وما تنكر، إذا زعمت أن المضيرة تتكلم، على من يزعم أن الجوذابة تقول الشعر وأن الفالوذ مشامر وصاحب ملاده؟ وذكرت أن أهل الشام كلهم يبغضبون الأبارين وكذلك أهل العراق، ولا يبيحون قتلهم إلا بحق.
فما الذي فعله بك الأبارون؟ لولا الإبر لفقدت السرابيل، وإنما تصير السبية ثوبًا بالإبرة. وغير الأبارين أولى بالمقت. إنما ينبغي أن يمقت الهالكي الذي يعمل الأسنة ونصال السهام ويطبع السيوف فيكون ذلك مؤديًا إلى هلاك سوق من القوم وملوك. ولعل في الأبارين من لم يسفك دم مسلم قط؛ وأكثرهم على هذه الحال. فأما الإبرة فليست من آلات القتل. وما نعلم أحدًا قتل بإبرة إلا أن يجيء نادرًا من القدر. فأما السيف والسنان والنصل فقتلاهن تحدث من الدهر الجديد.
ثم أطلقت القتل على الأبارة؛ والمرأة أضعف من الرجل وأحق بالصيانة.
فما جرت البائسة عليك، ولعلها من اللواتي قال فيهن رسول الله ﷺ: " أنا وسفعاء الخدين يوم القيامة كهاتين " يعني بسفعاء الخدين امرأة أشبلت على ولدها وصبرت على الشقاء. ولم تجر عادة النساء أن يلين شيئًا من هذه الصنائع: قلما ترى امرأة حدادة ولا نحاسة ولا نساجة كما ينسج الرجال في الأمصار. فإن اتفق أن ترى امرأة صناعة فتلك من نوادر الزمن. وإنما يحملها على ذلك مراس الشقوة، والشفقة على الأطفال.
وفهمت ما ذكرت عن القاضي الذي وصفته باستعمال صنوف اللبن ثم نفيت ذلك عنه؛ غير جامع بين آخر كلامك وأوله ولا ناظر في معنى ما قلت. فمثلك فيما فرط منك مثل الذي يكذب نفسه فيم قال فيثبت شيئًا ثم ينفيه، أو ينفيه ثم يثبته كما قال " زهير ":
قِفْ بالديارِ التي لم يَعْفِها القِدَمُ ... بَلَى وغَيَّرها الأَرواحُ والدِّيَمُ
وقال " أبو عطاء السندي ":
فإِنك لم تَبْعُدْ على مُتَعَهِّدٍ ... بَلَى كلُّ مَنْ تحتَ الترابِ بعيدُ
ومن بديع ما ادعيت، أن قصابًا يذبح صغار الضأن وكبارها ولم يذبح خروفًا قط! ولو سمعك أهل هذه الصناعة لهزئوا منك. ولوجدك قصاب وأنت قد خليت وشأنك لزمانتك وعجزك، فقدر أن يبيع لحمك على أنه لحم خروف، لفعل. وكيف له أن يجدك في بعض الظروف ولا بقية فيك فيبيعك على أنك خروف رضيع! وأخبار العرب لا تمتنع من ذبح الخروف والشاة فكيف يمتنع من ذلك من هو متعيش به؟ قال الشاعر:
تركتُ ضأني تَوَدُّ الذئبَ راعيَها ... وأَنها لا تراني آخِرَ الأَبدِ
الذئبُ يطرُقُها في الدهرِ واحِدةً ... وكُلَّ يومٍ تراني مُدْيَةٌ بِيَدِي
وهم يفتخرون بذبحها للضيف وسلخها بأيديهم.
قال الشاعر:
إذا لم يكنْ رِسْلٌ بِبَرْقٍ فمُدْيةٌ ... وحبلٌ به أَوصالُ بَرْقٍ تُطوَّحُ
بِكفَّيْ فتىً لم يَدْرِ ما السَّلْخُ قَبلها ... تَجولُ يَداه في الأَديم وتَجْرَحُ
وقال آخر:
كأَنكَ لم تذبَحْ لأَهلِكَ نَعجةً ... فيُصبِح مُلْقًى بالفِناءِ إِهابُها
أتظن القصاب يرحم الخروف لصغر سنه؟ فما الذي صرف رحمته عن الرخل وهي إذا أعفيت من المدية كانت أخلق بمنافع الناس، لأنها تصير شاة تحلب وتنتج، ويجوز أن ينمى من الشاة الواحدة وقير عظيم؟ وإذا ترك الخروف فإنما المنفعة به جزه أو فحلته، والكبش الواحد يغني للفحلة عن اتخاذ ما كثر من فحول الغنم. وإنما الفضيلة عند الصعلوك للشاة لا للكبس، لأن المنفعة بالشاة أعم.
ولعلك تعني أن الخروف ها هنا اسم إنسان بعينه، لأن الأسماء يتسع فيها المسمون، فيكون خروف ها هنا مثل قيراط في قول الراجز:
شَرِبتُ بقيراطٍ وروَّيْتُ صُحْبَتي ... ورُحتُ ولي عند التِّجارِ دراهِمُ
وقيراط: اسم مهر كان له.
وإن كان القصاب يتكبر عن ذبح الخروف، يريد ما هو أكبر منه، فلعمري إن الخروف مما يتهاون به. قال الشاعر:
عتَبتْ عَلَيَّ لأَنْ شَرِبتُ بِصُوفِ ... ولئن عتبتِ لأشربَنْ بِخروفِ
ولئن عتبتِ لأَشربَنَّ بِنعجةٍ ... ذَرآءَ من بعد الخروف سَحُوفِ
ولَئن عَتبتِ لأَشربَنَّ بِلقْحَةٍ ... صهباءَ مالئةِ الإِناءِ صَفوفِ
ولئن عتبتِ لأَشربنَّ بِسَابحٍ ... ما فيه من هُجْنٍ ولا تقريفِ
1 / 48