مقدمة الطبعة الثانية
تمهيد
طريق الفكر
السؤال عن الوجود
النصوص
ماهية الحقيقة
نظرية أفلاطون عن الحقيقة
أليثيا
أهم المصادر
مقدمة الطبعة الثانية
تمهيد
طريق الفكر
السؤال عن الوجود
النصوص
ماهية الحقيقة
نظرية أفلاطون عن الحقيقة
أليثيا
أهم المصادر
نداء الحقيقة
نداء الحقيقة
مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
إلى فؤاد زكريا،
الصديق الكبير، والفيلسوف الحق.
مقدمة الطبعة الثانية
عندما يصل هذا الكتاب إلى يديك، تكون قد مرت خمس وعشرون سنة على صدور طبعته الأولى، وعلى رحيل الفيلسوف مارتن هيدجر عن دنيانا (في يوم الأربعاء الموافق للسادس والعشرين من شهر مايو سنة 1976م)، ولقد طوى القرن العشرون صفحاته ودفاتره، وأسلم ليد الذكرى أوراقه السوداء - التي امتلأت بثوراته وحروبه، وصراعاته وأيديولوجياته، ونكباته وأزماته ومواجعه - كما أودعها أوراقه المذهبة بأسماء عدد كبير من المفكرين والعلماء والأدباء والمصلحين والمبدعين الذين تزهو البشرية بإنجازاتهم في شتى الميادين. من يدري ماذا سيبقى في ذاكرة الأجيال القادمة من أعياد هذا القرن ومآتمه؟ ومن يدري إن كانت ثوراته التاريخية وأحداثه السياسية الكبرى لن تسقط في ليل الخواء والعدم، فلا يبقى لمن يعبر نفقه بأجنحة الخيال والتذكر بعد عشرات السنين أو مئاتها، سوى نقاط خافتة الضوء، أشبه بالأنوار المرتعشة للمنارات البعيدة على شواطئ بحر لا متناه، ترسلها عيون بعض الشخصيات التي عاشت في هذا القرن، وأضافت إلى رصيده كنوزا ورموزا باقية، من هذه الشخصيات ذات العيون المضيئة تطل علينا النظرات الجادة الحزينة لهيدجر الذي عاش محنة القرن، وكان - بعد أفلاطون وأرسطو - واحدا من أعمق من سأل السؤال الفلسفي عن الوجود.
لم تزل الحياة الفلسفية والثقافية منذ وفاة هيدجر وحتى يومنا الحاضر مشغولة بفكره، ولم تزل تقلب النظر في جوانبه المختلفة وإشكالاته التي تركها وراءه، وقد انتشرت أصداء هذا الفكر في آسيا - لا سيما اليابان - وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأخذ الناطقون بالإنجليزية يحتفون به، وينقلون نصوصه عن آخرها إلى لغتهم بعد أن أداروا له ظهورهم زمنا طويلا، ورفضوه بحجة غموضه الصوفي وصعوبة لغته، وتزايد الاهتمام الهائل به في فرنسا
1
لدى أنصاره وخصومه على السواء، وعند الوجوديين والبنيويين والتفكيكيين والفلاسفة الجدد، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتاب والشعراء، على رأسهم صديقه رينيه شار، وتطرق الدارسون إلى العديد من الموضوعات المتشعبة التي تتعلق بمدى أصالة فلسفته وتأثيرها (كعلاقتها بالماركسية عموما وتأثيرها على الماركسية الجديدة، أو الماركسية الهيجلية والوجودية كما تسمى أحيانا عند أصحابها من رواد مدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية، على الرغم من الهجوم الشرس الذي شنه عليه واحد منهم - وهو أدورنو - في كتيبه اللاذع عن «لغو الأصالة»)، كما تتعلق بقدرتها على الحياة في الحاضر والمستقبل بعد أن زادت محنة العصر التقني التي طالما حذر الفيلسوف منها في أواخر حياته، وأصبحت قضية بقاء الأرض والجنس البشري أو اندثارهما - لا بقاء الحضارة الغربية العلمية والتقنية وحدها - هما كبيرا ومشكلة مطروحة على ساحة البحث والمناقشة، وازدادت عزلة الناس عن بعضهم البعض وصدامهم العنيف أيضا مع بعضهم، وعمت الشكوى من أخطار التلوث وأسلحة الدمار الشامل، وتخريب خضرة الأرض، والتعصب والإرهاب والإحساس العام بالاقتلاع من الجذور، والاغتراب عن النفس والمجتمع والعالم والوطن والسكن ... بحيث تفاقمت المحنة التي تحدث عنها فيلسوف زمن المحنة واتخذت أبعادا مهلكة، وارتدت أردية مدمرة تذكرنا بالرداء المسموم الذي نسجته إليكترا المهجورة للزوج الغادر الذي خانها وتخلى عن أطفاله فانتقمت منه بقتلهم أيضا.
من أراد أن يفهم الشاعر، فليذهب إلى بلد الشاعر.
من أراد أن يفهم الشعر، فليذهب إلى بلد الشعر.
بهذين البيتين الشهيرين للشاعر «جوته» نبدأ محاولتنا لتقديم هيدجر والتعريف بالملامح الأساسية لفكره، ويجدر بنا قبل ذلك أن نستجيب لدعوة الشاعر الحكيم، ونزور البيئة التي نشأ على أرضها وحرص على العيش فيها طوال حياته، أي أن نعبر إليه من فوق العتبة الفلسفية الخلفية
2
فنلقاه وجها لوجه، ونتحدث إليه ونجلس معه، ونرى بأعيننا المكان الذي تعودت أن تراه عيناه، والفلاحين البسطاء الذين أحبهم وتعاطف معهم، ووجد متعته الحقيقية في الكلام معهم، وتدبر مشاغلهم ومشاكل حياتهم (إلى الحد الذي زعم فيه بعض خصومه الساخرين أن فلسفته هي فلسفة الأرض الريفية التي أحبها، وأن ميتافيزيقاه ليست سوى ميتافيزيقا بلدته الصغيرة الراقدة في حضن الغابة السوداء).
ولد مارتن هيدجر سنة 1889م في بلدة مسكيرش التي تقع بالمنطقة «الألمانية» من ولاية بادن-فيرتمبرج بجنوب ألمانيا، وتقع البلدة والمدينة والمنطقة في ظلال الغابة السوداء التي تنبسط في واديها المدينة الجامعية الهادئة «فرايبورج» وضواحيها وقراها الصغيرة المتناثرة، كما تزهو بجبالها الشامخة إلى ذرى عالية، من أهمها وأشهرها «الشاونزلاند» و«الفلدبرج» الذي بنى الفيلسوف على منحدره كوخه الشهير الذي أصبح خلوته ومزار المهتمين بفكره من كل أنحاء العالم، في هذا الكوخ في «توتناوبرج» دون كتابه الأكبر «الوجود والزمان» (1927م) في أسابيع معدودة، كما عكف بعد ذلك على معظم بحوثه ومحاضراته ورسائله؛ كوخ فقير متواضع ربما يذكرنا بصوامع الصوفية وأكواخ حكماء الصين القدماء، أثاثه أبسط أثاث ممكن، كراسي وأرائك من خشب الغابة، وأسرة «أسبرطية» البساطة والخشونة، وماء لا يجري في المواسير بل يحتاج لمن يجلبه من نبع مجاور، ما أكثر ما قضى الرجل في كوخه أسابيع طويلة في وحدة مطلقة، يعكف على عمله، ثم يجلس على أريكة موضوعة أمام الكوخ لنتأمل الجبال والوديان والسحب الخفيفة العابرة والثلوج البيضاء التي تنشر عليها أجنحتها في فصل الشتاء وتجذب إليها هواة التزحلق من كل أنحاء العالم الغربي (وقد كان هو نفسه في شبابه وكهولته من هواة هذه الرياضة الخطرة الممتعة).
وتتجمع الأفكار وتنضج، فيدخل كوخه ليستأنف عمله أو يذهب إلى المطعم الصغير القريب منه ليسترسل في حديث لا ينتهي مع الفلاحين الذين يحبونه ويجلونه ويتبسطون معه، وإن لم يخطر في الغالب على بال واحد منهم أن يحاول قراءة سطر واحد من لغته الغربية المعقدة، الصادرة عن فكر جاد وعسير، لا يفتأ يجتر نفسه ويمتح من نبعه الخاص العميق، مكتفيا بوحدته، ومنكفئا على نفسه المفطورة على الاكتئاب الذي يشع الأسى والكمد على قسمات وجهه وأخاديده الغائرة ونظراته المتشككة المتكبرة.
ولعل معرفته المبكرة والصادقة بطبيعة معدنه وغرابة النواة الكامنة في أعماق كيانه هي التي جعلته ينأى بنفسه عن الحياة العامة، ويمتنع عن بذل أدنى جهد للوصول لما يسمى بالرأي العام أو الاتصال به، فلم يكد يشارك - إلا فيما ندر - في المؤتمرات الفلسفية التي تعقد في بلده أو خارجها، ولم يفكر أبدا في شغل منصب مرموق في جامعة أخرى أشهر أو أعرق من جامعته (وقد رفض الدعوة التي وجهت إليه مرتين لشغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة برلين الحرة)، ولم يسع لحظة واحدة من حياته للدخول في زحام السوق الثقافية ليبحث كغيره عن الرواج والشهرة والسلطة ... لقد آمن طوال حياته بأن خطاب الفكر غير سلطوي بطبعه، وأن الفكر هو محنة المفكر الوحيد الذي هو أبعد الناس - أو ينبغي أن يكون أبعدهم! - عن التاجر النشط والواعظ اللبق والغوغائي الفظ، كما أنه تشكك على الدوام في إمكان تأثير الفلسفة بوجه خاص على تغيير الواقع بطريقة مباشرة؛ لأن أقصى ما يملكانه هو أن يحولا القارئ والمتلقي من جذوره نحو الوجود والحقيقة.
3
والمرة الوحيدة التي توهم فيها أنه يمكن - بسلطة العقل والفكر وحدهما - أن يتزعم غيره أو يقوده قيادة روحية نحو انطلاقة جديدة أو بعث جديد، هذه المرة الوحيدة التي استسلم فيها لوهم النازية الزائف لعدة شهور لم تزد على العشرة - كما سوف نرى فيما بعد - كانت غلطة بشعة دفع ثمنها الغالي بقية حياته؛ فلزم الصمت المطلق وابتعد بنفسه كل الابتعاد عن شرور السياسة وزلاتها المدمرة؛ ولهذا قضى الشطر الأكبر من حياته مخلصا لعمله الجامعي وتلاميذه ومريديه ووحدته النادرة في كوخه الشهير على منحدر الجبل الشاهق وسط الغابة السوداء.
يرى هيدجر أن الفكرة لا ينبغي أن تبقى مجردة ومكتفية بنفسها، بل ينبغي أن تتغلغل في نسيج كيان الإنسان وتدخل في صميم وجوده؛ بحيث تحوله بكليته وفي حياته الخاصة والعامة، لا شك أن هذه النظرة إلى الفكر قد أشعلت في أفكاره نيران اليقظة والعمق والجدية والحيوية إلى الحد الذي أوقعه - كما سبق القول وكما سيأتي بالتفصيل - في الوعي الزائف الذي صور له أن فكرته - التي عرضها في الوجود والزمان - عن الصمود والتصميم البطولي في مواجهة الموت على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل - يمكن أن تتحقق أو أن تكون قد تحققت بالفعل في الحركة القومية الاشتراكية التي عرفت باسم النازية، وقد كفر عن هذا الوهم الكاذب والوعي الزائف - كما سبق القول أيضا - بالعزل من منصبه وإيقافه - من قبل السلطات الفرنسية التي احتلت الجنوب الألماني بعد الحرب - عن التدريس بالجامعة، فضلا عن ملازمته للصمت المطبق عن حقيقة موقفه في دولة الرايخ الثالث، فلم ينطق بكلمة واحدة إلا بعد مرور أكثر من عشرين سنة على انتهاء الحرب، وذلك في حديث لمجلة معروفة أوصى بعدم نشره إلا بعد موته، وسوف تقرأ ملخصا له في نهاية هذا التقديم.
بلغت فاعلية أفكار هيدجر وتأثيرها الجارف ذروتين عاليتين، ارتفعت الأولى في العشرينيات من القرن الماضي، والأخرى خلال السنوات الممتدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى رحيله في شهر مايو سنة 1976م في بيته بمدينة فرايبورج.
أما المرحلة الأولى - التي تجد ملخصا وافيا لأهم أفكارها في النصف الأول من هذا الكتاب - فقد بلغت تلك الذروة مع صدور كتابه الأكبر «الوجود والزمان» - ومع أن الكتاب لم يظهر منه سوى جزئه الأول، وبقي الجزء المنتظر عن الزمان والوجود مجرد شذرات تمثلت في بحوث ورسائل عديدة متتالية؛ فقد وقع الكتاب على أرض الحياة الفلسفية وقوع الصاعقة الخاطفة، وبوأه مكانة مرموقة في الحياة الفلسفية.
وقد كان أهم ما اهتم به هيدجر في هذا الكتاب - كما سيرى القارئ بنفسه - هو إعادة الحياة إلى السؤال الأساسي عن الوجود، وهو السؤال الذي سبق أن قال عنه أفلاطون إنه خاض من أجله صراعا يشبه الصراع مع العمالقة، لكن إحياء السؤال لم يكن معناه - كما حدث منذ أرسطو وحتى هيدجر نفسه - هو معالجته كمشكلة مجردة، ولا هو التحليل التقليدي للمقولات التي ينضوي تحتها الشيء أو الموجود، بل كان هو النظر في معنى الوجود من خلال علاقته بالإنسان وعلاقة الإنسان به وفهمه المسبق والمباشر له؛ لهذا تحتم على الفيلسوف أن يبدأ بالكلام عن أهمية طرح السؤال المنسي، وعن فهم الإنسان له ووجود هذا الإنسان ومقولاته (أو لنقل وجوداته!) الأولية فيما سماه بالأنطولوجيا الأساسية ، وكان عليه أن يتحدث عن الموجود الإنساني الملقى به في العالم
4 (أو الدازاين) في حياته اليومية وتعامله مع الأشياء والأدوات، وسقوطه في اللغو والثرثرة والفضول التي تطغى على الحياة البشرية العادية.
وقد قابل الفيلسوف ذلك السقوط بإمكانية توصل الإنسان إلى ذاتيته الحميمة ووجوده الأصيل وحريته في الاختيار من خلال تجربة القلق الذي يستشعره ويعانيه في كل لحظة في مواجهة الموت والعدم المحتوم الذي لا يعرفه موعده؛ بذلك قدم تفسيره الوجودي للواقع والحاضر المتردي في حضيض بغير قرار، كما قدم تحليلا عميقا لزمانية الموجود الإنساني الذي «يشرع» نفسه أو يتجه على الدوام صوب المستقبل.
واصل هيدجر بعد «الوجود والزمان» معالجة فكرة الوجود في كتابات مختلفة، ومن زوايا متعددة، وانشغل بمشكلات منهجية طرحها في أعماله الثلاثة «ما الميتافيزيقا» و«رسالة عن النزعة الإنسانية» و«الهوية والاختلاف» (الذي يدور حول الفارق الأساسي بين الوجود ذاته، وبين الموجودات المتنوعة) وتفرغ لدراسات عديدة في تاريخ الفلسفة (عن أنكسمندر، وبارمنيدز، وهيراقليطس، وأفلاطون، وأرسطو، وديكارت، وكانط، وهيجل، ونيتشه) كما شرح وأول بعض القصائد لعدد من الشعراء الألمان (ومن أهمهم على الترتيب: هلدرلين، ورلكه، وستيفان، جئورجه، وتراكل، وجوتفريد بن) بجانب مشكلات أخرى عن اللغة والفن والتقنية (راجع الفصول الأخيرة من هذا الكتاب)، وأدرك هيدجر من كل هذه المحاولات أن التفكير الحقيقي في الوجود لن يتم عن طريق التفكير في الإنسان، وأن العكس من ذلك هو الأصح؛ أي عدم التفكير في الوجود من جهة الإنسان، بل التفكير في الإنسان وفي الواقع المتناهي بأكمله من جهة الوجود، وتوصل في هذه الأثناء إلى الصيغة التي سنقف عندها على الصفحات التالية، وهي «رجعة» الفكر أو عودته للوجود نفسه. وقد راح يكافح طوال العقود الأخيرة من حياته لتوضيح هذه الفكرة دون أن تخرج في تعبيره عنها من ضباب الغموض الذي يقترب - في تقديري على الأقل - من غموض الغنوص أو نزعة الإشراق الصوفية، والمهم أن الأمر بعد التحول إلى «الرجعة» لم يعد يتعلق بالإنسان، الذي زعزعه هيدجر عن موقعه الذي كان يحتله في الفلسفات الذاتية العقلانية والإرادية منذ ديكارت وحتى نيتشه والفلسفة الوجودية المعاصرة (عند سارتر وغيره) بل أصبح كل شيء يتعلق بالوجود.
فإذا سألناه أن يقول لنا شيئا محددا واضحا عن هذا الوجود، وجدناه يعزف أنغاما متنوعة على أوتار الحيرة والالتباس، وربما اقتربنا قليلا مما يقصده بالوجود لو سلكنا سبيل السلب والنفي - على طريقة ما يسمى باللاهوت السلبي - فقلنا إنه ليس هو «الله» ولا هو «أساس العالم» وإنه - أي الوجود - مختلف عن أي موجود، وإنه حدث متحقق وجامع لكل ما يتصف بأنه موجود، في هذا الحدث، أو هذا القدر التاريخي كما يصفه أحيانا، يتكشف الوجود والإنسان؛ إذ هو «اللاتحجب» الذي يحدث أو يتحقق أو يتجلى في العالم بأشكال مختلفة، ومن ثم يكون الوجود هو «الإنارة»، ويكون الشعر والفلسفة من أساليب إنارة الوجود-في- العالم أو على حد تعبيره من «الأقدار» التي يقدرها تاريخ الوجود على لسان شاعر أو مفكر معين، وفي مجتمع أو عصر بعينه، وعلينا ألا ننسى في كل الأحوال أن هذه الإنارة أو ذلك التكشف للعالم من طوايا التحجب والكمون لا يحدث من جهة الإنسان، وإنما يتحقق بفضل من نعمة الوجود ذاته.
5
ويتحدث هيدجر عن «تاريخ» للوجود الذي يتكشف من خلاله العالم والإنسان بصور مختلفة في عصور وحضارات ومجتمعات مختلفة عند الصينيين والإغريق، وفي العصر الوسيط، بيد أن تحقق إنارته لهؤلاء قد اختلف عن أسلوب تحققه بالنسبة للإنسان الغربي المعاصر؛ فهو يتجلى لهذا الأخير في صورة شديدة العدمية والسلبية، وذلك بقدر نسيانه للوجود واغترابه عنه، ونسيانه حتى لنسيانه السؤال عنه، وتشبثه - لا سيما تحت طغيان النزعة التقنية الحديثة - بالموجودات والعلوم الجزئية، فلا عجب أن يظهر له الوجود نتيجة لذلك في صورة الاضطراب والزعزعة لكل ما هو موجود، وفي غربة الإنسان عن البيت والوطن والأرض، ولا عجب أيضا أن يسمي هيدجر عصره بعصر النسيان للوجود والتخلي عن التفكير فيه، ومثل هذا العصر الذي يفتقر إلى الوجود لا بد بالضرورة أن يكون هو عصر الضلال والمحنة، وأن يكون التاريخ المقدر من الوجود نفسه على الإنسان الغربي هو تاريخ العدمية، أي فقدان كل القيم قيمتها كما عرفها نيتشه، وخاض معركتها اليائسة إلى حد الجنون.
أليس ثمة خلاص من هذا القدر؟ نعم، ولكن ليس عن طريق الإنسان ولا من خلال فعله، فمن الضروري أن يتوجه الوجود نفسه ومن تلقاء نفسه من جديد صوب الإنسان السادر في ليل الضلال، وأن تصبح تجربة الوجود مرة أخرى أمرا ممكنا، ذلك هو أمل هيدجر في المستقبل، أما في الحاضر فلا يملك الإنسان في تقديره إلا أن «يرعى» الوجود وينصت لندائه ويساعده على أن «يقول»، وفي هذا تكمن - في رأيه - مهمة الإنسان وقيمته وكرامته ... ويبقى أن الحديث عن هذا كله يفوق طاقة الفلسفة بمعناها التقليدي، وأن فكر المستقبل لن يكون فلسفة وإنما سيكون - على حد تعبير الفيلسوف وبلغته المنحوتة بأزاميل ثقيلة! - فكرا في حالة الهبوط «في فقر ماهيته المؤقتة، وسوف يكون عليه أن يجمع اللغة في القول البسيط»، أما الإنسان فلن يكون أمامه إلا أن يتعلم الصبر على الحياة «فيما لا اسم له»، وأن يعبر محنة نسيان الوجود بتعلم الإنصات للغته وانتظار تفتحه وتجليه وإنارته لكل من العالم والإنسان اللذين لا ينفصلان.
6
يختلف هيدجر من غيره من الفلاسفة، وقراءتنا له تحتم علينا أن تكون مختلفة عن قراءتنا لهم، إنه ينتمي لذلك الجيل الطليعي والثوري الذي رأى النور في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وصمم على أن يشق لنفسه طريقا جديدا ويبدأ بنفسه ولنفسه بداية جديدة تحطم الأشكال التقليدية السائدة وتدعو لمراجعة ما مضى وإعادة النظر في كل ما وصل إليها، وإذا أردنا أن نبحث له عن شبيه من جيله في ميادين أخرى للحياة العقلية والروحية، ألح علينا تشبيهه بكافكا وجويس في الأدب القصصي والروائي، وبيكاسو في الرسم والتصوير، ورلكة وفاليري في الشعر، لقد أكدت جهود هيدجر كلها - ربما أكثر مما فعلته الفلسفة في مسارها الطويل - أن الفكر في جوهره «حدث يتحقق»، ولا بد للقارئ أن يحققه في نفسه وبعيد تحقيقه معه أو ضده إذا شاء؛ فالفكر طريق - كما علمنا أفلاطون من قبل - وهو بهذا المفهوم لا يريد التوصل إلى نتائج أو إجابات نهائية ولا حتى مؤقتة، وإنما هو - كما قلت - طريق يقطعه المفكر والقارئ الذي يفكر معه ويصر مثله على جدية السؤال، حتى لو كان سؤالا واحدا وكلفهما طرحه ومحاولة الإجابة عليه عمرهما كله.
من هنا يصبح أول ما يطالبنا به الفكر والمفكر هو أن «نتحول» لا أن نفكر وحسب، وأن تتحول كذلك علاقتنا بالوجود والحقيقة، لا أن نكتفي بترديد كلمات الفيلسوف واجترار لغته وعباراته ومصطلحاته المنحوتة الشائكة كما فعل أكثر الذين فسروه «من خارجه» ولم يكلفوا أنفسهم مشقة تحقيق فكره وتجربة أسئلته ومعايشة قضاياه قبل الاتفاق أو الاختلاف معه، ولعل مقالة هيدجر الرائعة التي تجدها في هذا الكتاب، وهي نظرية أفلاطون عن الحقيقة، أن تكون أوضح تعبير عن هذا التحول الذي ينبغي أن يصيب الإنسان بكليته عندما يسير على طريق الفكر ويتحقق به (راجع الهامش السابق عن التحول).
ربما أمكننا القول بأن طريق هيدجر قد توغل به في ثلاث مناطق أساسية بذل كل جهده في استيعابها قبل أن يبذل بعد ذلك غاية جهده في استبعادها أو الابتعاد عنها، فقد بدأ حياته بدراسة اللاهوت قبل أن يقطع دراسته له «وهو موجع للقلب» - كما سيعبر عن ذلك في مرحلة متأخرة من حياته! - ومع ذلك يبقى فكره في صميمه وفي أعمق أعماقه فكرا دينيا، لا سيما في مرحلة «الرجعة» إلى الوجود نفسه الذي سنقف عندها بعد قليل.
وهو قد استوعب فلسفة الظاهريات «الفينومينولوجيا» لأستاذه هسرل بعد أن جذبته إلى حد السحر بها، وتعلم منها المران على «رؤية الماهيات»، وقدرها قبل ذلك كفلسفة منطقية ومعرفية تريد أن تكون علما دقيقا محكما، وقدم في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» تحليلات ظاهراتية قيمة وباقية لأنطولوجيا الوجود الإنساني التي سماها بالأنطولوجيا (أي علم الوجود) الأساسية، الأمر الذي أساء أستاذه فهمه - كما هو معروف - بل أثار استياءه إلى حد القول بأن تلميذه قد حول الفينومينوجيا إلى أنثروبولوجيا، وأن الأنطولوجيا عنده منصبة على منطقة التاريخ أو التاريخي وحدها، ولم يقدر الأستاذ أن تلك الأنطولوجيا الأساسية كانت مجرد معبر لتأسيس أنطولوجيا الوجود ذاته.
ومع أن هيدجر قد تخلى عن الظاهريات عندما أصبحت في مرحلته المتأخرة مثالية ذاتية متعالية، وأعلن ابتعاده القاطع عنها، إلا أنه ظل في الحقيقة ظاهراتيا في منهج بحثه وأسلوب طرحه «الفينومينولوجي» للسؤال بغير افتراضات مسبقة من أي نوع، وبغير اكتراث بسلطة التراث الفلسفي الذي سيطالب بعد ذلك بتحطيمه، أو بالأحرى تجاوزه (راجع اعترافه عن علاقته بالظاهريات في مقاله طريقي إلى الفينومينولوجيا 1963م بالإضافة إلى الهامش السابق عن نهاية الفلسفة).
أما عن المنطقة الثالثة والأخيرة التي استوعبها على أكمل وجه وأندره فهي منطقة تاريخ الفلسفة الغربية (ولم يبلغ إلى علمي أنه شغل في أي وقت من حياته بالفلسفة الشرقية، ربما باستثناء واحد هو اطلاعه على الفلسفة البوذية لطائفة الزن تحت تأثير الأستاذ الياباني الذي دخل في حوار معه نشر في كتابه على الطريق إلى اللغة - وهكذا ظل هيدجر أوروبيا مركزيا في دراسته للفلسفة، وألمانيا خالصا في اختياره للشعراء الذين قام بتفسيرهم أو تأويلهم لصالح فكره!) لقد أتاح له طريق حياته - كما يتبين من اللوحة المنشورة في نهاية هذا الكتاب - أن يتغلغل في دراسة هذا التاريخ قديمه ووسيطه وحديثه، وأن يقدم تفسيرات ربما يؤخذ عليها أنها «هيدجرية» محضة، وأنها لوت في معظم الأحيان أعناق النصوص وفتشت فيها وتحتها ووراءها - بعيون هيرمينوطيقية نافذة! - لكي تنطق بفلسفة هيدجر نفسه عن الوجود والحقيقة! ولكن لا شك في أن ظل مقيدا بتاريخ الفلسفة وتاريخ الميتافيزيقا على الرغم من دعوته المتأخرة - كما رأينا - إلى تحطيم هذا التاريخ أو تجاوزه نحو التفكير في الوجود نفسه، وعلى الرغم من تأكيده المستمر بأن نيتشه - الذي وصفه بأنه أشد الأفلاطونيين تطرفا! - يمثل مع ماركس فصل الختام في هذا التاريخ الذي بدأ بدايته الحقيقة - التي لم يتم التنبه لها أبدا - مع الفلاسفة قبل سقراط، وربما لا نعدو الصواب إذا قلنا إنه هو نفسه - أي هيدجر - وليس ماركس ونيتشه فقط، إنما يعبر عن نهايته أو عن آخر فصوله وأشدها ثورية وعدمية .
7
لا شك في أن القارئ سيتأثر بتحليلات هيدجر للزمان والموت والقلق والهم - التي لخصناها في الفصل الأول من هذا الكتاب - تأثرا وجدانيا لا أبالغ إذا وصفته بأنه «وجودي»، وأهمية هذه التحليلات لا تأتي فحسب من أصالة البحث في «وجودات» أو «مقولات» أنطولوجياه الأساسية، وإنما تأتي من تعبيرها الصريح عن تجربة هيدجر الشخصية القاتمة بالوجود، وتعبيرها المضمر في الوقت نفسه عن روح العصر الذي وضع فيه كتاب الوجود والزمان (1927م)، ولعل هذه العلاقة التي تربط تحليلات هيدجر للزمان بروح العصر والتاريخ الواقعي الذي كتبت فيه أن تكون - كما يرى سيلفيو فييتا
8 - هي مفتاح القضية الشائكة عن هيدجر والسياسة وموقفه من دولة الرايخ الثالث النازية في الفترة الممتدة من سنة 1933م إلى سنة 1934م، وهي الفترة التي سقط فيها - كما سبق القول - ضحية الوعي الكاذب والوهم الزائف في تلك الدولة التي لم يعرف تاريخ البشرية مثيلا لها في البربرية والهمجية والوحشية.
ومع أنني أبعد ما أكون عن تبرير هذه السقطة أو الاعتذار عنها بالضعف البشري أو بالوقوع في براثن الوهم والنقص والخطأ الذي لا يبرأ منه إنسان، فإنني أرى من الضروري أن توضع القضية الشائكة (التي ازداد حولها الجدل واللغط والتجني في السنوات الأخيرة إلى حد الخلط الظالم بين الشخص والنص في وقت يعلمنا فيه النقد الجديد أن نفصل بينهما حتى لو أدى بنا الحال - كما فعل بعضهم - إلى الصراخ بإعلان موت المؤلف والتاريخ ليخلص لنا العمل نقيا من كل شائبة) أقول: أرى من الضروري أن توضع القضية في حجمها الصحيح وفي السياق التاريخي - الذي يبدو أن الفيلسوف كان في غيبوبة عن الوعي به! - والذي يلقي عليها الضوء دون أن يسوغ الخطأ الجسيم أو يهون من فداحته.
لنقلب قليلا في صفحات التاريخ حتى نصل إلى عام 1928م الذي خلف فيه هيدجر أستاذه هسرل في شغل كرسي الفلسفة بجامعة فرايبورج، ففي الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1929م ألقى هيدجر محاضرته الافتتاحية في التدريس بالجامعة تحت عنوان «ما الميتافيزيقا؟»، وتزامنت هذه البداية لحياته العلمية مع بداية الأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة التي بلغت ذروتها بعد انهيار البورصة في أكتوبر سنة 1929م والتفاف حبل المشنقة على رقبة الاقتصاد الألماني: البطالة الشاملة، الانهيارات اليومية للبنوك والمؤسسات، التضخم النقدي الرهيب ... وكان من الطبيعي أن يشعر هيدجر بالقلق والهم اللذين يطوقان وجوده، وهو الفقير الذي عاش على المنح الكنسية ليتمكن من إكمال دراسته، ومن الطبيعي أيضا أن تصطبغ تحليلاته الفلسفية قبل ذلك بسنتين اثنتين بالسواد الذي ليس بعده سواد.
واتفق أن تولى هيدجر منصب مدير الجامعة في نفس الوقت الذي استولى فيه هتلر على السلطة؛ إذ انتخب مديرا للجامعة في الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة 1933م، وألقى في السابع والعشرين من شهر مايو خطبته الشهيرة عن تأكيد الجامعة الألمانية لذاتها، ويبدو أن الظروف المحيطة قد نفثت فيه سموم الوهم الشيطاني بأنه هو «الفوهرر» (أي القائد) الروحي الأوحد للجامعة؛ فقد صدر في الواحد والعشرين من شهر أغسطس عن ولاية بادن التي تتبعها الجامعة قانون يجعل مدير الجامعة هو قائدها، كما يقلص من دور مجلسها بحيث يصبح مجرد دور استشاري، وتصور هيدجر في تلك الخطبة أن مجتمع الأساتذة والطلبة لا ينهض ولا يتقوى إلا بتجذرهما معا في ماهية الجامعة الألمانية، لكن هذه الماهية لا تتضح ولا تبلغ مكانتها وقوتها إلا عندما يصبح القادة أنفسهم مقودين، والذي يقودهم هي «ضراوة تلك المهمة الروحية التي تطبع قدر الشعب الألماني بطابع تاريخه الملزم».
لغة غريبة لا تصدر عن فيلسوف عميق النظرة أو بعيدها، ولا نعدم فيها أصداء من لغة هتلر التحريضية الخشنة المتشنجة، أضف إليها بعض تصرفات هيدجر أثناء إدارته للجامعة بما يوحي بوقوعه في وهم القيادة الروحية للجامعات الألمانية بأسرها، بيد أن غرقه في هذا الوهم الفاسد لم يستغرق العام بأكمله؛ إذ سرعان ما أفاق من سحر مخدره المسموم بتقديم استقالته في الثالث والعشرين من شهر أبريل سنة 1934م، وبذلك انتهت فترة النشاط السياسي الأسود والوحيد في حياته، وبعدها أسقطه النظام الإرهابي كذلك من حسابه، وإن واصل مضايقته ومراقبته له - كما سنرى بعد قليل في الحديث الذي أجرته معه مجلة شبيجل ونشرته بعد وفاته بخمسة أيام - كما لزم هو الصمت المطلق فلم تنبس شفتاه بحرف واحد عن حقيقة موقفه طوال ما يربو على الأربعين عاما، إلا عندما أفضى في شهر سبتمبر من عام 1966م بالحديث الذي أشرت الآن إليه.
وقبل أن نصل إلى هذا الحديث علينا أن نقف قليلا عند تحليلاته التي سبقت الإشارة إليها في «الوجود والزمان»، والعجيب في هذه التحليلات أنها كشفت كشفا أصيلا عن زمانية الموجود الإنساني المتناهية باعتبار أنها هي أساس تاريخيته، والأعجب من ذلك أن طريقته المنهجية الصارمة في هذا التحليل - التي تأثرت بغير شك بمنهجية فلسفة الظاهرات غير التاريخية بطبيعتها، بجانب تأثرها أيضا بمنهجية اللاهوت والعلوم الطبيعية والرياضية التي سبق له دراستها - لم تكشف له عن روح عصره التاريخي الذي عاش فيه، ومن ثم تولد عند قارئه انطباع بأنه يتحرك في عالم شبيه كل الشبه بعالم كافكا المزدحم بالكوابيس الثقيلة المعتمة؛ ولهذا تجثم على قلبه فظاعة ذلك القلق الذي يصفه الفيلسوف بأنه «الأسلوب اليومي الخفي لحياة الإنسان في العالم»، وأنه يلح على الموجود الإنساني الملقى به فيه ويهدد ضياعه المنسي من جانبه، ويلقي به في الشعور بالذنب، بل يصل به الأمر إلى حد القول بأن «الموجود الإنساني» - الدازاين - هو من حيث هو كذلك كائن مذنب.
هل كان التحليل الأطولوجي الأساسي مبررا لكل هذه الفظاعة والقتامة؟ وهل يكفي هو وحده لتفسيرها؟ وما الذي جعل هذه اللغة المزدحمة بالمفاهيم اللاهوتية لا تذكر «الله» مرة واحدة، بل تعطي الإحساس - الخاطئ - بالإنكار والتجديف والإلقاء بالإنسان في عالم منسي ومحكوم عليه بالضياع؟ ولماذا يكثر الفيلسوف من الكلام عن القلق والهم والذنب بوصفها «وجودات» أو مقولات أو مقومات وجودية أساسية ويحرمنا تماما من «وجودات» أخرى لا تقل عنها تعبيرا عن البناءات الأساسية في وجود الإنسان كالحب والأمل والفرح والثقة والمسئولية والانتماء «للآخر» المحبوب ... إلخ بل ربما فاقتها في أهميتها وقدرتها على الكشف عن ماهية الإنسان الموجود في العالم ومع الناس والمتجاوز له أو المتعالي عليه في آن واحد؟
لعل التفسير الوحيد لذلك كله - وهو تفسير غير قاطع وغير ملزم - أن يكون كامنا في روح العصر نفسه، فقد كان عصر القلق الشامل والهم المطبق الذي اتفق لصاحبنا أن يدون فيه كتابه الأساسي، هل نخلص في النهاية إلى أن «الوجود والزمان» ربما كان - عن غير وعي واضح من صاحبه! - مرآة عكست موقفا تاريخيا ووجوديا عصيبا حكمته محنة قاسية حاصرت ألمانيا وشعبها في الثلث الأول من القرن العشرين بأسوارها الاجتماعية والاقتصادية والميتافيزيقية المخيفة؟
لننظر مرة أخرى إلى هذا الكتاب في سياق الأدب المعاصر له؛ بغية إلقاء المزيد من الضوء عليه، فمنذ عهد الرومانسية المبكرة حتى تفجر الحركة التعبيرية في الفن التشكيلي وفي الأدب مع بدايات القرن العشرين، أخذت أصوات «الحداثة» الأدبية والفنية في ذلك الحين تردد الكلام عن وحدة الإنسان في العالم وغياب المعنى، وعن القلق واليأس والاقتلاع من الجذور والاغتراب عن البيت والوطن ... وراح التعبيريون يطلقون تهويماتهم وصيحاتهم ونداءاتهم «للإنسان الجديد» الذي أخذوا يترنمون في شعرهم ونثرهم باقتراب بعثه إلى الحياة وزحفه في مقدمة الصفوف: «أيها الإنسان الإنسان الإنسان، قف، وانهض على قدميك!» (الشاعر يوهانيس بيشر)، «أيها الإنسان حقق ماهيتك وكن إنسانا» (الشاعر أرنست شتادلر)، «أين هو القائد الذي يمكن أن يقود خطانا؟ إننا نبحث عنه في النور!» (الكاتب المسرحي جورج كايزر).
9
في هذا المناخ الذي يترقب فيه الناس البعث ويتغنون بالتجدد ويتنادون باليقظة والنهوض؛ قدم هيدجر تحليلاته لبناء الوجود الإنساني، وألقى خطبته السابقة التي دعا فيها إلى التصميم الهادف لتحقيق جوهر الوجود، وحث قراءه على الإصرار على تحقيق الوجود الذاتي الأصيل، وحذرهم من السقوط في حضيض «الناس المجهولين» وأسلوب حياتهم المطبوع باللغو والفضول والمفتقد للحرية والاختيار، صحيح أن تحليلاته بقيت تحليلات أنطولوجية خالصة، وأن دعوته لتحقيق الوجود الأصيل لم تقترن بأي تعليمات أو نصائح عملية، بل بقيت بعيدة كل البعد عن التهويمات المسيحانية (أو الخلاصية) التي أطلقها التعبيريون؛ غير أن بعد المستقبل الذي ركز عليه الفيلسوف في تحليلاته للبنية الزمانية والتاريخية للموجود الإنساني ربما يكون قد أغراه بالوقوع في الوعي الزائف بأن استيلاء النازيين على السلطة يمكن أن يقترن بالبعث والتجدد الحيوي والتصميم البطولي على تحقيق الحياة الأصيلة في مواجهة الموت والخطر، وربما يكون قد أغراه كذلك - في فترة زمنية محددة - بأن يكون هو نفسه القائد الروحي والفلسفي لهذا «الفوهرر» المبشر بالبعث الجديد أو أحد قادته على أقل تقدير!
بيد أن الوهم والوعي الزائف لم يستمرا طويلا كما قلت، فسرعان ما أفاق منهما الفيلسوف في ربيع سنة 1934م، وأدرك عمق الهاوية التي سقط فيها عندما تصور أنه يمكن أن يكون سندا لنظام فاشي مرعب تجلت له بشاعة عدميته بأشكال مختلفة خلال العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، ما الذي فتح عينيه على هذه العدمية المتحكمة في النظام وفي روح العصر ومحنته؟ وما الذي رد إليه الوعي التاريخي المفقود الذي طال غيابه عنه؟ إنها دراسته المتعمقة في تلك السنوات لعدمية نيتشه «آخر العدميين الأوروبيين» كما سمى نفسه بحق؛ فقد فسر نيتشه الميتافيزيقا والفلسفة الحديثة بأنها هي تاريخ الدوافع الخفية التي تهيمن عليها «إرادة القوة»، وتتمثل حقيقتها الأخيرة في «تجريد كل القيم من قيمتها»، أي في العدمية، وقد عكف هيدجر على دراسة نيتشه في الفترة الزمنية الممتدة من 1936م إلى 1940م عندما كتب مقاله الشهير عن كلمة نيتشه عن موت الإله (ونشر المقال في كتابه دروب مسدودة عام 1950م) وانصرف إلى محاضراته عن نيتشه (التي جمعها في كتاب من جزأين صدر في عام 1961م)، ولكنه - بالمنطق الكامن في فلسفته! - سحب العدمية على تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية بأسره، وأخذ يكشف في رسائل وبحوث متوالية عن العدمية الكامنة فيه منذ أفلاطون حتى فلسفة نيتشه نفسه الذي عده - بجانب ماركس كما سبق القول - خاتمة هذا التاريخ وآخر فصوله؛ إذ رأى أن نظرية نيتشه عن إرادة القوة بوصفها «جوهر كل ما هو واقع» وإرادة المزيد من الحياة، فقد بلغت بالميتافيزيقا الحديثة للذاتية غاية نهايتها وتمامها، بل لقد توسع في ذلك حتى ذهب إلى أن تاريخ الميتافيزيقا الغربية - أو العقلانية الغربية كما وصفها ماكس فيبر - هو في حقيقته تاريخ نسيان الوجود الذي يتمثل في عصرنا في سيطرة الفكر العقلاني والتقني والحسابي الحديث (وكلها أفكار شديدة التأثر بفلسفة الحياة عند دلتاي وبرجسون وزيميل وكيزيرلنج ولودفيج كلاجيس بوجه خاص). من هنا توصل هيدجر إلى فهم مغاير للفاشية التي حاولت أن تستر عدميتها أو تعوض عنها بالتنظيم المطلق لكل شيء؛ ففي بحث كتبه في أواخر الثلاثينيات ولم ينشر إلا في سنة 1950م تحت عنوان «التخلي عن الوجود والضلال» نراه يحلل مبدأ القيادة مع تحليله للحرب والأيديولوجية التي تقسم البشرية إلى بشرية فوقية وأخرى تحتية، وهو يرجع هذا كله للفراغ الناجم عن التخلي عن الوجود وللعدمية المترتبة عليه، إن ظهور «الفوهرر» (بالجمع)، أي: القواد، هو النتيجة الضرورية لتحول الوجود إلى شكل من أشكال الضياع الذي ينتشر فيه الفراغ والخواء. القواد في هذه الرؤية هم العمال المسلحون بكل الوسائل الكفيلة بصيانة الموجود في كل مظاهره ومناطقه، وكانوا هم الذين يلمون به ويحسبونه؛ ومن ثم يسلمونه للفراغ والضياع والضلال، أما الحرب فهي فرع لاستغلال الموجود واستهلاكه، وهي حرب مستمرة حتى في الأوقات التي تسمى بأوقات السلام، وهكذا تكون الحرب المتمثلة في استغلال الموجود مع كل الطبائع القيادية التي تشرف عليها عملية يحركها ويحددها من داخلها ذلك الفراغ الكامل أو العدمية المطلقة الكامنة فيها، وهكذا أيضا تصبح الأرض هي بيئة الضلال، كما تصير من جهة تاريخ الوجود هي: «كوكب الضلال».
ذلك هو الخط الفكري الذي تابعه هيدجر بعد ذلك عندما اتجه لتفسير ماهية التقنية الحديثة في محاضرتيه عن التقنية وعن الرجعة (1962م)؛ فالتقنية هي الشكل الشامل لاستغلال العالم واستهلاكه، وهي لا تجهل ما تفعله وحسب، وإنما تنحرف بغير تدبر نحو تحقيق الطموح الذي يتحداها لتحويل العالم في مجموعه إلى موضوع للاستهلاك والاستغلال.
بيد أن ماهية التقنية شيء غير تقني على الإطلاق، كما أنها ليست مجرد فعل بشري، إنها تنبع من علاقة محددة وأساسية للإنسان مع الوجود في مجموعه، وهذه العلاقة قد تم الإعداد لها وبلغت أوج تمامها في الميتافيزيقا الغربية، وهذا الشكل المحدد لاقتحام الموجود والتعامل معه بصورة استهلاكية واستغلالية يسميه هيدجر بكلمة يصعب ترجمته وهي كلمة «الوضع» التي تعبر عن قهر الإنسان للواقع وشده إلى التعسف معه والتصرف فيه.
10
وهذا الوضع - منظورا إليه من جهة تاريخ الوجود - هو شكل من أشكال تكشف الموجود، بل هو أخطر هذه الأشكال جميعا إن لم يكن هو الخطر الأكبر الذي يواجه تاريخ البشرية، لقد أصبح الإنسان على شفا السقوط في الهوة التي تجعله مجرد كائن أو عنصر بين كائنات وعناصر عديدة، ولكنه لا يفطن لهذا الخطر، وإنما يزهو بنفسه ويتصور أنه قد صار سيد الأرض (والغريب أن هيدجر الذي انطلق من هذا الفهم غير المألوف للتقنية قد استبصر في ذلك الوقت المبكر بالمشكلات الناجمة عن تقنيات الهندسة الوراثية والاستهلاك الزائد للطاقة والمواد الخام في المجتمع التقني الحديث وفقدان العلاقة الحميمة بالأرض إلى حد الاغتراب والإحساس باقتلاع الجذور).
كيف يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرر من أسر العلم والتقنية؟ وهل تنطوي التقنية على «الإنقاذ» الذي سينمو من داخلها (مصداقا للبيت الشهير لشاعره المفضل هلدرلين: حيثما يكن الخطر، ينم المنقذ ويظهر) وكيف سيكون وجود الإنسان وتفكيره تحت وطأة هذا العالم، وهل سيكون له مستقبل؟ هذه الأسئلة كلها ترجع بنا إلى السؤال الأساسي الذي طرحه هيدجر في «الوجود والزمان» عن معنى الوجود ومدى قدرته على أن يشغل التفكير الفلسفي في حاضر الإنسان ومستقبله، وهو ينصب في الواقع على ماهية الإنسان أو حقيقته في غمار هذا العالم الذي يعيش فيه الإنسان الغربي (والإنسان غير الغربي الدائر في فلك الحضارة الصناعية)، هذا العالم الذي هيمنت عليه السيطرة العلمية والتقنية - كيف سيعيش الإنسان كإنسان في هذا العالم؟ أنقول إنه سيظل ينتج نفسه من خلال إنتاجه لشروط حياته عن طريق العقل العلمي والتقني الذي يحسب ويقنن؟
يبدو أن أسلوب وجود الإنسان في هذا العصر قد تحدد من خلال التفسير العلمي والتقني للعالم، واعتبار الأرض مصدر الطاقة والمواد الخام، ومن خلال تنظيم العمل وتقسيمه وتنظيم الجماهير العاملة لتكون في خدمته، ثم من خلال البيروقراطية والتشابك المعقد بين السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية فيما نسميه بالحضارة أو المدنية الحديثة، أم ترانا نقول إن الإنسان كإنسان هو الكائن الذي يخضع لقدر معين يفرض عليه أن يتحمل مسئوليته ويضع عبئه على كاهله؟
يبدو أن السؤال في صيغته الأخيرة قديم قدم الفكر الغربي نفسه، وذلك منذ أن عرف هذا الفكر عند الإغريق أن الإنسان كائن فان، وأنه منفتح على الموت؛ ومن ثم فهو - على حد تعبير هيراقليطس - مشارك بالضرورة وبسبب طبيعته الفانية في اللعبة الكونية الكبرى، ولعل تفكير هيدجر في ماهية الإنسان في عصرنا التقني الحديث ألا يكون بعيدا عن هذا الأصل الفكري، وأن يكون نوعا من التلقي ثم التحويل لتلك التجربة اليونانية المبكرة، فهو - أي الإنسان - ككائن منفتح على الموت يحيا حياة مختلفة عن سائر الكائنات والموجودات؛ لأنه ينتمي «لآخر» مختلف عنها جميعا، ولا يمكن أن يكون مجرد موجود مثلها، أعني أنه ينتمي للوجود ذاته، ثم إن هذا الإنسان الفاني يملك ما يسميه هيدجر ب «الفارق الأنطولوجي»، ويقيم فيه أيضا، وهذا الفارق - الذي ذكرناه من قبل - ليس مجرد تمييز للوجود نفسه عن الموجودات، وإنما هو في صميمه «حدث» ينكشف من خلاله أن كل موجود على هذا النحو أو ذاك إنما يوجد «بفضل» الوجود، أضف إلى هذا أن أسلوب «حدوث» الوجود أسلوب فريد؛ فهو يهب نفسه للموجود في الوقت الذي فيه يمتنع عليه أو يحتجب عنه، ووجود الإنسان - المنفتح دائما على الوجود أو المتعالي والمتجاوز نحوه باستمرار - هو «الموضع» الذي تحدث فيه «إنارة» الوجود وتحجبه، أو هو «موضع السر» لكل ما هو موجود أو يمكن أن يوجد؛ لهذا فإن وجود الإنسان يتحدد بهذا «الحدث» أو هذا «القدر»، وهو قدر لا يملك الإنسان التصرف فيه، وكل ما عليه هو أن يخضع له، وينضوي تحته ويستجيب ويتسق معه.
11
ونرجع مرة أخرى إلى عصرنا العلمي والتقني وماهية الإنسان الذي يعيش فيه، فالقدر الذي وصفناه ليس حاضرا فيه، وإنما هو ممتنع على الإنسان أو محتجب عنه، والمشكلة أن الإنسان الذي نسي الوجود أو ضل عنه أو أضاعه - كما رأينا من قبل - لا يحس بهذا الامتناع والتحجب؛ إذ لو أحس به لبقي على علاقة به مهما تكن علاقة سلبية، ما السبب في هذا؟ الجواب أن الإنسان والعالم الذي يعيشه فيه منبتان عن هذا القدر؛ لأن الإنسان يوجد - كما سبق القول - ككائن ينتج نفسه وشروط حياته بسبب تحكم العقل العلمي والتقني في أسلوب وجوده، وبالتالي بسبب تشويهه لوجوده وقدره جميعا.
ماذا تكون مهمة الفكر في هذه الحالة؟ مهمته هي الاستجابة للقدر الممتنع الذي لا ينفك مع ذلك حاضرا على الدوام، وتهيئة نفسه بالاستعداد المستمر للحدوث الممكن لذلك القدر، وكأن هذا الفكر المؤقت - كما يسميه الفيلسوف - يمثل معالم الظل الذي يلقيه الحضور أو الحدث الممكن في المستقبل لذلك القدر، بأي معنى إذا يكون هذا الفكر حاضرا ومستقبلا؟ بمعنى التفكير المتواصل في العالم العلمي والتقني وأصوله الميتافيزيقية الأولى، وبمعنى الاستعداد والإعداد الفكري للقدر في حدوثه الممكن، وعندما تتم هذه الرجعة للأصل والأساس الأول، ويتم التهيؤ والتنبه والاستعداد والإعداد، فربما يحدث شيء حاسم يغير الفكر نفسه ويعيد العالم العلمي التقني إلى أساسه المنسي.
قد يقول قائل في النهاية: إن هيدجر يقف من العلم والتقنية الحديثين موقفا يسهل وصفه بالرجعية أو التزمت إذا قيس بالحلم الذي ساد الحياة العقلية ابتداء من فلسفة التنوير وحتى ماركس ودعاة التنمية التقنية والعلمية المعاصرين، وأقصد به الحلم بتحرير الإنسان من «الضرورة» عن طريق العلم وتطبيقاته الصناعية. والرد على هذا القول بسيط؛ فهيدجر لم يؤمن قط بهذا الحلم، وإنما آمن بضرورة الرجوع إلى التفكير في قدر الوجود نفسه، وسط عالم يتزايد اغترابه على الدوام، وذلك لكي يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرر من أسر العلم والتقنية، ويهتدي للإنقاذ الذي سيأتي من داخلهما عندما يتم رجوعهما إلى أصلهما وأساسهما الأول الذي طال نسيانه والتخلي عنه والتنكر له.
من خلال هذه الآفاق التأويلية الرحبة استطاع هيدجر أثناء سنوات الحرب أن يفهم ما يعنيه العلم والتقنية واستهلاك العالم وأشكال القيادة والتنظيم والإدارة ل «عجلة العدمية» في الصناعة والحرب والعالم الذي تم «وضعه» والهيمنة عليه، ثم أمكنه أن يتوسع في فهمه لتاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية، وأن يستقر عليه بوصفه تاريخا لنسيان الوجود، وأن يحقق بذلك تلك المرحلة المتأخرة على طريقه الفكري، وهي مرحلة «الرجعة» إلى الوجود ذاته، ولقد مهدت كذلك لهذه الرجعة تفسيراته لشعر هلدولين، وتأملاته العديدة في مشكلة الحقيقة التي سبق أن بدأها - في الفقرة الثانية والأربعين من «الوجود والزمان» - عندما أرجع المفهوم التقليدي للحقيقة أو للصدق - وهو تطابق العبارة مع الشيء والفكر مع الموضوع - إلى الظاهرة الأصلية للحقيقة (راجع ماهية الحقيقة وأليثيا في هذا الكتاب)، وقد تبين له من خلال هذه البحوث والرسائل ضرورة انتقال الموجود من التحجب إلى اللاتحجب والظهور حتى يمكن الحديث عن مسألة الحقيقة، ومنذ ذلك الحين أصبح «اللاتحجب» (أي التكشف والظهور من طوايا الحجب والخفاء) هو الترجمة التي صكها هيدجر لمصطلح الحقيقة في منطوقه اليوناني (وهو أليثيا)، بل أصبح هو الافتراض الأساسي الذي لم تتدبره الميتافيزيقا الغربية في تاريخها الطويل، ولم تفكر في أنه الشرط الأولي الذي تقوم عليه كل التفسيرات الممكنة لحقيقة الوجود، بما يترتب على ذلك من تحول من التركيز على الإنسان - كما حلل «أنطولوجياه» في الوجود والزمان - إلى فهم الإنسان والعالم من جهة الوجود والحقيقة، كما أشرنا لذلك أكثر من مرة.
لقد كان الشرط الأساسي لهذا التحول أو لهذه الرجعة هو «التغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية أو تجاوزهما «بالرجعة» إلى أساسهما الأول، وهو التفكير في الوجود نفسه لا في مجموع الموجودات أو في موجود منها بعينه مهما يكن أسمى الموجودات، هل انتهت الفلسفة لكي تفتح الطريق لفكر الوجود؟ لقد تحدثنا من قبل عن نهاية الفلسفة وبداية فكر آخر يتجه صوب الوجود نفسه، وسوف تظل هذه البداية، وتلك النهاية من الأسئلة المطروحة على بساط البحث في تفكير هذا الفيلسوف، وهو تفكير يريد في نهاية المطاف أن يرعى ويصون، وأن يفهم من جهة الحقيقة والوجود لا أن تفهم الحقيقة والوجود من جهته.
هل مهد لهذه الرجعة تاريخ سابق داخل تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية ذاتها التي أعلن هيدجر عن نهايتها أو موتها؟ لا شك عندي أن «التنوير الآخر» (الذي يوصف به تفكير عدد من الفلاسفة والكتاب مثل: باسكال، وشافتسبري، وفيكو، وهيردر، وهامان، وياكوبي، وفلاسفة وشعراء الرومانسية المبكرة الذين انتقدوا مفهوم العقل والفلسفة المذهبية في عصر التنوير) أقول: لا شك في أن هذا «التنوير الآخر»، بالإضافة إلى عناصر من فلسفة الحياة وأفكار من الشعراء الذين اهتم هيدجر بشرح قصائد من شعرهم وسبق ذكر أسمائهم، قد مهدت كلها لهذه الرجعة إلى «الأصل» و«الباطن» والتحقق المباشر بالحقيقة والوجود وانتظار حضورهما أو حدوثهما، وتجاوز تراث فلسفة الوعي الذاتية والإرادية والعقلانية التي طبعت العصر الحديث منذ ديكارت حتى هيجل وهسرل، ولا بد أن ينظر إلى «رجعة» هيدجر في سياق تراث ذلك التنوير الآخر، وإن كان من واجبنا القول بأن الفيلسوف قد تجاوز هذا التراث بدوره وتوسع فيه من خلال نقد العقل والوعي والذاتية في تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية منذ أفلاطون حتى ماركس ونيتشه، وذلك بالصورة الحاسمة التي عرفناها وبلغت عند بعض الشراح حد القول بموت الفلسفة وبداية فكر الوجود، هل نفسر هذه الرجعة أيضا بدخول عناصر صوفية ورومانسية في تفكير هيدجر المتأخر كما فعلنا من قبل؟ ألم تكن هذه العناصر كامنة في تفكيره ولم تظهر ظلالها الغامضة إلا مع التقدم في العمر؟ وهل يكون الحنين القديم إلى الدين و«الإشراق» الباطني قد فرض نفسه - بعد أن طال أسره وكبته بالعناد المنهجي الصارم! - في هذه المرحلة؟ إنها كما ترى أسئلة تدور في أفق الظن والاحتمال والاختبار، ولعلها ستبقى إلى أمد طويل موضع الجدل والأخذ والرد والحوار بين المؤيدين والمعارضين.
اختلفت الرؤى والآراء حول شخصية هيدجر وفلسفته وما تزال مختلفة، فهناك من يرفع من شأنه ويبالغ في ذلك إلى حد القول بأنه هو أعظم فلاسفة القرن العشرين، وأعمق من سأل السؤال الفلسفي عن الوجود بعد أفلاطون وأرسطو، وأنه قد عكف على تراثه الفلسفي قديمه ووسيطه وحديثه وتمكن منه إلى الحد الذي يندر أن نجد له نظيرا (وتشهد على هذا مجموعة أعماله التي زادت على الستين مجلدا!) وأنه هو «فيلسوف المحنة» الذي ظل يلح على سببها الرئيسي - وهو نسيان الوجود وتنكب الطريق الوحيد المنقذ وهو الرجوع للأصل الأول - كما تجسدت له محنة العالم والحضارة الحديثة في هيمنته التقنية على الأرض والإنسان، وهناك من «خسف به الأرض» وأنكر أن يكون أعظم فلاسفة القرن الذي عرف عددا كبيرا من الفلاسفة العظام (مثل: راسل ووايتهيد وتوينبي وفتجنشتين وبوبر وبرجسون وسارتر وغيرهم)، وجرده من العمق تماما بحجة أن هذا العمق المزعوم ليس سوى وهم ملتف في ضباب الغموض الفكري واللغوي، كما اتهمه - فوق اتهامه بالاستسلام للوعي النازي الزائف ولو لفترة محدودة - بأنه ظل يقوم بدور القائد الروحي والدليل العابس المتجهم في متاهات القلق والهم والموت، وأنه سحر شباب بلاده بمشكلات عقيمة وعبارات ملتوية وشائكة أشبه بأقوال العرافين والمتنبئين، وأن ما يسميه فكر الوجود شيء غير واقعي ولا علمي ولا مثمر ولا مؤثر، فضلا عن فقره وافتقاره لأي وعي تاريخي بالحاضر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وخلوه من أي إشارة للدور الذي يمكن أن يقوم به العلماء والهيئات والمؤسسات العالمية والعلمية والجهات المعنية «بإنقاذ» الأرض (كأحزاب الخضر مثلا)، بل إنه ليؤكد أن هذا الفكر كله لا يخرج عن كونه مناجاة أو مونولوجا «أنا وحديا» أخذ يجتره شخص عصابي ومنطو على نفسه طوال ما يربو على الستين عاما دون أن يتمخض عن شبكته العنكبوتية خيط واحد موجه ولا أي نتيجة واضحة أو ملزمة للإنسان الفرد أو للجماعة المحلية أو الإنسانية، هذا فضلا عن أن الفكر الجديد الذي أهاب به في سنواته الأخيرة لا هو بالجديد ولا هو بالفكر الواضح المعالم.
ومع ذلك فهناك فريق ثالث حاول وما يزال يحاول أن ينقده نقدا علميا وموضوعيا «من داخله» بعيدا عن مزالق الاتهام والإدانة والتشهير الغوغائي سيئ النية، فمنهم من يوجه أسئلة لا تخلو من بعض الشكوك والانتقادات، ومنهم من يدرس علاقة التأثير أو التأثر بين فلسفته والفلسفات الأخرى، كالماركسية التقليدية والجديدة (وبالأخص مدرسة فرانكفورت)، وفلسفة الحياة من نيتشه إلى دلتاي التي رأينا كيف دخلت عناصر منها في تفكيره المبكر والمتأخر، والكانطية الجديدة التي نبهته - تحت تأثير أستاذه ركرت - إلى الاهتمام الملحوظ بكانط، والظاهراتية التي بين هو نفسه - في مقال مشهور - كيف كافح في شبابه لفهمها - لا سيما من خلال كتاب البحوث المنطقية لأستاذه هسرل، وألف رسالتيه الأولى والثانية للدكتوراه - عن نظرية الحكم في النزعة النفسانية ونظرية المقولات والمعنى عند دنس سكوتوس - بوحي منها وتحت تأثيرها قبل أن يبتعد بنفسه عن مرحلتها الذاتية المتعالية والشديدة المثالية - ثم تأثيره الذي لا ينكر على مسيرة فلسفة التأويل «الهيرمينوطيقا» التي أعطاها - بعد شلاير ماخر - أقوى دفعة ممكنة، بحيث تعلم التفكيكيون المعاصرون والنقاد الجدد على وجه العموم من قراءاته للنصوص الفلسفية والشعرية كيف يقرءون النصوص من داخلها ومن حولها ومن تحتها.
12
وكيف يكشفون عن قصد المفكر أو الشاعر «من خلال ذلك الذي لم يقله في ثنايا قوله»، ومن الأسئلة المثارة على فكر هيدجر - وما أكثرها! - أسئلة من هذا النوع:
عرف عن هيدجر شغفه الشديد بالرجوع إلى الفلاسفة قبل سقراط، ولا سيما أنكسمندر وبارمنيدز وهيراقليطس، ليلتمس عندهم العلاقة الأصلية المباشرة بين الفكر والوجود (لا سيما في عبارة بارمنيدز) والإنارة من طوايا التحجب (في مقالته عن الأليثيا)، ولكن هل ساعدته هذه الرجعة لآباء الفلسفة الغربية والنزعة الإنسانية المبكرة على العثور على الأساس و«الأصل» الذي بحث عنه؟ وهل تتسق تلك العودة للآباء مع مطالبته «بالتغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة أو تحطيمه وتجاوزه؟ ألم يكن من الأوفق الرجوع لأفكار وأساطير وحكايات عصور أسبق، في الحضارة الكريتية والمينوية أو في حضارات الشرقين الأدنى والأقصى القديمة؟
دعا هيدجر - كما سمعنا حتى الآن أكثر من مرة - إلى تجاوز تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا «الغربية»، بل أكد نهايتهما على الرغم من أنه بقي بطبيعة الحال مقيدا بهما ولا يمكن فهم تفكيره المبكر ولا المتأخر إلا في سياقها، ولكن ألم يكن فهمه لهذا التاريخ فهما ضيقا محدودا؟ وهجومه المتواصل على فلسفة الوعي والذاتية الحديثة - من ديكارت إلى نيتشه - ألم يكن هجوما أحاديا متسرعا؟ ثم ألم تكن أرض هذا التاريخ المترامي هي التي نمت منها أشجار المعرفة النظرية والعلمية، ومروج الفلسفة والتصوف المسيحي، وبدائع فلسفة النهضة والتنوير، وروائع الفن والأدب والتقدم والاستنارة والإنسانية المتنوعة الأزهار والثمار والأوراق؟ وحتى إذا صح أن هذا التاريخ هو في صميمه تاريخ العدمية المتنامية، وبخاصة في القرن العشرين الذي أوصلت كوارثه وآلامه وفظائعه الإنسان الأوروبي الحديث - والإنسان الدائر في فلك مدنيته الصناعية - إلى مهاوي القلق والهم واليأس والاغتراب، فهل يصح أن ننسى أن هذه العدمية نفسها قد تولدت عنها ثروة هائلة من الإبداعات والرؤى والأفكار والاجتهادات التي لا يمكن أن نصفها بأنها عدم؟ وهل خلت الساحة المضطربة بالضحايا والأشلاء والأطلال من أصوات تدعو إلى الحب والشجاعة والكبرياء والمسئولية والأمل وتمجيد الحياة؟ وحتى ذلك الحديث القاتم عن القلق والهم وبقية العائلة المشئومة، ألم يقدم لنا حصادا وافرا من الأعمال والإنجازات الفكرية الخصبة التي تستحق الحرص عليها، ومنها فلسفة هيدجر نفسه؟!
مع ذلك كله، فهل كان هيدجر هو أول من قال بنهاية الفلسفة ودعا أو بشر بفكر جديد بديل عنها؟! ألم يفعل ذلك قبله كل من هيجل وفويرياخ وماركس الذين «رفعوا» (بالمعنى الهيجلي) تاريخ الفلسفة كل على طريقته - سواء بأن تصبح الفلسفة علما وتخلع عنها التسمية القديمة وهي محبة الحقيقة، كما قال هيجل في مقدمة ظاهريات الروح، أو بأن تتحول عن فوير بلخ من تاريخ للاهوت إلى تاريخ لفلسفة إنسانية شاملة، وعند ماركس من تفسير للوجود والعالم إلى تغيير جذري يبتدئ به عصر جديد وإنسانية جديدة بريئة من الاغتراب والاستغلال والظلم الرأسمالي؟ وإذا كان يحمد لهيدجر أنه دعا إلى فكر جديد يرجع إلى الوجود نفسه، وأصداء الدعوة لفكر إنساني جديد لا تفتأ تتردد بقوة في السنوات الأخيرة، أفلا يمكن القول أيضا بأن هذا الفكر يحف به الغموض من كل ناحية، وأنه إذا كان قد نجح إلى حد كبير في نقد التاريخ السابق فقد جانبه التوفيق في تقديم صورة واضحة المعالم للمستقبل؟ ثم ماذا يمكن أن يطوف بأذهان قرائه من العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؟ ألا نعذرهم إذا اتهموه بأنه أكثر المركزيين الأوروبيين غلوا في المركزية ، وأنه يسقط من حسابه كل ما ليس أوروبيا إلا إذا خضع للسيطرة العلمية والتقنية الأوروبية-الأمريكية؟ وهل يلام أحد منهم إذا افتقد لديه الوعي بالتاريخ والقوى الواقعية المحركة له، وتجاهل الواقع «الكوكبي» الملموس الذي هو حصيلة تراث ممتد لحضارات عريقة وعديدة عبر آلاف السنين، والذي لا يمكن أن نفهم يومه ولحظته الحاضرة بغير الأمس وما قبل الأمس إلى آلاف أخرى من السنين؟ هل يقبل هذا من فيلسوف «الرجعة» الذي لم يرجع إلا إلى أصله الإغريقي وتجاهل أصول هذا الأصل وجذوره التي يستحيل فهمه بدونها؟!
