تعريف
1 - أحمد بن طولون
2 - خمارويه ابن طولون
3 - عروس من القاهرة
خلفاء الدولة العباسية
أعلام تاريخية
تعريف
1 - أحمد بن طولون
2 - خمارويه ابن طولون
3 - عروس من القاهرة
Page inconnue
خلفاء الدولة العباسية
أعلام تاريخية
قطر الندى
قطر الندى
تأليف
محمد سعيد العريان
تعريف
قطر الندى ...
فتاة من مصر، نشأت على أرض هذا البلد منذ أحد عشر قرنا، وكان لها في هذا البلد تاريخ، وكان لهذا البلد من تاريخها تاريخ ...
كان جدها وأبوها وأخوها ملوكا في مصر، وليس لهم نسب في مصر، ككل الملوك الذين توارثوا منذ ذلك التاريخ عرش مصر، وكانت هي ملكة على عرش بغداد، وليس لها نسب ولا عزوة في بغداد، كأكثر ملكات بغداد في ذلك التاريخ! ...
Page inconnue
ولم تكن مصر وبغداد يومذاك دولتين تفصل بينهما الحدود السياسية، كما نرى في هذا الزمان، بل كانا بلدين كبيرين في دولة كبيرة تنتظمهما وتنتظم معهما بلادا أخرى، وتمتد حدودها بهما وبغيرهما امتدادا كبيرا من شاطئ الأطلسي إلى حدود الصين، وكانت بغداد عاصمة الحكم في هذه الدولة الكبيرة، وكانت مصر درة عقدها ...
هذه الدولة الكبيرة، التي كانت تنتظم مصر وبغداد وغيرهما في ذلك الزمان البعيد، هي الدولة الإسلامية الكبرى التي يسميها المؤرخون القدماء: «الدولة العباسية»؛ لأنهم يسمون الدول منسوبة إلى ملوكها، أو خلفائها، وكان خلفاء هذه الدولة من بني العباس بن عبد المطلب بن هاشم ...
على أن مصر - وهي جزء من تلك الدولة الكبيرة - كانت متميزة بطابعها الخاص عن سائر بلاد الدولة، فلم تنمح شخصيتها، ولم تزل عنها صفاتها الأصلية، وظل لها كيانها، واستقلالها، وتأثيرها البعيد المدى فيما حولها، وما بعد عنها من بلاد الدولة ...
وكان يحكم مصر - منذ صارت جزءا من الدولة الإسلامية - أمير من قبل الخليفة يسمى الوالي، يعزله الخليفة متى شاء ويولي غيره، أو يبقيه حتى يموت، وكان بجانب كل أمير يوليه الخليفة جاب للخراج، وموظف للمخابرات يسمى «صاحب البريد»، وكلاهما يتبع الخليفة في العاصمة، فليس للأمير عليهما سلطان ...
وقد ظل الأمراء يتعاقبون على حكم مصر قرنين ونصف قرن منذ فتحها «عمرو بن العاص» إلى أن وليها «أحمد بن طولون» ...
وفي عهد أحمد بن طولون بدأت مصر تاريخا جديدا، وبدأت حوادث هذه القصة ...
أما هذا التاريخ الجديد، فهو استقلال مصر عن الدولة الإسلامية ...
وأما هذه القصة فهي قصة «قطر الندى» بنت خمارويه بن أحمد بن طولون ...
في ذلك التاريخ صارت مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وذات جيش وراية، وذات مال وجاه وسلطة ...
وفي تلك القصة كانت العوامل السياسية، والعوامل الاقتصادية، والعوامل الإنسانية التي مهدت لذلك الاستقلال وأعانت عليه ثم تطورت به فقضت عليه ...
Page inconnue
حقبة من التاريخ تصور أول كفاح مصر الإسلامية في سبيل الاستقلال.
وقصة من الحياة تصف أثر المال وأثر المرأة في بعض أحداث التاريخ ...
وصورة من حياة الدولة الإسلامية الكبرى في مداها الواسع منذ ألف ومائة سنة، تنتظم صورا من آفاق شتى وبيئات شتى في المجتمع الإسلامي الكبير الذي كان يضم في يوم ما مئات الملايين من شعوب الهند والسند والصين والتركستان والعجم والشركس والبلغار والروم والزنج والبربر والقوط، في الرقعة الفسيحة من الأرض الممتدة من جبال البرانس في أوروبا إلى ما وراء سور الصين العظيم في الشرق الأقصى ...
