الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Page inconnue
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Page inconnue
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
Page inconnue
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Page inconnue
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
Page inconnue
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
Page inconnue
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
قصر على النيل
قصر على النيل
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
في استعلاء وكبر، يقف قصر أحمد باشا شكري، يشرف على النيل الذي يجري من تحته في تطامن وهدوء، فإن رأيته حسبت أن النيل لم يجر إلا ليجعل هذا القصر على هذه الروعة وعلى ذلك البهاء، فهو فارع إلى السماء، عريض ضخم، كل ما فيه يوحي إليك أن هنا مجدا قديما لا يزال جديدا، وأن هنا عزا عزيزا، وخيرا وفيرا، وكرما عتيدا، ورفدا وهناء.
يفصل القصر عن النيل حديقة منسقة، ويصل القصر بالنيل سلم من الحجر يفضي إلى النيل ذاته، إذا شاء سكان القصر أن يستعملوا قاربهم البخاري الراسي هناك خلصوا إليه بسلمهم هذا.
كان القصر إذن يفضي إلى النيل بهذا السلم، أما باب القصر ذاته، فقد كان من الناحية المقابلة للنيل ضخما فخما رائعا، مفتوحا على مصراعيه طول اليوم، لا يلتقي مصراعاه إلا في الهزيع الأخير من الليل.
Page inconnue
كان الوقت أصيلا، حين بلغ البوابة شاب في مقتبل العمر، قد يروعك منه أول ما تراه قوام مليء وطول فارع، ولكنك إن أنعمت النظر في وجهه وملابسه لم يرعك في وجهه شيء من القسامة، ولا راعك في ملبسه شيء من الانسجام. - سلام عليكم يا عم إدريس.
وقام البواب واقفا في أدب: وعليك السلام يا بك ورحمة الله. - الباشا نزل؟ - والله يا بك لا أدري، ولكن لا أظن. - طيب أنتظره حتى ينزل. - تفضل يا سعادة البك.
ويدخل سليمان بك شكري سراي عمه أحمد باشا، كما تعود أن يدخل، فالدار مكان مباح لأقارب الباشا، يجلسون في أبهائها، ويطلبون ما يشاءون من قهوة أو غيرها، سواء كان الباشا موجودا أم غير موجود. فالباشا أب لهم جميعا وهم في داره أصحاب دار. ولم تكن هذه الأبوة من الباشا مقصورة على أقاربه الأدنين أو غير الأدنين، وإنما كانت تتسع فتشمل كل شاب يعرف الباشا، ويتصل به في معترك السياسة، فالباشا من روادها.
جلس سليمان في حجرة المكتب ينتظر نزول عمه الباشا، ولم يطل به الانفراد؛ إذ سرعان ما دخل عليه ابن عمه وصفي، وهو شاب حاصل على إجازة الحقوق، جميل الصورة، حسن السمت، له شهرة واسعة في الأدب السياسي، وقد استطاع أن ينجح في الانتخابات، فتحددت مكانته السياسية، وأصبح من النواب الظاهرين في مجلس النواب. - أهلا وصفي. - أهلا سليمان، ألم ينزل عمي؟ - لا والله لم ينزل بعد، أراك باسما، هل وراء ابتسامتك خبر جديد؟ - لا، ولكني لاحظت أنك تأتي هنا في كل يوم منذ عدت من أوروبا. - وأي عجيبة في ذلك؟ ألا تأتي أنت كل يوم؟ - نعم، ولكن عشرة أيام متتالية لا تنقطع يوما، ألا ترى أنها غريبة بعض الشيء؟ - يا أخي عشرة أو عشرين، ما شأنك أنت؟ - لا شأن لي، ولكني ألاحظ وأبتسم. ألا تعطيني حق الابتسام؟ - الله! أتظنني سعد باشا وتريد أن تتعب قلبي أنا أيضا؟ لا يا حبيبي، أنا لا أحب المناقشة، ولا أحب السياسة، ولا أحب هذا الكلام المزوق الذي يخفي وراءه معاني أخرى، أنا رجل مهندس، أضع قالب الطوب على الآخر فيتم البيت. - واضح، واضح، فلو لم تكن مهندسا لما حشرت سعد باشا والسياسة وقالب الطوب في ضحكة، مجرد ضحكة! - وبعد! أما فرغت؟ - يا أخي، أنا لم أفتح الحديث، وإنما أنت الذي فتحته. - فهل تسمح لي أن أقفله؟ - على كيفك، ولكن أريد أن أفتح معك موضوعا آخر. - افتح، ولكن ترفق بي وحياة والدك. - لم أجلس معك وحدنا منذ عدت من أوروبا، ماذا فعلت هناك؟ - حصلت على دبلوم الهندسة. - هذا أعرفه جيدا، أقصد في حياتك الخاصة! - أكاد أفهم، وإن كنت غير متأكد من موضوع سؤالك، أتقصد ...؟ - الحريم. - الحريم؟ - نعم. - ليس هناك شيء اسمه الحريم، ولكن ما الذي جعلك تدخل من موضوع مجيئي هنا إلى موضوع الحريم؟ - أتريد أن أقول السبب، وأذكر الصلة بين الموضوعين، أم تفضل أن تتكلم أنت في السؤال من غير شرح مني لهذه الأسباب والصلات؟ - لا، أفضل أن أتكلم في الموضوع، فأنا أعلم أنك طويل اللسان. - عظيم! قل، ما حال الحريم هناك؟ - ليس هناك حريم، بل إن هناك نساء. - لا أجد فرقا بين الاسمين! - بل الفرق بعيد، الحريم عندك وعند الرجعيين أمثالك نساء محجبات، يضعن على وجوههن الستار الأسود، وإن كان قد أصبح شفافا، وهن عندي لا بد أن يلبسن المعاطف، ويضعن على رءوسهن القلانس، بل لعلك تريدهن محجبات باليشمك والحبرة، أما النساء في أوروبا فأداة نافعة. - ومن قال لك إن النساء في مصر أداة غير نافعة؟ - تقصد نافعات في الطبخ وإخراج الأولاد وتربيتهم. - وهل هذا قليل؟ ومن الأطفال؟ أليسوا هم رجال الغد؟! - لا، إن المرأة في أوروبا أقوى من ذلك وأنفع، فصاحبات المواهب يزاحمن الرجال في أعمالهم، وهن مع السياسيين أمثالك يخرجن في الانتخابات مع أزواجهن. - إننا هنا نحترم المرأة أكثر مما يحترمها الغربيون، نحن نراها جوهرة يجب أن تظل بعيدة عن أيدي الطامعين، وعن أنظارهم. - فتحبسها؟! - ألم تكن لك صديقة في أوروبا؟ - بل كان لي. - أترضى لابنتك، أو لزوجتك أن تكون صديقة لرجل؟ - ماذا تعني بالصداقة؟ - أعني الصداقة التي كانت بينك وبين فتاتك في أوروبا. - يا أخي أعوذ بالله! أعوذ بالله! - أرأيت؟ أترضى أن تخطب واحدة تعرف أنها كانت تلتقي بآخر، لقاء بريئا؟ - طبعا، لا. - فما هذا الدفاع الحار؟ - عن الحرية. - حرية المرأة هي الطريق إلى هذا الذي تأنف أنت منه، لن ترى المرأة إذ ذاك في الرجل ذلك الشيء المقدس الذي لا يمكن أن تلتقي به إلا إذا كان زوجا لها، والرجل أيضا سيفقد لذته بالمرأة في زوجته، ما دام يلتقي بالنساء في الطريق وفي العمل، سيجد كل منهما أنه من الطبيعي أن يلتقيا، وإذا التقيا ... - وما البأس إذا التقيا وتعارفا ثم تزوجا؟ - الخشية أن يتزوجا قبل الزواج. - فإذا كانا عاقلين واقتصر الأمر بينهما على اللقاء البريء؟ - ما رأيك أنت، إذا التقيت بفتاة وبادلتها حبا، حبا شريفا، أتتزوجها بعد ذلك؟ - لا، لا، لا أظن. - أرأيت، إننا نحب أن نثق بزوجاتنا، نحبهن لنا بجميعهن، بذكرياتهن وأحلامهن وآمالهن، ولا نحب هذه الذكريات أن تبدأ إلا بعد الزواج، فكل ما قبل الزواج لا نعترف به نحن الشرقيين، حتى وإن كنا نحن الطرف الآخر فيه. - ولكن يا أخي ...