وإذا كان هيدجر يأخذ على التراث الفلسفي - الغربي - أنه تصور الوجود كما لو كان «موجودا» من الموجودات ولم يتركه أبدا ليعبر عن نفسه كوجود - ألا يمكن أن نأخذ عليه هو نفسه أنه قد ثبت نظره على «الوجود» بحيث طبع هذا فكره بطابع أحادي، وربما سكوني وقدري أيضا! وملأ كأسه - حتى فاض على الحافة - بسأم التكرار الفظيع لتلك الكلمة التي كادت أن تصبح تعويذة سحرية مملة؟ لقد تشكك الكثيرون في صلاحية هذه الكلمة المتعددة والملتبسة المعاني لخدمة قضيته، كما تشككوا في إمكان أو جدوى الفصل بين الوجود والموجود في أي حديث عن الوجود، حتى لقد تساءل البعض عما إذا كان التثبت عند الكلمة قد جعله دائم التأرجح بين «التعزيم» السحري والكتمان الصوفي إلى حد التلعثم أو الخرس، ثم من قال إن التراث الفلسفي لم ينشغل إلا بمشكلة الوجود والسؤال عنه؟ ومن قال إن نقد الذاتية الحديثة يمكن أن يتم على أساس المعايير المستمدة من الفكر اليوناني السابق على سقراط؟ ألا يقدم هذا كله دليلا آخر على بعده عن حاضره، وافتقاده للوعي التاريخي، وهروبه لأعماق الماضي الإغريقي في محاولة مشكوك فيها لتفسير التاريخ العلمي والتقني الحاضر بالإضافة للتمهيد لفكر الوجود المنتظر أن يرفرف بأجنحته في سماء مستقبل غامض؟
تلك كانت بعض الأسئلة القليلة التي لا تنفك توجه بصيغ مختلفة لفكر هيدجر ويستحق كل منها بحثا مستقلا لا تتسع له هذه المقدمة، لا شك أن القراء سيمكنهم توجيه أسئلة أخرى أو طرح نفس الأسئلة بأساليب وأشكال متنوعة، والمهم أن آية هذا الفكر «الهيدجري» وفضيلته الكبرى تكمن في إثارة السؤال والإصرار عليه، لا في محاكاته وتقليده واجتراره كما فعل أكثر ضحاياه، ولقد كان هدفي من هذه المقدمة الجديدة، ومن الكتاب كله في واقع الأمر؛ هو أن نتعاطف مع هيدجر أو مع غيره ونتحرر منهم بنفس القدر وبنفس الصدق، أي أن نفكر مع هيدجر - على نحو ما عبر هابرماس - ونفكر ضده أيضا كلما اقتضى الأمر.
13
وأهم شيء في تقديري المتواضع، بعد أن نمر بمرحلة فهمه والتعلم من دقته وإحكام منهجه وإخلاصه وزهده وتفانيه، ومعرفة أسرار قوله وصمته معا؛ أهم شيء هو أن نتعلم منه أيضا جدية التفكير فيما يستحق التفكير من وجهة نظرنا ومن داخل فكرنا واعتمادا على منابعنا نحن وعلى لغتنا وتاريخنا وتراثنا نحن، ولست أشك لحظة واحدة في أن القلة المخلصة من شبابنا المتفلسف - لا الذين يتاجرون بالفلسفة ويدوسون بقولهم وفعلهم على قيمها! - سوف تتعلم الكثير من قراءتها المتأنية لنصوص هيدجر، وسوف تفكر ضده أيضا وتوجه له أسئلة جديدة من زوايا جديدة. (1) ملحق أخير: حوار مع هيدجر
لم يكد يجف قبر هيدجر حتى انهال عليه بعض الناس بحجارة أسئلة من هذا النوع: هل كان معاديا للسامية؟ هل كان يلقي محاضراته وهو يرتدي البزة العسكرية النازية ويضع على كتفه علامة الصليب المعقوف؟ وهل بلغ به الأمر حد اضطهاد أستاذه هسرل ومنعه من أن يطأ بقدمه أرض الجامعة؟ ومع أنها أسئلة كذبها الواقع وأجاب عليها الفيلسوف بالنفي القاطع، فقد نجحت في إيذاء شخصه وتشويه سمعته وبلبلة الرأي العام والرأي الفلسفي وإلقاء ستار من التجاهل والنسيان على أسئلته الفلسفية الحقيقية، ومن بينها السؤال نفسه عن موقفه من السياسة، وقد لزم هيدجر الصمت عن حقيقة علاقته بالنازية على مدى اثنين وثلاثين عاما، إلى أن أجرت معه مجلة دير شبيجل (أي المرأة) المشهورة حوارا شاملا في الثالث والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1966م، وأوصى الفيلسوف مندوبي المجلة ألا ينشر الحوار إلا بعد وفاته، وقد برت المجلة بوعدها ونشر الحديث في اليوم الواحد والثلاثين من شهر مايو سنة 1976م، أي بعد رحيله بخمسة أعوام.
طلب منه المحرران في البداية أن يوضح للرأي العام مواقفه قبل استيلاء النازي على الحكم وبعده، وسألاه عن مدى إمكان تأثير الفلسفة على الواقع وغير ذلك من القضايا التي تحتاج لإلقاء الضوء عليها وعلى التهم التي طالما وجهت إليه وألقت ظلالها السوداء، لا على شخصه فقط، بل وكذلك على فكره.
وبدأ الفيلسوف بتقرير بعده التام عن العمل السياسي قبل توليه منصب مدير جامعة فرايبورج، ثم أخذ يروي الظروف التي تم فيها اختيار جاره مولندورف أستاذ علم التشريح في شهر ديسمبر سنة 1932م لمنصب مدير الجامعة الذي كان من المفروض أن يبدأ تقلده الرسمي له في شهر أبريل، كان بطبيعة الحال يتابع مجريات الأمور، وكان من رأيه أن التطور المنشود في الجامعة والمجتمع يمكن أن يتحقق على أيدي القوى القادرة على البناء.
ولكنه كان مشغولا في ذلك الوقت بالتفسير الشامل للفكر اليوناني قبل سقراط، وفوجئ مع غيره من الزملاء بأن وزارة الثقافة في ولاية بادن-فيرتمبرج التي تتبعها الجامعة قد أقالت المدير الجديد الذي لم يمض على شغل منصبه (بعد السادس عشر من أبريل) أكثر من أسبوعين اثنين، وفسر الفيلسوف ذلك بأن المدير المنتخب حال بين الطلاب النازيين وبين تعليق لوحة تشنم اليهود وتؤلب عليهم بقية الطلاب في مدخل الجامعة، وتوسل إليه المدير المعزول أن يقبل المنصب حتى لا يشغله أحد عملاء السلطة، وبقي هيدجر مترددا عن اتخاذ هذه الخطوة على الرغم من إلحاح زملائه وتلامذته عليه، وظل على تردده بحجة افتقاره إلى الخبرة بالعمل الإداري حتى صباح يوم الانتخاب في مجلس الجامعة، أي حتى اضطراره لقبول المنصب مراعاة لمصلحة الجامعة قبل كل شيء.
وفي اليوم التالي لتوليه المنصب حضر إليه زعيم الطلاب النازيين مع زميلين آخرين وطلبوا منه الموافقة على تعليق اللوحة المشبوهة، رفض هيدجر طلبهما وأصر على رفضه حتى بعد اتصال مسئول الطلاب في الحزب وتهديده له بالعزل، بل إغلاق الجامعة نفسها، ثم بقي مصرا على رفضه حتى بعد أن تبين له عجز وزير الثقافة في ولاية بادن عن الوقوف بجانبه.
واستطرد الفيلسوف قائلا إن الدافع الذي جعله يقبل تولي إدارة الجامعة قد عبر عنه في محاضرته التي بدأ بها أستاذيته بالجامعة - خلفا لهسرل - في سنة 1929م، وهي محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» ولم يكن هذا الدافع سوى توحيد المجالات والأنظمة العلمية التي تناثرت وتفرعت وابتعدت - إلى حد الضمور المميت - عن التجذر في أساسها الجوهري.
أخذ المحاور الصحفي الكلمة وأصر على أن الفيلسوف قد عزف نغمة أخرى في الخطبة التي ألقاها بمناسبة توليه إدارة الجامعة وبعد اغتصاب هتلر للسلطة، وتعيينه مستشارا لدولة الرايخ الثالث بأربعة شهور، وقال الصحفي إنه قد وردت في تلك الخطبة عبارة عن عظمة وروعة البعث الجديد.
لم ينكر الفيلسوف أنه كان مقتنعا بضرورة تلك الانطلاقة وبحتمية ذلك البعث الذي لم يكن ثمة بديل عنه مع اضطراب الآراء وحيرة الاتجاهات السياسية لاثنين وعشرين حزبا سياسيا، وأن البلبلة العامة كانت تقتضي توحيد المواقف الوطنية والاجتماعية، ولم يكن ذلك رأيه هو وحده، بل اتفق عليه عدد كبير من ساسة العصر ومفكريه وأدبائه (مثل فريدريش ناومان وإدوارد شبرانجر وإرنست يونجر وغيرهم)، فضلا عن أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بقضايا فسلفية عبرت عنها كتاباته ومحاضراته التي أعقبت ظهور «الوجود والزمان» (سنة 1927م) كما انشغل بحكم عمله في التدريس برسالة الجامعة ومعنى العلم والبحث العلمي وغيرها من المسائل التي تتصل بصورة غير مباشرة بقضايا الوطن والمجتمع، الأمر الذي انعكس على العنوان الذي أعطاه للخطبة السابقة الذكر مع توليه إدارة الجامعة، وهو التأكيد الذاتي للجامعة الألمانية: ولكن من من الذين يتجادلون حول هذه الخطبة قد كلف نفسه مشقة قراءتها والتفكير المتعمق فيها، وتفسير كلماتها من خلال الظروف السائدة في ذلك الحين؟ إن تلك الخطبة كانت أبعد ما تكون عن «تسييس» العلم أو قصر قيمته ومعناه على فائدته للمجتمع كما تصور الطلاب والدعاة النازيون، لقد وقف توجهها الأساسي ضد استفحال التنظيم التقني للجامعة وفي صف إعادة النظر في مهمة الجامعة بمعنى جديد مرتبط بالتدبر في علاقتها بالتراث الثقافي الغربي في مجموعه، وبتجديد نفسها بنفسها في مواجهة التيار السائد لتسييس العلم.
ولكن المحاور الصحفي ذكره بعبارة قالها في خريف سنة 1933م ورددها معظم الذين شجبوا علاقته بالنازي: «ليست المبادئ والأفكار هي القواعد التي يرتكز عليها وجودكم، وإنما الفوهرر نفسه (أي القائد، والمقصود به هو هتلر)، وهو وحده، هو الواقع الألماني وقانونه في الحاضر والمستقبل».
وأنكر هيدجر أن تكون هذه العبارة قد وردت في خطبة توليه إدارة الجامعة؛ لأنها ظهرت في الجريدة المحلية للطلاب، وكانت نوعا من التنازل الذي اضطر إليه رغبة منه في تسيير أمور الجامعة، وأكد أنه يتبرأ اليوم من تلك العبارة التي لم ينطق بمثلها قط منذ قدم استقالته من منصبه في فبراير سنة 1934م وإن لم تقبل إلا في شهر أبريل.
وردا على التهمة الموجهة إليه بالتعاون مع الحزب النازي وسياسته المعادية للسامية أكد بكل حزم أنه لم يسمح للطلاب بإقامة «حريق الكتب» أمام المبنى الرئيسي للجامعة، وأنه لم يستبعد كتب المؤلفين اليهود لا من المكتبة العامة للجامعة ولا من مكتبة القسم، وأن علاقته بتلاميذه اليهود بقيت على ما كانت عليه من المودة والتعاطف، كما أن الود بينه وبين ياسبرز لم يعكره شيء طوال السنوات السابقة لاندلاع الحرب على الرغم من الإشاعات المغرضة بأنه قاطعه بسبب زوجته اليهودية، وأما عن علاقته بأستاذه هسرل فقد ظلت هي علاقة الاحترام والعرفان بين التلميذ والمعلم؛ بدليل أنه حافظ على الإهداء الذي كرسه له في كتاب الوجود والزمان في طبعاته المختلفة حتى الطبعة الرابعة التي ظهرت في سنة 1935م، ثم اضطر إلى الموافقة على حذفه في الطبعة الخامسة لسنة 1941م لخوف الناشر من مصادرة الكتاب إذا أبقى عليه، ثم إنه لم يبد موافقته إلا بشرط المحافظة على الملاحظة التي يشهد فيها على الصفحة الثامنة والثلاثين من الكتاب بفضل أستاذه عليه ورعايته له، ولم ينشأ الخلاف بين الأستاذ وتلميذه إلا لأسباب موضوعية جعلت هسرل نفسه يعلن تبرؤه العلني منه ومن تلميذه الآخر ماكس شيلر (1874-1928م) متهما إياهما بأنهما حولا فلسفته الظاهراتية الخالصة إلى أنثروبولوجيا متمركزة حول الإنسان، وأما عن الشائعات التي روجت عنه أنه منع أستاذه هسرل من أن يطأ بقدمه أرض الجامعة أو أن يستعير كتابا من مكتباتها، فقد أكد بكل قوة أنها شائعات عبثية مغرضة لم يقصد من ورائها إلا التشهير به، والدليل على ذلك أنه خلال إدارته للجامعة صمم - على غير رغبة الوزارة المختصة - على الحفاظ على أستاذين من أصل يهودي (كان أولهما تانهاوزر مديرا لمستشفى الجامعة، وكان الآخر وهو فون هيفيسي أستاذا للكيمياء الطبيعية)، فكيف يعقل أن يتصرف مثل ذلك التصرف مع أستاذه وصاحب الأفضال العلمية والإنسانية عليه؟ صحيح أن أستاذه وزوجته قد بدآ بمقاطعته هو وعائلته، وأنه قصر من الناحية الإنسانية فلم يقم بزيارة أستاذه في مرضه الأخير ولم يحضر جنازته في شهر أبريل لسنة 1938م، ولكنه كتب رسالة لأرملة أستاذه معتذرا فيها عن هذا التقصير.
واستطرد هيدجر في الحديث عن توتر العلاقة بينه وبين السلطة النازية التي رفضت اقتراحاته بإصلاح الجامعة وتجديدها بالقوى الشابة المتميزة، مما اضطره، بعد عشرة شهور فقط من توليه منصبه، إلى تقديم استقالته، والغريب في رأيه أن الذين شوهوا صورته عند قبوله للمنصب لم يعلقوا بكلمة واحدة على انسحابه منه وتعيين أول مدير نازي في مكانه.
وتفرغ الرجل لدراساته ومحاضراته، وبدأ منذ سنة 1935م محاضراته عن شعر هلدرين ثم عن فلسفة نيتشه، كما بدأ الحزب النازي في مراقبته والتجسس عليه واضطهاده بأشكال مختلفة، ومن أغرب ما يرويه الفيلسوف أن الجهاز الخاص للحزب سلط عليه أحد تلاميذه الذين «تدكتروا» على يديه، ولما رأى التلميذ (وكان اسمه هانكه) بعينيه وسمع بأذنيه أوجعه ضميره فاعترف لأستاذه ذات يوم بأنه أرسل إلى الجامعة لمراقبته وتسقط أخباره، وأنه يبوح له بذلك ليزيح العبء الفادح عن كاهله.
لم يكف الحزب عن مضايقاته له، فلم يسمح بمناقشة كتبه (ومنها نظرية أفلاطون عن الحقيقة)، وهاجمت صحيفته الرسمية «الإرادة والقوة» محاضرة ألقاها عن هلدرلين في روما، ومنع مشاركته في المؤتمر الدولي للفلسفة الذي انعقد سنة 1934م في براغ، ولم يأذن له كذلك بحضور مؤتمر ديكارت الدولي سنة 1937م في باريس؛ مما جعل الأستاذ برييه - رئيس ذلك المؤتمر ومؤرخ الفلسفة المعروف - يستفسر منه عن سبب تأخيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل منع الحزب نشر خطبته التي ألقاها عند توليه إدارة الجامعة، وأمر بأن يوزع كتاباه عن ماهية الحقيقة وما الميتافيزيقا بعد نزع أغلفتهما، ووصل الأمر إلى حد رفض الحزب إعفاءه من الخدمة العسكرية في آخر سنوات الحرب، على الرغم من إعفائه خمسمائة غيره من العلماء والفنانين، وكان أن كلفه بالاشتراك في أعمال السخرة في إقامة التحصينات والاستحكامات على ضفاف الراين، ثم ختم ذلك كله بإعلان الاستغناء عن خدماته مع زميله المؤرخ جرهارد ريتر، وأخيرا «توج» اضطهاده له بتجنيده في فرق العاصفة مع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس الذين كانوا جميعا يصغرونه في السن.
ويتطرق الحوار بين هيدجر ومندوبي المجلة إلى مشكلة التقنية التي لا يستطيع الإنسان - بحكم طبيعتها وماهيتها - أن يتحكم فيها، وإلى حيرته وتشككه في النظام السياسي الذي يمكن أن يكون ملائما لعصر التقنية الكوكبية الذي يواجه الإنسان بأخطر المخاطر التي تهدد حياته ومصيره أكثر بكثير من كل ما واجهه طوال تجربته التاريخية، وهو خطر اجتثاث جذوره من الأرض والسكن والوطن والبيت والتراث والوجود والحقيقة ... «ولن يجدي الإنسان أمام الموت والنهاية المتوقعة سوى الرجوع إلى الشعر والفكر، أي إلى القوى التي تستغني عن استخدام القوة».
ويسأله الصحفي: إزاء الدولة التقنية المطلقة التي أكدت نفسها بالفعل أو هي بسبيلها إلى تأكيد نفسها (هل كان يتنبأ بالدور الأحادي الذي تقوم به أمريكا في الوقت الحاضر؟!) ماذا يبقى للفرد أن يفعل وهو يواجه هذا القهر؟ وهل في وسع الفلسفة أن تؤيده في اختياره وفعله، هل في وسعها أن تؤثر - كما فعلت على الدوام - بطريقتها غير المباشرة؟
ويرد الفيلسوف بأن الفلسفة لن تستطيع أن تغير أوضاع العالم الراهنة تغييرا مباشرا، ولا يسري هذا على الفلسفة وحدها، وإنما يصدق على كل تفكير ومسعى بشري، هنا لن يعيننا إلا الله، وكل ما علينا هو الاستعداد وتهيئة أنفسنا لكي ينقذنا من الهاوية التي نوشك على التردي فيها، والأمر يتوقف في النهاية على الوعي بأن الوجود يحتاج للإنسان لكي يتجلى له فيرعاه ويصونه ويشكله ويشكل حياته استجابة له، ذلك هو ما يمكن أن يساعد به الفكر «الآخر» بطريقته غير المباشرة في التأثير والتغيير، أما الفلسفة التقليدية فقد بلغت في رأيه نهايتها وأصبحت عاجزة عن أي تأثير؛ لأن العلوم المختلفة - وبالأخص السيبرنيطيقا - قد تولت عنها القيام بهذا الدور.
لم يبق إذا إلا الرجعة ل «فكر الوجود» - هذا المراوغ المتعدد المعاني الذي يجب ألا نفهمه على معنى الموجود أيا كانت طبيعة هذا الموجود - مثل هذا الفكر لا يملك إلا أن يسأل وينفتح ويتحاور ويطرح الأسئلة التي لم تطرح من قبل ولا تلائمها الإجابات السابقة، وإذا استطاع هذا الفكر أن يغير شيئا فهو التغيير غير المباشر الذي يتطلب السير المتأني على دروب الصبر والخشوع والانتظار والإعداد والاستعداد ... وإذا استطاع أخيرا أن يوقظ هذه «القيم»، بعيدا عن رتابة المواعظ وحذلقة المتفيهقين وفظاظة الغوغائيين، فهذا وحده يكفيه، ويتواصل الحديث عن التقنية الكوكبية، وعن عجز النازية، فضلا عن عجز النفعية أو البرجماتية الأمريكية، عن سبر ماهيتها، وعن احتمال أن يصل الروس أو الصينيون ذات يوم - بفضل ما لديهم من فكر تراثي عريق - إلى إتاحة تكوين العلاقة الحرة والأصيلة بين الإنسان وبين عالم التقنية.
ثم يتجه الفيلسوف على عجل إلى الكلام عن هلدرلين الذي يعتقد أنه هو الشاعر الذي يدل على المستقبل، ويحيا وينظم شعره على أمل الإنقاذ الذي سيأتي - في رأيه - من السماويين والأرضيين، والذي يهيب به غيره من الشعراء الأصلاء الذين «يؤسسون ما يبقى».
ويستطرد الحديث بعد ذلك عن هلدرلين ونيتشه فيذكر له المحاور الصحفي عبارة وردت في إحدى محاضراته عن نيتشه التي ألقاها بين سنتي 1935م، 1937م عن أن الصراع المعروف بين الديونيسي (أي التوهج الانفعالي والنشوة المقدسة) والأبوللوني (أي التوجه العاقل المنظم المستنير) كما عاشه كلا المفكرين الشاعرين قد وضع أمام الألمان علامة استفهام كبرى على الطريق لمعرفة حقيقتهم القدرية والاهتداء لماهيتهم و«قدرهم» التاريخي - فما هو رأي الفيلسوف في ذلك؟
ويجيب هيدجر بأنه على اقتناع تام بأن المكان الذي نشأ فيه العالم التقني الحديث هو نفسه المكان الذي يمكن أن تنبثق منه الرجعة (أو الهداية والإنقاذ) بحيث لا يمكن أن تأتي من بوذية الزن ولا من أي تجربة شرقية أخرى بالوجود، وتحقيق هذه الرجعة أو هذا التحول في التفكير يحتاج لاستيعاب التراث الأوروبي من جديد ومراجعته، فالفكر لا يتحول إلا بالفكر الذي يعرف أصله ومصيره، أي أن العالم التقني لا يحتاج لأن يستبعد أو ينفى؛ لأن ذلك محال، وإنما هو بحاجة لأن يرفع - بالمعنى الهيجلي للكلمة - إلى مستوى آخر أعلى وأكثر خصوبة، وإن لم يكن من الممكن أن يتم هذا الرفع بواسطة الإنسان وحده. - ولكن هل تسند للألمان دورا في هذا التحول؟ - أجل، بالمعنى الذي يبينه حديثي عن هلدرلين. - وهل يملك الألمان مقومات هذا التحول أو هذه الرجعة؟ - نعم، بفضل القرابة الوثيقة بين اللغة الألمانية واللغة والفكر اليوناني. ولعل الفرنسيين هم أقدر الأوروبيين على إتمام هذا التحول، هذا إذا تنحوا عن تراثهم العقلاني العظيم وبدءوا يفكرون تفكيرا ألمانيا.
14
وينتقل الصحفي إلى الأزمة الديموقراطية والبرلمانية التي كانت تمر بها ألمانيا في ذلك الوقت (من أواخر عام 1966م) ويسأل: هل ينتظر من الفيلسوف أن يشارك بالرأي أو أن يشير على الأقل بطريقة غير مباشرة إلى سبيل الخروج من الأزمة: هل هو نظام بديل أم إصلاح للنظام القائم؟ وعلى أي نحو يمكن أن يتم الإصلاح؟ ألا يصح أن ينتظر الرجل العادي من الفيلسوف أن يمده بأفكار تعينه على الحياة وسط العالم التقني الذي قهره وضيق عليه الخناق؟ ألا يكون الفيلسوف قد تخلى عن جزء ولو قليلا من مهمته وواجبات مهنته إن لم يتواصل مع الرجل العادي؟
ويقول الفيلسوف بعد صمت مفعم: بقدر ما أرى، ليس في إمكان مفكر واحد أن يتبصر بأحوال العالم في مجموعه بحيث يقدم تعليمات عملية، وبالأخص فيما يتعلق بإيجاد أساس للفكر نفسه - إننا نطالب الفكر الذي يأخذ نفسه مأخذا جادا بالنسبة للتراث الضخم الذي يحمله، نطالب هذا الفكر بما يفوق قدرته لو طالبناه بأن يقدم هنا نصائح أو تعاليم عملية.
لا يوجد خطاب سلطوي في مجال الفكر، والمعيار الوحيد للفكر مستمد من الموضوع الذي يفكر فيه، وهذا الموضوع نفسه هو أكثر الأمور مدعاة للشك والسؤال، ولتوضيح هذا ينبغي إلقاء الضوء على العلاقة بين الفلسفة والعلوم التي أدى نجاحها العلمي والتقني إلى جعل الفكر الفلسفي أمرا سطحيا لا ضرورة له، هذا هو الوضع الحرج الذي يجد فيه الفكر نفسه وينظر فيه إلى مهمته، يقابله نوع من الاستغراب أو الإشفاق - الذي تغذيه القوة المتنامية للعلوم - من عجز الفكر عن الإشارة برأي في القضايا العملية والسياسية.
وينتهي الحوار باستطراد قصير عن أحوال الأدب والفن والحديث الذي سبق لهيدجر أن وصفها بأنها مدمرة، ويرد عليه محاوره مدافعا عنهما بأنهما يجربان ويقدمان محاولات يخطئ معظمها ويصيب أقلها، وأن الفنان والأديب لا يمكن أن يلتزم بما كان يلتزم به سلفه قبل ثلاثمائة عام ولا حتى قبل ثلاثين عاما.
ويعبر الفيلسوف عن رغبته في الاستفادة من محدثه فيسأله: أين يقف الفن اليوم؟
ويرد عليه الصحفي بأنه يطالب الفن بما لا يطالب به الفكر، ويؤكد الفيلسوف أنه لا يعرف في الحقيقة ما هو الهدف الذي يتوجه إليه الفن الحديث، وأن الغموض ما يزال يكتنف رؤيته لما هو فني.
ويقول محدثه: إن الفنان والشاعر والكاتب يجدون أنفسهم اليوم في نفس الموقف الذي يجد فيه المفكر نفسه، ويقول الفيلسوف في النهاية: لو نظرنا للأمر من منظور «النشاط الثقافي» لأمكننا وضع الفن والشعر والفلسفة على نفس المستوى وفي نفس الإطار، لكن مجرد الشك في هذا النشاط وفي معنى الثقافة نفسها يجعلهما من موضوعات الفكر ومن المهام التي يواجهها هذا الفكر الذي يصعب علينا تصور محنته، والمحنة الكبرى للفكر - بقدر ما تسعفني الرؤية - تكمن في أنه لا يوجد اليوم مفكر عظيم بمعنى الكلمة يمكنه أن يجعل الفكر يواجه موضوعه مواجهة مباشرة بحيث يدفعه للسير في الطريق الخاص به، إن عظمة ما ينبغي التفكير فيه اليوم لأعظم مما نتصور أو نقدر، والشيء الوحيد الذي يمكننا فعله ربما يكون هو البحث عن دروب ضيقة وصغيرة يمكن أن تساعدنا على بناء معبر مؤقت يصلح للسير عليه.
وأمام هذه الحيرة وهذا العجز - الذي يفيض بالصدق والأمانة - إزاء محنة العصر ومحنة الفيلسوف يتوقف الحوار ويقدم المندوبان الصحفيان شكرهما للفيلسوف.
مدينة نصر، يونيو 2000م
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
ما الحقيقة؟
أين نجدها وكيف نعرفها؟
بأي سهم نريش طائرها الأبيض المستحيل، أي قفص لغوي يتسع لآفاقها البعيدة وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟ ما معانيها المختلفة باختلاف المذاهب والمدارس، عند القدماء والمحدثين، والمثاليين والواقعيين، في المنطق ونظرية المعرفة، بمدلولها الوجودي (أو الأنطولوجي)، والعملي أو النفعي؟ أهناك حقيقة مطلقة أم حقائق نسبية؟ أهي الحقيقة الأصلية التي نتطلع إلى نورها، ونحاول أن نندمج فيها ونتحقق بها ونقف منها موقف التسليم والخشوع، أم الحقيقة الفعلية التي نغزوها وننتزعها انتزاعا كما يقول أبو البركات البغدادي في المعتبر في الحكمة وجوته في فاوست
1
وهيدجر في بعض نصوصه؟ أنشارك نحن البشر في صنعها وخلقها؟ أم ليس علينا إلا أن نطهر بيتنا ليكون أهلا لزيارتها، ونهيئ مصباحنا لكي تلمس فتيله بشرارتها؟ أنتقدم نحوها بجهدنا وجهادنا خطوة خطوة، أم ننفتح عليها ونتركها تكون وتنير؟ ألكل حقيقته، كما يقول بيراندللو في عنوان إحدى مسرحياته أو كما يفهم من عبارة بروتاجوراس: للشاعر والفنان، والعالم والفيلسوف، والعامل والفلاح، والمفكر ورجل الشارع؟ أم أن الحقيقة قيمة نظرية ومثال معرفي يسمو على التغير والتطور، ويرتفع فوق الزمان؟ أهي كيف وصفة أم علاقة بين ذات وموضوع ووعي ووجود؟ أنلتمسها في اتساق الفكر مع نفسه، أم في تطابق العقل مع الأشياء أو الأشياء مع العقل؟
أهي وسيلة أم غاية، طريق أم هدف، فكر أم فعل، خلق وكشف أم إنجاز وتحقيق عملي، انعكاس للواقع على الشعور أم فعل محض لهذا الشعور؟ ألها مقاييس موضوعية تحدد شروطها وتجنبها الزيف والخطأ، أم هي كامنة في صميم الذات الحميمة الممتنعة على العلم والموضوعية والقياس والتحديد؟ أنصل إليها حين تتحقق الفكرة العينية الكلية ويكتمل وعي المطلق بذاته، أم نغزل بساطها اللانهائي خيطا خيطا مع كل كشف علمي جديد، وكل فعل بشري يسجل صراعنا مع الطبيعة والواقع وتعبنا وكفاحنا عبر التاريخ؟ متى تكون الحقيقة حية أو ميتة، خصبة أو عقيمة؟ متى تكون نوعا من الخطأ لا يستطيع نوع معين من الأحياء أن يعيش بدونه، كما يقول نيتشه، وكيف يكون الخطأ - لا الإصرار عليه! - خطوة على الطريق إليها؟ إلى أي حد تتفق ماهيتها مع مفهوم الإغريق عن «الأليثيا» من أنها فعل الكشف الذي يخرجها من طوايا الخفاء والاحتجاب؟ أهي في النهاية قضية معرفة بما هو موجود والتعبير عنه بالحكم، مصداقا لعبارة أرسطو المشهورة من أن الحكم الصادق هو الذي يقول عن الموجود إنه موجود، وعن غير الموجود إنه غير موجود، أم تتصل إلى جانب ذلك بمجال الدين والوحي، والشعور والفن، والسلوك والأخلاق؟
أسئلة لا آخر لها، صحبت الإنسان منذ أن بدأ يعي ويعبر باللغة، وستبقى ما بقي العالم والإنسان، وضعت عنها مئات الكتب والبحوث، واختلفت حولها المذاهب والعقول والقلوب، وستظل مختلفة ما دامت تواجه الألغاز في الباطن والظاهر، والداخل والخارج. ولقد عشت معها في الفترة الأخيرة من حياتي، وحيرتني كما حيرت غيري، ثم دلتني رحلتي الطويلة مع «هيدجر» إلى اختيار درب واحد من متاهتها، والاكتفاء بخيط واحد من عقدتها المتشابكة، وعكفت على نقل النصوص الثلاثة التي تجدها بين يديك، ثم حاولت أن أقدم لها بمقدمة عن مشكلة الحقيقة، فوجدت أن الموضوع أضخم من كل المقدمات، وأن هناك من وفاه حقه في لغتنا العربية أو كاد، وأقصد به الدكتور فؤاد زكريا الذي خصص له رسالته في الدكتوراه (وإن لم يتكرم بنشرها بعد!) والذي يشرفني أن أهدي إليه هذا الكتاب، ثم فكرت في أن أمهد للكتاب بصفحات عن فلسفة هيدجر، وإذا بالتمهيد ينمو ويتسع على هذه الصورة التي أرجو أن تكون وافية بقدر الطاقة، وإذا به هو نفسه يحتاج إلى تمهيد أوجزه في هذه الملاحظات: (1)
لن تجد مثقفا في عالمنا الحديث لم يعرف شيئا قليلا أو كثيرا عن هيدجر، أو لم يقرأ له أو عنه في مجال تخصصه واهتمامه، أو لم يسمع باسمه في محاضرة تتناول شئون الفلسفة والتراث الفلسفي، أو تتطرق للحديث عن محنة العالم المعاصر ومظاهرها المخيفة من حروب وصراعات وتلوث بيئة ومشكلات تقنية وأخطار دمار شامل ... والواقع أن أهميته لا ترجع إلى كونه «فيلسوفا» بالمعنى التقليدي المفهوم عن هذه الكلمة، بل إلى أنه يمثل تحولا بارزا في الفكر المعاصر، ودعوة للإنسان إلى فكر جديد، ولهذا نلمس تأثيره على دراسة الفلسفة بمعناها الضيق، كما تتبينه على مختلف الميادين من شعر وفن ونقد أدبي، إلى علوم طبيعية ونفسية وطبية وإنسانية، كما يتجلى أيضا في موجة التحمس الشديد له أو تيار السخط البالغ عليه، وتنظر في ناحية فتبهرك حالة السحر التي تحيط به، أو يفاجئك سيل الشتائم الذي يقذفه بها خصومه، وبين الطرفين مئات البحوث والدراسات، التي تكتب عنه وتحاول أن تقيمه من هذا الجانب أو ذاك، ويتعذر عليك أن تتخذ موقفا موضوعيا منصفا لعل ساعته التاريخية لم تأت بعد، ولكنك ستعرف على كل حال أنه الحفيد الشرعي لبعض أجداده من أصحاب الطموح الرائع: كانط وهيجل ونيتشه، وأن هذا هو قدر كل فكر يريد به صاحبه أن يحدث تغييرا شاملا ويحول التيار التقليدي في اتجاه جديد، فإما أن ترفضه كله أو تقبله كله؛ لأنه ينطوي على محاولة جبارة لنسخ كل ما سبقه أو على الأقل لإعادة النظر فيه، وهو لهذا لا يمكن أن يخلو من الشطط والإسراف، وستجد نفسك - كما يقول المناطق - بين قرني الإحراج: فإما أن تتبنى وجهة النظر الجديدة فتجرفك وتستولي عليك بحيث يصبح كل ما سبقها في ذمة التاريخ، أو تحكم عليها من وجهة نظر ثابتة آمنت بها أو اعتدت عليها، فتبدو لك كل فلسفة هيدجر طلاء لفظيا ونقشا معقدا بغير جدار يستند إليه، أو مجرد محاولة للتعبير عن «اللامعقولية» بأسلوب معقول بل مضن للعقل! فإذا حاولت أن ترتفع فوق كلا الطرفين اللذين أضرا بهذه الفلسفة بدرجة متساوية، وجدت صعوبة في اكتشاف الجوانب الإيجابية التي سلمت من مبالغات الأصدقاء والأعداء، ولا يبقى لك إلا أن تدخل بنفسك عالم الفيلسوف لتحاول أن تجرب تجربته «من الداخل» قبل إصدار حكم نقدي مستقل عليها أو الانتهاء إلى حكم موضوعي أخير ربما يطول انتظارنا له، وربما يكون مستحيلا في حياة الفيلسوف نفسه! (2)
إذا كان من المعتاد أن نسأل: بمن تأثر الفيلسوف؟ فإن الجواب في حالتنا هذه عسير إلى أبعد حد؛ فالفيلسوف الأصيل، كالأديب الأصيل، يلتقط غذاءه الفكري من مختلف الموائد، فيسيغه ويحوله إلى دم يصعب أن نحلله لنقول: هذه الكرات الحمراء من فلان، وهذه البيضاء من علان! وقارئ هيدجر يراه يدخل في حوار مع أعلام التراث الفلسفي، ويذهل لعلمه الواسع بينابيعه القديمة والوسيطة والحديثة، ولكنه يلاحظ أيضا أن معظم حواره يدور مع فلاسفة وشعراء في مقدمتهم: هسرل، وماكس شيلر، ودلتاي وبرجسون وفلاسفة الحياة، الكانطيون الجدد، وكيركجور، وهلدرلين، ورلكه، وتراكل، وقبل هؤلاء ليبنتز، وكانط وهيجل ونيتشه، وأوغسطين ودونس سكوتس وتوماس الأكويني، وأرسطو وأفلاطون، ومن قبلهم جميعا المفكرون قبل سقراط، وخاصة أنكسمندروس وبارمنيدز وهيراقليطس! ومع ذلك يمكن القول بأن أكثر من أثر عليه هما: دلتاي، الذي أخذ عنه وجهة النظر «المباطنة» أو الكامنة التي لا تستعين بأي حقيقة مجاوزة للعالم، ومنهجه في تفسير الوجود الإنساني من داخله دون افتراض أي مبدأ عال، ونزعته التاريخية القائمة على التفهم والتجربة الحية، وكذلك كيركجور، الذي لا يميل كثيرا إلى الاعتراف بتأثيره عليه أو يقلل من شأنه على أقل تقدير! وقد أخذ عنه الجو الروحي والوجودي القاتم المعذب، والإحساس المفجع بالتوحد والغربة والقلق والهم والذنب.
ولا شك أيضا أنه تأثر إلى أقوى حد بتأملات أوغسطين عن الزمان وفكرته عن «اللحظة» بوجه خاص باعتبارها «توتر النفس» الذي فيه تستجمع الماضي وتتهيأ للمستقبل، كما أخذ عن أرسطو إثارة مشكلة الوجود بأسرها، وفسر كانط تفسيرا لا يرضي الكثيرين.
مهما يكن من شيء فليس من الإنصاف أن نجعل من فكر هيدجر بناء تلفيقيا نرد كل حجر فيه إلى أصحابه! ففيه إلى جانب التأثر الحتمي بالتراث مركب جديد فريد، وخاتمه الخاص يلون كل أجزائه بل كل عبارة فيه، ولا يزال هذا الفكر أشبه بجبل شامخ لم تطرق كل شعابه ومسالكه، أو كنز غني لم تفرض كل ثرواته، وفيه نقط انطلاق للبحث لم تمس خيوطها بعد، ومشكلات لم تجد الحل الأخير، ولعل السنين المقبلة أن تقدم النظرة الموضوعية الصالحة للحكم له أو عليه، بعد أن يتغير الزمان والجو الذي نعيش فيه ولا يعود هيدجر مجرد فيلسوف «أزمة» يتحدث للإنسان في «محنة الوجود»، عندئذ يمكن أن تخبو هالة السحر التي تشع من جبينه، كما تخفت أصوات لعنات السخط التي تتعالى حوله، عندئذ يوضع في ميزان العقل الصحيح! (3)
لا شك أن قارئ هيدجر يشعر بجو قاتم مفجع، ترفرف عليه أجنحة الموت والمأساة، ولكننا نخطئ لو أسأنا فهمه وتصورناه داعية اليأس والتشاؤم والعدمية واللامعقولية كما نعته الكثيرون؛ فتفكيره في محنة العصر لا يجعله نذير خراب، وحسه الجاد العميق لا يصبغه بسواد التشاؤم، صحيح أن فكرة العلو - أو الترانسندنس - تقوم عنده بدور هام، ولكنه علو مرتبط بطابع الإمكان الذي يعبر عن صميم ماهية الإنسان الذي لا يبلغ النهاية أو التمام أبدا، بل يحيا دائما حياة كائن «لم يكن بعد»؛ لأنه يسعى إلى تحقيق إمكاناته، ولا بد أن يعلو فوق وضعه الحاضر باستمرار.
هذا العلو قانون أساسي من قوانين وجوده المرتبط بالمستقبل على نحو ما سنرى بعد، ومع هذا فنحن نفتقد لديه العلو ذا «البعد الرأسي» إن صح هذا التعبير، الذي نجده عند أفلوطين أو عند فيلسوف معاصر مثل ياسبرز أو عند تلميذه - أقصد هيدجر - وهو فلفجانج شتروفه.
2
وأعتقد - إن لم أكن مخطئا - أن هذا «العلو الرأسي» الذي يتجه بالإنسان إلى الحقيقة العالية كان خليقا بأن يخفف من وطأة القتامة والجهامة والمأساوية التي تشيع في عالمه.
أضف إلى هذا أننا نظلمه من ناحيتين: إذا وصفناه بأنه ممثل الجناح «الملحد» من فلسفة الوجود، كما هي العادة في معظم ما يكتب عنه في العربية، وإذا دمغنا فلسفته بالإستاتيكية أو السكون والسلبية، كما يذهب أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي مثلا،
3
فهيدجر نفسه يرفض أن توصف فلسفته بالإلحاد، وينكر هذه الكلمة الفظيعة كل الإنكار، بل إنه ليصرح في بعض أحاديثه بأن فكره يهيئ «بعد القداسة» الذي يجب أن يسبق كل حديث عن الله أو عن الدين، والمتأمل لفلسفته لن يخطئ فيها تأثير الأفلاطونية الحديثة وأوغسطين والعصر الوسيط وباسكال وهامان وهيردر وكيركجور، وإذا كان قد حرص دائما على البعد عن الدين، فإنه لم يغلق باب الحوار بينه وبين رجال اللاهوت المسيحي - لا سيما البروستنتيين منهم - الذين أفادوا من كثير من جوانب فلسفته، ولو أمعنت النظر في فلسفة الوجود عنده وعند غيره للمست تأثير التصورات الدينية عليها بصورة لا يمكن أن تخطئها العين، ألا يذكرك وصفه الإنسان بأنه الموجود الذي يهتم بوجوده وكلامه عن الهم والقلق وحرصه على تحقيق الوجود الأصيل؛ بما تسعى إليه الأديان من الخلاص والنجاة؟ ألا تلمس في تحليلاته للذنب والضمير أصداء بعيدة من الخطيئة الأولى؟ صحيح أنها قد اجتثت من جذورها الدينية الأصلية ودخلت في سياق التفسير «المباطن» البعيد عن كل حقيقة عالية، ولكنها لا تزال مع ذلك تفوح برائحة العاطفة الدينية الحارة، وإن تكن عاطفة متدين عنيد! (4)
لا شك بأننا نميل بطبعنا إلى تصنيف الناس ووضعهم في «خانات»، وهذا يريحنا منهم إلى حد كبير! فإذا عرفت أن هذا الرجل «ماركسي» أو «وجودي» أو «تقدمي» أو «رجعي» أو «عدمي» أو «واقعي» أو «رومانتيكي» أمكنك بعد ذلك أن تحبسه في سجن محدد لا يخرج منه أبدا! هذا - كما تعلم - هو الاتجاه الغالب عندنا على صغار النقاد والكتاب الذين يملئون حياتنا صياحا وثرثرة وشوشرة، ويقذفون الناس بأحجار الشعارات والمصطلحات التي لم يحاولوا تمثلها والتساؤل عن أساسها ومصدرها وسياقها في تاريخ الأدب والفكر والحياة، ولن تعدم أيضا أمثال هؤلاء في الغرب، وإن كانوا بطبيعة الحال أكثر علما ووعيا وأشد بعدا عن التظاهر والضجيج والدجل، فكم من ناقد أو شارح اتهم هيدجر بالعدمية واللامعقولية، بل اتهمه بالرجعية وبتأييد الإمبريالية والرأسمالية، وحمله مسئولية أي حرب ذرية مقبلة ستحقق الموت والعدم الذي طالما تغنى به!
وقد تسأل - إن كنت من المغرمين بالتصنيفات - ألم يكن الأولى بهيدجر أن يطلق على بحثه في الوجود الإنساني اسم «الأنثروبولوجيا» بدلا من «الأنطولوجيا الأساسية»، ما دام يبدؤه في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» من الإنسان، ولا يتجاوز دائرته «على الأقل في المرحلة الأولى من تفكيره»، وما دام يعرف الإنسان بأنه هو الموجود الذي يهتم بوجوده، أو بالأحرى بإمكان وجوده؟ ولكنك في هذه الحالة تنسى السؤال الأساسي الذي انطلق منه وهو السؤال عن معنى الوجود، وتنسى أن بحثه في الوجود الإنساني وبنيته وأحواله ومسلكه من العالم المحيط به لم يكن سوى معبر إلى ذلك السؤال، لم يكن الإنسان بما هو إنسان - كما هو الحال في الأنثروبولوجيا - هو موضوع هذا البحث، بل كان وسيلة للوصول إلى تصور واف عن الوجود؛ ولهذا كان سؤاله: هل هناك طريق يؤدي من تناهي الإنسان إلى الوجود؟ وظل موقف هيدجر من هذه المشكلة موقفا نظريا، على العكس من باسبرز الذي أكد أهمية الجانب العملي في الوصول إلى تحقيق الوجود الذاتي، بينما تركه هيدجر مسألة خاصة بالإنسان الفرد نفسه يحدده بنفسه في المواقف التي تواجهه.
وقد تسأل أيضا: إذا كانت فلسفة هيدجر قد تناولت عددا كبيرا من الظواهر والوقائع «اللامعقولة» التي لم تنتبه إليها الميتافيزيقا التقليدية، وعبر عنها كيركجور كما عبرت عنها فلسفة الحياة في صورة تتسم بالمفارقة التي ما لبثت أن رفضت بدعوى أنها غير علمية - إذا كانت قد تناولت هذه الوقائع وأضفت عليها الطابع الأنطولوجي والظاهراتي، فهل تكون فلسفته عقلانية أم لاعقلانية (صوفية)؟ والجواب على هذا أنه يشجب كلا الموقفين الأحاديين؛ فالعقلانية في رأيه «بلا قوة» والصوفية «بلا هدف»، ولهذا فمن التجني عليه أن تسمي فلسفته عقلانية أو لاعقلانية لأنها تنفذ إلى طبقات أعمق لا تعرف عنها هذه المواقف الأحادية شيئا؛ ولهذا أيضا نجد لديه هذه العبارة الجديرة بالالتفات: «إن النزعة اللاعقلانية - بوصفها الطرف المقابل للعقلانية - لا تتحدث إلا كحديث الأحول عما تعمى عنه النزعة العقلانية!».
4
ولن يمكنك أن تتابع تحليلاته للهم - أو للإنسان الذي يهتم بوجوده - حتى تتخلص من كثير جدا من التصنيفات المألوفة والمفاهيم التقليدية، ولعل هذا أن يكون من أسباب صعوبته وما يبدو لديه من تعسف للكلمات والنصوص ولي أعناقها! ومن لم يتعود على هذه الرؤية الجديدة فسيظل يتخبط في فلسفته كما يتخبط المكفوف بين الألوان التي تحاول عبثا أن تشرحها له! ولو قرأته بإمعان وصبر وبغير أفكار مسبقة، كما يتطلب المنهج الظاهراتي الدقيق، فلن تجد لديه عدمية ولا سلبية ولا قدرية، بل تصميما وسعيا متصلا إلى تحقيق الوجود الأصيل، إنه فيلسوف وجود قبل كل شيء، بعيد عن أي تقويم أخلاقي، وكل هدفه من تحليلاته الأنطولوجية الخالصة أن يصل إلى معنى الوجود العام أو يجد طريقا يوصل إليه، ولهذا لم يخطئ الذين سموه أرسطو العصر الحديث، ولا أخطأ الذين قالوا: إننا نتعلم منه شيئا لا نتعلمه إلا من كبار الفلاسفة منذ أفلاطون إلى كانط وهيجل؛ ذلك هو القدرة على التفلسف وطرح السؤال وإثارة الفكر. وهذا هو الذي يبقى مما يؤسسه الفلاسفة، إن جاز لنا أن نتصرف في عبارة هلدرلين عن الشعراء! والمهم بعد كل شيء أن نتعلم منه كيف نفكر، لا أن نتركه يفكر لنا، وأن نفكر معه وضده إذا اقتضى الأمر لا أن نفكر مثله، ونحن بالذات أحوج ما نكون إلى معرفة هذا. (5)
سيلاحظ القارئ أن هيدجر ينطلق في تحليلاته الأنطولوجية للوجود الإنساني من الحياة اليومية أو «الموقف الطبيعي» الذي نحياه جميعا، مبتعدا بذلك كل البعد عن المنطلق العقلاني-الديكارتي من الوعي أو الفكر أو المعرفة أو العقل، وهذه التحليلات للوجود - في العالم والوجود - بالقرب من الأشياء والمعية والأداتية ... إلخ؛ تعد من أثمن ما قدمه هيدجر للحياة الفلسفية، ولكننا سنلاحظ مع ذلك أنه يسرف في الكلام عن ألوان «السقوط » في هذه الحياة اليومية المبتذلة، و«الضياع» وسط «الناس»، إلى جانب عدم التزام الدقة في تحديد الكلمات اليومية الغامضة تحديدا منطقيا محكما.
هل معنى هذا أنه خرج عن تحليلاته الوجودية الخالصة؟ وهل أصدر أحكاما تقويمية على «الناس» على العكس مما صرح به دائما من أن بحوثه الأنطولوجية لا علاقة لها بأي نوع من التقييم أو التقويم؟ ربما وجدت أنني تجاوزت هذه التحليلات إلى شيء من التقويم الذي أعترف أنني اندفعت إليه تحت تأثير الظروف العامة أو الخاصة التي أعيش فيها، وربما يكون هذا تعبيرا عن سعيي إلى «الوجود الأصيل» وإيماني بأن مهمة الفلسفة الكبرى والفكر بوجه عام أن تهدينا إليه، لا شك أنني تخطيت الحد الذي وضعه هيدجر، ولكن ألم يتجاوزه هو نفسه بتحليلاته لهذا السقوط؟ أيمكن أن يفصل الوجود عن القيمة، والأنطولوجيا عن الأخلاق؟ إن السؤال ما يزال مطروحا على كل حال، ويؤيد ظني ما نجده في كتابات هيدجر المتأخرة من هجوم عنيف على الحس السليم وإصرار على أن التفلسف لا يبدأ إلا بالتخلص منه وإعلان الحرب عليه! (6)
يوشك هيدجر أن يكرر كلمة «الوجود» في كل سطر يكتبه! ولهذا لا بد أن نحاول إلقاء الضوء على هذه الكلمة، ويمكن أن نلاحظ بوجه عام أنه يستخدم الكلمة بمعناها الكلي الأفلاطوني؛ أي بمعنى وجود الموجود دون معناها عند أرسطو وهو الموجود بما هو موجود، والواقع أنه يمضي في الكلام عن الوجود دون تحديد منطقي له؛ إذ إن الكلام عن الوجود بهذا الأسلوب الأفلاطوني على أنه موضوع يفترض وجودا سابقا عليه؛ هو وجود الوجود وهكذا إلى ما لا نهاية كما بين فرانز يرنتانو بحق، أضف إلى هذا أنه لا يميز بين المعاني المختلفة التي تستخدم كلمة «يوجد» أو «يكون» في عباراتنا اليومية، فهي أحيانا تكون رابطة كما في قولنا مثلا: «السماء «تكون» زرقاء»، وأحيانا تشير إلى العضوية في فئة معينة كأن نقول مثلا: «طه حسين أديب» أو «الأسد حيوان صحراوي» إلى غير ذلك من الاستخدامات التي يرمز لها المنطق الرياضي بعلاقات الهوية والتضمن والعضوية في الفئة إلى جانب استخدام الكينونة من ناحية الجهة كالإمكان والضرورة ... إلخ، وغير ذلك من الحالات التي لم يعن هيدجر بتمييزها بوضوح قبل الشروع في بحوثه الأنطولوجية.
هذا إلى استخدامه لكلمة العدم، خصوصا في محاضرته عن الميتافيزيقا ، وكأن العدم موضوع أو اسم، على الرغم مما ينطوي عليه هذا من مشكلات منطقية عديدة تنجم عن استعمال اللغة اليومية الغامضة ونحوها غير الدقيق، أو عن استخدام نفس الكلمة بمعنى واحد في المجالين العلمي والعادي معا دون تمييز، أو إضفاء شحنات عاطفية على كلمات لا تحتملها أو بمعنى مختلف تمام الاختلاف عن معناها المألوف في التراث، في الوقت الذي كان من الممكن أن ينحت لها كلمة جديدة ... إلخ.
5
ولو نظرنا من الناحية التاريخية لرأينا أن وجود الإنسان الذي يقصده هيدجر؛ بعيد عن تصور فلسفة الحياة له أو تصور الشخصانية «عند شيلر مثلا» أو المثالية الهيجلية، فليس هذا الوجود منبعا خلاقا للحياة ولا روحا مطلقا، ولا حياة شاملة أو عقلا كونيا يمكن أن يحتضن الإنسان ويطويه ويؤمنه من الخطر؛ ذلك لأن الوجود الذي يقصده هيدجر هو من ناحية «إمكان» على الإنسان أن يحققه بالتصميم والتجمع، أو يخطئه بالتراخي والنسيان والضياع وسط الناس، وهو من ناحية أخرى شيء بسيط، غير محدد وفارغ من كل مضمون، وعلى الإنسان دائما أن يقفز القفزة التي تنقله من الوجود غير الأصيل - الذي يحيا فيه معظم حياته من مولده إلى مماته - إلى الوجود الأصيل، والشيء الذي يحتاجه للقيام بهذه القفزة لا يتصل بالقيم السلوكية ولا بتصعيد القوة الحيوية، كما عند نيتشه؛ إذ هو في صميمه تحول كامل يؤدي بالذات إلى انتشال نفسها من السقوط في ابتذال الحياة اليومية والضياع بين الناس. (7)
ما هو الوجود؟ كيف نعرفه؟ ولكن السؤال خاطئ، فقد تعودنا على تصور أن الموجود هو وحده «الواقعي»، وأن ما لا نتثبت من وجوده فهو غير واقعي، غير أن الوجود ليس هو الموجود (وهذا هو الاختلاف أو الفارق الأنطولوجي الأساسي بينهما)، وهو كذلك ليس «موضوعا»، ولا يمكن تصوره كما نتصور الموضوع (لهذا استطاع هيدجر في محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا؟» أن يتكلم عن العدم دون أن يخطر بباله أن يدعو للعدمية كما تصور الكثيرون ممن أساءوا فهمه؛ لأنه أراد به ما يعد غير موجود إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الموجودات، وإن كان هو الذي يؤدي بنا إلى «الآخر» بالقياس إلى كل موجود، ونقصد به الوجود نفسه).
ونعود فنسأل: كيف يمكننا التفكير في هذا الوجود؟ كيف يمكن تصوره؟
إن مشكلة الوجود قائمة وستظل قائمة، والمهم عند هيدجر هو التفكير فيها. وهذا هو الذي وضعه نصب عينيه منذ أن بدأ تفلسفه، وكان من الطبيعي أن تحتل مشكلة الميتافيزيقا النصيب الأوفى من اهتمامه؛ فقد كانت مشكلة الوجود هي الشغل الشاغل للميتافيزيقا؛ لأنها بحسب تعريفها تتجاوز الموجود بالفكر، أي إلى ما يجعل الموجود موجودا، وقد تحقق هذا في فلسفة أرسطو بصورة ملزمة لمن جاءوا بعده، فقد سئل عن الموجود من حيث هو موجود، وكانت إجابته هي الموجود الأسمى أو الله، ولهذا بين هيدجر الطابع الأنطولوجي-اللاهوتي لفلسفة أرسطو بكل وضوح، وهو طابع يميز أسلوب الميتافيزيقا كلها التي ظلت تبحث عن الوجود بينما هي تعني به الموجود، وهيدجر يريد لهذا السبب أن يعلو فوق الميتافيزيقا أو «يقهرها» ويتخطاها بحيث لا نعود نفكر تفكيرا ميتافيزيقيا، ولكن هل يريد أن يعلو فوقها على نحو ما أراد «فشته» مثلا أن يتجاوز الإشكال الكانطي بتجاوز ما ذهب إليه من عدم إمكان معرفة الشيء في ذاته؟ ليس هذا هو ما يريده، وهو لا يضع موجودا أسمى مكان آخر، وإنما يريد أن يحدث تحولا في التفكير، هذا التحول عسير؛ لأن من الصعب التعبير عنه بلغة الميتافيزيقا؛ ولهذا نجده يضع مشروعا لم يختره اتفاقا، وإنما وجده في بداية الفكر الغربي قبل نشأة الميتافيزيقا على يدي أفلاطون وأرسطو، ومن هنا كانت عنايته بالمفكرين قبل سقراط، هؤلاء الذين علمونا - في رأيه - كيف ننصت لصوت الوجود وننتبه إلى ندائه. وحبه لهيراقليطس، كما تعبر عنه إحدى الدراسات المنشورة مع النصوص، شاهد على هذا، أهي عودة إلى القديم وإنكار للتطور الذي تم في تاريخ الفلسفة؟ هذه هي التهمة التي لا يفتأ نقاده يوجهونها إليه، ولكنها في الواقع أبعد ما تكون عن باله، فهو لا يرجع للقديم لقدمه ولا يحاول بعث نصوصه وإحياء دراسته، وإنما يريد الوقوف على التجربة التي حركت هؤلاء المفكرين الأوائل، والعودة على نبع الاندهاش الذي جعلهم يسألون لأول مرة، كما جعل سؤالهم يشع ببريق أطفأه التفكير المنطقي اللاحق، صحيح أن بريق هذا السؤال قد خبا مع الزمن، والمدهش ما عاد يثير فينا الدهشة، ولكن هذا حدث تاريخي أو قدري كامن في تاريخ الميتافيزيقا نفسها، أي في تاريخ الفكر الغربي، وعلينا ألا نقبله أو نسلم به، بل علينا أن نحاول بعث التساؤل الأصلي عن معنى الوجود الذي يفيض نوره على الموجودات، ولولاه ما أمكن أن تظهر نفسها ولا أن تراها عيوننا، ولا يخطرن ببالنا أن تخلي هيدجر عن الإطار التقليدي يعني أنه يستخف بها أو يلغيها وينكرها، وكيف له أن يفعل هذا وهي قدره وقدر الإنسان الغربي والإنسان الشرقي والعربي الذي شارك فيها وأضاف إليها وارتبط بها؟ إنه لم ينقطع عن الحوار مع هذه الميتافيزيقا، وإن حاول دائما أن يتجاوزها و«يقهرها»، وهو مقيد بتراثها ولغتها، وإن حاول أن يغادر أرضها ويتحرر من لغتها، ويكفي أن نطلع على تفسيراته العديدة لأعلام التراث الغربي من أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز وأفلاطون وأرسطو إلى ديكارت وليبنتز وكانط وهيجل وشيلنج حتى نيتشه الذي اعتبره نهاية الميتافيزيقا وطرف قوسها الذي امتد من أفلاطون إليه! وإذا كان هناك من نقد يوجه إلى هذه التفسيرات فهو أنها تفرض على هؤلاء الأعلام جوا وجوديا وشعورا بالحياة غريبا عليهم، فتفسير كانط مثلا ابتداء من فكرة التناهي تفسير هيدجري بحت؛ لأن كانط - وهو فيلسوف التنوير بأسمى وأجمل معاني هذه الكلمة - يقصد نهائية المعرفة البشرية وضرورة التزام العقل حدا يقف عنده. أما التناهي عند هيدجر فهو هاوية يتجمع فيها القلق والذنب والسقوط وإحساس الإنسان بموته المحتوم، وما أبعد الفرق بين النهايتين! وأما عن تفسيره للحقيقة (أو الأليثيا) عند الفلاسفة قبل سقراط بأنها الإنارة أو الكشف، فلا شك أنه تفسير فرضت عليه أفكار أفلاطونية محدثة جاءت متأخرة عن هؤلاء الفلاسفة، أو بالأحرى هؤلاء المفكرين في الوجود، ربما قلت: إن كل تفسير لا يخلو بالضرورة من جانب ذاتي أو تعسفي، وهذا أمر بشري لا حيلة لنا فيه، هذا صحيح، غير أن المسألة في النهاية مسألة تقدير وميزان، فتفسيرات هيدجر ترجح فيها كفته دائما، بحيث يوشك تاريخ الفلسفة أن يصبح مرآة تنعكس عليها صورة شخص واحد هو هيدجر نفسه! أليس من الغريب أن يظلم التاريخ على يد فلسفة تشيد بالتاريخية؟ (8)
ونأتي إلى صعوبة هيدجر التي يئن منها الجميع في كل مكان! وهي مرتبطة إلى حد كبير بمشكلة اللغة التي يعبر بها عن فكرة الوجود، وهو متهم بأن لغته عصية على الفهم، وأن أسلوبه عجيب غير مألوف حتى لأبناء لغته، وأنه ينحت «جهازا» من المصطلحات التي لا تعرفها اللغة الفلسفية ولا تعرفها لغته نفسها، ويغوص إلى اشتقاقات منسية أو مشكوك في أمرها ليستمد منها دعائم فلسفته.
كل هذا أمر معروف يكاد أن يرتبط باسمه، بحيث أصبحت بعض تعبيراته مثار التندر والسخرية! ولن أحاول أن أعتذر عن الرجل، فلغته عسيرة ومعقدة حقا، وأسلوبه أسلوب شاعر ركيك إلى أقصى حد، وهو نفسه يعترف بغرابة لغته في مواضع كثيرة من كتاباته (وكأنه يذكرنا أيضا بتحسر كانط على أسلوبه المرهق إذا قورن بأسلوب هيوم المطبوع!) ولكن جانبا كبيرا من هذه الصعوبة اللغوية يمكن التغلب عليه إذا عرفنا مفاتيح فكره - أو بالأحرى مفتاحه الوحيد! - وتعودنا على مصطلحاته الجديدة. والواقع أن صعوبته الكبرى لن يحسها إلا من يحاولون ترجمته إلى لغة أخرى؛ فبعض كتاباته تستحيل تمام الاستحالة على المترجم، اللهم إلا إذا فسر كل جملة بحاشية أكبر منها! وكل من يقرأ ترجمة بعض أعماله الصغيرة في الإنجليزية أو الفرنسية لا بد أن يقدر مدى الجهد الذي تكبده المترجم ليفكر معه أولا قبل أن يكتشف الكلمة المناسبة أو يبتكرها في لغته! ومع ذلك فلا بد أن يصطدم حتما ببعض الكلمات والمصطلحات التي يقف أمامها حائرا؛ لأن الفكرة نفسها مرتبطة بها أو مستمدة منها، وهنا لا يجد مناصا من تركها على ما هي عليه وأمره وأمر قرائه إلى الله!
بيد أن هذه المصاعب كلها يجب ألا تثنينا عن قراءة هذا الفيلسوف والتفكير معه، فنحن لا نستطيع أن نتجاهل أثره الضخم على الفكر المعاصر في شتى مجالاته، ولا تعمقه الجاد ل «زمن المحنة»، كما يقول عنوان أحد الكتب الهامة التي صدرت عنه لكارل لوفيت:
6
ولعل صعوبته أن تكون راجعة إلى صعوبة «الموضوع» الذي يحاول الاقتراب منه، وهو كما علمنا ليس موضوعا، ولا يمكن أن يكون موضوعيا! وأحسب أننا يجب أن نصدق ما يقوله من أنه لا يملك اللغة التي تسعفه في التعبير عن الوجود، بل إنه ليفتقد «النحو» أيضا! وليس هذا مجرد اعتذار عن فقره في موهبة الكتابة، فهو يتعمق التراث الفلسفي كي يكشف عن «أساسه» الذي أهمل ونسي، ويبين قصور هذا التراث وضرورة تحديه وتجاوزه. ولا عجب إذن أن يترك لغة هذا التراث ويتحرر منها خطوة خطوة، وإن ظل بطبيعة الحال مقيدا بها، مضطرا إلى الحوار معها والهجوم عليها بأسلحتها في نفس الوقت الذي يكون فيه لغته الجديدة، يكفي دليلا على هذا أن تراجع مقدمة الكتاب لترى كيف تخلى عن مشكلة الذات والموضوع، وكيف بدأ بفكرته عن «الموجود الإنساني» أو «الدازاين» أو «الموجود-هناك» مرحلة جديدة في فهم الإنسان، وكيف أسقط مشكلة العالم الخارجي بضربة واحدة؛ إذ إن الموجود الإنساني بطبيعته موجود في العالم! وكيف أعاد النظر في مفاهيم عديدة كالأنطولوجيا والترانسندنس (العلو) والحقيقة ... إلخ؟ وكيف لم يتوقف منذ صدور كتابه الأساسي «الوجود والزمان» سنة 1927م عن البحث والسعي «على الطريق» سعيا لا يهدأ ولا تخبو ناره؟ ومثل هذا البحث والسعي المتصل لا بد أن يضايق الشارح الذي يريد أن يثبته على رأي أو موقف يريحه! (9)
ربما زال جانب كبير من صعوبة هذا الفيلسوف لو حاولنا أن نفهم تفكيره ونحققه «من الداخل» ولم نحاول أن نثبته على مسامير الشعارات الجاهزة والقضايا المحددة المريحة التي تملأ كتب تاريخ الفلسفة والأدب (حتى لتبدو لي في بعض الأحيان أشبه بمحلات العاديات والتحف التي تثبت رءوس الحيوانات وجلودها على الحائط!) عندئذ يمكن أن نجد في قراءته متعة لا تقل عن المتعة التي نحسها في صحبة كبار الفلاسفة، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنها تفوقها في كثير من الأحيان، وما أسهل النقد - أو النقض! - على من ينظر إلى مثل هذا المفكر من الخارج أو يحاول الاقتراب من عالمه بمفاهيم ثابتة تعود عليها، فلنجرب هذا التعاطف واللقاء مع هيدجر ومع غيره من المفكرين والأدباء، ثم ننتقده بعد ذلك كما نشاء على أساس صحيح. وليس معنى التعاطف واللقاء أن نسبح في بحره ونرتدي زيه ونتخذ موقفه وننظر بعينيه، فهذا تكرار شاحب لا يليق إلا بالببغاوات، بل معناه أن نتابعه على الطريق الشاق، ونحقق حركته الفكرية في تطورها وصيرورتها قبل إصدار الحكم عليها، هذا هو موقفي الذي لا أحيد عنه، أما المتعجلون والمتزمتون فهم وما يشاءون!