حقبة من التاريخ ...
وقصة من الحياة ...
وصورة من المجتمع الإسلامي في الماضي البعيد ...
ولون من ألوان الكفاح في سبيل الاستقلال ...
وألوان من المقاومة لهذا الكفاح ...
تصورها كلها قصة قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون.
فهي قصة فتاة، وقصة أمة.
Page inconnue
إن مصر والعرب والمسلمين جميعا، إذ يذكرون اليوم ذلك الماضي، ليدركون حقائق كثيرة غابت عن أسلافهم، فيعرفون، وقد آن أوان المعرفة، كيف تحيا بعض الدول، وكيف تنحل عروتها فتموت؟!
درس من الماضي نتعلمه اليوم؛ لنحيا ونعيش أبدا.
فنحن شعب خليق بأن يحيا ويعيش أبدا ... لخيره ولخير الإنسانية.
محمد سعيد العريان
الفصل الأول
أحمد بن طولون
1
لم يكن عربي الدم، وإن حسبه كذلك كل من رآه أو استمع إليه، فقد كان له لسان وبيان، وكان فيه أريحية ونخوة، وحفاظ على العهد، وتحرج في الدين، وعصبية للعرب.
وكان أبوه «طولون» من عمال السلطان لعهد الخليفة المتوكل، فلما مات أبوه فوض إليه الخليفة ما كان بيد أبيه من أعمال السلطان، وقد كان أمر الدولة كله يومئذ إلى الموالي
1
Page inconnue
من الترك والعجم، ولم يكونوا جميعا من الترك أو من العجم، وإنما كذلك كان يصفهم أهل «سامرا»
2
لذلك العهد، وبرغم أن «أحمد بن طولون» كان واحدا من هؤلاء الموالي، فقد كان شديد الازدراء عليهم
3
يستصغر عقولهم وآدابهم، ويذكر أنهم قد تسنموا من المراتب ما لا يستحقون.
على أن أحمد بن طولون إن لم يكن عربيا فقد كانت البداوة طبعا تحدر إليه من أسلافه الأولين، أهل «طغزغز»، وهم قوم يسكنون أرضا واسعة على حدود الصين، يعيشون بها في خيام من الشعر أو من الأدم
4
كما يعيش أعراب البادية، فإذا لم يكن أحمد بن طولون عربي النسب، فقد كان عربي الفطرة والدين.
وقتل المتوكل على سريره بأيدي مواليه من الترك والعجم، وتولى بعده ولده المنتصر، فلم يستتم على سريره بضعة أشهر ثم هلك، وبويع بالخلافة من بعده ابن عمه المستعين ...
وبلغ الموالي مبلغهم من الطغيان والعسف، واجتمعت لهم أسباب السلطة، حتى لا يكاد الخليفة يملك معهم مخرجا ولا مدخلا، ولزم قصره في بغداد يتربص بنفسه كيد الموالي، ويتربصون به!
Page inconnue
وضاقت نفس أحمد مما يشهد من غدر الترك وسوء أثرهم في الدولة، فآثر الاعتكاف والوحدة، وإنه يومئذ لشاب في الثلاثين، تبسم لمثله الآمال، وتتفتح لعينيه زهرة الدنيا.
وقال لصاحبه: «إلى كم نقيم يا أخي على هذا الإثم مع هؤلاء الموالي، لا يطئون موطئا إلا كتب علينا الخطأ والإثم؟ ... والصواب أن نتركهم وما اجتمعوا عليه من الضلال والغواية، ونسأل الوزير أن يكتب بأرزاقنا إلى الثغر
5
نقيم به في ثواب دائم وجهاد متصل!»
قال صاحبه، وعلى شفتيه ابتسامة العتب والدهشة: «كأنك يا أحمد قد أيست من التصرف في شيء من أعمال السلطان، وإن كنت لأرجو لك، وإنك لأهل للولاية!»
