ولقد وصفت هؤلاء القوم بأنهم يبذلون الجهد لمن نزل بهم. على أن العرب قي القديم يعيبون الدجاج، وإنما ذلك إنكار للحضر، لأن جمهورهم وفصحاءهم أهل بدو. قال " النمر العكلي ":
ونأْمُرُني ربيعةُ كلَّ يومٍ ... لأُهلِكَها وأَقَتَنِيَ الدَّجَاجَا
وما تُغنِي الدجاجُ الضيفَ عَنى ... وليس بِنافِعي إِلا نِضَاجًا
وأنشد " علي بن حمزة العلوي " وزعم أنه سمع أعراب نهد تنشدها في قطر نجران:
تَبَدَّلتِ يا حَمراءُ أَحمرَ ناجرًا ... وبُعْدَ الفيافي بالقُرى والحَواضِرِ
وشُرْبًا بأَعناقِ الجِرَارِ وطالَما ... شربتِ بِغيثٍ آخِرَ الليلِ ماطرِ
ولِعْبًا بأَولادِ الدجاجِ وربما ... لعبتِ بأَولادِ الظباءِ النوافِرِ
وأما الراهب الذي زعمت أنه يشرب بول الأسد ولا يشرب بول البؤة، فكيف فرقت بين هذين؛ ولعمري إن بعض أهل اللغة ذكر أن بول البؤة يسمى الكظرم، ولم يذكر شيئًا في بول الأسد؟ وقد علمت أن الرهبان يكونون في الصوامع، وأكثرهم لا يقدر على النزول. وأقل ما يكون بين الراهب وبين الأسد من المسافة، أن يكون الراهب في القوس والأسد تحته في القرقوس، فكيف له بما ذكرت، ولو تتبع أثره في الآجام والمأسدة من الأماكن لما أمكنهخ أن يأخذ من بوله ما يشربه؟ إلا أن تدعى أن للأسد وقائع تقصدها إذا أرادت البول. إنما يعرف شرب أبوال الإبل للعرب، وقد ذكر بعضهم شرب أبوال الخيل عند الحاجة فقال:
وكان لهم إِذ يَعصِرون فُظوظَها ... بدِجْلةَ أَو فيضِ الأُبُلَّةِ مَوْرِدُ
إِذا ما استبالوا الخَيلَ كانت أَكُفُّهم ... وقائعَ للأَبوالِ، والماءُ أَبْرَدُ
وقد ضربت العرب المثل في الجهل بمن يطلب آبوا الأسد، فقال " الفرزدق ":
وإِني كما قالتْ نَوَارُ أَنِ اجتَلَتْ ... على رجُل ما شدَّ كفِّي خَلِيلُها
وإِن الذي يَسْعَى لِيُفسِدَ زوجتي ... كَسَاعٍ إِلى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلها
وأما الخطيب الذي زعمت أنه يتطهر ببول العجل والعجلة، فهذا شيء يحكى عن المجوس، ولا يعترف به بعضهم. وإنما هذه دعوى منك لا يحسن إليها الإصغاء، مثل ما ادعى " جرير " على العقالية أنها تطلى ببول الوبر، قال:
وسَوْداءِ المحاجِرِ من عِقَالٍ ... يَشينُ سَوادُ مَحْجَرِها النِّقابا
تَطَلَّى وهْيَ سَيئةُ المُعَرَّى ... بِصنِّ الوَبْرِ تَحسبُه مَلاَبَا
وصن الوبر: بوله.
والمحموم الذي زعمت أن أهل الموصل " إذا مرض أحدهم فرق منه، لا أدري ما غرضك فيه؟ لا نعلم أحدًا يفرق من المحموم. وإنما كانت قريش في الجاهلية تبعد البرص وتتوقاه. وكان ذلك شيئًا أخذته عن اليهود. فأصاب " أبا عزة " الشاعر برص في جنبه، فاجتنبته قريش لا تجالسه ولا تواكله. فعظم ذلك عليه وتمنى الموت. فأخذ سكينًا وطلع إلى بعض الجبال ليقتل نفسه فيستريح. فلما وضع السكين على ذلك البياض وحرق الجلد، هاب الموت وأمسك، فسال من ذلك الموضع ماء فبرأ من الداء الذي كان به. وقال:
لا هُمَّ رَبَّ عامِرٍ ونَهْدِ ... ورَبَّ مَن يَسْعَى بأَرضِ نَجْدِ
أَصبحتُ عبدًا لكَ وابن عَبْدِ ... أَبرأْتَ مني بَرصًا بِجِلدي
من بعدِ ما طعنتُ في مَعَدِّ
وقد حكى أن " الحارث اليشكري " قام بكلمته بين يدي " عمرو بن هند " وكان الحارث به بياض، فلما خرج من بين يدي الملك غسل الموضع الذي وقف فيه بالماء.
في أشباه لهذا كثيرة.
فأما المحموم فما نفر منه أحد فيما نعلم. وقد حم جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ بالمدينة، فما فرق منهم أحد بل كانوا يعادون ويعللون. وحديث " عامر بن فهيرة " معروف. وقد روى حديث معناه أن النبي ﷺ جاءه جبريل ومعه الحمى والطاعون فأمسك الحمى بيثرب وبعث الطاعون إلى الشام. وفي أرض العرب محمة لا نعلم أحدًا من سكانها هرب منها، إلا أن يتفق له الرحيل عن الأرض المحمة كما يتفق له الرحيل عن الأرض المحمودة. وهم يضربون المثل بحمى " خيبر " وحمى " القطيف " والقطيف بنواحي اليمن. قال " الشماخ ":
1 / 53