ولم نعلم أن شرب أهل " يثرب " إلا من القلب دون غيرها من المياه.
وذكرت أنه كان إذا رأى يد رجل معروف أنكره. فما الذي عنيت باليد ها هنا؟ النعمة يسديها الرجل، أم العضو؟ وكلاهما قد أحلت فيه: كيف ينكر رجلًا من الناس لنعمة أنعمها أو يد أسداها؟ أم كيف ينكر من رآه لرؤية يده دون قدمه ووجهه؟ وأحسبك أخذك دوار من طول العمل فاضطرب عليك رأيك. وقد يدرك أخا اللب مثل ذلك عن المرض أو عن السن. والذي نزل بك شر من هذين. إنك لمعذور فيما تقول.
أتشك في أن " النمر بن تولب " كان من حكماء العرب، وأنه تغير في آخر عمره فلهج بأن يقول: اسقوهم صبوحًا اصبحوا الركب اغبقوا الركب.
وأهترت امرأة في ذلك الزمان فكانت تقول: زوجوني زوجوني. فقال بعض ولاة الأمر لقومها: ما لهج به أخو عكل أحسن مما لهجت به أختكم.
وكان " النمر " أحد الأجواد. وكان " مساور بن هند بن قيس ابن زهير " سيدًا من سادات غطفان وشاعرًا من شعرائها، فأهتر فعزل في بيت وجعلت معه امرأة تحفظه. فنظر إليه رجل في بعض الأيام وقد أخذ بعرتين فأرسلهما من يده وقال:
أُرسِلتْ الحَوَّاءُ والبَلَنْدَحُ
وكأن الحواء والبلندح في الأصل اسمان لناقتين أو فرسين. فجاءت المرأة التي قد وكلت به لترده إلى البيت، فلما رآها عاد إليه مسرعًا، وقال: سوى لي لعيقة إما لا.
فغير آمن أخو الحلم أن يزيل حلمه أمر من القدر غير مردود.
وزعمت أنه كان يعطي كل واحد من أهله قطًا ينتفع به. وقد يكون في الدار العشرة أو العشرون فينتفعون بالهر الواحد أو الهرة، وإنما الغرض في الهر الراحة من الرثايم. فلقد مادعيت أن أهل البيت ﵈ يرغبون في كثرة ذلك النوع في بيوتهم لغير الحادة. ولعمري لقد جاء في الحديث: " ليست الهرة ينجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " وقد يكون فيهن ما يأكل الحيات والعقارب، فلعلك إلى هذا تذهب.
وزعمت أنه كان يطأ الأرنب فلا تشعر به.
وكيف خصصت الأرنب بذلك دون الظبية ودون الغزال؟ ولم استحقت أن تخف عنها الوطأة؟ وكيف لا تتفر من الوطء وإنها لتكون نائمة في ظل الحبلة فيمر المار في طريقه ولا يعرض لها، فلا تترك نفارها عند ذلك؟ ولعلك ذهبت إلى أنها مغفلة كثيرة الوسن. وليست كذلك، بل هي كغيرها من صغار البهائم. وقد سموها مقطعة القلوب ومقطعة السحور، يعنون جمع سحر وهي الرئة. وإنما يريدون أنها تتعب من طلب صيدها على رجليه. قال الشاعر:
كأَنِّي إِذ مَنَنْتُ علَيكَ فَضْلِي ... مننتُ على مُقَطِّعَةِ القُلوبِ
أو لم تسمع قول الآخر:
فيومًا ترانا في مُسوكِ جيادنا ... ويومًا ترانا في مُسُوكِ الأرانِب
أراد أنهم يفرون من القتل كما تفر الأرنب. فهذا يدلك على صفته إياها بالجد في الهرب والروغان. وقد روى هذا البيت: " في مسوك الثعالب " والمعنى متقارب. وهي عندهم من حكماء البهائم ولذلك قالت العرب على لسان الأرنب: " اللهم اجعلني حذمة أزمه، أسبق الطالع في الأكمه ".
وفي حديث يروى عن " عمرو بن العاصي " أنه كان في بعض أسفاره فقرب الناس " مسيلمة الحنفي " ليختبر ما عنده. فلما رآه " مسيلمة " قال: ما نزل على صاحبكم في هذه الأيام؟ فقال: نزل عليه: " والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ".
فقال مسيلمة: قد نزل على نحو من هذا: يا وبر يا وبر، منكبان وصدر، وسائرك حقر نقر. كيف ترى يا عمرو؟.
وفي الحكاية، إن كانت صادقة، أن " عمرًا " قال له: إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب، إنما تقول العرب: استبت الوبرة والأرنب فقالت الوبرة: أران أران، رأس وأذنان، وسائرك أكلتان. وقالت الأرنب: يا وبر يا وبر، منكبان وصدر، وسائرك حفر نقر.
والأشبه ألا يكون " عمرو " واجه " مسيلمة " بالتكذيب، لأنه قد كان صار له رهط وأشياع.
أفلا ترى كلامهم على لسان الأرنب، وإنما يتكلمون على لسان ذي الفطنة والحس النافذ، عندهم؟ وادعيت أنه كان يجيء عليه الوقت في الشتاء، وأحب الأشياء إليه البرد.
وقد يصيب الإنسان من الأعراض ما يرغبه في الانكشاف للهواء والتعرض لشفيف الريح. وربما كان ذلك عن المرض أو إفراط الدفء.
1 / 45