أما الصادقون من الناس الواثقون من أنفسهم العاملون بأمانة وإخلاص، فهؤلاء لا يغشون ولا يغدرون، لا في الأسعار ولا في الموازين والأمتار.
عداوة الكار آفة سرى سمها الزعاف في عروق مجتمعنا فأفسد الدم وقرض اللحم ونخر العظم، وهي العصا التي توضع بين أضلاع الدواليب فتقف لا تكر ولا تفر، قد استفحل شرها بيننا وطغى فثقلت وطأتها على مجتمعنا حتى كادت تخنق الصناعة وتسحق رأس التجارة، وتقعد كل نهضة وتثبط همم رجالها.
فالصانع عندنا مهما سمت أو انحطت مهنته يطعن في رصيفه وزميله، وتقوم بينهما قيامة البغض وتسود الشحناء حتى تتقطع بينهما حبال المواصلة، فإذا دخلت مخزن تاجر تسوم بضاعته قضيت عنده ساعة يسمعك فيها أولا خطبة العرش التي تدور حول خامه وجوخه وشيته وعنبر كيسه. وإذا قلت له في معرض الكلام: عند جارك مثل هذا وبثمن أقل، احمر واصفر وازور وقدحت عيناه شررا وراح يكلمك بفم يندلق فكه التحتاني كأنه باب عتيق مهرهر، ثم يزعم لك أن بضاعته نازلة من السماء، وأنها لا توجد عند غيره، وأن بضاعة جاره مغشوشة مقلدة. وإذا طغاك الشيطان واجترأت على القول له أن لا فرق بين بضاعته وبضاعة رفيقه سوى أن تلك رخيصة الثمن؛ رمى جاره المنافق بقذائف الطعن والشتم وسب عرضه ودينه، وأخذ يخترع الأكاذيب زاعما أنه غش أمس فلانة، وقبلها خدع السيدة الفلانية، ومنذ ساعة جاءه فلان وهو يحلف ألف يمين أنه لا يدخل محل ذلك الغشاش والخداع الذي لا يقتني إلا أردأ أصناف البضاعة، ثم يقول: أما أنا فلا يدخل مخزني إلا أحسن البضائع وأجودها وخير الناس وأكرمهم.
وأخيرا يرمي قدامك دفتره ويقلبه وشفاهه ترقص حقدا وغيظا، ثم يقول لك: انظر هذا اسم من؟ تفضل اقرأ بعينك ألا تحسن القراءة والكتابة؟ هذا اسم الشيخ الفلاني أو الأمير الفلاني أو الوزير الخطير، وكلهم - والحمد لله على هذه النعمة - من زبائن المحل، ثم يقلب صفحة أخرى قائلا: وهذا تعرف من هو؟ هذا وزير الاقتصاد، وهذا وزير العدلية، أعرفت الآن من هم زبائني؟ ثم يقلب صفحات دفتره بنزق ليقول لك بعد تنقيب وتقليب: وصلنا، هذا اسم «مدام» فلان وهي لا تشتري ذراع قماش إلا من عندي، تقول دائما للناس: ما رأيت مثل فلان بين التجار؛ سعره محدود وبضاعته فاخرة، ليس في المدينة مثله، هذا لو كان في باريس أو لندن لكان صاحب ملايين، ولكن الناس في بلادنا لا يعرفون قيمة الأوادم.
ثم يتنفس الصعداء ويستريح قليلا ليستأنف ما بدأه من جهاد، ويقول: بحياتك لا تذكر جاري إذا شرفتنا ثاني مرة، فهذي إهانة لي وللتجارة، حرام أن تقابل بيننا فما يدخل دكان جاري غير فقراء الحال.
وإذا رأى أنك لم تخدع بتلك الفصاحة والبلاغة لجأ إلى الأيمان المغلظة، فأقسم لك بنبيك إن كان يعرف ملتك، وإلا فهو يقسم بهم ثلاثتهم متكلا على الله داعيا إياك إلى ذلك بقوله: «توكل على الله وغمض عينيك.»
ولا تخرج من باب دكانه حتى ترى جاره واقفا لك بالمرصاد، إنه يأبى إلا أن تشرف محله، يتمسك بأذيالك كأنك غريمه وله عندك دين، حتى إذا ما سايرته ودخلت أقسم لك بالله وملائكته وعرشه وكرسيه أن سيبيعك ما تريد برأس المال فقط نكاية بجاره الأناني الملعون الذي يريد أن يستأثر بكل الناس ويقطع لقمة جيرانه.
إن الأسطوانة عينها تدار أمامك، وعليك أن تسمعها إما مجاملة وإما غصبا عن رقبتك، فتتحير في أمرك ولا تدري من تصدق.
وأخيرا تعزم على أن تدخل مخزن تاجر يحترم نفسه ويعلم أن من غربل الناس نخلوه، فيبيعك إن شئت، ولا يكذب ولا يذم؛ لأنه يعلم أن هذا الكيل يرد كيلين.
فمن دعا الناس إلى ذمه
Page inconnue