وعاد خمارويه من حيث أتى، وسأله محمد بن أبي الساج أن يوليه الجزيرة والموصل، يحكمهما باسمه ويدعو له، ودفع إليه ولده «ديوداد» يصحبه إلى مصر، رهينة على الولاء. •••
كتب الخليفة عهد الصلح لخمارويه، ثم أوى إلى قصره راضي النفس، موفور الهناءة، كأن لم يكن به ولا بالدولة شيء، فما خلا بنفسه حتى دعا بالشراب والندمان، وجلس غير بعيد منه مغنيه «أبو حشيشة» وقد اقترح عليه صوتا يغنيه:
قلبي يحبك يا منى
قلبي ويبغض من يحبك
لأكون فردا في هوا
ك فليت شعري كيف قلبك؟
فما انتهى المغني من صوته حتى خلع الخليفة وقاره، وقد نال منه الشراب واستخفه الطرب، فرمى قلنسوته ودار في الغرفة يرقص، ولم يزل يدور ويدور حتى سقط من الإعياء بين أيدي غلمانه، فحملوه إلى قصر الحرم، لا يحس ولا يعي.
ذلك كان شأن الخليفة في قصره ذلك اليوم، وقد كان ذلك شأنه في كل يوم، وفي الساعة نفسها كان في قصر آخر غير بعيد من قصر الخليفة اثنان يعنيهما من أمر الخليفة وأمر الدولة ما لا يعنيه جالسين وجها لوجه، قد خلا لهما المكان وازدحمت في رأسيهما الخواطر، ولكنهما مما جثم على صدريهما من الهم قد آثرا الصمت، فلا حس ولا حركة ولا بنت شفة، ولا شيء غير النظرات يتبادلانها في وجوم وأسى، ذانك هما الأميران أبو أحمد الموفق ولي عهد الخلافة، وولده أبو العباس ...
ومضت فترة قبل أن يقول الأمير الشاب لأبيه: «يا أبه ... افسح لي صدرك! ... لست أنكر عليك ما تفعل، ولكني أريد أن أعرف وجهه ... وقد صنعت اليوم شيئا ... أفرأيتك وقد أعطيت خمارويه عهد الصلح، قد أعطيته شيئا تملكه به أو يملكك؟ ... وهل هو إلا ثائر قد خرج على مولاه، فليس له إلا السيف أو يثوب
27
Page inconnue