وقطع عم دهب خادم الباشا الخاص النقاش، وهو يفتح الباب قائلا في جد حازم: سعادة الباشا.
ووقف الشابان ينتظران قدومه، وما هي إلا لحظات قلائل، حتى أقبل الباشا مبتسما كعادته، كان الباشا رجلا في الحلقة السابعة من عمره، طويل القامة، عريض المنكبين، سمح الوجه، ترى في وجهه طيبة، فإذا أنعمت النظر في عينيه من وراء نظارته، رأيت فيهما عمقا وذكاء ولماحية، مارس الباشا السياسة ومارسته، وشهد أحداثها وشارك فيها، ولكنه أبى أن ينضم إلى حزب من الأحزاب، بل كان دائما يقف من هذه الأحزاب موقف الناقد الحر، يؤيد هذا حينا، ويهاجمه حينا، دون أن يبعثه إلى التأييد أو المهاجمة باعث شخصي، إلا ما يرى فيه صالحا للبلد، وقد اكتسب بهذا لنفسه احترام جميع السياسيين، كما اكتسب بهذا ذاته لنفسه كره جميع السياسيين ومن تبعهم، فلم يكن له بين الشعب مؤيدون ، وهكذا كان دائما، بعيدا عن الحكم، إلا إذا جاءت وزارة محايدة، أو وزارة مؤقتة، فهو إذن عضو من أقوى أعضائها شخصية، ومن أوسعهم نفوذا.
دخل الباشا الغرفة، وحيا ولدي أخويه، وجلس دون أن يلحظ أنظار وصفي التي كانت مشدودة إلى النافذة المطلة على الحديقة، ولم يلحظ وصفي أن عمه قد جلس وأنه قد آن له أن يجلس هو الآخر، وإنما ظل شاخصا إلى تلك المرأة التي دلفت إلى الحديقة تحمل فوق رأسها بقجة مصرورة، تهدلت جنباتها فوق رأسها، إنها أم وديدة، تحمل الأقمشة التي تعرضها على حريم الدار، وتحمل أيضا موافقته على موعد الليلة، وأفاق وصفي من سرحته على صوت عمه ينبهه! - خير يا سي وصفي، أراك سارحا، أتراك تفكر في خطبتك الجديدة؟
وأرتج وصفي لكلمة الخطبة، وصحا إلى عمه يسأله في جزع وحيرة: أي خطبة؟ أي خطبة يا عمي؟ - يا أخي، أنا قلت خطبة، أقصد خطبتك في مجلس النواب، ألا تنوي مهاجمة أحد غدا؟ - والله يا عمي، سعد باشا أصبح رجلا عسيرا على المهاجمة، فهو منذ تولى رياسة مجلس النواب، وهو يعمل على ضم الكلمة، لو كان سار على هذا النحو منذ أول عمله بالسياسة لأراحنا.
وقال الباشا باسما: الواقع أن العيب الأساسي في سعد أنه استغل الدكتاتورية الشعبية، وهي دكتاتورية تعطي لصاحبها سلطات واسعة، وتجعله يعمل وكأنما هو وحده صاحب البلد. - ولكنه في هذه الأيام الأخيرة أصبح يستعمل الدكتاتورية الشعبية استعمالا معقولا. - ما أحب إلينا أن يظل سائرا على هذا النحو. ما لك ساكتا يا سليمان؟ - يا عمي أنا لا أفهم في السياسة. - آه صحيح، نسيت هذا، ونحن أيضا لا نفهم في الهندسة، فما رأيك؟ ابحث لنا عن موضوع نتكلم فيه!
فقال وصفي وقد هفت نفسه إلى مداعبة ابن عمه: كنا نتكلم قبل قدوم سعادتك عن المرأة في الغرب، والحريم في الشرق، ويظهر أن أخانا سليمان يخالفنا نحن الشرقيين في أفكارنا عن المرأة. قل رأيك لعمي.
Page inconnue
وتقلص وجه سليمان واحتقن وتلجلج لسانه، وأصبح لا يدري ما يفعل، وضحك وصفي ضحكة مستورة، فهو يعلم أن سليمان لن يستطيع أن يقول رأيه أمام عمه المعروف بالمحافظة، وأحس العم أن وصفي قد ألقى بابن عمه في مأزق دقيق، فغير مجرى الحديث. - هيه يا سي سليمان، ماذا عملت في المصلحة؟
وقبل أن يجيب سليمان أدرك وصفي أن في عيني ابن عمه حديثا آخر يريد أن يفضي به إلى عمه في خلوة، فخرج من الغرفة في هدوء دون استئذان، وأقفل الباب من خلفه، وشكر سليمان لابن عمه هذا الإدراك الدقيق، وراح يجمع صوته ليسأل عمه في حشرجة: ماذا عملت لي يا عمي؟
كان الباشا يدرك تماما ما يقصد إليه السؤال، ولكنه لم يشأ أن يجيب في وضوح، خشية أن يكون ما أدركه غير ما يقصد إليه ابن أخيه، فهو يسأل: ماذا فعلت لك فيم؟ - ألم تقل لي إنك ستسأل سهير ثانية إن كانت تقبلني؟ - سألتها. - وبماذا أجابت؟ - ... - لا شك أن في رضا سعادتك كل الكفاية. - يا أخي، أنت تعرف أنني رجل محافظ، وابنتي لا ترد لي أمرا، ولكن الزواج شأنها وحدها، ولا أستطيع أن أرغمها، أنا سأتركها بعد حين، فبماذا تراها ستذكرني إن أنا زوجتها بمن لا تريد؟ - يا عمي نحن في مصر لا نسأل بناتنا عمن يتزوجن. - ولكني أنا أسأل. - ...
وأحس الباشا أنه أغلظ على ابن أخيه، وأدركته عليه الشفقة، ولم يشأ أن يجمع عليه الرد الخشن ورد خطبته في آن، فهو يقول له في تلطف: أمثلك، وأنت المتعلم في أوروبا، يقول هذا الكلام؟! وماذا أعمل؟ إني ألححت عليها، ولكن بلا فائدة، ولم أشأ أن أرغمها إرغاما حتى لا تقوم الحياة بينكما على أمر جاف صدر مني، على كل حال أترك لك فرصة أخرى. - أمرك يا عمي. - طيب يا سيدي.
وأدرك سليمان أنه لم يعد ما يدعو لبقائه، فقام وقد اكفهر وجهه، واستأذن عمه وخرج.
لم يكن سليمان جميلا، ولكن ما أصابه في زيارته تلك زاده قبحا، فلو قدر له أن ينظر في مرآة حينذاك، لما تمالك نفسه عن أن يقول: نعم ، إنها محقة أن ترفضني، ولو كنت أنا امرأة، ولو كنت حتى امرأة فقيرة، ولست ابنة باشا، لو كنت ونظرت إلى هذه الخلقة لرفضت الزواج بصاحبها.
كان خليقا أن يقول هذا لو أنه نظر إلى مرآة، ولو أنه أصاب بصيصا من ضمير، ولكنه - والحمد لله - لم ينظر إلى مرآة، ولم يصب شيئا من ضمير، فهو ينقلب إلى بيته، لا يفكر إلا في هذه الثروة التي يوشك أن يفوتها عليه ذكاء بنت عمه، وقبح خلقته.