قال ابن طولون: «خل عنك يا أخي حديث السلطان والولاية، إن أمر الدولة يكاد يبلغ آخره من سوء ما يصنع هؤلاء الترك والعجم، وإن أمر الخليفة ليوشك معهم أن ينتهي إلى مثل ما انتهى إليه أمر عمه المتوكل
6
وماذا بعد ذلك إلا انهيار الدولة، فإن رأيت فإننا نخرج إلى طرسوس
7
غازيين مجاهدين في سبيل الله، حتى تنجلي هذه الغمرة، أو يكون أمر من الأمر!» •••
Page inconnue
وأنست نفس أحمد بن طولون في طرسوس وزال استيحاشه، واشتهرت له وقائع في جهاد العدو تناقلها الركبان في الفلوات، حتى بلغت سامرا حاضرة الخلافة، فذاع صيته وأكبر الناس همته وعزمه.
وعاد من طرسوس وله ذكر ومكانة، ودارت الأيام دورتها، وإذا الخليفة المستعين مخلوع قد خلعه الموالي وأقاموا على العرش ابن عمه المعتز، ونفي المستعين إلى واسط
8
ودعي أحمد بن طولون إلى صحبته؛ ليكون عينا
9
عليه وحارسا له، وعرف ابن طولون للخليفة المخلوع قدره فأحسن عشرته وآنس وحدته، ووفاه حقه من التجلة والكرامة، وترك له أن يغدو ويروح حيث شاء!
وأراد الموالي أن يخلص لهم الأمر فأجمعوا على قتل المستعين حتى لا تنازعه نفسه إلى العرش.
وكتبت أم المعتز إلى أحمد بن طولون بواسط: «إذا قرأت كتابي فجئني برأس المستعين، وقد قلدتك
10
واسط.»
Page inconnue
وقال ابن طولون لنفسه وقد جاءه الكتاب: «بئست الإمارة تقلدنيها امرأة ثمنا لمقتل خليفة له في عنقي بيعة.»
وتمرد على الأمر وتأبى على الإمارة.
وتسامع الناس في سامرا وبغداد بما كان من أمره ذاك في واسط، وبما كان من أمره قبل ذلك في طرسوس، فأكبروا خلقه ودينه، وبلغ محلا من نفس الترك والعرب جميعا ...
2
وكانت مصر يومئذ أثمن درة في تاج الخليفة، يباهي منها بما يملك لا بما يحكم، فليس يعنيه من أمرها إلا مقدار ما يؤدى إليه من خراجها،
11
وما يهدى إليه من طرائفها، وكذلك كان اعتبارها في أعين من يتقلدها من الولاة، فهي عندهم ضيعة للاستغلال، لا شعب يقتضي حسن الرعية، فليس همهم منها إلا ما يجمعون من مال الخراج، يؤدون منه ما يؤدون إلى الخليفة، ويتبقى لهم بعد ذلك من فضل الغلة ما يحقق لهم الغنى والجاه والسيادة، ومنهم من لا يعنيه من ولاية مصر إلا لقب الإمارة ... فكان الوالي إذا قلده الخليفة مصر يلتمس نائبا أمينا يكفيه أمرها ويحمل إليه من ثمرتها، ويظل حيث هو في الحضرة
12 (سامرا)، يباهي بإمارته ويدل بجاهه، وأمر مصر كله إلى نائبه هناك ...
على أن المصريين يومئذ لم يكونوا من ضعف الهمة، بحيث يرضون لأنفسهم هذه المكانة، فلم يكن الأمر ليستقيم طويلا لواحد من أولئك الولاة في مصر، وكانت ثورات المصريين على ولاتهم لا تكاد تهدأ، على أن هذه الثورات المتتابعة لم تكن من القوة بحيث تستطيع إحداث تاريخ جديد، ولكنها مع ذلك كانت إرهاصا
13
Page inconnue
لأمر قد أظل أوانه
14 ...
في هذه الفترة من تاريخ مصر كان باكباك التركي هو السيد الآمر في قصر الخليفة المعتز، وكان إليه الأمر كله، ولكنه يطمع في مزيد من الجاه، فسأل الخليفة أن يشرفه بولاية مصر، فولاه فراح يلتمس النائب الأمين الذي يخلفه على تلك الضيعة.
وكان ابن طولون قد بلغ تلك المنزلة فأنابه باكباك ... •••
صاح المؤذن، وقد اختفى حاجب الشمس وراء الأفق الغربي: «الله أكبر ...» فابتدر الأمير وجلساؤه إلى قصعة فيها تمر رطب، ثم دارت عليهم أقداح الحليب فشربوا ورووا، ومسح الأمير فمه وتلا في صوت خشعت له الجماعة: «الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله!» ثم دعا: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت، وعليك توكلت ... اللهم فاجعلني في المقبولين من عبادك، ووفقني في أمر هذا البلد لرضاك، وأحسن رعيتي في خلقك، فإنه لا إحسان إلا ما أحسنت، ولا هداية إلا ما وفقت، يا أحكم الحاكمين!»