ولا شك أننا أحرار بعد ذلك في الحكم عليه كما نشاء، وشتان ما بين بعد وقبل! فهنا يمكن أن نكون منصفين، وأن نتكلم عن علم ووعي لا عن شهوة إلى الكلام، وأن ندخل طرفا في الحوار، بعد أن هيأنا أنفسنا له، ولهذا فإن هذا الكتاب لا يطمع إلا في أن يكون تمهيدا متواضعا لتفكير هيدجر، مجرد محاولة أرجو أن تغريك بقراءته «وتجر رجلك» إلى بحار نصوصه! (10)
أخيرا، فإن هذا «التمهيد» يتمنى أن يضيف لبنة واحدة إلى البناء الفلسفي الذي يرتفع بالجهد والإخلاص في بلادنا العربية، وهو لهذا يحب أن يسجل دينه وعرفانه للجهود الطيبة التي سبقته وعبدت له الطريق، ويود أن يشيد بالدراسات القيمة التي ظهرت عن هيدجر، وفي مقدمتها دراسات أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي «الزمان الوجودي، والإنسانية والوجودية في الفكر العربي، ودراسات وجودية»، وأستاذنا الدكتور عثمان أمين في كتابه «في الفلسفة والشعر»، والأساتذة الدكاترة: زكريا إبراهيم «الفلسفة الوجودية، ودراسات في الفلسفة المعاصرة، فلسفة الفن في الفكر المعاصر »، ويحيى هويدي «دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة»، ومحمود رجب في رسالته التي لم تظهر بعد عن «المنهج الظاهرياتي عند هرسل»، وترجمته لمحاضرة هيدجر «ما الفلسفة؟»، وفؤاد كامل في ترجمته لمحاضرتيه «ما الميتافيزيقا؟» و«هلدرلين وماهية الشعر» وترجمته القيمة لكتاب ريجيس جوليفيه عن «المذاهب الوجودية من كيركجورد إلى سارتر».
أما عن مشكلة الحقيقة فأود أن أنوه بفضل البحث الذي أصدره الدكتور نظمي لوقا عن الحقيقة، وبرسالة الدكتور فؤاد زكريا عن مشكلة الحقيقة التي أعارني ترجمته الإنجليزية لها (إذ لم يكن الأصل العربي بين يديه!) وكانت خير عون لي طوال الفترة التي شغلت فيها بإعداد هذا الكتاب.
وأود أخيرا أن أسجل عرفاني بالترجمة الفرنسية ل «ماهية الحقيقة»، وهي الترجمة التي قام بها الأستاذان فالتر بيميل وألفونس دي فيلنس، وساعدتني أكبر مساعدة على استجلاء الكثير من غوامض النص الأصلي، أما الكتاب الذي صحبني في رحلتي المضنية مع نصوص هيدجر المختلفة ابتداء من «الوجود والزمان»، ودلني على الطريق في دروبه «المسدودة»، فهو كتاب الأستاذ فالتر بيميل الذي ظهر عن هيدجر في سلسلة «روفولت» المعروفة، وتفضلت الآنسة فاطمة مسعود بإرساله إلي، والحق أن فضل هذا الكتاب علي أكبر من كل شكر ومن كل تعبير.
القاهرة في 1975م
طريق الفكر
«ولد أرسطو، تعب، ومات.»
هكذا بدأ هيدجر محاضراته التي كرسها لتفسير نص من نصوص المعلم الأول في كتاب الطبيعة (ولعلها أن تكون هي المحاضرة التي نشرها فيما بعد عن ماهية «الفيزيس» وتصورها)، هي عبارة شديدة البساطة بالغة الدلالة على طريقته في التفكير والحياة، ولا شك أنها خيبت آمال القراء الذين يتوقعون عادة من أمثال هذه المحاضرات أن تبدأ بمعلومات عن حياة الفيلسوف وتجاربه مع العصر والناس، ولكن ها هو ذا الأستاذ يصدمهم ويقدم لهم الرد الحاسم: إن حياة الفيلسوف هي فكره، وتجربته على طريق الحياة هي تجربته على طريق الفكر.
ولا شك عندي أن العبارة نفسها تصدق على هيدجر؛ فالفكر والحياة عنده شيء واحد، والإشكال الذي دفعه للسؤال عن الوجود والحقيقة هو نفس الإشكال الذي ملأ عليه حياته، وصحبه خطوة خطوة على الطريق؛ ولهذا فإن دراسة هذه الخطوات التي قطعها في صبر ومشقة هي سبيلنا الأوحد إلى التعرف على تجربته مع الفكر والحياة.
أما الذين يعنون بالأمور الشخصية فلن أخيب أملهم تماما، وسيجدون في آخر الكتاب لوحة موجزة تضم معالم حياته، يكفي الآن أن أقول لمن يهمهم الأمر أنه ولد سنة 1889م في بلدة مسكيرش بجنوب ألمانيا، وأنه تزوج سنة 1917م وأنجب ولدين هما يورج وهيرمان، ودعي للتدريس بجامعة ماربورج فقضى فيها أخصب سنوات عمره بين 1923م و1928م،
1
وتوطدت أواصر الصداقة بينه وبين باول ناتورب - أحد أعلام الكانطية الجديدة - الذي كان وراء دعوته لهذه الجامعة، ثم شغل كرسي هسرل بجامعة فرايبورج في هذه السنة الأخيرة، بعد الزلة السياسية الكبرى التي وقع فيها ضحية انخداعه بالنازية، ولكنه لم يلبث أن تبين خطأه الرهيب، فتنازل عن منصبه في العام التالي مباشرة، وجاهد طوال عمره - في صمت وعن قصد أو غير قصد - للتكفير عن هذه السقطة - التي لم يغفرها له كثير من المفكرين الفرنسيين ومن المفكرين من أصل يهودي بوجه خاص - ونسيان هذه الغلطة التي شبهها بعض الباحثين بغلطة أفلاطون عندما أحسن الظن بديونيزيوس حاكم سيراقوزه وابنه، وأوشك أن يدفع حياته ثلاث مرات ثمنا لحماسته وعاطفته الملتهبة التي صورت له إمكان تحقيق دولته المثالية على أرض سيراقوزه (سراقسطة)!
وحرمته قوات الاحتلال من التدريس ست سنوات امتدت من سنة 1945م حتى 1951م، وقام بعدة أسفار إلى بلاد مختلفة لإلقاء المحاضرات أو الاشتراك في الندوات والمؤتمرات، وما يزال يعيش في بيته الهادئ بمدينة فرايبورج أو في كوخه الريفي في توتناوبرج بين أحضان الغابة السوداء التي أحبها واستلمهما كثيرا من تأملاته وخواطره.
2
حياة خالية من الأحداث الخارقة، وتجربة الفكر نفسه مع صراعه مع الوجود والحقيقة هي الحدث الوحيد الذي يتخللها ويحدد ملامحها ويوضح تأثيرها، بل ثورتها، التي غيرت خريطة التفكير الفلسفي في القرن العشرين، ومحاولاتها الدائبة لاستكشاف التراث الغربي والحوار المستمر معه والإنصات من جديد لنداء الوجود الذي انبعث من نصوص فلاسفة الإغريق وغيرهم من الفلاسفة والشعراء المحدثين، ولا يزال يهيب بنا - في زمن المحنة الذي نعيش فيه - أن ننتبه إليه ولا ننساه.
حياة وهبها صاحبها للعمل وحده، فكان العمل هو الحياة، ولعلها أن تكون شبيهة من بعض الوجوه بحياة مواطنه العظيم كانط؛ ملل ورتابة لا حد لهما من الخارج، وثورة لا حد لها من الداخل، وسواء تلمسنا خيوطها الأولى في أول كتاب أهدي إليه وهو طالب صغير فكان أول ما شد انتباهه لمسألة الوجود (ونقصد به كتاب الفيلسوف النمسوي فرانز برنتانو عن المعنى المتعدد للوجود عند أرسطو) أو في كتاب هسرل «البحوث المنطقية» الذي ظل يقرؤه ويقرؤه سنوات طويلة قبل أن يتعرف على صاحبه ويعمل معه ويلمح فيه بصيص النور، أو في رسالته الجامعية الثانية عن «نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوتس»، أو في محاولاته المبكرة لتفسير نصوص الفلاسفة اليونان، وبخاصة أفلاطون وأرسطو وهيراقليطس، واكتشافهم من خلال القراءة المتأنية لما بين السطور، والاستماع لما لم يقولوه من ثنايا أقوالهم، والاقتراب منهم بغير أفكار أو معلومات مسبقة شأن كل منهج «ظاهرياتي» أصيل، وسواء تتبعنا هذه الخيوط التي يتألف منها نسيج فكره في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» الذي يعد من أهم الأعمال الفلسفية التي ظهرت في هذا العصر، فبدأت عصرا جديدا، أو بلغنا آخر كتاب صدر له فيما نعلم عن «موضوع الفكر 1969م»؛
3
لو فعلنا هذا لوضعنا أنفسنا في هذا النهر الذي لم تهدأ حركته ولا انقطع تدفقه ولا مال عن وجهته، ولشعرنا بالإشكال الوحيد الذي التزمه وسار بأقصى طاقته وجهده «على الطريق» إليه دون أن يعبأ بالصعاب أو يكترث بالنتائج، فكل همه أن يبقى على الطريق، ويصمد للسؤال ويشركنا فيه، وهل نحن في النهاية إلا السائل والمسئول؟
لتكن الصفحات التالية تمهيدا لهذا الفكر، مصباحا صغيرا يهدي إلى هذا الطريق، أما السير على الطريق نفسه فهي مسئولية يتحملها القارئ وحده، ولا بد أن يترك له أمر الحوار مع كل عمل من أعمال هذا المفكر على حدة.
خير ما نفعله إذن هو أن نتابع هيدجر على طريقه لكي نقدر بعد ذلك مدى أصالة فكره وتأثيره على الحياة الفلسفية والعلمية المعاصرة، ومن حسن الحظ أن الفيلسوف نفسه سيوفر علينا مشقة هذه الرحلة، فقد نشر في سنة 1963م مقالا عنوانه «طريقي إلى الظاهريات» «الفينومينولوجيا» ضمنه بعد ذلك كتابه «حول موضوع الفكر».
بدأت دراسته الجامعية في الفصل الدراسي الشتوي بين سنتي 1909م و1910م في كلية اللاهوت من جامعة فرايبورج، وأتاحت له دراسة اللاهوت من الوقت والفراغ ما يسمح له بإشباع نهمه إلى الفلسفة التي كانت تشغل حيزا محدودا من تلك الدراسة، وكان من نصيب كتاب هسرل «بحوث منطقية» أن يجد نفسه كالغريب الوحيد بين المجلدات اللاهوتية المكدسة على مكتبه في المعهد الديني الذي كان يعيش فيه! كان الطالب الشاب قد تعرف من بعض المجلات الفلسفية على أثر فرانز برنتانو على أسلوب هسرل ومنهجه في هذا التفكير؛ ولهذا بدأت محاولاته المتعثرة في فك طلاسم الفلسفة بقراءة رسالة هذا الفيلسوف النمسوي عن «المعنى المتعدد للموجود عند أرسطو» (1862م)، وأوحت إليه الرسالة بهذا السؤال الذي ظل يلح عليه منذ 1907م: إذا كانت للموجود معان عديدة، فأيها هو المعنى الأساسي؟ ما معنى الموجود؟ أهناك فارق بينه وبين الوجود؟ وشاءت له الصدفة وهو في نهاية المرحلة الثانوية أن يطلع على كتاب «عن الوجود» ألفه «كارل بريج» الذي كان أستاذا للعقائد أو علم الأصول بنفس الجامعة «فرايبورج»، كان الكتاب قد ظهر سنة 1896م، ومن حسن حظ الطالب الصغير أن وجد في نهايته نصوصا عديدة اختارها المؤلف من كتابات أرسطو وتوماس الأكويني واللاهوتي اليسوعي الإسباني سواريز (1548-1617م)، إلى جانب المصطلحات والتصورات الأساسية في الأنطولوجيا (علم الوجود بما هو موجود).
وبدأت محاولات هيدجر لاستيعاب «البحوث المنطقية» والتماس الجواب عن المسائل التي أثارتها في نفسه رسالة برنتانو السابقة، غير أن هذه المحاولات ضاعت سدى؛ إذ اكتشف بعد ذلك أنها تنكبت السبيل الصحيح، وبقي الكتاب صامتا لا يبوح بسره، وإن ظل يأسره بجماله وسحره، ثم تخلى عن دراسة اللاهوت بعد أربعة فصول دراسية، واختار أن يقف جهده ووقته على الفلسفة، وإن لم يمنعه هذا من مواصلة الاستماع إلى محاضرات «بريج» الذي أيقظ فيه الاهتمام باللاهوت التأملي وشد انتباهه بأسلوبه الحي في التعليم، وكان المعلم سمحا كريما، فأذن له أن يصحبه في نزهاته، وسمع منه لأول مرة في حياته عن تأثير شيلنج وهيجل على اللاهوت التأملي تأثيرا يفوق مذاهب المدرسيين في العصر الوسيط ، وهكذا أتيح لهيدجر - كما سيقول فيما بعد - أن يستوحي اللاهوت كثيرا من أفكاره، وبدا له في هذه المرحلة من حياته أن هيكل الميتافيزيقا يقوم على التوتر بين الأنطولوجيا واللاهوت (الذي ظل موجع القلب لتخليه عن دراسته).
غير أن مشاغله اللاهوتية سرعان ما توارت في الظل أمام المحاضرات التي كان يلقيها بالجامعة أحد أعلام المدرسة الكانطية الجديدة في منطقة بادن جنوبي ألمانيا، وهو هينريش ريكرت (1863-1936م)، كانت مهمة الفلسفة في نظر الأستاذ الجليل هي البحث عن مملكة القيم الموضوعية الخالدة، وإبراز أشكال المعنى أو النماذج المعنوية التي تنبني عليها الحضارة، وتؤلف مملكة وسطى بين عالم الواقع وعالم القيمة، وبيان الفروق الدقيقة بين علوم الحضارة وعلوم الطبيعة، وكان لهذا الأستاذ من الوفاء وطيبة القلب ما جعله يخصص بعض تمريناته العملية لدراسة فلسفة تلميذه إميل لاسك (1875-1915م) الذي سقط في الحرب العالمية الأولى، وترك وراءه كتابين هما «منطق الفلسفة ونظريات المقولات» دراسة عن «مجال سيطرة الشكل المنطقي» (1911م)، و«نظرية الحكم» (1912م)، وكلاهما يعبر عن جهوده في إعادة تأسيس الميتافيزيقا على نظريته عن «مقولات المقولات»، كما يشهد بتأثره الواضح ببحوث هسرل المنطقية التي ظلت موصدة الأبواب في وجه هيدجر! ودفعه هذا إلى معاودة النظر في البحوث المنطقية، ولبث السؤال الأساسي يؤرقه: ما هو المنهج الفكري الذي يسمي نفسه بالظاهريات (الفنومينولوجيا)؟ كان الجزء الأول من البحوث المنطقية قد ظهر في سنة 1901م، وهو - كما يعلم القارئ - يدور حول دحض النزعة النفسية في المنطق على أساس أن نظرية التفكير والمعرفة لا يمكن أن تقوم على علم النفس، وإلا انتهت إلى الشك والنسبية. أما الجزء الثاني الذي ظهر في العام التالي فهو يتناول الوصف الخالص لأفعال الوعي التي ينهض عليها بناء المعرفة، وقال هيدجر لنفسه: إنها النزعة النفسية مرة أخرى! ولو كان الأمر غير ذلك، فما الذي يدعو هسرل لوصف أفعال الوعي والحديث عن تحديد أستاذه برنتانو للفروق المختلفة بين الظواهر النفسية؟ ثم ما هذا الوصف الظاهرياتي لأفعال الوعي والشعور؟ ما الذي يميز الظاهريات، إن لم تكن منطقا ولا علم نفس ؟ أهي حقا نسق فكري جديد ومنهج يستحق التقدير والاهتمام؟ وكيف السبيل إلى تحقيق هذا المنهج؟
راحت دوامة الأسئلة تدور في فراغ لا مخرج منه، بل لم يكن في استطاعته في تلك السن المبكرة أن يصوغها بمثل هذا الوضوح، وجاءت سنة 1913م فأنقذته من التمزق؛ فقد بدأ هسرل في إصدار حولية الفلسفة والبحث الظاهرياتي، وكان أول عدد منها يضم كتابه الذي حدد ملامح فلسفته وبين طموحها وشمول منهجها، ونقصد به كتابه «أفكار (لتأسيس) ظاهريات خالصة وفلسفة ظاهرياتية».
أهو اتجاه جديد في الفلسفة الأوروبية؟ ما من أحد خطر على باله أن يشك في هذا، ولكن هل تنسخ الظاهريات كل ما سبقها من فلسفات، كما توحي بذلك بعض شروح صاحبها ومزاعمه؟ أم هي بداية جديدة وتتويج لمحاولات ظلت كامنة في كثير من مذاهب الفكر الحديث والقديم؟
لم يكن في مقدور أحد أن يقدم الجواب الحاسم على مثل هذه الأسئلة، ولكن الشيء الذي لا ريب فيه أن الظاهريات الخالصة أرادت لنفسها أن تكون فلسفة كلية أو بالأحرى علما كليا تتأسس عليه سائر العلوم ومناطق الوجود المادية والصورية، أضف إلى هذا أن هذه الظاهريات «الخالصة» أو المتعالية «الترنسندنتالية» لا تقوم بغير الذاتية، أي الذات الخالصة التي تصدر أحكام المعرفة والقيمة والفعل، وهذا كله يدل على أن الظاهريات قد أصلت «الذاتية الترنسندنتالية» وعممتها، ووضعت نفسها بذلك في سياق الفلسفة الحديثة من حيث هي - كما سيقول هيدجر - ميتافيزيقا الذاتية، وهل من شك في هذا ما دامت الظاهريات لا تزال محتفظة بتجارب الوعي، وإن كانت تحصر بحثها المنهجي في استخلاص بنية هذه التجارب والأفعال وبيان «موضوعية» الموضوعات التي تجرب فيها تجربة حية معاشة؟
مهما يكن الأمر، فإن «الأفكار» قد بددت كثيرا من ظلمات القلق والشك التي أحاطت «بالبحوث المنطقية» (التي ظهرت طبعتها الثانية المنقحة في نفس السنة)، كما ألقت أضواء جديدة على مقال هسرل المشهور «الفلسفة علما دقيقا»
4
الذي كان قد ظهر في مجلة «لوجوس» الجديدة بين سنتي 1910-1911م، وتوالت بعض ثمار المنهج الظاهرياتي الذي أثبت مدى خصوبته على مر الأيام، وكشف عن مدى تحرر المريدين والحواريين الذين راحوا يطبقون منهج «المعلم» ويتخلصون من بعض جوانب فلسفته (وبخاصة في مرحلتها المتأخرة التي أوغلت في الذاتية الخالصة!) واستقبل الناس بحث ماكس شيلر الذي ظهر في نفس السنة (1913م) بحفاوة بالغة، وكان عنوان هذا البحث الهام الذي أسهم في تأسيس ما يوصف «بالأخلاق المادية» التي تعد الوجه المقابل لأخلاق كانط الصورية هو: «ظاهريات مشاعر التعاطف والحب والكراهية» مع ملحق عن علة التسليم بوجود الأنا الغريبة.
غير أن شوكة «البحوث المنطقية» لم تكف عن وخزه وإيلامه! فها هو ذا يعيد قراءتها من جديد، ويكتشف أن القراءة وحدها لن تعينه على تحقيق هذا المنهج الذي يصف نفسه بالظاهرياتية، ولم يكن مفر من التعرف إلى المعلم نفسه ومقابلته «بدمه ولحمه» في «معمله» الفلسفي الخاص! وكان لحسن الحظ أيضا دور في هذا اللقاء، فقد حضر هسرل إلى جامعة فرايبورج خلفا لريكرت الذي قبل دعوة جامعة هيدلبرج لشغل الكرسي الذي خلا بوفاة فندلباند (مؤرخ الفلسفة الشهير وشريكه في تأسيس جناح المدرسة الكانطية الجديدة في الجنوب)، أخذ هيدجر يواظب على حضور تمرينات هسرل وتدريباته لتلامذته على التعود على «الرؤية» الظاهرياتية خطوة بخطوة، وكانت هذه الرؤية تتطلب منهم الانصراف عن كل المعارف الفلسفية التي حصلوها أو الحذر في استخدامها على أقل تقدير، كما كانت تمنعهم من التأثر «بسلطة» كبار المفكرين أو الدخول في حوار معهم، وأفاد هيدجر من المران على هذه الرؤية أكبر فائدة، فقد وثقت ارتباطه بالفلاسفة الإغريق، وأعانته على تفسير كثير مما غمض عليه من نصوص أرسطو، وحفزه قربه من المعلم، وقد كان في ذلك الحين يتعلم منه ويقوم في نفس الوقت بالتعليم، على تجربة محاولة جديدة لفهم أرسطو،
5
ورجع إلى المبحث السادس من «البحوث المنطقية»، فساعده تمييز هسرل بين العيان الحسي والعيان المقولاتي على رؤية مشكلته القديمة حول المعاني المتعددة للموجود في ضوء جديد، وراح يدرس هذا الكتاب ويتعمق درسه مع طلابه حتى لمع في ذهنه هذا الخاطر الملهم الذي أخذ يدعمه بعد ذلك في بحوثه ومقالاته ومحاضراته: إن هذا الذي يظهر نفسه بنفسه وتحاول الظاهريات أن تصفه وصفا خالصا من خلال أفعال الوعي والشعور قد فكر فيه أرسطو من قبل كما تناولته تجربة اليونان في الفكر والوجود على نحو أكثر أصالة ووصفوه ب «الأليثين» أو «لا تحجب» الموجود وتكشفه وتجليه بنفسه، فهذا «الظهور» الذي أعادت الفينومينولوجيا اكتشافه وجعلته الموقف الأساسي للفكر والوعي هو في حقيقة الأمر أهم ما يميز الفكر اليوناني، إن لم يكن أهم ما يميز الفلسفة نفسها، وما لبثت هذه الرؤية أن اتضحت أمام هيدجر، ولكنها ظلت مع ذلك تطوي معها السؤال المحير: ما الذي يحدد تجربة «الأشياء ذاتها» التي تدعو إليها الظاهريات؟ أهو الوعي وموضوعيته؟ أم هو وجود الموجود في لا تحجبه واحتجابه، في ظهوره وخفائه؟!
هكذا توصل هيدجر إلى الصياغة المحددة لسؤاله عن الوجود، بعد أن انطلق من المشكلات التي أثارتها في نفسه رسالة «برنتانو» السابقة، وتعمق منهج هسرل الظاهرياتي - في مراحله الأولى بوجه خاص - واتجه به وجهة جديدة، بيد أن تحديد السؤال لا ينهي القضية بل يبدؤها! فقد أخذ يسير على الطريق الذي اعترف بأنه طال أكثر مما توقع،
6
ولا عجب في هذا بعد أن أصبحت الفلسفة على يديه شيئا مختلفا عما يفهمه الناس عادة عنها، وتحررت من الملل الأكاديمي الذي ران على صدرها! ولم تعد مهنة «لأكل العيش» تدرس في كليات مهنية وتقسم إلى مواد منهجية كالأخلاق والجمال والمنطق ونظرية المعرفة وما شابهها، بل صارت فكرا ينبع من حقيقة وجودنا في العالم، ويفتش عن المعنى الكامن في كل ما هو موجود، أصبحت فكرا لا يسعى إلى غاية تحيط بها هالة غامضة كالعلم أو المعرفة؛ لأن غايته الوحيدة هي السعي نفسه، أي الحياة ذاتها، لقد عرف هيدجر وجود الإنسان بأنه وجود للموت، وهذا صحيح من حيث إن الموت هو نهاية الحياة وقانونها المحتوم، ولكن الإنسان لا يحيا لأجل الموت، بل لأنه كائن حي، وهو لا يفكر لكي يصل إلى نتيجة معينة، بل لأنه بطبيعته كائن مفكر باحث عن المعنى،
7
وتحولت مهمة معلم الفلسفة من تكديس الحقائق والنظريات والمعلومات إلى طرح قضايا وإشكالات يشتعل حولها الحوار، بعثت كنوز الماضي ودبت فيها الحياة، ولم يعد المعلم يتكلم «عن» أفلاطون ونظريته في المثل كأنها شيء مضت عليه ألفا سنة، بل يناقش نصوصه خطوة خطوة بحيث تصبح مشكلة حاضرة حية يتصل بيننا وبينها الحوار.
ولعل الدرس الذي نستطيع أن نتعلمه من هذا الفيلسوف لن يخرج في نهاية الأمر عن هذه العبارة: الطريق هو كل شيء، أما الهدف فلا شيء، فهل تصحبني الآن على هذا الطريق؟
السؤال عن الوجود
السؤال عن الوجود لا ينفصل في تفكير هيدجر عن السؤال عن الحقيقة؛ فهما الباعث لهذا الفكر، أو هما النغمة المزدوجة التي تطغى على لحنه المتدفق وتبث فيه الحركة والحياة، ولا بد لنا منذ البداية من الإشارة إلى أن كلمة الحقيقة بمعناها التقليدي لا توضح دلالتها الأصلية التي لا يعنيها هيدجر، وهي «الأليثين» بمفهومها اليوناني الذي يفيد التكشف أو اللاتحجب، ولهذا ينبغي علينا كلما ذكرنا كلمة الحقيقة على الصفحات القادمة أن نتذكر معناها الأصلي الذي يعتمد عليه فيلسوفنا في عرضه المشكلة وتصوره لها، ويمكننا أن نمهد لهذا المعنى إذا قلنا: إن كلمة «الأليثين» - التي نترجمها عادة بالحقيقة ويترجمها هيدجر باللاتحجب - هي إحدى الكلمات الأساسية في لغة اليونان وفهمهم للوجود.
1
فكل تعامل أو اتصال بالموجود لا يتم إلا إذا خرج هذا الموجود من تحجبه وتكشف وظهر بنفسه، هذا اللاتحجب لا يضاف إلى الموجود أو لا يحمل عليه عن طريق الحكم، بل الأولى أن كل قول نعبر به عن الموجود لا يكون ممكنا إلا إذا سبقه ظهور هذا الموجود نفسه (أو لاتحجبه) الذي يعد خاصية أساسية فيه، ولهذا سوى أرسطو على سبيل المثال بين «الأليثين» (اللاتحجب) وبين الأون (الموجود) وأصبح الموجود في نظره هو الكائن الحاضر، بمعنى الموجود الذي يتمتع بنوع من الثبات، ويتصف بشكل معين وحدود ثابتة، ومن ثم كانت «الفيزيس» عنده هي هذا الكائن الحاضر على الأصالة.
أما الإنسان، فهو الذي يملك القدرة على إدراك الموجود على نحو ما يظهر ويتجلى من ثنايا الاحتجاب، وهو القادر على أن يجمعه في وحدته عن طريق «اللوجوس» الذي يكشف عن هذه الوحدة (إذ إن اللوجوس من ناحية اشتقاق الفعل المشهور «ليجين» يعني عنده التجميع)، وهكذا نجد أن الإنسان - في تفسير هيدجر للتجربة اليونانية - ليس هو مركز هذه التجربة ومحورها؛ لأن الموجود اللامتحجب هو الذي يشغل هذا المركز؛ ومن ثم يستطيع الإنسان عن طريق اللوجوس أن يتجه إليه وينفتح عليه، ومعنى هذا بطبيعة الحال أن نفهم الإنسان من جهة الحقيقة (أي اللاتحجب) لا أن نفهم الحقيقة من جهة الإنسان.
السؤال إذن ذو شقين، ومن حوله يدور تفكير هيدجر في كل أعماله، وسنحاول أن نبين مدى ارتباط هذين الشقين أو هذين الجذرين الأساسيين لشجرة هذا الفكر، ولن يتسع المجال بطبيعة الحال لتتبع هذا السؤال في كل ما كتبه هيدجر؛ ولهذا سنقتصر على تناوله من خلال بعض أعماله التي تعد علامات واضحة على طريقه الطويل وبخاصة الوجود والزمان، وماهية الحقيقة، وهما أول ما يرد على الخاطر من مؤلفاته عند السؤال عن الحقيقة، ثم نتناوله في بعض محاولاته التي تتناوله من وجهة نظر معينة أو مجال محدد، كما في بحثه عن «الأصل في العمل الفني» ورسالته عن النزعة الإنسانية، ومحاضرته عن «ماهية اللغة» وكتابه عن «نهاية الفلسفة ومهمة الفكر».
وقد صرح هيدجر نفسه بأن السؤال عن الوجود هو الذي حرك فكره وحدد نقطة انطلاقه، وكان ذلك - كما قدمنا - ثمرة تأثره برسالة برنتانو وكتاب أستاذه بريج عن الوجود وبحوث هسرل المنطقية التي أشرنا إليها جميعا من قبل، ولكن كيف انضم السؤال عن الحقيقة إلى السؤال عن الوجود؟ وكيف ائتلفا في نسق واحد؟ كيف تطلب منه هذا أن يرجع لتجربة اليونان في الفكر والوجود، وأن يتأمل مسار الميتافيزيقا منذ بدايتها إلى تصورنا لها، وأن يلح في كتاباته على «التغلب» على الميتافيزيقا أو تجاوزها وقهرها وتخطيها؟ هذا هو ما نود أن نتحدث عنه الآن. (1) السؤال عن الوجود في أفق الزمان
من الصعب أن نتناول كتاب هيدجر المعروف «الوجود والزمان» (1927م) من كل جوانبه أو نحلل موضوعه وأقسامه بالتفصيل، فهذا الكتاب الذي بدأ عصرا جديدا في التفلسف وكان له أكبر الأثر على معظم التيارات الفلسفية في هذا القرن يحتاج بغير شك إلى دراسة منفردة، ولهذا فسوف نكتفي بمقدمة قصيرة عنه، نتطرق منها للحديث عن الموجود الإنساني (وهو الذي آثرنا أن نترجم به كلمة هيدجر «الدازاين»
2
أو الموجود الإنساني الذي يكون دائما على علاقة بالوجود العام ويتميز دون سائر المخلوقات بفهم هذا الوجود والسؤال عنه) باعتباره وجودا في العالم، ثم نتناول الوجودات
3 (أو المقومات الأساسية للموجود الإنساني) والزمانية، لكي نختم حديثنا بالسؤال عن الحقيقة كما عبر عنها هيدجر في هذا الكتاب.
ربما كان من قبيل الكلام المكرر أن نتحدث عن الأثر الضخم الذي أحدثه ظهور هذا الكتاب أو عن صعوبته وتعقيد لغته وغرابة مصطلحاته التي أذهلت قراء هذا الجيل (وما زالت تزعج الكثيرين منهم وتتخذ من بعضهم مناسبة للتندر والدعاية والتشهير!)
4
فتح الناس عيونهم فوجدوا أن عددا لا يستهان به من المشكلات «الكلاسيكية» في نظرية المعرفة قد قضي عليها بضربة واحدة، وأن القضايا التي كانت تتناولها الكانطية الجديدة قد أصبحت ضحلة، وأن تاريخ الميتافيزيقا من أفلاطون إلى نيتشه قد سلط عليه ضوء جديد، وأن فلسفة الظاهريات التي احتلت ميدان السباق وشغلت الأذهان منذ ربع قرن اكتست ثوبا جديدا وتجلت في صورة أخرى، بحيث تعذر على رائدها هسرل أن يتعرف عليها وأعلن رفضه الصريح لها وخيبة أمله في هذا الزي «الأنثروبولوجي» الذي خلعه عليها أخلص تلاميذه وألمعهم موهبة! ولعل «المعلم» لم يكن قد تعلم بعد أن التلميذ ليس بالضرورة نسخة من الأستاذ، ولا هو تابع يمتثل لتعاليم السيد، وأن الوفاء الحقيقي من المريد يقتضي منه التفرد والاختلاف فيما يتصل بأمور الفكر (لا بأمور الأخلاق بطبيعة الحال كما يتصور بعض الناس في بلادنا!) ولهذا كان الوجود والزمان بداية انقلاب جديد في التفكير الفلسفي، ومفرق طريق سرعان ما تشعبت عنه مسالك ودروب جديدة، صحيح أنه ووجه بسوء الفهم المنتظر من كل عمل جاد، ولكن لم يلبث أن ظهر تأثيره على ذلك الجيل، وتجاوز دائرة المشتغلين بالفلسفة في قاعات الدرس إلى دوائر العلماء الطبيعيين والأطباء والأدباء والشعراء حتى بلغ صداه أو كاد إلى آذان رجل الشارع!
والواقع أن تهمة التعقيد والصعوبة التي لحقت بالكتاب من قبيل السمعة السيئة التي تلصق بإنسان لم نعرفه حق المعرفة! صحيح أن مصطلحاته جديدة لا يخفى عليها أثر النحت والصنعة والعناء، وأن أسلوبه مرهق، وبناءه لا يخلو من التصميم والمنهجية التي تقترب من المذهبية البعيدة عن الطلاقة والانطلاق، ولكن أين العمل الفلسفي الذي يخلو من التنسيق والبناء؟ وأين الفيلسوف الذي يسمح لنا بالدخول إلى حلبته قبل أن نتزود من مخزن أسلحته بالدرع القوي والحراب والسهام التي تجعلنا أكفاء لمنازلته؟ ليس الكتاب صعبا إذا أخذناه من ناحية لغته؛ فهي لغة واضحة لكل من يملك الصبر والاستعداد لسماع صوتها، وليس الكتاب عسيرا إذا فهمنا مقصده الأساسي وهو السؤال عن الوجود، ولكن الكتاب يصبح مضنيا شاقا إذا أغفلنا الارتباط الجوهري بين الوجود والزمان أو نسينا أن الزمان هو الأفق الذي نطل منه على مسألة الوجود، صحيح أن الفلسفة القديمة والحديثة لم تخل من البحث في مشكلة الزمان (ويكفي أن نشير إلى مفهوم الزمان منذ أرسطو
5
حتى «معطيات» برجسون و«الوعي الباطن بالزمان» لهسرل)، ولكن مشكلة الوجود نفسها لم تكن - على الرغم من كل الأنطولوجيات - قد وضعت في موضعها الصحيح الذي ذكرناه ولا تم فحصها بمثل هذه الرؤية التاريخية العميقة. •••
أعلن هيدجر منذ بداية الكتاب أن تناول مسألة الوجود يقتضي مهمتين يقابلهما تقسيم الكتاب إلى قسمين؛ فأما القسم الأول فيتناول تفسير «الموجود الإنساني» (الدازاين) من جهة تفسير الزمانية بوصفها الأفق «الترنسندنتالي» الذي ينظر منه إلى السؤال عن الوجود، وأما القسم الثاني فيشرح المعالم الرئيسية لما يسميه «التحطيم الفينومينولوجي» لتاريخ الأنطولوجيا على هدى من مشكلة الزمانية (والكلمة الأصلية للتحطيم توحي بالكلمة الحديثة عن التفكيك وتستبقها)، ثم أعلن بعد ذلك أن القسم الأول سيتفرع إلى ثلاثة فصول: التحليل الأساسي للموجود الإنساني، الموجود الإنساني والزمانية، والزمان والوجود ،
6
وجدير بالذكر أن هيدجر لم يكتب هذا الفصل الثالث والأخير، وبقي كتابه أشبه بتمثال ناقص أو شذرة لم تتم، ولعل هذا الجزء المفتقد كان سيكون من أهم أجزاء الكتاب، بل لعله أهمها جميعا، مهما يكن من شيء، فإن الفيلسوف لم يتم كتابه واستعاض عن هذه المهمة بما قدمه بعد ذلك من بحوث ودراسات ومحاضرات، لعل من أبرزها كتابه عن كانط ومشكلة الميتافيزيقا (الذي يمثل الفصل الأول من الجزء الثاني الذي لم يضعه حتى اليوم!) ومحاضرته المعروفة «ما الميتافيزيقا؟»
7
وكتابه «المدخل إلى الميتافيزيقا». •••
يبدأ هيدجر أول صفحات كتابه بالسؤال عن معنى الوجود، وكان حتما أن يكون هذا السؤال مثار الدهشة، ففيم السؤال اليوم عن الوجود والفلاسفة منذ القدم لا يسألون إلا عنه؟! وعلام قامت الأنطولوجيا إلا على أساس فكرة الوجود، وعم بحثت الميتافيزيقا في تاريخها الطويل إلا عن معنى الوجود؟
إن السؤال ليس جديدا بالطبع، وهيدجر نفسه يعترف بهذا ويقدم لكتابه بنص من أفلاطون من محاورة السفسطائي، ولا بد أن نقرأ معا هذا النص ونقف عند تعليقه عليه؛ لأنه سيكون نورا يكشف لنا ظلمات الكتاب ويهدينا في متاهاته: «لأن من الواضح أنكم تعرفون منذ عهد طويل المعنى الذي تقصدونه عندما تستخدمون تعبير «الموجود»، أما نحن فقد اعتقدنا حقا فيما مضى أننا نفهمه، ولكننا الآن حائرون في شأنه».
8
ويريد هيدجر بهذا النص أن يذكرنا بأن السؤال القديم قدم الميتافيزيقا نفسها، وهو لا يبغي منه أن يصلنا بالتراث، بل يريد أن يتحدى هذا التراث ويحملنا على التفكير فيه أو بالأحرى على «تحطيمه» وخلخلته وتصفيته مما تراكم عليه من رواسب شوهت مقصده الأصلي أو حجبته وألقت به في زوايا النسيان، وهو يعلق على النص فيسأل: أعندنا اليوم جواب على السؤال عما نقصده حقا حين نستخدم كلمة «موجود»؟ كلا؛ ولهذا ينبغي أن نطرح السؤال عن معنى الوجود من جديد، أنحس اليوم الحيرة والارتباك لأننا لا نفهم تعبير «الوجود»؟ كلا؛ ولهذا يتعين علينا قبل كل شيء أن نوقظ الفهم لهذا السؤال. إن تناول السؤال عن معنى الوجود هو الغرض من هذا الكتاب، وتفسير الزمان، باعتباره الأفق الممكن لكل فهم للوجود بوجه عام، هو الهدف المؤقت منه.
ولكن هل يمكننا أن نسأل عن الوجود ومعناه إن لم نسال قبل ذلك عمن يطرح السؤال ونحلل مقومات وجوده؟ إن الفيلسوف يضعنا منذ البداية في الموقف الذي ينبغي أن نضع أنفسنا فيه، فإذا كان لنا أن نطرح السؤال بصورة واضحة ونحققه عن بصيرة، فإن هذا يقتضي منا أن نفسر طريقة النظر إلى الوجود، ونشرح أسلوب إدراكه وفهم معناه، ونمهد لاختيار الموجود النموذجي الذي يقوم بهذا ونبين المدخل الأصيل إليه، والنظر والفهم والتصور والاختيار كلها من أساليب السؤال؛ ومن ثم فهي نفسها أحوال موجود محدد، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا الذين نطرح السؤال، معنى هذا أن تناول السؤال عن الوجود ينصرف إلى الكشف عن الموجود الذي يسأل عنه من جهة معناه، هذا الموجود الذي هو نحن أنفسنا والذي يملك إمكانية السؤال هو الذي سنصطلح على تسميته ب «الموجود الإنساني»، وهكذا يتطلب السؤال الصريح الواضح عن معنى الوجود أن يسبقه تفسير مناسب لهذا الموجود الذي نصفه بالدازاين أو الموجود الإنساني من جهة وجوده.
9
لا سبيل إذن لشرح السؤال عن الوجود إن لم نبدأ بتحليل السائل، ولن نستطيع تناول السؤال كله تناولا موضوعيا حتى نمهد له بالبحث عن نوع وجود هذا الذي يضعه، على أنه ينبغي علينا منذ البداية ألا ننسى لحظة واحدة أن الأصل هو السؤال عن معنى الوجود، وأن تحليل «الوجودات» أو مقومات الموجود الإنساني - وهو كما عرفنا الموجود البشري الذي ينفرد بطرح هذا السؤال - هو الطريق الأساسي والمعبر الوحيد إليه، ولا يصح أن يفهم من كلامنا عن الطريق والمعبر أن هذا التحليل مجرد تمهيد لموضوع الوجود أو أنه شيء إضافي يقع على هامشه؛ إذ إن السؤال الأساسي يتطلب هذا التحليل لنوع وجود الموجود الذي اتفقنا على تسميته بالموجود الإنساني تمييزا له عن غيره من الموجودات التي سيأتي الحديث عنها كالموجودات الحاضرة أمامنا أو التي تقع في متناول أيدينا، إن السائل ينفرد عن غيره من الكائنات، فلا يكفي أن نقول عنه إنه يكون وحسب، بل ينبغي أن ننتبه دائما إلى أنه هو الموجود الذي يهتم بوجوده،
10
ولا ينبغي أيضا أن يقع في وهمنا أن تحليل الموجود الإنساني يتصل من قريب أو من بعيد بما نعرفه من تأملات وتحليلات أنثروبولوجية ونفسية واجتماعية، فالهدف الوحيد من هذا التحليل هو التعرف على ماهية ذلك الكائن القادر على السؤال عن الوجود، بل المتميز دون سائر الكائنات بفهم محدد للوجود.
يصف هيدجر السؤال عن معنى الوجود بأنه «أنطولوجيا أساسية»، ولا تريد هذه الأنطولوجيا الأساسية أن تقدم لنا تصورا شاملا عن الوجود بقدر ما تريد أن تحلل أسلوب وجود من يقوم بالسؤال عنه وتبين «البناءات» الرئيسية التي تكون مقومات وجوده أو بالأحرى «وجوداته»، ووجود هذا السائل يفترق عن سائر الموجودات في كونه على علاقة دائمة مع نفسه، هذه القدرة على التعلق بذاته، وفهم إمكانيات وجوده - بل الإمساك بها! - تعبر عن خاصية أساسية في تكوين هذا الموجود الذي يتميز «بالتواجد»،
11
والتواجد مصطلح ينطبق على الإنسان وحده، وتحديداته البنائية، أو وجوداته، تتميز تميزا واضحا عن تحديدات سائر الموجودات غير الإنسانية؛ إذ سنصف هذه التحديدات الأخيرة بأنها تحديدات مقولاتية، وينبغي أن نتنبه إلى هذه التفرقة التي لم تفطن إليها الأنطولوجيا التقليدية، صحيح أن الموجودات غير الإنسانية توجد أيضا أو تكون ولكنها لا تتواجد، ولا تقدر على الدخول في علاقة مع نفسها.
ما هي إذن المهمة المزدوجة في تناول السؤال عن الوجود؟ إنها تقوم من ناحية على تحليل الموجود الإنساني، ومن ناحية أخرى على ما يسميه هيدجر «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا».
لنبدأ بالمهمة الأولى، نحن الذين نتواجد، ولهذا يؤثر الفيلسوف - كما قدمنا - أن ينحت لنا مصطلحا يميزنا عن سائر الموجودات، وهو مصطلح الدازاين أو الموجود الإنساني كما تقدم، وأخص خصائص وجودنا هي أننا نعيش ونتحرك دائما من خلال فهم محدد للوجود، يبدو إذن أن من السهل علينا أن نقول شيئا عن هذا الموجود الإنساني، غير أننا نتوهم هذا، فنحن في العادة لا نملك مقاومة الإغراء الذي يحملنا على أن نفهم أنفسنا من خلال الموجود الذي «لا نكونه»، هذا الموجود الذي نتخذ منه على الدوام مسلكا معينا ونصفه بأنه «العالم»، هذا الموجود المختلف تمام الاختلاف عن «موجوديتنا» يغرينا بأن نتخذ منه نموذجا للفهم، أن نتصور أنفسنا على غراره، هكذا يعرف الإنسان ما يتعامل معه بأفضل مما يعرف نفسه! وهذا يفرض علينا أن ننظر إلى الموجود الإنساني في أقرب أحواله وأكثرها حظا من الألفة والتكرار، أي في حياته اليومية، كما يحقق المطلب الفينومينولوجي الذي يحرم علينا أن نبدأ من مشروع مثالي، لكي نتمكن من رؤية الإنسان في أسلوب حياته ووجوده المعتاد، ولكن ليس الهدف من هذه الرؤية أن يستغرقنا وصف هذا الأسلوب في الحياة والوجود، وإنما الهدف منه أن نوضح الأسس التي يقوم عليها، أي «البناءات الماهوية» أو مقومات الوجود أو «الوجودات».
يبدو أن هيدجر يترسم هنا طريقا دائريا يشبه أن يكون عودا على بدء؛ فهو يقرر أن تحليل الموجود الإنساني مسألة مؤقتة، الهدف منها أن تعيننا على تحديد السؤال الأساسي عن الوجود، فإذا تم هذا التحديد كان علينا عندئذ أن نرجع إلى تحليل الموجود الإنساني فنعيده مرة أخرى، وهذا هو الذي سنراه بالفعل في القسم الثاني من الكتاب الذي يتناول الارتباط بين الإنسان والزمانية تناولا جديدا، وليس هذا من قبيل الصدفة؛ لأن الأفق الذي نستطيع أن نفهم من خلاله وجود الإنسان هو في رأيه أفق الزمانية؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يعيد التفكير في مشكلة الزمان، وقد كان المأمول من هذا التفكير أن يمكننا من أن نفهم كذلك زمانية الوجود نفسه، غير أن هذا الجزء المهم هو الذي افتقده الناس، ولم يستطع هيدجر أن يكتبه حتى اليوم!
ونصل الآن إلى المهمة الثانية التي يتطلبها تناولنا للسؤال عن الوجود، ما الذي يقصده هيدجر من «تحطيم تاريخ الأنطولوجيا»؟ ها هو ذا يؤكد لنا أن الموجود الإنساني نفسه تاريخي، وأن هذا وحده هو الذي يجعله يتصور شيئا كتاريخ العالم، لنستمع إلى ما يقول الفيلسوف في هذا الصدد: إن الموجود الإنساني بأسلوبه الذي يتخذه في الوجود وتبعا لذلك أيضا بفهمه الخاص للوجود، قد نشأ في أحضان تفسير موروث للموجود الإنساني، إنه يفهم نفسه دائما من خلال هذا التفسير وفي ظل محيط معين، هذا الفهم هو الذي يفض إمكانية وجوده وينظمها، إن ماضيه الخاص، وهذا يعني دائما ماضي جيله، لا يسير وراءه ولا يتبعه، وإنما يسبقه في كل حين.
12
قد يبدو هذا مناقضا للموضوع الأصلي الذي فرغنا من صياغته؛ فتاريخية الوجود الإنساني - والإنسان العادي بوجه خاص - تغري بالسقوط في شباك التراث والامحاء فيه، وكما رأينا الموجود الإنساني يميل إلى أن يفهم ذاته على مثال الموجودات المختلفة عنه،
13
كذلك نراه يميل في فهمه للتاريخ إلى السقوط تحت رحمة التراث، فيترك له زمامه، ويدع له أمر اختيار قراراته الحاسمة، دون أن يكلف نفسه مشقة استشراف هذا التراث واستشفاف وجوده التاريخي الخاص.
لا بد إذا من إزالة الحجب التي تراكمت على التراث، فغطته أو شوهته أو ألقته في مهاوي النسيان، ولا بد من الرجوع إلى منابعه الأصلية التي استمدت منها المفاهيم والمقولات المأثورة التي ظلت المذاهب المتوالية تتناقلها وتنحرف بها عن أصولها، وعلينا أن نضع المفاهيم في سياقها التاريخي بدلا من أن نأخذها مأخذ الحقائق الأبدية الثابتة التي نكتفي بتلقيها وتسليمها للأجيال اللاحقة.
التحطيم (أو التكسير) للتراث الأنطولوجي لا يعني أن ننفي الماضي أو نقف منه موقفا سلبيا، وإنما الهدف منه هو اكتشاف إمكانياته الإيجابية، وإزالة الرواسب التي تراكمت عليه بغية الوصول إلى التجارب الأساسية التي حددت مفاهيمه الأولية، ومعرفة إن كان هذا التراث قد نظر حقا إلى مسألة الوجود من أفق الزمان.
14
إن تحطيم تاريخ الأنطولوجيا معناه في المقام الأول «كشف الغطاء» عن تاريخية تصوراته الأساسية، لا بل بعث الإحساس بمعنى التاريخية نفسها، على الرغم مما قد يكون في هذا التعبير من مفارقة، ومعناه أيضا أن نكشف عما وقع في هذا التراث المستقر من إهمال للسؤال الأساسي عن الوجود، بحيث نصبح على وعي بتاريخ الأنطولوجيا ونتبين حدودها ونفهمها.
والحق أن هيدجر لم يتوقف طوال حياته عن القيام بهذه المهمة، وتفسيراته التي قدمها عن أفلاطون وأرسطو وديكارت وليبنتز وكانط وفيشته وشيلنج ونيتشه والفلاسفة قبل سقراط بوجه خاص هي خير شاهد على هذا، وكلها تفسيرات محكمة جديرة بالإعجاب، بغض النظر عن مواقفنا المختلفة منها، ويؤكد هيدجر منذ البداية أن منهجه هو المنهج الفينومينولوجي (الظاهرياتي)، لكننا نخطئ لو تصورنا أنه يأخذ ببساطة مفهوم هسرل للظاهريات كفلسفة «ترنسندنتاليه» تصل في مراحلها التكوينية الأخيرة إلى رد كل شيء إلى الأنا (الذات أو الوعي) الخالص (الذي يبقى ولو فني العالم كله)! فالواقع أن هيدجر يحلل كلمتي الظاهرة والعلم اللتين يتألف منهما المصطلح اليوناني الأصلي تحليلا عميقا،
15
ويبرر - مع عرفانه بفضل هسرل عليه - تنصله من الظاهريات فلسفة واتجاها، واستفادته منها نهجا وطريقا للكشف عن أشكال الوجود، إنه، إذا صح تفسيره لها، يجردها من طابعها المطلق من الزمان ويرجعها إلى السياق التاريخي، بل إنه ليجعل منها أنطولوجيا
16
تتجه في صميمها إلى ما يظهر الظاهرة نفسها، أي إلى حقيقة الوجود؛ ولهذا فإن مفهوم الظاهريات على حد قوله لن ينصب على «مائية»
17 (أو موضوعية) موضوعات البحث الفلسفي بل على كيفيتها، وبهذا لن تكون الأنطولوجيا ممكنة إلا إذا أصبحت فينومينولوجيا،
18
أما من ناحية «الموجود الإنساني» فتسصبح الظاهريات تفسيرا
19
أو تأويلا يبين خصائصها وبنيتها: «إن الفلسفة هي أنطولوجيا ظاهرياتية كلية تبدأ نقطة انطلاقها من تفسير الموجود الإنساني الذي ثبت، بوصفه تحليلا لهذا الموجود الإنساني، نهاية مسار كل سؤال فلسفي عند الأصل الذي صدر عنه وسوف يرتد إليه.»
20 (2) وجود الإنسان وجود-في-العالم
لن تجد في حديث «الوجود والزمان» عن الإنسان شيئا من تلك الأوصاف التي ألفناها في غيره من الكتب الفلسفية التي تجعل منه وعيا أو ذاتا أو شعورا أو شخصا أو أنا، إن هيدجر ينحت له الاصطلاح الذي ذكرناه واتفقنا على التعبير عنه في العربية بكلمة «الدازاين (الموجود الإنساني) الملقى هنا وهناك في العالم»،
21
والواقع أن هذه الكلمة الأخيرة، في منطوقها العربي أو أصلها الألماني، تثير غير قليل من سوء الفهم، ولو تحرينا الدقة لترجمناها ب «الموجود-هنا» أي الكائن الملقى به في العالم، والموجود فيه دائما بالقرب من الأشياء ومع غيره من الناس، المتميز عن سائر الكائنات بعلاقته بالوجود، واهتمامه بالسؤال عنه، وحمله مسئوليته على كتفيه، والأمر هنا لا يقف بطبيعة الحال عند استبدال اسم باسم أو كلمة بكلمة، وإنما ينطوي على تغيير أساسي في النظر والتصور والفكر بوجه عام.
ونسأل الآن: ما الوجود؟ فتواجهنا المشكلة الكبرى، ونضطر للاعتراف بأننا لا نعرفه! ومع هذا فإن من السهل علينا أن نفرق في الموجودات التي نعرفها بين موجود يدخل في علاقة مع نفسه ويقدر على تنميتها، وبين موجود آخر عاجز عن هذه القدرة؛ فالحجر يوجد أو يكون، ولكنه لا يملك الدخول في علاقة مع نفسه، وقل مثل هذا عن الشجرة والبيت والكرسي وغيرها من الموجودات غير البشرية، أما الإنسان فهو الكائن الوحيد الذي لا يقتصر على أن يوجد أو يكون، وإنما يتعدى هذا إلى الدخول في علاقة مع ذاته ومع الذوات الأخرى التي يشترك معها في الوجود وتشاركه فيه، ومع سائر الموجودات غير الإنسانية، والنتيجة الهامة التي نستخلصها من هذا هي أن الإنسان لا يوجد فحسب، وإنما «عليه أن يوجد»، وأن يحمل مسئولية الوجود وأمانته؛ ولهذا استحق أن ينحت الفيلسوف له كلمة خاصة به هي كلمة الدازاين أو الوجود الإنساني الملقى به هنا وهناك أو الآنية التي قد لا ترضينا كل الرضا! ولا يقعن في ظننا أننا قد عرفنا بهذا شيئا عن الوجود، فنحن لم نزل على الطريق، ولم نصل بعد إلا إلى معنى أولي عن وجود موجود معين نصفه بالإنسان أو الدازاين، ونحاول تحديد معالمه التي تميزه عما عداه، هذا الوجود النوعي ليس وجودا بسيطا، وإنما هو وجود في سبيل التحقق وينبغي على صاحبه أن يعرف بنيته ويتحمل مسئوليته حتى يصل به إلى ما سنسميه بعد بالوجود الأصيل، وبذلك ينفذ من قشور الوجود الزائف الذي يحيا في الأغلب الأعم حياته اليومية مستغرقا فيه.
هل ألفنا الآن هذا المصطلح الجديد؟ فلنتقدم خطوة أخرى لنواجه المزيد! ولنتذرع بالصبر على تكرار كلمتي الوجود والموجود!
إن دخول «الوجود الإنساني» في علاقة مع وجود يميز هذا الوجود بأنه «تواجد»
22
ولأن تحديد ماهية هذا الموجود الذي نسميه الدازاين لا يمكن أن يتم عن طريق تحديد ل «ما» موضوعية، بل تكمن ماهيته في أن عليه أن يوجد وجوده الخاص به؛ لهذا اخترنا تعبير «الدازاين أو الموجود الإنساني»، باعتباره تعبيرا خالصا عن الوجود، للدلالة على هذا «الموجود»، إن الشيء الذي يميزه هو أسلوبه النوعي في الوجود، وهذا الأسلوب يكمن في قدرته على اختيار ذاته، لا، بل يكمن في الواجب الذي يحتم عليه اختيار ذاته، وتقاعسه عن هذا الاختيار أو تردده في القيام به هو نفسه نوع من الاختيار (وهي الفكرة التي أخذها العديد من فلاسفة الوجود ومن أهمهم سارتر) بهذا نضع أيدينا على لب التفرقة التي يقيمها هيدجر بين الأصالة والزيف، بين الوجود الأصيل وغير الأصيل، إن الموجود الإنساني يفهم ذاته على الدوام من خلال تواجده، أي من خلال إمكانياته الذاتية في أن يكون هو ذاته أو لا يكون، هذه الإمكانية إما أن يكون قد اختارها بنفسه أو تكون قد أقحمت عليه أو نشأت في ظله؛ ولهذا فإنه هو نفسه الذي يقرر أسلوب تواجده، سواء في ذلك أكان قد اختاره أو تقاعس عنه وضيعه من يديه،
23
فقد يتم الاختيار على نحو يمكنه من بلوغ ذاته، وتحقيق إمكانياته، وقد يتم على نحو آخر بحيث يملي الاختيار عليه، ويحيا كما يحيا «الناس»، حياة زائفة غير أصيلة.
قلنا: إن تفرد الدازاين أو الموجود الإنساني أو ميزته؛ يكمن في أن وجوده يتجلى في «التواجد» بل يتحقق فيه، وسوف يصك الفيلسوف عملة جديدة توضح لنا هذه الميزة التي ينفرد بها الموجود الإنساني بمصطلح يمكن أن نعبر عنه بوجودي الخاص أو وجودي أنا،
24
أي أن كل موجود يوجد على هذا النحو (الذي وصفناه بالتواجد) إنما يهتم قبل كل شيء بوجوده الخاص به لا بأي أسلوب آخر من أساليب الوجود بوجه عام: «ولما كان الموجود الإنساني بحسب ماهيته هو إمكانياته، فإن هذا الموجود في وجوده يمكنه أن «يختار» نفسه، أن يكسبها أو يضيعها، أو يمكنه بمعنى أدق ألا يكسبها أبدا، أو يكسبها في الظاهر فقط، وهو لا يكون قد أضاع نفسه أو لم يكتسبها بعد إلا لأنه - بحسب ماهيته - يمكن أن يكون بالنسبة لنفسه موجودا أصيلا أو متعلقا بوجوده الخاص به؛ ولهذا فإن حالي الوجود اللذين نصفهما بالأصالة وعدم الأصالة يقومان على تحدد «الموجود الإنساني» بوجه عام من خلال «الوجود الخاص».»
25
ما معنى هذه الأصالة؟ وكيف يكون الوجود غير أصيل؟ ما الذي يجعل الموجود الإنساني يقضي معظم حياته أو كل حياته بعيدا عن الأصالة غارقا في الزيف كل يوم؟
إن الموجود الإنساني الذي يحيا الحياة الأصيلة يختار الإمكانيات التي تبلغه ذاته أو تضعه على الطريق إليها، أما الذي يحيا حياة غير أصيلة فيتخلى عن هذه المسئولية ويترك لغيره أن يملي عليه إمكانياته، ويسمح «للمجهول» - الذي نسميه «الناس» أو «الجمهور» أو «الرأي العام»
26 - أن يفرضها عليه أو يوقعه في شباك إغرائها؛ فالإنسان يلعب الرياضة أو يتفرج على المباريات أو يدخل السينما أو يشاهد التليفزيون أو يدرس الحقوق أو الطب أو الهندسة أو يذهب إلى المصيف أو يتزوج من وسط معين أو ينتمي لحزب ما ... إلخ لمجرد أن الناس تفعل هذا كله، إنها حياة التوسط، الحياة اليومية التي تقيدنا بإسارها وتسحرنا بسحرها حتى لنتوهم أنها هي الحياة، من هذه الحياة المعتادة، من هذا الأسلوب المألوف الذي نقابله في الأغلب الأعم، لا بل نكونه نحن أنفسنا في معظم أحوالنا أو في كل أحوالنا، يبدأ هيدجر تحليله لوجود الدازاين أو الموجود الإنساني (وهو التحليل الذي لا يصح أن يغيب عن بالنا أبدا أنه معبر مؤقت إلى فهم معنى الوجود بوجه عام) ولا بد لنا أن نكشف من خلال تحليلنا لوجود هذا الموجود الذي يحيا حياة التوسط المعتادة، عن تلك البناءات التي تصدق على كل موجود إنساني آخر سواء أكانت أصيلة أم غير أصيلة، سيساعدنا هذا التقدم خطوة أخرى بحيث نتفهم هذا الموجود من جهة كونه وجودا-في-العالم، بيد أن هذا الوجود-في-العالم ليس هو البناء الوحيد، وإن يكن أهمها جميعا؛ فالبناء معقد متشابك، ومهمتنا أن نتبين وحدته وندرسه كظاهرة موحدة، وهي مهمة عسيرة بغير شك، تفرض علينا أن نخطو ببطء، بحيث نضع أيدينا على خيوط النسيج دون أن تضيع منا وحدته.
يمضي هيدجر في شرح هذا «الوجود-في-العالم» على ثلاث خطوات: (1)
بالسؤال عن معنى «العالم» في هذا التعبير. (2)
ثم بالسؤال عن ال «من» أي عن الإنسان في وجوده الوسط وحياته اليومية من حيث إنها وجود-مع-الآخرين ووجود ذاته في نفس الوقت. (3)
وأخيرا بالسؤال عن معنى «الوجود»
27
الذي سيشمل البحث عن العناصر البنائية التي يتركب منها وجود الإنسان-في أو ما وصفناه من قبل ب «الوجودات».
28
لا بد لنا من قبل السؤال عن «طبيعة» في-العالم من أن نمهد له بشرح ما نقصده بالوجود-في بوجه عام، فقد تعودنا على فهم هذا الضرب الأخير من خلال وجود الأشياء على أنه نوع من «الاحتواء-في»، ولكن الموجود الإنساني يختلف في وجوده، كما قدمنا، عن وجود الأشياء الحاضرة «أمامنا»
29
أو الأشياء التي نتخذ منها أدوات وتكون في متناول أيدينا،
30
ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نتخذ من هذه الأشياء نموذجا لفهم الموجود الإنساني على غراره؛ ولهذا ينبغي علينا أيضا أن نفهم «الوجود-في» على نحو آخر.
إن «الوجود-في» هو أحد «الوجودات» التي قلنا إنها تميز «الموجود الإنساني»، وهو يعني حالة من الإلف، فالشيء الذي آلفه هو الشيء الذي أكون بالقرب منه أو أتريث عنده أو أقيم بجواره، وإذا كنا لا نستطيع أن ننظر إلى «الوجود-في» على أنه نوع من الاحتواء في المكان، فليس معنى هذا أن الموجود الإنساني لا علاقة له بالمكان، بل معناه أن علاقته به لا يمكن أن تفهم على غرار الأشياء المحتواة في المكان، ويجب ألا نتصور أيضا أننا نستطيع أن نتوصل إلى هذا «الوجود-في» عن طريق المعرفة على اختلاف نظرياتها؛ لأن الأمر في الحقيقة على العكس من هذا، فنحن لا نتوصل أبدا إلى هذا الأسلوب النوعي الذي يطلق عليه اسم المعرفة إلا لأننا على الدوام في حالة إلف بالموجود، وهذا الإلف يتجلى في صور شتى من الانشغال به والاهتمام بأمره.
بهذا يكون هيدجر قد غافلنا وقلب التصور السائد الذي درجنا عليه منذ القدم، وجعلنا نعتقد أن المعرفة هي الأساس الأول لكل أسلوب نتخذه في التعامل مع الموجود! فنحن نقيم أولا مع الموجود، نتصرف فيه ونحتاج إليه ونهتم بأمره ونستخدمه في شئون حياتنا، وهذا وحده هو الذي يجعلنا نتخطى كل هذه المواقف التي تتناوله فيها لكي نبتعد قليلا عنه وندخل معه في علاقة تأمل، هذا التأمل المعرفي ليس هو الأصل على كل حال، ومعنى هذا أيضا أن كل بداية من نظرية المعرفة إنما تقفز فوق الأساس الذي تقوم عليه؛ ولهذا فإن الصدارة والتفوق اللذين نميل إلى إعطائهما لفعل المعرفة الخالصة ليسا إلا وهما ينخدع به صاحب نظرية المعرفة نفسه، وليس معنى هذا مرة أخرى أن هيدجر يتخلى عما نسميه نظرية المعرفة، بل معناه أن يرتد بسؤاله إلى الأساس الأصلي الذي تتبنى عليه حتى نتبين أن المعرفة الخالصة تستبعد التعامل المباشر مع الوجود، وأن هذه المعرفة نفسها ليست إلا ضربا من الوجود-مع الأشياء، وإن يكن قد صرف النظر عن التعامل المعتاد مع الموجود، وليس من شك عندي في أن هيدجر قد استفاد في هذا من تأملات من دي بيران (الذي لم يشر إليه)! عن الجهد والمقاومة الإرادية التي تعيننا على الوصول إلى الوعي بالذات، ومن أفكار «دلتاي» فيلسوف الحياة ومؤسس مناهج العلوم الإنسانية عن تجربتنا للواقع من خلال الإرادة و«الدافع» اللذين يقاومهما هذا الواقع، وبحوث «ماكس شيلر» المتأخرة التي تأثر فيها بآراء «دلتاي» وعبر عن نظريته الإرادية عن الوجود والوعي والإنسان، كما أكد فيها أن وجود الموضوعات لا يعطى بصورة مباشرة إلا في علاقتها بالدافع والإرادة، وأن الواقع لا يقدم لنا في الأصل من خلال الفكر والإدراك، حتى لقد ذهب إلى حد القول بأن فعل المعرفة نفسه ليس هو فعل الحكم، وإنما هو «علاقة بالوجود»،
31
وإن كان هيدجر يأخذ على هذه المحاولات جميعا أنها تفتقر إلى التحليلات الأنطولوجية الضرورية عن معنى الوعي والواقع والوجود والعلاقة بينها.
مهما يكن من شيء فإن هذا كله يقودنا إلى صميم المشكلة القديمة التي حيرت الفلاسفة: كيف تخرج «الذات» من عالمها الباطن لكي تصل إلى «الموضوع» الموجود في الخارج؟ يبدو أن هيدجر لا يحاول فك خيوط هذه العقدة الأزلية، ولا يتردد في إزاحتها بضربة «قاضية» يعلن بها أن مشكلة وجود الواقع الخارجي وإثباته وعلاقة الذات به مشكلة زائفة لا تستحق عناء لحظة واحدة من التفكير! لماذا؟ لأن الموجود- الإنساني، باعتباره وجودا-في-العالم، موجود دائما في الخارج، أي في العالم المألوف، لنستمع إليه وهو يقول: «إن الموجود-الإنساني في اتجاهه إلى الموجودات وإدراكه لها لا يحتاج لمغادرة مجاله الداخلي الذي نتصوره حبيسا فيه،
32
وإنما هو دائما بحسب طبيعة وجوده الأولية، موجود دائما «في الخارج»، بالقرب من الموجود الذي يلتقي به في عالم تم اكتشافه بالفعل، ثم إن إدراك الشيء المعروف ليس بمثابة رجوع بالفريسة التي غنمناها من الإدراك الخارجي إلى «بيت» الوعي والشعور، وإنما يظل الموجود-الإنساني العارف - في أفعال الإدراك والاحتفاظ بما يدركه والإبقاء عليه - دائما في الخارج بوصفه موجودا إنسانيا هنا هو هناك في هذا العالم.»
33
إنه إذا ليس بحاجة لما نسميه «بالعلو» أو التخطي والتجاوز، إلى العالم؛ لأنه على الدوام «بالخارج» مع الموجودات التي يصادفها في هذا العالم، كما أنه دائما «بالداخل» باعتباره وجودا-في-العالم يهتم بالأشياء وينشغل بأمرها، والخلاصة أن المعرفة ليست هي التي تمكننا من إقامة العلاقة التي تربطنا بالعالم، بل إنها تفترض هذه العلاقة من قبل؛ بحيث لا تعدو أن تكون مجرد «تحول» لهذه العلاقة نفسها: «في فعل المعرفة يكتسب الموجود الإنساني موقف وجود جديد من العالم الذي سبق اكتشافه فيه»، كما أن المعرفة لا تخلق علاقة «تبادل» بين الذات والعالم، ولا هذه العلاقة تنشأ من تأثير العالم على الذات، إن المعرفة حال من أحوال الوجود الإنساني، يقوم على أساس الوجود-في-العالم،
34
ولا جدال في أن هذا أسلوب جديد في التفكير، وقد لا نكون مبالغين إذا استعرنا لفظ «كانط» وقلنا إنها ثورة فكرية أذهلت بعض معاصري هيدجر وملأت صدور البعض الآخر بالنشوة والحماس! •••
تحدثنا حتى الآن عن «الوجود-في-العالم». ولن نفهم هذا الاصطلاح الأساسي حتى نعرف ما هو «العالم»، وطبيعي أن كل محاولة للوصول إلى العالم بسرد الأشياء والكائنات الموجودة فيه محاولة مقضي عليها بالفشل، فلن نجني من هذا إلا «رص» هذه الكائنات بجانب بعضها البعض، دون أن نبلغ من مفهوم العالم شيئا، وحتى لو أثبتنا مختلف المقولات التي تستوعب الموجودات من بشر وأشياء طبيعية وأدوات وقيم ... إلخ، وحاولنا أن نعرف الأساس الطبيعي الذي تعتمد عليه، وحددنا مفهوم الطبيعة، فلن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، فالطبيعة نفسها موجود نلقاه في داخل العالم، ويمكننا أن نكتشفه بمختلف الوسائل وعلى شتى المستويات.
