند أسوان، وهذا الصافي الذي فرض أن ينتفع به القطر المصري في التوسع الزراعي.
إمكان تعلية الخزان
وقد جعلت وزارة الأشغال المشروع على قاعدة أن يسمح تصميمه في المستقبل بتعليته، وبذلك وضع أسس خزان الأولياء بكيفية فنية تكفل إجراء التعلية في المستقبل ليسع حوالي 17 مليارا من الأمتار المكعبة.
نفقات الخزان
اقتصرت وزارة الأشغال في مذكرتها المرفوعة إلى مجلس الوزراء بتاريخ 3 يناير سنة 1932 على تقدير نفقات الخزان ذاته بمبلغ أربعة ملايين ونصف المليون من الجنيهات المصرية، يدخل ضمنها ثلاثة أرباع المليون تدفعها الحكومة المصرية إلى حكومة السودان تعويضا عن الأراضي التي يحتمل أن تغمرها مياه خزان الأولياء، وكذا عن أضرار القرى.
مزايا المشروع الحالي
ذكرت وزارة الأشغال أن هذا الخزان سيوفر للقطر المصري حوالي مليارين للانتفاع صيفيا، وأن هذا الخزان في الوقت نفسه له فائدة أخرى هامة، وهي منع خطر الفيضانات العالية ودفع أذاها عن القطر المصري.
وإن لخزان أسوان مزية واحدة فقط، وهي تخزين كمية محددة من المياه تنتفع بها مصر صيفيا.
قدرت وزارة الأشغال بمذكرتها المؤرخة 3 يناير سنة 1932 تكاليف هذا الخزان الواطي بمبلغ 4500000ج.م.
وقد كانت وزارة الأشغال قدرت هذه التكاليف نفسها بمذكرتها المؤرخة 7 يناير سنة 1929 بمبلغ 3500000ج.م (تراجع الصفحة 40 من مذكرة وزارة الأشغال المطبوعة سنة 1932 التي وزعت على أعضاء مجلس النواب سنة 1932).
كان السير مردوخ ماكدونالد يقدر تكاليف الخزان العالي سنة 1920 بمبلغ 2500000ج.م.
ويقدر السير مردوخ ماكدونالد قيمة التعويضات عن التلف الذي يحصل من جراء إنشاء الخزان العالي بمبلغ 300000ج.م.
تقرير شفيق باشا لمجلس الوزراء سنة 1921
وقد جاء في تقرير محمد شفيق باشا وزير الأشغال يومئذ إلى رئيس مجلس الوزراء (ننقل عن هذا التقرير المحرر باللغة الفرنسية معربا الفقرات الآتية):
في مايو سنة 1914 عرضت وزارة الأشغال على مجلس الوزراء بناء خزان جبل الأولياء على النيل الأبيض، واقترحت أن يتم في ثلاث سنوات، وأن تكون تكاليفه كما يأتي:
200000ج.م في السنة الأولى، و400000ج.م في السنة الثانية، و400000ج.م في السنة الثالثة؛ أي تكون تكاليفه كلها مليونا من الجنيهات ...
وفي سنة 1916 أعيد البحث في مشروع خزان جبل الأولياء، وأدرج له اعتماد في سنة 1917 مقداره 8000ج.م لأعمال تحضيرية، ضم إليه اعتماد إضافي أثناء السنة بمبلغ 12000ج.م.
وفي سنة 1918 عندما تغير تقدير قيمة مصاريف الخزان بالمشروع المعدل الذي قدر له مبلغ 1700000ج.م أدرج له مبلغ 74300ج.م.
وفي فبراير سنة 1919 أدرج له مبلغ 100000ج.م، وعدلت التكاليف إلى 2200000ج.م.
وسعة الخزان أربعة مليارات تصبح ثلاثة في أسوان.
ولما كان من شأن إنشاء خزاني سنار وجبل الأولياء إنقاص منسوب الفيضان من 20 سنتيمترا إلى 1,20 متر، فينتج من ذلك أن مياه الفيضان ستتأخر خمسة عشر يوما في الوجه البحري، فإذا لم تعد قناطر الدلتا لتعويض ذلك، فإن الضرر الذي ينتج عن تأخر الفيضان هذا لا يمكن تلافيه. وتتأثر بتأخير ونقص ارتفاع ماء النيل في الفيضان السواحل والجزر.
ومما جاء بهذا التقرير:
يجب الانتفاع بخزان جبل الأولياء إذا ما أنشئ مع خزان سنار، ولمنع الضرر الناتج من انخفاض مستوى الفيضان وتأخره: (أ)
إنشاء قناطر نجع حمادي. (ب)
التغيير الجزئي أو الكلي لقناطر إسنا وأسيوط والدلتا. (ج)
توسيع بعض ترع الوجه القبلي وتغير منظماتها
Regulation . (د)
وضع طلمبات في البلاد المحرومة من الفيضان لمناطق أسوان، وعمل مشروعات ضرورية في الوجهين القبلي والبحري. وهذه الأعمال لا تتكلف أقل من ثمانية ملايين جنيه، فيكون المجموع 12000000ج.م.
فإذا لم تنفذ المشروعات المشار إليها
4
فإن إنشاء خزان جبل الأولياء يسبب لمصر أخطارا أثناء الفيضان وإن زاد في كمية المياه الصيفية.
ومن المحقق أن الضرر يكون أكثر من النفع الذي ينتج عن هذه الزيادة من الماء الصيفي، وفي بعض السنين سنرى مضطرين لعدم استعمال مياه خزان جبل الأولياء للقضاء على الشراقي، وذلك إذا لم تنفذ الأعمال المشار إليها قبلا.
إذا تم الخزانان أثناء فيضان سنة 1926 فسينزل مستوى الماء ما بين 20 سنتيمترا ومترا و20 سنتيمترا، وهذا الانخفاض يظهر أثره في زيادة الأطيان التي تتخلف شراقي؛ ولذلك يجب أن تتم المشروعات الأخرى مع تمام الخزانين.
مصاريف إنشاء خزان جبل الأولياء وما يستلزمه تقدر باثني عشر مليون جنيه.
إذا ما صرف مبلغ 12000000 جنيه حتى سنة 1926 يكون لمصر في أسوان مقدار ثلاثة مليارات متر مكعب من الماء. ولكن لم يعمل شيء للانتفاع بهذا المقدار من الماء إذا ما وجد؛ ولذلك فوزارة الأشغال تحتاج إلى اثني عشر مليونا أخرى لإمكان الانتفاع بذلك. ا.ه.
ولقد وافق السير مردوخ ماكدونالد مستشار وزارة الأشغال على هذا التقرير في 30 أبريل سنة 1921.
بناء على هذا التقرير أصدر مجلس الوزراء في 25 مايو سنة 1921 قراره:
بما أنه يتضح من مذكرة مرفوعة من وزارة الأشغال العمومية أن إتمام خزان جبل الأولياء وتنفيذ ما يلحق به من مشروعات الري اللازم عملها لمصر يقتضي من المال مبلغ 12000000 جنيه.
وبما أن الأحوال المالية الحاضرة لا تمكن الحكومة من تدبير مبلغ طائل كهذا المبلغ إلا إذا التجأت إلى الاقتراض، الأمر الذي لا نرغب فيه الآن.
وبما أنه سواء فيما يختص بخزان جبل الأولياء أو بخزان مكوار وترعة الجزيرة لا يستطيع مجلس الوزراء أن يصدر قرارا حاسما بشأن هذه الأعمال قبل الوقوف على نتيجة المفاوضات المزمع إجراؤها بين مصر وبريطانيا العظمى.
لهذه الأسباب فمجلس الوزراء يقرر: (1)
إيقاف الأعمال الجارية في جبل الأولياء مع المحافظة على ما تم فيها حتى الآن. (2)
يرى إيقاف أعمال خزان مكوار وترعة الجزيرة، غير أنه إذا رأت حكومة السودان مواصلة هذه الأعمال على مسئوليتها الخاصة فليكن من المعلوم: (أ)
أن هذه الأعمال لا يجوز الانتفاع بها لري أكثر من 200000 فدان حسب الاتفاق السابق في هذا الشأن. (ب)
أن الحكومة المصرية تحفظ لنفسها الحق في تقدير ما تراه إزاء هذه الأعمال، وقرارها هذا يتوقف على نتيجة المفاوضات. ا.ه.
وقد أشار المهندس إبراهيم زكي على الحكومة بصفحة 92 من تقريره المؤرخ مايو سنة 1922 (نسخة عربية) حيث قال: «إن خير طريقة لمعالجة مسألة إنشاء هذا الخزان توجيه الاهتمام كله إلى تصميمه بشكل يكون أضيق نطاقا وأقل كلفة.» بناء على مقترحات مستر ديبوى في تجهيز مشروع جديد مصغر بمعرفة مستر روبرتس مفتش عموم ري السودان على حسب آراء مستر ديبوي.
ثم جاءت وزارة المغفور له سعد باشا زغلول الأولى في سنة 1924 فوقفت المشروع ثانيا للأسباب السابقة، ولما جاءت وزارة زيور باشا في سنتي 1925 و1926 تجددت فكرة تنفيذ مشروع جبل الأولياء، وفعلا أعيد العمل ثانيا في تجهيز رسومات المشروع لكي ينفذ فورا، ورفعت مذكرة لمجلس الوزراء بطلب فتح الاعتمادات اللازمة للعمل، ووافق عليها مجلس الوزراء وطلب فعلا من المقاولين زيارة محل الخزان.
ولكن عندما عاد البرلمان وجاءت معه الوزارة الائتلافية لدولة عدلي يكن باشا في صيف سنة 1926 قررت وقف العمل ثانيا، ووافق البرلمان على ذلك، وعلى أن يبحث مشروع تعلية خزان أسوان بحثا فنيا جديا؛ لأن هذا البحث لم يحصل قبل ذلك بالرغم من أن معالي محمد شفيق باشا عندما وقف العمل أولا أمر بعمل هذه المباحث، ولكن للأسف بعد خروجه لم تعمل وزارة الأشغال شيئا مما كان قد أمر به.
وسرعان ما ألفت وزارة الأشغال في عهد عثمان محرم باشا وزير وزير الأشغال المكاتب الفنية اللازمة لإتمام هذه المباحث، حتى يتسنى للحكومة دعوة لجنة فنية دولية للبحث والمفاضلة بين مشروع تعلية خزان أسوان ومشروع جبل الأولياء. •••
في 3 يناير سنة 1932 تقدمت وزارة الأشغال المصرية إلى مجلس الوزراء بمذكرة توصي بإنشاء سد وخزان عند التل المعروف بجبل أولياء على النيل الأبيض، على مسافة 45 كيلو مترا تقريبا قبلي مدينة الخرطوم، وذكرت أن خزان جبل أولياء إنما ينشأ لغرضين رئيسيين هما:
أولا:
وقاية البلاد من خطر الفيضانات العليا.
ثانيا:
القيام بأعمال التخزين الكبرى حتى يمكن سد العجز الناشئ عن قلة المياه مدة الصيف.
أساس المشروع الحالي أن يقام خزان بالبناء على النيل الأبيض، قبلي مدينة الخرطوم بنحو أربعين كيلو مترا، وهو مصمم في الوقت الحاضر على قاعدة أن يحجز المياه إلى منسوب 377 مترا و20 سنتيمترا فوق سطح البحر، علما (بأن ماء النيل الأبيض في منطقة جبل الأولياء يرتفع في زمن الفيضان إلى حوالي 377 مترا).
أعضاء البعثة في رحلتهم.
عطاءات مشروع خزان جبل الأولياء
أذاعت وزارة الأشغال البيان التالي في سنة 1932 للعطاءات المبينة بعد:
الاسم
أسمنت إنكليزي (جنيه مصري)
أسمنت مصري (جنيه مصري)
مستر ج. جيبسون
2078086
2089116
الخواجات بلفور وبيتي وشركاهم ليمتد
2514805
2499194
االخواجات بولنج وشركاهم ليمتد
2074581
2085193
سير إيفان جونز بارت وعبود باشا ليمتد
2328435
2348535
هذه الإجماليات هي التي أعطيت بواسطة المقاولين في عطاءاتهم. على أن العطاءات تعدلت في بعض الأحيان تعديلا كبيرا تحت اشتراطات خاصة وتحفظات قامت وزارة الأشغال الآن بدرسها، وعلى ذلك لا يمكن أن يعتد بالإجماليات المذكورة عند عمل المقارنة في الوقت الحاضر، كما أن مفردات الأثمان كانت أيضا محلا للفحص والمراجعة. •••
ولم يقطع برأي في أمر هذه العطاءات قبل الوقوف على التفصيلات وبحثها ومقارنتها بالشروط التي وضعتها الحكومة كقاعدة لتنفيذ المشروع والتعاقد على مقتضى ذلك، ولكن هذه الأرقام الإجمالية تعد على الجملة بيانا للمفردات وصورة مصغرة لحقيقة التفاصيل والأرقام الواردة في المناقصات، وقد يبدو لأول وهلة أن عطاء الخواجات بولنج وشركاهم هو أقل العطاءات؛ فهم يطلبون2074581 جنيها مصريا في حالة استخدام الأسمنت الإنجليزي و2085193 جنيها مصريا في حالة استخدام الأسمنت المصري، ويلي بولنج العطاء المقدم من المستر ج. جيبسون البالغ 2078086 جنيها مصريا في حالة استخدام الأسمنت المصري، والعطاء الثالث من محلات السير إيفان جونز وعبود باشا ليمتد ويبلغ 2328435 جنيها مصريا في حالة استعمال الأسمنت الإنجليزي، و2348535 في حالة استعمال الأسمنت المصري. والعطاء الرابع لمحلات الخواجات بلفور وبيتي وشركائهم بمبلغ 2514805 عن الأسمنت الإنجليزي، و2499194 عن الأسمنت المصري.
هذه العطاءات الأربعة مرتبة بحسب قيمتها، وعلى هذا يكون الأول بولنج والثاني جيبسون والثالث إيفان جونز بارت وعبود والرابع بلفور وبيتي وشركاهم، وقد كانت هناك نقط جوهرية محل البحث الدقيق؛ فإن بولنج صرح في خطابه الأول بعطائه أنه يرغب في مناقشة بشأن النقط الخاصة بالأسمنت المصري الواردة في المادة 49 من شروط العطاء، وفي سعر القطع، فقال إن حالة العملة غير موطدة؛ ولذلك يحتفظ بحرية الكلام فيها، وأضاف إلى ذلك رغبته في مناقشة المادة 48 من هذه الشروط، وهي الخاصة بتأمين الكراكات (هذه الكراكات ملك للحكومة، وقد نص في العطاء على التأمين عليها باسم الحكومة لا باسم المقاول). ولبولنج تحفظات أخرى فنية كانت من شأن لجنة العطاءات.
واحتفظ محل جيبسون بالمناقشة في شأن المهمات العوامة وتأمينها، وفي أمر الأسمنت المصري. وأهم من هذا أو ذاك ما دونه خاصا بالعملة المصرية وقوله إنه وضع أسعاره على اعتبار أن الجنيه المصري يبقى حافظا نسبته الحالية، ومعنى هذا أنه إذا انخفض سعر الجنيه فإنه لا يتقيد بالسعر الذي دونه. وهناك نقطة أخرى، وهي أن المقاول يقول في خطابه للوزارة إنه قدم العطاء باسمه، وفي حالة ما إذا رسا عليه فإن العمل سينفذ بواسطة شركة هو عضو فيها.
وضرب محل بلفور وبيتي على النغمة الخاصة بسعر القطع؛ فقد وضع تحفظا لذلك وطلب تحديد ما جاء بالشروط في المادة 70 خاصا بالعملة؛ لأن سعر القطع غير مستقر. ولكن يجب أن يوجه النظر إلى أن عطاء هذا المحل أعلى من جميع المتقدمين.
والثالث هو العطاء المقدم من محلات السير جونز، وقد لوحظ أن هذه الشركة لم تبد تحفظا في شأن العملة أو في شأن الأسمنت المصري أو فيما عدا ذلك، ومعنى هذا أنها سارت في حدود شروط العطاء.
وقد رسا العطاء على مستر جيبسون وقام بتنفيذ المقاولة.
مستعمرة خزان جبل الأولياء
تبعد مستعمرة خزان جبل الأولياء 45 كيلو مترا عن مدينة الخرطوم، وترتفع عن سطح البحر بعلو 66 مترا، وهي منطقة متقلبة الأجواء لدرجة أنه لا يستطيع الإنسان أن يحكم على جو يومه حكما صحيحا؛ فبينما يكون الجو معتدلا إذا به ينقلب فجأة إلى حر لا يطاق، أو هواء مشبع بالرمال كالهبوب يعقبه مطر غزير، وقد أعدت مصلحة الري سيارات لنقل الموظفين من الخرطوم إلى منطقة الجبل. والمستعمرة هي مدينة صغيرة منظمة ذات شوارع رملية، وقد قسمت إلى أقسام مختلفة: قسم لمنازل المهندس المقيم ومساعده ومديري الأعمال والمهندسين الإنجليز، والقسم الثاني خاص بالموظفين ذوي الأسر، وقد بني على طراز «البلوك»، وكل دار مقسمة إلى شطرين لساكنين، ويحتوي الشطر على حجرة للاستقبال وأخرى للنوم وثالثة للمائدة، وخلفها دورة المياه والمطبخ وغرفة الخادم، وفي الحمام حوض بحنفية وبانيو للاستحمام يعلوه الدوش، والقسم الثالث يشمل مساكن الموظفين المنفردين، وهي بلوكات منقسمة كالسابقة، وفي كل مسكن ثلاث غرف لسكن ثلاثة موظفين من العزاب، وحجرة للطعام، ومن ورائها بيوت الخدم والمطابخ ومكان زير المياه، ودورة المياه ملاصقة لحجرة الطعام، ويحيط بكل بلوك سور من السلك يفصله عن الآخر، وفضاء من الأرض ليكون حديقة، والقسم الرابع لسكن المستخدمين باليومية، وهي مساكن متلاصقة لا حدائق حولها، وقد أعد كل مسكن منها لإيواء ثمانية من المستخدمين. والأثاث المعد للمنازل كله أبيض اللون، وفي غرف النوم أسرة خشبية ودواليب للمتزوجين والرؤساء، وهناك لافومانو وبوريه فوقه مرآة، ومنضدة وكرسي لوضع الحقائب عليه، وكرسي أسيوطي من الخشب الأبيض فوقه غطاء من التيل السميك. وقد أثثت حجرة الاستقبال بعد أن استقر الموظفون في مساكنهم نهائيا. وفي حجرة الطعام مائدة وبوفيه ودولاب لأدوات المائدة، وهي مجهزة لكل موظف بما يتفق مع درجته. ولكل قسم من البلوكات خادم خاص يتولى النظافة والطبخ لجماعة من الموظفين، أما بيوت الشركة فهي في غاية التنسيق والترفيه، وهي مكونة من بيتين للموظفين الدائمين وبيت لموظفي الشركة المؤقتين. وهناك بيت خاص بحكومة السودان. أما منزل المستر جيبسون المقاول فهو بديع وبسيط. وفي المستعمرة وابور لتوليد النور لإضاءتها، وقد أعد حوض ضخم فوق الجبل للمياه تتصل به مواسير لتغذية المساكن، وهي بارزة فوق الأرض تجعل الماء ساخنا في أثناء النهار، وأنشئ مخزن للبريد ومخازن أودعت بها كل حاجة المنازل وأثاثاتها وأدوات المكتب، وبني مكتب الحكومة على جبل مرتفع يطل من الغرب على النيل الأبيض، ومن الشرق على الجبال، ومن الجنوب على مكتب الشركة الذي بني على شاطئ النيل الأبيض غاية في التنسيق والفخامة. أما الجهة الشمالية فعليها الطريق المؤدي إلى المستعمرة وإلى مكتب الشركة، ووضعت المهمات التمهيدية للبدء في أعمال الخزان في المنطقة الواقعة بين مكتبي الحكومة والشركة حيث يقام الخزان، ومدت على الشاطئ سكة حديد يسير عليها قطار صغير لنقل الأحجار والمهمات، ولا يسمح لأشخاص بركوبها، وللحكومة سيارات خاصة هناك لنقل الموظفين من الخرطوم ولقضاء حاجيات الموظفين، وقد أنشئ الكنتين. وهناك سيارات عمومية للأجرة تتقاضى عن الشخص خمسة قروش في الذهاب أو الأوبة. أما السيارات الخاصة فتتقاضى من 60 إلى 70 قرشا، على أن لا يزيد ركابها على أربعة أشخاص، أما الحالة المعيشية فموادها الأولية رخيصة، والكماليات من فاكهة وحلوى وسجائر ومشروبات ومشروبات روحية وروائح عطرية وبترول وثلج وبعض أصناف الخضر كالطماطم، أسعارها مرتفعة جدا، ويكاد الجبن يكون أغلى ثمنا من اللحوم! ولا يتيسر الحصول عليه في بعض الأحيان. والملبس والأحذية رخيصة، والأدوات الطبية غالية، والفخار مرتفع الثمن. وقد شيد مستشفى للمستعمرة مفتوح الآن ويديره طبيبان إنجليزيان وآخران مصري وسوري، وبدئ العمل رسميا في الخزان في شهر ديسمبر سنة 1932.
خزان جبل الأولياء والفيضانات العالية
قال المهندس كامل بخاتي بك: «إن الاعتراض الوحيد القائم على استعمال جبل أولياء لمنع الفيضانات العالية كما هو الآن ينحصر فيما يأتي:
أولا:
أنه لا يمكن الحجز عليه في فيضان مثل فيضان سنة 1878 حينما يبلغ مقاسه 377,20 عند الخزان.
ثانيا:
أنه لو فرض أننا رفعنا الحجز إلى منسوب الطريق لما أمكن أن يدوم ذلك أكثر من بضعة أيام، وعلى ذلك يتجدد الخطر من الفيضان. وقد راجعت منسوب الطريق فوجدته 378 بدلا من 378,20 كما فرضت قبلا.
وقد قرأت على صفحات الجرائد في سنة 1934 أن الوزارة بعد عدة جلسات قررت تحديد مبلغ أربعة ملايين من الجنيهات للصرف على تقوية جسور النيل في مدة عشرين سنة. وما حدا بها إلى هذه الاحتياطات إلا ما كتبته في صدد الدورة الزمانية للفيضانات.
وتقدير هذا المبلغ يعد خطأ فنيا؛ لأنه يمكن تجنب هذا الصرف بتعلية خزان جبل أولياء، فبدلا من أن أصرف أربعة ملايين جنيه أصرف في سنة 1936 وسنة 1937 على التوالي أربعمائة ألف جنيه ونصف مليون على الخزان، فيكون المجموع تسعمائة ألف جنيه.
بل يمكنني أن أصرف سنة 1936 مائتي ألف جنيه وأعطي المقاول مائة ألف جنيه، على أن يتم الخزان التعلية في سنة 1936، فيكون مجموع المبلغ المصروف ثمانمائة ألف جنيه بدلا من أربعة ملايين جنيه.
والآن آتي على ذكر مناورات القفل والفتح في خزان جبل أولياء لكي تؤثر في الفيضانات العالية.
ولكي أكون واضحا في التعبير أذكر ما حدث في السنة الماضية بالضبط «1934»؛ فقد كان مقياس الروصيرص يوم 19 أغسطس سنة 1934 على 21,55؛ أي إن الفيضان كان سيجيء عاليا كما تنبأت بذلك في السنة الماضية، وكما صرح حضرة صاحب العزة حسين بك سري أخيرا.
وقد بلغ أعلى منسوب النهر في الروصيرص في سنة 1934 في يومي 24 أغسطس و25 منه 22,04، وبلغ في جبل أولياء يومي 2 سبتمبر و3 منه 736,17، وكان في الثمانيات يوم 3 سبتمبر 16,36، وكان قبل ذلك بيوم واحد 16,35.
فما الذي أفهمه من هذه الزيادات؟
أولا:
أن زيادة النيل الأزرق في الروصيرص التي تصل إلى الخرطوم في ثلاثة أيام لا تصل إلى جبل أولياء إلا في تسعة أيام.
ثانيا:
أن هذه الزيادة بنفسها لا تصل إلى النيل العمومي في مقياس الثمانيات إلا في تسعة أيام.
فما معنى هذا؟
أن هذه الزيادات في فيضانات النيل الأزرق يتأخر وصولها لوجود عامل عظيم. فما هو هذا العامل؟
هو دخول مياه النيل الأزرق عند زيادته في النيل الأبيض، فتقلل من تصرفاته ويتأخر وصول زيادته إلى النيل الأصلي في الثمانيات.
تبلغ هذه الفترة ستة أيام، وتبلغ المسافة التي يدخل فيها أربعمائة كيلو متر على أكثر تقدير. وحيث إن نيل سنة 1934 تأخر تأثيره في الثمانيات ستة أيام، فقد تأخر في نيل سنة 1878 تسعة أيام.
فلماذا هذا التأخير؟ وهل توجد عوامل تسبب ذلك؟ وهل هذه العوامل ستزول في المستقبل نظرا للإنشاءات الجديدة التي نقيمها على مجرى النيل في تلك البقاع مثل خزان جبل أولياء؟
والجواب على ذلك صريح، وهو أن خزان جبل أولياء عند استعماله في الفياضانات العالية سيغير من وصول الذروة العليا للفياضانات العالية، فيقدمها ستة أيام عن ميعادها.
ولنضرب لذلك مثلا بمقاييس النيل في سنة 1934 مع مراعاة أن الزيادة في الروصيرص تصل إلى جبل أولياء والثمانيات بعد ثلاثة أيام. والمقاييس مؤرخة بتاريخ وصول المياه إلى النقطتين المقصودتين.
التاريخ
الروصيرص
جبل أولياء
الثمانيات على النيل
24 أغسطس
22,00
25
22,04
26
21,48
27
21,22
28
20,48
16,19
29
20,66
20,61
16,22
30
20,73
20,68
16,26
31
20,02
20,76
16,28
1 سبتمبر
20,78
16,33
2
20,85
16,35
3
20,85
16,36
فيرى من هذه الملاحظة أنه إذا أقفل خزان جبل أولياء عند بلوغ فيضان النيل الأزرق في الروصيرص درجة مخيفة، أفضى إقفاله إلى ارتفاع في مجرى النيل في الثمانيات قبل الميعاد بخمسة أيام أو ستة.
وهنا لا بد من الملاحظة الآتية؛ وهي: هل تكون خشم القربة في المستقبل العامل الوحيد في الذروة العليا للفياضانات كما يقول بذلك رجال الري أم لا؟ •••
أثبتنا أن مياه الروصيرص تأخذ زيادتها للوصول إلى جبل أولياء ستة أيام، وكذا إلى الثمانيات حيث مقياس النيل العمومي بحري الخرطوم. وهذا ما جرى فعلا في سنة 1934 حيث بلغ مقياس جبل أولياء 376,17 مع أن هذا الخزان مصمم على أن يحجز أمامه على منسوب 377,20 أي بفرق 1,03 متر، ومن المعلوم أن فيضان السنة الماضية كان دون فيضان سنة 1878.
ولكن المهندس في حساباته يلزم أن يتحاشى أكبر الأضرار؛ أي يلزم أن يتبع في تصميماته فيضان سنة 1878. وهذا هو المبدأ الذي تسير عليه مصلحة الري إلى الآن في ترميم جسور النيل يجعلها عالية عن منسوب هذه السنة مترا كاملا، مع أنه لم يجئ فيضان عال مثله من تلك السنة، وهذا يعد إحدى نقط فخر الفن في مصر لترقب أعلى فيضان حتى ولو مضى عليه زمان طويل، حيث جاءت طائفة من المهندسين لم تره، ومع ذلك فهم حاسبون حسابه.
قلنا إنه إذا جاء الفيضان مماثلا لسنة 1878 فإن الحجز على مستوى الطريق المنسوب 378,00 لا يمنع غوائل الفيضان غير خمسة أيام أو ستة.
ولكن الحالة ستتغير بعد إنشاء خزان جبل الأولياء بحالته الراهنة.
لأن ذروة الفيضان في الروصيرص إن كانت موعدا لإقفال خزان جبل أولياء ستقدم وصول فيضانه إلى النيل الأصلي ستة أيام، وبالتالي سيقدمها إلى خشم القربة ستة أيام أخرى، وبذلك تجتمع الذروتان في ميعاد واحد تقريبا، وهنا يجب تحليل هذه المفاجآت لمعرفة مداها في النيل، حيث إن خزان جبل أولياء يكون مقفلا.
هذا الإقفال يلزم أن يكون شهرا على الأقل، وحيث إن تصرف النيل الأبيض سنة 1934 عند بلوغه الذروة العليا كان 150 مليونا في اليوم، ففي مدة شهر يكون مقدار ما يخزنه هو 150 في 30 يساوي 4500 مليون. وعلى هذا الحساب الذي لا تدخل فيه عوامل التبخر والتشرب يكون منسوب المياه بعد مضي شهر هو كالآتي:
الخزان الحالي:
377,20 المنسوب 1410 كيلو مترات مربعة، المسطح المغمور 1,600 مليار استيعاب.
الخزان المقترح:
379,30 المنسوب 2750 كيلو مترا مربعا، المسطح المغمور 5,600 مليارات استيعاب.
فالفرق بين الاثنين هو أربعة مليارات، وهذا ما يجيء في خلال شهر تقريبا من النيل الأبيض مدة الفيضان، وحيث إن سطح الخزان الحالي هو على منسوب 378,00، فالأصوب تعليته إلى منسوب 379,20؛ أي بفرق متر وعشرين سنتيمترا، فإذا جاء نيل عال وخيف على مصر منه حجزت المياه حتى تصل إلى منسوب 379,20، وهذا لا يهدد سلامة سد الخزان؛ لأنه سبق لمصر أن حجزت على خزان أسوان إلى منسوب الطريق.
وهذا التغيير يقتضي:
أولا:
تعلية البناء الحالي.
ثانيا:
مد السدود الترابية من الجانبين.
ثالثا:
تقوية البوابات الحديدية وتعلية بوابات الهويس.
رابعا:
بعض التمحك في مصاريف التعويض لاتساع حوض الفرق.
أما الأول والثاني، فمصاريفها قليلة؛ حيث إن مكعب البناء الزائد لا يتعدى اثني عشر ألف متر، فمن باب أولى يكون مد السدود قليل النفقات، ولكن بمنسوب 380,000. أما البوابات الحديد فيمكنها أن تقاوم زيادة الضغط بدون تقويتها، غير أن بوابات الهويس يلزم تعليتها، وهذا لا يكلف المصلحة كثيرا.
أما التعويض فمن السهل الاتفاق عليه؛ حيث إن هذه المياه لا تلبث أن تنحسر عن الأرض بعد بلوغها الذروة العليا؛ لأنها لا تخزن للانتفاع بها في الري، بل لدرء غوائل الفيضان فقط. فصرفها يكون في الزمن الذي يقذف النيل بمائه في البحر الأبيض المتوسط. فالتعويض في هذه الحالة لا يمكن أن يكون على أساس مشابه لتعويض ما يخزن من الماء لاستعماله في الري؛ لا سيما أن علو المياه وصرفها مباشرة سيكشف أرضا مساحتها 233400 فدان ارتوت ريا حوضيا ويمكن زرعها والاستفادة منها. فأمر التعويض في هذه الحالة من الأمور التي يسهل حلها لمصلحة الجانبين.
بداية المشروع إلى تنفيذه
بدئ في المشروع في أول سنة 1914، ولكن الحرب العالمية في السنة نفسها قد وقفت المشروع ثم أعيد سنة 1920، وقررت وزارة عدلي يكن باشا سنة 1921 وقفه، ثم جددته وزارة زيور باشا سنة 1925، ووقفته وزارة عدلي باشا الائتلافية سنة 1926، وعادت وزارة محمد محمود باشا إليه سنة 1929 عند وضع اتفاقية النيل المعروفة. على أن هذا لم ينفذ لاستقالة الوزارة، وقد خلفتها وزارة عدلي باشا في أكتوبر سنة 1929 حتى نهاية سنة 1929، وكانت وزارة انتقال، ثم الوزارة النحاسية الثانية وكانت ضد المشروع طبقا لقرار الوفد المصري؛ حيث وضع مذكرة فنية وسياسية في بيان مضار المشروع.
وقد وصل عبد القوي أحمد بك في نوفمبر سنة 1932، وينص العقد على أن ينتهي العمل كله ويسلم الخزان للحكومة في يوليو سنة 1937.
نفقات المشروع
بلغ ما أنفق على المشروع منذ البدء في تصميمه والبحث فيه والبدء بتنفيذه بإنشاء مساكن للعمال ومكاتب للموظفين، نحو مليون جنيه قبل البداية الأخيرة؛ أي بين سنتي 1914 و1932. من هذا مبلغ مائة ألف جنيه أنفقت في إنشاء مستعمرة - مساكن العمال والموظفين ومكاتب للعمل - وفي تموين المخازن بالحديد والخشب والأدوات اللازمة. وقد فسد الكثير من ذلك بسبب القرضة - وهي دوبية تأكل الخشب - وبسبب صدأ الحديد.