وأمن جلساء الأمير على دعائه.
15
ثم انتدب من بينهم فقيه أهل مصر ومحدثهم أبو عبد الله محمد بن عبد الحكم المصري،
16
فقال: «بلغك الله سؤلك أيها الأمير وأنعم بك، إن هذه أمانة من أمانة الله في عنقك، وقد وليها قبلك أمراء، منهم البر والفاجر، والأمين والغادر، أما البر والأمين منهم، فكان للخليفة بره وأمانته، ليس للأمة من ذلك نصيب، وأما فجور الفاجر وغدر الغادر، فكان للأمة من كليهما نصيبها، وللسلطان نصيبه، فعلى الأمة المغرم في الحالين، وإنما نحن وفد هذه الأمة إليك، وقد سبقتك إليها أنباؤك، فاستبشر عامتها وخاصتها بمقدمك، وإنها لترجو على يديك الخلاص من فساد الحكم، وجور الملتزم
Page inconnue
17
وطماعية عمال السلطان، فإن فعلت فقد قرت الأمة بك عينا، وإلا فالله وليها
18
فيما تأمل، وحسب المؤمن ربه.»
قال الأمير: «نفعل إن شاء الله يا أبا عبد الله، وإن لي عليك شرطا ليتهيأ لي تحقيق ما التزمته: أن تكون أنت ومن معك عينا علي وعونا لي، فأيما عمل رأيت أو رأى أصحابك فيه حيادا عن الجادة
19
فاكشف لي عنه، فإن ذلك حقيق بأن يبصرني موضع خطاي إذا ضللت سواء السبيل.»
وبايعه الجلساء على ذلك، ثم نهضوا جماعة لصلاة المغرب قبل أن يجلسوا إلى مائدة الأمير يستتمون فطور الصائم.
ومدت الموائد للعامة في قصر الأمير وعلى جنباته، ونادى منادي الأمير في الطاعمين: «كل من أفطر على مائدة الأمير الليلة، فله على الأمير حق أن يحضر مائدته في كل ليلة، وله حق عياله وشمله
20
Page inconnue
فيما بقي من الطعام، يحمل منه إلى داره ما يشاء.»
وأقبل الناس على طعامهم راضين هانئين، ثم صدروا عن دار الأمير في يد كل منهم سفرة لعياله، وبينه وبين الأمير ميعاد على مائدته.
وصار ذلك شأن الأمير كل يوم في رمضان، ثم كل يوم بعد رمضان.
ومثل بين يديه صاحب صدقاته، فقال: «يا مولاي، لقد بلغت نفقات مطبخ الأمير في اليوم ألف دينار، وبلغ ما دفعناه إلى المعوزين من مال الصدقة ألفين في ساعات من النهار!»
قال الأمير: «لا عليك من ذلك، إنما هو مال الله، استودعنا إياه لأهل عارفته،
21
فلا تقبض يدك عن البر بأحد.»
قال: «أيد الله الأمير، فإنا نقف حيث جرت العادة بتوزيع الصدقة، فربما امتدت إلينا الكف المخضوبة، والمعصم فيه السوار والكم الناعم، أفنمنعها أم نعطيها؟»
قال الأمير: «ويحك! هؤلاء المستورون الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، احذر أن ترد يدا امتدت إليك.»
وذاعت في العامة أخبار الأمير أحمد بن طولون، وتحدث الناس بألطافه وبره وعفته وتقواه، وروى راويهم ما عرفه عنه في طرسوس، وأخبر مخبرهم بما سمع عنه في سامرا، وقال قائلهم: نعم الأمير أبو العباس! وقال السامع: يا ليتها دولة تدوم.
Page inconnue
وعاد الصدى إلى أحمد بن طولون بما يتحدث به الناس عنه، فاعتقده بيعة له بالإمارة على مصر لا ينقضها السلطان، وأجمع أمره على أمر ...