35
ماذا نفعل إذا؟
إن هيدجر يغير السؤال ويقلبه قلبا بحيث تصبح «عالمية» العالم من مكونات «الموجود-الإنساني» نفسه، أي تصبح إحدى الوجودات المميزة له: «ليس العالم - من الناحية الأنطولوجية - تحديدا «للموجود» المختلف في ماهيته عن الموجود- الإنساني، وإنما هو طابع مميز لهذا الموجود نفسه.»
36
ربما دار في خلدنا أن هيدجر يرد «العالم» إلى مجال الذات، ولكن كيف يستقيم هذا وهو يستبعد مفهوم الذاتية والذات كل الاستبعاد؟ ما السبيل إذا للقرب من معنى «العالم» و«العالمية»؟ السبيل واضحة؛ فقد تعلمنا من الفيلسوف أن نبدأ تحليلاتنا «للدازاين (الموجود-الإنساني)» من حياتنا العادية أو حياة التوسط التي نعيشها كل يوم؛ بهذا يتضح لنا أن عالم الموجود-الإنساني هو العالم المحيط
37
به، وأن هذا «المحيط» هو أقرب عالم منه، هكذا ينطلق البحث عن فكرة العالمية من هذا الطابع الوجودي المميز للوجود اليومي-في-العالم، كما نصل إلى «عالمية» المحيط (أو ما يسميه هيدجر بالإحاطة) عن طريق التفسير الأنطولوجي للموجودات القريبة منا في داخل هذا المحيط.
38
سيقودنا هذا كله إلى تحليلات هيدجر المعروفة عن الأداة، وهي - في تقديري على الأقل - من أروع ما قدمه «الوجود والزمان» وأبقاه، ولا شك أن القارئ قد اطلع على بعض هذه التحليلات فيما اطلع عليه في العربية من فصول ودراسات عن هيدجر، ويبقى علينا الآن أن نحدد معنى هذه التحليلات.
لا يعني هيدجر، بطبيعة الحال، أن يوجه للناس نصائح تفيدهم في التعامل مع الأشياء التي يستخدمونها في حياتهم؛ لأن هذا التعامل هو أقرب الأشياء منا وآلفه عندنا؛ فنحن ننشأ في هذا العالم وننمو ومعنا ينشأ التعامل مع أشيائه وينمو، ولا يعني هيدجر كذلك بأن يلقي علينا درسا في تغيير العالم باستخدام هذه الأشياء والأدوات، ولا في اغتراب الإنسان عن نفسه من خلال العمل وكيف يقضي على هذا الاغتراب، إن الهدف من التحليلات «الأداتية» أن تبين لنا الفهم المسبق أو «المعرفة السابقة» التي تفترض في كل إلف يتم بين الإنسان والأداة (مع ملاحظة أن هذه المعرفة السابقة لا تصدر عن أي موقف معرفي نظري، وأن التعامل مع الأداة يتم من منظور قبلي خاص سابق على كل معرفة نظرية، بل إن البدء من هذه المعرفة لن يمكننا من التواصل إلى طبيعة الأداة).
لنضرب مثلا بسيطا، فلو رأيت أمامي مطرقة وحاولت أن أصفها وصفا نظريا، كأن أصف حجمها وشكلها ولونها ووزنها والمادة التي صنعت منها ... إلخ، لما أدركت ماهية هذه المطرقة ولا عرفت شيئا عن الوظيفة التي جعلت لها، وهي أنها شيء يستخدم في الطرق، ولن أدرك أبدا من خلال التأمل النظري الخالص إن كانت هذه المطرقة خفيفة أو ثقيلة، مناسبة للحمل أو غير مناسبة، إنما أدرك هذا من خلال التعامل معها واستخدامها، فكل أداة تصلح لشيء ما، وفي كل تعامل مع الأداة يخضع المرء لنوع من الصلاحية؛ ولهذا نرى هيدجر يصف الأسلوب النوعي الذي يميز وجود الأداة بأنه «الوجود في متناول اليد»، وإن راعك هذا التعبير أو فاجأك بغرابته فتذكر أن الفيلسوف لا يزيد عن استخدام لفظ عويص للتعبير عن خبرة نحياها كل يوم!
إننا لا نبدأ بالنظر الخالص إلى الشيء «الحاضر» أمامنا ثم نضيف إليه قيما وخصائص معينة تجعل منه ما نسميه «بالموجود في متناول اليد»، ونحن لا نضع هذا الشيء، كما يتصور الرأي الشائع، في موضع الشيء الممتد (كما فعل ديكارت) ثم نلبس امتداده خصائص وصفات مختلفة، وإنما نتعامل معه دائما من خلال ما يسميه هيدجر بالتدبر أو التبصر،
39
فالشيء الماثل في متناول أيدينا هو أقرب الأشياء في المحيط الذي نضطرب فيه، ونحن نرتب حياتنا من خلاله، ونستخدمه لتلبية حاجاتنا، وننشغل به ونهتم بأمره.
لنقترب خطوة أخرى من الأداة، قلنا إنها دائما أداة تستخدم من أجل شيء أو غرض ما، والعمل الذي نستخدم له أداة كالمطرقة أو الفارة أو الإبرة أو الحذاء يحمل من ناحيته أيضا نوع وجود الأداة، فالحذاء الذي يتم إعداده يستخدم أداة للمشي، والساعة التي يتم صنعها تصلح لمعرفة الوقت، والعمل الذي نلتقي به خصوصا في غضون التعامل المنشغل أو المهتم - أي ذلك الذي يجري إعداده - يجعل قابلية الاستخدام التي تتعلق به تعلقا أساسيا متضمنة للهدف من هذا الاستخدام، أما العمل الذي يصنع فلا يكون إلا على أساس استخدامه وعلى أساس «نسق الإحالة للموجود» الذي يكتشف في هذا «الاستخدام»،
40
أضف إلى هذا أننا نستخدم في الإنتاج شيئا لا غنى عنه للعمل المنتج، فالعمل يحيل إلى المادة التي صنع منها، وهذه تحيل إلى الطبيعة مصدر كل مادة خام، كالحديد والخشب والحجارة والحيوانات، وهكذا نكتشف الطبيعة حين نستخدم الأداة (الإبرة، المطرقة، المسمار، إلخ)، كما أن الإنتاج لا ينفصل عمن يستخدمونه (كالزبائن مثلا) ولا عن الذين يقومون به (كالعمال والصناع).
ولكن ما شأن هذا التحليل للأداة بسؤالنا السابق عن «عالمية» العالم، أي عما يجعل العالم عالما؟
يوضح هيدجر إجابته على هذا السؤال ببعض الأمثلة التي تبدو معها الأداة، وكأنما تخلت عن طابعها الأداتي، فعندما تصبح الأداة غير صالحة للاستعمال (فتلفت انتباهنا) وعندما تفقد (فنشعر بالحاجة الملحة إليها) أو نجدها ملقاة في طريقنا (فتفرض نفسها علينا) يتبين لنا بوضوح أن «الإحالة» هي الطابع المميز لها، وعندما تتعطل الإحالة (من أجل كذا) كأن أفتش عن مطرقة لدق مسمار فلا أعثر عليها، يشتد وضوح هذه الإحالة من حيث هي كذلك، هنالك يظهر النسق الأداتي المترابط، لا بوصفه شيئا لم يشاهد من قبل، بل بوصفه كلا تمت رؤيته دائما بشكل مسبق أثناء التبصر أو التدبر، ومع هذا الكل يعلن العالم عن نفسه،
41
وهو لن يعلن عن نفسه ولن يتضح إلا إذا كان قبل ذلك قد انفتح أو تفتح.
هل تجد مشقة في هذا الكلام؟ إن هيدجر يخفف وطأته بضرب مثال جديد، وهو يقدم لنا في هذا المثال تحليلا لأداة معينة هي العلامة
42 (كعلامات المرور أو مؤشرات الطرق أو الأعلام ... إلخ) وأهم ما يميز العلامة هو أنها توضح النسق الكلي للأداة توضيحا تاما (فعلامة المرور مثلا توضح النسق الكلي الذي يربط سلوك المارة وراكبي السيارات وعساكر المرور ... إلخ)، فإن كانت الأداة العادية (كالقلم مثلا) غير ملفتة للأنظار؛ نتيجة انصراف الكاتب مثلا إلى الغرض الذي يستخدم القلم من أجله لا إلى طبيعة هذا القلم كأداة، فإن «أداة العلامة» على العكس من ذلك تشد الانتباه إلى طابع الإحالة الذي توضحه أشد التوضيح، إن العلامات المحددة تحيل إلى «العالم المحيط» الذي تنتمي إليه وتيسر الانفتاح عليه، وأهم خاصية تحدد الأداة هي صلاحيتها أو قابليتها للاستخدام، والعلامة تجسد هذا الاستخدام بتوضيح السياق (أو النسق الكلي المترابط) الذي توجد فيه العلامة، بل إنها لتزيد على هذا فتوضح العالم المحيط الذي يوجد به النسق أو السياق الأداتي المترابط.
43
هل عرفنا الآن ما هو العالم؟ هل توصلنا إلى الطابع النوعي الذي يميزه؟ حين نحدد الأداة عن طريق الإحالة فإنما نريد بهذا أن نعين الحالة التي استقرت عليها والغرض الذي جعلت له، ونحن لا ننظر إلى «الموجود في متناول اليد» إلا من جهة هذه الحالة التي جعل لها ودخلت في صميم تركيبه، فليست هناك أداة قائمة بمفردها، مستقلة بذاتها، إنها موجودة على الدوام في إطار نسق أو سياق أداتي كلي، ويكفي أن ننظر إلى الأداة في شمولها لنعرف لأي شيء جعلت، وعلى أي وضع استقرت (مثال ذلك: الآلة، الورشة)، وهذا بدوره يحيلنا إلى الموجود-الإنساني؛ لأن حلل الأداة يعبر عما يريده لها الموجود-الإنساني أو يريد بها، أي أن الغرض الذي جعلت له الأداة أصلا هو إرادة الموجود-الإنساني بها.
44
هذه التحليلات العسيرة تكشف عن المعرفة المسبقة التي يتحتم على الموجود- الإنساني أن يلم بها قبل أن يتعرف على شيء يتصف بصفة الأداة، أي أننا هنا بإزاء تحليل يكشف عن شيء «قبلي» داخل في تركيب ذلك الموجود، بيد أنه ليس نوعا من المعرفة القبلية التي نجدها عند فيلسوف مثل كانط؛ إذ لا تركيب هنا ولا تأليف، بل هو «قبلي» يقوم على التعامل المباشر مع الأشياء، فلا بد أن يكون «العالم» قد انفتح لنا أو تفتحنا عليه قبل أن نلتقي في داخله بشيء كهذا الذي نسميه الأداة؛ وإذا فإن هيدجر لا يركب شيئا ولا يؤلف معرفة على طريقة المثاليين، وإنما ينطلق من الظاهرة المبنية نفسها ويكشف كل ما يتصل بها مما يتيح للإنسان أن يتعامل مع الأداة، وكل الإشارات والإحالات التي يتحرك فيها الموجود-الإنساني نفترض أنها قد ألقت بنفسها في إمكانيات أو مشروعات محددة تمكنها من الالتقاء بالموجود في صورة محددة؛ ومن ثم فإن «بناء ذلك الذي يحيل الموجود-الإنساني نفسه عليه هو الذي يكون عالمية العالم»،
45
عالمية العالم هي التي تمكن الموجود-الإنساني من تجربة موجود من نوع الأداة، والعالم نفسه أسلوب محدد في الفهم، هو أحد الموجودات الأساسية التي تحدد ماهية الموجود-الإنساني وتتيح له أن يلتقي بالموجود القائم في محيطه، فيتعرف على جوانبه الأداتية ويألفه وينشغل به ويتعامل معه؛ لأن المسألة في النهاية أبعد ما تكون عن المعرفة الخالصة أو النظر المحض.
هنا يتضح لنا ما سبق أن أكدناه من أن الموجود-في-العالم لا يمكن أن يكون مجرد موجود بين سائر الموجودات، وإنما يتميز قبل كل شيء بما لديه من قدرة على تفهم العالم تمكنه، أو بالأحرى تمكن الموجود-الإنساني، من الانفتاح على الموجود، كما تيسر للموجود أن يكون في متناوله، وليس هذا من قبيل إضفاء الذاتية على مفهوم العالم، وإنما هي نتيجة مترتبة على الحقيقة الموضوعية التي تقول إن العالم نفسه - أو بالأحرى فهم العالم - من المكونات الرئيسية للموجود الإنساني، وهيدجر يؤكد هذا حين يفرق تفرقة واضحة - في تحليلات لا يتسع المجال للخوض فيها - بين «فهم العالم» وبين تحديد ديكارت للعالم بأنه «شيء ممتد»، وهو تحديد يمكن في رأيه أن يرد إلى الأنطولوجيا القديمة.
إذا كان هيدجر يرفض مفهوم الشيء الممتد، فما هو رأيه في مكانية العالم؟ وما المعنى المكاني «الموجود في متناول اليد»؟ إنه القرب، ولا يصح أن نفهم القرب فهما ديكارتيا على أساس البعد الهندسي القابل للقياس، فهذا الفهم لا قيمة له في تعاملنا اليومي مع الأداة تعاملا يقوم على الانشغال والاهتمام الذي يحدد الاتجاه الذي نبلغ به الأداة أو تبلغ إلينا.
والأداة لا توجد في مكان مجرد متجانس، مستو؛ لأن لها موضعا محددا بها، فمن طبيعتها أن تقوم في مثل هذا الموضع أو المحل المحدد، لكي تكون بعد ذلك «تحت التصرف»، وهذا الموضع هو الذي يتيح لنا أن نرى وجه الاستخدام الذي تصلح له، ومن ترتيب المواضع المختلفة بالنسبة لأداة معينة يتكون ما وصفناه «بكلية الأداة»، والمهم أن هذه المواضع لا يمكن تبديلها كيفما اتفق؛ لأن كل موضع منها متوقف على وجود الأداة التي تكون هي الأداة المحددة التي نحتاج إليها في القيام بنشاط محدد، فالموضع إذا هو موضع أداة تنتمي إليه وتجد فيه المكان الملائم لها.
وترتيب موضع معين لأداة معينة لا بد أن تسبقه معرفة بالنطاق أو المنطقة المحيطة،
46
هذه المنطقة هي التي تكفل وحدة السياق الارتباطي للأداة وتضمن كليتها، أي التنوع المنتظم للمواضع، «ولا بد أولا من اكتشاف شيء كالنطاق أو المنطقة المحيطة إذا أريد لتعيين المواضع أن يكون سبيلا لقيام كلية الأداة الخاضعة للتدبر والتصرف».
47
ومجمل القول أننا لا نعطي مواضع متعددة ثلاثية الأبعاد يمكن بعد ذلك أن «نملأها» بالأشياء؛ إذ الواقع أننا نصل إلى المكان من خلال المنطقة المحيطة التي يتم في داخلها كل تنوع في الأدوات، فالعالم المحيط بنا هو الذي يمدنا بالمكان على شكل تنظيم للمواضع التي تتخذ اتجاهها المحدد من خلال ما نفعله ونهيئ له حياتنا.
إذا كان الأمر هكذا مع إمكانية «الموجود في متناول اليد»، فما الشأن مع مكانية الموجود-الإنساني نفسه؟ إنها تتجلى في «إلغاء الأبعاد»
48
والاتجاه، وينبغي أن ننفي عن «إلغاء الأبعاد» كل تصور سكوني لنفهمه فهما نشيطا فعالا، فالموجود الإنساني يقرب الموجود منه لكي يلتقي به، وإلغاء الأبعاد هو الذي يمكننا من اكتشاف البعد والمسافة، لا العكس؛ لأنه فعل يحققه الموجود-الإنساني، بل هو في الحقيقة تحديد وجودي له، في حين أن البعد (أي المسافة الفاصلة بين الأشياء) تحديد مقولاتي، والموجود-الإنساني عندما يلغي الأبعاد إنما يحاول أن يجعل احتياجاته في متناول يده، وغني عن الذكر أن إلغاء الأبعاد من أهم الملامح التي تميز عصرنا وحضارتنا (وسائل المواصلات التي تزداد سرعة، نقل الأنباء، أجهزة الإذاعة والبث ... إلخ)، وسوف يتعمق هيدجر في هذه المسألة في كتاباته المتأخرة، وبالأخص في محاضرته عن التقنية. •••
بدأ هيدجر تحليله للوجود-في-العالم بالبحث في ماهية الأداة لكي يثبت أن الموجود-الإنساني مستغرق دائما في عالمه، ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، كان عليه أن يلقي نظرة أشمل على مختلف الأبنية التي يتركب منها الموجود الإنساني؛ ليبين لنا ما يصفه بالإنية
49
والوجود المشترك،
50
وكلاهما كامن في أصالة الوجود-في-العالم الذي تحدثنا عنه من قبل، وإذا كنا قد خرجنا من التحليل السابق بأننا لم نعط «أنا» مجردة يكون علينا بعد ذلك أن نوجد لها عالمها كما يكون عليها أن «تعلو» إلى هذا العالم، فإننا سنرى الآن أنه ليست هناك أنا منعزلة يتحتم علينا بعد ذلك أن نحطم أسوار عزلتها ونعبرها إلى الآخرين، لقد كان «الآخر» متضمنا في التحليل الذي قدمناه عن «العالم المحيط» و«كلية الأداة»، فالشيء الذي يتم إنتاجه إنما ينتج للآخرين (الحذاء لمن يلبسه، والثوب لمن يرتديه، والمطرقة لمن يستخدمها، والكتاب لمن يقرؤه، والحقل لمن يحرثه ويزرعه ... إلخ).
والأداة وجدت بطبيعتها لكي يستعملها الآخرون، كما ساهم الآخرون أيضا في إيجادها، إنهم كذلك معنا-هناك، ليسوا أغرابا عنا، بل نحن نحيا معهم في وجود مشترك، ولا نميز أنفسنا عنهم، إن عالم الموجود-الإنساني عالم مشترك، هو عالم «المعية» أو الوجود-مع، و«الوجود-في» هو في صميمه وجود-مع-الآخرين، ووجود الآخرين في ذاته داخل العالم هو كذلك وجود-مع-الموجود الإنساني.
ولكن عبارة «الوجود-الإنساني هو وجود-مع» تحتاج إلى شيء من الإيضاح، فليس معناها أن هناك من الناحية الفعلية والواقعية أناسا آخرين يمكنني أن أبرهن على وجودهم في البيئة المحيطة بي، بل معناه أنني على الدوام منفتح على الآخرين، وأنني بصورة مسبقة مع الآخرين، وحتى لو عزلت نفسي عنهم واعتصمت بوحدتي، فلن يسعني أن أفعل هذا إلا لأن وجودي بطبيعته وجود مشترك أو وجود-مع، والإنسان الذي يتجنب الاختلاط بغيره من الناس إنما يثبت بهذا الفعل نفسه أن الغير حاضر بوصفه ذلك الذي يتجنبه!
وصفنا التعامل مع الأداة بأنه انشغال أو اهتمام،
51
والآن نصف التعامل مع الآخرين بأنه «رعاية»،
52
ويجب أن نفهم هذه الكلمة الأخيرة بأوسع معانيها الوجودية، بحيث تشمل كل أساليب الوجود-مع-الآخرين، من الحب والتضحية إلى عدم الاكتراث والاحتقار (وإن كان هذا الأسلوب الأخير بطبيعة الحال هو أخس وجوه الرعاية وأدنى حالاتها السلبية!) وللرعاية معنيان يقع أحدهما على طرفي نقيض مع الآخر؛ فهناك الرعاية «المقتحمة» - إن جاز هذا التعبير - التي تجعلنا نجرد الآخر من كل أعبائه، بحيث يصبح عرضة للارتكان المطلق علينا كما تعرضنا للسيطرة عليه والتحكم المطلق فيه، وهناك الرعاية الواهبة - إن صح هذا التعبير أيضا - التي تجعلنا نبادل الرعاية بالرعاية، ونرد «الهم» إلى صاحبه لكي يحمله بنفسه ويحرر نفسه بنفسه، والرؤية أو النظر المتعلق بالرعاية هو الاعتبار والتسامح.
بقي أن نسأل عن «المن» المقصود في تعبير الوجود مع الآخرين، وقد عرفنا مما سبق أن هيدجر يبدأ تحليلاته من أسلوب الوجود والحياة اليومية التي يحياها الموجود-الإنساني، ولهذا فليس غريبا أن يكون «من» المقصود بالوجود اليومي مع الآخرين هو «الناس» أو «الجمهور» أو «المرء» أو «الشخص المجهول»،
53
أي ما وصفناه من قبل بالتوسط؛ لنستمع إلى ما يقوله هيدجر عنه: إن «الناس» لتهتم في وجودها أساسا بهذا التوسط؛ ولهذا يضعون أنفسهم من الناحية الفعلية في «توسط» ما يليق وما لا يليق، وما يمكن أن يقره المرء أو لا يقره، وما يصفه بالنجاح أو ما يأباه عليه، وموقف هذا التوسط مما يصح المخاطرة به أو لا يصح هو موقف الرقابة على كل استثناء، إن كل تفوق يسحق في صمت وبغير ضجيج، هذا الهم الذي يؤرق «التوسط يكشف من جديد عن نزعة أساسية لدى الموجود-الإنساني، يمكن أن نسميها تسوية جميع إمكانيات الوجود»،
54
فحياة التوسط أو الحياة العامة تلغي كل الفروق وتقضي على كل أصالة وتنزع عن الموجود-الإنساني كل قدرة على تحمل المسئولية والاستقلال بالرأي واتخاذ القرار، أي تحرمه من أن يكون هو ذاته وتملي عليه أسلوب وجودها.
الناس يحملون عبء وجودنا، ويحسمون القرارات نيابة عنا، وهنا يتم نوع عجيب من «التغطية» أو «التنكير»، فالسيطرة التي يفرضها الناس تجيد التخفي، كل إنسان يعمل ما يعمله وكأنه هو ذاته، وما من أحد هو ذاته، الناس هم كل الناس ولا أحد، لا بد إذا أن تكون هناك أصالة تواجه عدم الأصالة هذه، ولا بد أن يحاول الموجود- الإنساني أن يختار نفسه، على أساس إمكاناته الذاتية، صحيح أن الأمر لا يخلو أبدا من مواقف وحالات يتعذر فيها اتخاذ القرارات الحاسمة واختيار الذات، نتيجة الظروف الخارجية التي تتحكم فينا كل لحظة ، ولكن هيدجر لا يناقشها صراحة، ويؤثر أن يضمنها كلامه الذي سيأتي بعد عن «رمي» الموجود-الإنساني أو كونه ملقى به هناك.
ولا يقف الأمر «بالناس» عند هذا الحد، إن سيطرتهم لتمتد وتتسع فتحدد كذلك فهم العالم والذات، لقد ضاع «الناس» في عالمهم؛ عالم كل الآحاد ولا أحد! وليس عجيبا بعد هذا أن يفهموا أنفسهم على مثال الموجودات غير الإنسانية، أو الموجودات الحاضرة وحسب، أي أنهم يحددون أنفسهم تحديدا «مقولاتيا» لا «وجوديا»، على نحو ما فعلت الأنطولوجيا القديمة التي نظرت إلى الإنسان نظرتها إلى موجود حاضر بين الموجودات، ولم تستطع أن تقترب من إنيته المتواجدة ووجوده المهموم بإشكال الوجود.
ويمضي هيدجر في تحليله للوجود-في-العالم فيوضح مفهوم «الوجود-في» الذي يتصل به أوثق اتصال، ويحدد العناصر التي يتركب منها وجود الموجود-الإنساني المتميز بالانفتاح في أمور ثلاثة: التأثر الوجداني (الوجدانية)، والفهم، والكلام
55
أو الخطاب.
ولنستمع إلى ما يقوله عنها بأسلوبه المعهود: «في الوجدانية يحضر الموجود- الإنساني دائما أمام نفسه، لقد وجد نفسه، بالفعل دائما، كحضور مدرك لذاته، بل كوجدان «شعوري» متأثر.»
56
ويتدارك هيدجر ذلك الجانب الذي طالما تجاهله التفكير الفلسفي التقليدي بنظرته العقلانية إلى الإنسان، وأعني به الجانب الشعوري الوجداني، والانفتاح المباشر الذي يحققه التأثر الوجداني أو «الوجدانية»، لنضرب لذلك مثلا بسيطا، فنحن نتعرف إلى إنسان لأول مرة، والشعور الوجداني يعتبر ظاهرة أصيلة وأسلوب انفتاح على الآخر، ولن نفهم طبيعة هذا الانفتاح أو نقدر دوره الأصيل في الالتقاء بالآخر وبأنفسنا وبالعالم المحيط بنا؛ ما لم نرده إلى ظاهرة التأثر الوجداني التي يقوم عليها، وما لم نحرر نظرتنا إلى هذه الظاهرة التي نظن في العادة أنها مجرد «تلون نفسي» أو تعبير عن الجانب «اللامعقول» من حياتنا النفسية، إن هذه الوجدانية أو هذا التأثر الوجداني، على حد تعبير هيدجر، قد فتح الوجود-في-العالم بوصفه كلا، وجعل شيئا كالتوجه أمرا ممكنا.
57
أضف إلى هذا أن التأثر يؤدي وظيفة أخرى؛ إذ يمكن الموجود-الإنساني من الشعور بأنه مرمي، مقذوف به، ملقى هناك وموكول إلى نفسه ... ويحدد هيدجر هذا المعنى حين يقول: «إن تأثر الوجدانية هو الذي يؤلف من الناحية الوجودية انفتاح الموجود-الإنساني على العالم»،
58
لنضرب مثلا يوضح هذا، فأنا لا أشعر بالخطر الذي يهددني في العالم الذي أحيا فيه إلا لأن لدي القدرة على الإحساس بالخوف؛ فليس التأثر إذن بالظاهرة المقصورة على الذات وأحاسيسها، وإنما هو أسلوب انفتاح يقربني من العالم ويقرب العالم مني بشتى الصور والأشكال، فهو حينا عالم يهددني بالخطر، أو يستثير مشاعري، أو يملؤني بالغبطة والبهجة أو بالحزن والاكتئاب ... إلخ، إن الحال الوجدانية - أو إن شئت حالة التوجد - هي التي تمكنني دائما من اكتناه حقيقة ذاتي، ولقد أثرت تحليلات هيدجر للوجدانية أو التوجد على علم النفس المرضي، وأفاد منها العالم المشهور لودفيج بنسفانجر في دراسة ألوان العصاب والذهان التي تصيب الموجود البشري، ولم يكن هيدجر أول من انتبه إلى هذه الظاهرة، وإن كان أول من قام بتحليلها تحليلا أنطولوجيا أو وجوديا أصيلا، بعيدا عن القيم النفسية والأخلاقية والدينية، وهو نفسه يتتبع تاريخها الطويل منذ أن تناول أرسطو ظاهرة الانفعال (في الكتاب الثاني من الخطابة) والقديس أوغسطين في كلامه عن الخوف والخطيئة والندم (في اعترافاته ورسائله وكتاباته عن التأويل) ولوثر فيما كتبه عن السخط والندم (في تعليقه على سفر التكوين) وباسكال فيما سجله في خواطره العميقة المفجعة عن عذاب الإنسان ويأسه وكونه ملقى في ركن من هذا الكون الرهيب، وكيركجور في تحليلاته النافذة لظاهرة القلق والتفرقة الأساسية بينه وبين الخوف في معرض حديثه عن الخطيئة الأولى (خصوصا في كتابه مفهوم القلق) وشيلر في دراساته الفينومينولوجية (الظاهراتية) لأشكال الوجدانات وماهيتها، وبخاصة في دراسته للتعاطف، وإن كانوا جميعا - باستثناء شيلر - قد تناولوها من وجهة نظر دينية أو نفسية أو خلقية، ولم يخطوا خطوة حاسمة على طريق المعالجة الأنطولوجية.
ونأتي الآن إلى العنصر الثاني من العناصر التي تكون وجود الموجود- الإنساني وهو التفهم أو الفهم، والواقع أن الوجدانية (التوجد) والفهم كليهما أولي أصيل، وقد رأينا عند الكلام عن الوجدانية أنها تنطوي على الفهم ، وعرفنا أن التأثر الوجداني بطبيعته انفتاح أو تفتح، وبقي علينا أن نعرف أن الفهم حالة أساسية من أحوال الموجود الإنساني، وأن كلمة «الفهم» نفسها ليست مفهوما مضادا للتفسير أو الشرح، ولو مضينا قليلا في تعمق معنى الفهم، باعتباره أحد «وجودات» الموجود الإنساني، لرأينا أنه يكشف عن طابع «المشروع» الذي يشغل مكانا هاما في تفكير هيدجر.
لنقرأ الآن هذه العبارة العويصة قبل التعليق عليها: إن ما يقدر عليه الفهم - بوصفه أحد الوجودات - ليس بشيء أو «ما»، وإنما هو الوجود باعتباره تواجدا، في الفهم يكمن من الناحية الوجودية أسلوب وجود الموجود الإنساني من حيث إنه إمكان وجود أو قدرة على الوجود.
59
كيف يرتبط الفهم بالإمكان أو القدرة؟ إن الفهم - وهو في صميمه انفتاح - يتعلق دائما بتكوين الوجود-في-العالم في مجموعه، وهذا الوجود-في-العالم يكون على الدوام إمكان وجود-في-العالم، والعالم هنا ليس هو مجموع الكائنات الموجودة في داخله، فقد نفينا هذا مرارا، ونستطيع الآن أن نضيف إليه أن الوجود-في-العالم باعتباره إمكان وجود أو استطاعة وجود، هو الذي يحرر كائنات العالم حين يحرر إمكاناتها، عندئذ يكتشف الموجود-في متناول اليد من جهة استخدامه واستعماله أو من ناحية ضرره وأذاه، وعندئذ نفهم ما قلناه من قبل عن حال الوجود في متناول اليد وما جعل له، وما قلناه عن وحدة النسق الارتباطي للأداة وعلاقتها بالمكان والعالم المحيط والنطاق ... إلخ، وأخيرا يمكن أن تكتشف الطبيعة، أو وحدة الموجودات الحاضرة المتنوعة، على أساس انفتاح إمكانياتها.
لكن لماذا يتجه الفهم دائما إلى الإمكانيات، ولماذا يؤثر المقام في بعد الإمكان؟ يجيب هيدجر على هذا السؤال بالإجابة التي ننتظرها فيقول: إن السبب في هذا هو أن الفهم يحتوي بذاته على البناء الوجودي الذي نسميه «المشروع»،
60
فبالفهم يفتح الموجود الإنساني لنفسه مجال وجوده، كما يفتح في نفس الوقت مجال الموجود الذي يلقاه في داخل العالم فيصل إليه ويصبح في متناول يده، والفهم نوعان؛ أصيل وغير أصيل، فهو أصيل إذا نبع من الذات وتطابق معها واستجاب لها ، وهو غير أصيل إذا أدرك الوجود الإنساني من جهة العالم، أي أدركه - كما فعلت الأنطولوجيا التقليدية - على نموذج الموجودات الحاضرة في العالم دون تمييز، والفهم الأصيل وغير الأصيل يمكن بدورهما أن يكونا حقيقيين أو زائفين، فالفهم الحقيقي للعالم يصدر عن الوجود الإنساني صدورا أصيلا، وينمو من خلاله نموا أصيلا، أما الفهم الزائف فهو لا ينمو إلا في إطار رسم له من قبل دون أن يعني نفسه بمناقشته أو يحاول التفكير في أمره.
سبق أن تحدثنا - في معرض الكلام عن عالم الأداة - عن نوع معين من التدبر أو التبصر،
61
كما تحدثنا - في سياق الكلام عن الوجود المشترك - عن الاعتبار،
62
وبقي الآن أن نتحدث عن الفهم ونحدد بأنه «بصر»،
63
ولما كان الأصل في هذا الفهم أنه بصر، أمكن للموجود الإنساني أن ينمي مختلف أساليب التبصر عند اهتمامه بالأشياء والأدوات، وأن ينمي الاعتبار عند رعايته للآخرين، وهيدجر يفرد للبصر بالوجود (أو التواجد) نفسه مكانا مرموقا، ويصفه بأنه رؤية نافذة أو شفافية،
64
وهذه الشفافية على شتى أساليب البصر التي ذكرناها من تبصر واعتبار، بل إنها هي التي تجعلها ممكنة، فإنها لا تقتصر على معرفة نفسها فحسب، بل تتعدى ذلك إلى معرفة العالم والآخرين، وعلينا أن نلاحظ في النهاية أن كلمة البصر تدل في المقام الأول على أن الموجود الإنساني هو الذي يسمح للموجود بأن يكشف له عن نفسه، وأن يجرد نفسه من كل غطاء يحجبه،
65
فالبصر إذا لا ينفصل عن طابع الانفتاح أو «الوضوح المضيء» الذي يميز الموجود-الإنساني.
في الفهم يتفتح الموجود الإنساني، ولكن على أي شيء؟ على إمكانيات وجوده، وكيف؟ بأن «يشرع» أو يصمم مشروعاته على أساس من إمكانيات وجوده أو من خلال الاستطاعة و«القدرة-على-الوجود»، بيد أن تصميم المشروع لا يتم في فراغ؛ إذ إنه - كوجود ممكن - موكول دائما إلى الرمي أو الإلقاء
66 (كون الموجود الإنساني ملقى به في هذا العالم وعليه أن يحمل بنفسه عبء وجوده ومسئوليته) أي إلى ما يمكن أن نسميه بالوجود الفعلي الواقعي،
67
إن كل إنسان منا يعرف أن وجوده لم يتحقق بعد، ويحس أننا لن ننصفه حتى نحكم عليه بما سيكون، لا بما هو كائن بالفعل، ولكن لا ينبغي أن نستسلم للأوهام ونحيا في الأحلام، فنحن لن نحقق من إمكانياتنا إلا بقدر ما نستطيع تحقيقه بالفعل، ولا بد في كل مشروع أصممه أن أحسب حساب الاستعداد والقدرة التي لدي، حتى لا أتعرض لخداع الناس ولا أقع فريسة للوهم .
ويستطرد هيدجر في تحليلاته المفصلة عن الفهم بوصفه تبيينا
68 (أو عرضا وبسطا) وبوصفه عبارة وتعبيرا،
69
مبتعدا فيهما معا عن الفهم بمفهومه العقلي والمعرفي لإلقاء الضوء على إمكانيات المشروع التي ينطوي عليها هذا الفهم، مبينا أنه - في كل تعامل مع العالم وموجوداته - يسبق كل قول وتعبير، هذا إلى أنه يؤكد دور «الزمانية» في كل هذه التحليلات العسيرة، أي دور المستقبل في كل مشروع نقدم عليه، وهو ما سوف نتعرض له بشيء من التفصيل عند الحديث عن الموجود الإنساني والزمانية.
ولا يفوتنا أن نشير إلى ما يقصده هيدجر بالمعنى واللامعنى في هذا السياق، فالمعنى «تصور يضم الهيكل الشكلي لما ينتمي بالضرورة لما يفصله (أو يبرزه) العرض (التبيين-البسط) الفاهم، والمعنى هو ذلك الذي يتجه إليه المشروع من خلال التركيب المسبق للملك والبصر والتناول، وعن طريقه يصبح شيء ما مفهوما بوصفه شيئا».
70
عبارة عسيرة أشك أنني فهمتها! ولكن ربما أمكننا أن نستشف منها أن المعنى شيء يتعلق بالإنسان أو الموجود-الإنساني وحده، فهو (أي المعنى) أحد الوجودات (الخصائص الوجودية الأساسية) المميزة للوجود الإنساني، وليس مجرد صفة تلتصق بالموجود أو تقع في عالم متعال من الحقائق «الخالدة»، أو تسبح في «مملكة وسطى» بين العالمين، المعنى لا يملكه الموجود الإنساني، ما دام انفتاح الوجود-في-العالم لا يتحقق إلا عن طريق الموجود الذي ينكشف فيه؛ ولهذا فالموجود الإنساني وحده هو الذي يمكن أن يوصف بأن له معنى أو بأنه خال من كل معنى.
71
وختاما نصل إلى العنصر الثالث الذي يدخل في تركيب وجود الموجود-الإنساني، وهو الكلام، ماذا يقصد هيدجر بالكلام ؟ ها هو ذا يجمع بينه وبين العنصرين السابقين مؤكدا أنه يقوم على انفتاح الموجود-الإنساني على نفسه، وعلى العالم جميعا.
إن الكلام من الناحية الوجودية أصيل أصالة التواجد (التأثر الوجداني) والفهم، والفهم أسبق من التبيين، كما أن الكلام إفصاح عن الفهم؛ ولهذا فإن كل تبيين يقوم على أساس الكلام،
72
والفهم المتوجد (الذي تسري فيه الوجدانية) للوجود-في-العالم يعبر عن نفسه بالكلام، بهذا تظهر دلالة الفهم الكلية في صورة الكلمة، أو إن شئت فإن المعاني «تنمو لها» كلمات، على العكس مما قد نتصور من أن الكلمات تخترع وتصطنع ثم تزود بمعان مصطنعة، وهنا تتضح دلالة «الإبلاغ» أو «الإخبار» الذي تتحقق فيه المشاركة في الوجدانية والفهم بين موجود إنساني وآخر، وهذا كما ترى أمر طبيعي؛ لأن وجود الموجود-الإنساني في صميمه وجود معية أو وجود مشترك، فهو يحيا دائما في حالة تأثر وجداني مشترك وفهم مشترك، أي أنه باستمرار في حالة «إخبار» يعبر عن هذه المشاركة الأولية؛ ولهذا يكون الكلام أوضح ما يكون عندما تتوافر المشاركة في الفهم والوجدان، أما إذا حاولنا أن نخلق هذه المشاركة عن طريق الكلام فقد يتعثر في طريقه إلى الإفهام.
والتعبير، أو النطق، الذي يتم بالكلام لا يعني أننا نبرز ما في الباطن في صورة منطوقة؛ لأن الموجود-الإنساني، كما نعلم، موجود دائما بالخارج، ولا يخرج كلامه عن أن يكون إفصاحا عن تجاربه فيه، بهذا نصل إلى هذه العبارة المرهقة التي أتمنى - بعد الشرح السابق - ألا تستعصي عليك: «الكلام هو الإفصاح المنظم الدال على التفهم المتوجد (الوجداني) للوجود-في-العالم».
73
لكن ماذا يحدث للكلام حين ينتشر الزيف وعدم الأصالة، حين يسيطر رأي «الناس» فيطغى على الوجود الحقيقي ويحجبه ويصور له أن أسلوبه في الحياة هو الأسلوب الأصيل؟ (وهذا هو أعم الأحوال كما رأينا من قبل)، عندئذ يعبر الفهم عن نفسه باللغو والفضول والالتباس، فحين تجد الناس يثرثرون فيما لا يعرفون ويتكلمون عن كل شيء ولا شيء (وهو الحال السائد في بلادنا) فاعلم أنهم قد فقدوا العلاقة الحقيقية بالموضوع الذي ينصب عليه الكلام، واندفعوا في دوامة من القيل والقال و«الحكي» والتكرار بغير قرار، عندئذ ينقلب الانفتاح الأصلي إلى انغلاق عنيد، ويتعذر على أي إنسان أن يتعمق أي شيء، ويوصد باب المعرفة الحقيقية والتساؤل الحقيقي، ويختم هذا الفهم الفاسد بخاتم اللهاث وراء كل مثير، والتلهف على كل جديد، أي بالفضول الذي يسعى إلى كل مكان دون أن يستقر في أي مكان ! ولا عجب بعد هذا أن يتفشى الالتباس (أو الازدواج)، فتصدمنا الحقيقة البشعة التي تؤكد عجزنا عن التوصل للمعيار الذي نفرق به بين الأصالة والزيف، وهكذا تتحد هذه العناصر الثلاثة (اللغو والفضول والالتباس) وتتجمع فيما يصفه هيدجر «بالسقوط»، وهو تعبير عن تخبط الإنسان في دوامة الزيف التي يدور فيها «الناس» ليل نهار.
وأخيرا أود في نهاية هذا الفصل أن أشير إلى رأي يسوقه هيدجر في هذا المقام، ولا أدري موقف علماء اللغة منه، فهو يطالب بضرورة إرساء علم اللغة على أسس أنطولوجية أصيلة وتحريره من المفاهيم والأفكار المنطقية المسبقة التي تتحكم فيه. (3) الموجود-الإنساني والزمانية
فرغنا من التحليل التمهيدي للموجود-الإنساني، فهل وصلنا إلى تفسير «أصيل» لوجوده؟ هل بلغنا وحدته الكلية؟ هل تقدمنا على الطريق المؤدي للإجابة على السؤال الأنطولوجي الأساسي عن معنى الوجود؟
كان على تحليل الموجود-الإنساني أن يحقق هدفين: بيان المكونات الأساسية للوجود-في-العالم، وتوضيح وحدة هذه المكونات وترابطها، ولقد حققنا الهدف الأول وبقي علينا أن نخطو الخطوة الثانية في سبيل الهدف الثاني، وقد رأينا أن بناء الوجود-في-العالم يقوم على الانفتاح، وأن كلية هذا البناء وتركيبه الأساسي هو الهم، وعلينا الآن أن نكرر تحليلنا للموجود-الإنساني على ضوء الزمانية أو «التزمن».
لنقف وقفة قصيرة نسترجع فيها الخصائص الثلاث المميزة للموجود-الإنساني قبل المضي في تحليلاتنا التالية لها، هذه الخصائص الثلاث التي كشفنا عنها هي: التواجد (أي أن الموجود-الإنساني دائما في حالة إمكان-وجود عليه أن يحققه)، والوجود الفعلي (أي أنه يتحدد دائما بما ألقي فيه، ما وجد قبل أن يوجد ، وما يتحتم عليه أن يتقبله ويوكل إليه) والسقوط (أي أنه يفهم نفسه من خلال ما يكونه، ويضيع ذاته في الموجودات المألوفة، وإملاءات «الناس» التي تحجب عنه أصالته أو تصور له أن أسلوب وجودهم هو وحده الأسلوب الأصيل).
وقد رأينا أن هذه الخصائص الثلاث تتجمع في «الهم»، ولا تحسب أن الهم الذي نتكلم عنه هو الحزن والنكد والغم! فالتحليل الذي قدمناه يبين أنه ينطوي على ثلاثة عناصر: الاستباق (التواجد)، والوجود الفعلي (الإلقاء)، والوجود بالقرب من «السقوط»، لكن كيف تتحدد هذه العناصر الثلاثة؟ هذا هو ما يجيب عليه هيدجر في القسم الثاني من كتابه تحت عنوان «الموجود-الإنساني والزمانية»، ولعل هذه الإجابة أن تكون سبيلنا إلى الأصالة والوحدة الكلية اللتين نسعى إليهما: «وإذا كان لتفسير وجود الموجود-الإنساني - باعتباره أساس تناول السؤال الأنطولوجي الرئيسي عن معنى الوجود - أن يصبح تفسيرا أصيلا، فلا بد له قبل ذلك أن يلقي الضوء على وجود الموجود-الإنساني في خصوصيته الممكنة (أي صميم وجوده وطابعه الحميم) وفي كليته وشموله».
74
علينا إذا أن نفهم «إمكان الوجود» في كليته ووحدته الشاملة، ولن نفعل هذا حتى ندخل نهاية الموجود-الإنساني في تحليلاتنا، والنهاية هي الموت، التجربة الوجودية بالموت هي «الوجود للموت»، أو من أجله، وهي التي يتناولها القسم الثاني من الكتاب، لكي يصل منها إلى المشكلة التي تكشف عن صميم الوجود وطابعه الحميم؛ وهي مشكلة الضمير التي تشغل الفصل الثاني من هذا القسم وتبلغ ذروتها في تحديد وجود الموجود-الإنساني بأنه تصميم، ثم نتطرق في الفصل الثالث إلى إمكان الوجود الكلي للموجود- الإنساني على ضوء الزمانية بوصفها المعنى الأنطولوجي للهم، أما الفصول التي تتناولها الزمانية والحياة اليومية، والزمانية والتاريخية، والزمانية الداخلية باعتبارها الأصل في المفهوم السائد عن الزمان - الذي يقوم عليه مفهوم هيجل له - فسوف نغفلها في هذا العرض، آملين أن نرجع إليها في مجال آخر حتى لا نخرج عن هدف هذا الكتاب من بيان الارتباط الوثيق بين الوجود والحقيقة. (3-1) الوجود-للموت
تتصل بالموت ثلاثة أمور يمكن إجمالها على النحو التالي: (1)
هناك «ليس-بعد» سيكونه الموجود-الإنساني ويرتبط به ما بقي حيا، وهو نوع من الافتقاد الدائم الذي يجعله يندفع نحو تحقيق إمكانياته. (2)
أن بلوغ الموجود - الذي لم ينته بعد - إلى نهايته يحمل طابع عدم الوجود أو استحالته. (3)
بلوغ النهاية ينطوي، بالنسبة للموجود-الإنساني، على حال وجود لا يقبل البدل أو المناوبة، بمعنى أنه يموت وحده ولا ينوب عنه أحد آخر.
إن الكائنات الحية من نبات وحيوان تنتهي، أما الإنسان فهو وحده الذي يموت؛ لأنه هو وحده الذي يهتم بأعلى إمكانيات وجوده وأخصها، وهي إمكانية استحالته وانتهائه وموته، هنا يستحيل أن ينوب عنه أحد كما يحدث في أسلوب حياتنا اليومية مع الآخرين: «فما من أحد يمكنه أن ينوب عن الآخر أو يحمل عنه موته»،
75
حتم على الموجود-الإنساني أن يتحمل موته بنفسه، وبقدر ما يكون الموت، يكون أساسا موتي أنا.
76
ليس الموت «حدثا» أو «حالة وفاة» أو نهاية تبلغها الأنا بعد أن تقطع عمرا طويلا أو قصيرا، كما تصور لها الأنطولوجيا التقليدية التي تتناول الموجودات الحاضرة أمامها دون تمييز، وتعد الإنسان واحدا منها يسري عليه ما يسري عليها من مقولات، إنما الموت ظاهرة لا بد أن تفهم فهما وجوديا، ولا بد من توضيح معناها المتميز وتحديد معالمه.
كيف نفهم الموت باعتباره نهاية الموجود الإنساني؟ أهو صيرورته إلى ما لم يكنه بعد؟ أهو اكتمال تحققه أو السير نحو تحقيقه على نحو ما تكتمل الثمرة وتنضج من داخلها؟ ولكن كم من موجود-إنساني انتهى قبل أن يبلغ الكمال! وكم من موجود-إنساني بلغ الكمال قبل موته، أو انتهى - وهذا هو الأغلب الأعم - مستهلكا وبعيدا كل البعد عن الكمال! فكيف يكون الموت نهاية الموجود-الإنساني؟ أهو توقف وانقطاع، كما يتوقف المطر مثلا؟ لكن وجود الموجود-الإنساني مختلف كل الاختلاف عن وجود الأشياء الحاضرة أمامنا أو الأشياء التي نستخدمها ونتناولها بأيدينا، ولا وجه للمقارنة بين النهاية في الحالين.
بقدر ما يكون الموجود-الإنساني، ما بقي كائنا، هو ما ليس بعد، بقدر ما يكون دائما هو نهايته، والانتهاء الذي نصفه بالموت لا يعني بلوغ النهاية، بل يعني الوجود من أجل الانتهاء، الموت أسلوب وجود أو كينونة يتحمله الموجود-الإنساني ما بقي كائنا - ولعل عبارة وردت في إحدى القصص الألمانية الشهيرة في العصور الوسطى - وهي قصة الفلاح من بوهيميا للشاعر يوهانيس فون تيبل - أن تكون بالغة الدلالة على أن الموت ليس حدثا ولا واقعة، وإنما يتغلغل في حياتنا كل لحظة من الميلاد إلى الوفاة: «ما إن يأتي الإنسان إلى الحياة حتى يصبح شيخا هرما ناضجا للموت!»
77
الموت ظاهرة من ظواهر الحياة، والحياة أسلوب وجود مرتبط بالوجود-في- العالم، فكأن الموت هو إمكانية عدم-الوجود-في العالم أو إمكانية استحالة كل إمكانية! وعبثا نحاول أن نفهم الموت من تجربتنا بموت الآخرين أو من الملاحظات التي تجمعها علوم الحياة والطب والنفس واللاهوت والتاريخ والأثنولوجيا والأنثروبولوجيا ... إلخ عن ظواهر الحياة والموت؛ لأن التفسير الوجودي للموت - أي موتي أنا - يتقدم على هذه التفسيرات جميعا ويفترضها.
ولكن من منا يبلغ هذا الفهم الأصيل للوجود-للموت؟ ألا نعيش حياتنا اليومية مقيدين بحياة «التوسط» وما يقوله الناس ويملونه علينا؟ وما الذي يميز هذا الوجود اليومي للموت؛ هذا الوجود غير الأصيل الذي يلقي ظله علينا ويحاول دائما أن يمدنا بالراحة والعزاء ويخفي عنا فاجعة الموت؟
لن يتعذر علينا تبين ملامح هذا الوجود اليومي للموت؛ لأننا سنعرفها من خلال ما عرفناه من قبل عن «الناس» الذين يكونون الرأي العام ويعبرون عن أنفسهم باللغو والثرثرة، إن للناس أيضا فهمهم للوجود من أجل الموت، فكيف يفهمونه ويثرثرون حوله؟
الحياة العامة التي نحياها مع الآخرين تعرف الموت بوصفه حادثا يقع كل يوم، حالة وفاة تتكرر كل ساعة ولا يصح أن تفاجئنا أو تشد انتباهنا أو تشغلنا أكثر مما ينبغي لها، ولا يصح أن توقف عجلة أعمالنا أو تعطل دولاب سيرنا وسعينا، والناس يهونون من شأن الموت، ويؤمنون أنفسهم منه، ويقذفون به في حلق المستقبل البعيد قائلين: أجل! كلنا لها، كل إنسان صائر للموت، ولكنه لا يعنينا الآن، ولم يصبنا في هذه المرة على الأقل، كل إنسان يموت، أي لا أحد يموت بحق، هذا هو الالتباس الذي يقع فيه الناس حين يلغون ويثرثرون عن الموت، إنه في نظرهم شيء غير محدد، لا بد أن يأتي من مكان مجهول، في وقت غير معلوم، ولكن لا خطر منه الآن! هو مجهول يصيب مجهولين، مجرد حادث يصيب كل إنسان ولا يصيب إنسانا بالذات، هو حالة مألوفة ، واقع متكرر، ولهذا يهربون منه، يحجبون طابع الإمكان الذي ينطوي عليه وما يتصل به من توحد رهيب ينبع من انعدام كل علاقة واستحالة النجاة منه أو تخطيه، بهذا يحرمون الموجود-الإنساني من أخص إمكانيات وجوده، ويزينون له أن يضيع في الناس ومسكناتهم المألوفة عن الموت، كما يئدون فيه شجاعة القلق الذي يواجهه به.
هكذا يسقط الموجود-الإنساني في هذا الفهم اليومي الذي يصبح هروبا مستمرا من الموت، وإن دل هذا على شيء فهو يدل على أن الموجود-الإنساني في حياته اليومية يوجد أيضا للموت أي لأخص إمكانيات وجوده وألصقها بحقيقته، ولكنه وجود ناقص، لا يعدو أن يكون نوعا من عدم الاكتراث بهذه الإمكانية القصوى، وإذا انشغل بالموت - كأن يبدي شيئا من الرعاية للآخر الذي يحتضر - فإنما يفعل هذا ليقنعه بأنه سوف يشفى ويرجع للحياة اليومية المألوفة، أو يهمس في سمعه بالكلمات المحفوظة: الموت حق على كل إنسان، الآخرة خير من الدنيا، الحياة الحقيقية هناك ... إلخ، الموت عند الناس يقيني، محتوم، لا مفر منه، ولكن هذا كله يأتي من تجربتهم بموت الآخرين، بحقيقة معروفة جربها كل الناس قبلنا، وقد تقع لمن «نرعاه» ونعزيه عنها، ولكنها لم تزل بعيدة عنا مؤقتا، ومثل هذا اليقين المزعوم يلغي اليقين المميز للموت ويحجبه - أعني يقين إمكانه في كل لحظة - وهو الذي ينبع من إمكانية الوجود الخاصة بالوجود الإنساني نفسه.
ما علاقة هذا بإمكان وجودنا الكلي الذي نشعر به من خلال الموت؟ وما الصلة بينه وبين الهم باعتباره المكون الأساسي للموجود الإنساني؟
إن الوجود للموت يقوم على الهم، فالموجود الإنساني، من حيث هو وجود، ملقى به - في العالم - مسلم دائما إلى موته، ووجوده لموته يجعله يموت دائما وبالفعل، ما بقي موجودا ولم يبلغ نهايته بعد، ومعنى أنه يموت دائما وبالفعل في كل لحظة تقع بين الميلاد والوفاة؛ أنه قد اختار بشكل من الأشكال نوع وجوده للموت، وتهربه اليومي منه هو نفسه وجود غير أصيل للموت (فعدم الأصالة يقوم على الأصالة، كما أن اللاحقيقة تقوم على الحقيقة ).
إذا كان الموجود الإنساني في حياته اليومية يوجد للموت وجودا غير حقيقي وغير أصيل، فهل يمكنه أن يتوصل للفهم الحقيقي له، أي لإمكانيته الحميمة، الخالصة من كل علاقة، المتأبية على كل تخط، اليقينية وإن تكن غير محددة؟ إن الوجود الأصيل للموت يدل على إمكانية الوجود الأصيل للموجود الإنساني. فما هي الشروط الوجودية لهذه الإمكانية؟
الموت إمكانية وجود للموجود الإنساني، أو هو بالأحرى أعلى إمكانيات هذا الوجود وأشدها خصوصية وتفردا، وهو يختلف عن إمكان وجود شيء من الأشياء التي تكون تحت تصرفنا وفي متناول أيدينا، أو نجدها حاضرة أمامنا، والموجود الإنساني يسلك إزاءه مسلك الانتظار والتوتر والترقب لإمكانية ستقع يقينا ولكن في وقت غير معلوم؛ ولهذا سنصف الوجود-للموت (الذي علينا أن نتحمله ونواجهه وندخل في حوار دائم معه) بأنه استباق إلى الإمكانية،
78
ولكن أية إمكانية هذه؟ إنها إمكانية كل وجود (أو استحالته)، وهي تتضخم وتزداد هولا مع الاستباق إليها، ليس هناك مقياس تقاس به، بل إنها لا تعرف الأكثر والأقل، ولا تعطينا أي فكرة واقعية عن هذا الممكن الذي نترقبه حتى نستطيع أن نتهيأ له، كل ما هناك أن إمكانية استحالتنا هي التي تنتظرنا يقينا، ولكن في وقت مجهول وبصورة غير محددة، إن الموت هو أخص إمكانات الموجود الإنساني، والوجود من أجله يجعل الموجود الإنساني ينفتح على أخص إمكانيات وجوده الذي يتعلق به تعلقا مطلقا، بهذا يمكن أن يتكشف للموجود الإنساني - عن طريق هذه الإمكانية المتميزة لذاته - أنه قد انتزع بعيدا عن «الناس» أو أنه يقدر أن ينتزع نفسه منهم، وفهم هذه «القدرة» هو الذي يكشف عن الضياع الفعلي في حياة الناس اليومية.
79
كل ما قدمناه عن هذه الإمكانية: من أنها أخص إمكانيات الموجود الإنساني، وأنها مجردة من كل علاقة ولهذا تفرد الموجود الإنساني وتوحده وتسلمه لنفسه، وأنها يقينية ومن ناحية يقينها غير محددة - كل هذا يمكن أن نجمله في هذه العبارة العسيرة التي يلخص بها هيدجر الطابع الوجودي للموجود-من-أجل- الموت: «إن الاستباق (إلى إمكانية الاستحالة أو انعدام كل إمكانية) يكشف للموجود الإنساني عن ضياعه في «إنية الناس» ويدفع به - دون اعتماد على الرعاية والاهتمام من جانب الآخرين - إلى إمكانية أن يصبح هو ذاته، ولكنه يدفعه أيضا إلى الحرية من أجل الموت، هذه الحرية المتوقدة بالحماس، الخالصة من أوهام الناس، الحرية الفعلية الموقنة بنفسها والقلقة من نفسها.»
80 •••
الوجود-للموت مرتبط إذا بالقلق ارتباطه بالاستباق والتصميم، وهذا كله بالوجود الذاتي الأصيل، فكيف يتم هذا؟ علينا قبل الكلام عن ظاهرة الضمير التي تقدم الشهادة الواقعية الحية على هذه الأصالة أن نتحدث بإيجاز عن القلق والتصميم.
قلنا إن الموت هو إمكانية وجود على «الموجود الإنساني» أن يحملها ويتحملها بنفسه، فهو مع الموت يواجه أخص إمكانياته، وأقصاها، وبهذه المواجهة تنفصم علاقاته بالموجودات الإنسانية الأخرى ويرد إلى وحدته وتفرده المطلق مع ذاته، إنه يشعر مع هذه المواجهة مع الموت - وهو شعور لا يحتاج إلى علم أو معرفة - بأنه قد ألقى به في الموت، وهو شعور يتكشف له بصورة ملحة في «وجدانية» القلق، كما أن المواجهة نفسها تقوم على انفتاح الموجود الإنساني على نفسه على صورة الاستباق، وهو - كما سبق القول - أحد العناصر المكونة للهم، ولهذا نجده يتجسد تجسدا أصيلا في الوجود-للموت.
81
أما القلق الذي يشعر به الموجود الإنساني إزاء الموت فهو القلق إزاء أخص إمكانيات وجوده التي تجردت من كل علاقة واستحالت على كل تخط أو نجاة، وما يقلق منه القلق هو الوجود-في-العالم نفسه، وما من أجله يقلق هو إمكان وجود الموجود الإنساني، ولا يصح أن نخلط بين هذا القلق من الموت وبين الخوف من انتهاء الحياة، فليس هذا القلق حالة ضعف تنتاب الفرد، وإنما هو تأثر وجداني أساسي للموجود الإنساني، هو انفتاح على حقيقة كونه وجودا «مرميا» ملقى به، موجودا لأجل موته، بهذا يختلف الموت عن التلاشي والاختفاء أو مجرد الانتهاء، كما يتضح تصور الوجود للموت باعتباره وجودا ملقى به نحو أخص إمكانياته.
هذه المواجهة للموت التي تسيطر على وجود الموجود-الإنساني وتنأى به عن كل أنواع التستر والتهرب والتنكر تبلغ ذروتها في التصميم، والتصميم كما عرفناه هو حقيقة الوجود وأصالته، أو هو الذي يفضي بنا إليها،
82
وسنرى عند الكلام عن نداء الضمير أنه فهم ناجم عنه وأنه يكشف كشفا «ظاهريا» عن أصالة الموجود الإنساني وكليته، وينتزعه من الوجود اليومي الساقط المشتت في «الناس» لكي «يغزو» وجوده، إنه تصميم على «الفعل»، بعيدا عن الانعزال عن العالم بعده عن كل الأوهام، وهو لا ينشأ عن إحساس مثالي محلق فوق الوجود وإمكانياته، بل ينبع من الفهم السليم للإمكانيات الفعلية الأساسية للموجود-الإنساني، وإن القلق الخالص الذي يجعلنا نواجه إمكان الوجود المتوحد ليلازمه الفرح المتزن المطمئن بهذه الإمكانيات، وبهذا الفرح يتحرر الموجود- الإنساني من مصادفات التسلية والتشتت التي يحصلها الفضول النشط من أحداث العالم.
83
ما علاقة التصميم بوحدة الموجود-الإنساني وكليته وأصالته؟ كيف يمكن أن يحيا الموجود-الإنساني موحدا في كل إمكانيات وجوده وأساليبه؟ بأن يكون هذا الموجود - بإمكانياته الأساسية - هو ذاته، وأن أكون أنا ذاتي هذا الوجود،
84
فالأنا أو الذات هي التي تؤلف وحدة هذا البناء الكلي وتشمله، وربما كان من الأفضل أن نقول «الموجود-الإنساني» بدلا من الأنا والذات أو الجوهر أو غيرها من التسميات التي كانت تخلع على هذا الأساس الثابت الذي تقوم عليه أنطولوجيا الموجود-الإنساني، ومهما يكن من أمر الاسم الذي نختاره له، فقد عرفنا من تحليلاتنا للوجود اليومي أنه في الأغلب الأعم ليس هو ذاته وإنما هو ضائع مضيع في ذات «الناس» أو إنيتهم، والواقع أن هذه الذات الأخيرة الضائعة ليست إلا صورة معدلة أو مشوهة من الذات الأصيلة، صحيح أن الناس تردد في كل مناسبة وبغير مناسبة: «أنا ... أنا ... أنا» غير أنهم أبعد ما يكونون عن الأنا الأصيلة، هذه الأنا-في-العالم التي كشف تحليلنا للهم عن وجودها، إن الأنا التي لا يكف الناس عن ترديدها والكلام باسمها هي الأنا المشغولة بالموجودات الخارجية، المتهربة من وجودها الأصيل الذي يلقي بنفسه على إمكانياته، ويحمل هو وجوده-للموت، هذه الأنا - أو الإنية أو الذاتية - الحقة لا تتمثل في شيء كما تتمثل في التصميم (بما يتضمنه من توحد وتكتم وقلق، ومن شروع على الإمكانيات وفهم وانفتاح) ولا يضيعها شيء كما يضيعها عدم التصميم، ولو فهمنا بناء الهم فهما كاملا لتوصلنا إلى الذاتية أو الهوية أو الإنية أو ما شئت من أسماء تعبر عن حقيقة الوجود المصمم الأصيل. (3-2) نداء الضمير
الوجود الأصيل إذن ولا شيء سواه!
هذا هو المثل الأعلى لفلسفة هيدجر التي يغلب عليها طابع «المباطنة» أو «الكمون» في العالم، وتصر على رفض أي عون يأتي من أعلى لتحديد أصالة الإنسان وحقيقة وجوده، لكنها لم تستطع أن تصل إلى هذا الوجود عن طريق التحليل الفينومينولوجي (الظاهرياتي) الخالص؛ لأن طبيعة الأشياء لم تسمح لها بذلك، ولا بد لها الآن أن تبحث في أرض «ظاهراتية» تثبت عليها، وأن تفتش في جذور الموجود-الإنساني نفسه وفي أعماق تربته عن ظاهرة واقعية أو شاهد حي على قدرته على اختيار إمكانية وجوده الأصيل. أين تجد هذه الظاهرة؟ كيف تعثر على هذا الشاهد الحي؟
لقد وجدته بالفعل فيما نصفه عادة «بصوت الضمير»، ففي الضمير ينادي الموجود-الإنساني ذاته، غير أنه نداء هاتف بلا صوت، يتردد في رهبة الصمت، ليس هناك شيء محدد ينادى به؛ لأن الموجود-الإنساني نفسه هو الذي ينادى ويهاب به ويفزع من رقاده، ولأن الضمير لا يتكلم إلا بالصمت، فإن نداءه يحمل الموجود-الإنساني على التكتم، وليس عجيبا أن يبدو النداء وكأنه صوت غريب عليه، فما من شيء يبدو في نظر الموجود-الإنساني السادر في عالم الناس أغرب من الذات الملقاة في العدم، المتوحدة مع نفسها توحدا مطلقا، أضف إلى هذا أن المنادي يصيب من يناديه إصابة مؤكدة، ولا تفسير لهذا إلا بالهوية التي تجمع بينهما.
إن نداء الضمير لا يقول شيئا وليس لديه شيء يحكيه عما يجري في العالم، وهو أبعد ما يكون عن مناجاة الذات التي يوجه إليها النداء، فالنداء لا ينادي عليها بشيء، وإنما يهيب بها أن تتنبه لذاتها أي لأخص إمكانات وجودها،
85
وهذا النداء هو في الحقيقة نداء الهم، وهو الذي يدعو الموجود-الإنساني إلى إمكان وجوده الحق، لا شك أنه نداء رهيب، ولا بد أن ينتزعه من نسيان الذات الذي نغرق عادة فيه، فدعوة النداء دعوة لإمكان الوجود الحق، والقلق هو الذي يجعل هذا النداء ممكنا؛ لأننا في القلق نجرب توحدنا المرتبط بتلك الإمكانية.
ونداء الضمير يكشف عن وجود الموجود-الإنساني في حالة الذنب، ولا يفهم هيدجر الذنب بمعنى الخطأ الفعلي أو التاريخي ولا بمعناه الأخلاقي أو الديني، وإنما هو في رأيه تعبير عن «قرار العدمية الأساسية»
86
للموجود الإنساني الذي يقوم قبل كل شيء على نقيضة الوجود الإنساني أو طابع التناقض الذي يميزه؛ إذ إن عليه من ناحية أن يضع بنفسه أساس وجوده ويقرر بنفسه نوع هذا الوجود، كما يجد نفسه من ناحية أخرى موضوعا بالفعل في واقعة وجوده التي لا يد له في وضعها ولم يلق فيها بمشيئته؛ ولهذا فهو لا يستطيع أبدا أن يتمكن من نفسه كل التمكن، ولا ينفتح الموجود-الإنساني على وجوده المذنب كل الانفتاح إلا إذا أدرك أنه مذنب حتى النهاية، وهذا بدوره لا يتأتى له حتى يستبق نفسه إلى النهاية، أي الموت؛ بهذا تتلاءم فكرة الاستباق (أي الوجود الأصيل الذي يستبق ذاته إلى الموت) مع ظاهرة الضمير.