قررت الوزارة الصدقية سنة 1932 المشروع بموافقة البرلمان المنحل، وسافر حضرة صاحب العزة عبد القوي أحمد بك إلى الخرطوم لإعداد المستعمرة، ولمفاوضة الحكومة السودانية في بعض التفاصيل الخاصة بالتعويضات التي تعطى للأهالي الذين سيغمر ماء الخزان بيوتهم، وبالمستشفى، وبالخط الحديدي الذي ينشأ بين جبل السليتات، وهو الجبل الذي تقتطع أحجاره الجرانيتية وتستعمل في بناء الخزان، وبين موقع الخزان.
ويقع جبل السليتات شمالي الخرطوم وعلى مسافة 20 كيلو مترا منها، ومن سفح الجبل حتى موقع الأحجار المقتطعة مسافة ثمانية كيلو مترات. ويقع جبل الأولياء جنوبي الخرطوم على مسافة 45 كيلو مترا، فالمسافة بين السليتات والخزان 83 كيلو مترا.
المقاول الأصلي والمقاول الفرعي
تقدمت جملة شركات إنجليزية شهيرة؛ ومنها شركة عبود باشا، في المناقصة، وكان أقل عطاء هو لشركة جيبسون، وقد أعطيت لها المقاولة بمبلغ 2098116، ودخل المقاول الإيطالي المعروف بالإسكندرية مسيو دنتمارو وشريكه بركلي مع شركة جيبسون مقاولا من الباطن لتوريد رؤساء العمال والعمال.
بداية العمل ونهايته
بدئ العمل في الخزان في أكتوبر سنة 1933، ووضع أول حجر في بنائه في 30 نوفمبر سنة 1933، ولم يحتفل بذلك رسميا بسبب الظروف التي كانت عندئذ، ووصل عبد القوي أحمد بك في نوفمبر سنة 1932، وينص العقد على أن ينتهي العمل كله ويسلم الخزان للحكومة في يوليو سنة 1937.
ولكن ينتظر أن ينتهي العمل قبل الموعد بستة شهور تقريبا.
إشراف المهندس المقيم
للمهندس المقيم الحق في طرد أي مقاول من الباطن بسبب فساد العمل أو سوء الإدارة أو أي منافاة لنصوص العقد.
وينص العقد على أن المقاول مسئول عن العمال ومساكنهم وطعامهم والنظام بينهم، وللمهندس المقيم أن يتحقق من توافر ذلك.
وننشر فيما يلي المذكرة التالية.
الكميات التقديرية للمواد:
مباني الدبش المقدرة للسد 278440 مترا مكعبا.
الحجر المنحوت المقدر للسد 20011 مترا مكعبا.
الخرسانة المقدرة للسد 125675 مترا مكعبا.
الستائر الحديدية المقدرة للسد 8000 طن.
الأحجار الرملية للتكسيات 178551 مترا مكعبا.
كمية الأسمنت المصري 80000 طن.
مكعب الردم 295000 متر مكعب.
مجمل مكعبات البناء 897677 مترا مكعبا؛ أي نحو ثلث حجم الهرم الأكبر، وقدره 2784000 متر مكعب.
منسوب التخزين منسوب 377,20.
وإذا علا بلغ مستواه منسوب 380,00.
منسوب أقصى الفيضان سنة 1878 منسوب 377,50.
معدل أدنى منسوب في الصيف منسوب 370,75.
طول الخزان في تمام الملء 314 كيلو مترا.
أقصى اتساع في تمام الملء 7250 مترا.
أقل اتساع للخزان في تمام الملء 2000 متر.
متوسط اتساع الخزان في تمام الملء 4200 متر.
المساحة التقريبية المغمورة في تمام ملء الخزان 1318 كم
2 ، وقدرها 314000 فدان تقريبا.
كمية المياه المخزونة في كل ملء 3100 مليون م
3 .
كمية المياه الفاقدة بالتبخر والشرب وفي الطريق 900 مليون م
2 .
كمية المياه التي تصل أسوان 2200 مليون م
3 .
تاريخ الملء من النصف الأول من يوليو إلى أواسط أغسطس المنسوب 376,50، ومن أواسط سبتمبر إلى أواسط أكتوبر إلى منسوب 377,20.
تاريخ التفريغ أواخر يناير.
كمية المساحة التي تنتفع بالمياه المخزونة في خزان جبل الأولياء 550000 فدان.
كمية العمل اليومي مع ملاحظة أن العمال لا يشتغلون جميعا يوميا.
ويشتغل في السد بناءون عددهم 340 مصريا، ومن العمال 1600 صعيدي و2570 سودانيا.
وفي محاجر السليتات نحاتون: 92 مصريا و77 طليانيا و6 يونانيين و25 سودانيا. وعمال: 675 صعيديا و266 سودانيا لقطع الأحجار.
الإنتاج اليومي حوالي 1000م مكعب؛ أي ما يقرب من 2000 جنيه يوميا في البناء فقط، خلاف الخرسانة والستائر الحديدية.
وقد تركت للمقاول الحرية في اختيار العمال، ما دام مسئولا عن التنفيذ وجودة العمل والإدارة. ولم يشترط على المقاول غير شرط واحد، وهو عدم استخدام الأحباش؛ لأنهم لا يتفقون مع العمال المصريين في حلة واحدة. والحلة هي منطقة مساكن.
يقدم المهندس المقيم تقريرا شهريا إلى المهندس الاستشاري بلندن للحكومة المصرية «مستر فون لي»، ويرسل صورة للوزارة، والمهندس المقيم خاضع لإشراف المهندس الاستشاري.
وقد قدم المهندس المقيم تقريره الأخير عن يناير، وبمقتضى هذا التقرير كان عدد العمال 6400، وقد وصل العدد في أبريل ومايو الماضيين إلى 8000؛ وهم بين بنائين وفعلة، منهم 3400 سوداني و3000 مصري. فأما البناءون فهم جميعا مصريون، ويقوم السودانيون بالأعمال الوقتية، ويتناول العامل السوداني أجرا يوميا قدره أربعة قروش، والمصري ثمانية قروش. والعمال المصريون على الأغلب من مديريتي أسوان وقنا، وأقلهم من أسيوط. وهناك أعمال بالمقطوعية، فيشتد جهد عمال الصعيد فيستطيع كل منهم أن يأخذ أجرا يوميا قدره 12 قرشا.
وفي العام الماضي أضرب خمسون صعيديا عن العمل. أتدرون لماذا أضربوا؟
أضربوا لأنهم كلفوا بنقل حجارة صغيرة، وطالبوا بأن ينقلوا الحجارة الكبيرة؛ لأنهم يحتقرون حمل الحجارة الصغيرة قائلين: لسنا صغارا حتى نكلف بنقل الدقشوم!
توجه المضربون إلى المهندس المقيم عبد القوي أحمد بك وبسطوا له شكايتهم، فأعجب بأنفتهم، وهزه كبرياؤهم، وسرته شجاعتهم، وطيب خاطرهم قائلا: اليوم انقلوا الدقشوم وغدا الحجارة الكبيرة. فعادوا إلى العمل.
الحالة الصحية
بلغ عدد العيادات الخارجية في مستشفى الخزان 14000 في شهر يناير، وبالمستشفى للعيادة الداخلية 150 سريرا. وأجرة سرير الدرجة الأولى 70 قرشا، والثانية 30 قرشا، والثالثة عشرة قروش، وتتولى الحكومة الإنفاق على مستشفى الخزان، ولكنها تأخذ أجرة العلاج من المقاول.
وقد انتشرت في العام الماضي «1934» الحمى المخية الشوكية ومات بها سبعون عاملا سودانيا، ولم يمت بها أحد من العمال المصريين، وقد ظهرت هذه الحمى الآن في كسلا وكردفان. والسبب في وقاية المصريين منها طاعتهم للإرشادات الصحية؛ كالرش والنوم في داخل المنازل. ومفتش القسم الطبي بالمستشفى إنجليزي، وهو مستر كلارك، وطبيباه هما الدكتوران يوسف سلامة وشيحة. ولما كان لا بد من إشراف فني على المستشفى وكانت مصلحة الصحة المصرية بعيدة عن هذا الإشراف، فقد وضع تحت إشراف المصلحة الطبية بالخرطوم.
حالة يجب علاجها
ومن الأسف أن الحكومة لم تضع شروطا في عقد المقاولة لحماية العمال واحترام حقوقهم ووسائل استحقاقهم؛ فهم يجندون في إسنا وقنا والدر وغيرها، يجمعهم مقاولون من الباطن ويرسلونهم إلى السودان، وقد يكون بينهم الضعيف والمريض، ويكشف عليهم طبيا في حلفا لمدة 21 يوما. وكثيرا ما يضللهم صغار المقاولين المحليين فيمنونهم بالوعود وبالأجر الكثير، أو يعقدون معهم شروطا مكتوبة، حتى إذا وصلوا الخرطوم وجدوا الوعود أحلاما، ولم يكن المقاول الأصلي مرتبطا بها، فيرضخون لعقود قاسية في الخرطوم. والعادة أن يعطى العامل المريض نصف أجرة. وثلث العمال مصاب بالبلهارسيا.
خطأ آخر
وقد أخطأت الحكومة خطأ آخر؛ ذلك أنها لم تنص في شروط المناقصة وعقود المقاولة على ضرورة استخدام مهندسين مصريين في أعمال الخزان لحساب الشركة، ولهذا فائدة مزدوجة؛ الأولى: أن يدخل إلى جيوب مصرية جزء من الملايين التي تدفع للمقاولين الأوروبيين. الثانية: أن يتمرن الشباب المصري في أعمال بناء الخزانات، فنستطيع أن يكون لدينا مهندسون أكفاء لبناء خزاناتنا وتنفيذ مشروعاتنا. إن الطريقة الحالية تجعل من المستحيل أن يكون لنا مهندسون مصريون يضطلعون بعبء الخزانات ونحوها. وجميع مهندسي وزارة الأشغال لا ينهضون بأي مشروع من مشروعاتها، ودائما تعول على الأجانب.
وفضلا عن ذلك فإن الوزارة ترسل بعثات مهندسين للتمرن في الورش، فلماذا لم ترسل مهندسين يتمرنون في بناء الخزان وهو خير وسيلة للتمرين؟!
محاضرة المهندس المقيم
عند وصول أعضاء البعثة ومن معهم إلى مكتب حضرة صاحب العزة عبد القوي أحمد بك المهندس المقيم، عرض حضرته أنموذجا برنزيا لمشروع الخزان، وطفق يلقي محاضرة عن المشروع، ثم أجاب على أسئلتنا، ثم توجهنا مع حضرته ومع حضرات مساعديه ومع المقاول جيبسون والمقاول دنتمارو والمهندس المستشار «المستر فون لي» إلى الخزان، وشهدنا الأعمال الجارية فيه، وأعجبنا بجهود العمال. وقد هتفوا بنداءات مختلفة: ليحي العدل، ليحي النحاس باشا، ليحي الوفد المصري، ليحي عبد القوي بك ، ليحي الدكتور محجوب ثابت، لتحي مصر، لتحي البعثة المصرية. وكانت زيارتنا يوم ابتهاج للعمال.
تكلم عبد القوي بك عن بداية العمل وتكلم عن انتهائه فقال: ينتهي العمل في يوليو سنة 1937، ولكني أقدر إنجازه قبل هذا التاريخ، وضرب الأمثلة على الأمتار المكعبة التي تمت قبل الموعد.
ثم تكلم عن التعويضات، فقال: إن بين مصر والسودان اتفاقا على التعويضات التي تعطى لسكان منطقة الخزان، وفي عهد اللورد لويد كان الرقم المقدر ثلاثة ملايين ونصف المليون سنة 1926، فرفضت مصر دفع المبلغ، وفي عهد وزارة محمد محمود باشا أمكن الاتفاق على تحديدها بمبلغ 750 ألف جنيه، دفعت لحكومة السودان بمجرد الموافقة الأخيرة سنة 1932 على المشروع، وتقع الأراضي المعرضة لماء الخزان قبلي منطقة السد. وقد كانت التعويضات المقدرة سنة 1914 مائة ألف جنيه فقط، ولكنها زادت بسبب غلاء الأجور وإنشاء المساكن ... إلخ. •••
وسيكون ملء الخزان تدريجيا على مدى ست سنوات، فيرفع الماء خلف الخزان نصف متر، وينظر في أثره في السنة الثانية، ثم يرفع إلى متر.
ومن المتفق عليه بين مصر وإنجلترا عدم جواز ري أراضي السودان بماء الخزان، وعدم إعطاء رخص للأفراد بسحب هذا الماء؛ لأن هذا الخزان وقف على مصر وحدها.
ملاحظة المؤلف على هذا الشرط
وقد علمت أن هناك رخصا لآلات الري قد أعطيت لأفراد على النيل الأبيض، وأن من الممكن لأصحابها الانتفاع بماء خزان جبل الأولياء. ومن جهة أخرى فمن الممكن لسكان المنطقة التي تقع قبلي أي خزان سحب الماء بترع ومساق وآلات رافعة. •••
ثم قال عبد القوي بك: ماء النيل قسمان: مباح ومحرم؛ فالمباح هو ما زاد على حاجة مصر والسودان، حاجة خزاناتهما، فيجوز للأهالي الاستفادة منه. والمحرم هو الوقت الذي تملأ فيه الخزانات، فيحرم على السودانيين في هذا الوقت - وهو وقت الفيضان - أخذ شيء.
وقد كفلت الاتفاقية المائية سنة 1929 منع حصول أي ري في وقت التحريم.
وعدد عيون الخزان 60، عمل منها عشر تمت فعلا، وعشر أوشكت أن تتم. ويوجد تحت الهويس - المخصص لدخول المراكب كما في القناطر الخيرية - نفق، وهو أطول هويس على النيل، وعمق النفق 16 مترا، ويصل النفق بين طرفين، والناظر من أعلى إلى النفق يرى العمق كبيرا ومظلما كأنه بئر، وله سلم من حديد، وعرض كل عين من عيون الخزان 3 أمتار، وطولها أربعة أمتار ونصف، وبين الستين عينا عشر عيون مقفلة؛ أي عيون لن تستعمل وستبقى أبوابها مغلقة. وأما العيون المصمتة فهي التي تنشأ بغير أبواب؛ لأنه يراد منها حجز الماء فقط دون تصريفه. وسفح العين منحدر بمقدار عشرة سنتيمترات كل متر. وكان من الممكن استعمال انحدار الماء وتدفقه من العيون في توليد قوة كهربائية للإنارة، كما في خزان سنار، ولكن الظاهر أنه ليس من حاجة لهذه الإنارة؛ فعند خزان سنار تقوم مدينة. أما عند خزان جبل الأولياء فلا يوجد سوى مساكن العمال والموظفين المؤقتة.
ويسير خط حديدي بين جبل السليتات ومنطقة الخزان، ويحمل أحجار الجرانيت التي يبنى بها الخزان.
محور الخزان؛ أول عمل فني في بناء الخزان هو إيجاد محور الخزن، فاتخذ موقعان مرتفعان متقابلان، وهما نقطتان تعينتا بحيث إذا أوصل بينهما بخط يكون وضع الخزان مستقيما.
وهناك «سكة هوائية»، وهي خطوط حديدية تمد في الهواء بين مكان مرتفع وموقع منخفض، حيث تنقل المواد بينهما في صناديق حديدية، كالأحجار ونحوها، وتتحرك هذه الصناديق بقوة الكهرباء عند الدفع، ويساعدها الهواء في الوسط. وقد رأينا ما يماثلها عند السلوم؛ إذ تحمل هذه الصناديق البضائع من ميناء السلوم إلى جبل السلوم، حيث يوجد معسكر الجيش المصري.
ولا يعتمد الخزان على عرض النهر وحده، بل إن امتداده مستمر على الأرض، وقد امتد الخزان إلى ثلاثة كيلو مترات أخرى إلى الغرب، بعد أن بلغ امتداده على عرض النيل والشاطئ الشرقي كيلو مترين.
وكان أول بدء للأعمال التمهيدية للخزان هو إلقاء الأحجار العادية والأتربة في مجرى النهر عند موقع الخزان، حتى إذا تكونت مساحة كبيرة في عرض البحر، جرت عملية البناء.
وهناك حائط فقري طوله 350 ألف متر، وينزح الماء داخل السد بحفر الصخر الذي على جانبي النهر، فإذا كان الصخر غير سليم؛ أي به طبقة مرنة قابلة لمرور الماء، استمر الحفر حتى يوصل إلى الصخر السليم، وقد يدعو ذلك إلى الحفر حتى ثمانية أمتار.
وقد وضعت أحواض لحبس الأسماك ومنعها من الاجتماع في عيون الخزان.
ويترك العمل من 17 يوليو إلى 20 أكتوبر، وقد جرى العمل حتى حوالي منتصف يوليو الماضي، والسبب في هذا التعطيل وجود الأمطار.
وسيصل إلى مصر من ماء الخزان ملياران من الأمتار تكفي لزراعة 550 ألف فدان، ومعنى ذلك أن الخزان لن يسد حاجة مصر في ري ما قد بقي من الأراضي القابلة للزراعة والتي لم تزرع بعد؛ فلا بد من إنشاء خزانات في منطقة السدود عند بحيرة ألبرت، وقناة بعيدة عن السدود، بل لا بد من أن تبحث مصر عن الماء وخزنه في مناطق أخرى كبحر الغزال؛ لأنه ينزل من الماء نحو 500 مليار مكعب - حسب تقرير المهندسين المطلعين - لا ينتفع منها النيل الأبيض إلا بعشرين مترا مكعبا في الثانية.
وقال عبد القوي بك ردا على سؤال وجهته إليه: لم تحصل أي شكوى في صدد طريقة تنفيذ المقاول العقد وبناء الخزان، فإننا نتابع العمل يوميا، ونرسل إلى المهندس المستشار مستر فون لي، الذي يقضي بيننا أربعة أسابيع، تقريرا شهريا. •••
وبعد أن شهدنا الأعمال الجارية وحركة العمال المصريين والسودانيين، وأتعبنا الصعود على الصخور والسقالات، عدنا إلى سرادق صغير حيث تناولنا المرطبات واسترحنا، ثم توجهنا إلى مكتب المهندس المقيم حيث تناولنا طعام الغذاء.
وقد أعجب الأعضاء بهمة حضرات المهندسين، وعلى رأسهم عبد القوي أحمد بك، وبغيرة العمال، الذين يعملون بجد ونشاط ويقومون بأشق الأعمال.
كلمة بهي الدين بركات بك
وقد دون الحاضرون أسماءهم في دفتر خاص بمكتب المهندس المقيم، وألقى حضرة صاحب العزة محمد بهي الدين بركات بك وزير المعارف سابقا كلمة قال فيها إنه مغتبط الاغتباط كله بما سمعه بعد وصوله إلى الخرطوم عن حضرة صاحب العزة عبد القوي أحمد بك المهندس المقيم في خزان جبل الأولياء، فقد رفع من سمعة الموظف المصري الأمين، كفاءة ودقة وإخلاصا للواجب، وأصبح يتمتع بمكانة طيبة بين ولاة الأمور هنا.
بهي الدين بركات بك.
ثم قال: لقد كنت والمرحوم والدي - فتح الله بركات باشا - من أشد المعارضين لسياسة إنشاء خزان جبل الأولياء، وما زلت مقتنعا برأيي ولم أحد عنه؛ لأنه رأي جاء بعد بحث وإمعان في وجوه النظر كلها، ولكنني أصرح هنا أن الأعمال الهندسية الجارية الآن - في ذاتها ومجردة عن سياسة الحكومات واختلاف الآراء فيها - تشهد لحضرات المهندسين بالبراعة، وتشهد للمهندس المقيم - عبد القوي بك - بحسن الإشراف والإدارة، فضلا عما تحلى به حضرته من خلق رضي وعاطفة كريمة نحو هؤلاء العمال الذين سهر على صحتهم وراحتهم ، فأحبوه وهتفوا باسمه.
قناطر تسينايا في الإريتريا على نهر القاش. (3-4) حفلة شاي السيد الميرغني
عند منتصف الساعة الخامسة بعد الظهر أقام حضرة صاحب الفضيلة السير السيد علي الميرغني - السابق نشر ترجمته - حفلة شاي تكريما للبعثة، حضرها بعض خلفاء السادة الميرغنية، وقد ألقى حضرة فؤاد أباظة بك كلمة شكر داعيا فضيلته لزيارة المعرض المصري في العام القادم، حيث تقابل زيارته بالابتهاج، ودعا فضيلته حضرة الدكتور محجوب ثابت، واصفا إياه «بأنه شخص نتجاذبه جميعا - نحن وأنتم ...» «ضحك». (3-5) حفلة سمر بالنادي المصري
أقام النادي المصري بالخرطوم حفلة سمر شهدنا فيها سينما عرضت فيها مناظر عن سيد الوحوش وقبائل نوبية من الزنوج العراة نساء ورجالا، ورأينا صفوفهم المتراصة ورقصهم، ثم رأينا حيوانات حديقة الحيوانات بالخرطوم، وقد حضر الحفلة أعضاء البعثة وحضرات صاحب الفضيلة قاضي قضاة السودان، وصاحب الفضيلة نائب قاضي قضاة السودان، وصاحب الفضيلة شيخ العلماء ونيافة الأب القمص يوحنا سلامة وكيل مطرانية الخرطوم، وحضرة الأستاذ رياض نصري رئيس المكتبة القبطية، وحضرات الأعضاء ومجلس إدارتها وهيئة لجنة خريجي مدارس السودان بالخرطوم، ورئيس نادي خريجي مدارس السودان بأم درمان، ورئيس النادي السوري بالخرطوم، والشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير الحضارة، والشيخ عبد الرحمن أحمد رئيس تحرير جريدة السودان.
الوجيه عبد المنعم محمد التاجر الشهير بالسودان.
إبراهيم عامر بك التاجر الشهير بمصر والسودان.
وحضرات التجار: جناب الخواجات كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية وتادرس عبد المسيح وهنري جيد وجورج مورهج ونقولا ماتكساه وتوتنجي وألفرد كافوري وحضرة سليمان أفندي منديل ومحمد أفندي راجي والشيخ محمد مدني يحيى وعبد المنعم أفندي محمد وإبراهيم عامر بك والشيخ محمود القوصي والشيخ محمد أحمد البرير.
ومن كبار الضباط: القائمقام حسين بك طاهر والبكباشي محمد أفندي جمعة وحضرة مأمور الخرطوم.
ومن كبار ضباط المعاشات: القائمقام أبو زيد بك مرجان والبكباشي حسن زكي.
ومن كبار رجال الري بجبل أولياء: أصحاب العزة عبد القوي بك أحمد وزكريا بك محمد وعبد الشهيد بك داود وإبراهيم بك زكي.
الوجيه السيد محمود مصطفى الجمال التاجر بمصر ودمياط - عضو البعثة.
الوجيه عبد الرحمن نوفل التاجر بالإسكندرية - عضو البعثة.
وحضرات أعضاء مجلس إدارة النادي المصري: الدكتور محمد أمين الرئيس، وحضرات فاخوري أفندي عبد الشهيد نائب الرئيس، وأحمد أفندي أحمد القاضي السكرتير، وعبد المعطي أفندي أبو العينين أمين الصندوق.
وحضرات الأعضاء المحترمين: أحمد فهيم ومحمد حواس وأحمد أفندي زيدان وأحمد أفندي نعيم نجاتي وميخائيل أفندي عبد الملك ومحمد أفندي طلعت ويوسف أفندي علي دياب وعباس أفندي شوقي ومحمد أفندي علي بشير.
أما حضرات أعضاء النادي الذين اشتركوا في التكريم فيبلغ عددهم حوالي مائة عضو من مختلف طبقات المصريين بالخرطوم.
تاريخ النادي المصري
أسس النادي المصري بالخرطوم سنة 1904 موظفو الحربية الملكيون وموظفو حكومة السودان المصريون.
وكان أول رئيس للنادي هو المرحوم محمد بك زيدان، ورئيس النادي الحالي هو حضرة الدكتور محمد أمين وكيل تفتيش الري المصري بالخرطوم.
ولغاية سنة 1924 كان بالنادي حوالي 300 عضو، وكانت الاشتراكات الشهرية في السنوات السابقة لهذا التاريخ تتراوح ما بين 40 و60 جنيها مصريا، حيث كان عدد الموظفين الموجودين في الخرطوم الملكيين حوالي 900 موظف من الحربية وحكومة السودان. وفي سنة 1932 بلغ عدد المصريين الموظفين في جميع أنحاء السودان800، وفي سنة 1934 نقصوا إلى 750، وفي سنة 1935 صاروا 720. وكانوا قبل ذلك حوالي 1500. وبعد سنة 1934 تقهقر النادي حتى صار مشتركوه لا يزيدون على الثلاثين، وبعد سنة 1931 نزل هذا العدد إلى 20، وفي آخر سنة 1933 عملت دعاية قوية للنهوض بالنادي لحفظ كيان قومية المصريين فصار المشتركون الآن حوالي 120؛ وذلك بسبب انضمام كثير من موظفي الري المصري. لكن متوسط المشتركين المواظبين على دفع اشتراكاتهم الآن لا يزيد في كل شهور السنة على 60. وبتطور الزمن أصبح النادي القديم بعد عمران الخرطوم لا يليق بالمصريين كهيئة محترمة تريد أن تحافظ على كيانها وحسن سمعتها في وسط الهيئات الأخري، وذلك بحكم قدم مباني النادي القديم، حيث أصبحت كل الجاليات لها أندية وافية جدا. فبحكم هذه الظروف ومحافظة على كرامة مصر انتقل النادي لمكانه الحالي ابتداء من 8 فبراير سنة 1935، وقد خاطر أعضاء النادي بزيادة النفقات لضرورة المحافظة على سمعتهم.
كل الجاليات أصبح لها الآن أندية ملكا خاصا بها، أما النادي المصري فداره مؤجرة وتتكلف شهريا حوالي 20 جنيها، مع أن متوسط الاشتراكات في طول السنة لا يزيد على ستة جنيهات مصرية شهريا. فمن أين للنادي أن يسد عجزه إلا بعمل رواية سنويا وبتبرعات الأعضاء، مع أن أغلبيتهم موظفون أكثرهم بماهية شهرية أقل من العشرين جنيها.
يطلب النادي أحد شيئين: (أ)
إعانة سنوية من الحكومة قدرها 200 جنيه. ونظن أن مركز النادي المصري في السودان الذي هو رمز قومية مصر يستدعي اهتمام الحكومة بهذه الإعانة السنوية لحفظ مركز أبنائها في السودان في نظر الأجانب. وللحكومة سوابق في ذلك؛ فالنادي المصري في لندن استولى على إعانة سنوية قدرها ألف جنيه. (ب)
أو منح الحكومة النادي حوالي ألف جنيه هبة لشراء قطعة أرض حوالي ألفي متر لتبني للنادي دارا لائقة، وليتمكن من إيجاد محل متسع للألعاب الرياضية.
على أن من الممكن جمع التبرعات من حضرات كبار الأعيان، ويكفي أن يعلم الكل أن النادي المصري بالخرطوم يحتوي على صفوة أبناء مصر بالسودان وأكبرهم مركزا به. وغرض النادي هو التعارف والتآلف بين المصريين، والسعي لترقية شئونهم الأخلاقية والأدبية، ولتشجيع الألعاب الرياضية به وتشريف سمعة مصر. ويكفي أنه المحل الوحيد هنا الآن الذي يجعل العلم المصري بجوار الري المصري، ففي هدمه تنكيس للعلم، وفي بنائه رفع وإعلاء له.
هذه هي الملاحظات التي يتقدم بها سكرتير النادي ويرجو بإلحاح عرضها على الرأي العام في مصر، وهو واثق أن الحكومة والأمة لن يتأخر كل منهما عن تأدية واجبه لهذا النادي الذي هو بحكم وضعه في وطننا الثاني السودان أصبح رمزا على قوميتنا وعنوانا على كفاءتنا وكفى.
وسكرتير النادي يهيب بالحكومة والأمة أن تهتما بأمر هذا النادي خشية أن يأتي وقت يختفي فيه النادي من الخرطوم بحكم تناقص عدد المصريين وبحكم تناقص عدد الأعضاء وعدم مقدرتهم على سد نفقاته، بينما الجاليات الأخرى بحكم كيانها كرجال مال تزيد أنديتها تحسينا. وأظن زيادة الروابط الاقتصادية إن شاء الله تدعو لوجود ناد عظيم للمصريين. هذا هو نداء القاضي أفندي سكرتير النادي.
ونحن نضم صوتنا لحضرة أحمد القاضي أفندي ونرجو أن تمد الحكومة هذا النادي بإعانة. •••
وقد ألقى حضرة رئيس النادي كلمة ترحيب، وألقى فؤاد بك كلمة شكر، ثم أطربنا مطرب السودان المشهور الحاج «محمد أحمد سرور أفندي» بأغاني سودانية أعجب بها الحاضرون، وقال فؤاد بك: إن الدكتور محجوب بجواري يهزني مرددا صدى الأغاني في نفسه، فأطلب إليه أن يعبر لنا عن نشوته. فوقف الدكتور وصال وجال في الأغاني السودانية مؤكدا أنها كالأغاني الأندلسية ومادحا المطرب «سرور»، الذي جعلنا نقضي الليلة في سرور. (3-6) نموذج من أغاني السودان
5
التي أنشدها المطرب سرور
يا أنة المجروح
بالروح حياتك ... ... ... (روح الحب)
وفيك يا ليل
معنى الجمال مشروح
للحب زناد في الجوف
زي الزناد مقدوح
منه الجبابرة تلبي
صوت بلابل المدوح
وتصاحبه النسمات
تفضل معاها تدوح
من نغمة الأشواق
ومحاسن الممدوح •••
سورية في السودان
بي حبي ليك تبوح
يا عنب جناين الشام
أتمنى منك صبوح
وأنشد فؤادى اتصال
بين الرياض مذبوح
وأرى الهلال في ظلال
تلك الخميلة يلوح •••
الناس تحب رؤياك
بالخاطر المطروح
يا ملفت الأنظار
يا بسمة المقروح
وأنا أهدي لك الحب
حب من فؤاد مجروح
حب الشحيح للمال
حب الجبان للروح
من الوله للقاك
دمعي الغزير مسفوح
ناقم على الأيام
مع أن طبعي صفوح
أنا والخيال في جدال
وأنت بي بذاك مفضوح
كل ما النسيم يغشاك
زي الحديقة تفوح
أنا لو ضمنت رضاك
أكون سعيد ممنوح
يا من تسر رؤياك
تفرح تنسي النوح
تكسي النهار بجمال
خديك جمال وضوح
منه الغزالة تقف
في موقف المفضوح •••
ناير كحيل نعسان
إنسان رقيق وجموح
ساحر العيون بي جمال
في سواك ما ملموح
إن كان تميس بتميس
وإن كان تموح بتموح
عدل الطبيعة جعل
جور الحبيب مسموح
أغان سودانية أخرى
أفكر فيه وأتأمل
أراه أتجلى وأتجمل
هلالي الهل وأتكمل
تفاصيل قولي والمجمل
سأصبر يا أخي إيه أعمل
إذا قلب الفتى تحمل
مصائب الدهر وآلامه
أرى الصبر الجميل أجمل
ترك أفكارى تضلل
بعذره البيه يتعلل
فما شرع الهوى حلل
لقانا نهار ولا
في الليل إذا أليل
صريح قانون هواك خول
هلاكي وقلبي ما تحول
حقيقة وليس تتأول
صريع لحظات سيوف لحظك
وحالي إن شفت تتهول
تذكر عهدنا الأول
صحيح الأيام بتدول
قريب يوم داك ما طول
مضت أيام ويا حليلي
بقت أحلام وتتأول •••
أنا في بساتين الزهور
بين الترائب والنحور
أشرب معتقة الدهور
نداماي عصافير السحور
أنشدن بالصوت الجهور
يا شادي من كل البحور
قول للغريب تكفيك شهور
وطنك جنان والفيه حور •••
اسقينا يا باهي الجمال
وغنينا ياحادي الدلال
اروينا من ريقك ثمال
ودللنا في سوقك حلال •••
نوح يا حمام أذكى الشجون
هب يا نسيم ميل بالغصون
وأنا عندي ما شيء كالمجون
وغزل كنظم الدر مصون
صبحنا روضة معانا دن
وغزال مليح يا دوب شدن
حين غن دور والطير هدن
وين أنت من جنة عدن
أنا بين نديم بالعود تغن
وقلوب بعيدة عن الضغن
وكئوس صببناها ورغن
در أيها الرشأ الأغن
وهي للمرحوم الأستاذ خليل فرج، وهو على رأس المجددين في الأغاني السودانية.
