ألا ترى أن كثيرا من الأمور، يعد ارتكابه عند بعض الأمم خسة ودناءة، وهو بعينه عند بعض آخر شرف ورفعة يستتبع المدح والثناء، على أنه في الحقيقة شر الشرور وأعظم الفجور.
تبين ذلك من حال سكان البادية وأهل الجبال من القبائل المتبدية، فإنهم يعدون الغارة والفتك بالأرواح، وانتهاب الأموال، واسترقاق الأحرار من فعال المجد، وبلوغ الغاية منها بلوغ إلى نهاية الشرف، وهذه الفعال بعينها، يعدها سكان المدن وأهل الحضارة، من لواحق الدناءة، وعلائم خسة النفس، وكذلك الحيلة والمكر يحسبهما قوم خسة وخبثا، ويحسبهما آخرون حكمة وعقلا.
* * *
وإذا أمعنت النظر في المسألة، وجدت أن لكل كائن في عالم الإمكان علة غائية، والعلة الغائية لأعمال الإنسان إنما هي نفسه، فهو لا يطلب شرف النفس، ولا يسعى للتجمل به، إلا لطمعه في توفير رزقه، وتوسيع سبل معيشته، وخوفه من ضيق مسالك العيش عليه، فإنه يعلم أن شرف النفس يرد إلى صاحبه شوارد القلوب، ويجعله مكان ثقتها، ويظهره في بهاء الصدق والأمانة، فيعظم الركون إليه، وتكثر أعوانه، وفي ذلك توفر أسباب المعيشة، واتساع طرقها.
بخلاف من تلتاث نفسه بالخسة، فذلك مقذوف القلوب، منبوذ الطباع، لا ينبسط إليه النظر، ولا يحوم عليه الخاطر، فهو قليل الأعوان، عديم الإخوان، ومن كان هذا حاله، سدت عليه أبواب الرزق واكتنفته غائلات الفاقة، فيكون ميل الإنسان إلى شرف النفس، ودرجته من القوة والضعف، وتمكنه من نفسه، وعدم تمكنه، ومراتب أثره في كبح الشهوات وردها عند تخوم العدالة، إنما هو على حسب أحوال الطبقات في معائشهم؛ بمعنى أن كل طبقة من الناس تطلب من تلك الصفة ما ينفعها في معيشتها، ويحفظها من طارقة السوء، بل لا ترى كل طبقة أن شيئا يعد من الشرف، إلا تلك الصفة التي تحفظ بها المنزلة، وتصان بها مواد المعيشة، وما زاد على ذلك فلا يعد فقدانه نقصا، ولا الخلو عنه انحطاطا، فلا تسعى لاستحصاله، وإن عده قوم آخرون من جوهر الشرف، ومن مقومات الكمال.
Page 2