ويصف هيدجر موقف التوتر الذي ينجم عن الإنصات الحقيقي لنداء الضمير، ويقرر فيه الموجود-الإنساني اختيار إمكانية وجوده الحق بأنه هو التصميم الذي يتحدد به وجود الموجود-الإنساني، فالانفتاح على نداء الضمير - أو إرادة أن يكون لي ضمير - ظاهرة تظل مستغلقة على الناس؛ لأنها مرتبطة بما يتهرب منه الناس وينشغلون عنه، بتجربة عدمية الموجود-الإنساني الذي يشعر بها في القلق، وبالفهم كشروع للذات على أقصى إمكانياتها الحميمة، وبالكلام (لأن أسلوب الصمت الذي يهتف به الضمير حال من أحوال الكلام)؛ ومن ثم يصبح التصميم حالا متميزا للانفتاح الحق الذي يوصد الناس أبوابهم دونه، ونصل إلى هذه الصيغة النهائية العويصة التي تعبر عن التصميم أو المثل الوجودي الأعلى لإمكان الوجود الحق بأنه: «المشروع الذاتي المتكتم القلق على الوجود الحميم المذنب». •••
إن الضمير ينادي إنية الموجود-الإنساني أو ذاته من غمرة الضياع في «الناس»، والمنادي والمنادى عليه غير محددين ولا معروفين، فالنداء لا يهتم بطبيعة من يناديه ولا بما يفهمه عن نفسه، ولا يكترث بشخصه أو اسمه أو أصله أو طبقته، ومع ذلك فهو يصيبه - كما قلنا - إصابة مؤكدة؛ لأن الموجود الإنساني نفسه هو المنادي والمنادى.
ونحن لا نخطط لهذا النداء، لا نوجهه عن قصد ولا نعد له، إنه نداء مجهول، لم نتوقعه، ولم نرده، وهو لا يصدر عن «آخر» يشاركني أو أشاركه حياتي في العالم، إنه ينبعث من داخلي، ومع ذلك يرتفع فوقي ومن المستحيل أن يكون صوتا غريبا يأتي من قوة عليا تعلن عن وجودها في، أو أن يكون مظهرا من مظاهر حياتي البيولوجية أو النفسية أو الاجتماعية، إنه - من الناحية الأنطولوجية - ظاهرة متعلقة بالموجود-الإنساني مرتبطة بتكوينه الوجودي، وهذا وحده هو الذي يهدينا إلى تفسير الصوت الصامت المجهول الذي يصعد نداؤه من أعماقنا ويرتفع فوقنا ويهيب بنا أن نحقق إمكان وجودنا الأصيل. •••
لن تتحدد شهادة الضمير إلا إذا تحددت طبيعة «الإنصات» الملازم له، فتفهم ندائه ليس شيئا لاحقا به، بحيث يمكن أن نضيفه إليه أو نستبعده عنه، إننا لن ندرك تجربة الضمير إدراكا صحيحا إلا إذا فهمنا نداءه، وحتى عدم فهمه أو تجاهله تعبير آخر عن أسلوب وجود الموجود-الإنساني الذي يتحدد فيه المنادي والمنادى عليه، ولو حللنا هذا الفهم لاستطعنا كذلك أن ندرك «الذنب» المقصود بنداء الضمير، فكل تجارب الضمير وتحليلاته المختلفة تجمع على أن «صوت» الضمير يتكلم بشكل من الأشكال عن «الذنب»،
87
ولكنها تختلف فيما بينها حول تحديد طبيعة هذا الذنب كما تغفل التصور الوجودي له إغفالا.
ما هو معنى الذنب وكيف نكون مذنبين؟
لا بد من الرجوع إلى الموجود-الإنساني نفسه لفهم ماهية الذنب، كما رجعنا إليه لفهم الضمير والموت، وطبيعي ألا نرجع للناس لنسأل عنه؛ لأن السؤال الحقيقي عن الماهية غريب عنهم غربة كل سؤال أنطولوجي أصيل، ولأن تصورهم للذنب نابع من حياتهم المشتركة المنشغلة بالعمل والتملك؛ بحيث يكون الذنب في رأيهم مساويا للإضرار بهما وبالصالح العام وتقاليده وقوانينه.
من أين نستمد إذا معيار المعنى الوجودي عن الذنب والمذنب؟ من كونه صفة «للأنا أكون»، هل يكون الذنب في أسلوب وجود الموجود-الإنساني بما هو كذلك، بحيث يكون مذنبا بقدر ما يكون موجودا بالفعل؟ ألا يستلزم هذا أن نرتفع بفكرة الذنب عن مستوى الوجود المشترك المنصرف إلى الشئون العملية الحاضرة، كما نرتفع به فوق مستوى ما ينبغي وما يحق للآخر، وما يفرضه العرف أو الخلق أو القانون؟
إن فكرة الذنب تحمل طابع «اللا»، وإذا كان الذنب سيحدد الوجود الإنساني، فلا بد من تحديد الطابع الوجودي لهذه «اللا»، ويمكننا أن نصف الذنب وصفا شكليا خالصا بأنه «السبب» في وجود محدد ب «اللا»، أي سبب السلب والعدمية، وإذا استبعدنا عن «اللا» كل سلب لمطلب كان ينبغي الوفاء به أو لشيء مفتقد، كما استبعدنا عن الوجود-الإنساني كل تصور له كموجود حاضر، أمكن القول إن وجود الذنب لا يترتب على أي إحساس بالذنب (ولا بالدين، فالكلمتان مرتبطتان في الأصل)
88
وإنما العكس هو الصحيح؛ أي أن الإحساس بالذنب لا يكون إلا بسبب ذنب أصلي. كيف نوضح هذا من طبيعة وجود الموجود-الإنساني نفسه؟
إن وجوده هو الهم، والهم ينطوي على الوجود الفعلي هناك (الإلقاء) والتواجد (الشروع) والسقوط، والموجود الإنساني ملقى به بلا إرادة منه في «الهناك»، ولقد عرفنا وجوده بأنه إمكانية وجود متعلقة به ومع ذلك لا يملك تحقيقها، ولهذا فهو السبب في إمكانية وجوده كما أنه من ناحية أخرى ليس هو الذي وضع هذا السبب بنفسه؛ ولهذا يحيا في التناقض والهم الذي يكشف عنه التأثر والوجدان؛ فعليه أن يضع أساس هذا السبب (بأن يشرع نفسه على الإمكانيات التي ألقى فيها)، ولكنه في نفس الوقت لا يتمكن منه أبدا، ويعجز عن تحقيق إمكانية وجوده التي يتعلق بها همه فيبقى دائما وراءها، أشبه بمن يجري وراء ظله وظله يجري وراءه! فهو يحيا من خلال إمكانية وجوده، بل هو هذه الإمكانية نفسها، غير أنه لا يتمكن أبدا من تحقيقها، هذه «اللا» جزء من المعنى الوجودي «للإلقاء»، أي أن «اللا» أو العدمية تكون وجود الموجود-الإنساني الملقى به، من هنا كان عليه دائما أن يكون وأن يفهم نفسه من خلال إمكانياته، أو من خلال مشروعه، والمشروع في صميم تكوينه سلبي أو عدمي، وهذه العدمية مرتبطة بحرية الموجود-الإنساني تجاه إمكانياته، والحرية تكمن في اختيار إحدى هذه الإمكانيات دون الأخرى، فكيف نجمع بين هذه العدمية الأساسية وبين الهم والذنب؟
إن بنية الإلقاء والمشروع كليهما تنطوي على العدمية، هذه العدمية هي السبب في إمكان عدمية الموجود-الإنساني الأصيلة في حالة السقوط التي تلازمه في الواقع، والهم نفسه - من جهة ماهيته - تتغلغل فيه العدمية تماما، والهم - أي وجود الموجود-الإنساني باعتباره مشروعا ملقى به - يعني السبب «العدمي» للعدمية، وهذا يدل على أن الموجود-الإنساني من حيث هو كذلك مذنب، وذنبه الأساسي هو الشرط الأنطولوجي الذي يجعله مذنبا من الناحية الفعلية، كما هو الأصل في الخير والشر والأخلاقية بعامة.
ما هي التجربة المعبرة عن هذا الذنب الأصلي؟ أهي مرتبطة بالوعي بالذنب والعلم به، أم أن وجود الذنب أسبق من هذا الوعي والعلم؟ إن الموجود-الإنساني مذنب في صميم وجوده، ولا يمنع من هذا أنه في حياته اليومية الساقطة يحاول أن يتهرب من ذنبه الأساسي أو ينغلق دونه، وهذا الذنب هو الذي يجعل ظاهرة الضمير ممكنة، كما يجعلنا قادرين على الإنصات لندائه الذي يهتف بأننا مذنبون، «إن نداء الضمير هو نداء الهم، والذنب يكون الوجود الذي نسميه الهم ، والأصل في الموجود- الإنساني أن يتوحد مع ذاته في حال الهول الفظيع، وهذه الحال تضعه أمام عدميته الصريحة المرتبطة بإمكانية وجوده الحميم. ولما كان الموجود-الإنساني - باعتباره هما - يتعلق بوجوده، فإنه يهيب بنفسه من وسط هذا الهول أن تخرج من السقوط في الناس لتتجه صوب إمكانية وجوده، والنداء يتجه إلى الأمام والخلف، إلى الأمام؛ لكي يتحمل بنفسه وجوده الملقى به، وإلى الخلف؛ إلى كونه ملقى به، ليفهم أنه هو السبب العدمي الذي عليه أن يطويه في وجوده، مثل هذا النداء المزدوج الذي يهتف به الضمير ينبه الموجود-الإنساني، الذي هو السبب أو الأساس العدمي لمشروعه العدمي والذي يكون في إمكانية وجوده، بأن عليه أن يسترد نفسه من الضياع في الناس، أي يبين له أنه مذنب».
89
هكذا نرى أن نداء الضمير الذي يهتف بالموجود-الإنساني هو في الواقع نداء لا يحضه على الخطأ والشر، ولا يقلب وظيفة الضمير المتعارف عليها (فدعوته إلى الشعور الواعي بذنبه لا يعني بالضرورة أن يرتكب ذنبا من الذنوب التي ينكرها الناس وتحرمها القواعد والقوانين!) إنه على العكس من ذلك نداء منبعث من أعماق الموجود-الإنساني نفسه، يحثه على تحقيق إمكانية وجوده، ولو أحسن الإنصات إليه لفهم أخص إمكانياته، وتحرر للاستجابة لها، واختار نفسه بنفسه! عندئذ يصبح معنى الفهم لنداء الضمير هو أن أريد أن يكون عندي ضمير! وعندئذ يصير الضمير شهادة حية مجسدة - كامنة في أعماق الموجود الإنساني - على وجوده الممكن، أي على ذنبه الأصلي، ونداء يستحثه على أن يكون هو نفسه وأن يحقق وجوده ويتحمل مسئوليته ويصمم على اختياره. •••
ما علاقة هذا التصميم بالحقيقة؟
إن التصميم حال متميزة من أحوال انفتاح الموجود-الإنساني، وقد فسرنا الانفتاح أثناء كلامنا عن «السؤال عن الحقيقة» بأنه هو الحقيقة الأصلية، كما عرفنا أن الحقيقة ليست صفة من صفات «الحكم» ولا هي صفة لأي سلوك معين، وإنما هي عنصر أساسي في تكوين الوجود-في-العالم، ولا بد من فهمها من خلال التركيب الوجودي - أو بالأحرى التواجدي! - للموجود-الإنساني، وقد رأينا أيضا أن عبارة «الموجود-الإنساني يكون في الحقيقة» لا يمكن تفسيرها من الناحية الأنطولوجية إلا على أساس أن انفتاح الموجود-الإنساني يكشف لنا عن حقيقة الوجود وأصالته.
ونستطيع - بعد هذه الرحلة المضنية! - أن نقول إن التصميم نفسه هو حقيقة الموجود-الإنساني ولب أصالته، ولا نريد أن نكرر ما ذكرناه عن الانفتاح على العالم بما فيه من موجودات وأشياء حاضرة أمامنا أو في متناول أيدينا ، فأهم من ذلك أن نقول إن النداء الذي يحثنا على الخلاص من التشتت والضياع وسط «الناس» يمكن أن يفهم الآن على أنه تصميم، هذا التصميم أو هذا الوجود الذاتي الأصيل للموجود-الإنساني لا ينتزعه من عالمه ولا يحيله إلى أنا منعزلة «خالصة» لا وجود لها في الواقع، وإنما يحرره لعالمه ولا مكان وجوده ووجود الآخرين المشتركين معه وجودا حقيقيا.
ربما يسأل القارئ: لقد أطلت الكلام عن التصميم، فما الذي يصمم عليه الموجود-الإنساني؟
التصميم بحسب ماهيته ينبع من موجود إنساني واقعي، وماهية هذا الوجود الإنساني هو وجوده المتواجد، فتصميمه «لا يوجد إلا كقرار متفهم يشرع نفسه على ممكناته».
90
نعود فنسأل: ما الذي يصمم عليه الموجود-الإنساني؟
والجواب يقدمه قراره وحده، ونخطئ لو تصورنا أنه مجرد محاولة لبلوغ الممكنات المتاحة أو المرغوب فيها، فالقرار هو الذي يحدد هذه الممكنات وينفتح عليها من خلال المشروع، ولهذا كان التصميم مرتبطا «بعدم التحدد» الذي يميز كل إمكان فعلي للموجود الإنساني؛ ولهذا أيضا لا يؤكد التصميم إلا القرار، ولا يتحدد طابعه الوجودي إلا من خلاله.
ما الهدف إذا من التصميم؟
يحدد هذا الهدف من الناحية الأنطولوجية «وجودية» الموجود الإنساني من حيث هو إمكان وجود على هيئة رعاية مهتمة بالآخرين، ونحن نعلم أن الموجود- الإنساني، بوصفه هما، يتحدد عن طريق وجوده الفعلي وسقوطه، وكلما انفتح على وجوده الفعلي «هناك» ألقى نفسه في الحقيقة واللاحقيقة على السواء، ويصدق هذا بوجه خاص على التصميم الذي وصفناه بأن هو الحقيقة الأصلية.
ولكن الموجود-الإنساني - كما ذكرنا مرارا - يحيا عادة في حال من عدم التصميم وليس هذا إلا تعبيرا عن ظاهرة استسلامه لرأي «الناس» وأسلوب حياتهم ووقوعه تحت رحمتهم، ولهذا كان التصميم هو النداء المنبعث من أعماق الموجود-الإنساني ومن فوقه وإليه، يهتف به أن ينتشل نفسه من الضياع في الناس (وتلك هي مشكلة المشكلات في بلادنا؛ إذ يجد الناس متعتهم الوحيدة في التدخل في أخص أمور حياتنا، واستخلاص مادة لا تنتهي للغو والثرثرة، ولهذا كان الفضول والتطفل وباءنا وغذاءنا اليومي، وكان الصمت والكتمان أعدى أعدائنا!) صحيح أن «عدم التصميم» يبقى هو الطابع الغالب المسيطر علينا جميعا، ولكنه لن يقدر على محاربة الوجود الذي قرر وصمم على غزو حقيقته بنفسه! إنه الآن قادر على الرؤية الشفافة النافذة، مهيأ لاكتشاف إمكاناته الواقعية وتحقيقها، بعيدا عن اجترار الأحلام والأوهام، والتصميم هو الذي يدعوه - بصوت الضمير الصامت الرهيب! - إلى أن يعيش موقفه المحدد له، ويقدم الشهادة على إمكان وجوده الحق، وليس التصميم في النهاية إلا «الأصالة التي يهتم بها الهم ويجعلها ممكنة»،
91
وليست الأصالة بدورها إلا تعبيرا عن إمكان الوجود الكلي الحق.
ولكن إلى أي مدى يرتبط هذا الوجود الكلي بالزمان؟ وفي أي بعد من أبعاده أو أية «انبثاقة» من انبثاقاته يتحقق؟
هذا ما سنحاول الآن أن نراه. (3-3) انبثاقات الزمان
لم تكن هذه الشروح المفصلة عن الوجود للموت والضمير والذنب والتصميم إلا جسورا للعبور إلى السؤال عن معنى الهم، أو بالأحرى إلى الأساس الذي يقوم عليه وهو الزمانية، ويسأل هيدجر: «ما الذي يجعل كلية البناء الشامل المفصل للهم في الوحدة التي تضم تفاصيله أمرا ممكنا؟»
92
بعبارة أبسط: ما الذي يضفي الوحدة على العناصر المكونة للهم؟
إن الموجود-الإنساني حين يستبق نفسه إلى أقصى إمكاناته (أي حين يوجد للموت) يرتد في نفس الوقت إلى زمنه الذي كان، أي زمنه المنقضي،
93
وهو يحتفظ بهذا الزمن المنقضي، بل هو زمنه الذي انقضى وكان، وهو لا يستطيع أن يكون منقضيا بحق إلا بقدر ما هو مستقبل،
94
ومن ثم يفاجئنا هيدجر بهذه العبارة التي تقلب الصورة المألوفة للزمن - في حركته من ماض إلى حاضر إلى مستقبل - رأسا على عقب: «إن الانقضاء
95 (الزمن المنقضي) ينبثق على نحو من الأنحاء من المستقبل»،
96
فكأنه يريد أن يقول إن الماضي ليست له الصدارة والأولية عند الموجود-الإنساني، وإنما المستقبل هو الذي يحيله إلى الماضي ويجعله يحافظ عليه، ومعنى هذا - بتعبير هيدجر! - أن قدرة الموجود-الإنساني على استباق ذاته إلى ما لم يوجد بعد وإن كان ينتمي إليه بالفعل - أي إلى موته - هذه القدرة على أن يكون في المستقبل هي التي تمكنه من الرجوع إلى زمنه المنقضي وصونه من الضياع، فكأن استشعار الموت والإحساس بالنهاية هو الذي يحيي الماضي ويعيدنا إلى ذكرياته، على نحو ما نرى في أعمال «مارسيل بروست» الروائية، التي يذوب فيها المستقبل والماضي والحاضر في وحدة واحدة تكون الشخصية الرئيسية في هذه الأعمال.
وعن طريق الاستباق إلى الموت أو النهاية (أي عن طريق التصميم المستبق) يجد الموجود-الإنساني نفسه في موقف، فيتعامل مع الموجود تعامله مع شيء يشغل به، ويتيح له أن يلتقي به وجها لوجه، وهذا الالتقاء بالموجود القائم في «العالم المحيط» والتعامل معه لا يتيسر إلا بإحضاره (أي جعله حاضرا)
97
وهذا بدوره لا يتم إلا عن طريق التصميم، والتصميم يحضر نفسه أو يجعلها حاضرة في الموقف بحكم كونه مستقبليا وقادرا على الرجوع إلى نفسه، وهذا بعينه هو جوهر الزمانية كما نجربها ونحياها في الموجود-الإنساني، بل كما يتيحها البعد الخاص بالموجود-الإنساني ويحملها، ومن ثم يستطيع هيدجر أن يقول إن الزمانية تتكشف بوصفها المعنى الحقيقي للهم،
98
وإذا كنا قد حددنا الهم - بلغة هيدجر العسيرة! - بأنه «الوجود-الفعلي المسبق-في» من حيث هو «وجود-بالقرب من»، فيمكننا الآن أن نرى أن الوجود الفعلي المسبق يتم في «تزمن» المستقبل، وأن الوجود-بالقرب-من-يتم من خلال الحاضر أو بالأحرى الإحضار،
99
وقد عرفنا أن الهم يجمع بين التواجد، والوجود الفعلي، والسقوط، فالتواجد مرتبط «بالشروع» الذي فيه يلقى الموجود-الإنساني بنفسه على إمكانياته التي لم تتحقق بعد، وليس هذا إلا نوعا من «تزمن» المستقبل، والوجود بالفعل - أي كون الموجود-الإنساني ملقى به هناك - عنصر من العناصر التي عرفنا أنها من المكونات الأساسية للهم، ولهذا يمكننا الآن أن نفهم هذه العبارة: «إن قيام الهم على أساس الانقضاء هو الذي يمكن الوجود-الإنساني من أن يوجد (أو يتواجد) بوصفه الموجود الملقى به».
100
ويفرق هيدجر بين الانقضاء (ما قد كان) والماضي؛ فالماضي تعبير يصدق على الموجودات التي ليست من نوع الموجود-الإنساني، هذا الموجود-الإنساني «المتواجد» لم «يمض»، بل «انقضى» أو كان، أي أن الكينونة لا تزال باقية، وما قد كان لا يزال في الحقيقة كائنا، ويتضح هذا إذا تذكرنا ما قلناه من أن «الوجود الواقع بالفعل»
101
عنصر أساسي في تكوين الموجود الإنساني، وهو لا يكون ممكنا إلا لأن الموجود-الإنساني - في وجوده في الزمان - لا يترك وراءه ما كان - أو ما انقضى من زمنه - ولا يتخلى عنه، وإنما يكونه، وهكذا يبين لنا بعد المستقبل الذي ينطوي عليه «الاستباق»، وبعد الماضي الذي يتضمنه «الوجود-بالفعل-في» أن الهم زماني في تكوينه وتركيبه، ولعل القارئ قد لاحظ أن هذا التفسير للزمانية بأنها البناء الأساسي المكون للهم يشبه أن يكون نورا كاشفا سلط - بعد الجهد والعناء! - على بقية البناء المعقد الذي حاولنا أن نخرج بفكرة موجزة عن هيكله ومعماره، ولعل «الوجود والزمان» أن يكون من الكتب التي يصدق عليها ما يقال من أنها تقرأ من آخرها، وأن نهايتها تكشف عن بدايتها وتجمع كل خيوط نسيجها (ويا له من نسيج تبدو عبقرية الصنعة والتصنع والصبر والمشقة في تطريز كل خيط فيه!).
بقي أن نتحدث عن السقوط، وهو العنصر الثالث من العناصر المكونة للهم؛ لنعرف علاقته بالزمانية، وليس السقوط سوى الضياع فيما هو «حاضر» أي فيما وصفناه بالوجود-بالقرب-من، وطبيعي أن يكون هذا السقوط في الحاضر (ما هو كائن وقريب) دون المستقبل (ما سيكون) ودون ما كان (الانقضاء)، وهكذا تجعل الزمانية وحدة «التواجد» و«الوجود بالفعل» و«السقوط» أمرا ممكنا وتؤلف كلية بناء الهم تأليفا أصيلا.
102
طبيعي ألا تكون الزمانية دائما زمانية أصيلة، فكيف نفرق بين الأصيل منها وغير الأصيل؟ لا بد لهذا الغرض من بحث «الموجودات» التي تكلمنا عنها من قبل، وهي الفهم والتأثر الوجداني والسقوط والكلام، لنرى دور الزمان فيها ونبين أنها في صميمها زمانية، هنا يجمع هيدجر الخيوط التي سبق أن قدمها متفرقة، ويرجع للتحليلات التي تابعناها من قبل لينظر إليها في أفق جديد، وليس هذا من قبيل التكرار، وإنما هو إضاءة للبناء الكلي ومحاولة لفهمه على ضوء الزمانية.
لنبدأ بالفهم، كيف يتجلى طابعه الزماني؟
لقد رأينا أن الفهم «شروع» على إمكانات الوجود الخاصة، وأنه تفتح أو «تفتيح» لإمكانية الوجود، وكل أشكال «المعرفة» وأساليبها تقوم على هذا الفهم وتعتمد عليه، ولكن «الشروع» على الإمكانيات مرتبط بالمستقبل، أو هو بتعبير هيدجر «تزمن للمستقبل»، والمستقبل - من الناحية الأنطولوجية - هو الذي يمكن الوجود الذي نسميه الموجود-الإنساني من أن يوجد على الصورة التي هو عليها، بحيث يكون وجوده - أو بالأحرى تواجده - مرادفا لتفهمه إمكانية وجوده،
103
ولا يجوز أن نتصور أن هذه الإمكانية شيء يبتدعه الموجود-الإنساني أو يتمناه ويخشاه، وإنما الموجود الإنساني هو إمكانية وجوده وبقدر ما يكون في المستقبل، وليس «الاستباق» الذي تحدثنا عنه إلا هذا التزمن من خلال المستقبل، وطبيعي أن هذا الاستباق أو هذا التزمن في المستقبل، لا يقدر عليه غير الموجود-الإنساني الأصيل، فهو وحده الذي يستطيع أن يعود إلى ذاته ويحققها ويستبق نفسه إلى مستقبلها، وطبيعي أيضا أن يكون هذا هو المستقبل الأصيل الذي يحدده بنفسه لا بما يمليه عليه «الناس».
104
هذا عن الموجود-الإنساني الأصيل، فماذا عن الموجود-الإنساني غير الأصيل؟
إذا صح ما قلناه من أن الهم، أو بالأحرى بناءه الموحد، يقوم على الزمانية، وإذا كانت الزمانية تتكون من «انبثاقات»
105
الزمن الثلاثة، وهي ما سيكون وما قد كان وما هو كائن (المستقبل والانقضاء والحاضر)، فلا بد أن يكون للمستقبل دوره في تركيب الموجود- الإنساني غير الأصيل، ولكن كيف؟ لقد بينت لنا التحليلات السابقة أن الوجود اليومي المعتاد للموجود-الإنساني يقوم على «الانشغال» بالأشياء والموجودات الحاضرة أمامه أو في متناول يده وتحت تصرفه، وأن الموجود الإنساني لا يلبث أن يستغرق فيها فلا يكاد يفهم نفسه إلا من خلال هذا الانشغال وما يشغل به؛ لهذا يعجز الموجود-الإنساني عن العودة إلى «إمكان وجوده» الحميم الخالص من كل العلاقات أو الرجوع إلى ذاته، ويصبح - تحت تأثير الانشغال - في حالة توقع أو تهيؤ لما تأتي به الموجودات المنشغل بها أو لما تأباه عليه،
106
ويصبح المستقبل الذي «يتزمن» به مستقبلا غير أصيل، نوعا من التوقع
107
الذي يجعله يعيش في مواقف الانتظار والرجاء، والتطلع والرغبة ...
الموجود-الإنساني الأصيل وغير الأصيل إذا يتزمن كلاهما بالمستقبل، والتزمن بالمستقبل قد يكون أصيلا أو غير أصيل، ولكن يصدق في الحالين تعبير «السبق للذات»
108
أو الاستباق الذي يتميز به تواجد الموجود-الإنساني المتواجد، وكل تزمن يشمل الانبثاقات الزمنية الثلاثة التي ذكرناها، وقد عرفنا مما سبق أن الفهم والتأثر الوجداني والكلام كلها «وجودات» متزمنة أو يدخل الزمان في نسيج تركيبها، فما صلة هذا بما نحن بصدده من الحديث عن الوجود الأصيل وغير الأصيل؟
لنبدأ بالتزمن الأصيل للفهم الذي ينطلق - كما عرفنا - من المستقبل، ويتخذ صورة استباق الموجود-الإنساني لنفسه نحو إمكاناته التي لم تتحقق بعد، هذا الاستباق الذي يتم كما رأينا «بالتصميم»، يحتاج إلى الزمن الحاضر الذي يقع فيه اختيار «القرار» على موقف معين، في هذا التصميم وبهذا القرار يسترد الحاضر من التشتت والاستغراق في الموجودات القريبة التي ينشغل بها الموجود- الإنساني، ولا يقتصر الأمر على هذا؛ إذ يضم الحاضر نفسه إلى مكانه الذي يتحد فيه بما سيكون (المستقبل) وما قد كان (الانقضاء)، هذا الحاضر الأصيل الذي يوضع في مكانه من الزمانية الأصيلة هو الذي نسميه «اللحظة»،
109
وليست اللحظة «نقطة آن» في مجرى تتابع زمني داخل العالم، وإنما هي أسلوب انفتاح الموجود-الإنساني على ما يقابله ويواجهه، أو بالأحرى على ما يتيح له مقابلته ومواجهته، ويتوقف هذا بطبيعة الحال على أسلوبه المتميز في الوجود، على قدرته على أن يكون هو ذاته.
أما التزمن غير الأصيل للفهم فيقابله - في انبثاقه الحاضر - الإحضار، ومعنى الإحضار أن الوجود-الإنساني - أو إمكانية الوجود - لا يفهم ذاته إلا من خلال ما ينشغل به وما يكون حاضرا أمامه، على حين أن التزمن الأصيل مرتبط بالمستقبل ولا يضيع نفسه أو يشتتها فيما ينشغل به.
بقيت الانبثاقة الثالثة للزمن، وقد تبين مما قلناه عن الفهم الأصيل أن الموجود-الإنساني يحتفظ بما كانه أو انقضى منه أثناء الاستباق.
هنا يلمس هيدجر مسألة الهوية (أي هوية الذات مع ذاتها) التي يكثر حولها الجدل في الفكر المعاصر، فالموجود-الإنساني يسترد نفسه في أثناء هذا الاستباق ويعود من جديد إلى الإمكانية الحقة لوجوده؛ ولهذا يصف الانقضاء الأصيل بأنه تكرار (وهو مصطلح نعرفه من كيركجورد الذي أنشأ حوله قصة فلسفية مؤثرة شائقة، وإن اختلف مدلوله عند المفكرين اختلافا كبيرا) فإذا اقتصر الموجود-الإنساني على اكتساب إمكانياته من تعامله مع الموجودات المنشغل بها، نسي ما كانه وما يحدد له ما يمكن أن يكونه، فالنسيان حالة ناقصة من أحوال تزمن الانقضاء أو ما قد كان، حين يكون هذا التزمن غير أصيل، وفي حياتنا اليومية شواهد كثيرة على تنكر الإنسان لماضيه ومحاولته إسدال ستر من التجاهل والنسيان عليه حين يكون بصدد التخطيط لمستقبله (أو الشروع له كما يقول هيدجر)! وهو بهذا الأسلوب ينغلق على نفسه، وينخدع فيها، ويتهرب منها، وفي الأدب المحلي والعالمي شواهد عديدة تقدم لنا شخصيات تهربت من شبح ماضيها وحاولت أن ترتفع إلى قمة الطموح والمجد فهوت في وادي الآلام والموت (وتحضرني الآن بداية ونهاية لنجيب محفوظ، والأحمر والأسود لستندال، والبطة الوحشية لإبسن) وهذا هو موقف عدم التصميم الذي يقع على طرفي نقيض من موقف التصميم الذي ذكرناه.
لا شك أن التفسير الزماني للوجودات المختلفة تفسير مضن حافل بالتفصيلات المتشابكة، وتكمن صعوبته في ضرورة المحافظة على النظرة الكلية عند تناول كل منها على حدة؛ فانبثاقات الزمن الثلاثة حاضرة في كل واحدة، لا يقلل من هذا أن يكون التركيز على إحداها أكثر من غيرها، ولو أخذت الفهم مثلا لوجدت أن كفة المستقبل ترجح كفتي الانقضاء والحاضر اللذين يؤديان كذلك دورهما فيه، وهذا لا يمنعنا من القول بأن كل واحدة من الوجودات تقوم أساسا على انبثاقة زمنية محددة، فإذا كان الفهم يقوم على المستقبل (ما سيكون) فإن الوجدانية - أو التأثر الوجداني - يقوم على الانقضاء (ما قد كان)، وقد عرفنا مما سبق أن الوجدانية هي التي تتيح للوجود-الإنساني أن ينفتح على «إلقائه» أو كونه ملقى هناك وموجودا بالفعل وجودا واقعيا لم يختره ولا يد له فيه، وهذا يدل على أن التزمن الأساسي للوجدانية ليس هو الذي يوجد الانقضاء أو يخلقه، وإنما يكشف الموجود-الإنساني عن وجوده فيه؛ لأن الموجود-الإنساني كان، أو هو بمعنى أدق ما كانه؛ لهذا يقول هيدجر إن الطابع الوجودي الأساسي للتأثر هو الإعادة أو الاستعادة، وهذه لا توجد الانقضاء ولا تنتجه، وإنما التأثر الوجودي هو الذي يكشف للتحليل الوجودي عن حال من أحوال الانقضاء.
110
ويوازن هيدجر بين تأثرين وجدانيين يوضحان الفارق بين انقضاء أصيل وآخر غير أصيل؛ ففي حال الخوف الذي تسوده الحيرة والاضطراب يظهر نسيان الذات وفرارها من كينونتها الماضية، أما في القلق فيتجلى عبث «الانشغال» وبطلانه واستحالة وصول الموجود-الإنساني إلى ذاته عن طريقه، في القلق - وما أبعد الفرق بينه وبين الخوف كما قدمنا! - يرجع الموجود-الإنساني إلى نفسه، ويتم شيء يمكن أن نصفه بالتكرار، هنا يجرب الموجود-الإنساني تناهيه وتفانيه، وإذا كان القلق ينبع من مستقبل يقرره التصميم، فإن الخوف ينجم عن الحاضر الضائع الذي يملؤه الخوف من الخوف، لكيلا يلبث أن يسقط فيه.
111
فإذا انتقلنا أخيرا إلى زمانية السقوط وجدنا أن خير ما يوضحها هو التطفل أو الفضول، في هذا الفضول يتم نوع من «الإحضار» الذي يبقى مع ذلك حبيسا بين جدران الزمن الحاضر؛ إذ ينغلق الفضول على نفسه دون الاستباق إلى الإمكانيات الحميمة التي تنغلق دونه، إن الفضولي يعيش في حاضر فاسد، كل همه فيه هو الإحضار أو تكويم المعلومات والأخبار، ويظل بعيدا عن الحاضر الحقيقي الذي ينبع من استباق إلى المستقبل وتكرار ما كان وانقضى؛ ولهذا كان الفضول حفرة بلا قرار.
ولو شئنا أن نجمل ما قلناه عن التزمن الأصيل والتزمن غير الأصيل، لأمكننا أن نضع هذا الجدول
112
الذي يعيننا على رؤية الهيكل الحاشد بالتفاصيل، إدراك الغابة قبل أن تتوه في زحام الأشجار!
الانبثاقات الزمنية
التزمن الأصيل
التزمن غير الأصيل
المستقبل
الاستباق
التوقع (التهيؤ)
الحاضر
اللحظة
الإحضار
الانقضاء
التكرار
النسيان
لعل القارئ قد افتقد «الكلام» في هذا التحليل الزماني «للوجودات» المختلفة من فهم وتأثر وسقوط، ولعله قد تصور - كما فعل بعض الباحثين
113 - أن تحليل الانشغال بالحاضر قد حل محله، والواقع أن التحليل الزماني للكلام في «الوجود والزمان»
114
مختصر غاية الاختصار، وهو يرد بعد حديث مستفيض عن السقوط، ومع ذلك فإنه - وإن لم يحدد للكلام انبثاقة زمنية متميزة - لا يهمله تمام الإهمال، وإنما يبين أن للحاضر دلالة خاصة بالقياس إليه، فهو ينصب في الأغلب الأعم على ما يقابلنا في العالم المحيط بنا، وإن كان هذا بطبيعة الحال لا يستنفد كل إمكاناته، إذ يكفي أن نفكر في «لغة» الفن وأساليبها المختلفة في حوارها مع الوجود أو معنا، إن الكلام في ذاته زماني؛ لأن كل كلام «عن» أو «إلى» يقوم على وحدة الانبثاقات الزمنية الثلاثة، ولما كان الكلام متعلقا على الدوام بموجود - وإن لم يتخذ صورة التعبير النظري وحده - فإن تحليل البنية الزمنية للكلام وتفسير الطابع الزمني للصور والأشكال اللغوية لا يمكن البدء فيه إلا إذا تناولنا مشكلة الارتباط الأساسي بين الوجود والحقيقة على ضوء الزمانية، عندئذ يمكننا أن نفهم المعاني الأنطولوجية «للرابطة» أو فعل الكينونة وتوضيح المعنى وتكوين التصورات.
مهما يكن من شيء فلا بأس من إعادة ما قلناه من أن انبثاقات الزمن الثلاثة - التي نسميها عادة بالماضي والحاضر والمستقبل - ماثلة على الدوام في كل تزمن، وإن كانت إحداها تطغى على الأخريين في كل حالة على حدة، فالفهم مثلا يطغى عليه المستقبل (الاستباق أو التوقع)، والتأثر الوجداني يتفوق فيه الانقضاء (التكرار أو النسيان) والسقوط والكلام يغلب عليهما الحاضر (اللحظة أو الإحضار)، وفي نفس الوقت يمكن تأكيد ما قلناه من أن الانبثاقات الزمنية الأخرى تؤدي دورها مع الانبثاقة الغالبة، فالفهم حاضر انقضى وكان، والتأثر مستقبل وحاضر، ومعنى هذا أن الزمانية تتجلى كاملة في كل انبثاقة على حدة، وأن «الوحدة الانبثاقية لتزمن الزمانية تقوم عليها كلية البناء الكامل للتواجد، والوجود بالفعل، والسقوط، وهذا هو معنى وحدة بناء الهم»، وهو كذلك المعنى الذي انتهينا إليه من كل هذه التحليلات التي بينت لنا أن الهم يقوم بناؤه وتركيبه على الزمانية، وهذا يدلنا في النهاية على أن الموجود-الإنساني - بإمكانياته الأساسية وانفتاحه، وأصالته، أو عدم أصالته - يقوم على الزمانية التي تتمثل فيها عناصر التزمن في وحدة واحدة. (4) السؤال عن الحقيقة
تبلغ تحليلات هيدجر المفصلة عن الهم (باعتباره وجود الموجود-الإنساني) ذروتها في أول بحث قدمه عن الارتباط بين الوجود والحقيقة في كتابه «الوجود والزمان»، وهذا الارتباط قديم قدم الفلسفة، لم نبتدعه على هوانا ولم نخلقه من العدم، فلقد دار الفكر الفلسفي منذ بدايته حول هذا الارتباط بين الوجود والحقيقة، وتجلى ذلك بأوضح صورة في كثير من شذرات هيراقليطس الباقية، وفي قصيدة بارمنيدز (وبخاصة في قوله المشهور إن الفكر - أو التعقل - والوجود شيء واحد)، كما ظهر عند أرسطو الذي عرف الفلسفة بأنها «العلم بالحقيقة»،
115
وحددها في نفس الوقت بأنها العلم «أبيستمي» الذي يتأمل الموجود بما هو موجود، أي من ناحية وجوده.
أليس من الطبيعي إذن في بحث يصف نفسه بأنه بحث في «الأنطولوجيا الأساسية» أن يهتم بهذا الارتباط الأصلي بين الوجود والحقيقة ويلقي الضوء كذلك على العلاقة بين الموجود-الإنساني والحقيقة، لكي يبين لنا في النهاية أن الوجود لا ينفصل عن الحقيقة، كما أن الحقيقة ملازمة للوجود؟
يمضي هذا المبحث الأول - الذي ظل الشغل الشاغل لهيدجر في العديد من دراساته ومحاضراته من «ماهية الحقيقة» إلى موضوع الفكر - في ثلاث خطوات: (1)
التصور التقليدي للحقيقة والأسس الأنطولوجية التي يقوم عليها. (2)
الظاهرة الأصلية للحقيقة والأصل في التصور التقليدي الذي وصلنا عنها. (3)
نوع وجود الحقيقة والشروط التي تعتمد عليها.
إذا كانت طريقة السؤال هي أهم ما يميز الفيلسوف ويوجه فكره، فإن هيدجر يتجه بسؤاله عن الحقيقة وجهة جديدة، إنه يبدأ من التصور السائد المألوف عن الحقيقة، وهو تصور راسخ في أذهاننا منذ أرسطو وابن سينا وتوماس الأكويني؛ لكي يرجع إلى الظاهرة الأصلية التي حجبها هذا التصور، ولقد استقر الرأي في هذا التصور على أن العبارة - الحكم أو القضية - هو محل الحقيقة وموضوعها، وأن ماهية الحقيقة تقوم على تطابق الحكم مع الموضوع، وهو رأي يستند إلى أرسطو الذي ينسب إليه تحديد هذا الوضع وإطلاق هذه الصيغة، فهل قال أرسطو ذلك صراحة؟
الحق أن الأصل في هذا الرأي يرجع إلى عبارة أرسطو التي يقول فيها إن تجارب النفس أو تصوراتها معادلة (أو مكافئة) للأشياء،
116
ومن الواضح أنه لم يقصد من قوله هذا أن يقدم تعريفا للحقيقة، ولكن هذا القول تحول على يدي توماس الأكويني إلى التعريف التقليدي للحقيقة بأنها تكافؤ أو تطابق بين العقل والشيء، وهو التعريف الذي تمسكت به الفلسفة إلى ما بعد كانط (وقد أشار الأكويني نفسه إلى أنه أخذ هذا التعريف عن ابن سينا الذي يقال إنه أخذه بدوره عن كتاب التعريفات لإسحاق الإسرائيلي من القرن العاشر)،
117
مهما يكن من أمر هذا التعريف المشهور، فإن هيدجر يسأل: ما هو المعنى المقصود بالتطابق (التكافؤ أو التوافق)؟
118
إنه يعبر من الناحية الشكلية البحتة عن علاقة شيء بشيء، ولكن إذا كان التطابق علاقة، فليست كل علاقة تطابقا، لا بد إذن من توضيح هذه العلاقة وتحديدها، كيف يمكن أن يتطابق العقل والموضوع (الشيء) ومن أي جهة؟ يلزم أن يتطابق الحكم مع مضمونه، فمن أين يأتي هذا التطابق؟ أنقول إنهما متساويان أو متشابهان؟ ولكنني إن حكمت بأن القرش مستدير، فلا يعقل أن أتصور أي نوع من التشابه بين الحكم والاستدارة، بين العبارة التي أحكم بها (وهي لغوية) والقرش الذي أحكم بأنه متطابق معها (وهو معدني)! يلزم إذن أن يدرك العقل الموضوع (أو الشيء) على ما هو عليه، فكيف يتم هذا، إذا كان هذا العقل لن يتحول إلى موضوع!
نحن جميعا نميز في الحكم بين «فعل الحكم» وبين موضوعه، وفعل الحكم حدث نفسي واقعي، وموضوعه مضمون مثالي، والأمر كله يتوقف على هذا المضمون المثالي، فلسنا بحاجة إلى معرفة شيء عن طبيعة الأحداث النفسية التي في الوعي عند القيام بعملية الحكم، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فلدينا فعل الحكم الواقعي من ناحية، ولدينا من ناحية أخرى المضمون المثالي الذي نفكر فيه أثناء تحقيق هذا الفعل، ولا بد أن يتعلق هذا المضمون بشيء واقعي أو موضوع متعين، «ألا يكون واقع المعرفة والحكم قد انفصم بهذه الطريقة إلى أسلوبين في الوجود «وطبقتين» لا يمكن أن يبلغ التلفيق بينهما إلى صميم أسلوب وجود المعرفة؟»
119
لنسأل إذن: متى تظهر الحقيقة في فعل المعرفة نفسه ظهورا صريحا؟ الجواب: عندما يثبت فعل المعرفة أنه حق (أو صادق). ومتى يتم هذا؟ الواقع أن هذه هي المشكلة! ولا بد تبعا لهذا «أن تتضح علاقة التطابق في السياق الظاهري للإثبات». ونسأل من جديد: كيف نفهم هذا الإثبات؟ يضرب لنا هيدجر مثالا بسيطا من واقع التجربة التي نعيشها كل يوم؛ لنتصور أننا نقول عبارة عن صورة معلقة على الحائط، في الوقت الذي ندير لها ظهرنا ولا نراها رؤية مباشرة، ثم نستدير لنرى إن كانت العبارة صحيحة، كانت عبارتنا هي هذه: الصورة مائلة. فما الذي يجعلها صادقة أو كاذبة؟ لا بد أولا أن نلاحظ أننا حينما ننطق بالعبارة لا نشغل أنفسنا بأية ظاهرة سيكولوجية أو أي فعل من أفعال التصور، وإنما نكون مع الموضوع أو الشيء ذاته، ولسنا الآن بحاجة للبحث عن مختلف الإمكانيات التي تتيح لنا أن نكون مع الموضوع نفسه؛ ذلك أن التعبير (أو الحكم) وجود متعلق بالشيء أو الموجود نفسه،
120
وفي المثال الذي قدمناه الآن يتم الإثبات عن طريق الإدراك الحسي، فما الذي يحدث على وجه التحديد عندما يتأكد صدق العبارة التي ذكرناها عن الصورة المعلقة على الحائط؟ الجواب ببساطة: إننا نتوصل للموجود من ناحية وجوده، أو بالأحرى نكتشفه.
هكذا يكون فعل المعرفة - الذي نعبر عنه في صورة حكم أو عبارة - مسلكا نتخذه من الموجود لكي نكشف عنه أو نكتشفه، هذا الاكتشاف هو مركز الثقل في الموضوع كله؛ لأن التوفيق بين العمليات النفسية والمضامين المثالية التي تضفي على كل شيء واقعي هو في الحقيقة أمر عرضي لا أهمية له، إن معنى العبارة هو إتاحة رؤية الموجود الذي نعبر بها عنه؛ ومن ثم تكون الحقيقة هي الاكتشاف، ويكون التوصل إلى الحق عن طريق الكشف، لكن من الذي يقوم بهذا الكشف غير الإنسان؟ ألا يتحتم أن يكون موجودا-في العالم لكي يتمكن من القيام به؟ - الواقع أن هذا هو الذي يتعرض له القسم الثاني من هذا المبحث.
يحاول هيدجر أن يدعم تفسيره للحقيقة بالرجوع إلى فجر الفلسفة، والنظر في المعنى الأصلي الذي كان يقصده فلاسفة اليونان المبكرون من كلمة الحقيقة (أليثيا- لاتحجب) فهو يقف عند شذرة هيراقليطس الأولى
121
التي تتحدث عن معنى اللوجوس الذي يبين للناس حقيقة الأشياء وحالها التي هي عليها، غير أنهم لا يفهمونه ولا يسمعون نداءه، فيسقط في التحجب ويهوي إلى الخفاء.
وترجمة هيدجر لكلمة «الأليثيا» اليونانية - التي تفيدنا القواميس بأنها هي الحقيقة - باللاتحجب (أو سلب الحجب والخفاء) ليست مجرد ترجمة لفظية، وإنما هي محاولة للنفاذ إلى التجربة الأصلية التي ارتبطت منذ القدم بهذه الظاهرة، والكشف عن «الحدث» الذي كانت تنطوي عليه رؤية اليونان الأول لها، وهذا هو الملمح الظاهرياتي (الفينومينولوجي) الذي يكتشفه هيدجر عند فلاسفة الإغريق في فجرهم الشاعري، كما يكتشفه عند أرسطو، «فاللوجوس» عند أرسطو كشف أو إتاحة رؤية الموجود الذي ينقل - من خلال القول - من التحجب إلى اللاتحجب، ومن الخفاء إلى الظهور، أي أن القول في صميمه كشف وإظهار (أبوفانسيس وأليثويين)، ولكن ما هذا الذي يكشف عنه القول وينتزعه من الحجب ويتيح له أن يرى من ناحية وجوده؟ إنه الشيء نفسه الموجود من ناحية تكشفه أو الأسلوب الذي ينكشف به.
122
لن يقف هيدجر عند هذا الحد من تفسيره «للأليثيا»، وسيواصل التفكير فيها في بحوثه ودراساته التالية من «ماهية الحقيقة» إلى «موضوع الفكر»، ولكن الذي يهمنا في هذا السياق أنه حاول في هذه المرحلة المبكرة من تفكيره أن يبين الارتباط بين الأليثيا (اللاتحجب) والموجود الإنساني، بيد أن «الأليثوين» (اللاحجب أو إظهار الحقيقة) إنما هو فعل يقوم به الموجود الإنساني وأسلوب من أساليب وجوده،
123
حين يكشف الموجود أو يرفع عنه الغطاء، فالحق هو هذا المسلك الذي يسلكه الموجود الإنساني، كما هو في نفس الوقت ذلك الذي ينكشف من خلال المسلك - أي ذلك الموجود الذي ينكشف - ولهذا يطالبنا هيدجر بأن ننظر إلى المسلك الذي يمكن من الكشف على أنه هو الظاهرة الأصلية نفسها للحقيقة، هذا المسلك هو الذي وصفناه - كما رأينا من قبل - بانفتاح الموجود الإنساني، وإن شئنا المزيد من الدقة فهو الوجود-في- العالم الذي يتركب من التوجد (التأثر الوجداني-الوجدانية) والفهم والكلام ليتحد فيما سميناه «بالهم»، وهذا الهم يوحد بدوره بين الانبثاقات الثلاثة للتزمن وهي المستقبل والماضي (الانقضاء) والحاضر.
إن تعبير هيدجر المشهور «إن الموجود الإنساني يكون في الحقيقة»
124
لا يعني بطبيعة الحال أنه يملك الحقيقة كل الحقيقة - فذلك شيء لا يقبله عقل ولا يسيغه ذوق - وإنما يعني أنه قادر على الكشف، أي على انتزاع الحقيقة وإظهارها من طوايا التحجب والخفاء عن طريق التصميم، ولا تتأتى له هذه القدرة على الكشف عن الموجود وتقريبه وتبيينه وتشكيله وتناوله بالبحث ... إلى آخره، إلا لأنه قادر على اتخاذ مسلك من نفسه، أي على الانفتاح.
ربما اعترض معترض بأن الأمر لا يخرج عن وضع كلمة الموجود الإنساني (الدازاين) في مكان كلمة «الذات» وأنه لا يعدو أن يكون صورة جديدة من هذه الصيغة الفلسفية الحديثة: «الوعي هو الوعي بالذات»، ولكن هذا الاعتراض وأمثاله يخطئ تفكير هيدجر ويخرج عنه منذ البداية، فمفهوم الموجود الإنساني مختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الوعي، ولا يمكن أن يكون كلمة جديدة وضعت في مكان كلمة قديمة، وسيزول هذا الاعتراض إذا عرفنا أن هيدجر ينأى بنفسه عن «الذاتية» و«الإنسانية» بمعانيها التقليدية التي تأكدت منذ ديكارت وعبر المثالية الألمانية حتى كيرجورد ونيتشه، كما أنه ينظر إلى الموجود الإنساني منذ البداية على أنه «وجود-في-العالم» ويرتب على ذلك نتيجة لم تكن تخطر للفلسفة الحديثة على بال، إنه لا ينطلق من ذات معزولة أو منعزلة، يكون عليها بعد ذلك أن تنتقل إلى «المتعالي» - سواء فهمناه بمعنى الوجود أو العالم الخارجي أو بمعنى العالم أو الله - وإنما يبدأ من الموجود الإنساني من حيث هو وجود- في-العالم، فيؤكد البناء الأساسي الذي يتميز به ويوضح كل ما يرتبط به من «وجودات» تقوم على تزمنه، وكلها آراء لا يشك منصف في أنه لم يسبق إليها.
إن الوجود-في-العالم يعني أن انفتاح الموجود الإنساني يتعلق ببناء الهم الذي منه يتركب هذا البناء الكلي من وحدات المشروع (تزمن المستقبل حيث يشرع الإنسان نفسه - إن صح هذا التعبير! - وينزع إلى تحقيق إمكاناته مع انفتاحه على عالمه) والإلقاء (الرمي-الانقذاف حيث يجد الموجود الإنساني نفسه في عالم وجد من قبل، وحيث يفترض هنا تزمن الماضي أو الانقضاء) ولنتذكر هنا أن أمام الموجود الإنساني سبيلين؛ فإما أن يتمكن من فهم نفسه على ضوء إمكاناته الصميمة، وعندئذ يكون في الحقيقة، وإما أن يفهم نفسه من خلال العالم الذي أضاع نفسه فيه ويضيعها أبدا، وعندئذ يكون في اللاحقيقة والزيف، وإن كان في الأغلب الأعم يحيا في هذه الحال الأخيرة، ويعيش - كما رأينا من قبل - وجوده اليومي «ساقطا» في اللاحقيقة، إنه يحيا دائما في الحقيقة واللاحقيقة على السواء؛ ولهذا يتحتم عليه أن يحافظ باستمرار على ما اكتشفه أو كشف عنه، حتى لا يسقط في التنكر والمظهر، وهكذا يكون عليه أن ينتزع التكشف من المظهر، كما كان عليه أن ينتزع الحقيقة من اللاحقيقة، ولعل هذا أن يكون مصداقا لكلمة جوته المشهورة في القسم الثاني من فاوست: «لا يستحق الحرية والحياة إلا من يغزوهما كل يوم.»
125
ويمكننا أن نضيف إلى كلمة الشاعر الحكيم: ولا الحقيقة إلا من يغزوها ويكافح في سبيلها في كل لحظة!
يتصل هذا كله بما سبق أن قلناه عن تفسير هيدجر لكلمة «الأليثيا» اليونانية التي تترجمها معاجم اللغة بالحقيقة (وهو تفسير قد لا يوافق عليه كثير من فقهاء هذه اللغة!) فهو يرى أن الألف (الألفا) التي تبدأ بها الكلمة هي الألفا السالبة أو النافية، وأن بقية الكلمة (ليثيا) تأتي من لانثانو (يبقى متحجبا في الخفاء أو النسيان)، على نحو ما سنجد هذا بالتفصيل في رسالته عن «ماهية الحقيقة»، إن الوجود ينتزع من التحجب، وكل اكتشاف يتم بالفعل لا يخرج عن أن يكون نوعا من «الانتهاب»
126
وإذا كانت ربة الحقيقة التي يصعد إليها بارمنيدز في قصيدته الكونية المشهورة تخيره بين طريقين لا ثالث لهما، طريق الكشف وطريق الحجب، أو إن شئنا طريق الوجود الحق واللاوجود الباطل، فإن هذا في رأي هيدجر تعبير عن رؤية قديمة قدم الفلسفة نفسها، ولا بد أن نفسرها بأن الإنسان يكون دائما في الحقيقة واللاحقيقة على السواء.
نخلص من كل ما تقدم إلى نتيجتين: أولاهما أن الحقيقة الأصيلة تقوم على انفتاح الموجود الإنساني، وهي لا تقوم على تفتحه على ذاته فحسب، بل كذلك على تكشف الموجود في عالمه، وثانيتهما أن الموجود الإنساني يوجد أصلا في الحقيقة واللاحقيقة على السواء.
يمكننا الآن - على ضوء ما ذكرناه من تميز الموجود الإنساني بفهم الوجود - أن نقول إن فهم الوجود نفسه مستحيل بغير الانفتاح، وإن الموجود الإنساني لا يفهم نفسه وعالمه إلا لأنه يوجد أو يتواجد دائما في هذا الانفتاح، وهذا هو الذي يميزه تمييزا واضحا عن سائر الموجودات التي يستخدمها وتكون في متناول يده، كما يميزه عن الموجودات التي تكون حاضرة أمامه، وتختلف عنه في أسلوب وجودها.
ولا يقف تناول هيدجر لمشكلة الحقيقة وارتباطها بانفتاح الموجود الإنساني عند الفصل الذي عرضناه عرضا موجزا، وإنما يعود إليها مرة أخرى في نفس الكتاب في سياق كلامه عن التفسير الزماني للهم وتصويره للموجود الإنساني بأنه «قدرة على الوجود الكلي الحقيقي»
127
فالتصميم الذي تحدثنا عنه - في الفصل السابق - لا يكتسب معناه الحق إلا إذا أصبح «وجودا متفهما من أجل الموت»، أو بعبارة أخرى إذا أصبح استباقا للموت،
128
فبالتصميم يرجع الموجود الإنساني إلى وجوده الذاتي الأصيل؛ وما دامت الحقيقة تقوم في الموجود الإنساني، وما دام الحق - أي الانفتاح أو التفتح الأصيل - هو أسلوب وجود الموجود الإنساني، فلا بد أن نخلص من هذا إلى أن التصميم هو الحقيقة الأصيلة للوجود، وإذا عقد الموجود الإنساني العزم على الحياة المصممة، فقد وجد نفسه في الحقيقة الأصيلة.
قلنا إن هيدجر تناول مشكلة الحقيقة لأول مرة في كتاب «الوجود والزمان»، ثم توسع فيها بعد ذلك في دراسات ومحاضرات مختلفة، ولقد بدأ بحثه، كما رأينا، بالنظر في المفهوم التقليدي للحقيقة، وأرجع هذا المفهوم القائم على فكرة التطابق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل إلى تكوين الموجود الإنساني المتميز قبل كل شيء بالقدرة على الكشف والانفتاح على نفسه وعلى العالم، والقول بأن الموجود الإنساني «يكون في الحقيقة» لا يعني أن هناك حقائق تغرسها فيه قوى خارجية عنه، بل معناه أنه وجود-في-العالم منفتح بصورة دائمة على عالمه وكل ما يتصل به، ولا شك أن هذا الفهم الجديد للإنسان قد تجلى في فهم جديد مثله للحقيقة، وإذا كان هيدجر قد عزز رؤيته الجديدة بالتفسير الذي قدمه لبعض نصوص المفكرين اليونان المبكرين (أنكسمندر وهيراقليطس وبارمنيدز) إلى جانب تأويلاته لبعض نصوص أفلاطون وأرسططاليس، فلم يكن هذا مسألة عرضية، ولم يكن لونا من ألوان التأريخ الفلسفي، أو ضربا من ضروب الحذلقة اللغوية، لقد كان من الطبيعي أن يدخل في حوار مع أولئك الذين أسسوا الميتافيزيقا وأرسوا مناهج التفلسف وصاغوا مشكلاته التي لم تزل ملزمة للأجيال، وكان من الطبيعي أن يجد لديهم الأفكار التي كانت بمثابة العلامات على الطريق، ولا يملك أحد أن يغفلها أو يتنصل من واجب التفكير فيها.
وأخيرا فقد كان البحث في وجود الإنسان في «الوجود والزمان» مجرد تمهيد للسؤال الأساسي الذي لم يكف هيدجر عن إلقائه والتنبيه إليه، وهو السؤال عن معنى الوجود، ولهذا كان من الطبيعي أن يتناول مشكلة الحقيقة في نفس الكتاب بصورة مؤقتة، وأن يرجع إلى هذا الشطر الثاني من نواة تفكيره في بحوثه التالية، ولقد فعل هذا بوجه خاص في رسالته عن «ماهية الحقيقة» التي يتعين علينا الآن أن ننظر فيها لنرى ما أضافه إليها من جديد. (4-1) ماهية الحقيقة
كانت «ماهية الحقيقة» محاضرة ألقاها هيدجر في خريف وشتاء سنة 1930م في مدن ألمانية مختلفة، ثم أعاد النظر فيها وأضاف إليها الملحوظة الختامية قبل نشرها سنة 1943م، وإذا تذكرنا أن كتابه الأساسي «الوجود والزمان» قد ظهر سنة 1927م، وأن محاضرته الشهيرة «ما الميتافيزيقا?» قد صدرت سنة 1929م، أمكننا القول بأن «ماهية الحقيقة» هي أول عمل فلسفي بالمعنى الكامل يظهر بعدهما، ولعلنا لا نتورط في المبالغة إذا قلنا إنها من أهم أعماله الفلسفية.
والرسالة - كما سترى بنفسك! - من أصعب نصوص هذا الفيلسوف الذي يتهم دائما بالغموض والتعقيد والإسراف في نحت كلمات واشتقاقات غريبة على لغته نفسها! ولا شك أن الترجمة - بكل ضروراتها ومخاطرها - قد تزيدها غموضا على غموض، وقد لا تنجح في تذليل وعورة النص الذي يتسم بالكثافة والدقة والتركيز والإحكام، أضف إلى هذا أن الرسالة نفسها تمثل آخر مرحلة وصل إليها تصور الحقيقة عند الفيلسوف؛ ولهذا لم أجد بأسا من المقارنة بينه وبين تصوره السابق في «الوجود والزمان» أو تصوره اللاحق في رسالته عن «النزعة الإنسانية» وغيرها من دراساته ومحاضراته.
كان هيدجر في «الوجود والزمان»
129
قد عرض التصور التقليدي للحقيقة، وهو الذي يذهب إلى أن مكان الحقيقة هو الحكم، وأن ماهيتها هي التطابق بين هذا الحكم والشيء، ولكنه أكد - كما رأينا - أن هاتين القضيتين لا تمثلان الوضع الميتافيزيقي النهائي للمشكلة على نحو ما عرضها كبار الفلسفة الكلاسيكيين صراحة أو ضمنا في أعمالهم، كما أخذ يلح منذ ذلك الحين على أن المشكلة ما تزال في حاجة إلى المزيد من الشرح والتوضيح، وهي مهمة أخذ بها نفسه في الرسالة التي تجدها الآن بين يديك.
كان «الوجود والزمان» قد مهد الطريق وبين معالمه، ولكنه وقف عند مرحلة معينة حددتها خطة الكتاب وبنيته، ووصل إلى نتائج تعد من منظور هذه الرسالة نتائج مرحلية، حتى ليمكن القول إن الفيلسوف نفسه قد تجاوزها ورد بعضها أو تراجع عنه.
ويتفق «الوجود والزمان» و«ماهية الحقيقة» في أن تطابق الحكم والموضوع أو تطابق الموضوع والحكم لا يعبر إلا عن وجه واحد من وجوه المشكلة، فالقضية أو العبارة التي تحكم على قطعة نقدية بأنها مستديرة ليست هي نفسها شيئا مستديرا، ولا هي من المعدن الذي صنعت منه القطعة النقدية، وليس الهدف منها (أي من العبارة) أن تصبح هي الشيء الذي تعبر عنه، بل أن تكشف عن الحالة التي يكون عليها هذا الشيء، أي أن العلاقة المميزة للحقيقة (أو الصدق) - وهي علاقة التطابق أو التوافق - علاقة من هذا النوع، كما - هي - عليه.
ولكن كيف يصبح هذا النوع من التطابق ممكنا من الناحية الأنطولوجية؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا بالبحث في بناء الموجود الذي يصدر الحكم، والموجود الذي ينصب عليه هذا الحكم، وهذا يدل على أن هيدجر يدين كل تصور يرجع الحكم إلى مضمون «كامن» (أو مباطن ومحايث) في الذات التي تحكم، أي يدين كل تصور يرده إلى التمثل الذاتي،
130
وقد احتفظت رسالته عن ماهية الحقيقة بهذا المصطلح الأخير، ولكنها حافظت كذلك على معناه الاشتقاقي المباشر الذي يفيد المعرفة عن طريق «استحضار» الشيء المعروف أمام العارف أو إظهاره أمامه (وهو نفس المعنى الذي تنطوي عليه كلمة التمثل في العربية) ومعنى هذا مرة أخرى أن كلمة التمثل تستبعد فكرة التصور الذاتي التي نفهمها منها عادة، كما تستبعد فكرة البناء أو «التشكيل» الذي تقوم به الذات في فعل المعرفة كما يفهمه كانط وأتباعه من الكانطيين الجدد؛ ولهذا نرجو أن يلاحظ القارئ أن التمثل ليس له أي معنى نفسي، ولا يشير إلى أي فعل محدد من أفعال الوعي والشعور، وإنما يقصد به استحضار الشيء والدخول في مجاله والانفتاح على ظهوره وتكشفه قبل إصدار أي حكم عليه.
ونعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه: كيف تقوم هذه العلاقة؟ ما الذي يسمح بالتطابق بين الحكم والموجود الذي ينصب عليه هذا الحكم؟
إن إمكانية التطابق - كما يؤكد هيدجر في «الوجود والزمان» و«ماهية الحقيقة» على السواء - تتطلب قبل كل شيء أن يتكشف الموجود الذي أصدر عليه حكمي على النحو الذي يكون عليه، وأن تكون لدي القدرة على الكشف عنه في حالته هذه،
131
بهذا يقوم الحكم على الاتجاه أو «المسلك» الذي يهدف إلى الكشف عن الموجود، أو إلى «تركه-يوجد» كما تعبر الرسالة التي بين أيدينا، هذا الاختلاف في المصطلح يستحق منا وقفة قصيرة؛ فقد كانت مهمة «الوجود والزمان» - كما بينا فيما سبق - هي التمهيد للسؤال عن «معنى الوجود»، وإن كان الكتاب قد اقتصر أو كاد على تحليل الموجود الإنساني (أو الدازاين) ولم ينظر إلى غيره من الموجودات إلا من خلال هذا التحليل، وقد حاول هذا التحليل أيضا أن يثبت أن الإنسان يحيا على حالين أساسيين، أحدهما يميل به عادة إلى وضعه في موقف الوهم والزيف وعدم الأصالة بالقياس إلى نفسه، كما ينزع به بطريق غير مباشر إلى نفس الموقف بالقياس إلى الأشياء، ذلك أن أسلوب انفتاح الموجود الإنساني هو الذي يحدد مدى ما يقدر على استحضاره وتمثله، كما يقرر أسلوب هذا الاستحضار والتمثل.
وهذا هو الذي عبرت عنه كذلك ماهية الحقيقة في صراحة ووضوح، فإذا تكلمنا عن معرفة الموجود على ضوء اتجاه أو مسلك يتسم عادة بالتنكر والزيف والوهم، تحتم علينا أن نبين خصائص المعرفة الحقة التي تستحضر الموجود على ما هو عليه أو بالأحرى تحاول أن تكشف عنه.
تجاوزت رسالة هيدجر عن «ماهية الحقيقة» هذا التحليل الوجودي أو الأساسي، واتجهت مباشرة إلى تناول علاقة الموجود المعروف أو القابل للمعرفة بالبناء الأصلي للموجود الإنساني، هذه العلاقة الأصلية التي تربط الإنسان بالأشياء هي الموضوع الأساسي الذي تدور عليه «ماهية الحقيقة»، وهي في صميمها علاقة متعالية، تقوم على البنية التي يتميز بها الإنسان من حيث هو كائن متعال أو «متخارج» أو «متواجد» خارج نفسه مع الأشياء، فالأصل أن الإنسان موجود «بالقرب» من الأشياء؛ لأنه في الأصل موجود «متخارج» أو «متواجد»، أي موجود على الدوام «خارج» نفسه، على نحو ما يفسر هيدجر كلمة الوجود المألوفة في اللغات الأوربية الحديثة،
132
ولعلنا لا نجاوز الصواب إذا قلنا مع المترجمين الفرنسيين لماهية الحقيقة
133
إن فكرة «التخارج» أو التواجد قد حلت الآن محل فكرة «الوجود-في-العالم» التي عرفناها في «الوجود والزمان»؛ وقد يرجع هذا إلى أن الفكرة الأولى تؤكد معنى العلو أو التعالي بأكثر مما تفعل الثانية، صحيح أن هذه الفكرة الأخيرة قد بينت بوضوح أن وجود الإنسان-في-العالم لا يعني أنه موجود كسائر الموجودات - كأن يوجد مثلا «بجانب» البيوت والأشجار والبجع! - بل الأحرى أن يقال إنه «يحتوي» هذه الموجودات أو يضمها في بناء له طابع الإحالة؛ لأنه يكون دائما خارج نفسه وبالقرب منها، ولأنه بطبيعته «متخارج» أو «متواجد»، ولكن المهم بعد كل شيء أن «ماهية الحقيقة» قد جاءت لتؤكد أن الوجود-في-العالم أو التخارج هو العامل الأساسي المكون للحقيقة؛ ولهذا التأكيد معنى مختلف عن معناه في «الوجود والزمان»، فهو يدل على أن الإنسان من الناحية الشكلية هو مصدر الحقيقة؛ لأن بلوغ الحق يتطلب موجودا قادرا على الكشف، أي موجودا منفتحا غير منطو على نفسه أو منغلق بين جدرانه ذاته، يملك القدرة على أن يكون ذاته وأن يكون في الوقت نفسه خارج ذاته وبالقرب من سائر الموجودات، هذا الطابع الأنطولوجي المزدوج للحقيقة يقتضي موجودا متخارجا، ولا ينبغي أن نفهم من هذا أن الإنسان هو الذي «يخلق الحقيقة» أو «يصنع مضمون الأحكام الحقة التي يتصورها»، وهنا نصل إلى ملمح جديد يدل على تطور مفهوم الحقيقة في العملين الفلسفيين اللذين نشير إليهما، فقد ألح «الوجود والزمان» على أن خلق الحقيقة هو بمثابة إيجاد معنى لمشروعات «الموجود الإنساني»، فهذه المشروعات التي يستبق بها نفسه هي التي تتيح له انتشال الموجود من العدم والعماء الأصلي، لكن «ماهية الحقيقة» لا تبلغ هذا الحد من الغلو، فهي تنظر إلى الموجود في ذاته وتعترف بدلالته في ذاته، وفكرة الوجود (أو لنقل فكرة التخارج والتواجد) التي كانت تدل على الخاصية التي تجعل الموجود الإنساني يستبق نفسه في سعي متصل لتحقيق إمكاناته وتفسير الأشياء في عين الوقت، قد أصبحت الآن تدل على خاصية أخرى تختلف عن سابقتها اختلافا شكليا على الأقل، وتجعل الموجود الإنساني دائما بالقرب من الأشياء، كما تجعل للأشياء دلالة في ذاتها، صحيح أن الوجود والفهم لا يزال لهما نفس المعنى، ولكن الكلمة التي تؤكد المعنى المشترك لم تعد هي «الاستباق» أو إلقاء الموجود الإنساني بنفسه في مشروعاته، بل أصبحت هي الانفتاح على الموجود بوجه عام.
