كان الباشا يعرف هذا جميعه عن سليمان، فهو ضيق به أشد الضيق، لا يفكر في فقره، فقد كان يعلم أن غنى ابنته كفيل أن يضمن لها ولزوجها حياة ميسورة، ولكن زوجها نفسه بما فيه من خلق، أو بما ليس فيه من خلق، ما يضيق به الباشا، ولكن ماذا يفعل؟ لقد تم الأمر وحل اليوم، ولات حين رجوع.
أقبل سليمان على قصر الباشا في الصباح من يوم الفرح، واستقبله الخدم في إجلال صامت، وصعد خبر مجيئه إلى الباشا، وانطلقت زغرودة أعقبها صمت، وظل سليمان منتظرا عمه متوفز الأعصاب، يدعو الله في نفسه أن يتم هذا اليوم على خير، الكتاب فقط يا رب، الكتاب على خير يا رب، ولا أريد غير هذا منك يا رب، إنه كل ما أطلبه منك يا رب، لن أطلب منك بعد اليوم شيئا يا رب.
وكأن الله يضيره أن يطلب هذا السليمان شيئا، أو كأنه يخادع ربه ويمنيه أن يريحه بعد ذلك من طلباته، أو لعله كان لا يدري ما يفعل، أو ما يقول فظل يدعو ربه في إلحاح تعوده مع عبيد الله، فلا حرج عليه إن هو بذله عند المولى.
ولم يطل به الدعاء، فقد نزل عمه متجهم الوجه وإن حاول أن يبقي على وجهه بعض البشاشة: صباح الخير يا سليمان.
وأقبل سليمان على يد عمه فقبلها: صباح الخير يا عمي.
وجلس الباشا، وجلس سليمان، ومرت فترة صمت، ثم قال الباشا: سليمان، هل أعددت المهر؟
وأخذ سليمان لحظة ثم تلعثم وهو يقول: نعم ... نعم، نعم يا عمي. - كم ستدفع؟ - أمرك يا عمي. - لا بل أمرك أنت، إني أريد أن تدفع شيئا مهما يكن قليلا، حتى أحس أنك أجهدت نفسك لتنال أملك. - والله ... والله ... - اسمع يا سليمان، إنني أعددت لك هذا المبلغ.
وأخرج الباشا من جيبه ظرفا منتفخا، وأكمل حديثه: ألفان من الجنيهات.
واتسعت حدقتا سليمان، وفغر فاه، واستعصى ريقه على البلع، حتى ليكاد يسيل، وأكمل الباشا حديثه: ستدفع منها ألفا هي المهر، وأعطيك الألف الأخرى لك لتظهر أمام زوجتك في الشهور الأولى مظهرا يرضي كرامتها، ويشعرها أنها تزوجت من رجل يريدها هي ولا يريد مالها، هذا المبلغ كبير يا سليمان كما ترى. فأكرم به نفسك أمام زوجتك، ولكني أريد أن تكتب لي كمبيالة بخمسمائة جنيه، هذا هو المبلغ الذي أريدك أن تقدمه لي مهرا، وأما بقية الألفين ، فإنه هدية مني لك لمناسبة زواجك.
وهب سليمان إلى يد عمه وانكب عليها يريد أن يقبلها، ولكن الباشا سارع فجذب يده وهو يقول: لا، لا يا سليمان، في هذه المرة لا، لا تقبل يدي لأنني أعطيتك نقودا.
Page inconnue