L'Appel de la Vérité
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genres
ولن يمكنك أن تتابع تحليلاته للهم - أو للإنسان الذي يهتم بوجوده - حتى تتخلص من كثير جدا من التصنيفات المألوفة والمفاهيم التقليدية، ولعل هذا أن يكون من أسباب صعوبته وما يبدو لديه من تعسف للكلمات والنصوص ولي أعناقها! ومن لم يتعود على هذه الرؤية الجديدة فسيظل يتخبط في فلسفته كما يتخبط المكفوف بين الألوان التي تحاول عبثا أن تشرحها له! ولو قرأته بإمعان وصبر وبغير أفكار مسبقة، كما يتطلب المنهج الظاهراتي الدقيق، فلن تجد لديه عدمية ولا سلبية ولا قدرية، بل تصميما وسعيا متصلا إلى تحقيق الوجود الأصيل، إنه فيلسوف وجود قبل كل شيء، بعيد عن أي تقويم أخلاقي، وكل هدفه من تحليلاته الأنطولوجية الخالصة أن يصل إلى معنى الوجود العام أو يجد طريقا يوصل إليه، ولهذا لم يخطئ الذين سموه أرسطو العصر الحديث، ولا أخطأ الذين قالوا: إننا نتعلم منه شيئا لا نتعلمه إلا من كبار الفلاسفة منذ أفلاطون إلى كانط وهيجل؛ ذلك هو القدرة على التفلسف وطرح السؤال وإثارة الفكر. وهذا هو الذي يبقى مما يؤسسه الفلاسفة، إن جاز لنا أن نتصرف في عبارة هلدرلين عن الشعراء! والمهم بعد كل شيء أن نتعلم منه كيف نفكر، لا أن نتركه يفكر لنا، وأن نفكر معه وضده إذا اقتضى الأمر لا أن نفكر مثله، ونحن بالذات أحوج ما نكون إلى معرفة هذا. (5)
سيلاحظ القارئ أن هيدجر ينطلق في تحليلاته الأنطولوجية للوجود الإنساني من الحياة اليومية أو «الموقف الطبيعي» الذي نحياه جميعا، مبتعدا بذلك كل البعد عن المنطلق العقلاني-الديكارتي من الوعي أو الفكر أو المعرفة أو العقل، وهذه التحليلات للوجود - في العالم والوجود - بالقرب من الأشياء والمعية والأداتية ... إلخ؛ تعد من أثمن ما قدمه هيدجر للحياة الفلسفية، ولكننا سنلاحظ مع ذلك أنه يسرف في الكلام عن ألوان «السقوط » في هذه الحياة اليومية المبتذلة، و«الضياع» وسط «الناس»، إلى جانب عدم التزام الدقة في تحديد الكلمات اليومية الغامضة تحديدا منطقيا محكما.
هل معنى هذا أنه خرج عن تحليلاته الوجودية الخالصة؟ وهل أصدر أحكاما تقويمية على «الناس» على العكس مما صرح به دائما من أن بحوثه الأنطولوجية لا علاقة لها بأي نوع من التقييم أو التقويم؟ ربما وجدت أنني تجاوزت هذه التحليلات إلى شيء من التقويم الذي أعترف أنني اندفعت إليه تحت تأثير الظروف العامة أو الخاصة التي أعيش فيها، وربما يكون هذا تعبيرا عن سعيي إلى «الوجود الأصيل» وإيماني بأن مهمة الفلسفة الكبرى والفكر بوجه عام أن تهدينا إليه، لا شك أنني تخطيت الحد الذي وضعه هيدجر، ولكن ألم يتجاوزه هو نفسه بتحليلاته لهذا السقوط؟ أيمكن أن يفصل الوجود عن القيمة، والأنطولوجيا عن الأخلاق؟ إن السؤال ما يزال مطروحا على كل حال، ويؤيد ظني ما نجده في كتابات هيدجر المتأخرة من هجوم عنيف على الحس السليم وإصرار على أن التفلسف لا يبدأ إلا بالتخلص منه وإعلان الحرب عليه! (6)
يوشك هيدجر أن يكرر كلمة «الوجود» في كل سطر يكتبه! ولهذا لا بد أن نحاول إلقاء الضوء على هذه الكلمة، ويمكن أن نلاحظ بوجه عام أنه يستخدم الكلمة بمعناها الكلي الأفلاطوني؛ أي بمعنى وجود الموجود دون معناها عند أرسطو وهو الموجود بما هو موجود، والواقع أنه يمضي في الكلام عن الوجود دون تحديد منطقي له؛ إذ إن الكلام عن الوجود بهذا الأسلوب الأفلاطوني على أنه موضوع يفترض وجودا سابقا عليه؛ هو وجود الوجود وهكذا إلى ما لا نهاية كما بين فرانز يرنتانو بحق، أضف إلى هذا أنه لا يميز بين المعاني المختلفة التي تستخدم كلمة «يوجد» أو «يكون» في عباراتنا اليومية، فهي أحيانا تكون رابطة كما في قولنا مثلا: «السماء «تكون» زرقاء»، وأحيانا تشير إلى العضوية في فئة معينة كأن نقول مثلا: «طه حسين أديب» أو «الأسد حيوان صحراوي» إلى غير ذلك من الاستخدامات التي يرمز لها المنطق الرياضي بعلاقات الهوية والتضمن والعضوية في الفئة إلى جانب استخدام الكينونة من ناحية الجهة كالإمكان والضرورة ... إلخ، وغير ذلك من الحالات التي لم يعن هيدجر بتمييزها بوضوح قبل الشروع في بحوثه الأنطولوجية.
