وأهل الدين يجوز أن يرغبوا في البرد، لأحاديث رويت في ذلك، منها فضل الوضوء في السبرات. وفي الحديث: " الشتاء ربيع المؤمنين، برد عليهم النهار فصاموا، وطال عليهم الليل فقاموا " وفي حديث آخر: " إن القلوب تلين في الشتاء لأن الله تعالى خلق آدم من طين ".
فإذا كان الصالحون يرغبون في الشتاء لهذه الجهات، فكيف ذكرت ما ذكرت جاعلًا له في المستطرفات؟ وزعمت أنه كان في عصره قوم يطعمهم السنان من لحم الزج. وقد علمت أن السوط يتخذ من الجلود، وهي أولى بالنحض من العصى والزجاج. وإذا ضربوا المثل بقلة لحم الرجل قالوا: كأنه أثناء سوط. قال الشاعر يرثي " هشام بن المغيرة المخزومي ":
أَصبَحَ بَطْنُ مكةَ مُقشَعِرًّا ... كأَن الأَرضَ ليس بها هشامُ
يَظَلُّ كأَنه أَثْناءُ سَوْطٍ ... وفوقَ جِفانِه شَحْمٌ رُكامُ
وزعمت أن طباخه كان يطبخ له بالحشيش وإن الحطب لكثير موجود.
فهذا من سوء رأي الطباخ. ولم يبغضهم، والحطب آلة عظيمة من آلات المعاش؟ لولا الحطب لعدم الجمر، ولو عدم لتفاقم الأمر. أو ليس العرب يفتخر أحدهم بأنه يحطب أهله وأصحابه، ويذمون من عجز من ذلك؟ قال الراجز:
تَسأَلُني عن بَعْلِها أَيُّ فَتى ... خَبٌّ جَبَانٌ وإِذا جاع بَكَى
لا حطَبَ القومَ ولا القومَ سَقَى
وقال آخر:
ألا ليت شعري هل أَبيتَنَّ ليلةً ... بِسُعْدٍ ولمَّا تَخْلُ من أَهلِها سُعْدُ
وهل أَحْطِبَنَّ القومَ والريحُ قَرَّةٌ ... فُرُوعَ أَلاءِ حَفَّهَا عَقِدٌ جَعْدُ
وزعمت أنه كان إذا أتى بالعالم أمر أن يقتص منه. وأي فرق في القصاص بين العالم وبين الجاهل؟ أليس في الحديث المشهور: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهو يد على من سواهم؟ ".
ولعلك تذهب إلى أن العالم تشتد عقوبته على قدر علمه. وليس الأمر كذلك، القصاص يتساوى فيه الجاهل وسواه.
ولقد سمعتك أطنبت في ذم البزازين، فليت شعري ما حملك على ذلك وإن فيهم لرجالًا صالحين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويتفقهون في الدين ويتلون كتاب الله، ويصدقون الحديث ويكفون ألسنتهم عن قول المنكر ولا يرغبون في استماع الغيبة؟ وفيهم جهال كما يكون ذلك في أهل الصنائع. وكيف السبيل إلى أن يكون الناس كلهم سواء في الخير؟ هذا ما لم تجر العادة بمثله. أليس في الحديث: " لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا "؟ وكذلك قالوا في المثل إذا ذموا القوم: هم سواسية كأسنان الحمار، أي لا يفضل بعضهم بعضًا. ولو كان الناس كلهم على الطريق الأمثل لم تعرف لأهل الخير فضيلة.
ولو سمع هذه المقالة منك البزازون في مدينتك هذه، لجاز أن يحلفوا بالمغلظة من الأيمان لا باعوا صاحبك عباءة يدفع عنك بها معرة القر وأذية الكدان.
وذكرت أن الناس يفرقون من البزازين ويتوقعون الدواهي من قبلهم.
ولا نعرف شيئًا مما قلت. بل أهل البز أصحاب رفق ودعة.
ريحهم ساكنة وطيرهم واقعة وليلهم نائم ونهارهم قار. ورب خطيب في بلده وآخر يوم في محلته، لا صناعة لهم إلا بيع البز. وطال ما دخل المضطر إلى المصر ومعه مال ومتاع يريد أن يضعه عند أهل الثقة، فيشاور أهل النصيحة فيرشدونه إلى بزاز في ذلك المصر.
لعلك اشترى لك في بعض الأيام عباءة فوجدتها غير موافقة فوقر في نفسك بغض للبزازين. وإنما تؤخذ لك العباءة من قوم يبيعون الخلقان يغلب عليهم السفه ويظهر منهم الطمع. وليس ينبغي أن تلعن مرادًا أو السكون لأجل ما صنعه " ابن ملجم " من المنكر. ولا يجب أن يحكم على ثقيف كلها بالكفر لمكان " الحجاج ". قد علمت أن الأخوين لا يستويان في الخليقة ولا في المنظر، فكيف يستوي أصناف الناس في آفاق الأرضين؟ وذكرت شظفًا من عيش البزاز وأنه يكون عارًا لا يصل إلى الدفء.
وقد شهد ربك على كذبك. إنهم لأصحاب ملابس ومطاعم، وفيهم الغنى والواحد، يلبس الشفوف القبطية إذا صاف، والسبوب الغالية إذا شتا الناس. وفيهم أهل مروءة ينال برهم الضعيف الطاريء وعابر السبيل. وكل مصر تسلك فيه تجد أهل هذه صناعة من أحسن أهله لباسًا في قر وحرور.
ونفرت من الخزاز نفار مبغض مثير للشحناء.
وزعمت أن الرجل إذا كان بزازًا خزازًا فإنه من قصته ومن شأنه..
1 / 46