3
وسارت الحوادث متتابعة في سامرا، فقتل الخليفة المعتز وبويع المهتدي بالخلافة، ثم قتل باكباك، وآلت إمرة مصر من بعده إلى يارجوخ التركي صهر ابن طولون، فأقره على ما في يده وبسط له الرقعة،
22
فامتدت ولايته إلى الإسكندرية والصعيد وبرقة
23 ...
واستمرت الحوادث تتتابع في الدولة، فقتل المهتدي، كما قتل المعتز من قبله؛ وتعاقب الخلفاء على عرش الدولة العباسية يقتل بعضهم بعضا، أو يقتل الأتراك بعضهم بأيدي بعض، وابن طولون في مصر يدبر ما يدبر لأمره، فلم تمض إلا سنوات حتى كان له في مصر عرش وسلطان ...
وكان على الخراج في مصر عامل
24
من قبل الخليفة «المعتمد» لا يؤتى من قريب،
Page inconnue
25
قد اجتمع له من موارد مصر ما لم يجتمع لأمير قط، وإنه ليفتن كل يوم فنونا في تحصيل المال، حتى لقد فرض ضرائب على الكلأ المباح،
26
ومصايد البحر، وصخور البرية!
وكان على البريد كذلك عامل
27
من عمال الخليفة لا سلطان عليه لابن طولون، فلعله يرفع من أخبار مصر إلى الخليفة في بغداد ما لا يعلمه الأمير في مصر ...
فماذا بقي لابن طولون من موارد مصر، وعلى الخراج عامل الخليفة؟ وكيف يأمن الغرة
28
وعامل البريد مطوي على سره؟
Page inconnue
وراح ابن طولون يدبر لأمره ثانية ما يدبر ...
ومثل بين يديه وفد من أهل مصر، يشكون إليه سوء ما يلقون من عامل الخراج، ورآها الأمير فرصة سانحة لما يرجوه من أمر، وتدانى إليه الأمل فقال وفي صوته رقة: «وددت لو كان الأمر إلي، إذن لأبطلت عنكم كثيرا مما تحملون من المغارم.»
قال محمد بن هلال المصري، وكان رجلا له فيهم خطر ومكانة: «فإن الأمر إليك يا مولاي، لو شئت لكان، وإنما أنت الراعي ونحن الرعية، فأين منا من نفزع إليه
29
غيرك؟»
ولمعت عينا أحمد بن طولون، واسترعاه حديث ابن هلال،
30
فبسط له وجهه وأدناه، وقال في صوت خافت كأنما يتحدث به إلى نفسه، وإن حديثه ليبلغ آذان الوفد جميعا: «نعم، كيف يلي رجل من سامرا خراج مصر؟
31
هلا كان ذلك إلى مصري يعرف من حال قومه وحاجتهم، ما لا يطلع عليه الغريب.»
Page inconnue
وانبسطت نفس ابن هلال، وبدت أمارات الرضا في وجوه الوفد، فغمغم القوم شاكرين، وقد جاش في نفوسهم أمل، وانصرفوا وهم يدبرون أمرا، والأمير يدبر أمرا ... وأجنت
32
الأرض الخصبة بذرة إلى حصاد ...
وخلا مجلس الأمير إلا من كاتبيه: أبي عبد الله الواسطي، وأبي يوسف يعقوب بن إسحاق، وكان على شفتي الأمير كلام حين ابتدره الواسطى قائلا وما يزال في أذنيه صدى من حديث الوفد: «لله أنت يا مولاي! مكن الله لك وبسط ظلك.»
قال ابن طولون: «الحمد لله كثيرا، تركنا لله عز وجل شيئا
33
فعوضنا منه أشياء أعظم وأجود وأحمد عاقبة: كانت نهاية ما وعدنا به على قتل المستعين بالله تقليد واسط، فخفنا الله عز وجل في قتله فلم نقتله، فعوضنا الله عز وجل اسمه مصر وغيرها.»
قال أبو يوسف: «وإني لأرجو يا مولاي أن يمكن الله لك، فيمتد ملكك من حدود المغرب إلى أكناف العراق.»
قال الأمير: «صه، لقد أسرفت يا يعقوب فيما تأمل، إن في أعناقنا لأمير المؤمنين بيعة لا ينقضها إلا الموت.»