وهنا نستدرك فنقول أن فكرة «المشروع » التي اختفت حروفها من النص الذي سأقدمه لك، لم تغب روحها عنه تماما، فهي الآن منطوية في فكرة الخضوع للموجود أو تركه يوجد ويكون، وهي كذلك متضمنة في القول بأن الإنسان لا يبلغ من الحقائق إلا ما ينفتح عليه عن طريق «مسلكه»، ويبقى بعد كل شيء أن هذا النص يبرر الرأي الذي ذهب إليه الفيلسوف في كتابه الأكبر
134
من أن الموجود الإنساني هو الذي يكون الحقيقة بفعله الكاشف - ولا ريب أن العبارة الأخيرة ظلت مطوية في ضباب الغموض حتى جلتها «ماهية الحقيقة» ورفعت عنها النقاب.
قس على هذا قضية أخرى أشار إليها «الوجود والزمان» ثم جاءت «ماهية الحقيقة» فأضفت عليها معنى مختلفا، ونقصد بها القضية التي تحدد حقيقة وجودنا بالقدرة على جعل الحقيقة ممكنة، فالكشف عن الموجود على ما هو عليه وفي كليته - وعلى هذا الكشف وحده تقوم كل حقيقة أساسية - يرتبط ارتباطا مباشرا بالمسلك الذي يسميه هيدجر «ترك-الموجود-يوجد».
هذا المسلك وحده هو الذي يقينا السقوط والتورط في اتخاذ الموجود الجزئي مقياسا لكل وجود، وهو أمر نتعرض له على الدوام في حياتنا اليومية وتصرفاتنا العملية، ولهذا فلن يتسنى لنا الكشف عن الموجود في كليته ولا القرب من حالته التي هو عليها إلا بقدر ما نبتعد بأنفسنا عن الموجود الجزئي ونحميها من الانغماس فيه.
كان نيتشه يتمنى أن يتحقق الحلم القديم الذي تعبر عنه هذه الكلمة القديمة: «كن أنت نفسك»
135 - وها هو ذا هيدجر يواصل السعي إلى تحقيق الذات الأصلية بغية تحقيق الوجود الأصيل، وليست القدرة على إقامة الحقيقة - أي على الوجود خارج الذات وبالقرب من الموجود على ما هو عليه وفي كليته - سوى تأكيد لحقيقة وجودنا الخاص الذي حدده من قبل تحديدا دقيقا ووصفه بأنه تواجد أو تخارج، هكذا استطاع الفيلسوف أن يقرر - دون لبس أو غموض - أن الحقيقة موجودة لأنني أوجد الوجود الحق أو لأني أكون أنا نفسي. •••
يحسن بنا قبل الحديث عن مضمون الرسالة أن نلقي بعض الضوء على كلمة «الوجود» التي يوشك هيدجر أن يكررها في كل سطر يكتبه! إن اللغات الأجنبية تورد الحرف الأول منها مكبرا، وهو أمر يأباه الرسم العربي، ولا بد لنا على كل حال من التمييز بين الوجود والموجودات، فكل ما يوجد أو يكون، كل موجود أو كائن له وجود، بهذا المعنى نتحدث عن وجود الإنسان والحيوان والمعدن والنبات، إنها جميعا موجودة أو كائنة، كلها موجودات، والذي يجعلها موجودات ليس هو نفسه موجودا، وإنما هو «الوجود»، أي أن الوجود هو الذي يسمح لجميع الموجودات أن توجد ويكون لها وجود هو وجودها، هذا الوجود هو الوجود الأول، الأصيل، أو إن شئت فهو الوجود العام أو الوجود بإطلاق،
136
كما يؤثر هيدجر أن يعبر عنه، وبغير هذا الوجود لن يتسنى لنا أن نجرب أي موجود.
ربما تصورنا من هذا الكلام أننا نحيا في أفقه ومجاله كلما التقينا بالموجودات، غير أن الأمر الغريب حقا هو أننا ننغمس عادة في بحر الموجودات ونتشتت بينها، بحيث يندر أن يكون الوجود ماثلا في منظور رؤيتنا حين نرى الموجودات أو نتصل بها في حياتنا اليومية، تؤكد هذا عبارة هيدجر التي يقول فيها إن الإنسان ليتشتت في الموجود بحيث يستغرق فيه ويفقد نفسه، وهو لذلك لا ينتبه إلى الوجود أدنى انتباه،
137
إن الإنسان يتصور أن الموجود هو الذي يؤدي إلى الوجود، ويضيف هيدجر إلى هذا قوله: «إنه لا يهتم بالموجود الذي يصل إليه إلا من جهة تحديداته أو تعيناته لا من جهة أنه «يوجد» أو «يكون»، وهو يكتفي بالنظر إليه من حيث هو شيء يكتفي بتنظيمه وترتيبه ووضعه في شبكة من العلاقات ، الإنسان الغارق في حياته اليومية لا يكترث بوجود الأشياء، ولا يعنيه أن تكون مؤسسة على «الوجود»، إن كل همه واهتمامه موجه إلى الموجود، أما الوجود نفسه فهو غريب عنه، إنه الزمن السيئ، والزمن السيئ يكفينا، أما «وجود» أو «كينونة» هذا الزمن فلا وزن لها عندنا، ذلك هو الاسم الذي نخلعه على الوجود، ونتصور أنه يجعل كل موجود «يوجد» بحيث يختلط - بتسميته نفسها - مع التحديدات والتعينات التي تقوم عليها العلاقات المتبادلة في نشاطنا العادي، بيد أن كل سلوك بشري يعمل على اندلاع شرارة هذه النقيضة التي تقوم على معرفة الإنسان للموجود ونسيانه للوجود، إنه يتقدم بخطى حثيثة نحو الموجود، ولكنه لا يبلغ من نفسه أن يركز على الوجود ذاته.» لا ريب في أن هذه العبارات - التي لا يفتأ هيدجر يكررها بصورة مختلفة في كتاباته المتأخرة - لا يمكن أن تفهم إلا في سياقها العام، ولكنها قد تنجح على كل حال في الوفاء بالغرض الذي نقصده منها، وهو إلقاء شيء من النور على معنى كلمة «الوجود» التي نخشى أن تلتف حولها الظلمات من كل ناحية. •••
لعل من المفيد أيضا قبل الدخول في «متاهة» الرسالة نفسها أن نلقي بعض الضوء - والضوء أو النور أو الإنارة هي كلمة هيدجر الأخيرة فيما يبدو! - على كلمات تتكرر كثيرا على صفحاتها وتكاد توحي بقرب هيدجر من «ملكوت» التصوف والإشراق والروحانية، وإن كان هو نفسه يصر على رفض هذا الظن كل الإصرار، فهل يسمح تكرار كلمات الكشف والانكشاف في هذه الرسالة أن نلجأ إلى الاستعارة الديكارتية القديمة عن «النور الفطري» التي وردت لأول مرة عند شيشرون في كتابه عن العقل البشري، ثم أضاف إليها أوغسطين وبونافنتورا وأصحاب الإشراق في القرنين السابع عشر والثامن عشر النور العلوي ليكون شرطا للمعرفة الحقة؟ ربما جاز لنا القول بأن «الموجود الإنساني» قد أصبح عند هيدجر نوعا من النور الفطري أو الطبيعي، وليس معنى هذا أن الإنسان هو الذي يخلق المعنى ويوجد الحقيقة، بل معناه أنه يقوم بدور الكشف (بالمعنى الذي فهمه أصحاب الكيمياء من هذه الكلمة!) لأنه هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على التواجد، وبهذا يضفي على نفسه المعنى الكامن في كل الموجودات.
قلنا إن الانصراف إلى الموجود الجزئي في غمرة الحياة العملية يحمل معه نذير السقوط والزيف، ومع ذلك فيجب ألا ننسى أن هناك علاقة جدلية قائمة بين معنى الوجود الجزئي ومعنى الوجود في كليته، وإذا كانت حياتنا اليومية والعملية واقعة تحت رحمة الموجودات الجزئية، عاطلة من القدرة على الكشف بمعناه الصحيح، فهي مع ذلك تظل محتفظة بعلاقة ضمنية تصلها بالوجود في مجموعه، ولعل من أعجب سمات الوجود الساقط في الزيف والضلال أنه يسعى بكل جهده لنسيان هذه العلاقة أو تناسيها، ويدع الموجودات الجزئية تتحكم فيه وتسيطر عليه بحيث يتوه بينها ويضيع، والغريب حقا أنه ينجح في محو هذه العلاقة الأصيلة أو نسيانها تمام النسيان! والأغرب من هذا أن الموجود الجزئي نفسه يقتص منه فيخفي عنه معناه الحق؛ لأن هذا المعنى لا يمكن أن ينكشف للإنسان الغارق في دوامة الحياة اليومية وضروب النشاط العملية حتى ينظر إلى علاقته الجدلية بالموجود في كليته نظرة الاعتبار، ولعل هذا أن يؤكد لنا أن الأصالة - أي «ترك-الموجود-يوجد» في كليته وعلى حاله التي يكون عليها - هي الشرط الذي لا غنى عنه للتكشف والانكشاف.
كل ما قلناه الآن يفرض علينا أن ننظر إلى مشكلة اللاحقيقة نظرة أصيلة، فالرأي التقليدي الشائع عن اللاحقيقة يتصورها على معنى الخطأ وعدم الصواب، أي ينظر إليها كأنها على الوجه العكسي الآخر من التطابق والاتفاق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل، غير أن اللاحقيقة بمعناها الأصيل تختلف عن هذا كل الاختلاف، إنها الوجه الجدلي المقابل للحقيقة، وترتبط بالحقيقة الأصلية أو الأساسية في وحدة ماهوية أصيلة، فإذا صح ما قلناه من أن الحقيقة لا تكون إلا في وجود الموجود، وإذا كنا لا نصل إلى وجود الموجود إلا من خلال التقابل الجدلي بين الموجود الجزئي والموجود الكلي، فإن من الصحيح أيضا أن يكون تكشف أحدهما ملازما لتحجب الآخر، أي ملازما للاحقيقة، غير أن هذه اللاحقيقة المبدئية المحتومة يمكن أن تنقلب بدورها إلى صورة من الصور العابرة للاحقيقة (والخطأ بمعناه الشائع في أسلوب المعرفة هو إحدى هذه الصور)، ويتم هذا التشوه أو هذا الانقلاب نحو اللاحقيقة عندما يتراخى التوتر الجدلي الذي أشرنا إليه، وينغمس الموجود الإنساني انغماسا تاما في أحد طرفي التوتر الذي أشرنا إليه وينسى الطرف الآخر كل النسيان، والواقع أن هيدجر لا يعنى في هذه الرسالة إلا بوجه واحد من وجوه هذا النسيان، وهو الوقوف عند الموجودات الجزئية والانصراف إليها، ويرى في ذلك خطرا كبيرا يهدد الحضارة الغربية، وقد كان حريا به أن يلتفت إلى خطر آخر لعله لا يهدد هذه الحضارة بنفس الصورة الملحة لأنه لا يزال بعيدا عن القلوب والأذهان؛ ألا وهو خطر الهروب الكامل من الموجود الجزئي إلى ضباب «الكلية» والتعميم والخيال والصوفية السلبية، والأحلام الرومانسية التي تكون فيها كل الأبقار سوداء (على حد تعبير هيجل!) وهو خطر طالما تعرضنا له في الشرق وطالما خلعنا عليه أسماء رنانة كالزهد والمثالية والتفاني في سبيل المبادئ الخالدة! ولعل الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل ليفيناس قد تنبه أيضا إلى هذا الخطر فوجه فلسفته كلها من الوجود إلى الموجود (كما يقول عنوان أحد كتبه وكما يتكشف له في الوجه الإنساني) فقلب البناء الهيدجري كله على رأسه! مهما يكن من شيء فإن مشكلة-اللاحقيقة، شأنها في هذا شأن مشكلة الحقيقة التي لا تنفصم عنها، قد تطورت في هذه المرحلة من تفكير هيدجر بعد مرحلة «الوجود والزمان»، ولا عجب في هذا بطبيعة الحال، فقد اتسع نطاق الإشكال الذي يؤرقه منذ ذلك الحين واشتدت محنته وبعدت أعماقه. •••
يعرف قارئ هيدجر أن كتاباته ورسائله ومحاضراته تتميز بالبناء الشكلي المحكم، كما يعرف أيضا أن الإلمام بهذا البناء أمر لا غنى عنه لفهم مضمون النص والنفاذ إلى أغواره، وتلمس الطريق الذي يهديه في متاهاته ويصل به إلى لحنه الأساسي الذي تشبه جميع الأنغام أن تكون تنويعات عليه، وهنا تطل علينا مشكلة الدور المشهور الذي يأخذه عليه الشارحون، أضف إلى هذا أنه كثيرا ما يلجأ إلى ما يسميه المناطقة بالمصادرة على المطلوب؛ إذ يفترض صحة النتيجة في بداية البحث ثم يحاول ما وسعه الجهد إثباتها والبرهنة عليها! ولهذا نجد من يسارع باتهامه بالمغالطة أو التحايل على الكلمات أو التعسف في الاشتقاقات أو لوي أعناق النصوص أو الغموض والإرباك المتعمد، ولعل خير السبل لإنصاف الرجل والبعد عن مزالق الاتهام هو محاولة فهمه «من الداخل»، وهذه ضرورة يفرضها أسلوبه في الكتابة والتفكير واستخدام المصطلحات، فكلمات كالحرية أو الوجود أو الحقيقة تكتسي على يديه ثوبا مختلفا عن ثوبها الذي تعودنا عليه أو تعلمناه من التراث، ولو أصررنا على قراءتها بمنظار معانيها التقليدية، لكانت النتيجة الوحيدة هي الوقوف على بابه وقفة الشحاذ أمام قصر الأمير أو الريفي في محطة المدينة أو الكافر على باب الجنة! ولا بد لنا للنجاة من هذا المصير من السير خطوة خطوة في داخل المتاهة، وتلمس الخيط الهادي الذي أنقذ ثيسيوس من فم الوحش الخرافي «القنطور»، وعرض أفكاره وتأملاته ومراحل استدلاله في صبر وأناة.
نود قبل كل شيء أن نشير إلى الروح السقراطية التي تتغلغل في ثنايا هذه الرسالة وتبث الحياة والحركة الجدلية في بنيتها، وتشد حلقاتها وتتجاوزها في آن واحد، ولعل السباحة في تيار هذا الجدل الحي أن تكون أهم من الوقوف عند نتائجه؛ لأن النتائج لا تكتسب معناها الحق إلا من أنفاس التطور الذي يحركها وينفخ فيها شعلة الحياة، والأمر يعتمد بعد كل شيء على الدخول في دائرة هذا الفكر والتحرك في مجاله والحوار مع إشكالاته والمشاركة في محنة السؤال ولو كلفنا العمر كله! ولا بد في النهاية من أن نثب الوثبة التي تحتمها علينا مخاطرة اللقاء مع كل فكر جاد!
والواقع أن التمهيد الذي وضعه هيدجر لهذه الرسالة يدور حول الإعداد لهذه الوثبة، فهو يؤكد منذ البداية أن السؤال ينصب على ماهية الحقيقة لا على «الحقائق» المألوفة، عملية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو علمية أو دينية أو فنية، وهو يدعونا للخروج من دائرة التفكير اليومي الساذج ، والنظر إلى مشكلة الحقيقة نظرة جديدة مختلفة كل الاختلاف عما تعودت عليه عيون «الحس السليم» (الفهم العام أو الذوق الفطري)، هذه مسألة أساسية لا يفتأ ينبهنا إليها منذ البداية، بل إننا لا نكاد ننتهي من قراءة هذا التمهيد حتى نشعر أن هذا الحس السليم، أو ما شئت له من أسماء، هو أعدى أعداء الروح الفلسفي، إنه ضيق الأفق، معصوب العينين، عاجز عن العلو إلى الأسئلة الأخيرة أو الغوص في أعماقها، مطمئن إلى القريب المحسوس الذي يلمسه أو يقبض عليه بكلتا يديه، وهو إلى هذا كله عنيد مكابر، متشبث بحصنه الحصين في داخلنا، ومن أصعب الأمور أن نطرد شيطانه المقيم في نفوسنا مهما تذرعنا بالرقي والتمائم ونثرنا البخور والأدعية لإخراجه من قمقمه!
صحيح أن الحس السليم كامن فينا جميعا، وأننا لا نستغني عن الرجوع إليه في شئوننا العملية واليومية، وصحيح أيضا أن له فلسفته التي يستند إليها، وإن تكن هذه الفلسفة قد تجمدت مع الزمن وانطفأت فيها شرارة الاندهاش، بل إن هناك فلسفات مشهورة تقوم عليه منذ القدم، ابتداء من السفسطائية والتجريبية حتى فلسفة مور التحليلية وغيرها من الفلسفات الوضعية، وليس من الصواب أن نهون من شأن هذه الفلسفات أو نتعالى عليها، فقصة الصراع بين الفلسفة والحس السليم مستمرة منذ عهد أفلاطون حتى عهد هيجل ونيتشه، ولكن المشكلة أن التفلسف الحق لا يبدأ أولى خطواته حتى يكافح هذا الحس السليم الرابض في أنفسنا ويتغلب على النزوع الطبيعي - أو الموقف الطبيعي بتعبير هسرل - الذي يسلم بالوجود ببساطة ويهرب من مشقة البحث في الماهيات والعودة للبدايات، ويضيق بالسؤال ويتجنب الإشكال، ويصر دائما على أن كل شيء واضح مفهوم وعلى ما يرام!
هكذا يبدأ هيدجر رسالته باستبعاد «الحقائق» المألوفة التي لا تتصل بماهية الحقيقة، وبيان العقبات التي تحول دون التفكير في مشكلتها تفكيرا جديرا بالنظر الفلسفي، وهي عقبات يضعها «تفكير» الحس السليم أو الفهم العام الذي يتحتم علينا أن نبدأ بقهره والعلو عليه إلى مستوى فكري آخر لا ينفر من البحث في الماهية ولا يفزع منه! وتحديد الماهية أمر عسير محفوف بالصعاب، فليست الماهية بالطبيعة الماثلة على الدوام في أفق تفكيرنا ومعرفتنا، وإنما هي الطبيعة الخافية التي لا تكتشف بغير الجهد الجهيد، يبذله فكر اختار أن يرتفع فوق يقين الحس السليم وبداهة الحياة العملية، هكذا يدفع هيدجر الإشكال ويحرك السؤال، إنه يثير الاعتراضات الممكنة من جانب «الفكر» اليومي على جدوى البحث عن الماهية، فهذا «الفكر» الذي يزعم أنه يصدر عن حس سليم (لم يقصر هيدجر في الاعتراف به وبيان ضرورته ولا قصر في اتهامه بالعمى والصمم!) يدعي أن الأمور التي يغفلها السؤال عن الماهية هي بعينها الأمور الواقعية التي يجب أن تبقى بمنجاة من الشك، أي هي الأمور التي تتصل بحقيقة الحس السليم نفسه! والحس السليم «يؤكد حقه بالسلاح الوحيد الذي يملكه، وهو الإهابة ببداهة دعاويه واعتراضاته»، ولا جدوى من دخول الفلسفة في جدال معه؛ لأن كل جدال يفترض أساسا مشتركا بين الطرفين، وهذا الأساس لا وجود له على الإطلاق، كما أن البحث في حقيقة الحس السليم نفسه يستلزم النظر في ماهية الحقيقة من حيث هي كذلك، أي الحقيقة التي ينبثق عنها كل ما يحمل صفة الحق أو يدعيه لنفسه، فالحس السليم مدان في كل الأحوال.
ولكن هل نحن أبرياء من هذا الوزر الذي يتحمله الحس السليم؟ ألسنا نحن أيضا على مستواه؟ إن الفيلسوف يتجه إلينا بالسؤال حتى نصبح نحن السائل والمسئول، ولن يتسنى لنا أن ننصت لصوته أو ننتبه لتحذيره حتى ننتشل أنفسنا من براثن الحس السليم، وندير ظهورنا لجنته الزائفة، ولن نبلغ هذا حتى نشعر بالمحنة، حتى نعرف أنا نحن الممتحنون. •••
بعد التمهيد للسؤال وإيقاظ شعلة الإشكال يبدأ الفصل الأول بالحديث عن التصور الشائع عن الحقيقة، هذا التصور الشائع - كما يفهم من اسمه - يعلن عن نفسه بنفسه كأنه أمر بدهي، ولكن جذوره ممتدة في أرض التراث الفلسفي منذ العصر الوسيط الذي يمتد بدوره إلى بعض العبارات المأثورة عن أرسطو، ورجعة هيدجر إلى التراث لا تعني أنه سيتناول المشكلة تناولا تاريخيا، فما كان في يوم من الأيام مؤرخا للفلسفة بالمعنى المألوف من هذه الكلمة، إنه يلتمس من التاريخ والتراث «شهادة»، ويستمد منهما دليلا على معنى الحقيقة المتأصل في نفوسنا جميعا.
ما هو تحديد الفكر الشائع بين الناس لمعنى الحق؟ إنه التوافق والصحة، وهو التطابق والصواب، علام يقوم هذا التحديد؟ يقوم على تحديد أسبق منه تكون عند المدرسيين في العصر لوسيط، ليس الأمر وليد الصدفة، ولا هو شيء نقصد به الموازنة التاريخية ، فالواقع أن هذا التصور الشائع لم يكن تصورا متعسفا منبت الجذور عن الماضي، إنه نتيجة تمخضت عن تفسير قديم لوجود الموجود، وإذا كان هذا التفسير قد نسي أو أصابه الوهن وسوء الفهم، فإنه لم يفقد مع ذلك أثره القوي على تفكيرنا وحياتنا اليومية، نحن جميعا - عن قصد أو غير قصد - نفهم الحقيقة بمعنى التطابق، ولكننا ننسى أصله اللاهوتي في تفكير العصر الوسيط، وقد ننسى كذلك عبارة القديس توماس الأكويني التي ختمت على هذا الفهم بخاتمها المعروف: «الحقيقة هي تطابق الشيء مع العقل»، وقد يرجع البعض بهذا الفهم اللاهوتي لمعنى الحقيقة إلى أرسطو، فيجعل من الحكم مكان الحقيقة، ويتصور هذه بمعنى تطابق الحكم مع الشيء الذي نحكم عليه، ولكن هل نظلم أرسطو وننسب إليه شيئا لم يقله، أم نأخذ منه رأيا دون رأي؟ لقد أشار هيدجر نفسه إلى هذا في «الوجود والزمان»،
138
حين قال: «ليس الحكم هو الموضع» (أو المكان) الأصلي للحقيقة، وإنما الحكم - بوصفه أسلوب امتلاك لما يكتشف ونحوا من أنحاء الوجود-في-العالم - هو الذي يقوم على فعل الكشف، أي على الانفتاح الكاشف للموجود-الإنساني، وهيدجر يعزز هذا المعنى فيشير إلى أهمية كتاب الثيتا (الكتاب العاشر)
139
من الميتافيزيقا لأرسطو، وهو الذي يقدم فيه المعلم الأول تصورين مختلفين عن الحقيقة: الحقيقة بوصفها كشفا،
140
وبوصفها تطابقا،
141
والمهم ألا يغيب عن بالنا أن كلام هيدجر في هذا الفصل بضمير المتكلم الجمع لا يعبر عن رأيه الشخصي، وإنما يؤكد تأثير هذا التصور العام الذي ينبغي تجاوزه. •••
بعد العرض الأولي لتصور الحقيقة بمعنى التطابق (أو التوافق والتكافؤ) يأتي دور الفصل الثاني لتوضيح هذا التطابق نفسه، وبيان دلالته العميقة من وراء معانيه المختلفة، ثم الإجابة على هذا السؤال البسيط الذي سيؤدي بنا إلى قلب المشكلة: كيف يصبح هذا التطابق ممكنا؟ والحق أن الإجابة على هذا السؤال الأساسي هي التي ستلقي الضوء الغامر على مشكلة الحقيقة بأكملها: الحقيقة هي الانكشاف أو اللاتحجب من صميم الاحتجاب لكائن تقوم ماهيته على مسلك الانفتاح لنورها.
هل نفهم من هذا أن هيدجر يرفض مفهوم الحقيقة بمعنى التطابق أو يتحفظ في قبوله؟ الواقع أنه لا يرفضه، وإنما لا يرجع به إلى «أساسه» الأول الذي يجعله ممكنا، وهذا شيء لمسناه وكررناه أكثر من مرة.
يرى هيدجر أن توافق الحكم أو تطابقه مع الشيء هو نوع من «التكافؤ»، ولا يعني هذا أن الحكم يريد أن يجعل من نفسه شيئا (فالعبارة أو القضية التي تحكم على القطعة النقدية بأنها مستديرة لا يمكن - كما قدمنا - أن تصبح هي نفسها قطعة نقدية!) بل معناه أنه يتخذ بالقياس إلى الشيء علاقة من نوع خاص، هي علاقة نعبر عنها بقولنا: على ما هو عليه أو من حيث هو كذلك، والتمثل أو الاستحضار هو جوهر هذه العلاقة، والتمثل هو «جعل الشيء يوضع أمامنا بوصفه موضوعا»، أو التعبير عنه بما هو كذلك وبحالته التي يظهر بها، والشرط الذي يعتمد عليه التمثل هو أن يوضع الكائن القائم بالتمثل في «النور» الذي يتيح للشيء أن يظهر له، هذا الشيء المتمثل يتحتم عليه أن «يقطع أو يتخلل مجالا مفتوحا في مواجهتنا»، فالكائن الذي يقوم بالتمثل يملك القدرة على «التخارج»، على وضع نفسه في مجال المواجهة، على «الاستحمام» في ضوء هذا المجال، وكل هذا يسميه هيدجر «بالانفتاح»، هذا الانفتاح «مسلك»؛ لأن الإنسان الذي يضع نفسه في مجال المواجهة لا بد أن يواجه شيئا سبق له الظهور من قبل، ولا بد له بصورة أو بأخرى من أن يقف معه موقفا أو يسلك منه مسلكا.
لا يخطرن ببالنا أن هذه نسخة جديدة من التصور التقليدي للحقيقة، فالفيلسوف ينتقل الآن من مفهومي التطابق والتكافؤ المعروفين إلى مفهوم آخر جديد لا غنى عنه لإمكان قيامهما، ألا وهو المفهوم الذي أطلق عليه اسم «الانفتاح»، بهذا يتجاوز التصور التقليدي الذي جعل الحكم مكان الحقيقة، كما يتغلب في نفس الوقت على الصعوبات التي واجهتنا في ختام الفصل الأول.
غير أننا لم نفرغ بعد من كل الصعوبات! فعلينا أن نخطو خطوة أبعد لنعرف ما هو الأساس الذي تقوم عليه الإمكانية الباطنة لانفتاح المسلك، أو ما الذي يجعل المسلك يتخذ الموجود معيارا لأفعاله، صحيح أن الإنسان منفتح بطبيعته على الموجود، ولكن ليس يلزم عن هذا أنه مستعد بطبيعته للخضوع له واختياره معيارا يهتدي به في أفكاره وأفعاله، ما السبب في هذا؟ ومن أين تتأتى له هذه الإمكانية الباطنة؟ •••
الفصل الثالث يتولى الإجابة على هذين السؤالين، محاولا تفسير هذه الإمكانية وبيان الأسباب التي حددت ماهية الحقيقة وقصرتها على توافق الحكم أو تطابقه مع الشيء، على نحو ما رأينا في التصور التقليدي الذي تقدم الحديث عنه، وهيدجر لا يرفض هذا التصور كما قدمنا، ولكنه يوضح كيف انتهى - على الرغم من قصوره البين - إلى الظهور في صورة التعبير الكامل عن ماهية الحقيقة.
إن ما نسميه بالتطابق أو التوافق بين الإنسان والموجود الذي يتمثله لا يتحقق حتى «يحرر» الإنسان ليكون أهلا للدخول في المجال المفتوح الذي يمكن من خلاله أن يتم ظهور ما يظهر له، بيد أن الإنسان لا يمكنه أن يحرر نفسه إلا إذا كان حرا: «إن انفتاح المسلك، وهو الذي يجعل التوافق ممكنا من الناحية الباطنة، يقوم على أساس الحرية، إن الحرية هي ماهية الحقيقة.»
هذا أمر طبيعي لا شك فيه، ولكن ألا نبعد بهذا عن دائرة التصور المألوف عن الحرية والتحرر؟ ألا نسيء فهم العبارة السابقة إن حاولنا أن نفهم الحرية بمعناها التقليدي من حيث هي حرية القبول أو الرفض، والسلب أو الإيجاب، والفعل أو عدم الفعل؟ ألا تختلط الأمور في أذهاننا، وتقحم الحرية في مجال الحقيقة الذي يبدو غريبا عنها كما تبدو غريبة عنه؟ وكيف تخضع الحقيقة للتعسف والهوى والذاتية؟ لا بد إذا أن نفهم الحرية فهما آخر يختلف عما درجنا عليه أو تعلمناه، وهذا هو الذي يتصدى له الفيلسوف في الفصل الرابع من رسالته. •••
ما الحرية؟ سؤال ضخم، ولكنها ليست مقطوعة الصلة بماهية الإنسان، وإذا كان التصور الشائع عنها يجعلها خاصية من خصائص الإنسان، بحيث يملكها ولا تملكه، فإن علينا أن نبين الارتباط الأساسي بين الحقيقة والحرية ونبحث ماهية الإنسان بحثا يضعنا في المجال الذي تفصح فيه الحقيقة بصورة أصيلة عن ماهيتها.
ألا نلمس هنا نوعا من الدور المنطقي؟
ألم يكن الفيلسوف يريد أن يفسر ماهية الحقيقة فإذا به يقرر فجأة أن ماهية الحقيقة هي الحرية؟! وحين سألناه: وما الحرية؟ إذا به يفسرها عن طريق ماهية الحقيقة التي يزعم أنها أشد منها أصالة؟
سيبقى هذا الدور قائما ما بقيت نظرتنا إلى تفكير الفيلسوف نظرة تحليلية تهتم بالعزل والفصل، والقسمة والتمييز، ولو نظرنا إليه نظرة كلية توحد بين خطواته ومراحله لاختفى الدور الذي توحي به عبارته.
يؤكد هيدجر - بأسلوبه المعهود الذي لا يخلو من التقرير قبل الأوان! - إن ماهية الحقيقة هي الحرية، ومعنى هذا أن الانفتاح لا يقوم إلا على الحرية، ولكننا من ناحية أخرى لن نفهم معنى الحرية حتى نتجه ببصرنا إلى ماهية الإنسان بحيث نجد أنفسنا في «المجال الذي تفصح فيه الحقيقة عن نفسها» وتحضر بنفسها حضورا أصيلا، بهذا يمتنع الدور لامتناع الاستدلال، فماهية الحقيقة لن تكون نتيجة برهان ولا ثمرة استنباط، وإذا كان الفيلسوف يفكر بطريقة «لولبية» ترتب شيئا على شيء، فإنما يفعل ذلك لكي يمهد «لتجربة» الحقيقة ويعدنا «لرؤيتها».
ما هي إذن الماهية «الأصلية» للحقيقة التي نصفها عادة بالثبات والبقاء وتقول إن حقيقة الحكم تقوم عليها؟ لا بد من إلقاء الضوء على هذه الحقيقة لكي يتسنى لنا بعد ذلك أن نفهم معنى الحرية.
ليست الحقيقة في صورتها الأصيلة من صنع العقل، إنما هي ذلك الذي قصده اليونان في فجر الفكر الغربي عندما أطلقوا اسم الحقيقة على تكشف الموجود أو لاتحجبه (أليثيا )،
142
على ضوء هذا المعنى الأصلي للحقيقة يمكن أن تفسر الحرية بأنها هي «ترك الموجود-يوجد»،
143
و«هبة النفس للموجود»، بنفس المعنى الذي نقصده حين نقول عن إنسان إنه يهب نفسه للخير، الحرية إذا هي التي تجعل الإنسان «يهب نفسه للمنفتح-وانفتاحه»، وهو لا يحقق معنى الحرية - أي لا يترك الموجود يوجد - إلا إذا «تعرض» للموجود، على نحو ما يتعرض لدفء الشمس أو تقلبات الطقس، والتعرض هنا يساوي القول بالوجود على نحو يكون فيه الإنسان خارج نفسه بالقرب من ... أي هو التخارج أو التوجد، فإذا نظرنا إلى ماهية الحرية على ضوء ماهية الحقيقة كانت هي التعرض للموجود من حيث إنه بطبيعته يكشف عن نفسه أو «ينكشف»؛ ولهذا فإن الإنسان الذي يفتقد الحرية (أي الإنسان المنغلق على نفسه، العاجز عن الخروج منها والقرب من غيره، وبالتالي من ذاته) لا يملك القدرة على هذا التعرض، أي لا يوجد على الإطلاق.
بهذا التعرض - الذي يتيح للموجود نفسه أن ينكشف - يعبر الإنسان عن انفتاحه ويؤكد «إنيته»، وانفتاح الإنسان أو تواجده هو الذي يسمح للموجود أن يوجد على ما هو عليه وفي كليته (وهو ما فعله أول إغريقي نطق بهذا السؤال: ما الموجود؟) ولهذا فإن الحيوان لا يوجد بهذا المعنى ولا يشارك في أية كينونة أو حضور، لأنه عاجز عن «التواجد» بالمعنى المشار إليه، أما الإنسان فهو وحده الذي يدعو الوجود إلى الوجود، أنى اتجه ببصره أيقظه من سباته وغمره بنوره «لأنه بطبيعته وبحكم وجوده-في-العالم هو الكائن المنار والمنير».
144
هكذا يتضح ما قلناه من قبل من أن الحرية ليست شيئا يملكه الإنسان ويتصرف فيه على هواه، وإنما هي التي تمتلكه، إنها تؤسس علاقته بالوجود، وهذه العلاقة هي التي تؤسس التاريخ، فالتاريخ يبدأ بالوجود (أو الحضور)، والوجود يبدأ بالموجود الذي يتخارج أو يتواجد؛ لهذا لا يعرف الحيوان شيئا عن التاريخ ولا يمكنه أن يكون كائنا تاريخيا، وما السبب؟ لأنه يفتقد العلاقة التي ذكرناها بالموجود؛ لأنه لا ينفتح عليه ولا يتعرض لانكشافه.
بهذا يصبح الحديث عن الحقيقة الأصلية بحثا تاريخيا بالضرورة، بل يصبح بحثا عن أصل التاريخ، بل عن لحظة ابتدائه، عندما تتفتح الإنسانية على حقيقة الوجود كله وتتجه إليها وتلتزم بها وتصونها وترعاها، في هذه اللحظة نفسها عرف اليونان أن الموجود هو «الفيزبس» (الكينونة المتفتحة النامية) وبها بدأ تاريخ الغرب.
بيد أن الإنسان قد لا يترك الموجود يوجد في كليته وقد لا يتمثله أو يلتزم بحقيقته، بل نراه «يغطيه» ويزيفه ويشوهه، عندئذ ينتصر «المظهر» الخداع وتسود اللاحقيقة، عندئذ تنشأ مشكلة اللاحقيقة، لا على المعنى الذي يفهم عادة من أنها مسألة ثانوية لاحقة لمشكلة الحقيقة، كأن تكون نتيجة مترتبة على الخطأ كما يتصور الحس السليم، أو على الغفلة وعدم الانتباه إلى بساطة الحقيقة وتميزها، كما يتصور إسبنوزا، بل بمعنى ارتباطها الأساسي بالحقيقة، وكونها خطوة حاسمة على الطريق المؤدي للكشف عن طبيعة الحق: «ولهذا فإن السؤال عن ماهية الحقيقة لا يصل إلى مجاله الأصلي إلا إذا استطاع كذلك - من خلال النظر المسبق في الماهية الكاملة للحقيقة - أن يضم التفكير في اللاحقيقة إلى أفق تكشف الماهية»، من هذا المنظور الجديد يبدأ الفيلسوف دراسة ماهية الحقيقة في الفصل الخامس من رسالته. •••
ليس ما يقدمه المؤلف هنا عن الحقيقة على ضوء اللاحقيقة مجرد تكملة لما قدمه على ضوء الحرية، فنحن نصادف الآن فكرة جديدة لم ترد من قبل، تلك هي فكرة «التأثر» التي يضفي عليها الآن معنى جديدا غير معناها الذي عرفناه في كتاب الوجود والزمان حين جاءت في سياق تحليله لحالات التواجد والتأثر وكون الموجود الإنساني ملقى به في العالم (والكلمة الأصلية - كما ذكرنا - توحي بضبط الأوتار والتوفيق بينها لإخراج الصوت أو اللحن المرجو)، ولكن التأثر هنا لا شأن له بأحوال الحياة النفسية، وإنما يتصل بما سبق الحديث عنه في الفصل السابق عن التعرض للتخارج، إنه في النهاية أسلوب محدد من أساليب الوجود يؤثر علينا ويوجهنا ويتحكم فينا، كما يدخلنا في علاقة مع الموجود في مجموعه وكليته ويحول بيننا وبين الضياع في هذا الموجود الجزئي الخاص أو ذاك، ولكن ما هو هذا الموجود في مجموعه وكليته؟
ليس هذا الموجود الشامل مجرد «حاصل جمع» لكل ما يوجد، ولا يجوز أن نخلط بينه وبين «كل» الموجودات المعروفة في الواقع وفي لحظة معينة من لحظات التجربة اليومية أو العملية، إن الوجود الكلي الشامل هو الذي ينكشف لنا من خلال التأثر، وهو الذي يؤثر علينا ويحددنا إن بقى هو نفسه بغير تحديد
145
فنحن في مسلك الانفتاح على الموجود أو التعرض المتخارج «نتأثر» بالموجود في كليته ونستقر فيه، ولكن هذا التعرض والتأثر لا ينفصل كما رأينا عن «ترك-الموجود-يوجد»، أي لا ينفصل عن صميم الحرية، غير أن هذا الترك أو هذا المسلك الحر يؤدي بالإنسان إلى كشف الموجود الخاص المتعلق به كما يعمل في نفس الوقت على حجب الوجود بكليته، هكذا يلقي الموجود الخاص بالموجود الكلي العام في ضباب الاحتجاب، وكلما قويت علاقتنا بهذا الموجود الخاص، وازداد اهتمامنا به وانصرافنا إليه، تحجب الموجود الكلي واستحكم خفاؤه.
وليت الأمر يقف عند هذا؛ فنحن نميل مع الزمن إلى أن نخفي عن أنفسنا هذا الحجب نفسه، وتلك هي محنة الإنسان في هذا العصر الذي اتسع فيه علمه بالموجود الجزئي الخاص، وأصبح - أو كاد - يعيش في حالة نسيان للموجود في كليته، بل في حالة نسيان للنسيان!
وهذا هو الذي حدث أيضا في «الميتافيزيقا» الغربية على مدى تاريخها الطويل، صحيح أنها كانت تسأل عن الموجود بما هو موجود، وكانت في مراحل تطورها المختلفة تخلع عليه معاني مختلفة، ولكنها لم تحاول أبدا أن تفكر في التحجب أو تجعل «السر» موضوعا لها، ولهذا ظلت هائمة في ضلال الموجودات وبعيدة عن حقيقة الموجود ومعناه. •••
ويأتي الفصل السادس فيتناول تحجب الموجود الكلي وخفاءه، إن القضية الآن هي قضية اللاحقيقة الأصلية التي لا تنفصم عن الحقيقة، وقد نبه هيدجر في نهاية الفصل الرابع إلى هذه العلاقة الأساسية بين الحقيقة واللاحقيقة، وبين لنا أن من المستحيل السؤال عن إحداهما دون السؤال عن الأخرى.
لا شك أن الحس السليم أو الظن الشائع سيتعثر في فهم هذه الصفحات وسيتشبث بطريقته المباشرة في النظر إلى الأمور، فيبقى على السطح ويسقط في الحفر الطافحة بسوء الفهم! لأن ماهية الأشياء لا تزدهر أبدا على السطح، ولأن السر يكمن دائما في الأعماق، وعبثا تحاول النظرة السريعة - وهي أسيرة اللحظة المباشرة والواقع المباشر! - أن تبلغ إليه عن طريق الفكر اليومي المعتاد وما فطر عليه من تعجل وحساب، ونفور من كل ما نشتم منه رائحة الإشكال.
146
ومع هذا كله فإن التخلي عن التفكير الشائع لا يكفي وحده للولوج من باب التفكير الماهوي، وإنما هو مدخل ضروري وحسب، ويرجع هذا إلى أن الأفكار الحقة نادرة، فهي ليست من صنع الفكر وتأليفه، كما أنها لا ترقد في الأشياء رقدة الحجر على سطح الأرض أو الحصاة في عمق الماء، إن الإنسان يكون العديد من الأفكار، غير أن هذه الأفكار ليست هي الأفكار الأصيلة، فالأفكار الأصيلة تقدم للإنسان، توهب له، حين يضع نفسه في ذلك الانتباه الحقيقي الذي هو بمثابة نوع من التهيؤ لما هو خليق بالفكر.
147
لنرجع إلى العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة، إننا نخطئ خطأ بالغا إذا تصورنا أن اللاحقيقة مجرد صورة باهتة من الحقيقة، كما نتصور الظلام بالقياس إلى النور، والمرض بالقياس إلى الصحة، والشر بالقياس للخير، ليست اللاحقيقة هي عكس الحقيقة أو سلبها، على نحو ما نفهم من تصورين متضادين، فكيف نتصور هذه «اللا» التي تسبق كلمة «اللاحقيقة»؟ (وما أكثر ما تتردد هذه اللا في الفصل السادس والفصول التالية في كلمات كاللاماهية واللاتحجب!)
لا شك أن القارئ سيدرك بنفسه أن هذه «اللا» تختلف عن «لا» السلب العادية، فهي تحيلنا إلى مجال أصلي (يفترضه أسلوب التفكير العادي وإن كان لا يلتفت إليه ولا يكترث به!) هو مجال التحجب، وهو مجال أسبق في الوجود من كل ظهور أو تكشف للوجود، في ظهور نطاق هذا المجال - الذي يتصل به الإنسان دائما على نحو أو آخر ونقف منه موقفا لا يبلغ أبدا مستوى الوعي - تكون «حقيقة الوجود»، ومن خلاله يمكن أن نقترب قليلا أو كثيرا من الوجود .
إن حقيقة الوجود أسبق من كل حقيقة متعلقة بالموجود، كما أنها أكثر منها أصالة وأهمية، هذه الحقيقة الأولية حاضرة دائما بصورة أو بأخرى، مهما تكلفنا من الجهد لتجاهلها، ومهما تصور الإنسان أن كل علاقة بالوجود قد اختفت، ومهما دخل في روعه أنه نسي الوجود وصار غريبا عنه، ذلك أن الوجود لا ينفك يظهر لنا ويقدم لنا نفسه باستمرار، مهما حاولنا إنكاره والانصراف عنه، ولو كف الوجود نوره فكيف يتسنى للإنسان أن يتعرف على الموجود الخاص الذي لا يني عن السعي وراءه، كيف يتأتى له أن ينطق فعل يوجد أو «يكون»، وهو أهم كلمات اللغة وأكثرها ابتذالا في آن واحد؟!
من خلال «ترك-الموجود-يوجد» يكون هذا الموجود ويحضر؛ ولهذا يوصف هذا الترك بأنه كشف له، ولكن حضور الموجد الخاص وظهوره يلازمه احتجاب الموجود في كليته، ومن هنا يمكن فهم هذه العبارة العويصة: «في الحرية المتخارجة للموجود-الإنساني يتم حجب الموجود بكليته، يكون الاحتجاب».
لا بد إذن من تفسير معنى الحجب إذا أردنا أن نفهم العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة، فلما كانت الحقيقة هي الكشف (أو بعبارة هيدجر المخيفة هي الترك المتخارج لوجود الموجود!) فلا بد أن تنطوي على نوع من الحجب ما دام الأول مستحيلا بغير الثاني، بهذا يصبح الحجب أو الاحتجاب شرطا للحقيقة بوصفها كشفا، بل إن فعل الكشف لا يتم إلا على أساسه، لا معنى إذن لأن نتصور أن هذا الحجب نوع من الظلام الذي سيبدده النور، أو أن ظهور «الموجود الإنساني» يكفي لتبديده؛ إذ لا بد من القول بأنه كامن بالضرورة في صميم الموجود الإنساني، وأنه محجوب عنه بحكم طبيعته، فالإنسان يخفي عن نفسه أن هناك نوعا من الاحتجاب والخفاء يلازم انكشاف الموجود وظهوره، أي أن الاحتجاب كامن في الموجودات الإنسانية بقدر ما تكون هذه كاشفة، ولا يخطرن ببالنا أن هذا الاحتجاب متوقف على «الذات الإنسانية» لكي تتصرف فيه بحريتها، فالواقع أن فكرة الذاتية لا مكان لها في فلسفة هيدجر - اللهم إلا مكان الرفض والإنكار - كما أن كلمة الموجود الإنساني أو الدازاين عنده ليست بديلا لكلمة «الذات» المعهودة في نظريات المعرفة، وإنما تدل على تصور مختلف للإنسان الذي يتميز قبل كل شيء بأنه «موجود-في-العالم»، ومن ثم فليس الإنسان هو السيد المتحكم في الاحتجاب ولا في التكشف، بل إن هذين هما اللذان يسودانه ويتحكمان فيه، وهذا هو الذي توحي به العبارات التالية التي تأتي في بداية الفصل السادس الذي تتحدث عنه: «إن التحجب يمنع «الأليثيا » من التكشف، بل لا يسمح لها بأن تكون «ستيريزس» (سلبا)، وإنما يحفظ لها (أي للأليثيا) أخص ما يخصها.» أو هذه العبارات التي يستطرد فيها الفيلسوف: «إنه (أي التحجب) أقدم من ترك الموجود نفسه، الذي يحجبه أثناء قيامه بالكشف، كما يتخذ موقفا من التحجب.»
لا بد من تعليق قصير على هذه العبارات التي لن تفهم إلا في سياقها، فإذا كانت الحقيقة هي الكشف، وكان كل كشف يفترض الحجب، فإن اللاحقيقة ستصبح مرادفة لعدم الكشف؛ بهذا لا تكون العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة علاقة تضاد منطقي، بل علاقة المؤسس بالأساس الذي يقوم عليه، معنى هذا أن الحقيقة - على العكس مما يظن الراي الشائع - تتأسس على اللاحقيقة، وأن هذه - بوصفها لاماهية الحقيقة - تحيل إلى ماهية أسبق، وإذا كان الإنسان على علاقة مستمرة بالتحجب، فلا بد من القول بأنه يوجد دائما في اللاحقيقة، وأن هذا وحده هو الذي يجعله قادرا على الكشف.
ولكن التحجب يؤكد نفسه - كما سبق أن رأينا - في كل ترك-للموجود، فترك- الموجود يحجب الموجود بكليته، والموجود بكليته هو المتحجب، ولما كان ترك-الموجود يقيم بالضرورة علاقة بالموجود بكليته الذي يظل في هذه العلاقة على احتجابه، فإن هيدجر يؤكد مع ذلك أن ترك-الموجود يحقق تحجب المحتجب، وهذا هو الذي يصفه بالسر، فليس السر في رأيه معضلة أو لغزا يتطلب الحل، وإنما هو الحدث الأساسي الذي يتغلغل في وجود الإنسان؛ ولهذا يمكن القول بأن الإنسان ليس بالكائن الذي يحتجب بقدر ما يكشف فحسب، بل إنه يصر على أن يحجب عن نفسه ذلك التحجب الأصلي ، ولعل هذا أن يكون قريبا مما يقصده هيدجر في النص الأول الذي اقتبسناه في بداية هذا الفصل حين يقول: إن التحجب يحول بين «الأليثيا» وبين التكشف، وأنه لا يسمح لها أيضا بأن تكون سلبا، بل يحتفظ لها بأخص ما يخصها، ولعل المقصود «بأخص ما يخصها» هو السر نفسه؛ ومن ثم يمكننا أن نفهم هذه العبارة العسيرة أو نحاول فهمها على أقل تقدير: فالتحجب الملازم للحقيقة يحول دون تصور هذه الحقيقة باعتبارها كشفا كليا كاملا، ولما كان هذا التحجب نفسه يتحجب في «الموجود الإنساني» الذي يقوم بالكشف، فإن «الأليثيا» تعجز حتى عن اعتبار نفسها سلبا للكشف الأصلي، لهذا فإن التحجب يحتفظ للحقيقة بصورة من صور السر الأساسي، أو بالأحرى يحتفظ لها بسر تختص به.
هل فسرنا العبارة العسيرة بعبارات أشد عسرا؟ لنقل باختصار أن التكشف لا يتم إلا على نحو جزئي، فهو يتحقق في ظل الاحتجاب وعلى أساسه، وكلما تقدم في فعله الكاشف عمل على مزيد من الحجب، وكلما اتسعت معرفة الإنسان بالموجود الجزئي دفع الموجود بكليته
148
إلى الظل، وكلما زاد نجاحه في هذا «الكشف» الموهوم زاد الاحتجاب وأمعن السر في الخفاء. •••
وتبدأ الفقرة الثانية من هذا الفصل (السادس) بعبارة قد تبدو محيرة، وهكذا يحدث في أثناء ترك-الموجود، الذي يكشف عن الموجود بكليته ويحجبه في نفس الوقت، أن يظهر التحجب في المقام الأول في مظهر «المتحجب».
ولا بد أن يسأل القارئ نفسه: كيف يمكن أن يظهر التحجب، في حين أن الظهور لا يقال إلا على الشيء الذي يقدم نفسه لنا؛ بحيث تمكن معرفته أو التعرف عليه وإدراك ماهيته إدراكا واضحا؟
لا مفر من فهم كلمة «الظهور» - شأنها في ذلك شأن بعض الكلمات التي يستخدمها هيدجر كالحرية والحقيقة واللاحقيقة - بمعنى مختلف عن معناها المألوف في التراث أو لدى الحس المشترك والفهم العام، فظهور التحجب يدل هنا على أنه يتم بصورة يحسها «الموجود الإنساني»، لا بمعنى أن هذا الظهور يمكن أن يؤدي إلى ماهيته، ولا شك أن في إمكاننا أن نجرب ظاهرة ونحس بها وتبقى مع ذلك محوطة بالسر، فظهور التحجب لا يعني اختفاء هذا التحجب وزواله.
وظهور هذا التحجب مرتبط بالموجود الإنساني: «إن الموجود الإنساني، بقدر ما يتخارج، يتعهد (أو يؤدي إلى) أول وأوسع عدم-تكشف، أي اللاحقيقة الأصلية»، هل يتناقض هذا مع ما سبق قوله من أن التحجب أقدم من ترك-الموجود نفسه؟ الواقع أن المسألة لم تكن مسألة ترتيب تاريخي، بل مسألة ترتيب في الأساس وما يتأسس عليه، وهذا الترتيب لم يتغير في الحالين.
وتعود الفقرة التالية إلى مشكلة الحرية فنقرأ هذه العبارة: «إن الحرية بوصفها ترك-الموجود-يوجد، هي في ذاتها علاقة منفتحة، أي علاقة غير مغلقة على نفسها.»
معنى هذا أن الحرية - من حيث هي ترك-الموجود-يوجد - أسلوب في الحياة يلزم الموجود الإنساني، كما يلزمه بالانفتاح على الأشياء، على هذا الانفتاح يقوم مسلك الموجود الإنساني تجاه الموجود، وعلى الرغم من هذا الانفتاح يخفي الموجود الإنساني عن نفسه علاقته بالتحجب، غير أن هذا الإخفاء نفسه يفترض الانفتاح؛ لأن التحجب أسبق من الموجود الإنساني نفسه، ولأنه لا يملك أن ينكشف أو يحتجب إلا عن طريق كائن قادر على الانفتاح.
لكن هذا الكائن المنفتح الذي سميناه بالموجود الإنساني يحدث له أثناء فعل الترك
149
أن يفقد علاقته الأساسية بالسر أو ينساها، صحيح أن هذا النسيان لا يفسد علاقتنا بالموجود الجزئي، ولكنه يوجه هذه العلاقة في اتجاه خاص، ويصرفها إلى الخصائص التي تحدد الموجود وتعينه، والنتيجة أن يتمسك الإنسان بالواقع المعتاد الذي يمكن التحكم فيه والسيطرة عليه، حتى في الأحوال التي تستوجب النظر في المسائل الأولى والأخيرة، أي أن نسيان السر يؤدي إلى إضعاف معنى وجود الموجود؛ بحيث يعجز الإنسان عن رؤية الوجود نفسه في الموجود، فيعده موجودا حاضرا أمامه وحسب، ويشغل بحصر خصائصه وتحديداته بغية التحكم فيه والسيطرة عليه، وبهذا ينسى الإنسان المشكلات الحقيقية وتغيب عنه المسائل الأولى والأخيرة، ويغرق في الحاضر المباشر، ويبذل كل ما في وسعه لمد سلطاته على العالم وتنصيب نفسه إمبراطورا على عرشه! ويبتعد عن السر الذي يربطه بالموجود بكليته، وتصبح ذاته هي المحور الذي يدور حوله كل شيء، ويتخذ من حاجاته ومعارفه وتطلعاته المعيار الذي يقيس به كل شيء، وإذا كانت كلمة الذات والذاتية قد ترددت في السطور السابقة، فلا ينبغي - كما تقدم - أن يغيب عن بالنا أن هيدجر أبعد ما يكون عن المفاهيم «الأنثروبولوجية» المعتادة عن الذاتية بعده عن كل تصور تقليدي للنزعة الإنسانية، فحين يتخذ الإنسان من ذاته مقياسا لجميع الكائنات ، لا بد أن يخطئ في القياس ويختل في يده الميزان.
لا شك أن محاولة الإنسان تأكيد ذاته تأكيدا مطلقا هي النزعة الغالبة على الفلسفة الحديثة، وهي أم المشكلات التي نبتت من سيطرة الروح «التعالمية»
150
والتقنية، وجذور هذه المحاولة تمتد إلى عبارة «بيكون» التي كتبت على بوابة الزمن الحديث: العلم قوة، كما تبدأ من حيث المبدأ مع توحيد ديكارت بين الحقيقة واليقين، وتقصيره في سؤال نفسه إن كان هذا اليقين هو الأساس النهائي الذي تقوم عليه الحقيقة من حيث هي كذلك.
ولقد بلغت هذه الذاتية الإنسانية ذروة تأكدها على يدي نيتشه وكيركجورد من ناحية، وأيدي العلماء والفلاسفة الوضعيين من ناحية أخرى، كما بلغت ذروة انتصارها وخطرها في النزعة التقنية المعاصرة، وقارئ هيدجر يعلم أنه لا يفصل هذه النزعة الأخيرة عن النزعة الذاتية في فهم الحقيقة بمعنى الصحة أو الصواب والتطابق التي بدأت خطواتها الأولى في تاريخ الميتافيزيقا مع تفكير أفلاطون، فالتقنية هي الانتصار العظيم الذي حققته الميتافيزيقا الغربية، وهي لا تعدو أن تكون طريقة لمد هذه الميتافيزيقا على الموجود بكليته.
ونحن نشهد اليوم كيف تحول هذا الانتصار - الذي يعبر عن نسيان للعلاقة الأصلية التي تجمعه بالسر - إلى ألوان من الحيرة والعجز واليأس والاغتراب في مواجهة أخطار التقنية، ونشهد أيضا كيف انقلب هذا الوليد المعجز (ألقيت بذرته الحية يوم ألقى أول إغريقي متفلسف سؤاله القدري ما الموجود؟) إلى طاغية ينشر ظلام المحنة على العصر الذي نعيش فيه.
الإنسان يحاول أن يستند إلى الموجود، أن يجد الراحة فيه، أن يختصه بعنايته وتفكيره، أي يحاول - بتعبير هيدجر - أن يتداخل ... صحيح أنه بطبيعته يدخل دائما في علاقة بالموجود، ولكنه أصبح الآن يتمسك بهذا الموجود ويستمد منه مقاييسه، دون أن يسأل نفسه عن ماهية هذه المقاييس أو الأساس الذي تقوم عليه؛ ولهذا يقول هيدجر هذه العبارة التي احتاجت منا إلى الوقوف عندها: «إن الموجود الإنساني-بتخارجه-متداخل.» في هذا التخارج المتداخل لم يعد للسر مكان، لقد فقد ماهيته.
هكذا يكون هيدجر قد تبين أهمية السر بالنسبة للموجود الإنساني، وشرح لنا كيف نسي هذا السر والنتائج المترتبة على هذا النسيان في حياة الإنسان المتشبث بذاته وبالموجودات، وبهذا يكون أيضا قد أكد الرابطة التي تؤلف بين الحقيقة واللاحقيقة، وأوضح لنا - على طريقته بالطبع! - أن اللاحقيقة هي الأساس الذي تنهض عليه الحقيقة وتنمو وتتفتح. •••
ويجيء الفصل السابع فيتناول العلاقة بين النسيان والسر، بين انفتاح الموجود الإنساني أو تخارجه في اتجاه الموجود وبين تمسكه بالجانب الشائع المعتاد منه أو تداخله المؤدي إلى الضلال، هذا التداخل مستحيل بغير التخارج، ولهذا يقول هيدجر إن الموجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الوجود الإنساني متداخل ومتخارج، أو منفتح ومتواجد معا، إنهما يتحدان ليكونا أسلوب الوجود الذي يمتاز به الموجود الإنساني، فهو بتخارجه يكون على علاقة بالسر؛ لأن كشف الموجود لا يتم إلا على أساس التحجب الذي ينبثق عنه هذا الكشف، ولكنه بتداخله، أي تمسكه بالموجود وتشبثه بخصائصه وتحديداته، تختلط عليه الرؤية، وينسى علاقته الأصيلة بالتحجب والسر، وتتهدده الحيرة والخطأ والضلال، صحيح أنه يتخذ من الموجود مقياسا لأوجه نشاطه المختلفة، ولكنه ينغمس فيه فينسى الأساس الذي يستند إليه اختيار هذا المقياس، أي ينسى السر، بيد أن الموجود - الجزئي الخاص - لا يستمد أهميته ووجوده نفسه إلا من خلال علاقته الوثيقة بالموجود بكليته (أو إن شئت بالوجود)، وهذه العلاقة الأصلية يحوطها السر، ولهذا فإن الوقوف عند الموجود والاستغراق فيه والتصلب على تحديداته المباشرة واتخاذه مقياسا للأفعال، معناه الوحيد هو الانصراف عن السر وضياع الجذور، ومهما حاولنا أن نستخف بالسر ونرجم من ينبهنا إليه بأحجار الكلمات السهلة والشعارات المحفوظة، مهما نسيناه أو تناسيناه وأنكرناه، فلن يفلح هذا في إلغائه؛ لأن النسيان والتناسي والإنكار لا تزال جميعها تعبيرا عن صورة من صور العلاقة التي تربطنا به، أليس أدل على هذا من لهفة الإنسان وقلقه وتخبطه من موجود إلى آخر، دون أن يجد في واحد منها السلام والراحة التي يرجوها؟ ألا يحق للفيلسوف أن يقول إن لهفة الإنسان بين الهروب من السر واللجوء إلى الواقع المعتاد واندفاعه من موضوع يومي إلى آخر، وغفلته المستمرة عن السر، كل هذا هو «الضلال».
وما هو الضلال؟ ليس سلوكا عرضيا ينجم عن خطأ أو سهو عارض يمكن تصحيحه وتحاشيه، إنما هو الذي يحدده وجود الإنسان تحديدا أوليا؛ ومن ثم يحدد سلوكه، ولا يعني هذا أن الضلال قدر محتوم لا فكاك منه؛ لأنه لا ينفي أننا نملك القدرة على مواجهته، بل ينبغي علينا أن نواجهه: «ليس الضلال الذي يمضي فيه الإنسان شيئا يسعى بجانبه ويحاذي طريقه كأنه حفر يسقط فيها أحيانا، وإنما هو جزء من تكوين الموجود الإنساني الذي خلى بين الإنسان التاريخي وبينه».
من أين تأتي حتمية الضلال؟ من الحقيقة التي عرفناها من قبل، وهي أن الإنسان لا يمكنه أن «يكشف» إلا بقدر ما يحتجب، وأنه هو نفسه يخفي هذا التحجب عن نفسه؛ ولهذا تظل علاقتنا نفسها بالتحجب محتجبة.
ويستطرد هيدجر فيقول: «إن الضلال بالقياس إلى الماهية الأصلية للحقيقة، هو ضد الماهية الأساسي.» وربما تصورنا من هذه العبارة أن الحقيقة الأصلية - التي تتميز بعلاقتها الوثيقة بالسر - تستمد منها حقيقة أخرى فاسدة تكون بمثابة الضد من تلك وتستحق أن تسمى «الضلال»، ولكنا إذا واصلنا قراءة النص وجدنا هذه العبارة التي تحدد الأمر فنقول إن حجب المحتجب والضلال ينتميان معا للماهية الأصلية للحقيقة، وإذا فاللاحقيقة، بوصفها حجبا للاحتجاب وبوصفها ضلالا، تنتمي بوجهيها هذين للماهية الأصلية للحقيقة، يؤيد هذا وصف هيدجر لضد الماهية أو للماهية الضد بأنها أساسية، أي أنها أولية وأصلية، داخلة في بناء الحقيقة نفسها وماهيتها الأصلية ، فكأن هذه الحقيقة ذات جذر مزدوج، يعاند أحد طرفيها صاحبه ويقف منه موقف الضد! ما السبب في هذا؟ ليس عسيرا أن نلتمس هذا السبب، فالحقيقة علاقة بالسر ونسيان لهذه العلاقة، وكلا الأمرين يمثل في الواقع وحدة واحدة لا انشقاق فيها، ولو تأمل كل منا نفسه وحياته لرأى أنه ينتمي للحقيقة بما هو إنسان مهموم بالوجود، كما ينتمي للاحقيقة بما هو إنسان مشغول بشئون حياته اليومية وما يحيط به من موجودات تنسيه علاقته الأصلية بحقيقة الوجود بكليته، ولعل هذا أن يوضح ما يؤكده هيدجر في العبارتين المذكورتين من أن الضلال هو ضد-الماهية الأساسي للماهية الأصلية للحقيقة، وأنه - أي الضلال - ينتمي لهذه الماهية الأصلية للحقيقة، وغني عن الذكر أن الضدية هنا ليست منطقية؛ لأن الضدين المتقابلين تقابلا جدليا حاسما يرتبطان في وحدة أعلى وأسبق منهما، دون أن يحطما هذا التقابل أو يحاولا تحطيمه.
إن الإنسان يوجد دائما في الضلال، وهو يوجد فيه بصورة أولية مسبقة، والضلال هو المسرح الذي تدور عليه كل ألوان الخطأ، فإذا عرفنا أن الضلال هو ضياع العلاقة الإيجابية التي تربطنا بالسر، وأن الحقيقة الماهوية أو الأساسية هي اتخاذ موقف من التحجب، أمكننا أن نفهم عبارة هيدجر: «إن الضلال ينفتح لكل ما يناوئ الحقيقة الماهوية.»
ولما كان الضلال - بوصفه الضد الأساسي للماهية - ينتمي انتماء أصيلا للحقيقة، فإن الإنسان يستطيع أن يستعيد السر من خلال الضلال، وذلك بمجرد أن يجرب الضلال ويحس أنه هو الضلال (لا الإحساس فحسب بصوره المختلفة التي تجربها في حياتنا اليومية من تخبط وخطأ وبلبلة واضطراب وعجز وجهل)، ولو جربنا الضلال بما هو كذلك وانتبهنا إليه لعرفنا عندئذ من نحن وأين نحن، واستعدنا علاقتنا الأصيلة بالسر، فالانتقال من هذه المعرفة بالضلال إلى السر غير مستحيل، إذا تذكرنا أن الحقيقة الأصلية تتكون منهما معا على نحو أصيل، ويكفي أن ندرك الخطر الذي يتهددنا من جانب الضلال لكي نتحدد بالسر ونهتدي إلى الطريق إليه، مهما يكن من نسياننا أو تناسينا له. «إن كليهما (السر والضلال) يحمله (أي الإنسان) على الحياة في محنة القهر»، فهل تحكم الحقيقة على الإنسان (أو الموجود الإنساني) بالمحنة والقهر؟
إن وجود الإنسان في غمرة الضلال يتضح من اضطرابه ولهفته ولهاثه من موجود بعينه إلى موجود آخر، دون أن يجد راحة القلب واطمئنان الضمير؛ ولهذا يتميز الإنسان باضطرابه، وتأرجحه، واندفاعه إلى المحنة، وخضوعه للقهر والضرورة (لاحظ بهذه المناسبة أن كلمات المحنة والقهر والضرورة مشتقة في لغتها الأصيلة من جذر واحد!) ويجب ألا نتصور الضرورة أو القهر على معنى القهر المحتوم، ولا أن نأخذ المحنة على معنى يوحي باليأس أو الحزن.