الفصل الثاني
خرج وصفي من الحجرة وأغلق الباب من خلفه، ولكنه لم يقصد إلى الباب الخارجي للمنزل، بل هو يقصد إلى الحديقة الخلفية يتمشى في أنحائها رويدا، وكأنما لا يهدف لغير الاستمتاع بضوء القمر الذي ينسكب على الحديقة، حتى إذا بلغ السلم المؤدي إلى النيل، نزل عليه في سرعة، وفي لمحة أخفاه الجدار الأبيض القائم هناك عن الحديقة والمنزل جميعا.
هنا الموعد، موعده مع سهير، ترى ماذا تخفي لهما الأيام؟! إنها سهير بجمالها الرائع، بذلك القوام الفارع، وهذه الضحكة العذبة التي لا تغرب عن ثغرها، ثغرها ذلك الحلو الذي يلقي الكلام رقيقا جريئا، عميق المعنى حلو الرنين، سهير بذلك الوجه الذي يميل إلى الطول في امتلاء، وبهذين الخدين الناعمين، يشع فيهما زهو وثقة، وبهاتين العينين، وفيهما بريق أخاذ يكاد في ضوء القمر أن ينسكب مع ضوء القمر، إنها سهير بروحها تلك الحلوة، وبحبها العنيف له، ماذا تخفي لهما الأيام؟ إنه لن ينسى، لن ينسى يوم جاءته أم وديدة تهمس في أذنه أن انتظر اليوم عند مرفأ القارب، وكاد العقل يرده، ولكن الشباب دفعه، وهناك التقيا في أول يوم، ومنذ ذلك اليوم لم تنقطع عنه أم وديدة بالموعد المهموس حينا، أو بالموعد المكتوب حينا آخر، وبين هذه المواعيد استقبل وصفي أساليب من السعادة لم يفكر يوما أنه سيلتقي بها، ولكن إلى أين؟
Page inconnue
إنه يحبها، يحبها، يحب فيها شبابه البكر، ويحب فيها إرضاءها لغرور الشباب، ويحب فيها أمسياتها الناعمة في ضوء القمر، أو في ضوء المصباح المعلق على القارب ، يحب فيها استيقاظة القلب الأولى، وصحوة النبضات الناغمة، يحبها ولكن إلى أين؟ أزواجا؟
نعم، هو يعلم أن عمه لن يتردد في قبوله، وهو يعلم أنه جدير بها، وهي جديرة به، ولكن الزواج؟! فإذا ما شغلتني الحياة، وإذا انصرفت عن الحب حينا إلى ذلك المعترك الضخم الذي ألقيت بنفسي فيه، ماذا تعمل سهير؟ ولكنه يحبها، بل هو لم يعرف للحب معنى إلا هنا، هنا بجانب هذا القارب، وعلى ضفاف هذا النيل، وفي ظل هذا القصر، وفي ضوء هاتين العينين، عيني سهير. يحبها، وهي تحبه، ولكن الزواج ثقة، أجننت؟ ألا تثق بابنة عمك؟ لا، لا أثق. أجننت؟ لم أجن، ألم تسع هي إلى هذا الموعد؟ ولكن هذا لم يكن إلا من أجلك أنت! أنت وحدك، من أجل شبابك الريان، ومن أجل جمالك هذا، من أجل عينيك الرائعتين، وشفتيك الرقيقتين يعلوهما ذلك الشارب الذي تعنى بتجميله، ومن أجل شعرك الأسود تحت طربوشك المائل، يا لك من غر! أتذكر جمال سمتك؟ ألست رجلا، نعم، إني رجل، رجل عظيم كاتب، أديب سياسي يخشى كبار الساسة قلمه ولسانه، وأنا رجل وطني، أحببت وطني وهاجمت أعداءه، وأثرت القلق في نفوسهم، فقبضوا علي مرات، فما زادني هذا عند وطني ومواطني إلا إعزازا وحبا، وأنا أيضا عضو بمجلس النواب، وأصغر النواب سنا، وأنا أيضا غني، وأبي باشا مثل أبيها، نعم فما كانت لتسعى إلا إلي، إلي أنا بكل هذه الأمجاد التي تجتمع في. ولكن؟! ولكن ماذا أيها العربيد، أتلتقي بها وتبثها الهوى وتقبل هواها ثم تتردد؟! نعم إني أتردد.
إنها قد تسعى إلى غيري كما سعت إلي! بل إن أمي قد ألقت إلي فيما ألقت أن كلاما غير كريم يدور حول سهير، أليس بحسبي هذا الكلام حتى لا أتزوجها؟! ومتى رأيت الناس يصدقون؟ لعلهم وشاة يكذبون، ولكن الشرف سمعة، وكرامة الفتاة منوطة بسمعتها، فما للناس يتحدثون عنها ولا يتحدثون عن فتاة أخرى؟ لعلهم ينفسون عليها جمالها وغناها! كم من الفتيات جميلات وذوات غنى ولا نسمع عنهن شيئا، لا بد أنها هي التي أتاحت الفرص لهذا الحديث أن يدور، ثم أليس في لقائها بي ما يدل على أنها جريئة لا تراعي التقاليد؟ ولكنها تلتقي بك أنت وحدك! لا، إن من تقبل أن تلتقي بي لا ترفض أن تلتقي بآخر، الزواج أمر خطير، قد لا أفرغ لها، قد تشغلني السياسة، فما يمنعها أن تواعد آخر كما تواعدني؟ لا، لا، لا أستطيع، الزواج! الزواج!
إن أمي محقة حين فكرت أن تخطب لي هند بنت إسماعيل باشا مصطفى، ومن أدراك أن هندا لا تلتقي بابن عم لها كما تفعل سهير؟ أيها المتشكك! وكيف لهند أن تلتقي وهي فتاة صغيرة لا تزال في أكمام الصبا لم تعده إلى الشباب؟ تلك هي الزوجة، تربية تركية صارمة، تخرج من يد المربية إلى يد الزوج، بلا لقاء ولا مواعيد ولا قارب في النيل، ولا ستار من جدار أو ليل ولا أم وديدة حمالة المواعيد، ولكن سهير؟ سهير، ماذا أنت قائل لها؟ ماذا أنت قائل لها؟
وحينئذ سمع أقداما تقترب، وسرعان ما بدت سهير على رأس السلم، وراحت تجوس الحديقة بنظرها هنيهة، ثم نزلت السلم في سرعة محاذرة أن يصدر منها صوت، واستقبلها وصفي. - تأخرت.
وضحكت سهير وهي تقول: انتظرت حتى خرج أبي. - عمي خرج؟ - نعم، ظللت أرقب باب الخروج، ورأيت الباشمهندس الثقيل يخرج، ثم خرج أبي بعده بقليل ومعه عبد البديع أفندي كاتب الزراعة. - أنت تظلمين سليمان! - أعوذ بالله! لا تذكره لي. - ولماذا؟ - يا أخي هذا كارثة، مصيبة، بلوى. - لماذا؟ لماذا هذا كله؟ هل جلست معه؟
وتضحك سهير وهي تقول: نعم يا سي وصفي؟! كيف أجلس معه؟ أأقابل الرجال؟
وابتسم وصفي وهو يقول: وما أنا؟ هل أنا ست؟
وابتسمت سهير، ولمع في عينيها بريق وهي تنظر إلى وصفي نظرات عميقة جعلت الزهو يملكه ويروح يحاول أن يخفيه بالرجوع إلى الحديث عن سليمان، فقد كان ذمه يرضيه ويرتاح إليه كما يرتاح لمديح يسمعه عن نفسه. - فكيف عرفت أنه كارثة ومصيبة وبلوى؟ - أوه! يا أخي، اترك سيرة هذا اللوح .