يذبحون جملا لمناسبة زيارة البعثة لقصر السيد عبد الرحمن المهدي بجزيرة أبا.
سيارات أعضاء البعثة في مزارع القطن في الجزيرة.
في مسجد بأم درمان.
سوق سودانية فيها أعضاء البعثة. (4) اليوم الرابع - الخرطوم يوم الاثنين 11 فبراير (4-1) زيارات متنوعة
مدارس الأقباط بالخرطوم ونجابة تلاميذها ووجوب إعانتها
زار بعضنا في الصباح مزارع مسيو كونتو ميخالوس. •••
بالخرطوم جمعية خيرية قبطية يرأسها حضرة الأب المحترم القمص يوحنا سلامة وكيل الشريعة القبطية بالخرطوم وراعي الكنيسة الأرثوذكسية، ومدارس خيرية، وهي روضة للأطفال، ومدرسة ابتدائية، ومدرسة ثانوية، ومدرسة ابتدائية للبنات في دور متجاورة.
عند الساعة التاسعة من صباح اليوم زار أعضاء البعثة هذه المدارس فوقفت تلاميذها وتلميذاتها صفوفا. ويلاحظ أن بناء مدرسة البنات مجاور لدار مدارس البنين، ومنفصل عنها، وقد رفعت الأعلام المصرية، وهتف الجميع بحياة الأمير عمر طوسون وفؤاد أباظة بك والدكتور محجوب. ويتعلم نحو أربعين في المائة من التلاميذ مجانا، وتقبل المدارس المسلمين والأقباط والسودانيين، وبها 750 تلميذا وتلميذة، وقد أنشئت منذ 13 سنة، وهي المدارس المصرية النظامية الوحيدة في السودان التي تسير طبقا لبرنامج وزارة المعارف ونتائجها المصرية مائة في المائة، ويدخلها أبناء المصريين وبناتهم في السودان؛ لأن مدارس السودان للسودانيين، فسدت هذه المدارس حاجة المصريين، ومكنت البقية الباقية منهم من المعيشة في السودان والاطمئنان إلى تربية الأبناء، وهي رمز للقومية المصرية، وقد منحتها وزارة المعارف 400 جنيه بسعي فؤاد أباظة بك، وفي هذا العام منحتها 600 جنيه.
وقد اقترحت على الحاضرين مطالبة الوزارة بزيادة الإعانة إلى ألف جنيه، واعتماد مبلغ لإنشاء دار جديدة وإرسال لجنة من وزارة المعارف لامتحان تلاميذها في الخرطوم، كما تفعل الحكومة الفرنسية بإرسال اللجان من باريس لامتحان كلية المدارس الفرنسية بمصر؛ إذ يحتمل ولاة أمور الطلبة في الخرطوم - وأكثرهم فقراء - ما فوق الطاقة للسفر إلى أسوان أو سوهاج لحضور الامتحان والعودة منه.
ولولا التضحيات التي بذلها الموظفون الأقباط وبعض التجار لأغلقت أبواب هذه المدارس، التي تؤدي خدمة علمية وتشرف مصر حقا.
وكان يشرف على النظام حضرة نسيم سمعان أفندي ناظر المدرسة وهو مرب كفء، وعطلت المدارس اليوم احتفاء بزيارتنا.
وبعد استقبالنا ألقى ألفريد قديس أصغر الكشافين سنا تحية كشافة مدارس الأقباط، وألقى الطالب رمزي أبادير من السنة الرابعة الثانوية كلمة ترحيب، وخطب حضرة الأستاذ عبد الحميد إبراهيم أفندي مدرس اللغة العربية بالقسم الثانوي مرحبا، وتكلم عن مدارس الأقباط وعملها لأبناء المصريين في السودان؛ ومما قاله:
لا بد أن تكونوا قد علمتم الكثير عنها وعما تقوم به من الخدمة لأبناء المصريين «الذين يبلغ عددهم في هذا العام 750 تلميذا وتلميذة»، وعن النجاح الذي لازمها منذ أنشئت إلى الآن، بالرغم من العقبات التي اعترضت سبيلها، والصعاب التي حاولت أن تعوقها. وكانت فاتحة هذه العقبات تدبير المال للتأسيس والإنشاء، وخاتمتها تدبير المال أيضا للمحافظة عليها والتقدم بها إلى الكمال، وبينهما كثير من العقبات المالية وغير المالية.
أما تدبير المال للتأسيس وللمحافظة عليها في السنوات الماضية، فقد استطاعت أن توفق منه إلى الحد الذي أبقاها مرفوعة الرأس موفورة الكرامة، وكان الاعتماد في ذلك على الله. وعلى مساعدات فردية يجود بها ذوو الكرم من الموظفين والتجار والأعيان في السودان وفي مصر.
وما إن جاءت أعوام الأزمة المالية حتى شعرت أنها لا بد لها من سند مالي تعتمد عليه لتستمر في تأدية واجبها على الوجه الأكمل، ولم يكن أمامها إلا أن توجه رغبتها هذه إلى الحكومة المصرية، فإن لهؤلاء الطلبة المصريين حقا عليها لا يقل عن حق زملائهم في جهات القطر المصري.
ولقد حاولت مرارا أن تتصل بوزارة المعارف المصرية لهذا السبب فلم تفز بطائل، حتى هيأ الله تعالى لها فرصة سعيدة كانت فاتحة خير وبركة ومبدأ يسر ورخاء.
ذلك أن في مثل هذا الشهر من العام الماضي شرف هذه المعاهد بالزيارة حضرة صاحب العزة فؤاد بك أباظة، فما هو إلا أن سمع تلميحا لحظ منه حاجتها إلى مساعدة من مصر حتى بادر فأبدى ميله إلى السعي لدى ولاة الأمور لتنال نصيبها من إعانة وزارة المعارف.
وكان سعادته عند قوله، فمذ عاد إلى مصر لم يأل جهدا في السعي، وخيل إلينا أنه لم يكن مجرد سعي عادي، بل كان جهادا ضد كثير من الصعاب. وقد أبت همته العالية أن يعود إلى السودان في رحلتكم المباركة قبل أن يزف إلينا بشرى نجاح مسعاه. ولقد سمعنا من جناب الأب الموقر القمص يوحنا سلامة منشئ هذه المدارس ومديرها أنباء هذا الجهاد مشمولة بالتقدير والاعتراف بالجميل، سمعنا وسمع الناس جميعا هنا من جنابه آيات هذا التقدير والاعتراف بنبيل السعي منذ الساعة الأولى التي وصل منها بعد عودته من مصر في الشهر الماضي.
وذكر الخطيب أن المدارس سارت بخطى ثابتة، وبهدوء ورزانة نحو الأمام فأنشأت أول فرقة من فرق القسم الثانوي في بدء عهد الأزمة المالية سنة 1930، وأنشأت في العام المدرسي الحالي السنة الرابعة الثانوية من القسم العلمي، وسيتم بذلك في العام الدراسي المقبل قسمها الثانوي بإنشاء السنة الختامية إن شاء الله.
هذا، ومما يزيدكم ثقة بمدارسكم هذه أنها فازت بثقة ولاة الأمور هنا، وصارت موضع إعجابهم وثنائهم، وشجعوها بحسن تقديرهم، وشهدوا بأن العمل فيها عمل جدي خالص لوجه الله والعلم، بفضل الإخلاص الذي يتجلى في إدارتها، وبفضل ما عرف عن ناظرها من الغيرة على نجاح عمله، وما يبذله أساتذتها من جهد، وما يشعر به طلبتها من الواجب، وهم جميعا يعلمون أنهم إنما يؤدون واجبهم نحو مصر ونحو النشء المصري في هذه البلاد.
ولا شك أن السمعة الطيبة التي تتمتع بها هذه المدارس في السودان وفي مصر وصلتها الجديدة بوزارة المعارف العمومية وتشجيع المصريين لها بالعطف والتقدير وبالزيارة كلما تيسر ذلك وثقة أولي الأمر في السودان بها، كل هذه عوامل طيبة تزيد قدمها ثباتا، وتبعث دائما روح النشاط والجد في نفوس العاملين بها، وتدعوها إلى الأخذ بوسائل الرقي ما استطاعت.
ونوه بالشرف الذي نالته المدارس بزيارة سعادة بهي الدين بركات بك، وألقت تلميذات مدرسة البنات نشيد المدرسة.
وتكلم حضرة الأستاذ الشيخ محمد الخولي المدرس بمدرسة البنات مرحبا بعبارات رقيقة وختم كلامه قائلا:
إن رجال إدارة هذه المدارس، وعلى رأسهم جناب المدير المحنك القمص يوحنا سلامة، ومدرسيها ومدرساتها يتقدمهم حضرة الناظر المدرب وحضرة الناظرة المربية، بل تلاميذ وتلميذات تلك المدارس على مختلف أقسامهم ليسجلون لحضراتكم هذه الزيارة على صفحات قلوبهم بحروف من نور لا يمحوها كر العشي ومر الدهور.
وإن اغتباط الجميع بهذه الزيارة يجل عن الوصف، ويعجز دونه التعبير. حياكم الله وبياكم، ونفع البلاد بكم وبأمثالكم آمين.
وألقت الآنسة المهذبة زينب محمد الجارم كريمة فضيلة قاضي قضاة السودان تحية مدرسة البنات قصيدة عامرة الأبيات مطلعها:
بدت في سماء الفخر منا كواكب
وقد نشرت أعلامها والمذاهب
وألقت الآنسة إيفون قديس الطالبة بالسنة الرابعة بمدرسة البنات أبياتا رقيقة مطلعها:
سادتي باقتي إليكم تهدى
في احترام وعزة وخشوع
للقاكم جمعتها باعتناء
من بساتين عطفنا في الربيع
وقدمت الآنسة هدى محمد السيد بقسم الروضة أبياتا رقيقة لفؤاد أباظة بك.
عدد التلاميذ والتلميذات
وتدل إحصائية عدد تلاميذ المدارس وتلميذاتها بالنسبة لأديانهم على أن في قسم البنين 243 مسيحيا و165 مسلما و15 من غيرهم، وفي قسم البنات 180 مسيحية و120 مسلمة و20 من غيرهن.
فالجملة 423 مسيحيا و285 مسلما و35 غيرهم. والمجموع الكلي 743.
مزارع القطن في منطقة القاش. (4-2) عند الحاكم العام
في الساعة العاشرة من صباح اليوم استقبل سعادة سير جورج استيوارت سايمز الحاكم العام للسودان حضرات رشوان محفوظ باشا، وفؤاد أباظة بك، وعبد الحميد أباظة بك، وعبد الحميد فتحي بك، ويوسف نحاس بك، وألفونس جريس بك، وعطا عفيفي بك، والسيد عبد المجيد الرمالي، والأستاذ علي شكري خميس، حيث مكثوا في حضرته ثلث الساعة.
ثم قابلوا مدير التجارة والاقتصاد، وتناول طعام الغداء على مائدة سعادته حضرات رشوان محفوظ باشا، وفؤاد أباظة بك، والسيد عبد المجيد الرمالي، وألفونس جريس بك، وعطا عفيفي، وعبد الحميد فتحي بك.
وعند الساعة الرابعة والنصف تناول جميع أعضاء البعثة الشاي في حديقة سراي سعادته بالخرطوم، وكان معهم مدير مكتب سعادته وكبار موظفيه وحضرات: المستر جيلان السكرتير الإداري، والمستر بل السكرتير القضائي، والمستر رجمان، والجنرال بتلر القائد العام، والسير روبرت أشبيلد مدير المعمل الكيماوي، والمستر كولدري، والماجور فوكي مفتش مصلحة التجارة والاقتصاد، والتجار كفوري وتوتنجي، والشيخ محمد أحمد البرير، والشيخ سيد أحمد سوار الذهب، والشيخ أحمد حسن بك عبد المنعم، والمستر سندرس السكرتير الخصوصي، والبكباشي شارلتون ياور، والدكتور بريدي مدير المصلحة الطبية، والمستر بني مدير الأمن العام، وفضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي القضاة، وعبد القوي أحمد بك، ومصطفى أبو العلا أفندي، وعبد المنعم محمد أفندي، وآخرون. (4-3) تصريحات الحاكم العام
صرح سعادة الحاكم العام لحضرات مندوبي البعثة اليوم بما يلي:
أرجو أن تكونوا قد سررتم من زيارتكم ووقفتم على حالة البلاد، ولقد اكتنف رحلتكم حر شديد، واقتصرت زيارتكم على المناطق الزراعية والتجارية، ولكنكم لم تزوروا المناطق القاحلة غير الآهلة، وأرجو أن يكون من وراء هذه الزيارة خير للبلدين، وأن تنمو العلاقات الاقتصادية بينهما، لقد اجتهدنا في ترقية البلاد، وقد أنشأنا مدرسة كتشنر الطبية، وإذا كان عدد طلبتها قليلا فسيزيدون شيئا فشيئا، وليس في السودان كله من الموظفين الإنجليز الملكيين إلا 140 موظفا. وكثرة الوظائف في يد الوطنيين. (4-4) حفلة تجار أم درمان
أقام تجار أم درمان مأدبة عشاء في الساعة الثامنة والنصف من مساء اليوم «الاثنين 11 فبراير» بحديقة أنطونياديس بالخرطوم، حضرها أعضاء الغرفة التجارية بالخرطوم، وألقى حضرة مصطفى أبو العلا أفندي خطابا رحب به بالبعثة، وألقى فؤاد أباظة بك كلمة شكر، وترك الكلام لحضرات محمد عبد الرحيم سماحة والسيد عبد المجيد الرمالي والأستاذ شكري خميس فتحدثوا في العلاقات الاقتصادية بين مصر والسودان.
عشاء تجار أم درمان
أم درمان مركز من مراكز الخرطوم، وموقعها من الخرطوم يشبه موقع الجيزة من القاهرة، وقد أسس أم درمان محمد أحمد المهدي الكبير، وجعلها العاصمة بدلا من الخرطوم التي أنشأها محمد علي وجعلها عاصمة السودان حتى سقطت بين المهدية. ولكن لا تزال «أم درمان» هي العاصمة الحقيقية للسودان؛ ففيها التجارة والتجار، وعدد سكانها ثلاثة أضعاف سكان الخرطوم أو نحو ذلك، وليس للخرطوم أهمية سوى أن بها سراي الحاكم العام ودواوين الحكومة ومكاتب البنوك والشركات.
أقام حضرات تجار أم درمان حفلة عشاء بحديقة أنطونياديس بالخرطوم تكريما للبعثة المصرية، حضرها حضرات المشايخ والأفندية تجار أم درمان: الشيخ أحمد حسن عبد المنعم، إبراهيم بك عامر، سيد أحمد الذهب، محمد أحمد البرير، عثمان صالح، صديق عيسى، هنري جيد، عبد الحميد المهدي، مصطفى أبو العلا، عبد المنعم محمد، والقوصي بابكر الشفيع، صالح داود، حسين خليل، عبد المسيح تادرس، واصف سليمان، حسن أبو العلا، محمد أبو جبل، حسين محمد، حنين، سليمان حاج حسن، نديم جانجي، عبد المجيد عبد المنعم، الأمين عبد الرحمن، حسين تربال، أحمد عثمان القاضي، عبد الرحمن أحمد، نعمان الجارم قاضي القضاة، الدرديري محمد عثمان، ميرغني حمزة، محمد علي شوقي، محمد الشنقيطي، عبد العزيز القباني، أحمد البرير، عبد العال أبو رجيلة، حسن الظاهر، سليمان منديل، السيد عبد الفاضل، أحمد عبد الله، بابكر جعفر، أحمد خليفة، عبد الكريم محمد، ومن الأجانب حضرات: مسيو كونتو ميخالوس، مستر فول مدير اللجنة الاقتصادية، مدير البنك الأهلي، مستر برامبل مفتش أم درمان، تريس مستر مفتش الخرطوم بحري، مستر سمث مدير جلاتلي، مستر ريد، مستر كوكسين (هرالد ) مستر سركيس أزمرليان، رئيس المكتبة القبطية، رئيس النادي المصري، مستر اسبيرو، المستر جورج مورهج، قديس أفندي عبد السيد، الخواجة شكروغلو.
وقد ألقى السيد مصطفى أبو العلا الخطاب التالي، وألقاه نجله عبد السلام مصطفى أبو العلا مترجما بالإنجليزية. وآل أبو العلا من كبار تجار السودان نشأوا في إسنا وأقاموا في السودان شركاء للتجار عبد المنعم محمد ويونس أحمد وغيرهم، وشركتهم تصدر أكبر كمية من محاصيل السودان وتنافس التجار الأجانب.
كلمة السيد الرمالي
إخواني تجار أم درمان:
السلام عليكم ما جرى النيل في هذا الوادي يروي أرضنا ويشفي غلة نفوسنا بماء واحد، السلام عليكم يوم نسعى إليكم زائرين مجددين عهد الصداقة وصلة الجوار، ويوم تأتون إلينا حاملين بشرى رقي السودان ورفاهية إخواننا وأبناء عمومتنا السودانيين الأكرمين.
لقينا في هذا النصف الثاني من السودان من عواطفكم المخلصة وعنايتكم الصادقة ما تغلغل في صدورنا واستقر في قلوبنا؛ ذكريات تزول الجبال وتبقى وتكر القرون والأجيال وهي خالدة على الزمان لا تتضاءل ولا تبلى. لم ينس السوداني أخاه المصري، ولا نسي الأخ المصري شقيقه السوداني؛ هي صلة النيل الواحد وأواصر البلد الواحد وروابط الدم الواحد، صلة الجنس وأواصر اللغة كذلك أراد الله، وبذا حكمت الطبيعة. لقد ربطنا الله فلن يفرقنا إنسان، ووحدتنا الطبيعة فلن تفصم هذه العروة الوثقي يد إنسان.
في سعادتكم سعادتنا، وفي تقدمنا ورقينا فخركم ومجدكم، لهذا جئنا نعطيكم ما عندنا من مال ورجال ومتاجر، ولنأخذ من عندكم محاصيلكم وخيراتكم.
كلانا يكمل صاحبه، وما قصرت مصر يوما في القيام بواجبها نحو أختها السودان ولن تقصر.
ويقينا أنكم ستبادلوننا حبا بحب ومودة بمودة وتضحية بتضحية. لقد أخذنا منكم بضائع بمئات الألوف من الجنيهات، وستسعى بعثتنا لتوطيد الصلات التجارية والاقتصادية بين القطرين التوأمين أكثر مما هي عليه الآن، فلتكن مصر إذن قبلة أنظاركم في التجارة والزراعة والعلم والأدب والاقتصاد.
ها نحن نمد أيدينا لتهز يدكم المبسوطة هزة الوقار الدائم، فليكن كل منا خبيرا بأخيه وليدم هذا التعاون بيننا.
إن الآمال التى نعلقها نحن معشر التجار على هذه الرحلة عظيمة الفوائد، كما أن حسن الاستعداد الذي بدا ممن يهمهم الأمر في كل من البلدين، والاهتمام الذي قوبل به لتوثيق العلاقات الاقتصادية بين القطرين، يبشرنا بنجاح بعثتنا، ويدل دلالة صريحة على أن الله الذي خلق مصر والسودان بلدا واحدا قد كتب بيمينه القوية صفحة جديدة في تاريخ البلدين ستكون بإذن الله أمجد الصفحات.
خطبة الوجيه مصطفى أفندي أبو العلا
حضرات رئيس وأعضاء البعثة المصرية التجارية الزراعية المحترمة:
سادتي، إنها لمناسبة طيبة مباركة وفرصة مفيدة سانحة هذه التي أتاحت لي شرف المثول أمامكم لأشكر الله على سلامة وصولكم أيها الوافدون الكرام إلى الخرطوم عاصمة السودان.
إني بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن تجار أم درمان أرحب بقدومكم الميمون إلى هذه البلاد، على أنا كنا - كما لا يخالفكم - نرقب مثل هذه الزيارة من زمان بعيد كما كنا نقرأه في صحف من اهتمامكم الزائد بالسودان، وها نحن نرى أنه من محاسن الصدف أن وفقتم إلى القيام بهذه الرحلة في هذا الوقت المناسب لتعرفوا بأنفسكم أحوال البلاد الاقتصادية والزراعية والتجارية وما له مساس بمصالح بلادكم.
ويقيني أن هذه الزيارة ستكون بمثابة حجر الزاوية لتقوية هذه الروابط، ولا شيء أحب إلى نفوسنا نحن التجار أكثر من الحصول على التسهيلات اللازمة لإيجاد أسواق صالحة لاستهلاك محاصيلنا، وأياد نشطة خبيرة لحرث الصالح من أراضي بلادنا المتسعة المترامية الأطراف؛ فقط تجدون أن أسواقنا التي تستهلك كمية كبيرة من صادراتكم يغذيها تفاهمنا التجاري، كما أن كثيرا من أراضينا تحتاج إلى خبراء منكم ينتجون فيها ما تحتاجه بلادكم، ورائدكم النشيط فؤاد بك أباظة لا بد وأن يكون قد أبان لكم ما فيه الكفاية من هذه الناحية بعد جولته هنا ودعوته إليكم في الشتاء الماضي، وإننا مدينون له بجهده ورغبته الصادقة في أنحاء الصلات الاقتصادية بيننا، ومهما قلنا عنه فإننا لا يمكننا أن نفيه حقه من الثناء والتقدير، فهو من طرفكم والمستر كونتو ميخالوس من طرفنا بصفته رئيس الغرفة التجارية بالسودان قد عملا بشعور متبادل في إيقاظ الروح الاقتصادية، وقد تحقق ذلك بفضل سعيهما فتشرفنا بكم في هذه الليلة بعد أن طفتم كثيرا من أرجاء السودان وشاهدتم ما شاهدتم من خصب أرضها واتساع أسواقها وود أهلها، حتى صارت عندكم صورة حقيقية عنها، فلكم منا جزيل الشكر.
وإنه من حظ هذه البلاد أيها السادة أن سخر الله لها حاكمها العام السير سايمز في هذا الظرف الدقيق، فهو منذ وضع قدمه بها عامل في تنمية مرافقها المختلفة فأنتج هذا الاهتمام تحسينا محسوسا في حالة البلاد العمومية، وكلنا يذكر بمزيد الشكر والإعجاب التسهيلات القيمة التي تكرم بها معاليه ورجال حكومته، والتي كان من شأنها أن تم هذا الاجتماع الموقر الذي نرجو من ورائه خيرا للقطرين في القريب العاجل إن شاء الله.
وقبل أن أجلس أردد لكم ابتهاجنا برؤيتكم ووجودكم بيننا، وأؤكد لكم أنكم ستجدوننا عند حسن ظنكم بنا، والله الموفق فهو ولينا ونعم النصير.
الأعضاء أمام مصبغة إبراهيم عامر بك ببور سودان.
خطبة محمد عبد الرحيم سماحة
سادتي إخواني تجار أم درمان:
إن ما تنشده بعثتنا هو العمل على زيادة الروابط الاقتصادية بين بلادينا وقد بدأنا نتبين كل أمر يعود عليكم وعلينا بالخير والإسعاد، ولما كانت أم درمان هي العاصمة التجارية في السودان لذلك أرى نفسي سعيدا أن أتبادل معكم الرأي وأطلب منكم تسهيلا لما نقصده منكم من البحث، والوقوف على آرائكم الصائبة فيما ينفع البلدين .
سادتي، إن مصر سوق طبيعية لتجارة السودان، ولا ينكر ذلك أي إنسان، وقد نشطت تجارتكم مع مصر والفضل الكثير في ذلك لتجار أم درمان، وها هي إحصائية الجمارك تدل على أن مصر استوردت منكم ما يبلغ خمسا وتسعين في المائة من جميع صادرات السودان عدا القطن والصمغ. فصادرات الأذرة بلغت في المدة من يناير سنة 1934 إلى آخر نوفمبر سنة 1934 إلى مصر 87000 سبعة وثمانين ألف طن، ولجميع البلاد الأجنبية 2350 ألفين وثلاثمائة وخمسين طنا، والفول لمصر 5688 طنا، وللبلاد الأخرى 310 أطنان، والسمسم لمصر 8907 أطنان، ولبلاد أخرى 1200 طن، والمواشي 22000 رأس من البقر والغنم، وجميعها لمصر، كذا الشطة 550 طنا جميعها لمصر، كذا الفاصوليا 2000 طن جميعها لمصر، كذا حب البطيخ 4000 جميعه لمصر، كذا الإبل وعددها 14000 جميعها لمصر، كذا الجلود وصناعات مختلفة أغلبها لمصر. والقرض جميعه لمصر، وكذلك الحمص جميعه لمصر، حتى المسلي تصدر منكم إلى مصر بكميات وافرة. ومصر بلاد غنية بألبانها. أليس في ذلك أكبر برهان أو أظهر بيان!
إذن تعالوا إلى بيان صادراتنا لكم:
السكر والدخان والأسمنت والصابون ومانيفاتورة وبضائع مختلفة. أما السكر فأمره متوقف على اتفاق الحكومتين، ولم يكن استيراده منكم على الدوام، والأسمنت عشر الكمية لاستهلاككم، وتسعة أعشارها لخزان جبل الأولياء. المانيفاتورة كلها وردت إليكم من مصر، برسيم الترانسيت، وليس من صناعة مصر إلا قليل من المنسوجات. لذلك كله أسمح لنفسي أيها السادة أن أسائلكم ما هو السر في قلة الواردات لكم مصر؟ هل هذا راجع إليكم أنتم، أم إلى المضاربات التجارية من البلدان الأجنبية؟ لا أظن - والله - أن كل الأسباب ترجع إلى المضاربات الأجنبية، فلا زالت لدينا صناعات يجب عليكم أن تتكاتفوا على ترويجها في بلادكم.
فها هي منسوجات بنك مصر المختلفة تتوافق مع أذواقكم ومنسوجات أخرى؛ كالشرابات والفوط والفانيلات، وقد صنعت بما أنبتته أرض مصر، وحاكتها أياد مصرية. كذا الكبريت والأحذية والموبليات وكثير من الصناعات. أيضا الأرز المصري وهو ألذ وأشهى من غيره.
ولو فرضنا أيها السادة أن هناك بعض زيادات في الأسعار لا أتردد في أنكم قادرون على تذليلها حتى نتضافر جميعا على العمل على محوها أو تخفيفها؛ خصوصا وأن جودة المصنوعات المصرية تزيد في لبسها على فرق السعر، وليس عندي ريب في أننا - بفضل الله - سنصل قريبا إلى الغاية المنشودة، وهي زيادة الروابط التجارية.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أشيد بذكركم يا تجار أم درمان؛ فكم لكم على تجار مصر من أياد كرام! فأكثركم يتصل بتجارة مصر من زمن بعيد، ومنكم كثيرون افتتحوا لهم فروعا في القاهرة لجلب البضائع من مصر وبيع الحاصلات السودانية بها، وهؤلاء جميعا اكتسبوا في مصر ثقتنا وحازوا منا إعجابا لكفاءتهم التجارية، واتبعوا الصدق وحافظوا على العهد فكانوا رسلكم في التجارة أمناء أذكياء.
أيها السادة، أشكر لحضراتكم جميعا خالص الشكر على تفضلكم بتهيئة هذه الفرصة السعيدة للاجتماع بكم، وليس في مقدورنا أن نظهركم على ما نكنه من الحب وعظيم الامتنان، والله وحده - جلت قدرته - يتولاكم عنا خير الجزاء.
وانتهت الحفلة عند الساعة العاشرة، ثم حضر بعض الأعضاء حفلات زفاف وشهدوا الرقص السوداني على الدربكة. (4-5) في المكتبة القبطية
عند الساعة العاشرة والنصف من مساء اليوم أقامت المكتبة القبطية بالخرطوم حفلة سمر تكريما لأعضاء البعثة، وقد وزعت المرطبات على الأعضاء. والمكتبة هي ناد أسسه إخواننا الأقباط بالسودان، وسموه «مكتبة» لأن عند إنشائه كان اسم «ناد» مرادفا في السودان لاسم مكان للخمور والمقامرة.
وقد أنشئت المكتبة سنة 1907 ودارها ملك لها، وبها مكتبة ولها مجلس إدارة، ورئيسها المصري الغيور الأستاذ رياض مصري باشكاتب مصلحة الري المصري بالخرطوم. وألقيت الخطب المناسبة. والمكتبة مفتوحة للمسلمين والأقباط، ومحرم فيها الخمر والقمار والمناقشات الدينية، ومن خطباء حفلتها رئيسها، وعلي أفندي منصور المدرس بمدارس الأقباط بالخرطوم، وناشد ميخائيل أفندي بالمساحة السودانية. وألقى محمد الخولي أفندي قصيدة وأعضاء المكتبة.
وقد أنشئت مثلها هذا العام مكتبة قبطية بأم درمان.
القطار المخصوص لتنقلات البعثة. (5) اليوم الخامس - الثلاثاء 12 فبراير (5-1) زيارة مزارع عامر بك
توجهت مع لفيف من الأعضاء الساعة السابعة من صباح اليوم إلى مزارع حضرة الوجيه السيد إبراهيم عامر المولود في مصر، والذي اتخذ السودان مقاما، وبه متاجره من الأقمشة والحاصلات والمصابغ ومزارعه.
زرنا مزارع مواطننا «عامر»، ومساحتها 750 فدانا زرعت قمحا وفولا وبسلة على طريقة الدورة الثانية، فيزرع جزء منها ويترك بورا للتشميس. وبها حديقة تنتج العنب التكعيبي والسلكي والبرتقالي، وأشجار الموالح، وقد أحضر لها البذور والشتل من مصر، ويروي الأرض وابور قوته 75 حصانا، ويجود الفدان بمحصول متوسطه أربعة أرادب، ويتناول الفلاح 25 مليما في اليوم، وتتكلف زراعة الفدان 220 قرشا، ويدير الزراعة الشيخ متولي ونجله عبد الحميد.
وثمن الفدان في تلك المنطقة 4 جنيهات بسبب قلة اليد العاملة وحاجة الأرض إلى السماد وآلات الري، وهو ما لا يطيقه سواد السودانيين، فليس شراء الأرض سهلا ، وليس المال موفورا. (5-2) اجتماع اللجنة التجارية
وقد عقد أعضاء اللجنة التجارية المختلطة المؤلفة من تجار بالبعثة وأعضاء بالغرفة التجارية بالخرطوم اجتماعا قبيل ظهر اليوم.
وبهذه المناسبة ننشر فيما يلي قرار تأليف اللجنتين الزراعية والتجارية.
على أثر زيارة أعضاء البعثة للغرفة التجارية حصل اجتماع مبدئي بين أعضاء لجنة البعثة المصرية وأعضاء لجنة الغرفة التجارية السودانية، وقد رحب رئيس الغرفة التجارية السودانية بالبعثة المصرية، ورد عليه مقرر البعثة شاكرا مجهود الغرفة التجارية.
ثم تقرر تأليف لجنتين مشتركتين تضم كل منهما بعض أعضاء البعثة وبعض أعضاء الغرفة التجارية، لتجتمع كل لجنة على حدة وتبحث المسائل التي تدخل في نطاق أغراض البعثة للوصول إلى ما ينمي العلاقات الاقتصادية بين البلدين لمصلحة الطرفين.
وتؤلف اللجنة من حضرات:
اللجنة التجارية عن السودان:
مسيو توتنجي، مصطفى أبو العلا، مستر اسميث، مسيو شكروغلو.
عن مصر من التجار حضرات السادة:
عبد المجيد الرمالي، محمد عبد الرحيم سماحة، علي شكري خميس، إسماعيل بركات بك.
عن السودان اللجنة الزراعية:
مسيو كونتو ميخالوس، مسيو كفوري، مسيو أزميرليان، مستر ويليمز.
عن مصر من المشتغلين بالزراعة:
فؤاد بك أباظة، ألفونس بك جريس، عطا عفيفي بك، عبد الحميد فتحي بك، عبد الحميد أباظة بك. (5-3) حفلة خريجي المدارس بأم درمان
وأقام عند الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر اليوم حضرات خريجي مدارس السودان بأم درمان حفلة شاي بناديهم تكريما للبعثة المصرية، تبادل فيها الأعضاء ورجال البعثة التهاني، وتبادلا التحيات، وألقيت الكلمات المناسبة، وأعلن فؤاد بك أن لجنة الإعانات برياسة سمو الأمير عمر طوسون قد أرسلت 500 ج لتوزيعها في وجوه الخير لإخواننا السودانيين بالطريقة التي يرونها، فقوبل النبأ بالتصفيق والهتاف بحياة الأمير. (5-4) حفلة الصحافة
أقام حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي رئيس تحرير «حضارة السودان» مأدبة عشاء الساعة الثامنة من مساء يوم الثلاثاء 12 فبراير تكريما لحضرات أعضاء البعثة.