فالقهر الذي يجد فيه الإنسان نفسه؛ نتيجة اضطرابه في الضلال، ليس قوة قدرية محتومة، وإنما هو صميم المحنة التي نعيشها وعلينا أن نجربها ونواجهها، هذه المحنة نفسها لا علاقة لها باليأس الذي نعرفه جميعا، وإنما تأتي من أن السر لا ينقطع تأثيره حتى في غمرة الضلال، ولما كان وجود الإنسان خاضعا للمحنة، فإن هذا هو الذي يمكنه من الكشف عن الضرورة، ووضع نفسه في «المحتوم»، ولن يتسنى له ذلك إلا عن طريق الحرية التي تشعر بتناهيها.
وتأتي خاتمة هذا الفصل فتجمع خيوطه في نسيج واحد مكثف، لقد كان الهدف منه هو بيان ماهية الحرية استنادا إلى ماهية الحقيقة، وقد أوضح أن الحقيقة - التي هي في صميمها وبحسب معناها الذي فهمه فلاسفة اليونان قبل سقراط، كشف أو تكشف - هي في نفس الوقت تحجب الموجود بكليته.
هذا التحجب هو اللاحقيقة الأصلية المتلازمة لطبيعة الحقيقة نفسها، غير أن اللاحقيقة ليس تحجبا (أو سرا) فحسب، بل هي كذلك ضلال، أي نسيان للعلاقة الأصلية بالسر، فالضلال هو الماهية المضادة للحقيقة، وهذه الماهية المضادة تنتمي كما رأينا لماهية الحقيقة.
ويختتم هيدجر هذا الفصل بقوله: «وليست الحرية هي ماهية الحقيقة (بمعنى توافق التمثل أو تطابقه) إلا لأن الحرية نفسها تصدر عن الماهية الأصلية للحقيقة، عن سيادة السر في غمرة الضلال.» ولما كانت الحرية تنشأ عن سيادة الحقيقة، فإن فعل «الترك»،
151
الذي تحدده الحرية، يصبح أصيلا متفقا مع طبيعته بمجرد أن يتم في حضرة السر، أي حين تصحبه تجربة الضلال من حيث هو الضلال.
لو قلبنا الصفحات قليلا لقرأنا هذه العبارة التي وردت في نهاية «الملحوظة» التي اختتم بها المؤلف محاضرته: «إن المعرفة (أو الفكر) الذي تحاول المحاضرة تقديمه تتوجه هذه التجربة الأساسية: إن القرب من حقيقة الوجود لا يتهيأ للإنسان التاريخي إلا انطلاقا من الإنية التي يمكن أن يلتزم بها الإنسان.» وقد وردت هذه الفكرة نفسها في الفقرة الختامية التي نتحدث عنها في قول المؤلف: «إن ترك-الموجود-يوجد بما هو موجود وبكليته أمر لا يتم بصورة أصيلة ووافية بالماهية إلا إذا أخذ في الاعتبار من حين إلى حين من جهة ماهيته الأصلية، عندئذ يبدأ الانفتاح على السر في التحقق في إطار الضلال، عندئذ يوضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعا أصيلا، وعندئذ يتضح الأساس الذي يقوم عليه تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية».
معنى هذا أن ماهية الحقيقة تتحقق بصورة أصيلة عندما يتمكن ذلك الذي يسأل من تحقيق وجوده الخاص على نحو أصيل، أي حين يدخل في علاقة أصيلة مع الوجود، ومعنى هذا مرة أخرى أن الأمر هنا يتصل بوجود السائل كما يتصل بالوجود بما هو كذلك؛ لأن الأول (أي الموجود الإنساني) يتحدد وجوده من خلال علاقته بالوجود؛ ومن ثم حرص هيدجر منذ أن وضع كتابه عن الوجود والزمان على الربط بين حقيقة الوجود وبين ماهية الموجود الإنساني أو ماهية الإنسان؛ فالإنسان لا يمكنه أن يتساءل عن الوجود إلا إذا كان يحيا في علاقة معه ويحس أنه في حماه، بل إن أسلوب الإنسان في الوجود هو الذي يحدد أسلوبه في فهم ماهية الحقيقة، وهي بالطبع حقيقة الوجود نفسه، ومن الواضح أن هذا الأسلوب في الوجود (الذي سيمكننا من اتخاذ موقف معين من ماهية الحقيقة) لن يكون أسلوبا عقليا أو نظريا، بل ينبغي أن يكون مسلكا أساسيا يوجه كل كياننا ويحدد كل وجودنا التاريخي، والأمر في اختيار هذا المسلك واتخاذ هذا القرار يتوقف على درجة الأصالة التي يمكن أن يصل إليها الإنسان ، ثم إن هذه الأصالة نفسها تعتمد على طبيعة علاقتنا بالوجود، إن كانت أصيلة أصبحنا أصلاء، وإن كانت زائفة أصبحنا زائفين ضائعين، وهكذا نفهم عبارة هيدجر العويصة عن تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية، والمهم بعد كل شيء هو التفكير في حقيقة الوجود، لا في الموجودات فحسب، وتلك هي أسمى مهمة يمكن أن يلتزم بها الفكر، إنها هي المهمة التي واجهت الفلسفة منذ نشأتها الأولى، وحاولت الميتافيزيقا عبر تاريخها الطويل أن تقوم بها دون أن تحقق هدفها حتى اليوم، لماذا؟ لأنها لم تفكر أبدا في الوجود نفسه وحقيقته، ولأنها كانت تفكر دائما في الموجود وتنسى حقيقة الوجود (ومن ثم كانت دعوة هيدجر المستترة لقهر الميتافيزيقا وتجاوزها، لا بتحطيمها أو إلغائها، فهذا شيء مستحيل، بل بالعودة إلى أساسها، ألا وهو التفكير في حقيقة الوجود نفسه، من خلال الموجود الوحيد المهموم بالسؤال عنها، القادر على كشفها والانفتاح على نورها)، ومن هنا نفهم هذه العبارة التي جاءت في الملحوظة التي تختتم بها هذه المحاضرة: «إن الفكر يلتزم في ظاهره بالطريق الذي سارت عليه الميتافيزيقا، ولكنه مع ذلك يحقق في خطواته الحاسمة - التي تنتقل من الحقيقة بوصفها تطابقا إلى الحرية المتخارجة، ومن هذه إلى الحقيقة بوصفها حجبا وضلالا - (يحقق) تحولا في التساؤل ويؤدي إلى تجاوز الميتافيزيقا.» •••
تحددت ماهية الحقيقة، وبقي أن نحدد ماهية الفلسفة التي تسأل عن هذه الحقيقة، ولما كانت الماهية الكاملة للحقيقة تتضمن اللاحقيقة، فلا بد أن تكون الفلسفة بدورها منقسمة على ذاتها، وأن تكون - على حد تعبير هيدجر - متزنة ولينة، متشددة ومتفتحة، معتدلة ووديعة ... وربما أنكرنا هذه الكلمات الشاعرة في مجال قد لا يسمح بها، وقد نحار في العثور على مقابل للكلمتين الأصليتين اللتين تفيدان بحروفهما «اتزان الرقة»، ولكن سواء آثرنا الرقة أو المرونة أو الوداعة، فالمعنى المقصود هو القدرة على الاتجاه نحو الموجود وتركه يوجد وينكشف، مع الحفاظ في نفس الوقت على التحجب الأصلي وصونه ونقله إلى وضوح التعقل، دون أن يقترن هذا بأي قنوط من جانب الإنسان أو تخل عن ماهيته الحقة التي تقوم على الانفتاح للموجود، فالاعتدال أو المرونة والوداعة التي نتحدث عنها تتيح للفلسفة أو بالأحرى للمتفلسف أن يبقى هو نفسه، أن يظل قريبا من الموجودات الأخرى بغير أن يحاول تغييرها أو تشويهها أو اقتحامها بالتعسف والقوة والاغتصاب، ولا شك أن كلمات كالرقة أو الوداعة أو اللين ترتعش عليها ظلال الرحمة والكرم والحنان والتعاطف التي تميز موقف المتفلسف من الموجود بكليته، ولعل هذا أن يذكرنا بعبارة هيدجر المشهورة التي يرددها في كثير من كتاباته: «الإنسان هو راعي الوجود وحامي بيته.» •••
ويلقي المؤلف في الفصل الثامن نظرة أخيرة على مشكلة الحقيقة والفلسفة، ويجدد هجومه على الحس السليم الذي يعلن ضيقه بطبيعة الفلسفة وأسئلتها وإشكالياتها منذ بداياتها الأولى! ثم يهتدي برأي «كانط» في ماهية الفلسفة ومحنتها الباطنة، ويورد أحد نصوصه التي تشهد على إيمانه بكرامة الفلسفة وأصالتها، وجهده في الدفاع عنها وإنقاذها من سطحية أصحاب الفهم العام واستبعاد بعض الكتاب والمفكرين الذين يحسبونها مجرد «تعبير» عن الحضارة، لقد كان «كانط» - على الرغم من وقوعه في أسر التراث الميتافيزيقي ومن موقفه القائم على الذاتية - عميق الحكمة كالعهد به في نظرته إلى طبيعة الفلسفة «حارسة قوانينها الخاصة»، وكان أصيلا في حرصه على احتفاظ الفلسفة بماهيتها، والعودة بها إلى الحقيقة الأصلية التي يقوم عليها السؤال الفلسفي.
ونأتي إلى نهاية هذا الفصل فنجد المؤلف يلخص المسائل الأساسية التي عرضنا لها على الصفحات السابقة ويجمعها حول هذا السؤال الأساسي: «ألا يجب أن يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة الماهية؟» - ربما أوحت صيغة السؤال بالتكرار والتلاعب الحاذق بالألفاظ، ولكن الواقع أنها أبعد ما تكون عن هذا، فهي تريد أن تحيي في نفس القارئ جذوة السؤال الأساسي الذي حرك التفكير في هذه الرسالة بأكملها، كما تحرص على البعد عن وضع نتيجة «جاهزة» بين يديه، إن المفكر الحقيقي لا يقدم لقارئه ثمرة بحثه على طبق فضي أو ذهبي، وإنما يحاول أن يشركه في الجهد المبذول في غرس البذور ورعاية الأشجار وانتظار الثمار ... إن همه هو إحياء الإشكال في نفس القارئ وعقله، وحثه على البقاء في محنة السؤال؛ لأنه في النهاية هو الممتحن والمسئول، وهل هناك ما هو أولى بالسؤال والعذاب والانتظار من مشكلة الحقيقة؟ هل هناك من هو أولى بالبحث عن حقيقة الوجود من ذلك الكائن الذي يهتم - وحده - بالسؤال عنه وترقب أنواره والوصول، عبر جسوره، إلى طبيعته الحقة وإنقاذ وجوده الأصيل من بحار الزيف التي تغرقه صباح مساء؟!
هكذا يختم هيدجر رسالته ختاما لا يخلو من التواضع الكريم حين يؤكد أنها «تساعد على التأمل» في قضية الحقيقة، وحسبه أنه ابتعد بنفسه عن الإجابات السهلة التي يتلهف عليها أصحاب الحس السليم، وأنه لم يحرص على شيء حرصه على إثارة السؤال. (4-2) حقيقة الفن
كان من الطبيعي أن تدور جهود هيدجر حول قطبي الوجود والحقيقة اللذين تتغذى منهما شعلة تفكيره، فنحن نجد بعد كتابه عن الوجود والزمان ورسالته عن ماهية الحقيقة عدة دراسات تشع من نفس النواة ذات الشطرين، أو تدور حولها كالكهارب في قلب الذرة، إنه يوضح حقيقة الفن في دراسته عن «الأصل في العمل الفني»
152 (1935م)، ويتحدث عن إنسانية الإنسان في رسالته عن النزعة الإنسانية (1946م)، كما يتحدث عن الحقيقة - أو بالأحرى الأليثيا بمفهومها اليوناني! - في دراسته عن ماهية التقنية (1953م) وعن ماهية اللغة (1957م) وموضوع الفكر (1964م)، ولما كان المجال لا يتسع لتناول هذه الدراسات كلها بالتفصيل، فسوف نحاول أن نقدم معالمها الأساسية بإيجاز شديد.
يفسر هيدجر ماهية الفن والعمل الفني بوجه خاص من خلال فهمه «للأليثيا» أو الحقيقة كما أرادها اليونان بمعنى التجلي والتفتح والظهور من طوايا التحجب والخفاء، ونود أن نسير هنا أيضا على المنهج الذي التزمنا به في الصفحات السابقة من التقيد بنصوص الفيلسوف نفسها، على الرغم مما نجده فيها ويجده القارئ من صعوبة وجفاف! ويدور «الأصل في العمل الفني» حول الحقائق التالية: (1)
أن حقيقة الموجود «تحدث» في العمل الفني. (2)
أن «وضع العالم» و«إنتاج الأرض» ملمحان أساسيان من ملامح العمل الفني الذي يتم فيه «النزاع» بين الأرض والعالم. (3)
ماهية الحقيقة تكمن في هذا النزاع الأصلي الذي يدور حول «الوسط المنفتح» الذي فيه يكون الموجود ويعود إلى نفسه. (4)
أن ما يظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب وجود الحقيقة أو كينونتها. (5)
الحفاظ على العمل الفني من ناحية المعرفة هو معايشة «الهول» أو «الرهبة» من الحقيقة التي تحدث فيه. (6)
الفن كله - بوصفه «إحداث» حقيقة الموجود بما هو موجود والكشف عنها وتجليتها - هو في ماهيته شعر (بمعناه الواسع من الإبداع والإنشاء).
تبدأ الدراسة بالسؤال عن الأصل الذي يستمد منه العمل الفني طبيعته وماهيته كعمل فني، فهي لا تستغرق في التأملات والخواطر المعتادة عن جمالياته، وإنما تتجه مباشرة إلى السؤال المحدد عن ماهيته. إننا جميعا متفقون على أن الفنان هو الذي يبدع العمل الفني، فهل هو الأصل فيه؟ ألا يصح القول من ناحية أخرى أن إبداع العمل الفني هو الذي يجعل الفنان فنانا؟ أليس معنى هذا أن الفنان هو أصل العمل الفني، كما أن العمل الفني هو الأصل في الفنان؟ ولكن أليس الفن نفسه هو الأصل في الفنان وعمله على السواء؟ ألا ينبغي علينا أن نسأل أولا عن ماهية الفن؟ إن الإجابة على هذا السؤال تحتم علينا الرجوع إلى الأعمال الفنية، فهل وقعنا إذن في الدور الذي يحذرنا منه المناطقة ويأباه الحس السليم؟ ولكن هذا الدور لا مناص منه في مواجهة هذه المشكلة بكل أطرافها، فلا بأس من الاعتراف به، ولا غنى عن تحمله والتمسك به، لسنا هنا بصدد الدور الذي ينهى عنه المناطقة؛ لأننا لا تستنتج شيئا ولا نبرهن على شيء، وإنما نحاول أن نتيح رؤية هذا الذي نسميه العمل الفني والكشف عن حقيقته، فلا ضير إذن من السير في دائرة تمتد بنا من العمل الفني إلى الفن، ومن الفن إلى العمل الفني.
وأول طريق نسلكه إلى العمل الفني هو النظر إليه من جهة «شيئيته»، فما هو الشيء؟
153
لو حللنا تحديدات الشيء المعروفة لوجدناها تنحصر في الشيء بوصفه جوهرا أو موضوعا حاملا للصفات والمحمولات، أو بوصفه وحدة تؤلف بين المعطيات الحسية المتنوعة، أو مادة تشكلت من خلال الصورة.
ولهذا فإن لدينا «الشيء الخالص» كما تقدمه لنا الطبيعة، و«الشيء-الأداة» كما أنتجها الإنسان ليستخدمها الإنسان، و«العمل» بمعنى العمل الفني، والواقع أن هذه الفروق المختلفة لن تساعدنا كثيرا فيما نحن بصدده من فهم ماهية العمل الفني وحقيقته، كما لن تساعدنا صيغة الشكل والمضمون التي يكثر حولها الجدل، وكل ما سنخرج به منها هو أن العمل الفني «شيء»، وأننا ننساق فيها مع تيار الميتافيزيقا في محاولاتها المختلفة لفهم الوجود والتفكير فيه ابتداء من «شيئيته»، فلنتحد تاريخ هذه الميتافزيقا! ولنحاول البحث عن طريق جديد! (وإن يكن طريقا شاقا أشبه بطريق جحا عندما سألوه عن أذنه!)
يبدأ هيدجر أول خطوة على هذا الطريق بالسؤال عن طبيعة الشيء-الأداة، وهو يوضح سؤاله بالتأمل في لوحة الحذاء للرسام الشهير فان جوخ، فاللوحة توحي بالكثير: بعناء الفلاح وتعبه، بهمومه وجهده وإصراره، هنا نجد هيدجر يستعيد تحليلاته السابقة للأداة في «الوجود والزمان» ويضيف إليها. إن ماهية الأداة تكمن في استخدامها، كما تكمن في إشارتها إلى «عالمية» العالم الذي نعيشه فيه، ووجودنا مع الآخرين الذين صنعوا هذه الأداة أو الذين يستعملونها، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فأهم ما تدل عليه هو الاطمئنان إليها والاعتماد عليها، وهذا يؤدي بنا إلى العالم الذي نحيا فيه، وإلى الأرض التي هي جزء من هذا العالم، هل تتحقق هذه الوظيفة في كل أداة؟ هل هناك أدوات متميزة دون غيرها؟ لنصرف النظر عن هذه الأسئلة ولنعد إلى لوحة الحذاء! إنها تجعلنا ننفتح على عالم الفلاح بكل ما فيه من صبر وعناء، وهي لا تكتفي بهذا بل تجعلنا أيضا ننفتح على الأرض التي «تحضر» أيضا من خلاله،
154
لعل هذا الطريق الجانبي الذي بحثنا فيه عن الأداة لم يكن بعيدا كل البعد عن طريق العمل الفني، فقد تأملنا لوحة فان جوخ لنعرف منها طبيعة هذه الأداة التي صورها لنا الفنان، فإذا بها تكشف لنا عنها من حيث هي موجود محدد، والكشف هنا مرادف للإظهار، فالعمل الفني يكشف عن موجود معين في حالته التي هو عليها، وهذا الكشف يعود بنا إلى المعنى الأصلي ل «الأليثيا» أو الحقيقة من حيث هي لا تحجب، ولهذا لن يدهشنا الآن أن يقول هيدجر: «إن الحقيقة تحدث في العمل (الفني)، وذلك حين يتم فيه تفتح الموجود من حيث ماهيته وحالته التي هو عليها.»
155
حقيقة الموجود تحدث في العمل الفني، أو تضع نفسها فيه بالفعل، هذا الوضع الذي ينطوي على معنى الصيرورة والفاعلية مرادف كما قلنا «للإحضار» و«الإظهار»، ولا بد لنا الآن من تتبع هذه الظاهرة التي تظهر نفسها بنفسها، إذا أردنا أن نصل إلى ما يميز العمل الفني عن الأداة وعن الشيء الخالص، وإذا كان العمل الفني «وضعا» للحقيقة أو إحداثا وإظهارا لها، فكيف نفهم معنى الحقيقة وعلاقتها بماهية العمل الفني؟
هنا يلجأ هيدجر إلى تقديم أنموذج جديد لعمل فني آخر، وهو يختار المعبد الإغريقي القديم تعبيرا عن الحب المتأصل في نفسه لكل ما شاده اليونان أو فكروا فيه! وإذا كنا في المثال السابق (حذاء الفلاح) قد رأينا كيف يعكس العمل الفني صورة للأداة ويظهر وظيفتها وماهيتها من حيث هو موجود، فإن المعبد لا يصور شيئا ولا يعكس أي شيء، ومع ذلك فإن أمرا هاما يحدث فيه: «إن المعبد هو الذي ينظم ويجمع حوله وحدة تلك المسالك والعلاقات التي يكتسب فيها الميلاد والموت، والنقمة والنعمة، والانتصار والعار، والصمود والانهيار - صورة الكائن الإنساني ومصيره».
156
هذه العلاقات التي يذكرها هيدجر في العبارة السابقة هي ما نسميه باسم «العالم»، في هذه العلاقات يحيا البشر وتتم مسيرتهم في عصر معين نحو قدر مرسوم، وهي التي تحدد سبيلنا إلى فهمهم ومعرفة رؤيتهم لعالمهم ونظرتهم إلى أنفسهم.
ولكن المعبد لا «يظهر» طبيعة العالم وحده، فقد شيد بناؤه في مكان محدد، ووقوفه هناك - أو ما بقي منه من أطلال - هو الذي يظهر المكان نفسه، وإن شئنا الدقة فهو لا يظهر المكان أو المحل الذي وضع فيه، وإنما يظهر «الفيزيس» أو «الأرض » التي يتأسس عليها كل مكان، وليست الأرض ولا العالم بمجموعة من الأشياء والكائنات وضعت بجانب بعضها البعض، ليسا موضوعا يمكن أن نراه، وإنما هما - إن صح هذا التعبير - إطار غير موضوعي نلتزم به وننفتح فيه على الوجود ونقدم الشهادة على طبيعة فهمنا له: «وما بقيت مسالك الميلاد والموت والبركة واللعنة تضعنا في الوجود، وحيثما تمت القرارات الحاسمة في تاريخنا فأخذناها على عاتقنا أو تخلينا عنها، أو تجاهلناها ثم سألنا عنها؛ هناك يكون العالم .»
157
العالم إذن أسلوب محدد للانفتاح، يعبر عن علاقات البشر بالموجود وفهمهم له ولشركائهم من البشر والآلهة ... إلخ في عصر معين أو مرحلة محددة من تاريخهم، ولما كان العالم هو المجال الذي يتم فيه الانفتاح، وكان العمل الفني «يقيم عالما»، ففي إمكاننا القول إن «العمل الفني يفتح انفتاح العالم»
158
أو أنه - بعبارة أبسط - هو الذي يظهر هذا الانفتاح على حقيقة العالم والوجود.
هذه الخاصية الأساسية في العمل الفني مقترنة بخاصية أخرى، وهي الإنتاج، وليس المقصود هنا بالإنتاج ما نعنيه عادة من إنتاج الأدوات من مادة معينة تختفي حتما لكي تظهر الوظيفة التي صنعت من أجلها هذه الأدوات المخصصة للاستعمال، وإنما المقصود به هو «إظهار» المادة التي صنع منها العمل الفني ولا يمكن أن يقوم بدونها (فالتمثال من حجر، والصورة من أصباغ وألوان، واللحن الموسيقي من ذبذبات صوتية ... إلخ)، ولو عدنا بالذاكرة إلى المعبد الإغريقي لوجدناه لا يكتفي بإظهار الأحجار التي شيد بها، بل يظهر كذلك الأرض (الفيزيس) التي جاءت منها هذه الأحجار، وهو يظهر الأرض بمعناها الواسع، أي البحر، والصخر، والسماء، وأشجار الزيتون وكل ما يمكن أن يتصل بها، هذا «الإظهار» الذي يحققه العمل الفني لا يمكن التفكير فيه إلا من ناحية الإنتاج الذي تحدثنا عنه، وهو ليس بإنتاج شيء جديد أو شيء مثير غير عادي أو إنجاز تقني، وإنما هو الإنتاج الذي يحررنا لكي ننفتح على هذه الأرض التي نعيش عليها ونتحرك فوق أديمها ونسكنها، الأرض التي يظهرها هذا المعبد ويحافظ عليها ويخرجها من حال الانطواء والانغلاق ، إنه ينطوي في الأرض ويخرجها في نفس الوقت من الانطواء، وبهذا نصل إلى هذا المبدأ: «إن وضع العالم وإنتاج الأرض ملمحان أساسيان من ملامح العمل الفني»،
159
وبهذا يستقر العمل الفني في ذاته، ويكتفي بذاته، ويتميز عن الشيء والأداة جميعا، غير أن استقراره ليس سكونا ميتا، وإنما هو سكون ينطوي على الحركة، وشهادة على ذلك التوتر الحي الذي يعلمنا هيراقليطس أنه كامن في سكون القوس! إنه توتر النزاع والصراع بين العالم والأرض، بين الانفتاح والانطواء، والظهور والاحتجاب، وليس العمل الفني - مهما تكن غرابة هذه القفزة الشعرية! - سوى الميدان الذي يدور فيه هذا النزاع، وليس هذا النزاع بين الانفتاح والانطواء، والظهور والاحتجاب إلا تعبيرا عن حقيقة الوجود نفسها.
هكذا تتم الدورة ويرجع هيدجر إلى ما قرره من أن حقيقة الوجود تحدث في العمل الفني، وكأننا لم نبحث في حقيقة العمل إلا لكي نصل إلى الحقيقة نفسها، وكأننا في هذه المرحلة كلها أشبه بالفارس الذي قطع المسافات الشاسعة بحثا عن الجواد الذي كان يمتطي ظهره! مهما يكن من شيء فإن التأملات حول العمل الفني ستدفعنا إلى التفكير في ماهية الحقيقة، وستجعلنا نراها كذلك رؤية جديدة، وطبيعي أن يرجع هيدجر إلى الأفكار الأساسية التي عرضها في محاضرته عن ماهية الحقيقة، وأن يؤكد أن «الأليثيا» (اللاتحجب) هي أكثر الأشياء تحجبا (ص40) وأنها هي السر واللغز نفسه، ولكي يكون مبدأ التطابق هو معيار الحقيقة والصدق، ولكي تعبر القضية عن التوافق بين المعرفة والشيء، فلا بد أن يسبق ذلك ظهور الشيء نفسه، وانفتاح الموجود للإنسان والإنسان للموجود، ولا بد أيضا أن يسود الانفتاح علاقة الإنسان بشريكه الإنسان، ولا نريد أن نكرر ما قلناه عن ماهية الحقيقة؛ إذ يكفي أن نحتفظ منها - في سياق بحثنا عن حقيقة العمل الفني - بخاصية الظهور والانفتاح والإنارة والتجلي التي لا تنفصل عن جميعها عن التخفي والتحجب والانغلاق والانطواء، كما نحتفظ منها بكون الحقيقة لا تنفصل عن اللاحقيقة، وأنها صراع بين الإنارة والإظلام، والتحجب واللاتحجب، وهو صراع يوضع فيه الإنسان ويتعرض له على الدوام: «فماهية الحقيقة تكمن في هذا الصراع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح لانتزاع ذلك الوسط المفتوح الذي يكون فيه الموجود ومن خلاله يعود إلى نفسه» (ص43) هذا الصراع أو النزاع في قلب الحقيقة نفسها بين الإنارة والتحجب يقربنا من ذلك الصراع الذي يدور في قلب العمل الفني بين العالم (الإنارة والانفتاح) والأرض (التحجب والانطواء).
لنسأل الآن: أين يمكن أن نعثر على هذا الصراع؟ والجواب قدمناه من قبل: في العمل الفني؛ ففيه «تحدث» الحقيقة ويتم الصراع بين قطبيها أو جذريها الأصليين، أيكون العمل الفني هو «المكان» الوحيد؟ بالطبع لا، فهناك «أماكن» أخرى يعاين فيها الإنسان هذا الصراع القدري الذي تتفتح فيه حقيقة الموجود بكليته، كالتضحية في سبيل الآخرين، وتأسيس دولة أو حياة جماعية، والتفكير نفسه عندما تصبح الحقيقة هي مشكلته الرئيسية وشغله الشاغل، والمهم أن نتذكر ما أكدناه من قبل من أن عنصري العمل الفني - وضع العالم وإنتاج الأرض - هما اللذان يؤلفان طرفي النزاع الأصلي الذي يتم فيه الكفاح من أجل تجلي (لاتحجب) الموجود بكليته، أي من أجل الحقيقة (ص44). نقول الحقيقة، أي الحقيقة الكلية لا حقيقة موجود أو شيء بعينه يمكن أن يعبر عنه العمل الفني أو يعكسه أو يحاكيه كما تقول نظرية المحاكاة التقليدية، ولا يتسنى ظهور هذه الحقيقة الكلية إلا في الأعمال الفنية الخارقة التي يصح عليها القول بأنها صنعت عصرا وعبرت عن روح شعب أو جيل: «إن ما يظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب وجود الحقيقة أو كينونتها» (ص44). وغني عن الذكر أن هذه العبارة تضع حدا للخلاف التاريخي الطويل الذي يتلخص في هذا السؤال: هل هناك علاقة بين الجمال والحقيقة أم أن الجميل ينبغي أن يستبعد من مجال الحق؟ والعبارة تبين بوضوح أن الجمال أسلوب من أساليب مختلفة لتجربة الحقيقة، وأنه ليس هو الأسلوب الوحيد.
هكذا يكون هيدجر قد وجه المشكلة الجمالية وجهة جديدة، فبدلا من أن يسأل عن الحقيقة ابتداء من الفن والعمل الفني، كما فعل الكثيرون من فلاسفة الفن ولا يزالون يفعلون، نجده قد عكس السؤال وأخذ يبحث عن ماهية الفن والعمل الفني ابتداء من ماهية الحقيقة التي «تتجسد» فيه أو «تكون» وتظهر من خلاله؛ ولهذا نراه يقول: «لما كان من طبيعة الحقيقة أن ترتب أمرها في الموجود؛ لكي تصبح بذلك حقيقة، فإن الاتجاه إلى العمل شيء كامن في ماهيتها، وهذا تعبير عن إمكانية متميزة للحقيقة يجعلها توجد في قلب الموجود نفسه.» (ص50)، وكلما نجح الإبداع في إظهار انفتاح الموجود أو حقيقته، كان هذا المبدع عملا فنيا، والفنانون والأدباء العظام لم يفعلوا شيئا غير هذا، فأعمال رمبرانت أو سيزان أو كافكا تظهر إمكانية هذا الانفتاح، وتجعلنا نرى الموجود في ضوء جديد غير مألوف، هو باختصار نور الحقيقة التي لا بد أن يتفتح فيها حتى يمكننا أن نراه، ولعل هذا أن يكون هو المقصود بالعبارة الخامسة التي ذكرناها في صدر هذا الحديث من الحفاظ على العمل الفني، فليس المراد به أن نحميه من التلف أو نصونه في مكان أمين - وهو أمر واجب بطبيعة الحال! - بل إن العمل الفني يغير علاقتنا بالعالم والأرض، وينتشلنا من مستنقع العادة، وينتزعنا من سأم المألوف والمعتاد، وتتم صدمة هذا التحول في العمل الفني نفسه، وواجبنا ألا نتجاهله أو نهون من شأنه أو نقابله بالصمت، بل نجربه ونعانيه كأشد ما تكون التجربة والمعاناة: إن الحفاظ على العمل الفني من ناحية المعرفة هو معايشة «الهول» أو «الرهبة» من الحقيقة التي تحدث فيه، والتغلغل في باطن الانفتاح الذي يحدث في هذا العمل (ص55)، ولا شك أن هذا التغلغل وتلك المعايشة يتطلبان من الإنسان مسلكا خاصا يتيح له - بالفعل والإرادة - أن يجرب الانفتاح ويهب نفسه لنور الحقيقة حين يتكشف عن وجهها الحجاب، ولا شك أيضا أن هذه التجربة شيء مهول ورهيب؛ لأن الذي يظهر فيها ليس هذا الموجود المعتاد أو ذاك، بل الموجود بكليته، وإن شئت فحقيقة الوجود نفسه؛ لهذا تتطلب من الإنسان - وهو بطبيعته كائن متفتح متجاوز لنفسه باستمرار - غاية الصمود والاحتمال والاتزان في مواجهة الحدث الغريب المهول الذي لا شك في أنه سيغيره ويحوله من الأعماق، وهل يغير الإنسان شيء كما تغيره تجربة الحقيقة؟ وهل يقدر شيء على تحويله كما يقدر العمل الفني الذي يظهر الحقيقة؟ وهل يمكن أن يدهشنا الآن هذا التعريف الذي يقدمه هيدجر للفن بأنه «الحفاظ الخلاق على الحقيقة في العمل الفني»؟ وهل يمكن أن نرفض وصفه لحدوث الحقيقة - أو بالأحرى إحداثها وإظهارها وتفتحها - بأنه شعر: «إن الفن كله، بوصفه إحداث حقيقة الوجود بما هو موجود، هو في ماهيته شعر» (ص59).
لقد كان الشعر دائما وسيطا بين السماء والبشر، فلم لا يكون العمل الفني حلقة الوصل بين الإنسان والحقيقة؟
ليس المقصود بطبيعة الحال أن ترتد كل الفنون إلى الشعر الذي نعرفه ونميزه عن النثر ونختلف حول طبيعته وخصائصه ومفهومه، وإن لم نختلف حول محبته وحول وقعه الغنائي على الوجدان، وإنما المراد بالشعر أن يكون الإبداع في مختلف الفنون هو السبيل إلى تحرير الحقيقة وتجليتها والكشف عنها، ولا شك أن لكل فن سبله المختلفة عن غيره في تحقيق هذا الكشف والانفتاح، ولا شك أيضا أن لكل عصر فنه أو فنونه، أي أسلوبه في «تأسيس» الحقيقة وتصويرها والتعبير عنها.
كان هيدجر يريد أن يعرفنا بماهية العمل الفني، فإذا به يزيدنا علما بماهية الحقيقة! كنا ننتظر منه أن يكشف لنا عن ماهية الفن، فإذا به يعود بنا إلى ماهية الحقيقة كما تظهر في العمل الفني، أيكون بهذا المقال قد خطا أول خطوة على طريق «العودة» أو «الرجعة» إلى الحقيقة الأصلية التي ينطلق منها لتفسير اللغة والفكر والإنسان ... إلخ على نحو ما فسر الفن؟ أيكون بهذا قد غير طريقه الأول الذي جعله يبحث في وجود الإنسان تمهيدا للبحث عن معنى الوجود بوجه عام؟
هذا هو الذي حدث بالفعل.
لقد بدأ طريق العودة أو الرجعة إلى حقيقة الوجود، فلنحاول الآن أن نصحبه على هذا الطريق، بقدر ما يسعنا الجهد وتسعفنا الأنفاس! (4-3) حقيقة الإنسان
كتب هيدجر رسالته المشهورة عن النزعة الإنسانية (1946م) ردا على خطاب وجهه إليه المفكر الفرنسي جان بوفريه الذي زاره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتوطدت وشائج الصداقة بينهما منذ ذلك الحين، والرسالة تدول حول هذا السؤال: ما هي إنسانية الإنسان وكيف نفكر فيها؟ هل تقتصر النزعة الإنسانية - كما نفهمها عادة - على السؤال عن الإنسان والاهتمام به؟
كان كتيب سارتر عن «الوجودية نزعة إنسانية» قد صدر في ذلك الحين في باريس، وكان سارتر - قبل محاولاته الأخيرة للاقتراب من الماركسية - ما يزال على خلافه مع الماركسيين الذين أرادوا احتكار النزعة الإنسانية، فجاء سارتر ليؤكد لهم أن الوجودية هي الإنسانية الحقة، واغتنم «بوفريه» الفرصة ليسأل فيلسوف الوجود الأكبر: ما هي النزعة الإنسانية؟ أيمكن أن نضفي على هذه الكلمة معنى جديدا؟ ويرد عليه هيدجر بسؤال مضاد: وهل هناك ضرورة تدعو إلى ذلك؟
بهذا يضعنا في قلب المشكلة: كيف نفكر في ماهية الإنسان؟ ربما أوحى سؤال هيدجر المضاد بأنه لا يكترث بالبحث عن ماهية الإنسان، ولكن الواقع غير هذا، فهو يشك في كل محاولة لتحديد ماهية الإنسان بالاعتماد على المفهوم التقليدي للنزعة الإنسانية التي تضعه في مركز الوجود، صحيح أن مثل هذه المحاولة هي أقرب شيء منا وأيسره علينا، وهي كذلك نفس المحاولة التي قامت على أرض الميتافيزيقا وتحققت على مدى تاريخها، ولكنها ليست بأنسب الطرق المؤدية إلى فهم حقيقة الإنسان.
أين نجد النزعة الإنسانية، ومن من الشعوب والحضارات تمثلها لأول مرة؟ لا شك عند هيدجر أنها ظاهرة رومانية خالصة، نشأت عن التقاء الرومان بالثقافة الإغريقية في عهودها الأخيرة، وليست «النهضة» التي تمت في إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر إلا بعثا للنزعة الرومانية، أي للنزعة الإنسانية القائمة على فكرة «البايدايا» أو التربية الإغريقية، والدليل على هذا أن النظرة إلى الروح الإغريقية المتأخرة كانت نظرة رومانية، وأن «الإنسان الروماني» الذي بعثه عصر النهضة كان يعد الطرف المقابل «للإنسان البربري» (بالمعنى الأصلي الذي كان يطلق على سائر الشعوب دون الإغريق وسلالتهم من الرومان)، كما كانت «البربرية» المنسوبة للشعوب القوطية في العصر المدرسي الوسيط مرادفة لكل نزعة غير إنسانية، وقد كان من الضروري أن يستند هذا المفهوم التاريخي للنزعة الإنسانية على دراسة الإنسان، وأن يرتبط بالرجوع إلى العصور القديمة وبعث علومها وفنونها ونصوصها، ومحاكاة الروح الإغريقية بوجه خاص محاكاة خلاقة، وهذا هو الذي حدث على سبيل المثال مع النزعة الإنسانية التي قامت في ألمانيا في القرن الثامن عشر ودعا إليها رجال من أمثال فنكلمان وجوته وشيلر وهمبولت وهيردر.
بيد أن هذه الصورة التاريخية للنزعة الإنسانية ليست هي الصورة الوحيدة؛ ففي عصرنا الحديث نزعة أخرى تهتم بالإنسان دون أن تمد جذورها في أرض الثقافة اليونانية والرومانية القديمة، وتتمثل بوجه خاص في الماركسية وفي وجودية سارتر، ولقد كان من الضروري أن يختلف مفهوم النزعة الإنسانية باختلاف المذاهب والعصور؛ لأنه إذا كان المقصود منها أن يتحرر الإنسان ليسترد إنسانيته ويجد فيها قيمته وكرامته، فلا بد أن يختلف معناها باختلاف المعنى الذي يفهمه كل منها من حرية الإنسان وطبيعته.
من الواضح أن هيدجر ينتقد هذا التصور التاريخي للنزعة الإنسانية والأساس الميتافيزيقي الذي يقوم عليه، فما هي الخاصية التي تميز الإنسان في هذا التصور؟ إنها العقل
160
الذي يمكن له من المعرفة والفعل، ويضع له الأهداف ويهيئه لتحقيقها بمختلف الوسائل والأساليب العملية والنظرية.
وما الذي يأخذه هيدجر على هذا التصور العقلي؟ لم لا يرضيه؟
من المعروف أنه لم يكف طوال حياته عن «تحدي» تاريخ الميتافيزيقا والدخول معها في حوار مستمر ومحاولة تجاوزها والرجوع بها إلى «أساسها» الذي نسيته أو قصرت في التفكير فيه؛ ولهذا فإنه يرفض هذا التصور لأنه يقوم على تفسير ميتافيزيقي محدد للإنسان، ولأن هذا التفسير لم يفهم من ناحيته الميتافيزيقية ولم يتم التفكير فيه على نحو كاف.
وليس معن هذا أنه يريد أن يضع تفسيرا جديدا يحل محل التفسير القديم، وإلا كانت المسألة كما يقول هيدجر مسألة «وضع» لا يزيد في مشروعيته عن أي وضع آخر ولا يقل عنه، بل معناه أنه يبحث في كل هذه الأوضاع والتفسيرات عن «مضمونها» الذي لم ينل حظه من التفكير المتعمق الأصيل.
ما الذي يريده هيدجر من «مشروعه» أو تجربته التي استعان فيها بتجربة المفكرين الأوائل قبل سقراط، وراح يلتمس عندهم منبع الاندهاش وأصل التفلسف ونور الوجود ذاته؟ وكيف نعاين هذا النور الذي كان لا يزال حيا دافئا قبل أن تنشأ الميتافيزيقا على يدي أفلاطون وأرسطو فيخبو بريقه ويقيد في قوالب المنطق؟ وإذا كانت الميتافيزيقا القديمة لا ترضيه، فهل يلتمسه لدى الميتافيزيقا الحديثة التي توصف منذ عهد ديكارت بأنها ميتافيزيقا الذاتية؟ وأين نجد ذلك «البعد» الذي ييسر لنا فهم الموجود، ويحرره، ويظهره؟ وهل يمكن أن يظهر الموجود إلا ذاتا أو كائنا ينفتح عليه ويتعرض لنوره؟ لقد تحدث أفلاطون عن الظهور، وكانت نظريته عن إدراك الموجود عن طريق «الفكرة» أو «المثال» هي إدراكه من خلال منظره ومظهره
161
دون حاجة إلى افتراض مفهوم «الذات» التي يظهر لها، هل نرجع إلى السؤال عن شروط المعرفة التي تحصلها الذات، على نحو ما فعلت الفلسفة «الترنسندنتالية» أو الشارطية والنقدية عند كانط وأتباعه؟ إن الذات عند هذه الفلسفة هي المحور والمركز، وكل ما ليس ذاتيا فهو موضوع عليها أن تدركه وتحقق موضوعيته، لقد كان التحول الذي تم في هذه الفلسفة بعيد الأثر على الميتافيزيقا الحديثة، ولكنه لم يكن التحول الوحيد في تفسير الموجود وأسلوب ظهوره، فقد سبقته ولحقته تحولات عديدة، سواء في العصر القديم والوسيط، أو الحديث والمعاصر، كما أنه لن يكون هو التحول الأخير، ونحن لا نملك حرية التصرف في أمثال هذه التحولات ولا نستطيع أن نحدثها بمحض إرادتنا؛ لأنها جزء من تاريخ الميتافيزيقا، أي من تاريخ الإنسان الغربي وقدره، وأقصى ما نقدر عليه هو محاولة التفكير فيها، ولهذا كان تفسير هيدجر لتاريخ الميتافيزيقا منذ بدايتها عند أفلاطون إلى نهايتها عند نيتشه؛ تفسيرا لتاريخ الإنسانية الغربية نفسها: وأهم ما في هذا التفسير أن الميتافيزيقا لم تضع هذه التحولات المختلفة في تفسير الموجود موضع السؤال، وإنما كانت دائما تضع تفسيرا محددا تعده التفسير الحقيقي الوحيد، إلى أن يأتي التحول الجديد ومعه تفسير جديد، ويكفي أن نستعرض «شريط» هذه التفسيرات «الموجودية» للموجود - لا للوجود نفسه! - من المثال (الأيدايا ) الأفلاطوني والفاعلية (الإنيرجيا) الأرسطية والموجود المخلوق (في العصر الوسيط) إلى الذات (ديكارت وكانط) والمونادة (ليبنتز) والروح المطلق (هيجل) وإرادة القوة (نيتشه)، ولا يتسع المجال لمناقشة قضية الميتافيزيقا وتاريخها ورأي هيدجر في ضرورة قهرها وتجاوزها و«تفكيكها»؛ إذ يكفينا الآن أنه يطرح هذا السؤال: ما الذي تم في كل هذه التحولات؟ أو بعبارة أخرى ما هو النور أو «الإنارة» التي «حدثت» في كل مرة وظهر على ضوئها الموجود دون أن يتساءل الفلاسفة عن حقيقتها أو يتفكروا فيها؟ إنهم جميعا قد فكروا في «الموجود» ولم ينتبهوا إلى الوجود نفسه الذي ظهر في كل هذه التحولات واحتجب في نفس الوقت أثناء ظهوره؛ ولهذا أصبح التفكير في الوجود نفسه والتحولات المختلفة التي طرأت على «إنارته» هي المهمة الملقاة على عاتق كل فكر أصيل، كما أصبحت الضرورة تقتضي أن يكون هذا الفكر غير ميتافيزيقي.
ولكن ما علاقة هذا كله بإنسانية الإنسان وبرسالة النزعة الإنسانية؟
لقد عرفنا أن الإنارة مرتبطة بالتفتح أو الانفتاح، وهذا الانفتاح لا يمكن تصوره بغير الإنسان الذي هو في صميمه «تواجد» أو «تخارج» أو «تعرض» لنور الوجود، هذا هو الذي أكدته «ماهية الحقيقة»، وأوضحته الدراسة السابقة عن الأصل في العمل الفني عندما اعتبرته «الوسيط المنير» الذي يدور فيه النزاع من أجل الحقيقة، وهذا هو الذي ستبرزه النزعة الإنسانية التي ستفكر في الإنسان على ضوء علاقته بالانفتاح على إنارة الحقيقة ونور الوجود، فهي لن تفكر في إنسانية الإنسان من ناحية أفعاله وإنجازاته، ولا من جهة نشاطه السياسي أو سلوكه الاجتماعي، وإنما ستفكر فيها كما قلنا من خلال علاقته بالإنارة، إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي وهب القدرة على الانفتاح بحكم وجوده نفسه الذي وصفناه «بالتواجد»،
162
وهو كذلك الكائن الذي فرضت عليه مهمة الحفاظ عليها؛ ولهذا يمكن القول بأنه هو حارسها وراعيها، وتتأكد إنسانية الإنسان عندما يقوم بهذه المهمة ويحفظها بكيانه وفكره، وتنسى وتضيع عندما يتنكر لها ويعجز عن القيام بها، ولهذا نجد هيدجر يقول في بداية رسالته: إن الفكر يحقق علاقة الوجود بماهية الإنسان، وليس ما «يحققه الفكر» إلا تجربة الإنارة والصمود والتعبير عنها باللغة، عندئذ تصبح اللغة هي «بيت الوجود»، أي المكان الذي تتجلى فيه الإنارة تجليا أصيلا، بينما تظل في العادة خافية أو متحجبة لأننا لا ننتبه في حياتنا اليومية إلا إلى الموجودات التي تظهر في نورها، ولا شك أن إدراك هذه الإنارة أمر عسير؛ لأنها ليست موضوعا يمكن التعبير عنه باللغة التي درجة على وصف الموضوعات المألوفة، كما أنها ليست موجودا كسائر الموجودات التي تظهر لنا ويسهل علينا إدراكها، وإنما هي ذلك الذي يجعل تجربة الموجود أمرا ممكنا.
مهمة الفكر إذن تنحصر في التعبير عن الإنارة بالكلمة، والحفاظ عليها، وتيسير السبل إلى إدراك ماهيتها، ولعل هذه الفكرة هي التي حركت هيدجر ودفعته منذ البداية للسؤال عن الوجود والحقيقة.
ما هي العلاقة بين الإنارة والوجود؟
إن الإنارة هي الوجود، بقدر ما يتيسر لنا إدراكه وفهمه فهما غير مباشر ولا موضوعي، وهذا هو الذي تعبر عنه هذه الرسالة حين تقول: «إن الفكر يسمح للوجود بأن يستولي عليه كيما يعبر بالقول عن حقيقة الوجود، والفكر هو الذي يحقق هذا السماح.» فحقيقة الوجود هي هذه الإنارة التي «تحدث» وتحمل علاقتنا بالموجود وتبقى عليها، وبهذا تشهد الحقيقة نفسها تحولا حاسما في مفهومها ووظيفتها، فلم تعد تحديدا يتعلق بالموجود «وينطبق» عليه، وإنما أصبحت هي «اللاتحجب» أو الإنارة التي لا نفكر في الوجود إلا على ضوئها بل نجعلها مرادفة له، ربما يتحمل هيدجر مسئولية الارتباك الذي نقع فيه عند الاطلاع على هذه المصطلحات المختلفة من وجود وإنارة وحقيقة ولاتحجب (أليثيا) في مؤلفاته العديدة، ولكن لعل للرجل عذره؛ فهي قد صحبت طريقه الطويل في التفلسف، كما أنه كان دائما «على الطريق» إليها، ومع ذلك نستطيع أن نقول الآن، بعد اكتمال دائرته الفكرية، إنها جميعا تعبر عن شيء واحد وتجربة واحدة، والأهم من المصطلحات بطبيعة الحال هو تحقيق هذه التجربة وبذل الجهد المتصل في سبيلها.
ونسأل الآن: ما هي العلاقة بين الوجود وبين ماهية الإنسان الذي وصفنا وجوده بأنه «تواجد»؟ إن الوجود نفسه هو «العلاقة»، و«الموضع» الذي تكون فيه حقيقة الوجود «وترتب نفسها» فيه هو الموجود الإنساني أو على حد تعبير هيدجر: «إن التعرض لإنارة الوجود هو الذي أسميه بتواجد الإنسان، والإنسان وحده هو الذي يختص بهذا الأسلوب في الوجود، والتواجد المفهوم بهذا المعنى ليس هو الأصل في إمكان العقل فحسب، وإنما التواجد هو ذاك الذي تحفظ فيه ماهية الإنسان منشأ تحديده.»
كلام عسير بغير شك، ولكنه يبين التحول الذي طرأ على وجهة نظر الفيلسوف بعد «الوجود والزمان» فأصبحت أوسع وأشمل، لم يعد «التواجد» مجرد جهد يبذله الإنسان لكي يصل إلى هويته أو وجوده الأصيل عن طريق «شروعه» على إمكانياته، بل أصبح هو التعرض لإنارة الوجود والانفتاح عليها، هذه الإنارة لم يحدثها الإنسان ولم يخلقها بإرادته وفعله، وإن كانت وراء كل خلق أو فعل، وتدور رسالة النزعة الإنسانية حول وجود الإنسان أو بالأحرى تواجده، أي حول فهم الإنسان بوصفه كائنا متميزا عن سائر الكائنات الحية بعلاقته بالوجود.
بهذا تنفتح لنا أبواب المجال الذي يمكن فيه تحديد ماهية الإنسان، وبهذا يكتسب من القيمة والكرامة أضعاف ما أعطته إياه النزعة الإنسانية، إن إنسانيته الآن مستمدة من قربه من الوجود، وفكره منصب على الانفتاح الحادث في التاريخ، أي على حقيقة الوجود: «إن الفكر ليفعل في أثناء تفكيره، وربما كان هذا الفعل هو أبسط الأمور وأسماها في نفس الوقت؛ لأنه يتعلق بعلاقة الوجود بالإنسان.»
ومن الطبيعي بعد كل ما قلناه أن تكون اللغة مرتبطة بالوجود، فاللغة تعبر عن تجربة الوجود، والفكر والشعر - كما سنرى بعد - لا يهتمان بشيء قدر اهتمامهما بذلك الانفتاح الأساسي على الحقيقة، وإذا كنا في العصر الحاضر أسرى الفهم التقني أو المنطقي للفكر، فإن هذا يزيد من مشقة الجهد الذي علينا أن نبذله للاقتراب من الأفق الذي يحاول هيدجر أن يهدينا إليه، صحيح أن المنطق يعلمنا فن التفكير السليم، ولكنه لن يعلمنا كيف نفكر ولا ما هو الفكر، وأقصى ما يمكن أن نعرفه من المنطق هو التفسير التقني أو «الأداتي» الذي يتحكم اليوم في حياتنا العملية ولا يعدو أن يكون تفسيرا ميتافيزيقيا محدودا للفكر الذي انحدر إلينا من السفسطائيين وأفلاطون ولم تتوقف أيدي الصناع المهرة عن تهذيبه وتنقيحه! وعندما يسير الفكر صوب نهايته، بابتعاده عن عنصره، نجده يعوض هذا النقص بأن يجعل من نفسه تقنية وأداة للتعليم، ومن ثم يؤكد نفسه في برامج التدريس ونظم الحضارة، وتصبح الفلسفة بكل بساطة أسلوبا فنيا للشرح والتفسير انطلاقا من أسمى العلل والأسباب.
163
ولهذا يحاول هيدجر أن يعيد الفكر إلى عنصره، أي يعلمه السباحة من جديد في بحر الوجود الذي استمد منه قوته وطاقته وأصالته في فجر الفلسفة! وإن شئنا الدقة قلنا إنه يرجع الوجود إلى الفكر لكي يستولي عليه، ويزوده بالقدرة والطاقة، ويعرفه بجوهره الذي نسيه وغفل عنه في غمرة انشغاله بالموجودات، بهذا يتم التحول الذي ننتظره من التفكير الفلسفي الحق، ويتغير التصور السائد منذ القدم، فبدلا من أن نفكر في الوجود - وهذا بالطبع هو واجبنا المحتوم - نحاول أن يفكر الوجود فينا، أن يصبح الفكر شيئا «يحدثه» الوجود بعد أن يسلم له نفسه وينفتح عليه بكل طاقته وينصت لندائه ويقف منه موقف التلقي والخشوع، وليس التفكير في الإنارة والأسلوب الذي أنارت به عند هذا الفيلسوف أو ذاك الشاعر، في هذا العصر أو غيره، سوى نوع من الإنصات لنداء الوجود.
لن نحاول إذن أن نفهم الإنسان باعتباره «ذاتا» تفسر الموجود من حولها تفسيرات مختلفة، كما فعلت النزعات الإنسانية على اختلافها، بل سنسير في الاتجاه الآخر ونجتهد في فهم الإنسان من ناحية الوجود نفسه كما نجتهد في فهمها من خلال علاقة الإنسان به، وسيكون علينا أن نتخلى عن مجال الميتافيزيقا - أو نقهرها ونتحداها! - لأنها وإن تكن قد فكرت في وجود الموجود-أو موجوديته، فقد عجزت عن إدراك الفارق الأساسي بينهما، ولم تسأل عن حقيقة الوجود نفسه، ولا سألت عن العلاقة الحميمة بين ماهية الإنسان وبين الحقيقة، وسيكون علينا أن نفكر في الوجود الذي نعيش دائما في قربه وجواره، والذي يقربنا من الموجودات كما يقربنا من أنفسنا، وليس هذا الموجود كما قلنا إلا «الإنارة» التي لا بد من افتراضها حتى يتسنى للموجود أن يظهر كما يتسنى لنا أن نلتقي به.
وسنخطئ لو تصورنا أن هذه هي الغاية ونهاية المطاف؛ لأن مهمتنا ستبدأ في الواقع من هذه «المعرفة» - إن جاز لنا أن نسميها بهذا الاسم - التي ستمكننا من النظر إلى ماهية الإنسان على ضوء الإنارة التي تحدث في التاريخ، ولا شك أن هذه الإنارة قد تغيرت أساليب ظهورها وتجليها باختلاف الفلاسفة والعصور والشعوب، وكانت مهمة الإنسان دائما أن يتحملها ويواجهها ويصمد لها وينفتح عليها، لا أن يصطنعها أو يخلقها من العدم، لقد كانت قدرا - كما قال الفيلسوف - وما قدر على فرد أو شعب لا يلزم فردا أو شعبا آخر كل الإلزام، فهل آن لنا أن نفكر في وجودنا والإنارة التي سطع بريقها في طرقات تاريخنا؟ هل نأمل أن نحتشد ونتجمع لنتحمل قدرنا ونواجه مصيرنا ونعرف حقيقتنا بعد أن طال الرقود والركود، والتقصير والنسيان؟ (4-4) حقيقة اللغة
الشعر والفكر واللغة، هذا هو المجال الذي بقي علينا أن نستكشفه على هدي الحقيقة، وبنعمة نورها وتجليها، فلعلنا أن نجد فيها الإنقاذ من المحنة التي تتهدد تاريخنا المعاصر، أو لعلنا أن نشارك بأنفسنا في هذا الإنقاذ.
والكلام عن الشعر والفكر واللغة يحتاج للرجوع إلى دراسات هيدجر المتعددة وشروحه المختلفة لنصوص الشعراء، ابتداء من «الوجود والزمان» إلى «الأصل في العمل الفني»، و«هلدرلين وماهية الشعر»، وتفسير بعض قصائد هذا الشاعر الكبير مثل «العودة»، و«إلى الأقارب»، و«كما في يوم عيد»، و«ذكرى»، فضلا عن بعض أشعار «رلكه» و«تراكل» وجئورجه، ولما كان هذا أكبر من أن يتسع له المجال، فسوف نكتفي ببعض ما جاء في كتابه «على الطريق إلى اللغة»
164
ونتناول بوجه خاص محاضراته عن ماهية اللغة وتفسيره لقصيدة «الكلمة» للشاعر ستيفان جئورجه.
يقول هيدجر في مقدمة محاضراته الثلاث عن «ماهية اللغة» إن هدفه هو «الدخول في تجربة مع اللغة»، وليس معنى هذا بطبيعة الحال أن نقوم بتجارب على اللغة أو نجمع معلومات عنها، كما يفعل علماء اللغة وما بعد اللغة، بل معناه أن ننتبه إلى علاقتنا باللغة، ونتفكر في «سكننا في اللغة»، ونستوضح طبيعة شيء يتعلق بصميم وجودنا، وهو يؤكد فضلا عن هذا أن سؤاله عن ماهية اللغة لا ينتهج مسالك الميتافيزيقا الحديثة التي تتقيد بها بحوث «ما بعد اللغة»،
165
فهذه البحوث هي ميتافيزيقا السيطرة التقنية التي تنشر سلطانها على جميع اللغات لتشغيل أدوات التوصيل والأعلام التي تصل بين الكواكب المختلفة.
علينا إذن أن نحيا تجربة اللغة بحيث تعبر عن نفسها بنفسها، فاللغة تتميز بأننا نعيش فيها ونألفها دون أن ننتبه لها في العادة أو نحاول تركيز أبصارنا عليها، فكيف نخرج من هذه الحال ونفكر في ماهيتها؟
إننا جميعا نفزع إلى بيت أو قصيدة من الشعر نستشهد بها حين تتأزم مواقفنا في الحياة أو نعجز عن التعبير عن مكنون مشاعرنا، فالشعراء هم أصحاب الرؤية، وكلماتهم لآلئ بحر التجربة البشرية، وكم من أبيات قليلة كشفت - كالبرق الخاطف - عن خبرة أجيال طويلة، وكم لخصت في حكم قليلة ما عجز الفيلسوف عن قوله في مجلدات ضخمة (ولقد طالما لجأ الفلاسفة أنفسهم إلى صور الشعر ورموزه وتشبيهاته واستعاراته حين انطلقوا إلى مجال الفكر الخالص وعجزت أجنحة الرؤية والعيان عن التحليق إليه، كذلك فعل أفلاطون عندما غادر أرض الحس والمحسوس في رحلته إلى عالم المثل ولم يستطع أن يعبر عن تجربته الفكرية المجردة بمثال الخير - وهو أسماها جميعا - إلا بالصورة والرمز، ورمز الكهف ورمز الشمس والخط كلها تعبير عن عجز اللغة حين يصعد الفكر إلى أفق مرتفع فوق الأشياء والموضوعات المرئية والمحسوسة، فتكبو كذلك جياد اللغة - التي خلقت بطبيعة استعمالها لوصفها ومخاطبتها - عن اللحاق به).
ويبدو أن التفكير في ماهية اللغة قد ألجأ هيدجر كذلك إلى التماس العون من الشعراء، لا لأن علاقتهم باللغة علاقة متميزة فحسب، بل لأنهم أقدر من غيرهم على التعبير عنها، وكما ذهب إلى هيلدرلين ليستوضحه عن ماهية الشاعر والشعر، نجده يتجه إلى الشاعر الرمزي ستيفان جئورجه
166 (1868-1933م) ليتعرف على علاقته باللغة، وهكذا يحلل قصيدة «الكلمة» التي كتبها الشاعر سنة 1919م ونشرها بعد ذلك في ديوانه «المملكة الجديدة»:
معجزة من بعيد أو حلما
جلبته إلى طرف بلادي،
وانتظرت حتى تجد ربة القدر
167
المظلمة
في نبعها اسما تضفيه عليه،
عندئذ أمكنني أن أقبض عليها بقوة،
وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في عظامي،
وقديما حركني الشوق إلى رحلة طيبة،
ومعي جوهرة ثرية ورقيقة،
فتشت
168
طويلا ثم جاءتني بالخبر: «لا شيء هنا يرقد في الأعماق.»
هنالك أفلتت من بين يدي،
وما كسبت بلدي الكنز أبدا،
فتعلمت وقلبي محزون هذا الزهد:
إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء بعد.
تتحدث القصيدة في أبياتها الستة الأولى عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته الاسم، نعمة منها وهدية، والكلمة هي التي تظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار، هنا نبلغ قمة الفعل الشعري؛ فالبيت السادس يقول: «وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في العظام»، ويشير هذا إلى أن الأسماء هي التي «تحضر» الأشياء وتمدها بالوجود والثبات.
وفي الأبيات الستة الأخيرة يحدثنا الشاعر عن تجربة مختلفة، فهو لم يحمل معه شيئا من بعيد، وإنما رجع من رحلته الطيبة ومعه شيء قريب: جوهرة ثرية رقيقة، ما الذي نفهمه من هذه الجوهرة؟ ربما كانت هي الجوهرة التي تظهر وجود الشاعر نفسه، ولكن ربة القدر تفتش في نبعها فلا تجد لها اسما، لقد استطاعت قبل ذلك أن تجد لكل موجود اسما، فما الذي يعجزها الآن عن العثور على اسم لهذه الجوهرة؟ أتكون شيئا لا وجود له؟ ولكنها جوهرة، والجوهرة شيء غال ونفيس، موجود من نوع متميز، وحين تغيب الكلمة تختفي الجوهرة وتفلت من يدي الشاعر، هذا الغياب يشير إلى وظيفة أخرى للكلمة، إلى أسلوب آخر من أساليب وجودها؛ فهي لا تقتصر على إضفاء الاسم على الموجودات، وليست مجرد يد تمتد بالاسم إلى ما نتصور وجوده، بل هي قبل كل شيء ذلك الذي يهب الوجود ويضفي الكينونة.
تنتهي القصيدة بهذين البيتين:
فتعلمت وقلبي محزون هذا الزهد:
إن تنكسر الكلمة لا يوجد شيء بعد.
فكيف نفهم هذه النهاية؟ ما الذي يزهد فيه الشاعر أو يصد عنه؟ وما الذي تعلمه هنا من جديد؟ إنه شيء يتعلق بالرأي الذي كان يؤمن به من قبل عن العلاقة بين الشيء والكلمة، لقد تعلم الآن أن يتخلى عن هذا الرأي السابق، والتخلي ينطوي في نفس الوقت على وعد، فالكلمة تبدو له الآن في ثوب جديد: إنها هي التي تضفي على الشيء وجوده وتحافظ عليه.
عرف الشاعر أنه حارس الكلمة ومدبرها، وإذا كانت تجربته قد انتهت بالإخفاق، إذا كانت ربة القدر قد عجزت عن العثور على كلمة تسمي بها تجربته الجديدة، فيجب ألا نفهم من هذا أنها تجربة سلبية خالصة، أو أنه خرج منها فاقدا كل كنوزه، لقد تعلم الزهد والصد والتخلي عن عقيدته السابقة، ولكنه تعلم شيئا لم يكن يعلمه عن سلطان الكلمة وقدرتها، والأسى الذي يشعر به على ما فقده وضاع منه، يحمل في طياته وعدا بما يدخره المستقبل من حضور الغائب واقتراب البعيد، ولعل هذا الإحساس بالأسى أن يكون هو المسيطر على هيدجر نفسه، فهو الإحساس «بزمن المحنة» الذي عبر عنه هلدرلين ببيته المعروف: «لم الشعراء في الزمن الضنين؟» حين افتقد أولئك الذين يؤسسون بالكلمة «ما يبقى»، وإذا كان الوجود قد احتجب عنا نوره، فإن التفكير في هذا الاحتجاب والإحساس العميق به يمكن أن يكونا إيذانا بظهوره ووعدا بحضوره، وموقف هيدجر من الميتافيزيقا يوضح ما نقول، فتاريخها في رأيه هو زمن نسيان الوجود، وطبيعي أن تفكير هيدجر لا يلغي هذا الزمن ببساطة، وإنما يحاول أن يشعرنا بغياب الوجود عنه، وبأننا نعيش في زمن لم يفكر بعد في هذا الغياب تفكيرا أصيلا، حتى يمهد لإمكان التحول الذي لا يستطيع أحد أن يتنبأ بموعده.
ما علاقة هذا بحديث هيدجر عن اللغة؟
ما شأنه بما يقوله عن قدرة الكلمة؟
الحق أن المشكلات التي يثيرها ليست مجرد مشكلات للبحث، وإنما هي وعاء يضم تجربته الأساسية، ويقدم من خلاله سؤاله عن الوجود، كما فعل في بحوثه عن العمل الفني ومشكلة التقنية وشروحه لنصوص الفلاسفة وقصائد الشعراء ... إلخ، إنه يريد أن يستمع إلى نداء اللغة، واللغة هي لغة الوجود، ولا بد أن تتحدث اللغة إلينا، أن تعبر لنا عن ماهيتها: «فماهية اللغة هي لغة الماهية»، ولن تتسنى لنا تجربة اللغة حتى يحدث هذا، وخير ما يمهد لهذا الحدث أن نحس بجوار الشعر والفكر، ونتمكن من السكن في هذا الجوار، صحيح أن المفكرين قد قدموا لنا أفكارا قيمة عن اللغة، وأن الشعراء قد أبدعوا آيات لغوية رائعة، غير أن ماهية اللغة لم تعبر عن نفسها عند أحد منهم ولا في أي مكان بوصفها لغة الماهية، فما تقوله اللغة نفسها يختفي عادة وراء ما يقال من خلالها، وربما كان السبب في هذا أنها تتمسك بالأصل الذي انحدرت منه وتأبى على ماهيتها أن تظهر، وربما كان السبب أيضا أننا لم نفكر بعد تفكيرا أصيلا في الشعر والفكر، وهما الأسلوبان المميزان في القول، ولم نحاول أن نلتمسهما حيث ينبغي أن يلتمسا، أي في الجوار الذي يؤلف بينهما.
ونعود إلى تفسير قصيدة جئورجه عن الكلمة، فهي لا تقتصر على القول بأن هناك علاقة بين الشيء (الموجود) والكلمة، بل تزيد عليه أن الكلمة هي التي تساعد الشيء على الوجود وتحفظه، إنما هي التي تجعل الشيء شيئا، وما وصفناه بالعلاقة بينهما هو في الحقيقة أقرب إلى «التمكين»، فالكلمة هي التي تمكن الموجود من الوجود وتكفله له.