ويقهقه وصفي قهقهة توشك أن تعلو، لولا أن تسارع سهير فتضع يدها على فمه فيقبلها، ويمسك بها، ويعيد سؤاله وهو لا يزال محتضنا يدها بيديه: كيف عرفت أوصافه هذه؟ - يكفي أن هذه رابع مرة أرفضه، وهو يصر على طلبي! - رابع مرة؟ - طبعا، طلبني مرة قبل أن يسافر، وأجابه أبي دون أن يسأل رأيي بأنني ما زلت صغيرة، ومرة وهو مسافر بخطاب لم يرد أبي عليه، ومرة أرسل أمه وسألني أبي فرفضت، وهذه المرة التي لا يزال يلح فيها. - والله مكافح! من يعلم لعله ينال أمنيته.
Page inconnue
وانتفضت سهير جازعة، وانحبس صوتها وهي تسأل في لهفة جازعة: ماذا؟ ماذا تقول يا وصفي؟
وأطلق وصفي ضحكة صغيرة وهو يقول: يا ستي أنا أضحك، ألهذا الحد تكرهينه؟ - بل لهذا الحد أحب غيره.
واغرورقت عينا وصفي بالدموع، ولم يجد شيئا يفعله إلا أن يميل على يدي سهير، يقبلها في خشوع حائر، وفي قلق مرير لو أحسته سهير لما صبرت أن تلقي بنفسها إلى النيل، وأوشكت سهير أن تميل على رأسه تقبلها وهو مكب على يدها، ولكن ردها عن ذلك كبر لم يمحه الحب، وردها عن ذلك أن صعد إليها وجه وصفي والدموع تتغشاه بعد أن فاض منها سكب على يدها.
الفصل الثالث
عاد وصفي إلى منزله أول الليل، وجلس إلى أمه التي استقبلته وقد رسمت على فمها ابتسامة، أدرك وصفي أنها تخفي وراءها أمرا، ولم يشأ وصفي أن يستعجل أمه لتنهي إليه ما تخفيه ابتسامتها، فهو يعلم أنها سرعان ما تفضي إليه بما تخبئه.
كانت السيدة إجلال أم وصفي سيدة في الحلقة السادسة من عمرها، تركية المولد والنشأة، وكانت بيضاء الجبين، لم يخط الزمان على وجهها خطوطا كثيرة، وإنما ترك صفحة وجهها صافية يلمع فيها البشر، فقد عاشت مع المرحوم زوجها عيشة راضية، فلم يتزوج عليها، ولم يشتر جوار أخريات شأن أمثاله من الأغنياء، وإنما أفردها بحبه وعنايته ومنزله، ولكن هذا جميعه لم يستطع أن يمحو من عينيها وميض قلق ألم بها منذ اختطفها اللصوص وهي طفلة تلعب في مدارج الصبا، وأتوا بها إلى مصر، حيث بيعت بيع الرقيق إلى جد وصفي الذي زوجها لولده أدهم باشا شكري، لا، لم تمح الأيام من عينيها هذه النظرة القلقة، ولم يستطع أدهم باشا بكل حدبه عليها وحبه لها أن يزيل هذه الآثار الدارسة من بقايا القلق التي ارتسمت في عينيها منذ ذلك الحين البعيد، ولم تنجب إجلال هانم لزوجها غير وصفي، فحمد ربه على ما أعطى، وعاش لا يرجو من دنياه إلا أن يمد الله في عمر ولده ويحفظه من شر العاديات.
وكان وصفي خليقا أن يميع، منتهزا فرصة انفراده بأبوة أبيه وببنوته له، لولا أن إجلال هانم أدركت ما يحيط بالفتى من خطر، فقامت على شأنه في قسوة رحيمة وحزم واع، وهيأ له أبوه مناهل العلم ومجالس العلماء، فشب الفتى قويم الخلق واللسان، أديبا محبا للعلم، وصار إلى مكانه المرموق هذا، مدركا أن الفضل في ذلك يرجع إلى أمه وأبيه.
وحين انتقل أبوه إلى جوار ربه، عاش الفتى وليس له أرب في بيته إلا أن يرضي أمه، فلا تفتقد شيئا كانت تجده أيام أبيه، اللهم إلا فقدانها لزوجها، ذلك الذي لا يعوضه مال أو بنون.
لاحظت إجلال هانم أن وصفي لم يحفل أمر ابتسامتها التي وضعتها على فمها حين أقبل، فوسعت الابتسامة مرة أخرى عساه أن يسألها، فقد كانت تدير الحديث في ذهنها قبل أن يأتي ولدها، وكانت تريد أن يسألها «ماذا وراء ابتسامتك؟» حتى ترد سؤاله بما تريد أن تخبره به، ولكن ها هو ذا ابنها يأبى أن يسألها ولا تعرف هي كيف تبدأ الحديث.
وأدرك وصفي أنها تريد أن يسألها عما تخفيه، وشاء أن يداعبها بصمته، فسكت لا يسألها، وطال الصمت بهما وازدادت الابتسامة اتساعا، وازداد وصفي تشاغلا عنها حتى ضاقت الأم آخر الأمر. - أما إنك بارد!
Page inconnue
وضحك وصفي وهو يقول: لماذا يا أمي؟ - أما ترى أني أبتسم وأبتسم؟ أما ترى أنني أريد أن أقول شيئا؟! - فما يمنعك يا أمي أن تقوليه؟ - لأنك لا تسألني عن سبب ابتسامتي. - ألا بد أن أسألك حتى تخبريني؟ أنا أعلم أنك لن تسكتي أو تقولي ما بعث هذه الابتسامة الحلوة إلى شفتيك. - والله لأسكتن فلا أخبرك. - ولماذا يا أمي؟ أنا أعرف أنك تريدين أن تخبريني عن خبر هام، فلا تضايقي نفسك وقولي الخبر. - أنا أضايق نفسي، إنه أنت الذي يتوق إلى معرفة ما أخفيه. - أنا يا أمي! - نعم أنت، ولكني لن أخبرك. - حسنا، نعمل تجربة، الذي يتكلم أولا يدفع للآخر خمسة جنيهات. - أما إنك بارد! - هيه، ما رأيك؟ نعمل تجربة؟ - طيب، سنرى.
وسكت الاثنان، وقد ازدادت الابتسامة اتساعا على وجه إجلال هانم، حتى لتوشك أن تنفجر عن ضحكة مرحة فرحانة، ولم يطل بهما الصمت، بل تلفتت إجلال هانم حولها وهي تقول: أين كيسي؟ ها هو ذا.
وفتحت إجلال هانم كيس نقودها، وأخرجت منه خمسة جنيهات، وقالت لابنها: خذ واسمع.
وراح الاثنان يقهقهان في مرح، ثم قالت إجلال هانم: احزر من زارني اليوم. - حرم إسماعيل باشا مصطفى.
وفغرت الأم فاها عاجبة من ولدها هذا الذي حيرها. - وكيف عرفت؟ - عرفت من ابتسامتك الأولى. - طيب هات الجنيهات الخمسة، أتضحك علي يا ولد؟ - وفيم أضحك عليك؟ - أتكون عارفا بالموضوع كله وتدعي الجهل به؟ - يا أمي، وهل لك عمل منذ قبلت أن تخطبي لي هندا إلا بيت إسماعيل باشا مصطفى؟ وهل لك حديث إلا عن الخطبة، وعن صداقتك لسمية هانم منذ أيام الطفولة، وعن فرحك لهذا النسب الجديد؟ يا أمي إنني أعلم أنك لا تحملين أخبارا إلا هذه، فمنذ فتحت هذا الموضوع وأنت لا تتحدثين عن شيء آخر. - آه يا لئيم! هات الفلوس التي أخذتها.
وقال وصفي جادا: وماذا قالت لك سمية هانم؟ - أرأيت أنك أنت الذي تتوق إلى هذا الحديث. - على كل حال لا بد لي أن أعرف. - يا سيدي، الباشا وافق وهو مسرور جدا، وقالت لي إنه منتظرك غدا لتحدد موعد الخطبة.