وقد دعي إلى الحفلة مسيو كونتو ميخالوس وحضرات السيد محمد أحمد البرير ومصطفى أبو العلا أفندي والسيد إبراهيم عامر من تجار السودان، ودعي إليها من كبار المصريين حضرة صاحب العزة بهي الدين بركات بك وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي قضاة السودان والشيخ أحمد محمد أبو دقن شيخ علماء السودان والسيد أحمد عبد الله وكيل المشيخة الميرغنية والشيخ علي المهدي ورجال الصحافة السودانية.
أعضاء البعثة في سنجة عند آل أبي العلا.
كلمة الشيخ عثمان القاضي
تكلم فضيلة الشيخ أحمد عثمان القاضي عن تاريخ الصحافة في السودان منذ بدأت جريدة السودان سنة 1903 حتى الآن، فقوبلت كلمته بالتصفيق.
كلمة فؤاد أباظة بك
شكر حضرة فؤاد أباظة بك فضيلة الداعي، ونوه بفضله في إحكام الصلات بين مصر والسودان، وجهوده في تنظيم الرحلة ومرافقة البعثة، ثم ترك الكلام لمندوبي الصحافة المصرية، وأعلن أن لجنة الإعانات برياسة سمو الأمير عمر طوسون قد خصصت 500 جنيه لمرافق السودان الخيرية، فقوبل الخبر بالهتاف لسمو الأمير والتصفيق.
كلمة الصحافة المصرية يلقيها المؤلف
سادتي. إخواني. فضيلة الشيخ عثمان القاضي
لقد خاطبتكم التجارة كثيرا وتحدثت إليكم الزراعة دائما - نعم تحدثنا بلسان حضرات الكرام مندوبي التجارة والزراعة - فهل تستمعون للصحافة قليلا وأخيرا؟
ما أظنكم بحاجة إلى ترديد التجارة والزراعة في هذا الحفل، ولا في إعادة ذلك الأكلشيه الخطابي، وهو توثيق العلاقات الاقتصادية؛ فنحن نريد العلاقات غير التجارية أيضا (ضحك وتصفيق). وبقي علينا نحن - بعد أن أدت التجارة والزراعة واجبهما كاملا - أن نسجل النتائج، وأن نمحص الآراء، وأن نتمم العمل الذي بدأ، وأن نتوج الصرح الذي نشأ، وليس هذا المقام منبرا لخطبنا؛ فخطبنا قرأتموها وقرأها الألوف من مواطنيكم وستقرأونها.
وما بنا من حاجة إلى أن نذكر لكم أننا قد ألفينا لغوبا ونصبا، وأننا احتملنا عناء وتعبا.
فلقد أدينا واجبا قد نشعر أنه متضائل أمام ما قابلنا به مواطنونا الأعزاء أبناء السودان من ترحاب وحفاوة، ننحني احتراما أمام مشاهدها، ويشاركنا مواطنونا في مصر في الإعجاب بها «تصفيق».
سادتي:
إنني أزعم، من فوق هذا المكان وبأعلى صوتي، أنني أجدر من الدكتور محجوب ثابت بالانتساب إلى السودان، وأحق من «فؤاد بك السوداني» بالانتماء إليه؛ فلقد عرفت السودان طفلا، إذ كانت جريدتنا التي أنشأها ابن خالتنا المغفور له الشيخ علي يوسف والتي تعرفونها - جريدة المؤيد - كانت في طليعة الصحف المصرية اهتماما بالسودان وحوادثه.
فالدرس الأول الذي تلقيته هو محبة السودان، والاسم الأول الذي عرفته في الجغرافيا هو اسم السودان «تصفيق».
وقد نمى محبة السودان أستاذي الدكتور محجوب ثابت - الذي يلقبه مواطنوه السودانيون بأبي كريمة وأبي دقن ودكتور أسوان والسودان ونائب مينا البصل وكردفان - منذ أن كان الدكتور أستاذا في الجامعة المصرية في الطب الشرعي.
لقد سألني بعض إخواني هنا: هل الدكتور محجوب طبيب في الأمراض؟ فقلت لهم: إن الدكتور محجوب طبيب في كل شيء - «تصفيق».
وصادفتني بيئة أخرى أحاطتني بمحبة السودان: بيئة جريدة الأهرام، وإني لأذكر في هذا المقام المرحوم مؤسس الأهرام بشارة تقلا باشا والفقيد الأستاذ داود بركات؛ فقد كان الفقيد صديقا للسودان.
وليس هذا فقط، فمنذ أعوام حدثني عمي الشيخ عبد الجواد أحمد أبو صغير سر تجار بني عديات بأن لأسرتنا أبناء في السودان - وفي دنقلة - منذ قرون؛ إذ كانوا يتجرون مع السودان واتخذوه مقاما، وتوغلوا منه إلى واداي وأوغندا ونيجيريا.
أي إنني عريق الانتساب وبعيد الأنساب إلى السودان. فهل بعد هذا يضارعني الدكتور محجوب ويزهو علي «فؤاد بك السوداني»؟!
قال الله تعالى
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم
فها قد انتصرنا وفزنا فوزا مبينا.
وقال أيضا:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم .
وقد لقيت رحلتنا الجزاء مضاعفا.
سادتي:
لقد كنا نود أن يكون بيننا حضرة الكاتب المبدع المعروف الأستاذ فكري أباظة رئيس تحرير المصور، حتى يتمتع بما سمعنا اسمه يدوي في أنحاء السودان؛ ولذا فهو جدير بأن يدعى - كأخيه فؤاد بك - بفكري السوداني «ضحك».
وإنني لأرسل إليه تحية من هذا المكان.
ونذكر هنا حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك؛ فقد أتاح للصحافة فرصة الاشتراك في هذه الرحلة الموفقة، ونذكر إخواننا التجار كونتو ميخالوس، والبرير، وأبو العلا، ومن أعرف ومن لا أعرف.
سادتي:
إني أحمد الله تعالى أن تحققت الآن أمنية المرحوم شريف باشا حين قال: «إذا نسينا السودان فهو لن ينسانا، وإذا تركناه فهو لا يتركنا.» والسلام عليكم ورحمة الله «تصفيق حاد».
أعضاء البعثة فوق خزان سنار. (6) اليوم السادس - الأربعاء 13 الجاري (6-1) عند جبل السليتات
في الساعة السابعة صباحا توجه لفيف من أعضاء البعثة إلى جبل السليتات؛ لأن بعض الأعضاء كان مزمعا السفر في الساعة الثامنة من صباح اليوم، وآخرين كانوا في توديعهم، وفريقا آخر كان تعبا أو لا يرى في زيارة الجبل شيئا جديرا بالمشاهدة؛ خصوصا بعد ما لقيه من نصب عند زيارة خزان جبل الأولياء.
6
وكدت أعدل عن زيارة السليتات، ولكن غيرتي على رؤية ما في برنامج البعثة وأكثر، دفعني إلى زيارة السليتات، فزرته وها أنا أكتب عنه وأنفذ عزمي:
جبل السليتات مرتفعات من الأحجار الجرانيتية؛ فيوجد جبل السليتات رقم 1، وجبل السليتات رقم 2، وجبل السليتات رقم 3، كل منها خلف الآخر بمسافة قريبة، وارتفاع هذه الجبال قليل؛ فهو 66 مترا، وطول كل منها 200 متر.
وعند العزم على تنفيذ مشروع خزان جبل الأولياء، بحث المقاول جيبسون ومعه المقاولون من الباطن دنتمارو وساسو والحاج حسين فضل الله، المقاول الوطني الوحيد، في أغسطس سنة 1932 عن أقرب الجبال الجرانيتية إلى موقع الخزان، لاقتطاعه واستعماله في بنائه، فوجدوا الكفاية في جبال السليتات.
وصلنا إلى هذه الجبال فوجدنا بها مئات العمال والآلات القاطعة، وخطا للسكك الحديدية والمقاولين والمهندسين يتقدمهم حضرة صاحب العزة عبد القوي أحمد بك ، فحيونا جميعا، وهتف العمال بحياة البعثة المصرية وعبد القوي بك.
وقد رافقنا حضرة صاحب العزة محمد بهي الدين بركات بك في هذه الزيارة، كما رافقنا في زيارة خزان جبل الأولياء.
عملية قطع الأحجار
تفصل أحجار الجبل قطعا كبيرة جدا عادة، وذلك بأن يضرب العمال الحجر بالأجن فتحدث «خروما» يوضع فيها البارود «الجلينيت» والنتروجلسرين بنسبة 62 في المائة من الأول، ويوضع في أسطوانة طولها 9 سنتيمترات وقطرها 10، وبه فتيل يورى فيشتعل البارود بعد دقيقة ونصف أو دقيقتين، وتنفصل القطع الكبيرة عن جسم الجبل ولكنها تظل في مكانها. ويسمع لاشتعال البارود دوي كدوي القنابل، ويتطاير في أثناء ذلك قطع صغيرة من الحجر إلى مسافة 200 متر، خطير هجومها، ولذا يتقيها العمال بالعدو بعيدا عن الجبل عقب إشعال الفتيل. ولا تعمل «الخروم» اعتباطا، بل يتخير المهندس موضعا في الجبل به اتجاه معين يساعد على فصل الصخر أكثر من أي اتجاه آخر، ويسمى هذا الاتجاه «ماء الحجر». وعمق الخرم خمسة سنتيمترات أيضا، ثم توضع في «الأخرام» خوابير منشورية ويدق عليها بالتناوب، وكل عشرة منها تحتاج إلى ساعة للدق عليها.
ويبلغ طول أكبر حجر مترين، وعرضه مترا واحدا بعد تهذيبه. وهناك ثلاثة «ونشات» يحمل كل «ونش» خمسة أطنان، ويعمل في الحجر المتقطع خرمان، ويحمل الونش الحجر من الخرمين. وتوجد رسوم للأحجار المطلوبة، فينظم العامل النحات الحجر طبقا للرسم المطلوب.
ويقوم بالنحت عمال إيطاليون ومصريون وسودانيون، ويتقاضى الإيطالي أجرا يوميا يتراوح بين المائة والمائة والعشرين والمائة والثلاثين قرشا، والمصري من 80 إلى 90 قرشا، والسوداني من 50 و60 قرشا، وعدد النحاتين الإيطاليين 100 والمصريين 150 والسودانيين 5، ويوجد 141 صنفا من الأحجار، ويوجد 1500 عامل في المحاجر.
وجبل سليتات رقم 2 يؤخذ منه «الدبش» ويصنع الخرسان من فتات الجرانيت المدقوق يرسل إلى الخزان حيث يضاف إليه أسمنت بنسبة: 1 أسمنت و2 رمل و4 مدقوق الجرانيت، ويوجد عند السليتات مستشفى به طبيب إيطالي وثلاثة مساعدون من كلية غوردون.
وتسير قطارات السكة الحديد الخصوصية بين السليتات إلى الخزان يوميا بمعدل 3 عربات تحمل جرانيت و40 عرية تحمل دبشا.
ويشرف على العمال المقاولان ساسو الإيطالي والشيخ حسين فضل الله. وتسكن أسرة المقاول ساسو عند الجبل، وقد استقبلتنا أسرته وأخذت لنا صورة معها، والمقاول ساسو كثير العطف على العمال يواسي مرضاهم، وهو مع الشيخ فضل الله طالما اشتغلا مقاولين من الباطن لكبار المقاولين في بناء الخزانات والقناطر؛ كتعلية خزان أسوان، وقناطر نجع حمادي. ورأينا على بعض الدور؛ وخاصة على مكتب المقاول، ثلاثة أعلام: العلم الإيطالي والمصري والإنجليزي.
والقائمون بالإشراف على محاجر السليتات وخزان جبل الأولياء هم على الترتيب حضرات مستر فون لي المهندس المستشار للخزانات ومركزه لندن - إذ هو مستشار فني عالمي - ويحضر إلى الخزان مرة في كل سنة ولمدة شهر، ثم عبد القوي أحمد بك المهندس المقيم، فمستر أديسون وكيل المهندس المقيم، وحامد سليمان مساعد المهندس المقيم، وقد نقل أخيرا إلى قناطر أسيوط لمناسبة عملية توسيعها، ومستر أكلين وزكريا محمد ومستر بوين مدير أعمال، وإبراهيم زكي وأحمد توفيق طبوزاده قائمين بأعمال مديري الأعمال، وأحمد سعيد إبراهيم مفتش المحاجر، ومستر جامبلتون باشمفتش المباني، وعبد الحميد حسين مساعد مدير أعمال، ومسيو كاردياكوس رئيس قسم الرسم، ومستر ولن مفتش التصميمات، ومستر ملن مفتش الحدائق، ورياض علي ويوسف المراغي شقيق فضيلة الشيخ المراغي، ومحمد عبد الرحمن الغرابلي نجل شقيقة الغرابلي باشا، ومحمد عبد الرحمن عبد الباري ومحمد أحمد عتيبة ورياض علي منصور ومحمود حسن بكير وحكيم مهدي وعبد الخالق السكاوي وعلي عزت حمدي ومصطفى الزيات والسيد أحمد علام وأحمد الشرباسي، وغيرهم من الشبان المهندسين خريجي مدرسة الهندسة والمدارس الهندسية الكبرى في إنجلترا، ومدرسة الفنون والصناعات الملكية الكبرى في إنجلترا.
ويتناول الموظفون - فضلا عن مرتباتهم - 40 في المائة علاوة لمناسبة إقامتهم في السودان مع مساكن مجانية.
وتبلغ زنة المتر المكعب من الجرانيت 260 كيلو جراما، وزنة أكبر قطعة مهذبة 3 أطنان ونصف. أما الكتل الكبيرة التي يفصلها الديناميت عن جسم الجبل، فتبلغ الواحدة منها 1500 متر مكعب، وزنتها خمسة آلاف طن.
وللعمال مساكن تدعى «تكل» بضم التاء والكاف، وهي عشة مؤلفة من غرفة مستديرة يعلوها سقف مخروطي، وتبنى من الطين والسقف من الخشب والقش، ويفيد في منع الأمطار والحرارة، ولكنه قد يحمل العقارب والثعابين التي تسقط ليلا على النائمين.
القطن في طوكر.
مأدبة إفطار
وقد أقام حضرة المقاول حسين فضل الله سرادقا أعد به مأدبة إفطار، جمعت ما لذ وطاب من الطعام، فجلسنا وتناولنا ما طاب لنا، وقد ارتجل حضرة الشيخ محمد عبد العاطي وكيل المقاول خطابا ترحيبيا، وألقى عبد الله دسوقي أفندي ملاحظ المحاجر بالمحاجر قصيدة، ثم ألقى حضرة رياض أسعد أفندي باشكاتب المقاول خطابا آخر.
وألقى المهندس عبد القوي بك أحمد كلمة قال فيها:
سمعتم حضراتكم أقوال الخطباء، وإني لأنوه في هذا المقام بحضرة المقاول المصري الوحيد هنا، وهو الشيخ الحاج حسين فضل الله، فهو مقاول العمال والمشرف على أعمالهم والمساعد للمقاول ساسو، وقد أبت مروءة الشيخ فضل الله إلا أن يقوم عنا بإعداد طعام الإفطار لكم، فتركنا له أداء ذلك الواجب الذي كان ملقى علينا «هتاف من العمال بحياة عبد القوي بك والشيخ حسين فضل الله» «تصفيق».
الشيخ حسين فضل الله المقاول بخزان جبل الأولياء.
الشيخ محمد عبد العاطي وكيل الشيخ حسين فضل الله.
استغلال المحاجر
ذكر حضرة المهندس محمد عبد الحميد متولي خبير المحاجر بوزارة التجارة والصناعة ما يلي عن المحاجر في مصر والسودان:
يجهل الكثيرون اليوم ما يوجد في بلادهم من كنوز منحتهم الطبيعة إياها بلا ثمن، ونعني بهذه الكنوز الأحجار الجميلة المختلفة في الجبال والصحاري الواسعة، وإذا لم يتسع مجال هذا الحديث لنذكر لك بيانا مفصلا عن الأحجار في مصر فإننا نوجز من ذكر المناطق الغنية بالثروة الحجرية وتشمل: الجرانيت - البازلت - الرخام - السنيت - السكك - الألاباستر. ولكن حجر الجرانيت المصري من أحسن أنواع هذه الأحجار في العالم؛ حيث يمتاز بألوانه البديعة (الأزرق والأحمر بالزراق والأسود والأبيض المائل إلى الاصفرار)، ويوجد هذا الحجر بكثرة في منطقتي أسوان والشلال وما جاورهما والسودان، ويرى الأخصائيون أن له أهمية خاصة في بناء الخزانات ورصف الشوارع وكل ما يلزم لأشغال المعمار الحديث وأشغال الحفر والزخرفة وغيرها، كذلك يوجد البازلت في مناطق مختلفة ؛ أهمها منطقة أبي زعبل التي تستغلها مصلحة السجون، وقد وجهت مصلحة المناجم عنايتها أخيرا لاستغلال هذه المنطقة. أما أحجار الرخام والألاباستر فتوجد بالقرب من أسيوط وبني سويف وحول الأهرام بجهة (أجران الفول)، وهذا عدا الأحجار الجيرية والرملية، كذلك توجد أحجار (السماني الإمبراطوري) في جبل الدخان على شواطئ البحر الأحمر، وهي تعد أحسن أحجار من نوعها في العالم.
صناعة الأحجار قديما
ولقد بلغت صناعة الأحجار في العصور المصرية القديمة حدها الأقصى من الرقي والتقدم، ولا تزال هذه الصناعة الفرعونية شاهدة بخلودها وجمالها على ما كان لأجدادنا المصريين من ذوق وفن وقدرة بالغة على اتقان الصناعات الحجرية واستغلال المحاجر، ولا حاجة أن نذكر شاهدا على ما نقول؛ حيث لا يوجد في العالم كله من لا يؤمن بعظمة الأهرام والمسلات والتماثيل المصرية القديمة.
ولقد كان حظ صناعة الأحجار واستغلال المحاجر في مصر بعد هذا العصر القديم التدهور والانحطاط؛ وذلك لعدة أسباب تاريخية واجتماعية لا مجال الآن لشرحها، إنما نقصر البحث على العصر الحديث، وهو كما ترى لم يرتفع فيه حظ هذه الصناعة عما كانت عليه في العصور الوسطى؛ أي عصور الانحطاط، وذلك يرجع إلى عدة أسباب: (1)
جهل كثيرين من الفنيين في مصر مزايا الأحجار المصرية المختلفة. (2)
عدم وجود رءوس أموال كبيرة منظمة لاستغلال المحاجر أو تأسيس شركات لهذا الغرض. (3)
طرق الاستغلال القديمة المتبعة إلى الآن في بعض المحاجر. (4)
افتقار البلاد إلى الفنيين الحقيقيين الملمين بأطوار صناعة الأحجار واستغلال المحاجر عمليا. هذا إذا استثنينا بعض الجيولوجيين واختصاصهم المحصور في النظريات العلمية البحتة.
ومما يؤسف له أنه بالرغم من كثرة وجود المحاجر المصرية لا تزال مصر إلى اليوم تستورد الأحجار اللازمة للمشروعات المختلفة فيها من أوروبا، مع العلم بأن هذه الأحجار أقل في الجودة من الأحجار المصرية، بل أدعى إلى الأسف من ذلك أن بعض الأحجار المصرية ترسل إلى أوروبا ليجري التشغيل عليها في مصانعها من قص ونحت وصقل بما يتناسب مع استعمالها في الأشغال المعمارية المختلفة أو في الحليات وأشغال النحت والزخرفة، حيث لا توجد في مصر المصانع الفنية التي تقوم بهذا العمل. ولا يخفى ما تتكبده البلاد في هذه الحالات من التكاليف الباهظة في عمليات نقلها إلى أوروبا ثم استردادها منها.
ولا نكون مغالين إذا قلنا إنه لو أتيح إنهاض هذه الصناعات في مصر لكانت أوفر الصناعات المحلية ربحا ونجاحا؛ وذلك راجع إلى توفر خاماتها الجيدة من جهة، وتوفر الأيدي العاملة ورخصها من جهة أخرى.
ومحاجر الجرانيت في أسوان بالقرب من النيل، وإنشاء محطة لتوليد الكهرباء من خزان أسوان، وتوفر الأيدي العاملة في هذه الجهات، كل هذه العوامل كافية لإنشاء محطة لصناعة الأحجار في هذه المنطقة قد لا تضارعها محطة أخرى في العالم؛ ولا سيما إذا عرفنا أن الخامات الحجرية في مصر من أجود خامات العالم، مما يؤكد لها الرواج الكبير في الخارج ويحقق لمصر من هذه التجارة ملايين الجنيهات.
كذلك نذكر أن من أهم العوامل في تنشيط تجارة الأحجار سهولة المواصلات بين الأمم المتعاملة في هذه التجارة، ولا يخفى أن مركز مصر الجغرافي بين الشرق والغرب سيجعل حتما لها المقام الأول في تصدير الأحجار إذا نشطت صناعتها فيها؛ وخصوصا إلى الأمم الشرقية التي تستورد الأحجار من أوروبا بأموال طائلة بينما الأحجار المصرية أجود منها بكثير، وستكون بطبيعة الحال أقل نفقة في نقلها وتصديرها.
ولكن مما يثير الدهش أن تعلم أن صناعة الأحجار تكاد تكون معدومة الآن في مصر كصناعة محلية، على أن الأجانب قد عرفوا قدر هذه الصناعة فاهتموا ببعض جوانبها الرابحة في مصر أكثر من المصريين؛ ولذلك فقد احتكروا كثيرا من الأعمال الحجرية الكبيرة التي تدفع فيها الحكومة آلاف الجنيهات مع العلم بأنها تقوم أولا وآخرا على الأيدي المصرية التي تعمل بأقل الأجور بينما يربح الأجنبي كل شيء.
على أن مصر فوق كل هذا تستهلك من الأحجار الواردة من الخارج لأعمال الرصف وأشغال العمارات المختلفة وغيرها بما يزيد ثمنه على المائة ألف جنيه سنويا. هذا في الوقت الذي لا يوجد في مصر أكثر من الأحجار والمستعدين للقيام باستغلال المحاجر.
وقد حاولت مصلحة التجارة والصناعة أن تنهض يوما بصناعة الأحجار، فسعت لدى وزارة المعارف لإنشاء قسم خاص للجرانيت في مدرسة أسوان الصناعية، فتم ذلك في سنة 1929.
وتسعى ممالك السويد والنرويج وفنلندا لعمل (اتحاد دولي) لاحتكار سوق الأحجار في العالم؛ وذلك راجع لاحتياج العالم كله إلى أحجار هذه الممالك لانفرادها بوجود أحسن أنواعها فيها مما لا يعادلها في ذلك غير محاجر القطر المصري.
فلعل ذلك حافز لمصر أن تشاطر هذه الأمم في نهضتها باستغلال المحاجر والاهتمام بالصناعات الحجرية حتى يكون لها النصيب الأوفر في هذا الاتحاد الدولي المشار إليه. ا.ه.
كلمة فؤاد أباظة بك
ثم ألقى حضرة فؤاد أباظة بك كلمة شكر للخطباء وقال: إننا فخورون أن نرى مواطننا الغيور الشيخ فضل الله وحضرة وكيله محمد عبد العاطي، ومن جهة أخرى قد رأيتم يا إخواني مسيو ساسو وأسرته الكريمة، تسكن هنا بعيدا عن العمران، ولا يشكون شيئا، بل هم سعداء بهذه المعيشة. وهكذا الجد والصبر، فليكن هذا مثالا لنا وعظة «تصفيق».
ويشرف الشيخ حسين فضل الله على 3200 من عمال المحاجر والخزان.
حفلة الشاي في نادي كسلا. (6-2) في آثار أم درمان
عند الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم زرت آثار أم درمان، حيث موقعتها الشهيرة، وجامع السيد محمد أحمد المهدي الكبير، وقد هدمت القنابل قبته، ومنزل خليفته عبد الله التعايشي، وزرت آثاره وآثار السيد المهدي الكبير وغوردون وجيش الدراويش.
والجامع يشغل فدانين من الأرض الفضاء المسورة بحائط ارتفاعه متران، وغير مسقف - وكان ذلك في عهد الحركة المهدية - وجامع المهدي مغلق، وقبة ضريح المهدي مهدمة.
وقد شهدت عربة السلطان حسين سلطان دارفور المهداة إليه من الملكة فيكتوريا، ويجرها ستة من الجياد، استولى عليها الدراويش، وهي قسمان: قسم لركوب السائق، وهي مركبة على عجلتين والعربة نفسها ملحقة بالمركبة، وعربة غوردون، وهي تشبه الدوكار الذي به الأربع العجلات، وكان الخليفة التعايشي يستعمل هذه العربات أحيانا، وأحيانا أخرى يركب الهجين أو الجواد، ورأيت سلالا لحمل الذرة والدخن واللبن، ورأيت أعلاما مختلفة للمهدية، وهي تشبه تقريبا أعلام الصوفيين ، ومنها علم كتب عليه (لا إله إلا الله، محمد أحمد المهدي خليفة رسول الله). ورأيت جببا، وهي تشبه جبب بعض المجذوبين في الموالد والأضرحة المصرية، ورأيت مطبعة حجر كانت تطبع عليها المنشورات والكتب، وتديرها عجلة كعجلة الساقية إنما من غير إطار، وسيوفا وحرابا، وآلات لسك النقود كان يتولى السبك فيها رجل اسمه إلياس عبد الله من مصر، بترت ساقه اليمنى ويده اليسرى، ونقودا؛ ومنها عملة إنجليزية ومصرية وسودانية مكتوب فيها «ضرب في أم درمان»، وعملة فضية من ذات العشرين والعشرة والخمسة قروش، وخوذا، ودروعا وتروسا وطاقية «أم جرينات».
وهناك لوحة كتب عليها عدد الجيش الذي استرد السودان وهو:
17600
عدد الجيش المصري .
8200
عدد الجيش الإنجليزي.
48
عدد قتلى الجيشين في واقعة أم درمان.
9700
عدد قتلى الدراويش.
5000
أسرى الدراويش.
ومنزل الخليفة التعايشي يشبه دور صغار القرويين عندنا، وقد بناه حمدي النوار بإشراف الإيطالي بترو، وهناك بيتان للتعايشي: الأول بني سنة 1887، والثاني سنة 1891.
راتب المهدي
ورأيت «راتب المهدي» وهو كتاب للدعاء كالأوراد ويتلوه أنصار المهدي، جاء فيه ما يلي:
أستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، فإني ضعيف عند القيام بها وعن حفظها أقل من ساعة، فيا من إليه الضراعة ويا من بيده كل شفاعة احفظ وديعتي بفضلك، بحرمة من أنت له في الشفاعة، حتى لا تكون لي شبهة ولا وهم ولا أدنى حطة عن كمال نور التوحيد والإيمان، يا واحد يا رحيم يا منان، فأنت الله الملك الديان اللطيف القادر الرحمن. استجب دعوتي، ولا تجعل ذلك مني مجرد قول ليس له منك مكان، يا من هو عند المنكسرة قلوبهم، فإني منكسر القلب ليس لي من ألتجئ إليه في طلبي هذا إلا أنت.
والكتاب مكتوب بالخط الفارسي المقبول.
وهناك صور لكتب المهدي التي كان يرسلها؛ ومنها الكتاب التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المولى الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد، فجزيل السلام من عبد ربه الواثق بمولاه محمد المهدي بن عبد الله.
إلى أحبابه وأعوانه في إقامة الدين أمير محكمة دار الفقير إليه عبد الصمد ابن عمنا أحمد شرفي ومن معه من الإخوان أنصار الدين. أحبابي فجزاكم الله عن دينه خيرا حيث توفقتم لبيان الحكم من الله ورسوله في أهالي تلك الجهة، وقد أصبتم، أصاب الله لكم الحق، فإن المؤمن لا يحل له أن يقدم على أمر حتى يعم حكم الله فيه، فها كذا كونوا يا أنصار الدين، فأما من جهة سماع الدعاوي والتحديد بالنسبة إلى العربان المسلمين لأمر المهدي، فسماع دعاويهم من وقت تسليمهم ومجاهرتهم بالعداوة الترك وخروجهم من طاعتهم، ولا يعلم ذلك لنا إلا بواسطتكم، وتحقيق ذلك منوط بكم؛ لأنه يعلم الشاهد ما لا يراه الغايب . فدققوا فيه لتعرفوه جيدا؛ سواء كان وافق تاريخهم لوقعت الشلال المحددة من اثني عشر رجب الماضي سنة 1299 أو قبله أو بعده، وإن لم يتضح فيه لكم وقت معين بعد إجهادكم فاحملوه على الوقت المحدد من وقعت الشلال، فتسقط الدعاوي التي قبل ذلك ما عدا الأمانة والدين ومال اليتيم والهوامل كما التاريخ الذي في علمكم وما يكون في إيقاعه شدة حرج ومشقة على المسلمين من الأمور الشاقة الشاغلة عن الدين، فارفعوه إلينا لننظر ما فيه صلاح المؤمنين، فهذا التفصيل بالنسبة للطائفة المسلمة المهدية. وأما الطائفة التي مع الكفرة، فتحديد وقتها من يوم تسليمها، وأما بالنسبة للترك ومن معهم، فمن خرج قبل يوم قتل الجردة الذي هو في أربعة محرم، فإن كان خرج مصدقا بالمهدية مسلما لها فلا يغنم لديتي بل يعطى حقه تماما، وإن كان منكرا، وإنما خرج لأجل الخوف، فإن ماله جميعا لبيت المال. وأما أموال المجاسنات التي بين العربات فكلها غنيمة؛ لأنها بعدم عين صاحبها صارت لبيت المال.
فبذلكم تدوم نعمتكم وتغلبون أعداءكم. فكونوا أحبابي لله، فمن كان لله كان الله له وبعده السلام.
26 ربيع ثانية 1301
ختم
لا إله إلا الله محمد رسول الله
محمد المهدي بن عبد الله. ا.ه. بصيغته الأصلية
وعند حصار الخرطوم كان الميجر جنرال تشارلس غوردون باشا يكتب شيكات تستعمل كنقود. وهذه نسخة منها: «عشرون غرش ميري»
هذا المبلغ مقبول ويجري دفعه من خزينة الخرطوم أو مصر بعد مضي ستة شهور من تاريخه.
25 أبريل سنة 1884
الختم
غوردون
وكانت تصدر الشيكات بقيم مختلفة. (6-3) في المعهد العلمي
وفي الساعة الأولى بعد الظهر زار أعضاء البعثة المعهد العلمي بأم درمان، وهو يشبه الجامع الأزهر في دراسته على الطريقة القديمة غير النظامية، واستقبلنا حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد محمد أبو دقن شيخ علماء أم درمان وشيخ المعهد وفضيلة الشيخ أحمد أحمد أبو القاسم هاشم وكيل المعهد. ويجلس الطلبة جماعات في الجامع، ومع كل جماعة مدرسها. وعدد الطلبة 700 من جميع أنحاء السودان، وعدد المدرسين 25، ومرتباتهم تدفعها الحكومة، فراتب شيخ العلماء 53 جنيها، ووكيله 17، والمدرسون من أربعة جنيهات إلى عشرة. وللطلبة والعلماء بدل جراية ثلاثون قرشا شهريا، ولما كثر عدد الطلبة كان منهم من لا يحصل على البدل، فهزت الأريحية حضرة الوجيه إبراهيم عامر بك التاجر الأكبر فتبرع لمناسبة زيارة البعثة المصرية بمبلغ مائة جنيه لفقراء الطلبة وأرسل شيكا في الحال إلى فضيلة شيخ العلماء. وتبرع كل من حضرات السيد سماحة ومحمد حسين الرشيدي ومحمد حسن قاسم بتوريد الكتب الناقصة للمعهد.
تبرعت لجنة إعانة السودان برياسة سمو الأمير عمر طوسون بمبلغ 225 جنيها.
شخصيات المتبرعين
وبهذه المناسبة نذكر أن السيد إبراهيم عامر كان مصريا اشتغل بالتجارة في السودان منذ أربعين عاما، وافتتح محلا للأقمشة ولبيع المانيفاتورة، وله فروع في السودان ومصر، وأنشأ مصبغة في بور سودان عمالها من الأسيوطيين تصبغ في اليوم الواحد أكثر من ألفي ثوب من القماش ماركة «الجبنة» بفتح الجيم والباء.
