وقد ذكرت الفقهاء أحكامًا للساحر، فهذا يدل على أن السحر عندهم صحيح. وفي الكتاب العزيز: " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ".
فأما سحرة " فرعون " فقد اختلف فيهم الناس. والصحيح أنهم كانوا يخيلون أن العصي والحبال ساعية فيما ترى العين.
فأما نقل الطائر إلى غير جنسه والرجل إلى النعامة والطير، فهذا أمر يشهد المعقول بأنه محال. وقد روى بعض أصحاب الحديث أن الضب قدم إلى النبي ﷺ فقال: " إن أمة مسخت ". فلا أدري لعل هذا منها.
وروى في مسخ ابن مقرض وابن عمرو والغراب والفيل، ما هو مشهور. ولا ندفع أن الله تعالى يقدر على نقل الأعيان. وإنما الكلام في إجرائه ذلك على أيدي الآدميين.
فأما العرب في الجاهلية فقد كانوا لا يشكون أن الجن تظهر لهم في صور الحيات وغيرها من صورة الحيوان. وحديثهم عن " عبيد بن الأبرص " والشجاع الذي أبصره رمضًا، معروف عند العامة. وذكر " أبو معشر المدني " في كتاب المبعث أن قريشًا وجهت " عمرو بن العاصي السهمي، وعمارة بن الوليد المخزومي " إلى النجاشي لما هاجر إليه أصحاب رسول الله ﷺ، يريدون أن يوغروا صدره عليهم. ووجهوا معهما ألطافًا مما يكون في أرض العرب. فركب عمارة وعمرو في البحر ومع " عمرو بن العاص " امرأة له. فشرب خمرًا فلما انتشى عمارة بن الوليد " راود امرأة عمرو بن العاص على أن يقبلها. فمنعه عمرو بن العاصي، فحمله فطرحه في البحر. فاستمسك عمرو برجل السفينة حتى ارتفع. فقال: لو كنت أعلم أنك تعوم ما طرحتك - هكذا في النقل. والأشبه أن يكون: لولا أني كنت أعلم أنك تعوم - فاصطحبا حتى بلغا النجاشي. والحديث مشهور معه. إلا أن في حديث " أبي معشر المدني " زيادة. قال المدني: ثم قال عمرو لعمارة: إنك رجل جميل، فصادق امرأة الملك لعلها تكون لنا وسيلة إليه. فصادقها عمارة فأخبر عمرًا بذلك فقال: ما أراها صدقتك الحب حتى ترسل إليه من ثيابه وطيبه. فأرسل إليها: أن أرسلي إلي من ثياب الملك وطيبه. فبعثت بثوبين معصفرين وبطيب من طيبه. فلما لبسهما ورآهما عمرو عليه، قال عمرو بن العاصي للنجاشي: لا أكون في أرض إلا نصحت لملكها، إني لك ناصح، إن صاحبي قد خانك في أهلك فأرسل إليه فإن ثوبين من ثيابك عليه، وطيبًا من طيبك. فأرسل النجاشي فوجده كما قال. فلما جاءوا به قال: إني أكره أن أقتل أحدًا من قريش. وقال لأصحابه: هلم شيئًا يشبه الموت. قالت كهته عنده: نعم، ننفخ في إحليله شيئًا فيتوحش مع الوحش، ففعلوا به ذلك، فرجع عمرو إلى مكة فأخبر قريشًا بالذي فعل النجاشي. وقال عمرو في ذلك شعرًا:
أَأَنْ كنتَ ذا بُرْدَيْنِ أَحْوَى مُرَجَّلًا ... فلَستَ برَاعٍ لابنِ عَمِّكَ مَحْرَمَا
إِذا المرءُ لم يتركْ طعامًا يُحِبُّه ... ولم يَنْهَ قلبًا غاوِيًا أَينَ يَمَّمَا
قَضَى وَطَرًا منها وغادَرَ سَوْأَةً ... إِذا ذُكِرتْ أَمثالُها تَملأُ الفَمَا
تَعَلَّمْ عُمَارَ أَنَّ مِنْ شَرِّ شِيمةٍعلى المرءِ أَن يُدْعَى ابنُ عَمٍّ له ابنَمَا
وذكر " العدوى " وهو من ولد " أبي جهم بن حذيفة "، أن " عمارة ابن الوليد " تبرر في الجبال، وأنه عاش حتى ولى " عبد الله بن أبي ربيعة " اليمن - وهو أبو الشاعر عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة - وذلك بعدما قبض النبي ﷺ بزمن طويل. فقيل لعبد الله بن أبي ربيعة: إن ببعض الجزائر التي تقرب من اليمن عمارة بن الوليد متوحشًا. فوجه إليه فأتى به فجعل يصيح: يا حي يا حي؛ حتى مات في أيديهم. وكانوا يرون أن الذي فعل به ضرب من السحر ...
فلعلك تذهب إلى أن هذه العجوز مسخت دجاجة فباضت بيضة واحدة ثم ردها الله الواحد بقدرته إلى حال الآدمية! كأني بك، لسوء رأيك، تتأول في قول " الطائي " ضروبًا من التأول الفاسد، أعني قوله:
للهِ دَرُّكَ أَيُّ مَعْبَرِ قَفْرةٍ ... لا يوحِشُ ابنَ البيضةِ الإِجْفِيلا
وأما القوم الذين زعمت أنهم يذبحون لمن نزل بهم الدجاج ويصونون البيض، فما الذي لحقك من العجب لهذا الفعل؟ من شأن الناس إكرام النازل، فإن قدروا على نحر الناقة لم يقنعوا باشاة، وإن قدروا على الشاة لم يرضوا بالحمل، وإن أمكنهم الفرير لم يرضوا بالدجادة.
1 / 52