ولي القضاء بمصر في جمادى الآخرة، وقيل في شعبان سنة خمس وأربعمائة وهو الصحيح. وكان ذلك في يوم السبت لعشرين منه، بعد قتل مالك بن سعيد الفارقي القاضي بشهرين أو ثلاثة، فإن قتله كان في ربيع الآخر، وبقيت مصر بغير قاض هذه المدة. وكان يتوسط فيها بين الناس أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، وأبو منصور المحتسب. وكان من يتطلع إلى القضاء جماعة، لكنهم في فَزَع مِمَّا جرى منهم ليعقوب بن إسحاق، وسليمان بن رستم، وسليمان بن النعمان، وأخوه القاسم، ومن يجري مجراهم. وصاروا يلازمون موكب الحكام بخلاف أبي العباس المذكور،
فإنه لزم داره. وكان ينظر في الفروض في أيام مالك بن سعيد ويُشهد، ولكنه لم يسأل الحاكم قط أن يكون في جملة من يدخله عليه، ولا أن يتعرف به.
وكان قد قدم مصر رجل مكفوف يقال له أبو الفضل جعفر، من أهل العلم بالنحو واللغة والغريب، قدم على الحاكم، فأعجب به وخلع عليه وأقطعه إقطاعًا، ولقبه عالم العلماء، وجعله يجلس في دار العلم التي أنشأها لتدريس اللغة والنحو، فخلا به الحاكم فجعل يسأله عن الناس واحدًا واحدًا، من يصلح منهم للقضاء. وكان الحاكم عارفًا بهم. وإنما أراد أن ينظر مبلغ علمه. فلم يزل يذكر حتى وقع الاختيار على أبي العباس، فقيل للحاكم ليس هو على مذهبك، ولا على مذهب من سلف من آبائك. فقال: هو ثقة مأمون مصري، عارف بالقضاء وبأهل البلد، وما في المصريين من يصلح لهذا الأمر غيره.
ولم يزل أبو الفضل حتى أحكم له الأمر مع الحاكم. فأمر بكتب سجله، وشطر عليه فيه أنه إذا جلس في مجلس الحكم، يكون مع أربعة من فقهاء الحاكم، لئلا يقع الحكم بغير ما يذهب إليه الخليفة.
فقرئ عهده بذلك، ووصف فيه أجمل صفة، وزكى فيه أحسن تزكية، وخلع عليه وحمل على مركب حسن.
وكانت الخلِعة غلالة وقميص دَبِيقِيّ مُعلَم مذهب، وثوب مُصْمَت وعمامة شَرْب كبيرة مذهَّبة وطيلسان مذهَّب. وقرأ سجله بالقصر وهو قائم على رجليه، بحضرة شيوخ الدولة. وكان مركبه بغلة مسرجة بلِجام فِضِّي مذهب،
1 / 72