وأما محمد حسن قاسم أفندي فإنه مع شقيقه أحمد حسن قاسم أفندي الذي اتصل بالبعثة في الخرطوم طائرا، وعاد للقاهرة طائرا أيضا، فإنهما ولدا المرحوم حسن قاسم الذي اشتغل بتجارة المحاصيل السودانية طول حياته، وعلم ولديه محمد وأحمد أن يكونا تاجرين، وأن لا يعولا على وظائف الحكومة، فضرب المثل النادر في هذا الباب، وقد انتهزا فرصة رحلة البعثة فكانا من أعضائها وعقدا صفقات كبيرة، وكان وجودهما مشجعا للأسواق والتعاون التجاري في السودان، ولوالدهما بمكتبة المعهد كتب باسمه أهداها للمعهد. رحم الله هذا الوالد الغيور الكريم.
وأما السيد محمد عبد الرحيم سماحة فهو شاب نشيط من فارسكور طموح، وله - مع آله أسرة سماحة المعروفة في فارسكور - معاصر للسمسم والزيت، وقد عقد صفقات تجارية بمبلغ ستة آلاف جنيه، وكان تجار السودان يعرفونه من زمن بعيد، وكان من مفاخر البعثة أن يقرن هؤلاء الكرام القول بالفعل في باب التعاون الصحيح بين مصر والسودان. (6-4) مأدبة السيد البرير
الوجيه علي البرير رئيس النادي السوداني بالقاهرة.
أعضاء البعثة يستمعون إلى محاضرة زراعية في واد مدني.
وأقام حضرة الوجيه الشيخ محمد أحمد البرير مأدبة غداء في الساعة الأولى والنصف بعد ظهر اليوم بداره بأم درمان تكريما للبعثة. وآل البرير من أم درمان الجعليين، ولهم متاجر في مصر والسودان، وقد جعل شقيقهم على البرير أفندي محل إقامته في مصر يتجر فيها لحساب إخوته والتجار السودانيين.
وقد ألقى نجل السيد البرير خطابا ممتعا، وتكلم فؤاد أباظة بك شاكرا ومعانقا الشيخ البرير ومتبادلا معه اللقب: البرير المصري وفؤاد السوداني، وألقى الدكتور محجوب ثابت كلمة من جوامع كلمه. (6-5) عند شيخ العلماء
عند منتصف الساعة الخامسة مساء اليوم أقام فضيلة الشيخ أحمد محمد أبو دقن شيخ علماء السودان بأم درمان حفلة شاي تكريما لأعضاء البعثة، ألقيت فيها الخطب المناسبة، وألقى فؤاد أباظة بك خطابا أشار فيه إلى تعرفه في الإسكندرية بفضيلة الشيخ وما وجده فيه من الصراحة كالسيف القاطع، وأبان عذر اللجنة وضيق وقتها في عدم تمكنها من إجابة الدعوات؛ فقد تبين أن العلماء والوطنيين عاتبون على البعثة، إذ كانوا يريدون أن ينزل أعضاء البعثة ضيوفا عليهم في بيوتهم ولا ينزلون بالفنادق، وقد عدوا هذا سبة لهم، فأبان فؤاد بك الظروف التي دعت إلى ذلك، ورضي الشيخ وانتهى العتاب.
خطاب محمد بهي الدين بركات بك
صاحب السيادة الحسيب النسيب السيد عبد الرحمن المهدي
سادتي من آل هاشم، سادتي وإخواني:
جرت العادة عندما يفكر الواحد منا في السفر إلى جهة بعيدة أن يسائل نفسه عما سيجده في البلاد التي يقصدها، وماذا سيكون عليه أهلها، ويسعى إلى الاتصال ببعض المعارف والأصدقاء الذين تكون لهم صلات في تلك البلاد حتى يقلل من وحشة الغربة ويجد له العون إذا ما اشتد به الأمر، ولست أنكركم أن هذه كانت حالي عندما فكرت في زيارة السودان؛ فمنذ أن سنحت لي الفرصة أن أكون حرا من العمل في فصل الشتاء تردد على خاطري أن أقوم بواجب الزيارة نحو السودان، وفعلا نفذت العزم في العام الماضي فجئت إلى وادي حلفا، ومع أني كنت على مقربة من الخرطوم فقد رجعت إلى مصر معتذرا لنفسي بعدم وجود الرفيق الذي يؤانسني في وحدتي، ولكني مع ذلك صممت على إتمام تلك الزيارة في هذا العام مهما كانت الظروف، وأخذت أبحث عن رفيق فلم أوفق، وجعلت أسأل من يعرفون السودان وأنا خجل أن أقول إنهم قليلون من يعرفون السودان وأهله ونواحيه، وأخيرا اتخذت الأهبة وحضرت إلى الخرطوم فلم ألبث بعد أن نزلت من القطار في المحطة حتى وجدت من يستقبلني ويرحب بي، فعلمت أني لست بالغريب، بل أنا بين أهلي وإخواني، وذهبت إلى الفندق فوجدت من يسأل عني ومن يكرمني فنسيت أني تركت مصر، فأنا بين أهل وعشيرة؛ لغتهم لغتي، عوائدهم عوائدي، مجاملاتهم، طريقة تعارفهم، آدابهم معاملاتهم كلها جميعا هي ما اعتدت عليه وما ربيت فيه، فلم نلبث أن تلاقينا حتى اندمجت الروح بالروح؛ فهي كالكهرباء تتصل بمجرد أن تتلاقى، بل أكثر من ذلك لقيت تكريما وإعزازا وعطفا لا أجدهما في مكان آخر. زرت المعهد، زرت المدارس، رأيت المصانع والمتاجر، فإذا المعهد هو الأزهر بعينه في طريقته وفي دروسه وفي ثقافته، وإذا المدارس هي هي مدارس مصر التي أعرفها. مررت في الشارع فوجدت ما ألقاه في مصر من عطف واشتراك في الشعور، فتحققت أن الناحية الروحية التي تربط السودان ومصر موفورة متمكنة، وأن المتاعب والصعاب التي كنت أظنها ستعرض لي لم تكن إلا وهما. وصدقوني إذا قلت لكم إنني لو عرفت ذلك من قبل لزرت السودان من أعوام.
هذا من جهة العلاقات الروحية، وهي بحمد الله متوفرة تمام التوفر، وهذا ما نغتبط له أشد الاغتباط؛ فإن الغاية العظمى للإنسانية هي نشر روح المحبة والإخاء والسلام في العالم.
أما العلاقات الاقتصادية من تجارية وزراعية، فإني لا أريد أن أعتدي على حق زملائي أعضاء البعثة فيها، وسأترك لهم أمر بحثها اليوم وغدا ليدرسوها دراسة فنية مفيدة.
أيها السادة، منذ أن وطئت قدماي هذه الديار وجدت مودة واحتراما وإخاء لم يفارقني لحظة من لحظات إقامتي حتى كدت أنسى أن أفكر فيما علي من واجبات في مصر.
وأما أنتم يا آل هاشم، فعلمي أنكم عرب، وأن عادة العرب أن يشكر المضيف ضيفه لا أن يشكر الضيف مضيفه؛ ولذلك فإني أمسكت عن الشكر لأني عاجز عن إيفاء حقكم في الشكر والسلام. «تصفيق».
هدية عبد الحميد المهدي
وبهذه المناسبة نذكر مشكلة الدعوات التي استحال تلبيتها؛ فقد أراد الشيخ عبد الحميد المهدي التاجر أن يدعو البعثة إلى مأدبة، فلما وجد ذلك مستحيلا عمد إلى صنع عصي من الأبنوس والسن أهدى إلى كل عضو عصا باسمه، فكان كيسا، وكان حسن الذوق، فله منا الشكر. وعبد الحميد المهدي تاجر في مصر والسودان. (6-6) في نادي الضباط الوطنيين
وفي الساعة السادسة مساء زار الأعضاء نادي الضباط الوطنيين بأم درمان، وقدمت لهم المرطبات والفاكهة والجبنة (بفتح الجيم والباء) ومعناها «القهوة»، وكان في استقبالهم صاحب العزة القائمقام حسين طاهر بك رئيس النادي.
وبهذه المناسبة نذكر أنه منذ خروج الجيش المصري من السودان سنة 1924 ألغيت المدرسة الحربية بالخرطوم، وأصبحت هناك قوة تسمى قوة الدفاع عن السودان مؤلفة من جنود غير نظاميين، وأحيل أكثر الضباط السودانيين إلى المعاش؛ فقد كانوا يعملون في الأورط التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة.
وبقوة الدفاع أقسام: قسم المهندسين - الحملة الميكانيكية، أورطة العرب الشرقية (بكسلا)، أورطة العرب الغربية «الفاشر»، أورطة خط الاستواء «منجلا»، الهجانة «كردفان»، السواري «شندي».
وتتألف الأورط من بلوكات، ويختار الضباط «من تحت السلاح»؛ أي بترقية البلوكات أمناء .
وعدد أعضاء النادي 145 ضابطا منهم 55 في الخدمة.
والأصل في إنشاء قوة العرب أنه كان بكسلا عند احتلال الإيطاليين لها في الثورة المهدية عساكر «باشبوزق» يلبسون جببا وسراويل، فلما أعيدت كسلا إلى حكومة السودان الحالية أبقت هذه القوة، وعممتها.
والاعتماد في الدفاع عن السودان هو للسيارات والطيارات المسلحة.
تدفع مصر 750 ألف جنيه للحكومة السودانية سنويا باسم قوة الدفاع عن السودان، ولكن هذا المبلغ يساعد ميزانية حكومة السودان في دفع رواتب الموظفين المدنيين فضلا عن القيام بنفقات قوة الدفاع.
وهناك جيش إنجليزي صغير في السودان أورطتان نصفها في جيبت، حيث الهواء معتدل، ونصفها بالخرطوم، وينتقل كل نصف بين هذين الموقعين كل ستة أشهر ، وكم أسفت على الظروف التي جعلت هؤلاء الضباط السودانيين الشجعان عاطلين لا تنتفع بهم بلادهم. (6-7) في كلية غوردون
زرت مساء اليوم كلية غوردون لمناسبة اجتماع الجمعية الأدبية لطلبة المدرسة حيث تكلم الدكتور محجوب ثابت في فوائد الألعاب الرياضية في الصحة وفي علاج بعض الأمراض، وقد أعجبني ذكاء الطلبة، فقد سأل أحد نجباء الطلبة الدكتور محجوب ما يلي: يا حضرة الدكتور قلت لنا إن الألعاب الرياضية تفيد في علاج الأمراض وفي الصحة وإطالة العمر، فكيف تعلل أن كبار الرياضيين من أقصر الناس أعمارا، وأكثرهم أمراضا؟ فأجاب الدكتور: إن هؤلاء هم الرياضيون المحترفون، فمنهم مثلا من يحمل أحمالا ثقيلة من الحديد فيضغط دم الدورة الدموية على القلب بأكثر مما يلزمه، وقد يتسبب من ذلك أمراض القلب والصدر والموت فجأة، وكلامي منصب على الرياضة المعقولة، لا على الرياضة العنيفة المأجورة.
وكان الطلبة يلبسون الجلاليب والعمم، وكان بعضهم جالسا على الأرض، وعلمت أن هذا مباح، وشهدت فعلا بعض خريجي المدرسة الموظفين يلبسون ذلك وهم في مكاتب الحكومة؛ كالبريد والتلغراف في الأقاليم وكالسكك الحديدية. ومدير المدرسة هو مستر ويليمز، وكان يشرف على محاضرات الجمعية الأدبية مستر ليوبولد مدرس الإنجليزية والتاريخ، ومعه حضرة عبيد عبد النور أفندي مدرس التاريخ والتربية - وهو شاب مثقف كفء - فكان يدير المناقشات بمهارة، ومعهم إسماعيل الأزهري أفندي مدرس الرياضة، والشيخ جلال الدين مدرس العربية.
وعدد طلبة الكلية 500، أكثرهم بالقسم الداخلي الذي أجرته 28 جنيها في السنة و15 جنيها للطلبة الخارجين، ويتناولون بالكلية الإفطار والغذاء. وبالكلية 14 فصلا و22 مدرسا من الوطنيين و8 من الإنجليز، وتعطى الدروس بالإنجليزية، التي يجيدها الطلبة، والتي هي لغة المحاكم المتغلبة ولغة الدواوين على الغالب، ومن أقسام الكلية: القسم العلمي، ويرشح خريجوه للالتحاق بكلية كتشنر الطبية وقسم المحاسبين، وقسم المترجمين، وقسم المعلمين، وقسم القضاء الشرعي. ودراسة الطب لمدة أربع سنوات في كلية كتشنر. (7) اليوم السابع يوم الخميس 14 فبراير
الري المصري في السودان
في السودان مصلحة عامة للري ومفتش عام للري اسمه مستر نيوهاوس، في العقد السادس من عمره، عالم جليل ومهندس بارع يتحلى بخلق سام، واختصاص هذه المصلحة هو الإشراف على مصادر النيل والقيام بالأبحاث العلمية والفنية في سبيل زيادة ماء الري في مصر حتى تصبح جميع الأراضي البور خصبة التربة. ومستر بوتشر هو مفتش الري في الجنوب.
زرنا الترسانة المصرية على النيل، حيث بها البواخر المصرية التي تسافر إلى أعالي النيل إلى بحر الجبل والرصيرص ومنطقة السدود، لمسح الأراضي ومعرفة تسربات فروع النيل واتصالاتها لإمكان إنشاء ترعة أو خزان لحجز الماء ونقله إلى مصر، بدلا من ضياعه في الأخوار وتشربه في الرمال وتبخره في الجو.
وقد أنشأت وزارة الأشغال مستعمرة للري بها مساكن الموظفين وورش للنجارة والحدادة والبرادة والكهرباء، وقد تكلف إنشاء المستعمرة 160 ألف جنيه، فضلا عن نفقات جديدة اقتضاها إنشاء ورشة جديدة للحدادة ومصنع لتوليد النور، وتستعمل البواخر في انتقالات المهندسين والموظفين من الخرطوم إلى أعالي النيل؛ لأن الطريق الوحيد إلى تلك المناطق هو النهر أو الجو. ويعمل في الري المصري ثلاثون مهندسا، وهناك مساعدون ومساحون. وكان يرافقنا في زيارة الترسانة والحوض والبواخر والورش ومنازل الموظفين حضرة أحمد فهيم أفندي مدير الأعمال، وحضرة أحمد سلطان أفندي المفتش الإداري المنتدب في مهمة التحقيق بمخازن الري المصري.
وبعد الزيارة واستقبال الموظفين وتناول المرطبات، زرنا حضرة الميجر نيوهاوس المفتش العام للري المصري في السودان في مكتبه، حيث رحب بنا وألقى محاضرة على ضوء الخرائط والرسوم عن الري المصري في السودان، فقال إن الأبحاث الجارية في سبيل وضع مشروعات لزيادة ماء الري الوارد من أعالي النيل إلى مصر، تجرى في منطقة موحشة غير مأهولة وغير متمدينة ينتشر بها الناموس الجالب للملاريا، والمواصلات إليها شاقة، وعمل المهندس والرسام أشق لأنه قد يضطر إلى قضاء شهرين وحده في صندل، معرضا للأمراض والحشرات والوحوش والتماسيح والرياح والحر، وينقل إليه الماء والزاد برفاصات، هذا إلى تمهيد الطرق لمسير السيارات وإلى ضرورة وجود الميكانيكيين لإصلاحها إذا فسدت. والنقل بالبواخر المصرية أكثر اقتصادا من النقل بالبواخر الأخرى فضلا عن عدم الخضوع لتحكمات البواخر الأخرى، وتسير البواخر المصرية حتى منجلة. وقد كان البحث عن حالة منابع النيل جاريا قبل الحرب، ولكنه أوقف بسببها ثم أعيد بعد انتهائها. وهناك مستشفى الحكومة السودانية تشترك الحكومة المصرية في نفقاته. وقد تمكن الري المصري من مسح منطقة واسعة من الأراضي. وقد مسحت منطقة كاملة بالطائرات.
وتقع مكاتب الري المصري قبلي الخرطوم في منطقة تدعى «شجرة غوردون» وحقيقتها «شجرة محو بك» أحد حكام السودان، على بعد أربعة كيلو مترات من وسط الخرطوم، ويقال إن السبب في تسميتها أن غوردون كان يأوي إلى تلك الشجرة ويتناول تحت ظلها الواسع الإفطار والشاي. وقد تهدمت الشجرة وبقي جزعها وبقي اسمها. (7-1) في محاكم السودان
بعد عودتنا من زيارة شجرة غوردون توجهت لزيارة حضرة القاضي محمد صالح الشنقيطي قاضي المحكمة الجزئية المدنية بالخرطوم، وهو من خريجي قسم القضاء الشرعي في كلية غوردون، وتلقى دروسا في الإنجليزية، واشتغل مساعد قاض، ثم عين قاضيا مدنيا وهو على فضل كثير.
وبهذه المناسبة ننشر شيئا عن القضاء في السودان.
قبل المهدية: كان الحكم مباشرا؛ أي إن الذي يتولاه هم المأمورون والمديرون ورؤساء الأخطاط بغير انتداب أشخاص معينين أخصائيين يتولون القضاء.
في عهد المهدية: كان يتولى القضاء قضاة شرعيون وموظفون، يشبهون المديرين سلطة قابلين للنقل والعزل. وكانت أحكامهم تستأنف أمام مجلس القضاة في أم درمان، ويؤلف من عشرة قضاة يرأسهم قاضي القضاة . على أن المرجع الأخير كان للمهدي ثم لخليفته عبد الله التعايشي.
وكان هؤلاء القضاة يفصلون في جميع المنازعات ما عدا المسائل التجارية، فهي من اختصاص المجلس التجاري المؤلف من عشرة تجار. وكان «وهبي» وهو مصري، وكان مأمورا في بربر قبل الثورة المهدية يفصل في الجرائم الصغيرة.
بعد استعادة السودان: كان الحكم مباشرا؛ أي يتولى القضاء المديرون والمأمورون في المسائل المدنية والتجارية. والقضاة الشرعيون في مسائل الأحوال الشخصية.
وفي سنة 1919 أنشئت سلطة المشايخ «العمد»، فأصبحوا يحكمون في بعض القضايا، وتطور هذا النظام فأنشئت «محاكم أهلية»، ويرأس المحكمة الأهلية ناظر القبيلة أو الخط أو من يعينه الحاكم العام، ويكون معه أعضاء يختلف عددهم بحسب البلاد. ويؤلف هيئة المحكمة الجالسة من ثلاثة أعضاء على الأقل، ويكون للرئيس نائب ينوب عن الرئيس، ويصادق الحاكم على تعيين الأعضاء الذين يرشحهم ويوصي عليهم مدير المديرية. وليس للمحكمة الأهلية مكان خاص لانعقادها، ويكون لديها دفاتر تدون فيها أرقام القضايا وتواريخها والجريمة واسم المشتكي وأسماء الشهود وقراراتها، واختصاصها هو الحكم بالسجن لغاية سنتين وغرامة قدرها عشرون جنيها.
المحاكم القروية: وفي المدن محاكم قروية «قضاء عرفي» واختصاصها الحكم بالسجن إلى ثلاثة أشهر وبغرامة قدرها خمسة جنيهات.
ولرئيس المحكمة الأهلية وحده سلطة إجازية بأن يحكم بالسجن إلى ثلاثة شهور وبالغرامة إلى خمسة جنيهات، وقد تقرر إلغاؤها وتعميم المحاكم الأهلية.
المحاكم المدنية: توجد محاكم نظامية مدنية كالمحاكم الأهلية بمصر، وترفع إليها الدعوى بعريضة تلصق بها ورقة تمغة قيمتها ثلاثة قروش، ويذكر بها ملخص الدعوى والطلبات، وتقدم العريضة في اليوم التالي بالجلسة الساعة التاسعة صباحا، وفي هذه الجلسة يصرح القاضي للمدعي بالسير في الدعوى فيحصل رسما عليها بنسبة 5 في المائة من قيمتها ابتدائيا، واسمها «رسوم شكوى»، و5 في المائة أخرى واسمها «رسوم سماع». وتحدد جلسة لسماع الدعوى، ويكون تحديدها بعد أسبوع على الأقل من تاريخ دفع الرسوم.
وهناك محكمة جنائية «محكمة بوليس». ولغة المحاكم النظامية هي: الإنجليزية والعربية؛ غير أن الغالب أن تكون الأحكام وإعداد المحاضر بالإنجليزية.
تنفيذ الأحكام النظامية والشرعية: يكون تنفيذها بطريق عريضة من جديد، ويؤخذ عليها رسم 5 في المائة فيصدر القاضي أمره بالحجز أو إحضار المدين. وفي الغالب يأمر القاضي بالحجز. وينفذ الأوامر «المحضر» وبعد ذلك ينفذ الحجز في سبعة أيام. والبيع يكون بناء على طلب الدائن، وبعد إعلان تاريخ البيع في موعد 14 يوما في حالة بيع منقولات، وشهر في حالة العقارات، ولا يجوز بيع العقارات إلا بأمر من المدير.
وتنفذ المحاكم المدنية النظامية الأحكام الشرعية بالنفقات وتسليم الأولاد.
وتؤلف محكمة الاستئاف من ثلاثة قضاة، وأكثر القضايا الجنائية يفصل فيها رجال الإدارة، وتقدم الاستئنافات في أحكامها للحاكم العام. وفي الجنايات في المحاكم الكبري تستأنف الأحكام أمام المدير بواسطة السكرتير القضائي، وسلطته تماثل سلطة وزير الحقانية في مصر.
المحاماة: عدد المحامين في الخرطوم خمسة، أحدهم إنجليزي، واثنان يونانيان، واثنان مصريان. ولا يجوز للمحامي الغريب أن يترافع في السودان إلا بعد تصديق من الحاكم العام، وتصدر المحاكم النظامية أحكامها بسرعة والإجراءات سهلة، والعدالة فيها مكفولة أكثر من المحاكم الأهلية والقروية السودانية.
وقد أنشئت مدرسة للحقوق ولائحة محاماة بالخرطوم في سبتمبر سنة 1935، وهناك مجالس تأديبية ومحاكم عسكرية، ويصدر مجلس الحاكم العام القوانين، وترخص القوانين للسكرتير القضائي والمدير إصدار لوائح وأوامر بقيود معينة. وهناك مكتب لتسجيل الأراضي. (7-2) عند آل هاشم
أقام حضرة صاحب الفضيلة الشيخ أحمد أحمد أبو القاسم هاشم وكيل مشيخة المعهد العلمي بأم درمان وآل هاشم الكرام مأدبة غداء اليوم الساعة الأولى بعد الظهر. وآل هاشم أهل علم ودين منذ قديم الزمان، وعميدهم المغفور له الشيخ أحمد أبو القاسم كان شيخا لعلماء السودان، كان أول مؤسس للمعهد العلمي الذي عاش ربع قرن؛ أي منذ سنة 1910. وقد لبى الدعوة حضرات أعضاء البعثة وسماحة السيد عبد الرحمن المهدي وفضيلة قاضي القضاة وفضيلة المفتي والعلماء والتجار: السيد أحمد محمد البرير والسيد إبراهيم عامر، ويونس محمد، ومصطفى أبو العلا. وقد ذبح آل هاشم عشرين خروفا وقدموها في الموائد لحما حنيزا معه ذيول الخراف، وقد ألقيت الخطب المناسبة. (7-3) شاي قاضي القضاة
وأقام فضيلة الشيخ نعمان الجارم قاضي قضاة السودان وفضيلة المفتي حفلة شاي في الساعة الرابعة والنصف من مساء اليوم، حضرها سماحة السيد عبد الرحمن المهدي والعلماء والتجار. (7-4) استقبال السيد الميرغني
وفي الساعة السابعة من مساء اليوم زار حضرة صاحب السيادة السير السيد علي الميرغني أعضاء البعثة في فندق الجراند أوتيل، فاجتمع به حضرات الأعضاء وتبادلوا مع سيادته شتى الأحاديث، وانصرف سيادته مشيعا بالإكبار والاحترام. هذا وللسيد الميرغني أتباع كثيرون جدا في مصر والسودان والحجاز وأفريقيا، وهو قليل الخروج غير محب للمظاهر، على أنه إذا زار كسلا ودنقلة وغيرهما من بلاد السودان خرج الأهالي للتبرك به، ولثم راحته، وله نفوذ عظيم، ولسيادته مواقف كريمة نحو مصر ونهضتها وأمانيها، وهو قليل الكلام كثير الصمت. (7-5) محاضرة المؤلف
رغب إلى المؤلف بعض الشبان المثقفين في السودان من خريجي كلية غوردون أن يلقي محاضرة في ناديهم.
وعندما وصلت إلى دار النادي رأيته مزدحما بأكثر من ألفي نفس في فنائه الواسع، ورأيت الشوارع المجاورة مزدحمة، وقوبلت بترحاب وتصفيق، واستغرقت المحاضرة ساعة ونصف الساعة تقريبا، وكان موضوعها «الرحلات البعيدة وآثارها لمناسبة رحلة البعثة المصرية في السودان»، تكلمت فيها عما للرحلات من فضل في نشر العلوم وتدعيمها، وأن العلم لم يتقدم إلا بفضل رحيل العلماء، وضربت الأمثال على ذلك في التاريخ العربي والمصري والأوروبي، وفي عضوية بعثتنا نفسها، وما للرحلات من أثر في تعليم النظام واحترام المواعيد وتعويد السرعة؛ إذ السرعة من مقومات هذا العصر؛ فكما أن المواصلات كالسيارة والطائرة أصبحت سريعة، فقد وجب أن يكون الإنسان في حياته سريعا، وما لها من نتائج في جلاء الهموم وتوسيع الأفق وحل المعضلات السياسية والشخصية والاجتماعية، وفي نشر الدعوة للأوطان والمعتقدات، وفي سيادة الديموقراطية برفع التكليف بين أعضاء البعثة الواحدة على اختلافهم في العلم والثروة والجاه والمزاج والسن والبيئة، والتعرف إلى البلاد والأشخاص ونشوء الكشافة ورحلات الطلبة وتبادل الأفكار، والتعود على التقشف، والصراحة، وواجب المرتحلين في تدوين المذكرات وأخذ الصور. ثم ختمت المحاضرة بما يلي:
سادتي:
إن النيل قد جرى في واد وجعل من مصر والسودان بلادا متكاملة، وجعل من المصري سودانيا ومن السوداني مصريا، ولكن الاسم لم يتغير والمعنى لم يتحور، بل مصر والسودان كلمتان مترادفتان ولفظان متقابلان. والآن ونحن على أهبة السفر ونوشك أن نقول كلمة الوداع، لن نكون مخلصين لكم ولن تكونوا مخلصين لنا إلا إذا رحلتم إلينا ورحلنا إليكم.
فنستودعكم الله ونحن إخوان متحابون، وأبناء قد تباعدوا أو أبعدتهم الحوادث، ولكن لهم مرجعا ولهم أبا؛ فمرجعهم وأبوهم هو النيل، والنيل دائما، والسلام عليكم ورحمة الله. ا.ه.
خطاب الأستاذ عبد الرحمن طه
ووقف حضرة الأستاذ عبد الرحمن علي طه سكرتير النادي وألقى خطابا تفضل فيه على المؤلف بكلمات صاغها أدبه وكرمه، ووصف المحاضرة بأنها كانت في أجزائها رحلات من موضع إلى آخر، وعد إلقاءها فرصة سعيدة للحاضرين استأهلت «رحيلهم» من دورهم البعيدة والقريبة لسماعها. والأستاذ عبد الرحمن في مقدمة خطباء السودان فصاحة وبلاغة وأدبا.
خطاب السيد عبد الرحيم سماحة
وارتجل حضرة السيد محمد عبد الرحيم سماحة خطابا تكرم فيه على المؤلف بشيء كثير من الإكرام، ثم خاطب مواطنينا السودانيين فامتدح فضائلهم وتحدث عن التجارة بين مصر والسودان. (7-6) حفلة راقصة بالنادي اليوناني
سوق الذرة والسمسم في الأبيض.
وأقام نادي كونتو ميخالوس وزملائه اليونانيين حفلة راقصة توديعا لأعضاء البعثة لمناسبة سفرهم في اليوم التالي، حضرها العشرات من كبار موظفي السودان الإنجليز وأعيان الجاليات الأجنبية مع عقيلاتهم. وانتهت الحفلة بعد الساعة الأولى من منتصف الليل. (8) اليوم الثامن - الجمعة 15 فبراير
توديع الخرطوم
اليوم انتهت أيام البعثة المصرية في السودان، فنحن نغادر الخرطوم ونترك حضرات أعضاء الجمعية الزراعية الملكية ينجزون بعض الأعمال الزراعية. نغادر الخرطوم والسودان آسفين متأثرين؛ ولقد بكى الدكتور محجوب ثابت وبكى المودعون وتبادلنا العناق. السودان قد ملك من نفوسنا المكان الأول، واحتل في قلوبنا الركن الركين، فلن ننساه، وسنعود إليه كلما سنحت الفرصة. (8-1) قبور الضباط المصريين
لمناسبة الجمعة زارت البعثة المصرية قبور الضباط المصريين في أم درمان، ونثرنا الورد والزهور وقرأنا الفاتحة ووزعنا الصدقات وودعنا رفات مصري استشهد أصحابه في سبيل مصر والسودان ، فاستأهلوا الذكرى والتخليد. (8-2) في دار السيد المهدي
في الساعة التاسعة والنصف صباحا زرنا دار حضرة صاحب السماحة السير السيد عبد الرحمن المهدي محيين شاكرين حسن ضيافتة، وقد وزعت علينا الحلوى والمرطبات، وألقى الخطباء الخطب والقصائد، وأشاد السيد عبد الرحيم سماحة بمكانة السيد المهدي من الزعامة، واقترح على الحاضرين أن يعدوا هذا اليوم يوم عيد وأن يكبروا تكبيرة العيد «الله أكبر الله أكبر»، فتبعه الحاضرون ثم انصرفنا شاكرين بعد مشاهدة بعض الآثار النقدية والسلاح في دار السيد. (8-3) مأدبة الغداء
أقامت البعثة المصرية مأدبة غداء بالفندق تكريما وشكرا للداعين والمضيفين من الأعيان والوجهاء، وكان في مقدمة الحاضرين سماحة السير السيد عبد الرحمن المهدي وحضرات أعضاء مجلس الحاكم العام والغرفة التجارية والعلماء والتجار وكبار الموظفين. ... إلخ.
وخطب في المأدبة حضرات رشوان محفوظ باشا وفؤاد أباظة بك والأستاذ عبد الرحمن علي طه.
وقد سار بنا القطار الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم، ومر بشندي ثم عطبرة وأبو حمد فإلى حلفا، وكان الأهالي على طول الطريق يحيون البعثة أجمل تحية. (8-4) تأليف لجنة مشتركة دائمة
تلقت الجمعية الزراعية من البعثة المصرية بالسودان التلغراف الآتي:
زارت البعثة صباح يوم 14 فبراير مصلحة الري المصري وبواخرها النيلية بناحية شجرة غوردون، وعقدت جلسات مع الغرفة التجارية بالخرطوم ومدير المكتب الاقتصادي، ثم تناولت طعام الغذاء بدار آل هاشم بأم درمان، ثم لبت بالخرطوم دعوة أصحاب الفضيلة قاضي القضاة والمفتي ومفتشي المحاكم الشرعية.
وزارها بجراند أوتيل فضيلة السيد علي الميرغني، وهي أول زيارة من نوعها تقديرا للبعثة وإعجابا بأعمال سمو الأمير عمر طوسون، فقوبل بكل حفاوة وترحاب.
ولبت البعثة دعوة نادي كونتو ميخالوس ودارك هانكي لحفلة ساهرة.
وفي صباح الجمعة 15 فبراير زارت البعثة منزل السيد عبد الرحمن المهدي وسط جمع حافل وحفاوة بالغة تليت فيها التلغرافات المتبادلة مع صاحب السمو الأمير عمر طوسون، مع التحيات والتقدير، ثم أقامت البعثة مأدبة جامعة بجراند أوتيل حضرها نحو مائة وخمسين مدعوا من كبار القوم وكبار الموظفين والتجار، وشكر سعادة رشوان باشا رئيس البعثة سعادة الحاكم العام والموظفين والأعيان والتجار وإخواننا السودانيين للحفاوة التي استقبلت بها البعثة في كل مكان بالسودان، وتلاه فؤاد أباظة بك شارحا نتيجة زيارة البعثة من إحكام الصداقة بين المصريين والسودانيين، ووضع أسس التعامل التجاري، وتأليف لجنة مشتركة توالي اجتماعها سنويا بالتوالي بالقاهرة والخرطوم لتنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية والزراعية بين مصر والسودان، ولمنفعتهما المشتركة، كما اتفق على عرض حاصلات السودان وصناعاته بالمعرض الزراعي القادم.