وقال وصفي في شيء من القلق: غدا؟ - غدا. - بهذه السرعة؟ - وما المانع؟
وسرح وصفي بنظره وهو يقول: نعم، صحيح ، ما المانع؟
الفصل الرابع
اندفع وصفي في تيار رغبة عنيفة أن يتم زواجه هذا، لقد كان يخشى الأيام، أو هو يخشى نفسه إن مرت عليه الأيام، كان قد وصل إلى قراره هذا بعد تردد، وكان العقل وحده هو الدافع إلى هذا الزواج، كان يريد زواجا مستقرا غير مفزع بأشباح من الماضي، وخيالات من رعونة الشباب.
Page inconnue
كان يعلم أن قلبه نافر من زواجه هذا إلى هواه الأول، وكان قلبه الشاب قوي النبض، عنيف الحجة، ولكن استطاع في لحظة أن يضع حول قلبه سياجا من المنطق، فخفت النبض هونا، وانبعث وصفي في غفوة من قلبه يتم الزواج، في اندفاعة خائف، وفي سرعة قلق، وفي عزم حيران.
يصبح الصباح فيندفع وصفي إلى التليفون يطلب إلى العاملة أن تصله بمنزل إسماعيل باشا مصطفى، وبعد هنيهة يكون وصفي على موعد أن يلتقي بالباشا في منزله في الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم ذاته.
وفي الساعة الخامسة يكون وصفي قد أخذ مكانه من إسماعيل باشا مصطفى، والباشا يرحب به في إجلال، فهو يعرفه من زمن بعيد، ويلاحقه كاتبا وسياسيا، ويحمل له في نفسه - إلى جانب الحب - إكبارا، وقد كان وصفي عالما بمكانه من نفس الباشا، ولكن علمه لم يمنع الخجل أن يلعثم لسانه بعض الحين، بعض الحين فقط، ثم سرعان ما جرى الحديث فيما قدر له أن يجري وسرعان ما تحدد موعد الخطبة، وصفي متعجل والباشا مسرور بهذا التعجل، وصفي يخشى أن يطغى عليه قلبه إن تراخى الموعد، والباشا يظن تعجل وصفي عدم صبر عن لقاء عروسه.
والتقت الرغبتان وإن اختلفت البواعث والظنون، وتم الحديث، واستأذن وصفي وخرج، وعند باب المنزل التقى وصفي بأم وديدة تحمل فوق رأسها بقجتها، فحياها تحية عابرة، وانصرف عنها باهتة ذاهلة أن لم يمل وصفي على أذنها ولم يتح لها أن تميل على أذنه.
ركب وصفي عربته وأمر السائق أن يسعى به إلى بيت عمه أحمد باشا، وما أن أتم إصدار أمره حتى صكت حوافر الخيل مسامع أم وديدة وهي في طريقها إلى باب الحريم.
الفصل الخامس
كانت حجرة المكتب في بيت الباشا خالية لا يشغلها إلا كاتب زراعته عبد البديع أفندي الدكر، شاب يفتتح الحلقة الثالثة من عمره، صورة قوية المعالم للفلاح المصري، مغلفا بعادات الريف، لم ينزع من غلافه شيء، لن تخطئ عيناك حقيقته، ولن تخدعك منه هذه الحلة التي يضعها على نفسه كلما اقتضت الأعمال أن يزور الباشا في المدينة؛ فقد شب في القرية، وفي مكتب الباشا، يتلقى عن أبيه أحمد الدكر فنون حساب الدوبيا، ومحاسبة الأنفار، وصرف التقاوي والسماد، وظل بالقرية وبمكتب الباشا عمره جميعه حتى مات أبوه، فتولى هو عمله.
ولم يكن مجيئه هذه المرة في عمل، وإنما جاء ليستأذن الباشا أن يكمل نصف دينه بالزواج من خطيبته التي خطبها له أبوه منذ هو طفل، ومنذ عروسه وليدة، إنها ابنة عمه «محبوبة»، محبوبة العمر كله، كم يشتاق إليها، إلى الزواج بها، وإلى أن تخلو بهما حجرة، ويقفل عليهما رتاج، إنه يحبها، ويخفق قلبه لرؤيتها، وتمور الدماء في عروقه حين يلتقي بها وقد ألقت على رأسها خمارها الأسود، وهو منذ يومين لا يطيق صبرا، فقد رآها في صحن دارها، وقد لبست جلبابها الأحمر الهفهاف الذي لم يكن قد رأى منه إلا طرفه الأقصى حين كان يتدلى تحت جلبابها الأسود، رأى الثوب جميعه، رأى ظهره، ورأى أكمامه وقد انشمرت عن ذراعيها، ذراعيها هي، بل لقد رأى أيضا ساقيها تحيطان بالطست، رأى ذلك جميعه حين ولج بيت عمه الذي كان مفتوحا، رأى «محبوبة» فتملاها مليا، حتى إذا أحس أنها توشك أن تلتفت خلفها سارع عائدا بظهره إلى باب الدار، ومن هناك قال: يا ساتر.
وقامت محبوبة عن الغسيل، ومن وراء باب حجرتها قالت (وهي تدرك من المنادي): من؟ - أنا عبد البديع يا محبوبة، عمي هنا؟ - لا، خرج، اتفضل. - لا، أستأذن أنا؛ سأعود إليه في العشية.
هو منذ تلك اللحظة لا يطيق صبرا، ولولا أن الأعمال كانت متراكمة لركب القطار إلى الباشا لحظة ترك محبوبة، ولكنه صبر نفسه يومين بغير نوم، لقد كانت ساقا محبوبة وذراعاها تطارده في النوم والصحو على السواء، حتى لقد خشي أن يخطئ في الحساب؛ فجاء، جاء منذ الأمس، ولكنه لم يستطع أن يحادث الباشا؛ فقد كان جالسا طوال الوقت إلى ولدي أخويه، فلم يره إلا وهو في طريقه إلى السيارة، ولم يتسع الوقت إلا لأن يسأله الباشا سؤالا عاما عن حال الزراعة، ثم طلب إليه أن يبيت إلى الغد، وبات ليلته في بيت الباشا، وخرج في الفجر ليصليه حاضرا في سيدنا الحسين، وحين عاد كان الباشا قد خرج، ثم ها هو ذا ينتظره وقد اقتربت الساعة من السادسة، وإنه يخشى أن يبيت هذه الليلة أيضا دون عودة إلى القرية، إلى محبوبة.
Page inconnue
هكذا كان يفكر عبد البديع حين فتح الباب ودلف إلى الحجرة سليمان، وقام عبد البديع في أدب بالغ، وقد اشتعل في نفسه كره عنيف لسليمان، فقد كان يريد أن يحادث الباشا على انفراد، والآن لم يصبح هذا الانفراد ميسورا، ولكن هذا لم يمنع عبد البديع أن يقول: مرحبا سعادة البك. - أهلا عبد البديع أفندي، لي زمان لم أرك، كيف حالك؟ - الحمد لله يا سعادة البك، أطال الله عمرك! - كيف حال الزراعة عندكم؟ - ماشية يا سعادة البك، بركة الباشا كبيرة. - كم يرمي الفدان؟ - من القطن يا بك؟ - نعم. - خمسة. - فقط؟ - نعمة. - والقمح؟ - من خمسة إلى ستة أرادب. - فقط؟ - نعمة يا سعادة البك، طيب، والله إن أرضنا تنتج أحسن محصول في الجهة. - لا، لا يا عبد البديع أفندي، لا بد أنكم لا تحسنون الخدمة. - يا سعادة البك الحال عندنا لا يقاس بالحال في أوروبا. - ولم لا؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله، هناك أوروبا، وهل أوروبا يا بك مثل العواسجة؟ شتان يا سعادة البك! شتان. - المسألة خدمة أرض فقط، لو خدمت الأرض أعطتك. - إنها أرض عمك وأرضك بجانبها، اوصل لنا في مرة وأرشدنا، ونحن ننفذ أوامرك.
وقبل أن يجيب سليمان، يفتح عم دهب الباب قائلا في لهجته الحازمة: سعادة الباشا.