هذا إلى استخدامه لكلمة العدم، خصوصا في محاضرته عن الميتافيزيقا ، وكأن العدم موضوع أو اسم، على الرغم مما ينطوي عليه هذا من مشكلات منطقية عديدة تنجم عن استعمال اللغة اليومية الغامضة ونحوها غير الدقيق، أو عن استخدام نفس الكلمة بمعنى واحد في المجالين العلمي والعادي معا دون تمييز، أو إضفاء شحنات عاطفية على كلمات لا تحتملها أو بمعنى مختلف تمام الاختلاف عن معناها المألوف في التراث، في الوقت الذي كان من الممكن أن ينحت لها كلمة جديدة ... إلخ.
5
ولو نظرنا من الناحية التاريخية لرأينا أن وجود الإنسان الذي يقصده هيدجر؛ بعيد عن تصور فلسفة الحياة له أو تصور الشخصانية «عند شيلر مثلا» أو المثالية الهيجلية، فليس هذا الوجود منبعا خلاقا للحياة ولا روحا مطلقا، ولا حياة شاملة أو عقلا كونيا يمكن أن يحتضن الإنسان ويطويه ويؤمنه من الخطر؛ ذلك لأن الوجود الذي يقصده هيدجر هو من ناحية «إمكان» على الإنسان أن يحققه بالتصميم والتجمع، أو يخطئه بالتراخي والنسيان والضياع وسط الناس، وهو من ناحية أخرى شيء بسيط، غير محدد وفارغ من كل مضمون، وعلى الإنسان دائما أن يقفز القفزة التي تنقله من الوجود غير الأصيل - الذي يحيا فيه معظم حياته من مولده إلى مماته - إلى الوجود الأصيل، والشيء الذي يحتاجه للقيام بهذه القفزة لا يتصل بالقيم السلوكية ولا بتصعيد القوة الحيوية، كما عند نيتشه؛ إذ هو في صميمه تحول كامل يؤدي بالذات إلى انتشال نفسها من السقوط في ابتذال الحياة اليومية والضياع بين الناس. (7)
ما هو الوجود؟ كيف نعرفه؟ ولكن السؤال خاطئ، فقد تعودنا على تصور أن الموجود هو وحده «الواقعي»، وأن ما لا نتثبت من وجوده فهو غير واقعي، غير أن الوجود ليس هو الموجود (وهذا هو الاختلاف أو الفارق الأنطولوجي الأساسي بينهما)، وهو كذلك ليس «موضوعا»، ولا يمكن تصوره كما نتصور الموضوع (لهذا استطاع هيدجر في محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» أن يتكلم عن العدم دون أن يخطر بباله أن يدعو للعدمية كما تصور الكثيرون ممن أساءوا فهمه؛ لأنه أراد به ما يعد غير موجود إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الموجودات، وإن كان هو الذي يؤدي بنا إلى «الآخر» بالقياس إلى كل موجود، ونقصد به الوجود نفسه).