وعاد لمصر الفوج الثاني من البعثة بقطار الساعة الرابعة بعد الظهر وسط جموع غفيرة من المودعين راجين لهم سفرا سعيدا، وتخلف عن السفر لجنة الجمعية الزراعية والدكتور إبراهيم شوربجي بك وعطا عفيفي بك والأستاذ مصطفى نصرت.
هذا وقد سافروا من الخرطوم الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة 22 فبراير ووصلوا إلى القاهرة صباح يوم الثلاثاء 26 الجاري. (8-5) زيارة قبور الضباط المصريين والسودانيين
وتلقت الجمعية الزراعية يوم السبت 16 فبراير التلغراف الآتي:
كان أمس الجمعة وكان موعد سفر معظم البعثة، فبكر الأعضاء في الصباح لزيارة مقابر الضباط المصريين والسودانيين بالجيش المصري بأم درمان، ونثرنا الأزهار على قبر المرحوم اليوزباشي عبد الله عرفة رمزا لذكرى الضباط المصريين، وكذلك على قبر اليوزباشي فرج أفندي إبراهيم رمزا لذكرى الضباط السودانيين، ووزعنا الصدقات وقرأنا الفاتحة على أرواحهم. وحالة القبور تستدعي العناية بترميمها.
فؤاد أباظة (8-6) من الخرطوم إلى أسوان
ركبنا القطار الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الجمعة 15 فبراير سنة 1935، ووصلنا إلى حلفا مساء اليوم التالي، وقابلنا حضرة مندوب الجمارك المصرية الشاب المهذب جرجس ميخائيل حنين أفندي، وسار معي في المدينة، وألفيناها كمراكز مصر، وسكانها مصريون وقد كانت مصرية.
ثم ركبنا باخرة نيلية من حلفا، وشهدنا في اليوم التالي معبد أبي سمبل في الحدود المصرية، ثم مضت الباخرة في سيرها حتى وصلنا إلى الشلال قبيل ظهر يوم الاثنين 18 فبراير، ووضع أعضاء البعثة «الفوج الثاني منها» أمتعتهم في القطار، وركبوا السيارات وشهدنا خزان أسوان.
واحتفى الأسوانيون بنا احتفاء وطنيا. وقد نزلت في أسوان ومكثت بها من ظهر يوم الاثنين 18 فبراير إلى صباح يوم الخميس 21 فبراير، حيث سافرت إلى الأقصر وبقيت فيها حتى يوم الأحد 24 فبراير، حيث شاهدت آثارها. (8-7) خزان أسوان
تكلمنا عن خزان سنار وخزان جبل الأولياء ومشروع خزان تانا ومشروع خزان بحيرة ألبرت في الجزء الثاني من الكتاب. ونتكلم عن خزان أسوان الآن.
ري الحياض: كانت الزراعة في مصر تجري على طريقة ري الحياض، فتزرع الأرض مرة واحدة في السنة، وقد رؤي شق الترع في عهد محمد علي وتمكين الأرض من الزراعة مرتين وثلاث مرات في السنة، وهو ما يسمى «بالري الصيفي»، وقد نهج الخديوي إسماعيل منهج جده محمد علي في تعميم الري الصيفي، بشق ترعة الاسماعيلية التي تقع على مسافة 175 كيلو مترا جنوبي القاهرة.
ثم رؤي إنشاء قناطر في أسوان، فإنشاء الخزان بها للري الصيفي، وأنشئت قناطر أسيوط لإمكان ري الأراضي العالية.
وتبدأ زيادة الفيضان حوالي آخر يوليو، وتصل زيادتها في سبتمبر، وقد تتأخر إلى أكتوبر ونوفمبر وتنتهي في ديسمبر.
وكان إنشاء خزان أسوان لأول مرة من سنة 1898 إلى سنة 1902 لإمكان تخزين الماء على منسوب 106 عن سطح البحر، ثم أجريت تعليته من سنة 1907 وتمت سنة 1910، حتى يصل إلى منسوب 113000. وسطح الخزان على ارتفاع 106، وبلغ 160000000 متر مربع، وسعته حوالي 1000000000 متر مكعب. وقد سمح ذلك بتحويل 300000 فدان في مصر الوسطى إلى الري الصيفي. وبلغت تكاليفه مع نزع ملكية الأراضي اللازمة له 3050000 جنيه مصري. فإذا قدرنا أن ثمن الفدان قبل إنشاء الخزان 70 جنيها، وأنه صعد إلى 140 جنيها، كان الخزان قد أتى بمبلغ 21 مليون جنيه لمصر.
وجعلت التعلية على منسوب 113000، ومسطح الخزان 270000000 متر مربع، واستيعابه أو سعته 2400000000 متر مكعب.
ومكنت هذه التعلية من تحويل 100000 فدان في مصر الوسطى إلى ري صيفي، وبلغت نفقات التعلية 1400000 جنيه.
وقد ظلت الحاجة ماسة إلى تخزين الماء خلف خزان أسوان، فأجريت التعلية الثانية، من سنة 1929 إلى سنة 1933 على ارتفاع 123، ويخزن الماء على ارتفاع 121 و122 فقط عن سطح البحر. ومسطح الخزان بعد التعلية الثانية 800000000 متر مربع، وسعته «استيعابه» 5000000000 متر مكعب. وقام بالتعلية المقاولون سير مورتون جريفيث وشركاه ثم طوفان جونز وريلتون لمتد. أما الإنشاء والتعلية الأولى فتولاهما جون إيرد وشركاؤه.
وأصبح طول قناطر الخزان بعد التعلية الثانية 2129 مترا منها 580 مترا للجزء غير المفتوح، 1547 للجزء المفتوح العيون، ويوجد 180 فتحة لمرور الزائد من ماء النيل، وقد قدر هذا الزائد في سنة 1878 بمقدار 14520 مترا مكعبا، وتختلف الفتحات ارتفاعا وعرضا. فعرضها من مترين وارتفاعها بين 3,50 و7 أمتار.
تكاليف التعلية الثانية
وقد بلغت التكاليف من نزع الملكية 4000000 جنيه، وفي وزارة الأشغال إدارة للخزانات، وتبحث الوزارة في الانتفاع من سقوط الماء في توليد القوة الكهربائية للإنارة وإدارة الآلات عند أسوان وما يجاورها جنوبا. (8-8) من الأقصر إلى القاهرة
سافرت من الأقصر صباح يوم الاثنين 25 فبراير إلى أسيوط، وزرت بلدتنا «بني عديات»، ثم عدت فلحقت بعد منتصف الليل بالقطار الحامل للفوج الثالث من البعثة وكان به سعادة رئيس البعثة رشوان محفوظ باشا، ومحمد بهي الدين بركات بك وزير المعارف العمومية الأسبق، وعبد الحميد فتحي بك، وفؤاد أباظة بك، والدكتور إبراهيم الشوربجي بك، وعبد الحميد أباظة بك، والمهندس مصطفى نصرت، وعطا عفيفي بك، والأستاذ محمود مصطفى علي، ومصور البعثة، ووصلنا إلى محطة العاصمة صباح يوم الثلاثاء 26 فبراير. (8-9) وصول الفوج الأول من البعثة
وصل صباح السبت 16 فبراير من أعضاء البعثة حضرات أصحاب العزة والوجاهة الدكتور يوسف نحاس بك وإسماعيل بركات بك والأستاذ أحمد أبو الفضل الجيزاوي وأحمد الحناوي أفندي والحاج أمين حجاج الزيني، ونزل في أسوان الأستاذ فخري الزق، وفي الأقصر صاحب العزة إلياس عوض بك، وقد احتفى بهم في العودة الموظفون السودانيون والمصريون في العطبرة، واستقبلهم تجار أسوان في محطة الشلال ورافقوهم إلى أسوان.
شكر من الأزهريين السودانيين على صفحات الأهرام
أرسل حضرات علماء وطلبة السنارية بالأزهر إلى المؤلف ما يلي:
إخوانك السنارية بالأزهر يتقدمون إلى حضرتكم بتحيتهم الخالصة وكلهم مغتبط مسرور ليبلغكم تهنئته لكم أنتم وحضرات الأفاضل النجباء أعضاء البعثة الاقتصادية الموفقة بسلامة الوصول بعد أن قمتم بأكبر واجب لدى إخوانكم السودانيين وأجل مقصد عند أبناء القطر الشقيق، ونحن السنارية لم نبرح نرقب حركاتكم منذ بدء رحلتكم الميمونة في ظعنكم وإقامتكم، نرقبها بعين الاهتمام والإعجاب والإكبار والإجلال. واعتقادنا أن أعضاء البعثة إن لاقوا حفاوة من إخوانهم السودانيين في طول البلاد وعرضها بالغة ما بلغت تلك الحفاوة ما هي منهم إلا القيام بالواجب، بل أداء لحق، وتعبير عن عاطفة قوية برهنت الحوادث والتقلبات على أنها مهما وضعت الحواجز والموانع في سبيلها على طول الزمن وشدة العسف لا تزداد إلا شدة ورسوخا وثباتا، توحيها وتلهبها وتنميها العوامل التي لا حد لها؛ عوامل الجوار والدين واللغة، بل عوامل الحركات والسكنات في الجسد الواحد. فلا غرابة ولا عجب أن رأينا المصري في السودان يمشي على أرض ليست بالغريبة عنه وإنما هي قطعة من وادي النيل، ويمتزج مع إخوان هو منهم وهم منه في القديم والحديث، وسيظلون هكذا إلى أن تبدل الأرض غير الأرض والسموات. كتلة النيل واحدة ووحدة النيل متحدة.
أيها الأخ العزيز: إنا إذا حيينا أعضاء البعثة وشكرناهم فردا فردا ثم خصصناك من بينهم فلإعجابنا بك الذي لا حد له في صراحتك وإخلاصك وهمتك العالية، وقيامك بأداء واجبك على أحسن ما ينبغي وأجمل ما يكون من تصوير الحقائق وشرح الواقع بأسلوبكم الرائع وعبارتكم الرصينة. ولا ننسى توجيهكم النظر إلى وزارة المعارف وطلبكم منها العناية بدروس التاريخ والجغرافيا خاصة في بلاد السودان؛ كي يعرف التلميذ الحقيقة ويتلمس الواقع البين من طبيعة الأرض وطبيعة ساكنيها وما هم عليه من حضارة ورقي أخلاق.
فهذه أمنية طالما تمنيناها وفكرة جديرة بالاهتمام طالما نادينا بها، ونرجو أن يكون لكلامكم لدى وزارة المعارف أثره فتعطيه من العناية ما يليق به ويحقق المقصود.
هذا وإن لنا الأمل الكبير أن يتنبه إخواننا المصريون فيعرفوا لإخوانهم السودانيين حقهم ويضعوهم في مكانتهم. ورأينا فيما قدمتموه لهم على صفحات الأهرام الغراء من شرح وتفصيل أنه لجدير بأن يوقظ من شعورهم ويلهب من عواطفهم، بل ينبه من غفلتهم وينمي من معلوماتهم، وحسبنا في ذلك ما اعترفتم به أنتم في إحدى مقالاتكم من عدم إدراك الحقيقة كما هي، وأنكم ماكنتم تعلمون عن السودان كما رأيتموه على طول الدرس والقراءة عنه في الكتب والكتابة عنه في الصحف، وبإزاء هذا شجعتم إخواننا المصريين وبخاصة شباب الجامعة المصرية على أهمية الرحلة إلى السودان، وما لها من الأثر لدى تنمية العلاقات وتقوية الروابط وتبادل التعارف، فإن رجعنا مرة أخرى وكررنا لكم شكرنا وإعجابنا بكم، فتحيتنا وشكرنا وتقديرنا أيضا لصحيفة الأهرام الغراء. ولا زلتم عونا للحق موفقين لآداء الواجب الإنساني، ولا زالت الأهرام في علاها وتقدمها المطرد يعنيها ماضيها المجيد ومكانتها الكبرى في الشرق أجمع.
أعضاء البعثة عند وصولهم إلى محطة القاهرة صباح يوم الثلاثاء 25 فبراير سنة 1935.
الفصل الحادي عشر
بعد عودة البعثة
(1) حفلة الجمعية الزراعية واجتماع أعضاء البعثة المصرية برياسة الأمير عمر
اجتمع حضرات أعضاء البعثة المصرية بالسودان في دار الجمعية الزراعية الملكية بالجزيرة بعد عودتهم، وقد رحب بهم حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك المدير العام للجمعية وحضرة حسين فريد بك وكيلها والأستاذان محمود مصطفى علي كبير مفتشيها ومحمد أحمد عابدين رئيس سكرتيريتها، وقد شهد حضرات الأعضاء صورا مختلفة من مناظر البعثة في رحلتها في مدن السودان.
وقد شرف اجتماع البعثة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، فاستقبل بالإجلال والاحترام، وكان فؤاد أباظة بك يقدم حضرات الأعضاء لسموه، وقد تفضل سموه بتهنئة الأعضاء على نجاح البعثة، ورجا أن يكون من وراء رحلتهم خير لمصر والسودان. فقال الأعضاء لسموه: إن الفضل الأكبر في سفر البعثة ونجاحها يرجع إلى سمو الأمير الجليل، فقد سبق البعثة وسبق غيره في مواصلة العلاقات بين البلدين، ثم كان تأليف البعثة من تفكير سموه وبرعايته وفي ظل تشجيعه. فقال سموه: إن الفضل لكم، أو على الأقل لا يزيد نصيبي على فضلكم. فشكر الأعضاء لسموه تهنئته.
ثم عرض فؤاد أباظة بك على الأعضاء جزءا من الفيلم المشتمل على مناظر البعثة في رحلتها، فأعجبوا بنجاح الفيلم وهنأوا فؤاد بك على عنايته بتسجيل مناظر الرحلة. (2) حفلة الشاي
وأقامت الجمعية الزراعية الملكية في فناء دارها حفلة شاي تكريما لحضرة مسيو كونتو ميخالوس رئيس الغرفة التجارية بالخرطوم لمناسبة حضوره إلى مصر. وقد كانت الحفلة برعاية سمو الأمير عمر طوسون، حيث جلس مسيو كونتو ميخالوس إلى يمين سموه وسعادة رشوان محفوظ باشا إلى يساره، وجلس صاحبا السعادة محمود صدقي باشا محافظ العاصمة وحامد الشواربي باشا إلى اليمين، وكان إلى جانبهم من أعضاء البعثة حضرات فؤاد أباظة بك وعبد الحميد أباظة بك وعبد الحميد فتحي بك والدكتور إبراهيم الشوربجي بك والدكتور يوسف نحاس بك وألفونس جريس بك وإلياس عوض بك والأستاذ محمد عطا عفيفي والدكتور محجوب ثابت والأساتذة عبد المجيد الرمالي ومحمد حسن قاسم وأحمد حسن قاسم ومحمد عبد الرحيم سماحة وعبد الله حسين ومحمود أبو العلا وعلي شكري خميس والسيد عبد المجيد محروس والوجيه محمود مصطفى الجمال ومحمد حسين الرشيدي ومصطفى نصرت المهندس وأحمد أبو الفضل وفخري لوقا الزق والسيد حسين عيسى، كما لبى الدعوة لفيف من أعضاء الجمعية الملكية الزراعية والنقابة الزراعية والغرف التجارية والصحفيين. (2-1) خطاب رشوان محفوظ باشا
ثم ألقى سعادة رشوان محفوظ باشا الخطاب التالي:
حضرة صاحب السمو الأمير الجليل، جناب المستر كونتو ميخالوس، حضرات السادة:
لي الشرف العظيم نيابة عن البعثة المصرية في أن أقدم لحضرة صاحب السمو الأمير الجليل أجزل عبارات الشكر والامتنان لتفضله بإقامة هذه الحفلة تكريما للمستر كونتو ميخالوس، فأتاح لنا الاشتراك في الاحتفاء بمقدم هذا الرجل العظيم إلى هذه الديار.
تعلمون حضراتكم كيف تألفت بعثتنا والأغراض التي سافرت إلى السودان لتحقيقها، وقد كان لصاحب السمو الأمير الجليل الفضل الأكبر في تنفيذ هذه الفكرة، وفي نجاحها بما كان يتفضل به على أعضاء البعثة من تلغرافات التشجيع والشكر في أثناء إقامتنا بالسودان. وإذا قلنا إن أهل السودان يحملون في صميم قلوبهم كل الاحترام والعرفان بالجميل لسموه لقصرنا في تصوير الحقيقة تصويرا صادقا؛ فإن أيادي سموه البيضاء وبره المتواصل قد أظلت كل عمل خيري في أرجاء السودان، فغرست في قلوب أهله ذلك الاحترام والعرفان بالجميل.
سافرت بعثتنا إلى السودان في أواخر يناير كما تعلمون، ووصلنا بور سودان 28 من الشهر المذكور، وزرنا بلادا كثيرة في أنحاء السودان المختلفة، وكنا حيث ذهبنا نلقى سيلا متصلا من الترحيب والإكرام وحسن الاستقبال، كما كان تنظيم أسفارنا بالغا كل الغاية من أسباب الراحة، ويعود الفضل في هذا لجناب المستر كونتو ميخالوس رئيس غرفة السودان التجارية وحضرات زملائه أعضاء لجنة هذه الغرفة الذين بذلوا كل جهد وتحملوا كل مشقة في سبيل راحتنا، فلهم وللذين احتفلوا بنا من أهل السودان جميعا خالص الشكر والحمد، ولا نستطيع أن ننسى أن نوجه مثل هذا الشكر إلى معالي حاكم السودان العام، وإلى رجال حكومة السودان، لما بذلوه من حفاوة بنا، ولما أمدونا به من معلومات قيمة وما قاموا به من تسهيل مهمتنا.
أيها السادة:
لقد كان الغرض من سفر البعثة إلى السودان توثيق الروابط الاقتصادية التجارية والزراعية بين مصر والسودان، ولقد كان لمعاونة المستر كونتو ميخالوس رئيس غرفة السودان التجارية الأثر الفعال في وصول البعثة إلى النجاح في الغرض الذي سافرت البعثة من أجله، ولعلكم اطلعتم على ما نشر من نتيجة عملنا في الصحف، ولنا كل الأمل في أن تستمر هذه الجهود لخير البلدين اللذين تربطهما أمتن الروابط، وأن تثمر أحسن الثمرات بفضل التعاون الذي وضع أساسه بالعمل المشترك بين هذه البعثة ورجال السودان.
أرجو أن يسمح سمو الأمير الجليل بأن يتفضل بتسليم المستر كونتو ميخالوس هذا التذكار، وهو مظهر بسيط لتقدير ما قام به من المجهود العظيم الأثر في تعاوننا المشترك، ولما قام به من تسهيل سفر البعثة وإقامتها في الأراضي السودانية.
أيها السادة:
إننا إذ نكرم اليوم رجلا قام بالمجهود العظيم الذي أشرنا إليه إشارة وجيزة يملأ قلوبنا الرجاء العظيم في الوقت نفسه بأن يكون تحقيق النتائج التي وصلنا إليها تحقيقا عمليا خير عربون لازدياد روابط الإخاء والمودة بين مصر والسودان ازديادا تزيده السنين اطرادا. (2-2) خطبة الوجيه علي البرير
وألقى حضرة التاجر السوداني الوجيه علي البرير الخطاب التالي:
صاحب السمو الأمير الجليل، أصحاب السعادة والعزة، سادتي:
إن العلاقات المصرية السودانية طغت عليها منذ زمان موجة من الانحلال والفتور، ولبعض هاتيك العوامل أعذارها التي لا يمكن أن يغض عنها الطرف أو يتناساها المدقق، وهي وإن كان لها بعض النتائج المادية الملموسة مما قد يعتبره بعض الناس جفوة في العلائق وتقاطعا للأرحام، فما استطاعت أن تعصف بين هوى القلوب المتبادل وحب النفوس المشترك. وكيف وما بيننا وبين مصر من روابط وأواصر مكين منذ الأزل، وطيد منذ أن أبدع الله الخليقة وبسط الأرض وفجرها عيونا وأنهارا. وما كان لما سواه الخالق وأحكم روابطه أن يهدمه الإنسان ويقطع أواصره، وإن الواجبات الإنسانية والعلاقات الأخوية التي بيننا وواجب مصر نحو السودان في كل مظاهر الحياة، وما يترقبه السودان دائما من رعاية مصر وعطفها وحنانها ومساعدتها، وواجب شعب نحو شعب، قد جعل الله في شخص صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون داعيا ومحققا ، وقد قام سموه بمفرده بكل ما تحتمه الواجبات العالية نحو السودان، وهو وحده أمة في فرد؛ أدى الأمانة وقام بالواجب، وكفى مصر مئونة ما يجب أن تقوم به من حق مفروض. فالسودان في حاضره وفي مستقبله مدين للأمير الجليل بكل الثمرات الطيبة التي سيجنيها من وراء أياديه وغراسه، وهي في كل نواحي الحياة متعددة كثيرة تتداخل جميعها في أن تكون للسودان عوامل النهوض والتقدم والعمران. فما شئت من بعوث علمية لأبناء السودان في أوروبا وفي أرقى جامعاتها ومن أخرى في مصر وفي شتى مدارسها وفي السودان ما لا يحصره العد من فيض كرمه ومبذول عطائه. وهذه أياديه وهباته المستديمة ظاهرة في المغارس المختلفة وفي الملاجئ المتعددة، وتلك عطاياه إلى معاهد العلم الدينية، وهاتيك فواضله غزيرة متدفقة كلما طرق سمعه الكريم أن بيتا لله يقام ومسجدا يشاد في كل بقعة من بقاع السودان، وها هو أول المتبرعين وأجزلهم منحا وأسرعهم نجدة كلما نما إليه أن السودان مست بعض نواحيه يد المجاعة والفاقة. وما كان للسودانيين وهم أعرف الناس بحفظ الجميل وأبقاهم على الوفاء إلا أن يكون سموه الجليل متمثلا لهم في كل قلب وساكنا بكل فؤاد. وإن ذكرت في السودان مصر وطافت بالعقول ذكرياتها - وهي أبدا حاضرة - فما هي للسودانيين إلا المتمثلة في سمو الأمير الجليل وشخصه الكريم، وما كفته أياديه الممطرة وهباته المتواصلة حتى راح يبحث وينقب عن نواح أخرى يشيد فيها بذكر السودان ليجعله حاضرا متجليا متجددا في نفوس المصريين، فيكتب ما كتب عن بطولة أبنائه البواسل في حروب المكسيك، وبلائهم الحسن في حومة الوغى والنضال. وهيهات هيهات للسودان مهما أثنى على سموه وقام له بالوفاء أن يفيه حقه.
فهو «كما نثني وفوق الذي نثني»، وحسبنا أن نقول إن سموه الجليل حفظ سمعة مصر في السودان وأوثق الروابط وجدد دارس الذكريات، وحقق للسودان حسن ظنه بمصر وعظيم رجائه في عطفها وبرها.
وليست هذه البعثة الاقتصادية، وسموه رئيسها الأكبر، إلا آية أخرى من آيات اهتمامه بالسودان وتوثيق العلاقات المادية بعد أن أحكم روابط الصلات العلمية والدينية، وليس ما رآه أفراد البعثة الأجلاء من حماس في الترحيب وحرارة في اللقاء إلا دليل ما تفيض به نفوس السودانيين من حبه وإجلاله. فسموه أولا وأخيرا واسطة العقد وفريد نظيمه بين القطرين الشقيقين. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن الناس يتوقعون وراء هذه الروابط الزراعية شيئا آخر، هو أن تكون هذه الروابط مدرسة يتلقى فيها السودانيون ما اشتهر به الفلاح المصري من دربة ومقدرة في فن الزراعة، وما وصلت إليه نتائج العقول في الفلاحة، حتى يكتمل له ما أراده سمو الأمير الجليل من رقي علمي في مختلف النواحي العقلية.
وإن كان لا مندوحة من أن تشتري الجمعية الزراعية أو أصحاب رءوس الأموال المصريين بعض الأراضي الزراعية في السودان لاستغلالها، فإننا كسودانيين نرجو أن يكون هذا الشراء من ملاك وطنيين؛ فهم أهل البلد وأصحابها، وهم الذين تربطهم بمصر أسمى الروابط، ولأجلهم وحدهم بذل الأمير الجليل ما بذل من مجهود مشروع، ولدى الوطنيين كل ما يريده الشاري المصري من مختلف المساحات الزراعية. فإن أراد قطعا صغيرة فهي متوفرة، وإن أراد قطعا كبيرة المساحة قائمة بذاتها فلكبار الملاك وزعماء البلد أمثال السيدين الجليلين السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي من الأملاك الواسعة والمساحات الأرضية الشاسعة في شمال السودان وجنوبه ما يربو على حاجة المشترين المصريين.
وبهذا الجوار الزراعي الذي تحوطه كذلك أملاك أخرى لملاك وطنيين تحقيق لما يرجوه السودانيون من وراء هذا الحوار ومن أخذ بأسباب الوسائل الزراعية المصرية الحديثة، وبما يبذله الفلاح المصري من مجهود وغيرة زراعية جعلته من أشهر مزارعي العالم، وبذلك يسدي الفلاح المصري إلى شقيقه السوداني كل ما يمكن أن يتوقعه منه من خير في الاختلاط، وإن مثل هذه الظواهر المحلية لها أكبر الأثر فيما يترتب على مجهود للبعثة ومشآتها من نتائج، وإن تعدتها إلى غير ذلك من شراء أراض غير وطنية وفضلت غير الوطنيين على الوطنيين، فإن النتيجة لا يستفيد منها المالك السوداني شيئا، ولا تعود على السودان بأية فائدة ؛ لا من الوجهة المادية أو العلمية أو الأدبية، بل قد يؤدي هذا إلى خيبة في الرجاء وتحطيم للأمل. وإنا لنرجو أن تعير الجمعية الزراعية أمثال هذه الملاحظات اهتمامها، وأن تتدبرها، وأن تضع كل شيء في موضعه اللائق حتى يتحقق للسودان كل ما أراده له سمو الأمير من يسر ورخاء. (2-3) كلمة المسيو كونتو ميخالوس
صاحب السمو، أصحاب السعادة، حضرات السادة:
إني مدين لسعادة رشوان باشا بكلماته الطيبة، ولأعضاء البعثة لفكرة تقديم تذكار لزيارتهم السودان التي أقدرها كثيرا.
إني أشكر بصفة خاصة الأمير عمر طوسون لتشريفه هذه الحفلة، وأرجو أن تعذروني إذا لم ألق خطابا طويلا لأني قلت في السودان كل ما يمكن أن يقال، وأخذنا في العمل واستمرار جهودنا المشتركة في تنمية التجارة وتوثيق العلاقة بين مصر والسودان لمصلحة البلدين.
يا صاحب السمو، يا صاحب السعادة يا حضرات السادة، أشكركم. (2-4) كلمة حسين السيد أباظة بك
ثم وقف حضرة الوجيه حسين السيد أباظة بك والد فؤاد أباظة بك والأستاذ فكري أباظة، فألقى كلمة بليغة في الإشادة بفضل سمو الأمير عمر، وفي العلاقات التجارية بين مصر والسودان، وترحيب المواطنين السودانيين بالبعثة، وفي حفاوة المسيو كونتو ميخالوس بها، وقد قوطعت الخطب بالتصفيق والإعجاب، وأخذت صور عديدة وانصرف الحاضرون شاكرين مبتهجين بهذه الحفلة البديعة. (3) البعثة والغرفة في العمل - محاضرات الجلسات بين البعثة المصرية والغرفة التجارية السودانية في الشئون التجارية
محضر الجلسة المنعقدة في 12 فبراير سنة 1935
بحضور جناب المسيو كونتو ميخالوس الرئيس وحضرات توتنجي - ريد تساكر وجولو - مصطفى أبو العلا - السيد عبد الجواد الرمالي - محمود أبو العلا - محمد عبد الرحيم سماحة - علي شكري خميس.
بضائع قطنية وأقمصة وجوارب:
تقرر أن تطلب البعثة المصرية من بنك مصر إرسال عينات من بضائعهم إلى الغرفة التجارية السودانية.
الأرز:
اتفق على أن تتصل البعثة المصرية بالحكومة المصرية لكي تسترد ضريبة تصدير الأرز للسودان، كما أنه قد تقرر أيضا أن الغرفة التجارية السودانية من جهتها تتصل بحكومة السودان لإمكان تقدير تعريفة مخفضة للنقل، كما أنها تتصل أيضا بشركة البواخر الخديوية لكي تقرر تعريفة بحرية خاصة للنقل من السويس، كما أن جناب المسيو كونتو ميخالوس يتصل شخصيا بشركة البواخر الخديوية للسبب عينه.
السيجار والسجاير:
تستورد حاليا من مصر.
السمنتو والكبريت:
اتفق على أن تتصل البعثة المصرية بالسلطات المصرية لغرض إلغاء ضريبة الإنتاج أو جزء منها على الأسمنتو والكبريت المصدر إلى السودان.
الصابون المصري:
مبيعات مصر في السودان من هذا الصنف طيبة.
الأحذية الطويلة والقصيرة:
إن المنافسة اليابانية في الواقع تستغل هذا الصنف فيما عدا الجلود، فهي مستحيلة، وعلى ذلك تقرر أن ترسل مصر عينات من هذه البضائع إلى الغرفة التجارية السودانية، كما أنه يجب الاتصال بالحكومة السودانية لكي تسمح للمصانع المصرية بالدخول في مناقصات التوريد الخاصة بالجيش. وقوائم المناقصات يجب نشرها في مصر. وإننا ننصح للبعثة المصرية بالاتصال بمندوب حكومة السودان في هذا الشأن.
الجعة (البيرة):
يعتقد أن هذا الصنف يفسد في السودان، وأنه من واجب البعثة المصرية أن تسترشد بصناع هذا الصنف في مصر.
الحلويات:
تقرر أن تتصل الغرفة التجارية السودانية بمصلحة سكك حديد السودان لغرض إصدار تعريفة خاصة للحلاوة الطحينية المستوردة من مصر، كما أنه تبين أن تعريفة السيكورتاه للنقل حتى بور سودان هي 31 مليم الأقة وأجرة النقل من بور سودان إلى الخرطوم هي 15 مليم الأقة؛ أي أكثر من 50 في المائة؛ ولذلك فإن الغرفة التجارية السودانية تريد أن تتأكد إذا كانت الحكومة السودانية تسمح لأحد المصانع بتخفيض عشرة جنيهات مصرية في الطن في أثمان السكر.
الروائح وورق اللف:
فيما يختص بهذين الصنفين تقرر أن العينات مطلوبة.
الزهرة:
تقدم من مصر.
الأقمصة الفنلة وغيرها:
تقرر أنها تستورد من مصر وتباع في السودان.
السجاد:
يستورد من مصر.
الأدوات النحاسية:
تستورد من مصر.
الأدوات الأليمونية:
عينات مماثلة من هذه البضائع تستورد من اليابان، ويمكن الحصول عليها من مصر.
الأدوات المصنوعة من الفخار والأدوات الزجاجية:
يجب الاسترشاد من المصانع المصرية عن أسواق السودان.
إمضاء رشوان محفوظ
إمضاء كونتو ميخالوس
الثلاثاء 13 فبراير سنة 1935 (1)
بحضور كل من السابق ذكرهم ومعهم محمد أفندي قاسم، وقد قرئ المحضر السابق وصدق عليه. (2)
لا يوجد للحكومة المصرية سياسة زراعية خلاف مسألة القطن. (3)
وافق على أن يطلب من الحكومة المصرية حماية حاصلات السودان ضد حاصلات الممالك الأخرى عندما تكون مطلوبة ومماثلة لها. (4)
رجاء مصلحة السكك الحديد السودانية أن لا تقبل نقل السمسم والذرة من أسكلة بور سودان، وأن لا تسمح بتصدير هذه الأصناف ما لم تكن خارجة رأسا من معمل تنظيف النباتات. «قد نفذ هذا الطلب». (5)
أن تتعاقد الغرف التجارية في القاهرة والإسكندرية مع البائعين والمشترين في مصر لحاصلات السودان، وأن ترسل غرفة السودان التجارية شهريا عينات من الحاصلات للغرف التجارية المصرية في القاهرة والإسكندرية. (6)
لقد اتفق على تكوين لجنة دائمة لتبادل الآراء بين الغرف التجارية بمصر ومن يهمهم الأمر والغرفة السودانية التجارية، على أن تجتمع بالقاهرة والخرطوم على التوالي، وأن كل عضو له هذا الحق. (7)
تبادل قوائم بأسماء التجار بالخرطوم والقاهرة وإسكندرية بين الغرف. (8)
أن يعمل مجهودات من الطرفين قبل سكك الحديد المصرية والسودانية لتخفيض الشحن فيما يختص بتجارة الفواكه. (9)
تبادل العينات للمعرض في غرف المنتجات السودانية والمصرية وكذا الصناعات. وعلى غرف مصر وإسكندرية التجارية أن تسترشد بلجانها في هذا الموضوع. (10)
مخابرة الحكومات المختصة لقبول منتجات البلدين في مناقصتها على أن يكون أصل المنتجات معينا على حدة، وأن المناقصات عن السودان ستنشر في مصر.