4
Page inconnue
وعلا نجم ابن طولون وذاع صيته، فإن حديثه ليدور على كل لسان في مصر وفي سامرا، أما المصريون فقد رضوا مذهبه وحمدوا سيرته، وقد اتخذ ابن طولون من أعيانهم بطانة
34
يتألف بها من يليهم
35
من الأتباع، فيهم وجيه قومه محمد بن هلال، وفقيه الجماعة محمد بن عبد الحكم، وكبير التجار معمر الجوهري، وراهب القبط أندونه، فكانوا سببا بينه وبين الشعب،
36
فراحت وفودهم تسعى إلى الخليفة المعتمد في سامرا، يشكرون عدله وحسن رعيته، ويطلبون تثبيته على عرش مصر.
كذلك كان أمر الشعب معه، أما أبناء الحكام وعمال الخليفة في المرافق الدنيا،
37
والطارئون على مصر من الشام وبغداد، وما يليها من بلاد الشرق، فقد رأوا في سيرته ما حملهم على اليقين بأنه قد يبيت النية
Page inconnue
38
على الاستقلال بمصر، فمنهم من غار ونفس عليه ما بلغ،
39
ومنهم من خاف مغبة ذلك
40
على مستقبل دولة الخلافة، فراحوا يسعون به إلى الخليفة، يزعمون أنه بسبيل التغلب على مصر والعصيان بها.
وعرف ابن طولون ما يدبر له فأعد عدته للدفاع، واتخذ جيشا فيه مائة ألف فارس وما لا يحصى من الرجالة، وعديد من سفن الغزو، وعتاد الحرب في البر والبحر، وأرضى طموح المصريين بما أنشأ من المصانع والدور والقصور، وزين حاضرته زينة يباهي بها حواضر الملوك، ووثق آصرته
41
بالشعب بما زاد من حبائه
42
Page inconnue
وبره، وجلس للعامة يستمع إلى مظالمهم، وراح يتفقد الأسواق، ويطوف على حماره بالليل وحيدا في الأزقة يستطلع طلع الناس، وما يكون من خبرهم إذا خلوا إلى أنفسهم وذوي خاصتهم ... واتخذ العيون
43
يرصدون على أعدائه حركاتهم في مصر وفي بغداد وسامرا، واصطنع له في دار الخلافة سفيرا يكتب إليه بكل ما يبلغه من أخبار السعاة،
44
ورصد الأموال العظيمة لاصطناع الأولياء من حاشية الخليفة ومن يلوذ به، وأحدث صهرا بينه وبين الخليفة المعتمد، واستخدم لأمره جماعة من الجوهرية وسراة التجار
45
في بغداد يبذلون عن أمره الأموال والهدايا لرجال الدولة، ليقيدوهم على طاعته والولاء له، تارة بالدين يوثقونهم به على الولاء، وتارات بالعوارف
46
والألطاف يبذلونها باسم الأمير لكل من يتوسمون فيه النفع، أو يدفعون به المضرة والمنافسة ... فخرست الألسنة، وتقاصرت الهمم، ولم تبق إلا قالة الخير على كل لسان.
وأخذ سلطان الدولة الطولونية يتسحب على ما يجاورها من بلاد الخلافة شيئا بعد شيء، فلم تمض إلا سنوات، حتى امتد ملك ابن طولون من حدود المغرب إلى أكناف العراق، كما رجاها أبو يوسف يعقوب بن إسحاق،
Page inconnue
47
واجتمع له الخراج والبريد والقضاء، وصار له شعار وراية واستقل، فما ثمة رباط يربطه بالدولة إلا ما يؤدي إليها من الخراج في كل عام .
5
استفحل الخطر على الدولة العباسية في بغداد، وأوشكت وحدتها أن تتفرق، وضغطتها الحوادث من الشرق ومن الغرب، أما في الشرق فقد بلغ علوي البصرة «صاحب الزنج»
48
من القوة ما بلغ حتى أوشك أن يصير إليه أمر المشرق كله، وأما في الغرب فكان أحمد بن طولون.
والخليفة المعتمد على الله في قصره من بغداد مشغول بالقصف
49
والغناء والشراب، لا يكاد يعنيه من أمر الدولة شيء، قد كفاه أخوه طلحة «الموفق» أمر صاحب الزنج بالبصرة، وبذل لحربه كل ما يملك من حول وحيلة، وجرد له كل ما تقدر عليه الدولة من جند وعتاد ... وكفاه أحمد بن طولون نفسه بما وثق من أمره عند الخليفة بالمال والصهر وتمويه الحديث.
50
Page inconnue