فلو خويت القلوب من هاتين العقيدتين، لسكنتها شياطين الرذائل، وسدت عليها طرق الفضائل، ومن أين لمنكر الجزاء أن يكف نفسه عن خيانة، أو يترفع بها عن كذب، وغدر، وتملق، ونفاق؟!
وقد تقرر: أن العلة الغائية لأعمال الإنسان، إنما هي نفسه - كما سبق - فإن لم يؤمن بثواب وعقاب، وحساب وعتاب، في يوم بعد يومه، فما الذي يمنعه عن ذمائم الفعال ، خصوصا إذا تمكن من إخفاء عمله، وأمن من سوء عاقبته في الدنيا، أو رأى منفعته الحاضرة في ركوب طريق الرذيلة، والعدول عن سنن الفضيلة، وأي حامل يحمله على المعاونة والمرادفة، والمرحمة والمروءة، وعلو الهمة، وما يشبه ذلك من الأخلاق التي لا غنى للهيئة الاجتماعية عنها؟!
ولئن وجد في أحد الجاحدين شيء من مكارم الأخلاق بمقتضى الغريزة لكان عرضه للفساد، أو كان أبتر ناقصا، لفقد ما يمده من سائر صفات الكمال.
وقد تبين: أن أول تعاليم النيتشريين «الدهريين» إبطال هذين الاعتقادين: الاعتقاد بالله، والاعتقاد بالحياة الأبدية، وهما أساس كل دين، وآخر تعاليمهم الإباحة والاشتراك، فهؤلاء القوم هم الساعون في نسف بناء الإنسانية، وتذريته في ذيول السافيات (¬1) ، يطلبون ضعضعة أركان المدنية، وفساد الأخلاق البشرية، ويقوضون بذلك ما رفعه العلم، وشادته المعرفة، فيهلكون الأمم بإطفاء حرارة الغيرة، وإخماد ريح الحمية.
هؤلاء جراثيم اللؤم والخيانة، وأرومات الرذالة والدناءة، وأحلاس (¬2) الخسة والنذالة، وأعلام الكذب والافتراء، ودعاة الحيوانية العجماء، محبتهم كيد، وصحبتهم صيد، وتوددهم مكر، ومواصلتهم غدر، وصداقتهم خيانة، ودعواهم للإنسانية حبالة (¬3) ، ودعوتهم للعلوم شرك ومكيدة.
يخونون الأمانة، ولا يحفظون السر، ويبيعون ألصق الناس بهم، بأدنى مشتهياتهم.
عبيد البطون، وأسراء الشهوات، لا يستنكفون من الدنية، إذا أعقبتها عطية، ولا يخجلون من الفضيحة، اذا تبعتها رضيخة (¬4) ، لا علم عندهم بالوقار، ولا إحساس لهم بالعار، ولم يبلغهم عن شرف النفس خبر مخبر، ولا وصل إليهم عن الهمة عبارة معبر، أو تفسير مفسر، الابن فيهم لا يأمن أباه، والبنت لا أمان لها من كليهما.
Page 6