ويدخل الباشا إلى الحجرة ويسلم على سليمان وعبد البديع أفندي ويقعد، ويقعد سليمان، وينظر الباشا إلى عبد البديع منتظرا أن يخرج، ولكن عبد البديع يقول: سعادة الباشا يسمح لي. - ماذا؟ - كلمة صغيرة، فإني أريد أن أسافر الليلة إن أذن سعادة الباشا.
ويتململ الباشا في كرسيه، وينظر إلى سليمان راجيا أن يفهم ويترك الحجرة، ولكن سليمان لم يتحرك من مكانه، فلم يجد الباشا مفرا آخر الأمر من أن يقول لابن أخيه: اتركنا دقيقة يا سليمان. - أمرك يا عمي.
ويقوم سليمان خارجا حاقدا على عبد البديع أن يخفي عنه سرا، فقد كان يحسب أنه يريد محادثة الباشا في شأن من شئون الزراعة، وقد كان يحب أن يعرف كل شئون الزراعة، زراعة عمه الباشا بالذات.
قال عبد البديع في لجلجة: أطال الله عمرك يا سعادة الباشا وأبقاك! سعادة الباشا يعرف أنني خاطب لابنة عمي محبوبة منذ زمن بعيد.
وقاطعة الباشا: عظيم، عظيم، وتريد أن تتزوج؟ - أطال الله عمرك يا سعادة الباشا. - طيب اكتب أمرا إلى نفسك أن تصرف خمسين جنيها تتزوج بها.
وسمع عبد البديع الرقم فتحجرت عيناه هنيهة، ثم فاض منهما دمع فرحان، فما كان يطمع في غير عشرين، وانكب عبد البديع على يد الباشا متشبثا بها، ملقيا عليه بفمه، ولكن الباشا يختطفها منه في حزم: ماذا جرى يا عبد البديع، متى رأيتني أسمح لأحد أن يقبل يدي؟ أستغفر الله يا ابني، واستغفره أنت أيضا! اذهب يا ابني، أنت ابني، اذهب بارك الله لك في زوجتك وبارك لها فيك!
وقال عبد البديع والدموع تجري على خديه: وبارك لنا فيك يا سعادة الباشا، وأطال عمرك، ولا أرانا فيك سوءا أبدا يا سعادة الباشا!
وخرج عبد البديع ونادى الباشا: يا سليمان، يا سليمان.
Page inconnue
ودخل سليمان الحجرة، وتبعه وصفي الذي كان قد وصل لتوه، وجلس كلاهما إلى الباشا وقد غشيهم الصمت، أما الباشا فمفكر في عبد البديع وفي زواجه، مقارنا بينه وبين ابنتيه اللتين تعقدان الزواج تعقيدا يوشك أن ينتهي بهما إلى بوار، ومفكر أيضا في سليمان هذا وفي وصفي، فقد كان يتمنى أن يخطب وصفي إحدى ابنتيه، ولكنه صامت لا يبين عن رغبة، ولا تبدو منه بادرة تفكير، ولو كان يطيق أن يرفض سليمان دون الرجوع إلى ابنته لفعل حتى يضمن بعده عنها، ولكن لا يستطيع، فهو ابن أخيه وإن كان فقيرا، ويخشى أن يرفضه فتغضب الأسرة جميعها، فقد استقر العرف بينهم ألا يكون المال سببا في قبول أحدهم أو رفضه، فكلهم أسرة، وكلهم سواسية، لا يرفع المال واحدا منهم ولا يخفض آخر، ولكن الحمد لله، فإن سهير ترفض وتتمسك بالرفض وما يظنها تقبله أبدا، فإن وجهه هذا - وهو يعلم أنها رأته من وراء الشباك - كفيل بأن يجعلها تزداد تمسكا برفضها له كلما عرض عليها.
وأما سليمان فقد كان يفكر فيما قال عبد البديع أفندي لعمه، وفي الثروة الضخمة التي يشرف عليها هذا العبد عبد البديع، ويتوق في أعماق نفسه أن يشرف هو عليها، آه لو تقبله سهير!
وأما وصفي فقد كان يفكر في الوسيلة التي سيلقي بها إلى عمه خبر خطبته، فقد كان يحب عمه ويقدره، ولا يريده أن يسمع خبر الخطبة من غيره، وكان يعرف أن عمه يريده، لإحدى ابنتيه، جاهلا ما بينه وبين سهير، جاهلا أيضا أن هذا الذي بينه وبين سهير هو نفسه الذي منعه من التقدم للخطبة.
وهكذا صمت ثلاثتهم حتى فتح عبد البديع أفندي الباب وتقدم إلى الباشا في انحناء، مقدما إليه إذن الصرف، ووقع الباشا الإذن بين دعوات عبد البديع أفندي المتلاحقة، والتفت الباشا إلى ولدي أخويه: باركا لعبد البديع أفندي، فإنه سيتزوج.
وهنأ الشابان عبد البديع أفندي الذي شكر لهما تهنئتهما وخرج، ولحق به وصفي إلى خارج الغرفة، وفي البهو انتحى وصفي بعبد البديع ناحية، وأخرج من حافظته عشرة جنيهات أعطاها له، وتأبى عبد البديع هنيهة، ثم قبل الهدية وهو يشكر وصفي ويدعو له!
وعاد وصفي إلى الحجرة، فوجد الصمت لا يزال يأخذ مكانه بين عمه وسليمان، وكان الباشا قد أدرك ما دعا وصفي إلى الخروج، وأراد أن يغمز سليمان فقد كان يريده هو أيضا أن يهدي كاتبه شيئا، أي شيء مهما يكن تافها ليمكن لنفسه احترامها عند الخدم، قال الباشا لوصفي: ما كان لك أن تفعل، فقد أعطيته أنا خمسين جنيها.
وتردد وصفي ثم قال: يا عمي أنا أعرف ذكاءك الخارق، ولكني ما كنت أحسب أنك تعرف الغيب أيضا. - لا غيب ولا حاضر، لم يكن هناك ما يدعو لخروجك إلا هذا، وأنا أعرف عنك أيضا أنك كثير العطاء، وسع الله عليك يا ابني!
ولم يشعر سليمان بغمزة عمه، وإنما شعر بحقده يزداد على عبد البديع لزواجه، ولنيله هذه الأموال فوق ما ينهبه من الزراعة، وشعر بحقده على وصفي يزداد أيضا لغناه، ولأنه استطاع بهذا الغني أن ينال هذا الدعاء الجميل من عمه، كما استطاع من قبل بغناه ومركزه أن يكون المرشح الأول في إشاعات الأسرة للزواج من سهير.
وانتهز وصفي الفرصة السانحة من الحديث عن الزواج وقال لعمه: وأنا يا عمي سأتزوج عن قريب.
ودهش الباشا، وتسارعت الدقات بين ضلوع سليمان.
Page inconnue
ليس هذا أسلوبا يخطب به الفتى الفتاة إلى أبيها، ولم يكن الباشا يقدر أن وصفي سيخطب غير واحدة من ابنتيه، وانتفض قلب سليمان ذعرا متخيلا أن وصفي سيخطب سهير، ولم يتح وصفي لهذه المشاعر أن تبلغ مداها، بل سارع قائلا: لقد خطبت اليوم هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.
وتمالك الباشا نفسه في سرعة قادرة مرن عليها في مجالات السياسة والحياة، وقال: مبروك.
ولم يستطع أن يزيد، بل لم يستطع أن يشفع التهنئة بابتسامة، أي ابتسامة مهما تكن باهتة، قالها مبروك، بريئة من كل فرح، مجردة من كل معنى للتهنئة، أما سليمان فقد جاهد نفسه أن يخفي فرحته وأطلق: مبروك.
تحمل سرورا عاتيا راقصا، ولكنها مع ذلك لم تكن تحمل كل ما في نفسه من سرور.
