فإذن لا يليق بذي عقل أن يجعل شرف النفس ميزانا للعدل، ولا مكان للظن بأن هذه الصفة تقف بكل عند حده، وترضيه بحقه، وتكف النفوس عن غصب الحقوق، وتدفعها عن الجور، وتمنعها عن الحيف ما ظهر منه وما بطن.
فإن قال قائل: إن حب المحمدة مما أشربته قلوب البشر، وهو باعث على الاستمساك بشرف النفس لما يستعقبه من حسن الحمد، فكل ذي فطرة إنسانية يسعى لكسب المحمدة، لابد له أن يطلب الغاية من خلة الشرف النفسي، وينزه نفسه عن جميع الرذائل، ويرفعها عن معاطاة الدنايا والخسائس، ويبتعد بها عن مخالج الحيف والعدوان، فنقول في جوابه:
أولا: إذا تعارض موجب المدح والثناء، ومقتضى الشهوات البدنية، فقليل من الناس من يختار الأول على الثاني، والجمهور الأغلب مغلوب للشهوة، مأسور للذة، والنظر في طبقات الناس وأحوالهم على اختلافهم يثبت لنا ذلك.
ثانيا: أن صاغة المدائح، ونساج المحامد، صنف من الناس أشباه إنسان، وأسناخ حيوان، أولئك المعروفون بالمؤرخين والشعراء الكاذبين، ولا باعث لهؤلاء على نثر المحامد ونظم القصائد، إلا نضارة الثروة في الممدوحين، ورونق الجاه والجلالة في المحمودين؛ من غير نظر إلى مناشئى الجاه، ولا موارد الثروة.
فمناط الحد إحدى البسطتين، وإن حفت بالمظالم، وأحيطت باللوائم، ولهذا تنبعث نفوس كثير من الناس للوصول إلى هذه المظاهر، فيطلبون الغنى والثروة والجاه والعظمة، ولو كان ذلك من وجوه الغدر، وطرق الحيف والظلم؛ لينالوا بذلك حظهم من اللذائذ البدنية، كما يصيبون سهمهم من المدائح على ألسنة أولئك المدلسين، وليس بكثير في الناس طلاب المحمدة الحقة، اللاقطون لدرر المدائح من باحات الفضائل، وساحات المكارم، المرتادون للحمد بين حدود الحق، وأولئك الحافظون لشرف النفس، وقليل ما هم.
فلم تبق ريبة في قصور هذه الخلة - أعني شرف النفس - عن الكفاية في تعديل الأخلاق، وتحديد الشهوات، وحجب العدوان، وحفظ النظام الإنساني، اللهم إلا أن تكون مستندة إلى عقيدة في دين، وتكون حقيقتها محدودة في ذلك الدين، فعند ذلك تكون دعامة لبناء الشركة الإنسانية، ومعقدا لروابط الألفة، وسببا لانتظام سلسلة المعاملات؛ لاستنادها على الدين، لا بنفسها مجردة، كما مرت الإشارة إليه في صفة الحياء.
Page 4