ونعود فنسأل: كيف يمكننا التفكير في هذا الوجود؟ كيف يمكن تصوره؟
إن مشكلة الوجود قائمة وستظل قائمة، والمهم عند هيدجر هو التفكير فيها. وهذا هو الذي وضعه نصب عينيه منذ أن بدأ تفلسفه، وكان من الطبيعي أن تحتل مشكلة الميتافيزيقا النصيب الأوفى من اهتمامه؛ فقد كانت مشكلة الوجود هي الشغل الشاغل للميتافيزيقا؛ لأنها بحسب تعريفها تتجاوز الموجود بالفكر، أي إلى ما يجعل الموجود موجودا، وقد تحقق هذا في فلسفة أرسطو بصورة ملزمة لمن جاءوا بعده، فقد سئل عن الموجود من حيث هو موجود، وكانت إجابته هي الموجود الأسمى أو الله، ولهذا بين هيدجر الطابع الأنطولوجي-اللاهوتي لفلسفة أرسطو بكل وضوح، وهو طابع يميز أسلوب الميتافيزيقا كلها التي ظلت تبحث عن الوجود بينما هي تعني به الموجود، وهيدجر يريد لهذا السبب أن يعلو فوق الميتافيزيقا أو «يقهرها» ويتخطاها بحيث لا نعود نفكر تفكيرا ميتافيزيقيا، ولكن هل يريد أن يعلو فوقها على نحو ما أراد «فشته» مثلا أن يتجاوز الإشكال الكانطي بتجاوز ما ذهب إليه من عدم إمكان معرفة الشيء في ذاته؟ ليس هذا هو ما يريده، وهو لا يضع موجودا أسمى مكان آخر، وإنما يريد أن يحدث تحولا في التفكير، هذا التحول عسير؛ لأن من الصعب التعبير عنه بلغة الميتافيزيقا؛ ولهذا نجده يضع مشروعا لم يختره اتفاقا، وإنما وجده في بداية الفكر الغربي قبل نشأة الميتافيزيقا على يدي أفلاطون وأرسطو، ومن هنا كانت عنايته بالمفكرين قبل سقراط، هؤلاء الذين علمونا - في رأيه - كيف ننصت لصوت الوجود وننتبه إلى ندائه. وحبه لهيراقليطس، كما تعبر عنه إحدى الدراسات المنشورة مع النصوص، شاهد على هذا، أهي عودة إلى القديم وإنكار للتطور الذي تم في تاريخ الفلسفة؟ هذه هي التهمة التي لا يفتأ نقاده يوجهونها إليه، ولكنها في الواقع أبعد ما تكون عن باله، فهو لا يرجع للقديم لقدمه ولا يحاول بعث نصوصه وإحياء دراسته، وإنما يريد الوقوف على التجربة التي حركت هؤلاء المفكرين الأوائل، والعودة على نبع الاندهاش الذي جعلهم يسألون لأول مرة، كما جعل سؤالهم يشع ببريق أطفأه التفكير المنطقي اللاحق، صحيح أن بريق هذا السؤال قد خبا مع الزمن، والمدهش ما عاد يثير فينا الدهشة، ولكن هذا حدث تاريخي أو قدري كامن في تاريخ الميتافيزيقا نفسها، أي في تاريخ الفكر الغربي، وعلينا ألا نقبله أو نسلم به، بل علينا أن نحاول بعث التساؤل الأصلي عن معنى الوجود الذي يفيض نوره على الموجودات، ولولاه ما أمكن أن تظهر نفسها ولا أن تراها عيوننا، ولا يخطرن ببالنا أن تخلي هيدجر عن الإطار التقليدي يعني أنه يستخف بها أو يلغيها وينكرها، وكيف له أن يفعل هذا وهي قدره وقدر الإنسان الغربي والإنسان الشرقي والعربي الذي شارك فيها وأضاف إليها وارتبط بها؟ إنه لم ينقطع عن الحوار مع هذه الميتافيزيقا، وإن حاول دائما أن يتجاوزها و«يقهرها»، وهو مقيد بتراثها ولغتها، وإن حاول أن يغادر أرضها ويتحرر من لغتها، ويكفي أن نطلع على تفسيراته العديدة لأعلام التراث الغربي من أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز وأفلاطون وأرسطو إلى ديكارت وليبنتز وكانط وهيجل وشيلنج حتى نيتشه الذي اعتبره نهاية الميتافيزيقا وطرف قوسها الذي امتد من أفلاطون إليه! وإذا كان هناك من نقد يوجه إلى هذه التفسيرات فهو أنها تفرض على هؤلاء الأعلام جوا وجوديا وشعورا بالحياة غريبا عليهم، فتفسير كانط مثلا ابتداء من فكرة التناهي تفسير هيدجري بحت؛ لأن كانط - وهو فيلسوف التنوير بأسمى وأجمل معاني هذه الكلمة - يقصد نهائية المعرفة البشرية وضرورة التزام العقل حدا يقف عنده. أما التناهي عند هيدجر فهو هاوية يتجمع فيها القلق والذنب والسقوط وإحساس الإنسان بموته المحتوم، وما أبعد الفرق بين النهايتين! وأما عن تفسيره للحقيقة (أو الأليثيا) عند الفلاسفة قبل سقراط بأنها الإنارة أو الكشف، فلا شك أنه تفسير فرضت عليه أفكار أفلاطونية محدثة جاءت متأخرة عن هؤلاء الفلاسفة، أو بالأحرى هؤلاء المفكرين في الوجود، ربما قلت: إن كل تفسير لا يخلو بالضرورة من جانب ذاتي أو تعسفي، وهذا أمر بشري لا حيلة لنا فيه، هذا صحيح، غير أن المسألة في النهاية مسألة تقدير وميزان، فتفسيرات هيدجر ترجح فيها كفته دائما، بحيث يوشك تاريخ الفلسفة أن يصبح مرآة تنعكس عليها صورة شخص واحد هو هيدجر نفسه! أليس من الغريب أن يظلم التاريخ على يد فلسفة تشيد بالتاريخية؟ (8)
Page inconnue