وأحس وصفي راحة إلى إلقاء هذا النبأ، راحة الحيران التائه يصل إلى مستقر، مهما يكن هذا المستقر مخالفا لما كان يتمنى، ولكنه مستقر على أية حال! أحس أنه أتم عزمه، وتغلب على قلبه، وأطمأن إلى مستقبله في ظلال بيت هادئ لا تدور فيه أعاصير الهوى، وإن كان يتمنى أن تترقرق فيه نسمات من الحب الناعم، تنمو ولا تذوي، وتكبر مع الزمن، ولكن في هدوء ووقار وإيناس.
ولم يلبث وصفي كثيرا، فقد أحس بالصدمة التي يعانيها عمه من خيبة الأمل، وبالفرح الذي يعاني سليمان في كتمانه أن أمله قد يتحقق.
وما إن بلغ وصفي الباب الكبير، حتى التقى هناك مرة ثانية في يومه هذا بأم وديدة ذاهلة حائرة، تتخفى منه في بقجتها، وتميل عن طريقه في ازورار، وأحس وصفي في أعماق نفسه كرها لأم وديدة، كرها شديدا لم يعرفه لأحد من قبل، إنها هي، هي وحدها التي فرقت بينه وبين هواه، إنها هي التي وضعت هذا الحائل بينه وبين سهير.
وأدرك وصفي أن النبأ في طريقه إلى سهير مع بقجة أم وديدة، وأحس حينئذ أن سهير ستحس هذا البغض نفسه نحو أم وديدة، وأحس فؤاده يختلج في صدره خلجة الطير الجريح، إنه سيجتمع هو وسهير على كره أم وديدة في وقت معا، كما اجتمع هو وسهير على حب أم وديدة في وقت معا.
الفصل السادس
صعدت أم وديدة إلى الطابق الأعلى، وهناك لقيتها الأسرة جميعها بالترحاب، وبخاصة سهير التي راحت تدور حولها في فرحة نشوانة، يبتعثها في نفسها هذا اللقاء الذي مهدت له أم وديدة في أمسهم الذاهب، ولم يكن فرح سميحة أخت سهير بأقل من فرح أختها بأم وديدة، فقد طالما كانت تهمس أم وديدة لسميحة أن أختها الكبرى ستتزوج عما قريب، وعما قريب ستلحق هي بها وتتزوج من فتى أحلامها سامي، الذي لا يمنعه عن طلبها إلا أن أختها الكبرى لم تتزوج بعد، ولم يكن فرح الأم بأقل من فرح البنتين، فقد كانت أم وديدة تقرأ لها الفنجان، وتطمئنها أن فرحين لا واحدا سيقامان عما قريب، بعد نقط ثلاث فقط، في القصر، فيطمئن مضطربها القلق، ويهدأ ثائرها المفزع دائما بتلك القالة التي تشيعها أخوات بناتها من زوجة الباشا الأولى، من سهير وسميحة ستظلان عانستين بلا زواج.
Page inconnue
راحت البنتان تتواثبان حول أم وديدة، جاعلتين السبب الظاهر لفرحتيهما أنها قد جاءت لهما بما طلبته كل منهما في الأمس من ملابس وأقمشة.
واستقبلتها السيدة تفيدة في فرح هادئ شاع في وجهها كله، وأطل من عينيها الطيبتين، ومن صوتها وهي تقول بعد أن صفقت بيديها: يا بنت هاتي القهوة.
وواجهت أم وديدة هذا الاستقبال الفرحان بوجمة حزينة، ووجه شاحب كالثلج، وعقل مذهوب، وقد وضحت آلامها جميعا في صوتها وهي تقول: اعملي القهوة سادة يا نبوية.
واكفهر وجه الست الكبيرة وقالت: لماذا يا أم وديدة كفى الله الشر؟! - والله يا ستي كنت عند جماعة وسمعت - ويا شوم ما سمعت - حكاية - بعيد عنك - ومن ساعتها وأنا مخي داير وربنا يستر. - خير يا أم وديدة؟
وانطفأت الفرحة عن وجوه الأسرة جميعها، وارتمت الفتاتان إلى الأرض بجانب أم وديدة، واشرأبت إليها رأساهما، وجف فمهما، فما تطيقان كلاما، وما تطيقان صمتا. - خير يا أم وديدة؟ - والله يا ستات لا خير أبدا، لا إله إلا الله.
وقالت الست تفيدة: يا أختي قولي، نشفت ريقنا.
وخلست أم وديدة نظرة إلى سهير، ثم أطرقت وصعدت تنهيدة عميقة، وقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله، كان بودي يا ستي سهير أن يحمل غيري الخبر، ولكن لا عليك يا ابنتي، غيره أحسن منه.
وحملقت عينا سهير في أم وديدة، وأوشكت أن تصرخ «وصفي» ولكن أمسك بلسانها وجود أمها وأختها، وأمسك بها استدراك أم وديدة السريع بصوت رفعته حتى يطغى على ما قد يبدر من سهير: وصفي يا ستي الكبيرة، سيدي وصفي بك.
ودقت السيدة الكبيرة صدرها وهي تقول: ما له يا أم وديدة؟ ما له وصفي؟
وقفزت سميحة واقفة ذاهلة: ما لوصفي يا أم وديدة؟
Page inconnue
وبقيت سهير مكانها وكأنها تعرف أن وصفي بخير، وكأن الأمر لا يعنيها، فهي مطرقة تشتعل نفسها بنيران من الغيظ والألم والحسرة والكبر ذل من بعد كبر، والكرامة أهينت من بعد كرامة.
واستطردت أم وديدة: خطب يا ستي الكبيرة، خطب هند بنت إسماعيل باشا مصطفى.
وتمالكت الست الكبيرة نفسها في كبر وهي تقول: وما له؟
وحاولت سميحة أن تقلدها وهي تقول: آه، وما له؟
وقامت سهير إلى حجرتها في هدوء وبطء وفي وجوم، فكأنما وجهها قد من صخر فهو قاتم لا يبين عما يسده في نفسها من ثورات، حتى إذا خلت بحجرتها أقفلت الباب وأحكمت رتاجه، ثم ارتمت على السرير، شعلة لا تريد أن تخفف وقودها بماء، وإن كان هذا الماء دمعا، لا، وإن كان هذا الماء دما، إنها تريد شعلة نفسها أن تظل مشتعلة تحرق وتحرق، وإن يكن الوقود نفسها، وإن يكن الوقود حياتها، ارتمت على السرير وألقت بوجهها إلى الجدار الصلب، لا تذرف دمعة، ولا تفكر في شيء غير أمس عند القارب، وغير الأمسيات التي سبقت الأمس هناك، حيث قتلت كرامتها، وأهدرت كبرها، ولم تنل حبا لقاء كرامة، ولا وفاء لقاء كبر، فلتلتهب نيران الشعلة، ولتكن نفسها الوقود، وما النفس بلا كرامة، وبلا كبر، وبلا حب، وبلا وفاء.
لقد أدركت أن الذي قضى على مستقبلها هو لقاؤها بوصفي، مهما يكن لقاء بريئا، لقد كانت تعرف وصفي رجلا متشبثا بالتقاليد، يقدسها ويدافع عنها، ألم تكن تقرأ له مقالاته التي يعارض بها من يطالبون برفع الحجاب، أما كان هذا رادعا لها أن تلتقي به، ولكن هي أم وديدة أوحت إليها أن لقاء سيتم بينها وبين من تحب. وهيأت لها أنه أمر ميسور، فانصاعت في سذاجة الهوى، وفي رعونة الشباب الأولى.
صامتة سهير لا تبكي ولكن تشتعل وتحترق بلا نور من الشعلة، ولا بصيص من ضياء يبعثه الحريق، حريق أسود داكن كآمالها، كمستقبلها، كماضيها، كحياتها جميعا.