رشوان محفوظ
كونتو ميخالوس
الأربعاء في 14 فبراير سنة 1935
بحضور حضرات من سبق ذكرهم، وكذا رشوان باشا وفؤاد بك أباظة وحسين أفندي عيسى، وقد قرئ محضر 13 فبراير وصدق عليه.
ملحوظة خاصة
يتصل بالحكومة لتراقب الأهالي الذين يبيعون القرض والأشياء المماثلة في السوق على أن تكون معروضاتهم نظيفة.
السكر
الاحتكار في يد الحكومة.
ترغب غرفة السودان التجارية أن تجد وسيلة تتخلص بها من الاحتكار، ولكن في الوقت نفسه تستبقي دخل الحكومة من السكر. والصعوبة الحالية ناتجة من عدم السماح بتقرير ضريبة على البضائع الواردة من مصر.
يقترح رشوان باشا بأنه يجب أن يكون هناك بعض الضمان على أن لا يستورد إلا السكر المصري فقط.
الغرفة التجارية السودانية ستطلب - لما تكنه من اعتبارات المودة والصداقة للبعثة المصرية - أن تعمل الحكومة السودانية على إلغاء الاحتكار.
ويقترح فؤاد بك أباظة أن الغرفة السودانية تحضر مذكرة خاصة بمسألة السكر، وهنا ترك الجلسة حضرات رشوان باشا وفؤاد بك أباظة:
تحسين طرق المواصلات بين البلدين بالطريقة الآتية: (أ)
بتخفيض الأجور العالية للتلغرافات كما كانت سابقا. (ب)
بإيجاد مخابرات تليفونية بين البلدين. (ج)
بتخفيض أجور نقل الطرود بالبوستة لجعلها مماثلة لأجور الطرود في الداخل. (د)
قبول شهادات تحقيق شخصية من غرفتي مصر وإسكندرية التجارية بدلا عن جوازات السفر، وبذلك يتمكن التجار من السفر بسهولة بين البلدين.
رشوان محفوظ
كونتو ميخالوس
محضر للجلسة بين رئيس غرفة السودان التجارية ولجنة البعثة المصرية ومدير التجارة والاقتصاد بالسودان في 17 فبراير سنة 1935.
وبحضور جناب المسيو كونتو ميخالوس رئيس والمسيو س. أزمرليان والمسيو كفوري عن الغرفة التجارية السودانية، وحضرات أصحاب السعادة والعزة رشوان محفوظ باشا رئيس وفؤاد بك أباظة وعبد الحميد بك فتحي وألفونس بك جريس وعبد الحميد بك أباظة والدكتور إبراهيم بك الشوربجي والمهندس مصطفى نصرت، عن البعثة المصرية.
فقد أخذ علم بمحاضر الجلسات التي عقدت مع لجنة التجارة، وأظهر الميجر فولي ارتياحه فيما يختص بالفقرات التي يحتاج فيها الالتجاء إلى الحكومة، ولكنه لا يمكنه أن يفصل فيها بنفسه.
وتقرر أن الغرفة التجارية السودانية تقدم إليه بنفسها هذه المسائل مقررة التوصية بها، وتطلب أن تعيرها الحكومة الالتفات اللازم.
وقد سأل الميجر فولي الأعضاء المصريين عن هل في الإمكان عمل الترتيبات لإمداد الغرفة التجارية بالخرطوم ومصلحة الاقتصاد والتجارة عن طريقها بالأرقام الخاصة بأصناف الذرة السوداني المختلفة التي تستهلك في مصر؛ لأن الحكومة لغاية هذه اللحظة لم تتوصل لمعرفة أي صنف من الأصناف يستحق التشجيع عن الأصناف الأخرى، وقد بين المسيو كونتو ميخالوس أنه من المستحسن أن تصدر مصلحة الاقتصاد والتجارة من الآن تعليمات إلى جمرك بور سودان وحلفا خاصة بأن الأصناف المختلفة المصدرة إلى مصر يصير تقريرها بالجمارك حتى يمكن الحصول على بيانات كافية، وقد وافق الميجر فولي على المباحثة في ذلك مع الجمارك.
التمر (البلح): ذكر المستر لويس أن دنقلة تنتج بلحا جيدا، وأنه يطلب من البعثة المصرية عند رجوعها إلى مصر بيانات عن أسماء المحلات التجارية في مصر المختصة ببيع الأنواع الجيدة من البلح المجفف في العلب سواء للاستهلاك المحلي أم للبيع في الخارج، فوعدت البعثة أن تستعلم عن ذلك وتخابر الغرفة التجارية بالخرطوم، وفي الوقت نفسه ذكر مدير مصلحة التجارة والاقتصاد بأنه سيتصل بمدير حلفا ليرسل كمية من البلح على ظهر الباخرة المقلة للبعثة؛ حتى يتمكن من معاينتها وتجربتها. بالنسبة للمناقصات التي ورد ذكرها في جلسات 13 الجارى، فقد تقرر بعد المباحثة أن إذاعة مناقصة السودان في مصر ربما توجد بعض عقبات، ولكن بما أن جميع مناقصات السودان تذاع في الجرائد المحلية فيمكن للجمهور المهتم بها في مصر الاشتراك فيها، أو أن تطلب الغرفة التجارية السودانية نسخا من هذه المناقصات عندما تصدرها الحكومة لكي ترسل منها أعدادا لغرفة القاهرة والإسكندرية التجاريتين ليطلع عليها التجار الذين يهمهم الأمر.
وفيما يختص بالمناقصات المصرية فإنها تنشر في الوقائع المصرية، فمن الميسور أن يطلع عليها جمهور التجار السودانيين والدخول فيها.
معرض القاهرة: ولقد تقرر أنه بناء على طلب الغرفة التجارية السودانية أن ترسل مصلحة الاقتصاد والتجارة منشورا إلى مديري الأقاليم لإخطار التجار بإرسال عينات في الوقت المناسب إلى الخرطوم، وأن تجمع هذه العينات في الغرفة التجارية لإرسالها إلى القاهرة في آخر نوفمبر القادم على الأكثر، كما أن الحكومة ترسل جميع المعروضات الخاصة بالقطن. وفيما يختص بالنقل فقد اقترح على البعثة المصرية أن تتصل بمصلحة السكك الحديد المصرية للوصول إلى نقلها مجانا من الشلال، كما أن الغرفة التجارية السودانية تطلب من مصلحة السكك الحديد السودانية نقلها مجانا إلى الشلال، وسترسل الغرفة التجارية السودانية إلى الجمعية الزراعية بمصر في أقرب فرصة مناسبة كشفا ببيان المعروضات التي سترسل إلى مصر حتى يحتفظ لها بمكان مناسب بالمعرض.
رشوان محفوظ
كونتو ميخالوس
محضر الجلسة المنعقدة بين أعضاء لجنة الغرف التجارية السودانية والبعثة المصرية.
يوم الاثنين 18 فبراير سنة 1935
مستر ج. أ. كونتو ميخالوس، الرئيس مستر س. أزميرليان، مستر عزيز كفوري عن الغرفة التجارية السودانية، رشوان محفوظ باشا رئيس، فؤاد أباظة بك، عبد الحميد فتحي بك، ألفونس جريس بك، عبد الحميد أباظة بك، الدكتور إبراهيم الشوربجي بك المهندس، مصطفى نصرت، عن البعثة المصرية.
انعقدت الجلسة بين ممثلي الغرفة السودانية التجارية وأعضاء البعثة المصرية بخصوص المسائل التجارية.
وقد قرئت محاضر جلستي 13 و14 فبراير وصدق عليها بعد التعديلات الآتية:
جلسة 13 فبراير:
النبذة السادسة أضيفت الكلمات: (ومن يهمهم الأمر) بعد كلمات الغرف التجارية في مصر.
جلسة 14 فبراير:
قرر فؤاد أباظة بك أن هذه مسألة دقيقة، وأن أحسن ما يعمل هو أن الغرفة التجارية السودانية تجهز مذكرة عن الموضوع لكي تقدمها البعثة المصرية إلى الحكومة المصرية للنظر.
بند ج:
ألغي ووضع بدله: (اللجنة المصرية تطلب إلغاء الإجراءات الخاصة بدخول المصريين في السودان).
السياسة الزراعية:
ذكر مستر كونتو ميخالوس أنه حصل هناك مباحث موفقة بين اللجان التجارية، ولكن لم يعمل شيء للآن فيما يختص بتأليف شركة زراعية للاستثمار.
فقال فؤاد أباظة بك: قبل التوسع في هذه المسألة يلزم طبيعيا الحصول على بيانات لم تصلنا للآن، وقد فهم أن الاجتماعات التي تقرر عقدها مع السكرتير المالي والمدني ربما تساعد على جمع معلومات بخصوص بيع الأراضي ... إلخ. وقال المسيو كونتو ميخالوس: إن المباحثات لا تربط أحدا من الطرفين، ولكن يريد أن يعرف إذا كانت البعثة معتزمة - في حالة حصول اتفاق - أن تكون شركة بالتآزر مع ملاك المزارع العديدين الحاليين في شمال الخرطوم، أو أنها تريد أن تملك قطعا أخرى من الأراضي للأغراض الزراعية. فكان الجواب أن المقصود هو دراسة الحالتين، وأنه في حالة الانضمام إلى المزارع الموجودة الحالية إذا أمكن التوصل للاتفاق مع ملاكها فإن البعثة المصرية تسأل عن مقدار رءوس الأموال التي يعتقد أعضاء اللجنة السودانية لزومها لهذا الغرض.
فأبدى مسيو كونتو ميخالوس أنه فيما يختص به يسره - كما ذكر مرارا - أن يشترك في عمل واسع النطاق مهم، وأنه لا يقدم للاشتراك إذا كان الغرض البدء بعمل صغير، ورأيه هو أنه لنجاح أعمال الشركة يجب أن تبدأ عملياتها بالقرب من العاصمة، وبعد أن تنجح في أعمالها فإن الإدارة تنظر في زيادة أعمال الشركة في أي جهة كانت، وربما أنه جاء على لسان البعثة ذكر مساحة من أربعين إلى خمسين ألف فدان، فهو لا يرى كيف يمكن البدء بالعمل ما لم يكن رأس المال خمسمائة ألف جنيه.
وليس من الضروري طبعا أن يطلب كل رأس المال فورا في الابتداء، وإنما تدريجيا من وقت لآخر. فسأل فؤاد أباظة بك إذا كان من الميسور أن يعرف تقريبا من الأعضاء السودانيين ما يمكن أن يكتتب به في السودان، فأجاب المسيو كونتو ميخالوس أنه فيما يختص به إذا أمكن الوصول إلى اتفاق بضم مزرعة شركته إلى الشركة الجديدة، وبهذا يكون مستعدا للاشتراك بقيمة تعادل خمسين ألف جنيه أسهما.
وذكر كفوري أيضا أنه يكون على الاستعداد في أن يحذو حذو المستر كونتو ميخالوس - فدارت المباحثة عن مزارعين آخرين - فقال مستر كونتو ميخالوس إنه يظن إمكان اشتراك السودان في ثلث رأس المال، ولكن مستر كفوري ومستر أزميرليان يظنان أنه من الأصوب اعتبار الاشتراك بقيمة مائة وخمسة وعشرين ألف جنيه؛ لأنه لا يمكن الحصول على نقود في السودان خارج دائرة ملاك المزارع.
انتهت المباحثة إلى هذا، وأظهر أعضاء البعثة رضاهم عن بعض التقدم الذي حصل في هذه المباحثات.
رشوان محفوظ
كونتو ميخالوس
ملحوظة
قابلت البعثة المصرية ومعها جناب رئيس الغرفة التجارية السودانية صباح 19 فبراير كلا من جناب المستر رجمان السكرتير المالي، ثم جناب المستر جيلين السكرتير المدني، وعلمت مع السرور استعداد حكومة السودان قبول مبدأ مشتري أراض زراعية لاستغلالها. (4) النتائج العملية لأبحاثها
أشرنا قبلا إلى تأليف لجنة فرعية للبعثة المصرية إلى السودان برياسة حضرة صاحب العزة مدير مصلحة التجارة والصناعة لبحث نتيجة أعمال البعثة والنظر في الوسائل الممكن اتخاذها لتنفيذ مقترحاتها بشأن ترويج المنتجات المصرية في بلاد السودان، وقد انتهت اللجنة من أبحاثها، وقامت وزارة التجارة والصناعة بالاتصال بالهيئات المختلفة لهذا الغرض، وتلخص أعمالها فيما يلي:
السجاد:
كتبت الوزارة إلى مصانع السجاد في مصر لإرسال عينات من منتجاتها إلى الغرفة التجارية السودانية في الخرطوم بصفة أمانة ليمكن معرفة مدى رواج هذه المصنوعات في الأسواق السودانية.
السجاير المصرية:
وكتبت الوزارة إلى رئيس نقابة صناع الدخان وإلى الغرفة التجارية المصرية بالقاهرة بأن السودانيين يشكون من تلف السجاير التي ترسل من مصر، ولهذا لا تجد رواجا هناك، مع أن السجاير المرسلة من البلاد الأخرى رائجة بالرغم من رداءة نوعها بالنسبة للسجاير المصرية، وقد ظهر أن السبب في تلف السجاير المصرية هو سوء تعبئتها.
أجور نقل الحاصلات المصرية من السويس إلى أسوان:
ولكى تجد المصنوعات والمنتجات المصرية المرسلة عن طريق البحر من السويس إلى السودان رواجا في السودان يجب تخفيض أجور الشحن ليمكن تخفيض سعرها، وبذلك تستطيع مزاحمة البضائع الأجنبية المصدرة إلى السودان من إيطاليا وتشكوسلوفاكيا وغيرها، وأهم هذه البضائع: الأرز، والسكر، والمنسوجات، والسجائر، والحلوى، والأحذية، والفاكهة.
وقد كتبت الوزارة إلى شركة الملاحة المصرية التابعة لبنك مصر تسألها عما إذا كان من الممكن تخفيض أجور الشحن من السويس إلى السودان.
المصنوعات القطنية:
كتبت الوزارة إلى مصانع المنسوجات المصرية لإرسال عينات من منتجاتها؛ خصوصا الفانلات والجوارب (الشورابات) إلى الغرفة التجارية بالخرطوم لمعرفة مدى مقدرة هذه المنسوجات على مزاحمة المنسوجات المرسلة من اليابان وأوروبا.
ورق اللف:
كتبت الوزارة إلى مصدري ورق اللف بالإسكندرية ترجوهم إرسال عينات من الأصناف التي لديهم إلى الغرفة التجارية بالخرطوم لتقوم بالدعاية له في الأسواق السودانية حسب اتفاق البعثة المصرية معها، وبصنع ورق اللف في الإسكندرية.
البيرة المصرية:
ظهر أن البيرة المصرية لا تروج في السودان؛ لأن الفساد يتطرق إليها بسرعة؛ وذلك لأنها تصنع لتستهلك في القطر المصري، فهي تعقم مرة واحدة، ولما كان جو السودان يختلف عن جو مصر اختلافا بينا، فإن التعقيم يجب أن يكون مضاعفا لتستطيع تحمل جو السودان الحار.
ولهذا كتبت الوزارة إلى رئيس الاتحاد المصري للصناعات تلفت نظره إلى هذا الموضوع ليقوم بمخابرة مصانع البيرة المصرية كي يعملوا على تلافي هذا النقص .
الزجاج:
وكتبت الوزارة إلى أصحاب مصانع الزجاج في مصر ليقوموا بالدعاية الكافية لرواج مصنوعاتهم في السودان.
تخفيض نقل الطرود:
وقد رأت البعثة عند زيارتها للسودان أن من أهم ما يجب عمله لرواج المصنوعات والمنتجات المصرية في تلك البلاد هو تخفيض أجور النقل برا وبحرا ليمكن خفض الأسعار، فكتبت إلى مصالح السكك الحديدية المصرية والتلغرافات والبريد لتخفيض أجور الطرود المرسلة إلى السودان، وتقوم هذه المصالح الآن بدرس الموضوع.
وكذلك كتبت الوزارة إلى الحكومة السودانية تطلب تخفيض أجور الطرود على السكك الحديدية هناك. •••
وتنتظر الوزارة الآن ردود هذه الهيئات حتى إذا تلقتها استمرت اللجنة الفرعية للبعثة في مواصلة اجتماعاتها وأبحاثها لترويج المنتجات المصرية في السودان. •••
هذا وقد بدأت إحدى الفابريقات المصرية لصنع الصاج المدهون بإرسال أصناف من منتجاتها إلى الأسواق السودانية عن طريق وزارة التجارة والصناعة.
بين مصر والسودان:
صدر مرسوم ملكي بجواز رد كل أو بعض رسم الإنتاج عن حاصلات الأرض أو منتجات الصناعة المحلية التي تصدر للاستهلاك في السودان، وذلك بدون إخلال بأحكام المراسيم أو القرارات الخاصة المقررة لرد رسم إنتاج في أحوال مماثلة، على أن يحدد وزير المالية المصرية بقرار يصدره الحاصلات أو المنتجات التي تنتفع برد الرسم المشار إليه ومقدار ما يرد منه، وكذلك الشروط الواجب استيفاؤها للانتفاع به.
الحاصلات السودانية:
أباح مدير الاقتصاد والتجارة تصدير الذرة والسمسم إلى خارج السودان بشرط أن يكون كل رسالة من الصنفين مصحوبة بشهادة تنظيف من ماكينة تنظيف معتمدة بأنها نظفت بها تنظيفا لا يزيد معه ما تحتويه من المواد الخارجية عن نسبة ثلاثة في المائة.
واعتمد مدير الاقتصاد والتجارة ماكينات التنظيف، وأعد شهادتها معتمدة في حالة تصدير الذرة والسمسم، وهي ماكينة السكة الحديدية بالمقرن.
وصدر أمر من مدير السكة الحديدية ببيع البضائع المهملة التي بقيت بميناء بور سودان ستة أشهر بمخازن السكة الحديدية ولم يطلبها أصحابها بالمزاد العلني ببور سودان، وذلك بعد مرور ثلاثة أسابيع من تاريخ نشر هذا الأمر إذا كانت هذه البضائع لا تزال باقية تحت التسليم.
الحاج محمد أحمد سرور مطرب السودان وهو الآن في مصر مع أفراد فرقته، وقد أحيا ليالي غنائية نالت الإعجاب.
الفوج الثاني من البعثة في أسوان ومعهم أعيان أسوان.
أحمد حمدي سيف النصر بك عضو الوفد المصري ورئيس المجلس الأعلى لاتحاد نقابات العمال.
لا يسع المؤرخ للسودان والمسجل للعلاقات الوثيقة بينه وبين مصر، أن يغفل نصيب حضرة صاحب العزة الميرالاي أحمد حمدي سيف النصر بك في إحكام الصلات بين البلدين؛ فلقد أمضى حضرته 13 عاما مأمورا لمركز أم درمان، ويندر بين المصريين الذين قضوا شطرا من سني خدمتهم في السودان من ترك في السودان الأثر الذي خلفه حمدي بك، وقد لمسنا ذلك لمسا حين زيارتنا للسودان مع البعثة، فكان الكثيرون من المستقبلين يسألون عن حمدي بك ويستفسرون عن صحته ويبتهلون إلى الله أن يرد إليه العافية عاجلا، ويبتهجون بأنباء تحسن صحته.
لم يكن حمدي بك موظفا عاديا أو رجلا يؤدي واجبه فحسب، بل كان شديد الاتصال بالأهالي، فيما يؤكد الصلات الطيبة بين الحاكم والمحكوم، وفيما يعلي شأنهم، ولا سيما في وقت كان السودان والسودانيون في أشد الحاجة إلى الأكفاء المخلصين الغيورين، عند انتهاء الثورة المهدية واستعادة السودان، الذي كان في حاجة إلى العطف وإلى اتساع أفق التفكير وإلى إنشاء التقاليد الصالحة ووضع القواعد المفيدة.
كان حمدي بك محترما ومحبوبا إلى أقصى ما يعنيه الاحترام والحب النبيل ولا يزال الذين عرفوه يحبونه، بل هناك أبناؤهم قد ورثوا عن آبائهم الحب والاحترام. ودار حمدي بك في حلوان مقصد الوافدين من السودان، يساعد فقيرهم ويعلم صغيرهم، ويبحث لهم عن الأعمال ويعينهم في الوظائف، ويرشد زائريهم، ويضيف أفاضلهم.
وحمدي بك مفطور على الخير لمحض الخير، وهو - على وطنيته - رجل الإنسانية، وهو صريح لا يداجى، طيب القلب، لا يعرف الدس والمواربة والخديعة، وهو شديد الإيمان، كثير الوفاء، يقدر خصومه - إن كان له خصوم وهم خصوم رأي لا خصوم شخصيات - صراحته ونقاء سريرته.
قالت مجلة فلاحة البساتين المصرية عدد شهر يوليو سنة 1922: ينتمي حمدي بك لقبيلة من أشراف قبائل البدو (المحاميد)، ولم تقتصر شهرتها على مصر، بل طار ذكرها إلى بلاد شمال أفريقيا. وتاريخ حمدي بك حافل بالأعمال العظيمة؛ فحياته مملوءة بالجد والنشاط. بدأ يستقي مناهل العلم بمدرسة الناصرية الأميرية، ثم التحق بإحدى مدارس البعثة الأمريكية ثم المدرسة الحربية بالعباسية، وانتظم في سلك الجيش المصري تحت إمرة المرحوم اللورد كتشنر، وصحبه في جميع غزواته بالسودان، ونال كل الأنواط (المداليات المصرية والإنجليزية، بما في ذلك ثمانية مشابك تدل على ما حازه من الشرف باشتراكه في المواقع الحربية)، وبعد أن أمضى وقتا في خدمة الحرس السواري الخديوي، التحق بحكومة السودان في سنة 1900 فعين ضابطا لبوليس أم درمان، ثم كان مأمورا لها ثم عين قاضيا في الدرجة الثانية.
وقد نوه المستر دوجلاس سلادن في مؤلفه (الإنجليز ومصر) بذكر حمدي بك الذي استقبل المؤلف عند زيارته لأم درمان فقال: «إن معلوماته (حمدي بك) الدقيقة بالسودانيين معه ومعرفته بأخلاقهم وحسن سياسته وتصرفه في معاملتهم وحزمه واستقلاله في عمله، جعلته من أشهر الضباط النادري المثال الذين تولوا الحكم في إدارة السودان.»
وفي سنة 1908 عين مفتشا بوزارة المالية بمصر، ولكن خدماته العظيمة كانت تتطلب عملا أهم من ذلك ودائرة أوسع فعين في السنة التالية حكمدارا لبوليس مديرية أسيوط، فجد في قمع دابر اللصوص وإيقاف تيار الجرائم أثناء توليه هذا المنصب هناك فنال استحسان الخديوي لقيامه بتلك الأعمال خير قيام، فأنعم عليه بالنشان العثماني ثم نقل بعد ذلك حكمدارا لمديرية الغربية، وفضلا عما كان يتطلبه عمله في حفظ الأمن العام وحفظ النظام من الهمة والنشاط، فإنه أظهر كفاءة تامة وغيرة بما قام به من أعمال مقاومة دودة القطن في سنة 1913 التي انتشرت بدرجة مريعة.
وفي السنة نفسها عين مساعدا لحكمدار بوليس مصر، وكان أول مصري شغل هذه الوظيفة المهمة، ولما شبت الحرب في 1914 طلب إليه أن ينظم مشروعا عظيما لفائدة العمال العاطلين بالعباسية فنجح نجاحا باهرا. وفي سنة 1915 احتلت قوات السنوسي الواحات البحرية الواقعة على بعد 100 (ميل) فقط من مديرية الفيوم، فانتخب حمدي بك مديرا بهذه المديرية لأهمية تلك الحوادث وقتذاك. وفي أثناء وجوده بالفيوم برهن مرة أخرى على نشاطه ومقدرته. وبالجملة فإنه قدم خدمات عظيمة للدفاع عن وطنه، ثم انتقل مديرا للجيزة في سنة 1917، وبقي بها حتى سنة 1919، حيث اعتزل خدمة الحكومة وتفرغ للعناية بالزهور بمنزله بحلوان ولإصلاح أراضيه بمديرية الفيوم، وفي كلتا الحالتين أظهر حمدي بك كفاءته ونبوغه المأثورين عنه، فلا تأخذنا الدهشة والعجب إذا رأينا اليوم أن عزبته بالفيوم صارت نموذجا ومثالا يجب على أصحاب المزارع أن يقتدوا بها، وكذلك حديقته في حلوان من أجمل الحدائق وأبدعها. والخلاصة أن غيرته ومقدرته واشتهاره بالعمل والنظام مما لا يحتاج إليه البيان والتعريف، كما أن خدماته ومآثره موضع حديث القوم وإعجابهم. وهو الآن يشغل منصب وكيل النقابة الزراعية المصرية العامة، كما أنه شديد الاهتمام بتعضيد الكشافة بمصر.
وكان حمدي بك سيف النصر أحد النواب الذين مثلوا مصر في المؤتمر الدولي العام للقطن سنة 1921، وهناك أظهر من المهارة والبراعة والآراء السديدة ما حاز إعجاب زملائه في المؤتمر وحسن تقديرهم له. والرجل المقدام المحب للعمل كحمدي بك سيف النصر يكون غالبا مولعا بالرياضة البدنية ولعا شديدا؛ ففي السودان اشتهر بأنه من أمهر اللاعبين بالكرة والصولجان (بولو)، ولا يزال مهتما بالألعاب الرياضية، وميله الخاص وعنايته موجهان دائما للفروسية وركوب الخيل وهو لا يزال في ريعان الشباب، ومن كانت همته في الماضي معروفة في الأعمال النافعة وحياته الماضية حافلة بعظائم الأمور فلا بدع أن تكون أعماله كذلك في المستقبل. ا.ه.
ومنذ استقال حمدي بك من منصب مدير الجيزة سنة 1919 احتجاجا على ما نسب لأفراد من الجيش الإنجليزي من عدوان على الأهالي خلال قمع الثورة المصرية، انضم إلى الحركة الوطنية، وكان من العاملين فيها المخلصين للوفد المصري، وهو اليوم عضو من أعضائه ورئيس المجلس الأعلى لاتحاد نقابات العمال وزعيم العمال المصريين، ونائب رئيس النقابة الزراعية العامة، ووكيل جمعية فلاحة البساتين، وكان عضوا في اللجنة التعاونية الاستشارية العليا للتعاون - وكان في اللجنة زميلا كريما للمؤلف فيها - سنة 1926 في وزارة الزراعة.
وقد وضع مستر ماري هاريس “Murray Harris”
مؤلفا أسماه «مصر تحت حكم المصريين» “Egypt under the Egyptians”
فصل فيه أدوار الحركة الوطنية الأخيرة، وعرض خلاله بالتحليل لشخصيات كبيرة من المصريين هي: عدلي، وزيور، ورشدي، ومحمد محمود، وحمدي سيف النصر، فقال عن الأخير:
سيف النصر مدير الفيوم السابق يتكلم ويفكر كرجل إنجليزي، وهو كذلك في كل نواحيه لولا أنه لا يلبس القبعة، ويكره مربة المرملاد، ولا يغني في الحمام. ولقد كان فصيحا ظريفا جذابا، وهو محبوب جدا في دوائر الإنجليز، كما أنه حازم جدا في أداء واجباته، وقد كان يميل إلينا، ولكننا بدل أن نشجع هذا الميل أخشى أن نكون فقدنا على الأقل جانبا كبيرا من عطفه علينا.
وأشار الكاتب الإنجليزي المعروف دوجلاس سلادن “D. Sluden”
إلى حمدي بك سيف النصر في كتابه (مصر والإنجليز) “Egypt and the English”
في باب وصف رحلته إلى السودان مع طائفة من كبار الإنجليز وزيارته لأم درمان، وذلك في مستهل القرن الحالي. قال:
سوق الصمغ في درديب.
لفيف من أعضاء البعثة عند قبور الضباط المصريين بأم درمان صباح يوم الجمعة 15 فبراير سنة 1935، ويرى من اليمين حضرات: عبد المجيد السيد محروس، علي شكري خميس، فؤاد أباظة، محمد عبد الرحيم سماحة، عبد الله حسين أمام القبر، عبد الحميد فتحي بك، عبد الرحمن نوفل، مصطفى أبو العلا.
وهناك استقبلنا حمدي مأمور أم درمان الكابتن بالجيش المصري ومعه الشيخ صالح جبريل متعهد توريد الجمال والحمير لحكومة السودان. وكان سرورنا بزيارة أم درمان قد ازداد جدا بانتداب السردار للمأمور كي يشترك مع الكابتن إمري في العناية بنا في ذلك اليوم البهيج؛ فلقد كانت معرفة المأمور الدقيقة بالسودانيين ولباقته وحزمه في تصريفهم وإدارة شئونهم قد جعلته من أعظم الضباط مكانة ومنزلة في الإدارة بالسودان. وهو يتكلم الإنجليزية كأحد أبنائها، وقد استطاع أن يجيب بدقة نادرة على كل سؤال وجهه فضولنا وحب استطلاعنا. (5) في إدارة الحكم والأعمال (5-1) القطارات السودانية
سبق لي أن أشرت إلى أن مركبات مصلحة السكك الحديدية السودانية خير من مركبات مصلحة السكك الحديدية المصرية، نظافة ووسائل راحة، غير أن أجور السفر غالية؛ ولا سيما في الدرجة الأولى، ولكن في السكك الحديدية أربع درجات: الأولى والثانية والثالثة والرابعة، فأجرة السفر بالسكة الحديد بالدرجة الأولى من الخرطوم إلى الشلال - التي هي تابعة للحكومة المصرية - 13 جنيها و790 مليما، وفي الدرجة الثانية 9 جنيهات و235 مليما، وفي الدرجة الثالثة ثلاثة جنيهات و425 مليما، ولا توجد درجة رابعة؛ لأن الخط من وادي حلفا إلى الشلال هو خط نهري ببواخر نيلية تمكث من الساعة الثامنة مساء إلى ظهر اليوم الثالث؛ أي 4 زائد 24 زائد 12 تساوي 40 ساعة. والأجرة من الخرطوم إلى وادي حلفا 8 جنيهات و19 مليما بالدرجة الأولي، وخمسة جنيهات و753 مليما في الدرجة الثانية، وجنيهان و865 مليما في الثالثة، و880 مليما في الدرجة الرابعة. والفرق بين الدرجة الثالثة والرابعة قليل؛ فمركبة الدرجة الثالثة تماثل مركبة الدرجة الثالثة المصرية من جهة المقاعد، أما الدرجة الرابعة فلها مقعد طويل في كل جانب، وفي الوسط مقعد مواز لامتداد المقعدين الجانبيين، ويوجد بها زير يشرب من مائه الركاب. (5-2) الفنادق والاستراحات
سبق القول إن الحكومة السودانية قد أنشأت فنادق وافية؛ ففي الخرطوم «فندق الجراند أوتيل»، وفي بور سودان «فندق البحر الأحمر»، وفي جوبا «فندق جوبا»، وفي حلفا «فندق النيل»، وإلى جانب ذلك أنشأت الحكومة «استراحات». ونحن نعرف في مصر أن الاستراحات تنشئها الحكومة المصرية لمبيت الموظفين المنتدبين في الأقاليم ، وخاصة حيث لا توجد فنادق مطلقا أو لا توجد فنادق لائقة، ولكن في السودان قد أنشئت استراحات المسافرين؛ وخاصة في العطبرة وكوستى والأبيض وأركويت وسنار، ولكل استراحة خادم، وأحيانا يكون طاهيا يقدم الطعام للمسافرين، وأحيانا يكون بيت الاستراحة في الخيام لصعوبة البناء، أو ضرورة نقل موقع الاستراحة بسبب تغير الفصول والطقس. ولموظفي الحكومة الذين ليسوا منتدبين الحق في تخفيض قدره عشرون في المائة، والمنتدبين مجانا. (5-3) نولون السكك الحديدية
من آفة التجارة في السودان ارتفاع أجور شحن البضائع بمركبات السكك الحديدية وببواخرها النهرية، وقد اهتمت البعثة المصرية بمباحثة مدير الشئون الاقتصادية واللجنة التجارية السودانية في هذا الموضوع. (5-4) جوازات السفر
على كل راغب في دخول السودان الحصول على جواز سفر، أو على الأقل تذكرة مثبتة لشخصيته، وأيضا عليه أن يحصل على ترخيص بدخوله، وليس بكاف حصول الأجنبى على «تأشيرة» قنصل مصري أو بريطاني، بل لا ضرورة لها.
