منه إنما هو اعترافٌ بقلة العدد لا بقلة القدر والغناء، ألا ترى أنه رجع عليه بالنفي في البيت الثاني فقال:
وما قل من كانت بقاياه مثلنا
على أن قوله إن الكرام قليل يشتمل على معانٍ كثيرة: وهي ولوع الدهر بهم، واعتيام الموت إياهم، وقلة النسل فيهم، واستقتالهم في الدفاع عن أحسابهم، وإهانتهم كرائم نفوسهم مخافة لزوم العار لهم، ومحافظتهم على عمارة ما ابتناه أسلافهم. وكل ذلك يقلل العدد، ويقصر المدد. وقليلٌ وكثيرٌ يوصف بهما الواحد والجمع.
وما قل من كان بقاياه مثلنا ... شبابٌ تسامى للعلا وكهول
الهاء من قوله بقاياه راجعة إلى لفظ من لأن معناه الكثرة. ولو رد عليه لقال بقاياهم. يقول: وما حصلت القلة في القدر والغناء، ولا لحقت الذلة في اللقاء والدفاع لأسلافٍ أخلافهم نحن، شبانٌ وكهولٌ يتسامون في اكتساب المعال، ن ويترقون في درجات الفضل. وشبابٌ مصدرٌ في الأصل ووصف به، ولذلك لا يثنى ولا يجمع. يقال شب الصبي يشب شبابًا. وقوله تسامى أراد تتسامى، فحذف إحدى التاءين استثقالًا للجمع بينهما. فإن قلت: هلا أدغمت كما أدغمت في ادراك - والأصل تدارك؟ قلت: ليس هذا موضع إدغام، لأنه فعل مضارع. ألا ترى أنه لو أدغم لاحتيج إلى جلب ألف الوصل لكون أوله، وألف الوصل لا يدخل على الفعل المضارع. والكهل: الذي قد وخطه الشيب، ومنه اكتهل النبت، إذا شمله النور.
وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل
في هذا الكلام تعريض بعشيرة من جاذبه الكلام. يقول: وما يضرنا قلة عددنا وجارنا في عزٍ، وجار من لهم العدد والكثرة في ذل. وقوله: وما ضرنا يجوز أن يكون ما حرف نفي، والمعنى لم يضرنا؛ ويجوز أن يكون اسمًا مستفهمًا به على طريق التقرير، والمعنى أي شيء يضرنا. والواو من قوله: وجارنا عزيزٌ واو الحال، أي لا يضرنا ذلك والحال هذا. وكذلك الواو من قوله: وجار الأكثرين ذليل واو الحال. وإنما صلح الجمع بين الحالين لأنهما لذاتين مختلفتين، ولو كانا لذات واحدة لم يصلح. والعز والعزازة استعمل في القدرة والمنع، وفي الصلابة
1 / 84