وطرق الباب فقامت إليه لم تسأل الطارق من هو وما يريد، وانفرج الباب عن سميحة التي دخلت صامتة وأقفلت الباب من خلفها، وسارت مع أختها إلى السرير، وعادت سهير إلى استلقائها، وجلست سميحة بجانبها: لا عليك يا ...
ولم تكمل سميحة الجملة، فقد كانت تدرك أن آمال سهير معلقة بوصفي، وقد كانت العائلة جميعها تذكي هذه الآمال بما تطلقه من شائعات وأقاويل، كانت تدرك ذلك، ولكنها كانت تجهل مواعيد أم وديدة ولقاء الأمسيات، لم تكمل سميحة الجملة، فقد وجدتها سخيفة لا تفيد شيئا، ولم تجد شيئا تفوته غير دمعات فاضت صامتة أول الأمر، ثم انفجرت عن بكاء ونشيج، راحت سميحة تكتمه بالوسادة، وقد ألقت وجهها إليها، وسهير صامتة لا تتكلم، وكأنما هي وحدها في الغرفة بلا بكاء جازع حزين قد ألقيت أختها في غمرته، وطرق الباب مرة أخرى وانفتح عن أم وديدة تقول: ستي سهير.
ولم تزد سهير على أن تقول: مع السلامة يا أم وديدة.
Page inconnue
وعادت أم وديدة في نغمة توشك أن تكون نغمة نصح: يا ستي سهير ...
ولم تكمل لفظ سهير، فقد قاطعتها سهير في صوت حازم يحمل مقتا ويحمل أمرا: مع السلامة يا أم وديدة.
وأقفلت أم وديدة الباب وانصرفت، وخلت الحجرة بالأختين مرة أخرى، ولكن سهير تريد أن تنفرد بنفسها، فهي تقول لأختها: اذهبي إلى حجرتك يا سميحة، أريد أن أنام. - ومن سيلبس أبي حين يعود؟
وقالت سهير في تصميم: أنا طبعا، سأصحو قبل عودته، اذهبي إلى حجرتك.
وفهمت سميحة أن أختها تريد أن تخلو إلى نفسها، فقامت وتركت لها وحدتها.
عاد الباشا متأخرا بادي التعب، وأحست سهير وقع أقدامه في البهو، فقامت إليه جامدة محاذرة أن تلتقي عيناه بعينيها، ودخلت معه حجرته ووقفت وراءه لتخلع عنه سترته.
وقال الباشا وهو يخلع ملابسه: لا أدري يا سهير لماذا أحس بتعب الليلة؟ - لعلك تحتاج إلى النوم يا أبي، أبي.
وقال الأب في إشفاق: نعم يا بنتي. - ماذا كان سليمان يعمل عندك اليوم؟
وأدرك الباشا ما يهفو إليه حديثها، ولكن لم يستطع أن يميل بالموضوع إلى آخر، فهو يقول متظاهرا بعدم الاهتمام: إنه يجيء كل يوم يا بنتي. - نعم أعرف!
وأدرك الباشا أنه لا بد له أن يلاقي الأمر مواجهة، فسكت حتى لبس جلبابه، وقعد على الأريكة، ثم نظر مليا إلى وجه ابنته وقال لها: أتعرفين ما تريدين يا سهير؟
Page inconnue
وقالت سهير: تمام المعرفة يا أبي. - لعلك غاضبة الليلة من أمر ما، فيحسن أن تتروي في الأمر، وتفكري فيه وأنت بعيدة عن الغضب لحظة، إنها حياتك يا سهير، حياتك كلها. - أبي، إذا كنت أنت لا تريدني أن أتزوج من سليمان فأمرك، ولا أخرج عن أمرك، أما أنا ... أما أنا ...
وجمعت كل قواها الباقية لتكمل الجملة قائلة: أما أنا فأقبله يا أبي. - أواثقة أنت يا سهير؟ - كل الثقة يا أبي، إني أقبله.
وكان الباشا صادقا مع نفسه، وصادقا مع قومه، لقد قبلت ابنته الزواج من سليمان، ولا بد له أن يوافق، فهو ابن أخيه ولا يستطيع أن يرفضه، وقد كان أمله الوحيد في الرفض معلقا بابنته، ولكن ها هي ذي تقبل، فماذا بقي له؟ إنها حياتها، وهي فيها حرة، ويل لها من الأيام، أيكون سليمان زوجا لابنتي هذه؟ ويل لها من الأيام!
الفصل السابع
أصبح الصباح على الباشا، فإذا بوعكة الأمس تصبح مرضا، فهو لا يطيق أن يبرح فراشه، وجاء الأطباء واجتمعوا حول سرير الباشا وقرروا ألا يبرحه لمدة شهر على الأقل، ووصفوا له العلاج وخرجوا، وانشغل المنزل جميعه بمرض الباشا، ونسيت السيدة تفيدة في غمرة علاج الباشا ما كان بالأمس من خطبة وصفي، وانشغلت سميحة بأبيها أيضا، أما سهير فقد راحت تنفذ أوامر الأطباء في صرامة قاسية، باذلة أقصى جهدها في خدمة أبيها، ولكن دون أن تنسى، وكيف لها أن تنسى؟!
ومرت أيام والدار مقصد زوار لا ينقطع لهم سيل، فأما في الدور الأعلى فسيدات الأسرة حزنهن حزنان، حزن لمرض الباشا، وحزن يظهرنه - وإن لم يتمكن في نفوسهن - لخطبة وصفي لغير سهير.
وكانت بنات الباشا الكبيرات مع الزائرات، وإن كن يطلن من أمد الزيارة، وقد يطيب لإحداهن أن تغيظ زوج أبيها، فتبيت ليلة أو أكثر من ليلة في قصر أبيها، وكن إذا جلسن إلى زوج أبيهن أبدين أسفا لمرض أبيهن، وأسفا آخر مستترا بالحديث الملفوف لخطبة وصفي، مبديات انشغالهن على مصير أختيهن، حتى إذا خلت بهن حجرة، راحت كل منهن تبدي سخريتها المرحة لما أصاب القصر من مصائب ، مرددات أن هذه المصائب إنما هي ذنب أمهن المسكينة التي تزوج أبوهن عليها دون ذنب أو جريرة، ولكن هذا لم يمنعهن أن يشفقن على أبيهن، وأن يتمنين له الشفاء.
وأما الدور الأسفل فقد كان يحفل بالرجال، لا يصعد أحد منهم إلى الدور الأعلى، فإن الباشا كان لا يلقى أحدا، وأحد لا يستطيع أن يصعد إلى الدور الأعلى ما دام الباشا لا يلقاه، فما تلقى السيدة إلا إخوتها هي دون إخوة الباشا، فهم لا يصعدون، وإنما يمكثون بالدور الأول يتعرفون الأخبار من الأطباء حين نزولهم، ويلقون الزوار ويشكرون زيارتهم، كان رجال الأسرة جميعهم يلتقون بالدور الأول ويظلون به الساعات، لا فارق ثمة بين إخوة الباشا وأبناء إخوته وبين غيرهم من أفراد الأسرة، فالجميع له إخوة وأبناء إخوة.
وكان وصفي وسليمان على حالهما من المواظبة، يظلان بالقصر ما اتسع لهما الوقت، وكانت خطبة وصفي قد عرفت في مجال الأسرة، فراحت التهنئات تترى إليه، ولكنها تهنئات ذاهلة، أذهلها إخلاف الخطبة لظنونهم، وأذهلها انتظام وصفي في المجيء إلى دار عمه رغم خطبته، وكانت تهنئات واجمة أيضا؛ فقد كان مرض الباشا يخيفهم جميعا.
لم يكن سليمان يعلم ما جرت به الأمور بعد خطبة وصفي، ومن أين له أن يعلم؟! ولكن آماله كانت قد تضخمت، فهو أكثر رفعا للكلفة في القصر، وهو من يجلس في الشرفة الخارجية ليكون أول مستقبل للزوار، وهو من يودع الزائر حتى عربته أو سيارته.
Page inconnue