وتقدم الطلبات للحصول على تصريح بزيارة السودان إما إلى السكرتير المدني «الملكي» بحكومة السودان - واختصاصه يماثل اختصاص وزير الداخليه عندنا - أو إلى وكيل حكومة السودان بالقاهرة، أو إلى مكتب حكومة السودان في لندن. ويصدر الرد بالإجابة أو الرفض. والعادة أن يصدر بالإجابة، إلا في ظروف استثنائية.
وقد وضعت قائمة بأسماء حضرات أعضاء البعثة المصرية بالسودان، وأرسلت إلى وكيل حكومة السودان في القاهرة. وعلى كل مصري أن يبلغ هذا الوكيل أو حكومة السودان بالخرطوم مباشرة رغبته في السفر، فترد عليه بالقول بغير حاجة إلى جواز سفر.
اشتهر السودان بأنه موطن لمرض النوم والملاريا والحميات، وطالما أحجم الكثيرون عن زيارته أو الإقامة به لهذا السبب. غير أن الشهرة في الواقع لا محل لها؛ لأن مرض النوم والملاريا يوجدان في أنحاء معينة، وهى الجزء الأقل من السودان؛ فهو في جنوبي السودان وغربيه؛ وخاصة حوالي بحر الغزال، ولدى منابع النيل، والسبب في ذلك أن بتلك المنطقة مستنقعات وبحيرات وأنهارا وأخوارا عديدة، يأسن فيها الماء فتكون موطنا للبعوض والناموس، ويجب على المسافرين اتباع التعليمات الحكومية للوقاية وللسير في طرق معينة .
وتنتقل عدوى الملاريا بواسطة ناموسة (الأتوفولين)، ويجب الاتقاء منها بعدم التعرض لعضاتها، وإذا كان لا مناص من ذلك، يجب أخذ خمسة جرامات من الكينين يوميا، وتبدأ الملاريا بقشعريرة ووجع رأس شديد، وأحيانا بالقيء ثم ترتفع درجة حرارة الجسم، وقد يلتهب الجسم ويزداد القيء وألم الرأس. ويمكن أخذ الكينين يوميا ثلاث مرات في اليوم والأسبرين (لتخفيف ألم الرأس فقط) في حالة عدم وجود طبيب.
وتوجد حميات أخرى مثل حمى الماء الأسود «البلاك ووتر»، ودودة غنيا والحمى الملطية، ومن حسن الحظ أن الهمة مبذولة لإنشاء المستشفيات الواقية في السودان. (5-5) منع الخمور
محرم على السودانيين تعاطى الخمور، على أن تصدير الخمور إلى السودان مباح بشرط الحصول على ترخيص من وكيل حكومة السودان في مصر، ورخصة الحانوت الذي يبيع الخمور تكون خمسين جنيها على الأقل، وفي بعض البلاد يحرم إعطاء رخص بتاتا. ولكن السودانيين أنفسهم محرم عليهم شرب الخمور حتى من الحوانيت المصرح لها ببيع الخمور. (5-6) أجور التلغرافات
أجرة التلغراف بين مصر والسودان قرش صاغ عن كل كلمة، ويوجد تليفونات في مدن السودان للاستعمال داخل المدينة أو مع البلاد المجاورة، ولا يوجد خط تليفوني بين الخرطوم والقاهرة، وهذا نقص كبير يجب تلافيه. (5-7) حكام السودان
كان حاكم السودان قبل الثورة المهدية يسمى حكمدار السودان، وتعينه الحكومة المصرية، وبعد استعادة السودان أصبح يدعى الحاكم العام للسودان، وإلى سنة 1924 كان الحاكم العام يلقب في الوقت نفسه سردار الجيش المصرى، وأول حاكم عام وسردار للسودان بعد استعادته هو الفيلد مارشال الإيرل كتشنر باشا من 19 يناير سنة 1899 حتى 22 ديسمبر سنة 1899، وخلفه الجنرال سير فرانسيس ريجلاند ونجيت من 23 ديسمبر سنة 1899 حتى 31 ديسمبر سنة 1916، حيث عين نائبا لملك الإنجليز في مصر، وخلفه سيرلي ستاك باشا من أول يناير سنة 1917 حتى 20 نوفمبر سنة 1924 حيث قتل، ثم سير جوفرى أرشر، وقد عين فى ديسمبر سنة 1924 إلى 17 أكتوبر سنة 1926، فخلفه سير جون مافي في 24 أكتوبر سنة 1926 إلى 13 نوفمبر سنة 1933، حيث خلفه الحاكم العام الحالي اللفتننت كولونيل سير ستيورت سايمز، وهو تحت رياسة وإشراف فخامة سير مايلز ويدربورن لامبسون؛ لأن لقب فخامته «المندوب السامي لمصر والسودان»، وبمقتضى هذا اللقب يزور كل مندوب عام جديد السودان في أول تعيينه. وقد كانت زيارة فخامته هي الزيارة الحالية في فبراير سنة 1935، وكبار الموظفين المدنيين في حكومة السودان جميعا من الإنجليز؛ وهم القائد العام للجيش والسكرتير القضائي مستر بيل والسكرتير المالي مستر روجمان والسكرتير المدني مستر جيلان، ومستر لاش وكيل حكومة السودان بالقاهرة، ومراقب مكتب حكومة السودان بلندن مستر هاول، ومساعد السكرتير القضائي مستر جورمان، ومدير الزراعة والغابات مستر كاميرون، والمراجع العام مستر هيرالي، ورئيس القضاء مستر أوين، ومدير الجمارك مستر بنيت، ومدير التجارة والاقتصاد مستر ديفز (نقل لبلدية الإسكندرية)، وسكرتير المعارف مستر وينتار، ومدير الري مستر روبرتسون، ومدير الأراضى والمسجل العام مستر إيفانس ، ومدير المصلحة الطبية مستر بريدي، ومدير التلغرافات والبريد مستر توملين، ومراقب الأمن العام والمخابرات مستر بيني - وكان سلاطين باشا يتقلد هذا المنصب بعد استعادة السودان - ومدير السكك الحديدية مستر إملي، ومدير المخازن مستر جنت، ومدير مصلحة الطب البيطرى مستر ويليمز، ومدير معامل الأبحاث الاستوائية سير روبرت شيبالد، ومدير الأشغال مستر لوجين. وقد أتيحت لي الفرصة للتحدث مع الكثير من حضراتهم فعرفت أنهم من خريجى الجامعات ومن الأحرار، وأنهم خير من سلفهم، وأنهم يقدرون الأمور تقديرا صادقا، وأنهم أكفاء وإداريون نزيهون.
وهناك ثلاثة مناصب دينية عالية؛ الأولى: قاضي قضاة السودان حضرة صاحب الفضيلة الشيخ نعمان الجارم نائب رئيس محكمة طنطا الكلية الشرعية سابقا، وقد حصل تقليد جديد عند تعيين فضيلته؛ ذلك أنه كانت العادة الغالبة تجري أن تعين الحكومة المصرية قاضي قضاة السودان. وقد تقلده من قبل أصحاب الفضيلة الشيخ محمد شاكر والشيخ مصطفى المراغي والشيخ قراعة، ولكن عندما عين في سنة 1932 في عهد الوزارة الصدقية اشترطت حكومة السودان أن تتولى هذا التعيين، فيعد مفصولا من خدمة الحكومة المصرية، وتعينه حكومة السودان تعيينا. وكانت حكومة السودان تطلب قبل ذلك أن لا تعين الحكومة المصرية أي قاض لقضاة السودان، ويكون تعيينه من القضاة الشرعيين السودانيين، فوافقت الوزارة الصدقية أن تتولى حكومة السودان التعيين، واحتفظت بأن يكون المعين من القضاة الشرعيين المصريين. ولمصر أن تفتخر بالشيخ نعمان الجارم، فهو نبيل الأخلاق ومحل احترام الجميع.
والمنصب الثانى: هو منصب شيخ العلماء، ويتولاه فضيلة الشيخ أحمد محمد أبو دقن. ويماثل هذا المنصب منصب شيخ الجامع الأزهر. والشيخ أبو دقن من مواطنينا السودانيين عالم فاضل شجاع صريح.
والمنصب الثالث: هو منصب المفتي ونائب قاضى القضاة، ويتولاه فضيلة الشيخ أحمد السيد الفيل، وهو رجل عذب الحديث قوي الحجة. •••
أرجع بعد هذا بالقارئ قليلا لأحدثه عن مسألة مهمة، وهى زيارتنا لمزارع القطن في أرض الجزيرة وحالة القطن السوداني
أقلتنا السيارات من واد مدني إلى تلك المزارع ومعنا مستر اسكويث من كبار مساهمي الشركة التى تستغل تلك الأراضي، وبعض مديريها وكبار موظفيها الإنكليز.
وقد بدأنا أولا بزيارة مكتب الشركة في أم درمان، حيث اطلعنا على خريطة تبين مجرى النيل الأزرق والأراضي المزروعة والقابلة للزراعة، والتي لا تصلح للزراعة؛ لأن الأرض عالية والماء واطئ. ثم مررنا بالمزارع وعدنا إلى واد مدني الساعة العاشرة صباحا.
يرجع تاريخ زراعة القطن في السودان إلى عهد استعادته بقيادة اللورد كتشنر باشا، فقد رأى أن هناك أرضا في السودان صالحة لزراعته، فبين سنة 1904 وسنة 1906 زرع 3000 فدان في حوض الزيداب قريبا من الخرطوم.
وذلك لأن الأرض خصبة والماء قريب من سطح الأرض، حيث أنشئت طلمبة للري. وقد زادت المساحة شيئا فشيئا فزرع 15 ألف فدان، وأقيمت طلمبة عند بلدة طيبة، وأنشئت طلمبة أخرى عند بلدة بركات، فكان الري في أطيان هذه البلاد - وهي بأرض الجزيرة - يروى بالطلمبات.
ورأت حكومة السودان أن تتابع سياسة تعميم زراعة أرض الجزيرة، وأنه في سبيل تحقيق هذا الغرض لا بد من إنشاء خزان على النيل الأبيض، فوضع مشروع بناء خزان سنار، ثم وقف تنفيذه بسبب الحرب، واستمرت الحكومة في سياسة إنشاء طلمبات. وبعد الحرب تجدد الاهتمام بإقامة خزان مكوار، وتعاونت حكومة السودان مع نقابة شركة أراضي الجزيرة في تنفيذه، ولهذا الغرض أقرضت الحكومة الإنجليزية الشركة مبلغ 11 مليونا ونصف مليون من الجنيهات بضمان الحكومة السودانية. وفي سنة 1925-1926 تم إنشاء الخزان، وأقيم احتفال عظيم بافتتاحه، ودعيت الصحافة المصرية إليه، وكان يمثلها حضرة الدكتور محمد حسين هيكل بك، الذي وضع كتابه «عشرة أيام في السودان» لمناسبة هذه الزيارة.
ويتضمن مشروع الجزيرة، فوق إنشاء الخزان الذى عرف منذ سنتين باسم خزان سنار بدلا من اسم خزان مكوار، شق ترعة رئيسية تستمد ماءها من النيل عند الخزان. والمشروع الإجمالي يتضمن زراعة ثلاثة ملايين فدان؛ لأنها المساحة القابلة للزراعة، ولما كانت مساحة الجزيرة أربعة ملايين فدان فإنه سيظل هناك مليون فدان لا يقبل الزراعة. وكانت المساحة مقيدة بزراعة 300 ألف فدان، ولكن الإنذار البريطاني سنة 1924 قضى بزراعة كل المساحة، أما ما تم إعداده فعلا فهي مساحة تتراوح بين 750 ألف فدان و800 ألف فدان، ولكن الشركة تؤثر الزراعة على طريقة الدورة الرباعية، بمعنى أنها تزرع ربع هذه المساحة قطنا سكلاريدس، أو 180 ألف فدان في كل سنة، وفي السنة التالية لا تزرع المساحة التى زرعت بل تزرع ربعا آخر؛ وذلك لأنه بهذه الطريقة تكون النفقات قليلة جدا، ولأن الزراعة في الجزيرة تقوم على أساس الري بالراحة، خصوصا لقلة اليد العاملة.
وتزرع شركة كسلا من هذا الربع نحو 20 ألف فدان؛ لأن الحكومة السودانية قد وضعت يدها على منطقة كسلا، وأعطت إلى شركة كسلا مساحة أخرى في أرض الجزيرة، وقد زرعت الحكومة 28 ألف فدان في كسلا.
والجزء الذى لا يزرع ولا يقبل الزراعة يقع من جنوبي الخرطوم في مساحة طولها 50 كيلو مترا، ومن سنار في مساحة طولها 57 كيلو مترا. وتوجد بالجزيرة أيضا عند جندل أراض بها سماحة السير السيد عبد الرحمن المهدي، وتبلغ 140 ألف فدان يزرع منها 5000 فدان.
وتجود أرض الجزيرة في المتوسط بمقدار
قناطير في الفدان، وتنتج كمية 600 ألف قنطار، فإذا أضيف إلى ما ينتجه 28 ألف فدان في نهر الجاش و32 ألف فدان في طوكر، وما تنتجه أطيان السيد عبد الرحمن المهدي والأراضي المزروعة قطنا أمريكيا أمكن القول بأن ما ينتجه السودان من القطن حوالي 82 ألف قنطار .
والقطن السوداني - إلا القليل - هو من السكلاريدس، ولكنه استنبت فخرج منه صنف من فصيلته باسم «إكس 1530» به مناعة ضد مرض التواء الأوراق أو مرض البلاك آرم. وينتشر هذا المرض بسبب غزارة الأمطار في يوليو وأغسطس.
ولما كان بأرض الجزيرة أملاح تعطل سير ري بذور شجيرات القطن وتصريف الماء، فقد أنشئت مصارف سطحية لتصريف الماء، ولكن ليس من الممكن إنشاء مصارف؛ لأن أرض الجزيرة طينية ثقيلة، وتقوم معامل الشركة ببحث هذه المسألة. والأخصائيون فيها يؤملون النجاح.
وتبدأ زراعة القطن في السودان في يوليو، ويبدأ الجني في ديسمبر ويستمر حتى شهر مايو، ومن حسن حظ السودان أنه لا يعرف مسألة خلط القطن؛ لأن المزروع من السكلاريدس إلا القليل، ولذا لا محل للخلط بين الأصناف ما دام الصنف واحدا يفهم .
ولا تزال الطلمبات السابق إنشاؤها قائمة وينتفع بها لري الحدائق وفي زمن التحاريق.
ويلاحظ أن النيل الأزرق أعلى من النيل الأبيض، وأن الترعة الرئيسية التى تنتفع من خزان سنار تستطيع ري 3 مليون فدان. وزراعة 400 فدان لأجل إنتاج بذرة تكفي لزراعة أرض الجزيرة. (5-8) تقرير بوليس الخرطوم
وصلت جملة البلاغات إلى 9046 بزيادة 701 عن سنة 1933، وبلغ عدد الذين ألقي عليهم القبض من جراء هذه البلاغات 4010 أشخاص كان نصيب مدينة الخرطوم ثلث هذا العدد.
القضايا الجنائية
ونظرت المحاكم الجنائية في مراكز مديرية الخرطوم 15525 قضية حوكم فيها من الأشخاص 10062، أدين منهم 8467 فكانت الزيادة 865 عن سنة 1933.
أعضاء البعثة في السودان.
البعثة في كوستى.
وبلغت حوادث السرقات 107 في سنة 1934، يقابلها 108 في سنة 1933، على أنها كانت في سنة 1932 قد وصلت إلى 498، وفي سنة 1934 وقع الجزاء في 43 حادثة، وبلغت قيمة الأشياء المسروقة في هذه السنة 2657 جنيها و639 مليما استرد منها ما قدر ب 647 جنيها و365 مليما، وهو ما يوازي الربع.
حوادث القتل
حدث من جرائم القتل في مدينة الخرطوم 9 حوادث، وألقي القبض من أجلها على 14 شخصا، وانتهى فيها التحقيق إلى الحكم بالإدانة على 7، وتم الصلح في واحدة منها على يد المحكمة الأهلية، وهى قضية ولد صغير مات من ضربة ولد آخر في سنه تقريبا وقد حصل ذلك في أثناء اللعب. والقضية الثانية قضية مجرم اعتاد الإجرام وله سوابق عدة، وقد وجد مقتولا خارج مدينة أم درمان ولا يزال التحقيق والبحث جاريين لمعرفة الأسباب.
وعطف التقرير على حوادث الحرائق، وقد أبان ما أداه البوليس من خدم ممتازة في إطفاء الحرائق وذكر قيامه بواجبه خير قيام. وقال: إن 34 حادثة حريق حصلت في بحر سنة 1934 فقد فيها ما قيمته 553 جنيها و250 مليما.
ثم تناول التقرير حوادث الاصطدام، وقرر أن هناك زيادة مطردة في اصطدام العربات، وقال: بلغت هذه الحوادث 27 حادثة في سنة 1932، و75 في سنة 1933، وفي سنة 1934 بلغت 94 منها 6 حوادث مميتة، وعلق على التقرير بما يأتي:
يلاحظ القارئ أن البوليس متقدم في أعماله متمش مع التقدم في العمران، ولكن الزيادة المطردة في عدد حوادث الاصطدام وفي مدن شوارعها واسعة كالخرطوم وأم درمان والخرطوم بحري مما يستلفت النظر ويدعو حقا إلى البحث وراء السبب الحقيقى، واستنباط الطرق التي يجب اتباعها لمنع هذه الزيادة، والمحافظة على الأرواح.
السكرتير الإداري المستر أ. جيلان. (5-9) الإدارة والقضاء في السودان
كان بين القضاة المصريين في السودان حضرات أصحاب العزة عبد الحليم الحديني بك القاضي الآن بمحكمة أسيوط الابتدائية الأهلية، وكان قاضيا للخرطوم، وكان توفيق وهبي بك قاضيا للخرطوم بحري، وكان محمد حسن العشماوي بك «وكيل المعارف الآن» قاضيا بأم درمان.
ويصدر الحكم القاضي الجزئي، ويستأنف أمام المحكمة العليا، وتتألف من قاض واحد وهو إنجليزي، وتستأنف أحكامه أمام محكمة الاستئناف، وهي مؤلفة من ثلاثة بريطانيين.
ومن القواعد القضائية إمكان صدور الأحكام التالية: (1)
حكم بتحديد نقط النزاع، وهو قابل للاستئناف. (2)
إذن برفع الدعوى، تفاديا من رفع الدعاوي الكيدية وإرهاق المحاكم. والقرار برفض الإذن قابل للاستئناف.
تظلم إلى سير لي ستاك باشا حاكم عام السودان أحد المتقاضين مرة من حكم أصدره العشماوي بك قاضي محكمة أم درمان، فأرسل ستاك باشا إلى العشماوي بك كتابا رقيقا ومعه التظلم، وقال فيه إنه يرجو أن يسمح القاضي بأن لا يعد الكتاب تدخلا في شئون القضاء.
قضية يفصل فيها في يوم واحد: يجيز القانون للقاضي أن يفصل في الدعوى حالا، وأنه إذا حضر شخص للقاضي وأقام الدعوى شفويا ودفع الرسم 5 في المائة بدون محضر بالطلبات مع إعلان الخصوم بالتلغراف أو التليفون.
حضر مرة أحد تجار الماشية أمام المحكمة وكان له دين قبل تاجر موسر، وتظلم، فدون العشماوي بك محضرا بالطلبات، وقال المتظلم إنه غريب ولا يستطيع الإقامة في أم درمان وعليه أن يسافر، وأن غريمه تاجر موسر، فتكلم العشماوي بك بالتليفون مع مأمور المركز يطلب الخصم، فحضر حالا وسمع أقواله وصدر الحكم، ونفذ عقب صدوره. كل ذلك في يوم واحد.
ومما يساعد على تنفيذ الأحكام أن المحكوم عليه بدين يجوز حبسه لوفاء الدين.
وتطبق في المسائل المدنية قواعد العدل والإنصاف، غير أن هناك مسائل لها تشريع خاص؛ كالكمبيالات والشفعة .
ومن تبسيط الإجراءات أمام المحاكم أنه إذا أقام شخص دعوى أمام محكمة غير مختصة «مركزيا مثلا»، كما إذا أقام الدعوى في القاهرة بينما المدعى عليه في أسوان، أمكن للمدعى عليه أن يقدم لقاضي محكمة أسوان إعلان الدعوى وأن يدلي أمامه بدفاعه، فيدون القاضي محضرا بذلك ويرسله إلى قاضي القاهرة.
حفلة الشاي في القضارف تكريما للبعثة.
قانون العقوبات
متأثر بقانون العقوبات الهندي، وهو قائم على أساس شرح الجريمة، ثم ضرب الأمثال عليها. ويجوز للقاضي الابتدائي أن يحضر أمام الاستئناف ويدافع عن حكمه.
وكل الأحكام قابلة للتنفيذ حالا، وللقاضي أن يوقف تنفيذها، ويجوز رد القضية للمحكمة لإعادة الفصل فيها.
ومكث العشماوي بك من أغسطس سنة 1917 إلى سبتمبر سنة 1919 في السودان، وكان منتدبا من الحكومة المصرية، ثم أعيد للقضاء الأهلي، ثم عين أستاذا للمرافعات بكلية الحقوق، وأخيرا سكرتيرا للمعارف فوكيلا لها.
بونهام كارتر السكرتير القضائي، هو واضع النظم القضائية في السودان.
تحسب كل سنة في خدمة السودان بمقدار سنة ونصف في المعاش، وبمقدار سنتين قبل خط عرض 512.
الدكتور رياض شمس المحامي وعضو المجمع الدولي للقانون الجنائي بباريس وعضو البعثة المصرية في السودان.
القمص يوحنا سلامة وكيل الشريعة القبطية ومدير مدارس الأقباط بالخرطوم . (5-10) الأندية السودانية بمصر
رأى إخواننا السودانيون المقيمون بمصر أنه لا بد لهم من رابطة تجمع شملهم، وجامعة تضم شتاتهم، فأنشأوا في مدينة القاهرة ناديا يقع في الدار رقم 3 بميدان سليمان باشا، يرأسه حضرة الشهم الوجيه الغيور السيد «علي البرير» سليل أسرة «البرير» المشهورة بالتجارة والفضل وتوثيق العلاقات بين مصر والسودان. وللنادي مدرسة لتعليم الفقراء وعيادة طبية، ودار أنيقة، وله مجلة ومجلس إدارة ولجان، وعلى رياسته الفخرية حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون، وعلى وكالته الفخرية صاحبا السيادة الزعيمان السودانيان الكبيران السير السيد علي الميرغني والسير السيد عبد الرحمن المهدي.
وتقام بالنادي حفلات شاي وتكريم للضيوف والمبرزين، وفي المناسبات كعيد رأس السنة الهجرية. والنادي مستعد لتزويد الطالبين بما يريدونه من معلومات عن السودان.
ومن كبار أعضاء النادي السوداني بالقاهرة
علي أفندي البرير، محمود أبو العلا، الشيخ خضر الحاج علي، الشيخ محمد وحش، الدكتور الدرديري أحمد إسماعيل، محمد عبد الهادي عطية، السيد نور الدين، علي القوصي، الحاج حسن خيري، خليل عامر، سيد طه، سليمان أحمد خليل، علي محمد نور، حسين منصور، توفيق أحمد، محمد الحسن مصطفي، إدريس شريف، إدريس عبد الحي، عبد العزيز ماجد، توفيق سراج، محمد أحمد صابونة، سليمان علي، حسن محمد نور، الشيخ حسن محجوب، سليمان داود، بشير عبد الرحمن، فاضل حامد، محمد عبد الله الخطيب، عوض سيدون، الشيخ محمود حسن، سليمان أحمد قاسم، شريف عبد الجليل، صديق فضل بشير، محمد محمد إسماعيل، الشيخ يوسف إدريس، حسين عبد الكريم، حسن متولي محمد، عبد المجيد محمد علي القاضي، عبد الحميد محمد علي بدوي، أحمد عمر أبو بكر، عبد اللطيف الحاج بشير، حسن علي محمد، السيد أحمد رشوان، محمد عثمان جبر، إبراهيم إدريس، محمد إبراهيم قاسم، الحاج محمد عبدون، محمد عثمان محمد، إبراهيم محمد داود، أمين محمد أمين.
وحضراتهم بين تجار وأدباء وطلبة نابغين، يسودهم الوفاق. •••
وقد أنشئ في هذا العام ناد سوداني بالإسكندرية. (6) أعيان السودان وتجاره
حضرة صاحب السيادة الحسيب النسيب السير السيد علي الميرغني كبير أعيان السودان وأحد علمائه الأعلام ورئيس الطريقة الميرغنية في القطرين السوداني والمصري ورئيس الوفد السوداني الذي سافر إلى لندن في يوليو سنة 1919.
وحامل نيشان القديسين ميخائيل وجورج من درجة فارس، ونيشان فيكتوريا من درجة فارس.
السير جون مافي حاكم السودان سابقا.
ألفونس جريس بك مدير المباحث الزراعية بوزارة الزراعة سابقا وعضو بمجلس إدارة الجمعية الزراعية الملكية.
حضرة صاحب السيادة الحسيب النسيب السير السيد عبد الرحمن المهدي كبير منتجي السودان ونجل المهدي الأكبر وزعيم المهديين في السودان وأحد أعضاء الوفد السوداني الذي سافر إلى لندن سنة 1919.
وحامل نيشان الإمبراطورية البريطانية من درجة فارس، ونيشان فيكتوريا من درجة رفيق.
حضرة صاحب السيادة الحسيب النسيب الشريف يوسف الهندي أحد كبار أعيان السودان وعالم من علمائه الأعلام وأحد أعضاء الوفد السوداني الذي سافر إلى لندن سنة 1919.
وحامل نيشان فيكتوريا من درجة رفيق، ونيشان الإمبراطورية البريطانية من درجة عضو. •••
ومن أعيان الخرطوم وتجاره الوطنيين: مهدي الشيخ الطيب، محمد عبد الغفور ومحمد عبد المحمود، خير الله صالح، محمود حسن القباني، يونس نجم، فارس ميشيل بك، محمود علي دياب، هنري جيد، عبد الرحيم هميمي، قرنفلي نصر الله، إبراهيم خليل بك، محمد حسن السواحلي، محمد أحمد صابر، أمين محمد علي علوب، محمد محمد نور، حاج علي حسين، عابدين عوض حسن، عطا الله غبريال.
ومن أعيان الخرطوم وتجاره الأجانب: كوبانوس أفسترانيو، كانيفانيدس ديمتري، سيروجتيس ألكسندر، جورج تريزيس، أرشاك جورج، ألكسندر قاريانوس، هاجوب أصلانيان، زافولاس جورج، جورج أشخنيان، الدكتو بريدو، ديموبوليس خاريس، كونتو ميخالوس.
ومن أعيان وتجار العطبرة الوطنيين: مختار عبد الهادي، الزبير محمد حسن، مجذوب محمد عبد الكريم، محمد أحمد القوصي، أنطون طباخ، ساويرس محروس، حميد الشيخ أحمد، محمود محمد عاشور، عبد الهادي عبد المجيد القباني، وديع أندراوس سيدهم، محمود محمد الأبس، صالح محمد عبد الله الرجاجي، محمود محمد عثمان، محمد أبو عجور، عباس أبو العلا، بابكر أحمد الشيخ.
ومن الأعيان والتجار الأجانب في العطبرة: أنطونو بولو، لورانزانو كاتسوليدس، أنطون سنكي، ك. ب كريكور.
ومن أعيان وتجار كسلا الوطنيين: السيد أحمد الميرغني، السيد محمد حسن الميرغني، السيد محمد الحسن، السيد أحمد الميرغني.
ومن التجار والأعيان الأجانب بكسلا: شطار بهاح فاراندوس رمجي سنجي، ويفكران لشراز، أريماكيس كوستيس، خاركيسونداس خوشال.
ومن الأعيان والتجار الوطنيين بالأبيض: عمر التني، عوض الكريم قرشي، بان النقا حسن، محمد أحمد إمام، عوض خليل، محمد نور ناصر، أبو زيد حسن هلال، علي إلياس أبو ورقة، ماهر عبد العزيز القباني، جرجس جورجي.
ومن التجار والأعيان الأجانب بالأبيض: رامجي سامجي، ولينج جيمس، وأنطوياكيس نيقولا، والدكتور ملكسيان، ودياكوبولوس عمانويل، وكاهامجي همشاند، ونقولا يسومبونس.
ومن الأعيان والتجار الوطنيين بأم درمان: إبراهيم عامر، صالح داود، جورج بغدادي بك، أحمد حسن هريدي، إبراهيم فخري القباني، عبد الله الحاج حسن، سعد هنري جيد، عبد المجيد حسن عبد المنعم، عبد الله الدعينة، بابكر أحمد الشفيع، أحمد عبد القادر الوالي، سيد أحمد سوار الذهب، السيد إسماعيل الأزهري، صالح عثمان صالح، محمد الشنقيطي، عبد القادر محمد العتباني، إبراهيم أحمد عطا الله، خالد أحمد سليمان، محمد حسين أبو جبل، مهدي الشيخ الطيب، دفع الله شبيكة، الأمين عبد الرحمن أرباب، حسن أبو العلا، حسين أبو العلا، عبد المسيح تادرس، نعمان جورج حداد، صالح داود.
ومن التجار والأعيان الأجانب بأم درمان: تربيهو فان مدهلال، إلياس جارجا فليا، وبتمزاكي ديمتري، كارسنداس متشجان، ديار بيكربان أرتين، راتنجي خاليداس، هاركيسانداس خوشال، مارجوسيان برفانت.
ومن الأعيان والتجار الوطنيين ببور سودان: علي يحيى اليماني، وداعة الله أحمد النيل، درويش مصطفى ربيع، حامد أحمد عناني، محمد السيد البربري، أبو بكر سعيد باعشر، مسعود محمد، دايم اليماني، عوض الله الحاج المصري، محمد آدم جندابي، أحمد سالم الرويعي، السيد عمر الصافي، عبد الرحيم كوردي، طه مسلم، العوض الشافعي، البشرة خلف الله، عثمان محمد السمكري، حسين أحمد شمس، محمد سعيد باعشر، حسين عبودي، عمر محمد صالح بازرعة، محمد زين صديق، ناشد أندراوس، تادرس عطية، محمد عمر بازرعة، الشيخ عثمان عبد القادر، إبراهيم علي مرزوق، مبارك سليم بشنين، صالح جمعة، مصطفي جيلاني رجب، كامل عفارة، عبد الماجد بشير، أديب قربان، أحمد السيد البربري، محمد صالح ضرار.
أسماء تجار وأعيان بور سودان الأجانب: جوفرجي ناتال، جادفجي فرشاند، قريزيس بنايوتي، جاجزيفان ويفكران، سركيس توكاتليان، شامولال بارماتاد، جيثلال لافاشند، بهاجفاندس جانيش، فارنداس كابورشاند، تروكوجيا كومو، جورج كيورس، هازندروس مانولي، بوبات نمشاند كمدار، بيتامبر مانيلال شاخ، جاسنداس ديفداس، بيتروكي ألكسندر، ديليس ثيودور.
أسماء بعض أعيان وتجار واد مدني الوطنيين: شكري عبد الله النجار، محمد أحمد مصطفى الخضري، أحمد رمضان محمد، يونس أحمد، محمد الأمين الحاج، عبد المنعم محمد، عبد القادر إسماعيل، إبراهيم الربح، توفيق حبيب، عبد الله أحمد يحيى، جورج صايغ، عمر محمد عبد المجيد، محمد بادا، شمس الدين الشافعي، إبراهيم أحمد السنوسي، عبد الرحيم أحمد، مصطفى عثمان، الحاج طاهر المنشد، راغب عبد الله دلال، كوسة.
ومن التجار والأعيان الأجانب بواد مدني: نقولا روسو، أليكسندر الستاسياديس، باسيل أنطون بادرا ، باندليس جورج، هاركيونداس خوشال، أليكسندر فيتالي، فاسيلي لمبروبولو، نقولا فوليانيتس، بابافاستاسيو جورج، قندلال كرمشارد.
كلمة المؤلف الختامية
الآن نختتم الجزء الثالث من الكتاب، ولا نزال نذكر الأثر الذي تركته البعثة، وندعو زعماءنا ومواطنينا إلى مواصلة تأليف البعثات وزيارة السودان؛ ففي زيارته فوائد شخصية للمسافر، وفوائد عامة في باب تمكين الروابط بين مصر والسودان، ونرجو أن تتاح لنا الفرصة لتكرار زيارة بلاد لنا فيها ذكريات وبها مصادر حياتنا، ونشكر مواطنينا السودانيين على حفاوتهم ووفائهم ونتمنى لهم مستقبلا سعيدا.
15 أكتوبر سنة 1935
عبد الله حسين
Page inconnue