وإن لنا عبرة في أغلب السلاطين والأمراء، فإنهم مع أخذهم بمذاهب الشرف، لا يبالون بنقض العهود، وخفر الذمم (¬1) ، خصوصا مع من دونهم في السلطان، ومن لا يضارعهم في القوة، ولا يأنفون الظلم، ولا ينكرون الغدر، ولا يتجافون مذمة من تلك المذام، ولا يعدون شيئا منها خسة، ولا يحسبونه من غاشيات الدناءة، مع أن واحدا من هذه الفعال، لو صدر من آحاد الرعية - بعضهم مع بعض - لعد من دنيات الفعال، ورمي فاعله بخسة النفس وسقوطها عن مراتب الشرف.
ومن هذا الوجه كان الخلل يعرض لنظام المعيشة؛ حيث إن سائر الطبقات لا ينظرون إلى ما يصدر عن أمرائهم ورؤسائهم نظرهم إلى ما يصدر عن آحادهم، فهم يذهبون مذهب التأويل في أعمال الرؤساء والكبراء.
وهكذا حال الطبقات العالية بالنسبة لما دونها - طبقة بعد طبقة - أي إن كل طبقة عالية تزعم نفسها مصونة من المثالب، محفوظة من الشنائع، ومنزلتها ممن دونها تحمل الأدنين على الإقرار لها بما تزعم.
فلو كان قوام النظام في العالم الإنساني بشرف النفس، لانطلقت أيدي العدوان من الطبقات الرفيعة فيما دونها، وتفتحت أبواب الشر والفساد في وجه هذا النوع الضعيف
هذا كله إذا فرضنا وقوف كل طالب لشرف النفس عند ما يظنه شرفا، لا يخالفه إلى سواه؛ لا خفية، ولا جهرة، لكن حيث كان الباعث على التجمل بهذا الوصف إنما هو الرغبة في تحسين المعيشة، والفرار من مضانكها (¬2) ، فقلما يستوي ظاهر الإنسان وباطنه في هذه الصفة، فهو في معلنات أموره يسلك سبل الشرف؛ لينال حظه من ميل القلوب إليه، ثم لا يمنعه ذلك من غشيان الخيانة الخفية، وغمس يده في قذر العدوان من وراء حجاب التستر، وبسط كفه لتناول الرشوة في زوايا المحاكم؛ لأن طالب خفض العيش يعرف أن هذه الخبائث الخفية، تصل به إلى مقصده من السعة على أمن من الاشتهار بصفة الدناءة، وذلك معروف من أحوال المذاعين الظاهرين في ثياب الشرف والعفة، والله أعلم ماذا يسترون تحت ذيولهم، وما يضمرون دون جيوبهم، وما يختزنون من الأموال في زوايا بيوتهم.
Page 3