159

Épîtres des Frères de la Pureté

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

Genres

واعلم يا أخي بأن هذه الأركان الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، فيصير الماء تارة هواء وتارة أرضا، وهكذا أيضا حكم الهواء فإنه يصير تارة ماء وتارة نارا، وكذلك النار، وذلك أن النار إذا أطفئت وخمدت صارت هواء، والهواء إذا غلظ صار ماء، والماء إذا جمد صار أرضا، وعكس ذلك أن الأرض إذا تحللت ولطفت صارت ماء، والماء إذا ذاب صار هواء، والهواء إذا حمي صار نارا، وليس للنار أن تلطف فتصير شيئا آخر، ولا للأرض أن تغلظ فتصير شيئا آخر، ولكن إذا اختلطت أجزاء هذه الأركان بعضها ببعض كان منها المتولدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وأصل هذه كلها البخارات والعصارات إذا امتزج بعضها ببعضها، فالبخار ما يصعد من لطائف البحار والأنهار والآجام في الهواء من إسخان الشمس والكواكب لها بمطارح شعاعاتها على سطوح البحار والأنهار والآجام والعصارات مما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتخلط بالأجزاء الأرضية وتغلظ فتنضجها الحرارة المستبطنة في عمق الأرض.

واعلم يا أخي بأن أول ما يستحيل هي الأربعة الأركان إلى هذين الخليطين، أعني البخار والعصارات، ويكون هذان الخليطان هيولى ومادة لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر، وذلك أن الشمس والكواكب إذا سخنت المياه بإشراقها على سطح الأرض والبحار والآجام والأنهار قللت المياه ولطفت أجزاء الأرض، وصارت بخارا ودخانا، والبخار والدخان يصيران سحابا، والسحاب يصير أمطارا، والأمطار إذا بللت التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية تتكون منها العصارات، والعصارات تكون مادة وهيولى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان، وقد أفردنا لكل نوع منها رسالة مفردة، وبينا فيها كيفية تكونها منها وتركيبها ونشوئها ونمائها وبلوغها إلى أقصى مدى غاياتها، ثم كيفية فسادها وبلاها واستحالتها وبدئها ورجوعها إلى هذه الأركان الأربعة التي تتكون منها.

واعلم يا أخي بأن الكون والفساد هما ضدان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد؛ لأن الكون هو حصول الصور في الهيولى، والفساد هو انخلاعها منها، فإذا فسد شيء منها فلا بد أن يتكون شيء آخر؛ لأن الهيولى إذا انتزعت منها صورة ألبست أخرى، فإن كانت التي ألبست أشرف سمي كونا، وإن كانت أدون سمي فسادا، مثال ذلك: أن يصير التراب والماء نباتا، ويصير النبات حبا وثمارا، والثمار والحب يصيران غذاء، والغذاء يصير دما ولحما وعظما، فيكون من ذلك حيوان، والفساد أن يحترق النبات فيصير رمادا، ويموت الحيوان فيصير ترابا.

واعلم يا أخي أن جسدك الذي تختص به نفسك أحد الكائنات الفاسدات، وما هو بالنسبة إلى نفسك إلا كدار سكنت أو كلباس ألبس فلا تكونن كل همتك وأكثر عنايتك بتزويق هذه الدار وتطرية هذا اللباس، فإنك تعلم بأن كل مسكن يخرب وكل لباس لا بد أن يبلى، ولكن اجعل بعض أوقاتك للنظر في أمر نفسك وطلب معرفة جوهرها ومبدئها ومعادها، فإنها جوهرة خالدة أبدية الوجود، ولكن تنتقل لها حال بعد حال كما قيل:

اجهد على النفس واستكمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

كما روي في الخبر أن ابن أبي طالب - صلوات الله عليه - قال في خطبة له: «إنما خلقتم للأبد، ولكن من دار إلى دار تنقلون من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أو إلى النار.»

فصل

واعلم يا أخي بأن الجنة إنما هي عالم الأرواح، وكله صورة روحانية لا هيولى جرمانية، بل حياة محضة، وراحة ولذة، وسرور وغبطة، لا يعرض لها الكون والفساد، ولا التغيير والبلى؛ لأنها هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف حالهم؟! فإنه يقصر الوصف عنهم إلا بالاختصار كما ذكر الله - تعالى - في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال: @QUR09 فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.

واعلم يا أخي أن النار وجهنم هي عالم الأجسام التي تحت فلك القمر الذي هو دائم في الكون والفساد والتغيير والاستحالة والبلى، وأن أهلها @QUR08 كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، فازهد يا أخي في غرور هذه الدار كما زهد أنبياء الله - عز وجل - وأولياؤه والفلاسفة الحكماء، فقد علمت أنها ليست بدار المقام، فاستعد للرحلة والانتقال باختيار منك لا مكرها ولا مجبرا قبل فناء العمر وتقارب الأجل.

واعلم أنه لا يستوي لك هذا إلا بعد أن تعرف فضل الآخرة على الدنيا معرفة صحيحة بلا شك ولا تقليد؛ لأن جبلة الإنسان أن لا يزهد في الحاضر العاجل ولا يرغب في الغائب الآجل إلا بعد معرفة فضل الآجل الغائب على العاجل الحاضر.

Page inconnue