قلنا إن الشعر والفكر يربط بينهما الجوار، فما هو العنصر المشترك بينهما؟ إنه عنصر اللغة نفسها، ولكننا جميعا نعلم أن الشعر غير الفكر، هذا ما يشهد به الحس السليم ولا ينكره هيدجر، وإذا كان الشاعر والمفكر، والعالم ورجل الشارع يستخدمون لغة واحدة أو عنصرا واحدا، فإنهم يختلفون مع ذلك أشد الاختلاف تبعا لاستخدام الكلمة في الشعر أو الفكر أو العلم أو الحياة اليومية، وربما أوحى إلينا تفسير قصيدة جئورجه أننا لسنا في جوار الشعر والفكر؛ إذ كان الفكر هو طريقنا إلى فهم ما يقوله الشاعر، ولكن المسألة أعقد من هذا، فهذه المحاولة التي قمنا بها يعوزها إدراك الجوار في ذاته، إننا نقيم حقا في اللغة ونتخذ منها سكنا لنا، ولكن الإحساس بهذا المقام والسكن من أصعب الأمور، وإذا كان هذا السكن هو الذي يحدد ماهية الإنسان، فإن العودة إلى ما يسميه هيدجر «مقر الوجود الإنساني» هو الواجب الأسمى علينا، وهو الذي يتجه إليه بكل جهده وفكره، ولا ينبغي أن نتصور هذا «المقر» «مكانا ثابتا» لا يبرحه الإنسان، بل لا بد من اعتباره المكان أو المجال الذي تتفتح فيه إمكانياته الأصيلة التي عرفناها عند الحديث عن تحليل الوجود الإنساني في «الوجود والزمان»، ولا ينبغي أيضا أن نفهم هذه العودة بمعنى الرجوع للقديم، فهذا شيء تأباه تاريخية الإنسان كما يأباه التكوين الزماني للوجود نفسه.
هذه «الرجعة» إلى مقر الوجود الإنساني والماهية الإنسانية تقابل ما نلمسه اليوم من «تقدم» في ماهية الآلة مقابلة الضد للضد، وما بقي الإنسان على جهله بقوام ماهيته وأساسها، فسيظل كل تقدم في السيطرة الآلية والتقنية أمرا مشكوكا فيه؛ لأنه سيقيس تقدمه بمدى تحكمه في الطبيعة، لا بمدى معرفته بحقيقته أو بالطبيعة نفسها بما هي كذلك.
ولكن ما هي هذه الجوهرة التي يحملها الشاعر معه؟ كيف نفهمها؟ ما معنى هذا الرمز؟ ولماذا تعجز ربة القدر عن إيجاد اسم لها؟ إن هيدجر يقترح علينا أن تكون هذه الجوهرة هي الكلمة نفسها، هنا يعرف الشاعر حدوده التي لا يصح أن يتخطاها، فهو يفتش في «وطن الشعر» عن كلمة تسمى الكلمة فلا يعثر عليها، أيمكن أن يساعده الفكر؟ إن الكلمة ليست شيئا، عبثا نبحث بين الأشياء عن الكلمة، والكلمة لا «تكون» بالمعنى الذي «تكون» به الأشياء والموجودات، ومع ذلك فكينونتها متميزة عن كل الأشياء؛ ولهذا لا يجوز لنا أبدا - من الناحية الموضوعية البحتة - أن نقول عنها إنها تكون، والأولى أن نقول: إنها تعطي.
169
إنها تعطي بمعنى العطاء والإهداء، ولكن ما الذي تعطيه؟ الجواب بسيط: إنه الوجود، وهي لا تعطيه بالمعنى الذي كان مفهوما في العصور الوسطى من أن الله أو الكلمة هي التي تخلق الموجود، بل بالمعنى الذي فهمناه من قبل من «الإنارة» التي تتجلى فيها الموجودات وتظهر، دون حاجة منها إلى خلقها وإيجادها.
ونقترب الآن من فكرة الجوار بين الشعر والفكر، ونحاول أن نفهمه من خلال اللغة نفسها: «فالإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر ما ينصت لنداء اللغة، وبقدر ما يستخدم اللغة ويتحدث بها»، هذه العبارة تغير محور الارتكاز الذي عرفناه حتى الآن، فقد تحدثنا عن علاقة الماهية بالإنسان، ووصفنا اللغة بأنها سكنه ومقامه الذي يحيا فيه دون أن ينتبه إليه أو يتفكر في أمره؛ لأنه أبعد شيء عنه وإن كان أقربه إليه، وها هو ذا الإنسان يتوارى قليلا لكي تبرز اللغة إلى مقدمة المسرح (وهي - إن صح هذا الظن - تخاطبنا كما يخاطب الممثل أو الراوية جمهور المتفرجين في المسرحيات الملحمية، أو المسرحيات التي أصيبت بوباء «الموضة» دون أن يكون لها من الملحمية أدنى نصيب) لكي تقول لنا: لقد درجتم على اعتبار اللغة أداة اتصال وتوصيل، وظننتم أن اللغة وسيلة تستخدمونها، ولكن ما رأيكم، دام فضلكم، في أنكم مخطئون في حقها وحق أنفسكم؟ إن اللغة يا سادة هي التي تستخدمكم، تعلموا إذن أن اللغة هي التي تستخدم الإنسان، وعليه أن يطيعها وينصت إليها، وربما ثار أحد المتفرجين فنهض غاضبا من مقعده - كما يحدث كثيرا في مسرحيات هذه الأيام - وصعد إلى خشبة المسرح وصاح: ما هذه الإهانة؟ إنك أنت الذي تجعل منها شيئا، ما عسى أن تكون هذه اللغة التي تريد منا أن نخدمها ونكون في طاعتها؟ أرجعتم بنا إلى نظرية الأصل السماوي للغة أو نظرية «التوقيف» وما فيها من خزعبلات عفى عليها الزمن ودفنها العلم؟ ولكن «الراوية» لن يستسلم بهذه السهولة، سيحافظ على دوره ولو حاول المتفرجون كلهم أن يزحزحوه من مكانه! وها هو ذا يقول في تؤدة تليق به إن ماهية اللغة هي القول، والقول ،
170
في اشتقاقه الأصلي من اللغات الهندو-أوروبية التي تجهلونها ويعرفها المؤلف، يعني الإشارة والدلالة، وهو يعني كذلك الإظهار، والإظهار - وهذا ما لا تعلمونه أيضا - مرتبط بإنارة الوجود التي تحرر وتعطي، وتمنع وتخفي، فما الذي تعطيه وتمنعه، ما الذي تظهره وتحجبه؟ إنه العالم، وهذا شيء غير جديد على من درس «الأصل في العمل الفني» الذي قلنا فيه إن العمل يظهر حقيقة الوجود ويحجبها، يعطيها ويمنعها، هكذا يمكننا أن نقول - سواء فهمتم أم لم تفهموا - إن ماهية اللغة هي: لغة الماهية، وهي عبارة لو تأملتموها وعشتموها لحولتكم من الأعماق.
فالماهية في الشطر الأول من العبارة غيرها في الشطر الثاني، إنها في الأول تأتي إجابة على السؤال عما هي، واللغة هنا هي الموضوع الذي نبحث عن ماهيته عن طريق مفهومنا وتصورنا عنه، بحيث نستطيع أن نجيب على من يسألنا «ما هو»، وهذا يعود بنا إلى الأبيات الستة الأولى من قصيدة «الكلمة»، كما يرجع بنا كذلك إلى مجال التصور الميتافيزيقي التقليدي، أما الماهية في الشطر الآخر من العبارة فهي التي ستأتي بالتحول المنتظر؛ لأنها ستنقلنا من ميدان التصور الميتافيزيقي الذي طال حبسكم فيه، إلى مجال الفكر غير الميتافيزيقي الذي نريد أن نهديكم إليه، هذا شيء سيصدكم ويثير دهشتكم، ولكن أين الفكر الحقيقي الذي لا يصدم ولا يدهش؟ إن الماهية الآن ليست الإجابة على سؤال عما هو الموضوع؛ لأننا لسنا بصدد موضوع ولا شيء موضوعي، وإنما تفيد معنى الحفاظ والضمان والعطاء، فاللغة تهمنا، وتتصل بصميم وجودنا وتحركه وتلمس شغافه، واللغة تنتمي بهذا المعنى للماهية التي تحرك وتمنح، ما هو الذي يحرك ويمنح؟ إن أعمال هيدجر الأخيرة، وبخاصة محاضرته عن الشيء،
171
تسميه «الرباع» أي اتجاهات العالم الأربع من أرض وسماء ومن فانين وسماويين في علاقتهم ببعضهم البعض، ما صلة هذا باللغة؟ إن اللغة هي التي تحمل تفاعل هذا الرباع أو هذه الوجهات الأربع أو هذا العالم، وفي هذا التفاعل «يحدث» القرب، والقرب والقول أسلوبا الإظهار، أي أسلوبا «كينونة» اللغة وإحضارها للموجودات من التحجب إلى النور، تلك هي ماهيتها.
لا شك أن المتفرج الذكي قد تذكر الشاعر هلدرين عند سماع كلمات الأرض والسماء والفانين والسماويين، وربما تذكر قصيدته الكبرى «خبز ونبيذ» التي يقول في نهاية المقطوعة الخامسة منها:
هكذا الإنسان، حين تكون الثروة بين يديه،
ويؤثره الرب نفسه بالنعم والهدايا.
لا يفطن إليها ولا يراها.
عليه أولا أن يتحمل ويقاسي،
لكنه الآن يسمى أعز الأحباب إلى نفسه،
ولا بد أن تتفتح الكلمات التي تدل عليه،
كما تتفتح الأزهار.
172
وقد لمح هيدجر «الكلمة» - زهرة الفهم كما يسميها هلدرين! - أو الكلمات كما جاءت في هذه القصيدة، ففهم أنها هي «الجهة» التي تسمح للأرض والسماء وتدفق الأعماق وقوة الأعالي بأن تتقابل وتتفاعل، وفي هذا التفاعل كما قلنا يتم القرب والإظهار والإحضار، أي يكون الوجود، فليست اللغة شيئا تربطنا به علاقة فحسب، بل هي - إن صح التعبير - سيدة العلاقات، هي محركة العالم وكاشفة الوجود، وهي التي تعطي وتمنح، وتحفظ وتحمي، وعلى الإنسان أن يسكن في بيتها ويحرسه ويرعاه.
ونخطئ لو تصورنا أن النطق في اللغة نتيجة عملية فيزيولوجية وفيزيائية ونفسية: «إن المنطوق المسموع من اللغة يحتفظ به في التوافق الذي يوفق بين جهات العمل الأربع أو رباعه الفريد ويجعلها تتفاعل وتتداخل» (ص208).
كلام غريب كما قلت لكم، ولكن غرابته تأتي من تأصيله، فنحن ننظر الآن إلى أصل اللغة، لا إلى استخدامها ووظائفها، نتأمل ماهيتها التي «يكون» بها الموجود، ولا نعتبرها وسيلة أو أداة، نراها تمنح وتعطي وتحرر وتثير، ولا نراها قيدا يتحكم فينا طول العمر، هل تفهمون من هذا أنها قوة متعالية؟ ولكن هذا هو الفهم الميتافيزيقي الذي نريد أن نحولكم عنه إلى فكر الوجود، إنها القرب الكامن في قوى العالم الأربع، أو هي «التجميع» الأصلي - إن شئنا أن نوافق هيدجر على تفسيره لكلمة اللوجوس عند هيراقليطس - وهي، كتجميع أصلي، ساكنة وبلا صوت؛ لأنها هي التي تنعم على الإنسان بقول «يكون» و«يوجد»، لغة السكينة هذه هي لغة الماهية، ويمكننا أيضا أن نقول: لغة الوجود (بشرط ألا نفهم الكلمة الأخيرة بمعانيها الميتافيزيقية القديمة!) والبيت الأخير من قصيدة «الكلمة» يشير بوضوح إلى انكسار الكلمة، الكلمة التي ألفناها وتعودنا عليها، كما يدعونا إلى فهمها والتفكير فيها من حيث هي سكينة، ولن يمكننا أن نفهمها هذا الفهم إلا إذا عرفنا أن الشعر والفكر متجاوران، والجار حبيب الجار، وجوارهما في اللغة التي تمنح القرب وتهديه، فاللغة تعبر، وهي بهذا التعبير تدل وتشير، وتصل إلى كل جهات الوجود، فتظهر الموجودات أو تخفيها، تنيرها أو تسدل عليها الحجاب، والإظهار «حدث» لن يدركه الإنسان حتى يستمع إلى اللغة ويطيعها، لأنها لن تسمح له بأن يعبر بها حتى يقف منها موقف الطاعة، نفس الموقف الذي يقفه من نور الوجود، إن الإنسان محتاج إلى اللغة، واللغة بحاجة إلى الإنسان، وإن لم تكن صنيعته أو خاضعة لإرادته ونشاطه اللغوي.
والحدث الذي تحدثه اللغة بعيد كل البعد عن تسلسل الأسباب والنتائج، إنه الحدث الذي يمنح الإنارة والانفتاح، فيظهر الموجود ويتجلى، أو يغيب ويحتجب.
وهذا الحدث أو هذا العطاء لا يمكن تفسيره أو فك رموزه؛ لأنه شيء أخير، تصطدم به النظرة ولا تعلله، فهو الذي يعطي كلمة «يوجد» ويرد الموجود إلى أصله.
هل عرفتم دين الإنسان نحو اللغة؟ أدريتم كيف تتيح له أن يعبر بها، حين تتيح له «النور» الذي يظهر كل موجود؟ أرأيتم أن «النطق» في حقيقته «تطابق» مع قول اللغة وحدثها، وأن «اللغة تستخدم الإنسان لكي ينطق عما تقوله اللغة الساكنة»؟ (ص260).
هل أصبحتم مستعدين لمواجهة «الحدث» الذي يظهر ويحتجب، ويتحول ويحولكم معه؟ وهل تملكون القدرة على القرب من هذا الحدث لكي تكون لكم لغة أصيلة؟ وهل يحسن شعراؤكم ومفكروكم الاستماع إلى ندائها لكي يصبح الشعر فكرا والفكر شعرا؟ أم تراكم مصرين على تحويل اللغة إلى أداة تستهلك معكم كالثوب البالي؟ (4-5) حقيقة الفكر
هل انتهت الفلسفة وبدأ الفكر؟
فلنحاول في هذا الفصل الختامي أن نتلفت للوراء لننظر إلى الفلسفة من حيث هي ميتافيزيقا آن أوان تخطيها و«العودة إلى أساسها»،
173
ونتطلع إلى الأمام لنستشرف فكر الوجود الذي لم يعد ميتافيزيقا، وسوف يساعدنا هيدجر نفسه على القيام بهذه المحاولة التي نراجع بها جهده الضخم الذي يشبه جبلا شامخا لم يستطع الباحثون - على وفرتهم - الصعود إلى قمته واكتشاف كل شعابه، فقد ألقى في سنة 1964م محاضرة تحمل هذا العنوان المثير: «نهاية الفلسفة ومهمة الفكر»، وقد نقلها إلى الفرنسية جان بوفريه (الذي سأله عن مفهوم النزعة الإنسانية ورد عليه برسالته التي تحدثنا عنها) وفرانسوا فيدييه، وظهرت الترجمة الفرنسية سنة 1966م في باريس في مجلد بعنوان «كيركجور حيا» يضم دراسات مختلفة عن المفكر الدنمركي الكبير، وأخيرا نشرت المحاضرة في كتاب عن قضية (موضوع) الفكر ظهر في سنة 1969م بمدينة توبنجن.
ما الذي يأخذه هيدجر على الميتافيزيقا بحيث ينبغي تجاوزها والرجوع إلى أساسها الذي نسيته ولم تفكر فيه؟ هذا سؤال شغل هيدجر مدى حياته، وأجاب عنه في العديد من كتبه ومحاضراته ودراساته، وكان من الطبيعي أن يطور تفكيره في هذا الموضوع، شأنه في هذا شأن كل كائن حي، ولعل هذه المحاضرة الأخيرة أن تبين لنا وجهة نظره التي استقر عليها. «إن الميتافيزيقا تفكر في الموجود بما هو موجود على طريقة التصور المؤسس»،
174
إنها تبحث عن أساس الموجود، وتسمي هذا الأساس باسم الوجود، وهي تتصوره تصورا لا غبار عليه حين ترى أنه هو الذي يوجد الموجود أو يحضره ويعمل على إظهار كينونته.
غير أنها تصور هذا التأسيس كما تتصور السبب والمسبب أو العلة والمعلول، لقد وصفته عبر تاريخها الطويل بأوصاف مختلفة أخطأت معناه الحقيقي في كل مرة: فتارة يكون هذا الأساس هو الله بوصفه السبب الأسمى والأخير (سواء عند أرسطو أو في العصر الوسيط) أو يكون هو السبب الترنسندنتالي أو الشارطي (كما نجده عند كانط شرطا لإمكان التجربة أو بالأحرى لإمكان قيام موضوعات التجربة) وتارة أخرى يكون هو الحركة الجدلية التي «يفض» بها الروح المطلق نفسه (كما نرى عند هيجل) أو يكون تفسيرا لعملية الإنتاج (كما نرى عند ماركس) أو إرادة للقوة وهي في صميمها إرادة المزيد من الحياة التي تضع نفسها أو تبدعها حين تبدع القيم (كما نجد عند نيتشه الذي يرى هيدجر أنه يمثل نهاية الميتافيزيقا الغربية بعد أن سارت في طريق «الذاتية» إلى آخر مداه).
وإذا فالخاصية التي تميز التفكير الميتافيزيقي الذي يبحث عن سبب الموجود هي أنه يبدأ من هذا الموجود (أو الكائن) فيتصوره من جهة وجوده (أو كينونته) ويعبر عنه تعبيره عن شيء ما قد عرف أساسه بالفعل.
ولكن هذا التصور الميتافيزيقي قد بلغ نهايته: فما هو المعنى المقصود من نهاية الميتافيزيقا أو الفلسفة؟ ليس معناه بالطبع أنها توقفت أو انطفأت، ولا يمكن أن نفهم منه أننا نلغيها ببساطة أو نستخف بشأنها، فالمقصود بنهاية الفلسفة أنها وصلت إلى الموضع الذي فيه يتجمع تاريخها كله في أقصى إمكانياته، بهذا تكون قد تمت، والتمام غير الكمال أو الاكتمال؛ لأن المراد به أنها بلغت النهاية، سواء عند نيتشه أو عند هيدجر نفسه، والواقع أنه ليست هناك فلسفة أكمل من غيرها، فليست فلسفة كانط بأكمل من فلسفة أفلاطون، ولا هذه أكمل من فلسفة بارمنيدز، والأولى من هذا أن نقول إن كل فلسفة - مثلها في هذا مثل كل أدب أو فن عظيم - تعبر عن شيء يحمل ضرورته في ذاته، ونحن نقع في خطأ المفاضلة بين الفلسفات لو نظرنا إليها بمنظار العلم الوضعي المنظور، عندئذ يمكن أن نتصور أن المتأخر أكمل من المتقدم، أو أن الحاضر يلغي الماضي، وهذه النظرة «العلمية» لا يمكن بحال من الأحوال أن تطبق على تاريخ الميتافيزيقا، فالفلسفات التي جاءت بعد أفلاطون لم تسقط فلسفته ولم تعزلها في متحف العاديات القديمة، ولعلنا لا نبالغ لو قلنا إن الفلسفة الأفلاطونية ماثلة في تاريخ الميتافيزقا كله، وإن صورتها الأخيرة عند نيتشه ليست في الحقيقة سوى أفلاطونية مقلوبة، ولعل الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد ألا يكون قد أسرف في المبالغة حين قال إن الفلسفة بأسرها ليست سوى هوامش وتعليقات على أفلاطون.
هل معنى هذا أن الفلسفة لم تتطور؟ تطورت بالطبع، ولكنه كان تطورا غير التطور العلمي الذي ينسخ آخره أوله ويغني حاضره عن ماضيه كما سبق القول (اللهم إلا عند المهتمين بتاريخ العلم)، ولقد تطورت الفلسفة، أو بالأحرى تفتحت وفضت نفسها - إن صح تعبير هيجل - في العلوم المختلفة التي استقلت عنها، ثم لم تكتف بهذا بل بدأت في السنوات الأخيرة تختبرها بمناهجها ومقاييسها وتحاول على يد المتطرفين من الوضعيين (المناطقة) أن تشبكها أو تعلقها في ذيلها، ولا ينكر أحد أن كثيرا من المسائل التي كانت تتناولها الفلسفة قد انتقلت اليوم إلى ميدان العلوم المتخصصة، وأصبح من المستحيل على الفيلسوف أن يدلي فيها برأي قبل أن يعرف وجهة نظر العلماء، وربما وقع في ظننا أن العلم قد أزاح الفلسفة عن مكانها وحكم عليها بالبطالة الأبدية، ولكن الواقع أن هذا علامة تدل على تمام الميتافيزيقا ووصولها إلى نهاية إمكانياتها، ذلك أن النظر السطحي وحده هو الذي يفصل العلم الحديث عن الميتافيزيقا الحديثة التي نشأ على أرضها، واكتسب طابعه «التقني» الذي يتحكم اليوم فيه من الطابع التقني الذي غلب على الميتافيزقا منذ عهد بيكون وديكارت على أقل تقدير، وما تفتح الفلسفة في العلوم المستقلة التي يزداد التعاون والتداخل بينها إلا دليل مشروع على نهاية الفلسفة؛ فالفلسفة تنتهي في عصرنا الحاضر، ولقد وجدت مكانها في النزعة العلمية المسيطرة على البشرية العاملة، والطابع الغالب على هذه النزعة العلمية هو الطابع التقني والسيبرنيطيقي
175
الذي يحقق انتصاراته في عالم الآلة والصناعة والتقنية والمجتمع الإنساني الذي انعكست عليه آثاره.
هذه هي الصورة التي انتهت إليها الفلسفة وكانت بذورها كامنة في الفكر الغربي وطموحه إلى المدنية العالمية.
هل ذابت الفلسفة في هذه النزعة العلمية السائدة؟ هل انتقلت إلى العلوم المتخصصة وتبددت كل إمكانياتها أو وصلت، كما قلنا، إلى غايتها الأخيرة؟ ألا تنطوي الفلسفة على إمكانية خافية عليها هي نفسها؟ هل يمكن أن تكون هذه النهاية بداية فكر جديد، وتتحقق خرافة العنقاء التي بعثت من الرماد؟ ألم يبق أمام الفلسفة إلا أن تنوح كما ناحت «هيكوبا» زوجة الملك برياموس ملك طرواده على أبنائها الذين ذبحوا أمام عينيها - كما قال كانط في مقدمة كتابه نقد العقل الخالص - أم تجتر أحزانها كاليمامة الوحيدة في عشها بعد أن هجرتها أفراخها وتنكرت لها؟
لا يمكن بطبيعة الحال أن نزيح الفلسفة ونتخلص منها كأنها عبء ثقيل قديم أو جثة عزيز لا تدري كيف نتخلص منها، بل لا بد من التفكير فيها وفي تفتحها عبر التاريخ، على نحو ما فعل هيدجر طوال حياته، لم يكن هم هذا التفكير أن يبحث في تاريخ الفلسفة أو يبعث بعض حقائقها الماضية، بل كان في صميمه «تذكيرا» بما نسيته ولم تفكر فيه، أي بمعنى الوجود نفسه، كما كان «دعوة» إلى إمكانية لم تتبين معالمها ولم يتأكد بعد موعد تحققها، صحيح أن المدنية العالمية - التي بدأت في عصرنا الحاضر مسيرتها التقنية والعلمية الخطيرة - قد امتصت الفلسفة وأذابتها فيها، ولكننا نستطيع أن نقول أيضا إن هذه المدنية العالمية ستتجاوز في يوم من الأيام طابعها التقني والعلمي والصناعي، وستكتشف أنه ليس هو المقياس الوحيد ولا «السكن» الوحيد في هذا العالم.
ما هي قضية هذا الفكر، ما هو موضوعه؟
إن هيدجر يتناول محاولتين من أهم المحاولات في العصر الحديث للإجابة عن هذا السؤال، وهما اللتان قام بهما هيجل وهسرل، وقد تبين له من التحليل أنهما لم يختلفا على موضوع الفكر، فقد اتفقا على أنه هو الذاتية، وإنما اختلفا على المنهج، فالجدل التأملي مثلا عند هيجل يوضح لنا كيف يظهر موضوع الفلسفة من ذاتها ويصبح حاضرا واعيا بذاته، والظهور يفترض النور الذي يتجلى فيه كل ما يظهر، والنور بدوره يفترض المكان المفتوح أو الانفتاح، والفكر التأملي لا يستغني عن هذا الانفتاح الذي ييسر له النفاذ إلى الموضوع الذي يفكر فيه.
لقد رأينا في الفصول السابقة أن الانفتاح هو الإنارة (راجع ما قلناه عن ماهية الحقيقة، وحقيقة الفن، وحقيقة الإنسان)، وكلمة الإنارة في الألمانية والفرنسية
176
تدل في الأصل على تخلية مكان بين الأشجار المتكاثفة في الغابة، ولو نقلناها إلى موضوعنا نقلا مجازيا لأمكننا القول إن النور لا يوجد الانفتاح بل هو شرط سابق عليه، حتى تظهر الأشياء فيه ويتفاعل المضيء والمظلم، والظاهر والخفي، فالإنارة انفتاح لكل ما يكون، وكل ما يفتقد الكينونة،
177
ولا بد أن يأتي اليوم الذي نسأل فيه: أليست الإنارة أو الانفتاح الحر هو المقر الذي يجمع المكان الخالص والزمان بانبثاقاته الثلاثة وكل ما يوجد ويكون فيهما أو كل ما يفتقد الوجود والكينونة، لا بد أن يأتي هذا اليوم ونرد على سؤالنا بالإيجاب.
قلنا إن الميتافيزيقا قد نسيت الوجود وعاشت تاريخها غارقة في هذا النسيان، ونستطيع الآن أن نقول إنها نسيت الإنارة ولم تعرف عنها شيئا، صحيح أن التفلسف مرتبط بها على الدوام، وقد ظل الفكر اليوناني في انشغاله بأمر الوجود أو الحضور على اتصال بها، فأفلاطون يدرك الموجود من ناحية مظهره أو منظره (الأيدوس) ولم يفته أن يشير إلى النور، وبارمنيدز يذكر الأليثيا (اللا-تحجب) صراحة في قصيدته الفلسفية ويشبهها بكرة تامة الاستدارة تتساوى فيها البداية والنهاية، لم يستغن الفكر اليوناني إذن عن الإنارة، ولم تنقطع صلته بها، ولكنه لم يفكر فيها ولا فكر في الانفتاح الذي يظهر فيه كل موجود أو كل مفتقد للوجود، كذلك قصرت الفلسفة الحديثة في التفكير فيه، وقد آن الأوان لتجربة هذه الإنارة أو هذا الانفتاح، فهو الطريق الذي نتبعه في سؤالنا عن الموجود، سواء من ناحية وجوده أو حضوره، أو من ناحية بلوغه هذا الوجود والحضور، ولا بد من أن نفكر في الأليثيا، أو اللاتحجب، بوصفها هذه الإنارة التي تكفل الوجود والفكر وتؤمنهما وتضمن التفاعل بينهما، لقد طرح اليونان السؤال عن العلاقة بين الفكر والوجود، وظل هذا السؤال مطروحا على الميتافيزيقا عبر تاريخها الطويل، وها هو ذا هيدجر يفكر في هذه العلاقة من ناحية الأليثيا، وقد رأينا كيف كان الباعث المحرك على تفكيره هو السؤال عن الوجود والحقيقة، ونحن الآن نرى أن: «الأليثيا» هي مجال الوجود والحقيقة جميعا وعنصرهما الذي يعيشان ويتفاعلان في تياره، لقد لاح فجر الأليثيا وتردد صداها لأول مرة عند بارمنيدز، ثم نسيتها الميتافيزيقا حين تصورت أن وجود الموجود هو العلة الأولى أو السبب الأول، فراحت تبحث عن أسمى الموجودات على اختلاف صوره وأشكاله، وظلت بذلك أونطية (موجودية)-لاهوتية،
178
وها نحن أولاء نشهد التحول على يد هيدجر، ونرى كيف تحول هو أيضا في هذه المرحلة الأخيرة من تفكيره عن السؤال عن ازدواجية الوجود والحقيقة إلى السؤال عن الأليثيا التي تحملهما معا وتكفل لهما «الوقوف» في نورها، وهكذا تصبح الحقيقة بمعناها التقليدي الذي عرفناه - أي انطباق المعرفة على الشيء - ممكنة عن طريق الإنارة وحدها، كما تتحرك البداهة واليقين بكل أنواعه ومستوياته ويتم «التحقق» من الحقيقة نفسها في ضوء هذه الإنارة.
الإنارة إذن هي الأصل الذي نسيناه وأغفلناه حين انشغلنا بما يصدر عنه ، ولا يجوز لنا الآن أن نخلط بين الأليثيا والحقيقة أو نسوي بينهما؛ لأن الأولى هي التي تضمن وجود الثانية وتكفله لها، وكلما فكرنا في الحقيقة بمعنى التطابق أو اليقين وجب علينا أن نفكر في الإنارة التي تسبقهما وتكمن وراءهما، ولعل خير شهادة يقدمها هيدجر على أمانته ومراجعته الدائمة لخطواته على الطريق أنه عمد في هذه المرحلة من تفكيره إلى تصحيح بعض آرائه السابقة؛ فهو يعدل الآن عن ترجمة الأليثيا بالحقيقة، كما فعل في الوجود والزمان، كما ينتقد تعبير «حقيقة الوجود» الذي قدمه في محاضرته عن ماهية الحقيقة ورسالته عن النزعة الإنسانية، بل إنه ليراجع رأيه الذي ذهب إليه في دراسته عن «نظرية أفلاطون عن الحقيقة» وقال فيه إن تحول معنى «الأليثيا» من اللاتحجب إلى الصحة أو الصواب قد تم على يد أفلاطون، فهو يرى الآن أن «الأليثيا» قد فسرت مباشرة على معنى الصواب وبذلك غابت عن نظر أفلاطون، وكان أفلاطون ومن سبقه من مفكري اليونان قد فكروا - كما قدمنا - فيما تكفله الأليثيا أو الإنارة من ظهور الموجودات أو تحجبها، ولكنهم لم يفكروا في حقيقة الإنارة ذاتها، وكذلك يفعل الناس اليوم، يشغلون بالموجودات الحاضرة أمامهم ولا يعنون أنفسهم بالسؤال عن الوجود والحضور ولا عن الإنارة التي هي الأصل فيهما.
ما السبب في هذا؟ أهو أمر مقصود؟ أتكون غفلة من جانب البشر أم قدرا تاريخيا يتحكم فيهم؟ أيكون التحجب جزءا لا ينفصل عن اللاتحجب ؛ بحيث تنتمي الليثية (النسيان) «للأليثيا»؟ أيكون هذا في صميم ماهية الإنارة نفسها التي تكشف عن الوجود وتحجبه وتصونه وتحرره في آن واحد؟ أنحن قادرون حقا على الإجابة على هذه الأسئلة أم يقتصر جهدنا على البقاء في السؤال والإصرار على متابعة طريقه ومعاناة تجربته؟ هل أصبحنا على استعداد لتحمل مشقة السؤال أم لا زالت أنوار المدنية التقنية تخلب أبصارنا؟ هل نشعر أننا السائل والمسئول أم ننفض أيدينا من المسألة كلها زاعمين أنها محض خيال وتلاعب بالألفاظ؟
ربما كان تفكير هيدجر كله مجرد دعوة وتوجيه إلى السؤال، وربما كان هذا الكتاب كله مجرد إعداد له؛ ولهذا سيظل مجرد تمهيد ومحاولة، حسبها أنها تثير فكرك وتقنعك بألا تتشبث بصخرة المألوف، وأن تلقي بنفسك في تيار الدهشة، فإن نجحت في تحقيق هذه الغاية، كان هذا خير جزاء يقدمه القارئ للكاتب فيعزيه عن تعبه ومعاناته، ويغفر له قصوره أو تقصيره.
عبد الغفار مكاوي (5) لوحة بحياة هيدجر وأعماله
1889م
مولد هيدجر في 26 سبتمبر لأبويه فريدريش، صانع البراميل ببلدة مسكيرش، ويوهانا.
1903-1909م
المدرسة الثانوية في مدينتي كونستانس وفرايبورج بالبريسجاو (عاصمة الغابة السوداء).
1909-1911م
دراسة اللاهوت بجامعة فرايبورج.
1911-1913م
دراسة الفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية بجامعة فرايبورج.
1913م
الحصول على الدكتوراه برسالة أعدها تحت إشراف الأستاذين شنيدر وريكرت بعنوان: «نظرية الحكم في النزعة النفسية» (في المنطق).
1916م
الحصول على الدكتوراه المؤهلة للتدريس بالجامعة برسالة عن نظرية المقولات والمعنى عند دونس سكوتس (وقد نشرت الرسالتان مع بحث عن مفهوم الزمن في علم التاريخ سنة 1972م بمدينة فرانكفورت - على الماين تحت عنوان «الأعمال المبكرة»).
1917م
زواجه من إلفريده بيتري.
1919-1920م
مولد ابنيه يورج وهرمان.
1922م
انتقاله إلى مدينة ماربورج للعمل أستاذا بها وبقاؤه فيها حتى سنة 1928م، بناء «كوخه» المشهور في توتناوبرج، وهو الذي أتم فيه كتابه «الوجود والزمان».
1923م
إلقاء أولى محاضراته العامة «الوجود واليقظة» بدعوة من الفيلسوف ماكس شيلر في جمعية كانط بمدينة كولن (كولونيا).
1926م
محاضرة باتحاد الفلسفة بمدينة ماربورج عن مفهوم البحث الظاهرياتي (الفينومينولوجي) وتطوره (وقد ألقاها في الرابع من ديسمبر).
1928م
تعيينه أستاذا لكرسي الفلسفة بجامعة فرايبورج خلفا لادموند هسرل، يلقي سلسلة من المحاضرات عن «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» في معهد هردر بمدينة ريجا، وقد صدر الكتاب في العام التالي بمدينة بون.
1929م • الأنثروبولوجيا الفلسفية وميتافيزيقا «الدازاين» (الموجود الإنساني الملقى في العالم)، محاضرة ألقاها في 24 يناير بمدينة فرانفكورت - على - الماين. • خطاب بمناسبة عيد ميلاد هسرل السبعين في الثامن من أبريل. • ما الميتافيزيقا؟ - محاضرته الأولى التي افتتح بها حياته الجامعية بجامعة فرايبورج. وقد ألقاها بالقاعة الكبرى للجامعة في 24 يوليه، وصدرت في نفس العالم ببون. • مشكلة الفلسفة اليوم، محاضرة في مدينة كارلزروه. • ماهية السبب، بحث أسهم به في الكتاب التذكاري الذي صدر تكريما لهسرل بمناسبة بلوغه السبعين من عمره (وقد ظهر ملحقا بحولي هسرل السابقة).
1930م • مشكلة الفلسفة اليوم وهيجل ومشكلة الميتافيزيقا. محاضرتان ألقاهما في الاتحاد العلمي بمدينة أمستردام في 21 و22 مارس. • ماهية الحقيقة، محاضرته الشهيرة التي تجدها بين نصوص هذا الكتاب، وقد ألقاها بمدينة بريمن في شهر أكتوبر، ثم في ماربورج وفرايبورج ودرسدن.
1933م
انتخابه مديرا لجامعة فرايبورج (في ظل النازي)، يلقي محاضرة عن «تأكيد الجامعة الألمانية لذاتها» عند تسلم منصبه في السابع والعشرين من مايو.
1934م
استقالته من هذا المنصب (في شهر أبريل).
1935م
الأصل في العمل الفني، محاضرة ألقاها في 13 نوفمبر في جمعية الفنون بمدينة فرايبورج وأعاد إلقاءها سنة 1936م بمدينة زيوريخ، (وقد نشرت بعد ذلك في كتاب المتاهات، أو الطرق المسدودة، سنة 1950م بمدينة فرانكفورت).
1936م
هلدرين وماهية الشعر - محاضرة ألقاها في روما في الثاني من أبريل، وأعيد نشرها سنة 1944م مع دراستين يشرح فيهما قصيدتي هلدرين «العودة» و«إلى الأقارب» ضمن كتابه «شروح على شعر هلدرين».
1938م
تأسيس الصورة الكونية الحديثة عن طريق الميتافيزيقا، محاضرة ألقاها أمام جمعية البحوث الفنية والطبيعية والطبية بفرايبورج في التاسع من يونيو (وقد أعيد نشرهما بكتاب المتاهات تحت عنوان عصر الصورة أو وجهة النظر الكونية - أو الأيدلوجية).
1939م
أنشودة هلدرين: «كما في يوم عيد»، محاضرة ألقاها عدة مرات ونشرت في كتابه السابق الذكر: «شروح على شعر هلدرين».
1940م
نظرية أفلاطون عن الحقيقة، محاضرة نشرت بعد ذلك عدة مرات (أهمها سنة 1947م و1954م مع رسالته عن النزعة الإنسانية، كما نشرت مع اثني عشر مقالا ومحاضرة أخرى مبكرة سنة 1967م في كتابه «علامات على الطريق»).
1943م • دراسة عن قصيدة هلدرين «ذكرى» نشرت في الكتاب التذكاري الذي صدر بمدينة توبنجن بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة هلدرين. • محاضرة ألقاها في دائرة محدودة من خلصائه عن كلمة نيتشه عن موت الله، وقد نشرت في المتاهات.
1944م
جند في فرق «العاصفة الشعبية» التي كونها هتلر في أواخر الحرب العالمية الثانية.
1945م
قوات الاحتلال (الفرنسية) تحظر عليه التدريس، وقد استمر الحظر حتى سنة 1951م.
1946م
لم الشعراء؟ محاضرة - مأخوذة من أحد أبيات هلدرين المشهورة: لم الشعراء في الزمن الضنين؟ - ألقاها في دائرة محدودة من التلاميذ والأصدقاء بمناسبة مرور عشرين سنة على وفاة الشاعر رلكه (وقد نشرت في المتاهات).
1947م
ظهور كتابه «نظرية أفلاطون عن الحقيقة مع رسالة عن النزعة الإنسانية» التي رد فيها على خطاب وجهه إليه المفكر الفرنسي جان بوفريه.
1949م • نداء الحقل - خواطر شاعرية نشرت لأول مرة في صحيفة الأحد التي تصدر بمدينة هامبورج (بالعدد 43 في 23 أكتوبر). • أربع محاضرات ألقاها في نادي بريمن في شهر ديسمبر تحت عنوان «نظرة إلى ما يكون» وتضم محاضراته التي نشرت بعد ذلك في كتاب «من تجربة الفكر» وفي «المحاضرات والمقالات» عن الشيء، الوضع، الخطر، العود.
1950م • محاضرتان عن الشيء (تنقيح للمحاضرة السابقة) في الأكاديمية البافارية للفنون الجميلة، وعن اللغة في بولرهيهه، وقد ألقاها في الاحتفال بذكرى الناقد الأدبي ماكس كومريل ونشرت بعد ذلك في كتابه على الطريق إلى اللغة، 1959م. • ظهور كتابه المتاهات بمدينة فرانفكورت ويضم الدراسات الآتية: - الأصل في العمل الفني. - عصر الصورة أو وجهة النظر الكونية. - مفهوم هيجل عن التجربة. - كلمة نيتشه: «الله مات». - لم الشعراء؟ - عبارة أنكسمندر.
1951م • البناء، السكن، الفكر، محاضرة ألقاها في إطار الندوة السنوية التي تعقد بمدينة دار مشتات تحت عنوان «حديث دار مشتات» عن الإنسان والمكان. • محاضرة بعنوان «سكن الإنسان شاعري ...» ألقاها في بولرهيهه، والعنوان مأخوذ عن أحد أبيات هلدرين.
1952م
ما الفكر؟ - بحث نشر بمجلة «مركير»، العدد السادس، ص601-611، 1952م.
1953م • مدخل إلى الميتافيزيقا، توبنجن، ص156. • جورج تراكل - شرح على قصيدة له، بحث نشر بمجلة مركير، العدد السابع، 1953م، ص226-258. • من هو زرادشت نيتشه؟ - محاضرة ألقاها في بولرهيه في الثامن من أكتوبر. • العلم والتفكر، محاضرة ألقاها في 15 مايو أمام أكاديمية الفنون الجميلة في بافاريا كما ألقاها بمدينة فرايبورج في 12 فبراير بمناسبة مرور 150 سنة على وفاة كانط.
1954م • تفكر، محاضرة ألقاها في زيوريخ وكونستانس وفرايبورج. • من تجربة الفكر، صدر في بفولنجن، ص27. • محاضرات ومقالات، صدر في بفولنجن، 1954م، 283ص، ويضم الكتاب المحاضرات والمقالات الآتية: - السؤال عن التقنية. - العلم والتفكر. - قهر الميتافيزيقا (أو تجاوزها أو «تحطيمها» «وتفكيكها»). - من هو زرادشت نيتشه؟ - ما هو الفكر؟ - البناء السكن الفكر. - الشيء. - رسالة إلى طالب شاب. - سكن الإنسان شاعري. - لوجوس (هيراقليطس، الشذرة 50). - مويرا (بارمنيدز، الشذرة 8 والأبيات 34 - من قصيدته). - أليثيا (هيراقليطس، الشذرة 16)، وهو النص الذي تجده في هذا الكتاب. - ما الفكر؟ صدر في توبنجن، 174ص.
1955م • طمأنينة، خطبة بمناسبة الاحتفال بمرور 175 سنة على ميلاد المؤلف الموسيقي كونرادين كرويسر، ألقاها في 30 أكتوبر ببلدة مسكيرش. • ما الفلسفة؟ حرفيا: ما هو الذي يسمى بالفلسفة؟ محاضرة ألقاها في مدينة «سيريزي لاسال» بفرنسا في شهر سبتمبر (وقد ترجمها الدكتور محمود رجب إلى العربية). • عن الخط، دراسة نشرت في كتاب تذكاري بعنوان «لقاءات ودية» صدر بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد الستين للكاتب المشهور أرنست يونجر وقد ظهرت في السنة التالية بمدينة فرانكفورت في كتاب بعنوان «السؤال عن الوجود».
1956م • مبدأ السبب، محاضرة في 25 مايو بنادي بريمن، ثم أعيدت في جامعة فيينا. • حديث مع هيبيل، ألقيت في الاحتفال بذكرى الكاتب يوهان بيتر هيبيل، كاتب القصص والنوادر الشعبية باللهجة «الألمانية». • محاضرة عن الرسام والكاتب بول كليه في جمعية المهندسين بفرايبورج.
1957م • مبدأ السبب، بفولنجن، 1957م، 212ص (مع إعادة نشر المحاضرة السابقة الذكر). • مبدأ الهوية ، ألقيت بمناسبة الاحتفال بمرور خمسمائة سنة على تأسيس جامعة فرايبورج. • الهوية والاختلاف، بفولنجن، 1957م، ص76 ويضم محاضراته السابقة عن مبدأ الهوية ومحاضرته عن التكوين الأنطي-واللاهوتي للميتافيزيقا. • هيبيل صديقا للبيت، بفولنجن، 39ص. • ماهية اللغة، ثلاث محاضرات ألقاها بجامعة فرايبورج، وكان لي حظ الاستماع إليها منه، ونشرت بعد ذلك في كتابه «على الطريق إلى اللغة».
1958م • مبادئ الفكر، نشرت في حولية علم النفس والعلاج النفسي، العدد السادس، ص33-41، 1958م. • ماهية الفيزيس ومفهومها، نشرت أولا بمجلة «الفكر» الإيطالية، العدد الثالث، ميلانو 1958م. • هيجل والإغريق، محاضرة ألقاها بالفرنسية في الكلية الجديدة «إكس، أون-بروفينس» الفرنسية في العشرين من شهر مارس (نشرت بعد ذلك في كتاب علامات على الطريق). • الشعر والفكر، حول قصيدة «الكلمة» لستيفان جئورجه (نشرت في كتابه على الطريق إلى اللغة).
1959م • طمأنينة، بفولنجن، 1959م، 73ص. • على الطريق إلى اللغة، بفولنجن، 1959م، 270ص، ويضم الكتاب البحوث والمحاضرات الآتية: - اللغة. - اللغة في القصيدة، شرح لقصيدة من شعر جورج تراكل. - من حديث عن اللغة، بين أستاذ ياباني وطارح للسؤال. - ماهية اللغة . - الكلمة (شرح قصيدة ستيفان جئورجه التي تجدها في هذا الكتاب). - محاضرة عن «أرض هلدرلين وسمائه» ألقاها في السادس من يونية بمسرح كوفييه بمدينة ميونخ في المؤتمر الذي عقدته جمعية هلدرلين. - شكرا لوطني مسكيرش، محاضرة بمناسبة اختياره مواطن شرف لبلدة مسكيرش مسقط رأسه في 27 سبتمبر. - مصير الفنون في العصر الحاضر، محاضرة ألقيت في مدينة بادن - بادن.
1960م
اللغة والوطن. محاضرة ألقاها في فيسلبورن في الثاني من يونية ونشرت في حولية هيبيل.
1961م • نيتشه في جزئين، بفولنجن، 1961م، ويضم الجزء الأول الدراسات الآتية: - إرادة القوة بما هي فن. - عودة الشبيه الأبدية. - إرادة القوة بما هي معرفة. • ويحتوي الجزء الثاني على الدراسات الآتية: - عودة الشبيه الأبدية وإرادة القوة. - العدمية الأوروبية. - ميتافيزيقا نيتشه. - المصير التاريخي الوجودي للعدمية. - الميتافيزيقا بوصفها تاريخا للوجود. - تخطيطات لتاريخ الوجود بوصفه ميتافيزيقا. - تذكر الميتافيزيقا.
1962م • قيامه بأول رحلة له إلى بلاد اليونان. • السؤال عن الشيء، حول نظرية كانط عن المبادئ الترنسندنتالية، توبنجن، 1962م ، 189ص. • مقولة كانط عن الشيء، نشرت في الكتاب التذكاري «الوجود والنظام» الذي صدر احتفالا بعيد الميلاد الستين لفيلسوف القانون إريك فولف، ص217-245، كما نشرت مستقلة سنة 1963م في فرانكفورت لدى الناشر كلوسترمان.
1964م
نشر جزء من محاضراته الأخيرة في جامعة ماربورج عن ليبنتز في الكتاب التذكاري «الزمن والتاريخ» الذي صدر بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد الثمانين للفيلسوف اللاهوتي رودلف بولتمان.
1967م • علامات على الطريق، فرانكفورت، 1967م، 398ص (ويضم الكتاب اثنتي عشر دراسة ومحاضرة نشرت وألقيت بين سنتي 1929م، 1964م). • العدمية الأوروبية، بفولنجن، 1967م، 296ص. • أصل الفن ومصير الفكر، محاضرة ألقيت في الرابع من أبريل في أكاديمية العلوم والفنون بمدينة أثينا.
1968م • هلدرين: القصيدة، محاضرة في أمريسفيل بفرنسا، وقد قام الشاعر الفرنسي الكبير «رينيه شار» بإلقاء الترجمة الفرنسية. • حلقة دراسية (سمينار) في تور بالبروفانس الفرنسية عن كتاب هيجل عن الاختلاف بين مذهب فيتشه ومذهب شيلنج تستمر من 30 أغسطس إلى 8 سبتمبر.
1969م • الفن والمكان، سان-جالين، 26ص (وقد نقلها جان بوفريه وفرانسوا فيدييه إلى الفرنسية). • حلقة دراسية في تور بالبروفانس عن كتاب كانط عن الدليل الممكن على وجود الله، واستمرت الحلقة من الثاني إلى الحادي عشر من سبتمبر.
1970م
حلقة دراسية عن هيراقليطس عقدت في الفصل الشتوي 1966-1967م بالاشتراك مع تلميذه الفيلسوف «أويجن فينك»، ونشرت في كتاب صدر بمدينة فرانكفورت على نهر الماين، 261ص.
1971م • رسالة شيلنج عن ماهية الحرية الإنسانية (1809م) - وقد نشرتها هيلدجارد فايك وصدرت في توبنجن، 1971م، 237ص. • الكتابات المبكرة، فرانكفورت، 386ص (ويضم رسالتيه في الدكتوراه إلى جانب بحثه عن مفهوم الزمن في علم التاريخ).
هذا وقد سجلت أسطوانتان طويلتان (33 لفة) بصوته تضمان محاضرتيه عن المكان والفن وعن مبدأ الهوية، كما صدرت أخيرا ببليوجرافيا تحوي قائمة الدراسات التي كتبت عنه وتضم 2201 عنوانا! وقد قام بإعدادها الأستاذ ه. م. ساس. وصدرت في ميزنهايم سنة 1968م. * (وطبيعي أن هذا الكتاب الذي بين يديك ليس فيها!) *
لاحظ أن الكتاب الذي بين يديك قد تم تأليفه سنة 1974م، ولذلك لم أتابع الطبعة الكاملة لأعمال هيدجر ولا البحوث الكثيرة التي ظهرت منذ ذلك الحين.
النصوص
ماهية الحقيقة
(1)
التصور الشائع عن الحقيقة. (2)
الإمكانية الباطنة للتطابق. (3)
أساس إمكان التوافق. (4)
ماهية الحرية. (5)
ماهية الحقيقة. (6)
اللاحقيقة من حيث هي حجب (إخفاء). (7)
اللاحقيقة من حيث هي ضلال. (8)
السؤال عن الحقيقة والفلسفة. (9)
ملحوظة. ***
حديثنا عن ماهية الحقيقة، والسؤال عن ماهية الحقيقة لا يهتم بأن تكون الحقيقة هي حقيقة التجربة العملية في الحياة أو تدبير الشئون الاقتصادية، أو حقيقة تفكير تقني أو براعة سياسية، ولا يعنيه بوجه خاص أن تكون هي حقيقة البحث العلمي أو الخلق الفني، بل ولا أن تكون هي حقيقة تأمل فكري
1
أو عقيدة دينية ذات مناسك وطقوس،
2
إن السؤال عن الماهية يصرف النظر عن هذه الأمور جميعا ويوجه بصره إلى أمر واحد، وهو ذلك الذي يميز الحقيقة من حيث هي حقيقة.
ولكن ألا يتوه بنا السؤال عن الماهية في فراغ التعميم
3
الذي يكتم على أنفاس الفكر؟ أليس من شأن المجازفة بمثل هذا السؤال أن تبين أن الفلسفة كلها هاوية لا تقوم على أساس؟
4
إن من أول واجبات الفكر الذي تمتد جذوره في الواقع ويتجه إلى الواقع أن يصرف جهده، دون لف أو دوران، إلى إقامة الحقيقة الواقعية التي تزودنا اليوم بالمعيار الذي نحتكم إليه والسند الذي نعتمد عليه ليحمينا من اختلاط الآراء والظنون، وما جدوى السؤال عن الحقيقة إزاء المحنة الواقعية التي نواجهها اليوم، إذا كان هذا السؤال يغفل كل واقع (يجرده)؟ أليس السؤال عن الماهية هو أقل الأسئلة أهمية وأبعدها عن الالتزام؟
5
ليس في وسع أحد أن يتملص من بداهة اليقين الواضح الذي تنطوي عليه هذه الشكوك والاعتراضات، وليس في وسع أحد أن يستخف بجديتها الملحة، ولكن من ذا الذي يعبر بها عن نفسه؟ إنه الفهم المشترك أو الحس «السليم»، فهو يصر على مقتضيات النفع المباشر الملموس، ويكافح
6
المعرفة بماهية الوجود، وهي المعرفة الأساسية التي تسمى من قديم الزمان باسم «الفلسفة».
والفهم العام
7
يعمد إلى هذا مدفوعا بضرورته الخاصة، فهو يؤكد حقه بالسلاح الوحيد الذي يملكه، وهو الإهابة «ببداهة»
8
دعاويه واعتراضاته، بيد أن الفلسفة لن تقدر أبدا على دحض الفهم العام؛ لأنه أصم عن لغتها، بل لا ينبغي لها أن تفكر في دحضه؛ لأن الفهم العام أعمى عن كل ما ترى أنه يمت للماهية بسبب.
9
وفضلا عن هذا فإننا نحصر أنفسنا داخل حدود المعقولية التي يتسم بها الفهم العام، ما دمنا نتصور أننا نعيش آمنين وسط هذه «الحقائق» المتنوعة التي تمدنا بها تجربة الحياة والفعل والبحث العلمي والخلق الفني والإيمان الديني، إننا نشارك بأنفسنا في تمرد «البديهي»
10
على كل ما يستحق أن يوضع موضع السؤال.
فإذا لزم مع ذلك أن نسأل عن الحقيقة، فإن الناس تتوقع أن يكون الجواب عن هذا السؤال: أين نقف اليوم؟ إنهم يريدون أن يعرفوا الحال التي وصلنا إليها اليوم، إنهم ينشدون معرفة الهدف الذي ينبغي أن يحدد للإنسان خلال تاريخه كما ينبغي أن يحدد لهذا التاريخ نفسه، إنهم يريدون «الحقيقة» الواقعية، أي إنهم يريدون الحقيقة دائما.
غير أن المطالبة بالحقيقة «الواقعية» لا بد أن يسبقها العلم بما تدل عليه الحقيقة من حيث هي كذلك، أم أن الذين يطالبون بها لا يعرفون ذلك إلا «بصورة عاطفية»
11
و«بشكل عام»؟ ولكن أليست هذه «المعرفة» التقريبية وتلك اللامبالاة أدعى إلى الرثاء من الجهل الخالص بماهية الحقيقة؟ (1) التصور الشائع عن الحقيقة
ما الذي يفهم عادة من كلمة «الحقيقة»؟ إن هذه الكلمة الرفيعة التي أصبحت مع ذلك كلمة بالية، وأوشكت أن تكون صماء عاطلة من كل معنى، تدل على ما يجعل الحقيقي حقيقيا، ما هو الحقيقي؟ نحن نقول مثلا: «إنها لفرحة حقيقية أن أساهم في نجاح هذه المهمة.» ونقصد بهذا أنها فرحة خالصة واقعية، فالحقيقي إذن هو الواقعي، وبهذا المعنى نتكلم عن الذهب الحقيقي تمييزا له من الذهب الزائف، فالذهب الزائف ليس في الواقع كما يبدو من مظهره، إنه مجرد «مظهر» ولهذا السبب فهو غير واقعي، وغير الواقعي يؤخذ على أنه عكس الواقعي، ولكن الذهب المزيف
12
يعد كذلك واقعيا؛ من أجل هذا نعبر تعبيرا أوضح فنقول: «الذهب الواقعي هو الذهب الأصيل.» غير أن كليهما «واقعي»، لا يقل الذهب الأصيل في هذا ولا يزيد عن الذهب الرائج غير الأصيل، وإذن فإن حقيقة الذهب الأصيل لا يمكن أن تكون مضمونة عن طريق واقعيته، ولكن السؤال يعود مرة أخرى: ما المقصود هنا بالأصيل والحقيقي؟ الذهب الأصيل هو ذلك الشيء الواقعي الذي تنطبق واقعيته على التصور الذي نستحضره دائما في أذهاننا عندما نفكر في الذهب، وعلى العكس من ذلك فإننا نقول عندما نشتبه في وجود ذهب مزيف: «هنا شيء غير صحيح»،
13
أما ذلك الذي يكون «كما ينبغي له أن يكون»، فإننا ندل عليه بقولنا: «صحيح»، أي أن الشيء
14
متفق أو متطابق مع ما يتوقع منه أو يراد له.
ولكننا لا نقتصر على وصف الفرحة الواقعية والذهب الأصيل وكل موجود من هذا النوع بأنه حقيقي، وإنما نصف كذلك وقبل كل شيء بالحقيقة أو البطلان
15
عباراتنا التي نقولها عن الموجود الذي يمكن هو نفسه وحسب ما تقضي به طبيعته أن يكون أصيلا أو غير أصيل، وأن تكون واقعيته على هذا النحو أو ذاك، وتكون العبارة حقيقية عندما يتطابق ما تعنيه وما تقوله مع الشيء الذي تعبر عنه، هنا أيضا نقول: هذا صحيح.
غير أن الصحيح في هذه الحالة ليس هو الشيء، بل القضية.
16
إن الحق، سواء أكان شيئا حقيقيا أم قضية حقيقية، هو الصحيح (أو المتوافق)، والحق والحقيقة يدلان هنا على الصحة أو التوافق، وذلك بالمعنى المزدوج لهذه الكلمة: فهو من ناحية توافق الشيء مع ما يفترض عنه (أو يقصد به)، ومن ناحية أخرى تطابق مدلول العبارة مع الشيء.
هذا الطابع المزدوج للتوافق يوضح التعريف التقليدي الموروث لماهية الحقيقة: الحقيقة هي تطابق الشيء مع العقل،
17
وقد يكون معنى هذا أن الحقيقة هي تطابق
18
الشيء مع المعرفة، ولكن قد يكون معناه أيضا أن الحقيقة هي تطابق المعرفة مع الشيء،
19
صحيح أنه قد جرت العادة في أغلب الأحيان على ذكر التعريف السابق في هذه الصيغة وحدها: الحقيقة هي تطابق العقل مع الشيء، غير أن الحقيقة المفهومة على هذا النحو، أي حقيقة القضية، لا تقوم إلا على أساس حقيقة الشيء، أي تطابق الشيء مع العقل،
20
وكلا التصورين عن الحقيقة يدل دائما على التوافق مع، ويفكر في الحقيقة بوصفها صحة أو صوابا أو توافقا.
21
ومع ذلك فإن أحد هذين التصورين ليس مجرد صورة معكوسة من الآخر، وإنما يفهم العقل والشيء
22
في كلا الحالين فهما مختلفا، ولكي تعرف هذا يتحتم علينا أن نرد الصيغة الشائعة عن التصور المعتاد للحقيقة إلى أصلها المباشر (الوسيط).
23
إن الحقيقة بوصفها تطابق الشيء مع العقل
24
لا تعبر عن الفكرة الشارطية (الترنسندنتالية) التي جاء بها كانط بعد ذلك ولم تقم إلا على أساس تصور ماهية الإنسان من حيث هو ذاتية، وهي الفكرة التي تذهب إلى أن الأشياء (أو الموضوعات) تتوافق مع معرفتنا،
25
بل تعبر عن العقيدة المسيحية والفكرة اللاهوتية التي ترى أن الأشياء، من جهة ماهيتها ووجودها، لا توجد - بوصفها كائنات مخلوقة
26 - ألا بقدر ما تتوافق (أو تتطابق) مع الفكرة المتصورة عنها من قبل في العقل الإلهي
27
أو الروح الإلهية، بهذا تكون الأشياء منظمة وفقا للفكرة (أي الصحيحة)، ومن ثم تكون بهذا المعنى حقيقة، ولكن العقل الإنساني
28
أيضا كائن مخلوق،
29
ولما كان هو الملكة التي منحها الله للإنسان، فلا بد أن يكون مكافئا (مطابقا) لفكرته،
30
بيد أن العقل لا يكون مكافئا (أو مطابقا) لفكرته إلا إذا استطاع أن يحقق في عباراته
31
توافق
32 (الموضوع).
المتصور مع الشيء الذي يلزم بدوره أن يكون مطابقا للفكرة، إن إمكانية حقيقة المعرفة البشرية، إذا كانت كل الكائنات «مخلوقة»، تقوم على أساس أن الشيء والعبارة كليهما وبنفس الطريقة مكافئ للفكرة ومترتب على وحدة خطة الخلق الإلهية، ومن ثم فكل منهما متوافق مع الآخر (أو متطابق معه)، إن الحقيقة،
33
بوصفها تطابق الشيء (المخلوق) مع العقل (الإلهي)،
34
هي التي تتضمن الحقيقة بوصفها تطابق العقل (الإنساني) مع الشيء (المخلوق)،
35
فالحقيقة تدل أساسا في وكل الأحوال على التوافق
36
أو على تطابق الموجودات فيما بينها بوصفها مخلوقات من قبل الخالق، أي على تجانس
37
دبر بمقتضى نظام الخلق.
ولكن لو جرد هذا النظام من فكرة الخلق لأمكن كذلك تصوره بطريقة عامة وغير محددة بوصفه نظام العالم، وبدلا من نظام الخلق المتصور تصورا لاهوتيا تظهر فكرة تدبير جميع الموضوعات عن طريق العقل الكوني الذي يشرع قانونه لنفسه؛ ومن ثم يسلم لنفسه كذلك بمعقولية أساليبه
38
معقولية مباشرة (وهو ما يعتبر «منطقيا»)، وعندئذ لا يكون هناك داع لتبرير أن ماهية حقيقة (صدق) القضية (أو الحكم) تكمن في صحة (مطابقة، صواب) العبارة، وحتى في المواضع التي يحاول فيها المرء عبثا أن يفسر كيف يمكن أن تتم هذه الصحة أو المطابقة، فإنه يفترض وجودها سلفا باعتبارها ماهية الحقيقة، كذلك تدل حقيقة الشيء دائما على توافق الشيء المعطى مع التصور «المعقول» عن ماهيته، ويبدو الأمر حينئذ وكأن هذا التصور
39
لماهية الحقيقة مستقل عن التفسير المتعلق بماهية وجود كل موجود، في حين أن هذا التفسير الأخير يتضمن بالضرورة تفسيرا مشابها لماهية الإنسان من حيث هو حامل العقل ومحققه.
40
وهكذا تكتسب الصيغة المعبرة عن ماهية الحقيقة (الحقيقة هي تطابق العقل والشيء)
41
صدقها الكلي مباشرة في نظر كل إنسان وتحت سطوة بداهة
42
هذا التصور عن ماهية الحقيقة، وهي البداهة التي لم يكد أحد يلتفت إلى أسسها الجوهرية - نجد أيضا من يسلم تسليما بديهيا بأن للحقيقة ضدا يقابلها وأن اللاحقيقة لها وجود، فلا حقيقة القضية (أو عدم صحتها أو انطباقها) هي عدم تطابق العبارة مع الشيء، ولا حقيقة الشيء (عدم أصالته) تعني عدم توافق الموجود مع ماهيته، وفي كل مرة تفهم اللاحقيقة بوصفها عدم اتفاق،
43
وهذا يسقط خارج
44
ماهية الحقيقة؛ من أجل هذا يمكن إهمال اللاحقيقة، بوصفها الضد المقابل للحقيقة، حيثما أردنا إدراك الماهية الخالصة لهذه الأخيرة.
ولكن هل ما زلنا بحاجة للكشف عن ماهية الحقيقة؟ أليست الماهية الخالصة للحقيقة متمثلة بصورة كافية في ذلك المفهوم الذي لا تعكره نظرية والذي تحميه بداهته ويتفق الجميع على صحته وصدقه؟ وأخيرا فإننا حين نأخذ رد حقيقة القضية إلى حقيقة الشيء على معناه القريب المألوف، أي من جهة كونه تفسيرا لاهوتيا، وحين نصر على تنقية التحديد الفلسفي للماهية من كل تدخل من جانب اللاهوت ونقصر تصور (مفهوم) الحقيقة على حقيقة القضية، فإنما نلتقي بذلك مع تراث فكري قديم، وإن لم يكن هو أقدم تراث، وهو تراث يرى أن الحقيقة هي تطابق (هومويوزيس) عبارة (لوجوس) مع شيء (براجما)،
45
فما حاجة العبارة إلى بحث أو سؤال، إذا فرضنا أننا نعرف معنى تطابق العبارة مع الشيء؟ ولكن هل نعرف هذا؟ (2) الإمكانية الباطنة للتطابق
نحن نتحدث عن التطابق ونقصد به معاني مختلفة، فنقول مثلا عن قطعتين من العملة النقدية فئة الماركات الخمس موضوعتين على المائدة: إنهما متفقتان في وحدة مظهرهما؛ ولهذا تشتركان في هذا المظهر وتكونان من وجهة النظر هذه متشابهتين، ثم إننا نتحدث عن التطابق عندما نقول مثلا عن إحدى هاتين القطعتين من فئة الخمسة ماركات: هذه القطعة النقدية مستديرة، هنا ينطبق القول أو العبارة على الشيء، وفي هذه الحالة لا تقوم العلاقة بين شيء وشيء، بل بين عبارة وشيء، ولكن ما الذي يمكن أن يجعل الشيء والعبارة متطابقين، إذا كان من الواضح أن طرفي العلاقة مختلفان في مظهرهما؟ إن العملة النقدية مصنوعة من المعدن، والعبارة غير مادية على الإطلاق، العملة النقدية مستديرة، والعبارة ليس لها صفة مكانية على الإطلاق، بالعملة النقدية يمكن أن نشتري شيئا ما، والعبارة التي تقال عنها لا تصلح أبدا لأن تكون وسيلة شراء، ولكن على الرغم من كل هذا الاختلاف بينهما فإن العبارة المذكورة تتطابق بوصفها عبارة حقيقية (صادقة) مع القطعة النقدية، وينبغي أن يفهم هذا التطابق، وفقا للتصور الشائع عن الحقيقة، على أنه تكافؤ.
46
كيف يمكن أن يتكافأ هذا الشيء المختلف تمام الاختلاف، وهو العبارة، مع القطعة النقدية؟ يتحتم على العبارة لكي تحقق هذا أن تتحول إلى قطعة نقدية وأن تلغي بذلك نفسها تماما، ولكن العبارة لن تفلح في ذلك أبدا، وفي اللحظة التي يتحقق فيها مثل هذا التحول سيستحيل على العبارة، بما هي عبارة، أن تتطابق مع الشيء، إن العبارة يجب أن تبقى في التكافؤ ، بل إنها لا تصبح ما هي عليه إلا إذا بقيت كذلك.
47
مم تتكون إذن ماهيتها المختلفة عن ماهية أي شيء آخر؟ كيف يتيسر للعبارة، مع احتفاظها بماهيتها، أن تكون مكافئة لكائن آخر، أي الشيء؟
إن التكافؤ المقصود لا يعني في هذه الحالة أن يحدث تشابه واقعي
48
بين شيئين مختلفين في طبيعتهما، والأولى أن يقال إن ماهية التكافؤ تتحدد وفقا لنوع العلاقة التي تقوم بين العبارة والشيء، وما بقيت هذه «العلاقة» غير محددة وغير مؤسسة من جهة ماهيتها، فسوف يدور في الفراغ كل نزاع
49
حول إمكان هذا التكافؤ أو عدم إمكانه، وحول نوعه ودرجته.
ولكن العبارة التي تقال عن القطعة النقدية «تتعلق» بهذا الشيء عندما تتمثله
50 (أو تستحضره أمامها) وتتكلم عن حالة هذا الشيء المتمثل (المستحضر) من وجهة النظر السائدة، والعبارة المتمثلة (المستحضرة) تقول ما تقوله عن الشيء المتمثل بحيث تعبر عنه بما هو كذلك. هذه الطريقة في التعبير
51
تنصب على التمثل (الاستحضار) وما يتمثله (أو يستحضره)، والمراد هنا بالتمثل - مع استبعاد كل الآراء «السيكولوجية» و«المعرفية» المسبقة - هو جعل الشيء يوضع أمامنا بوصفه موضوعا،
52
والذي يوضع أمامنا، من حيث وضعه بهذه الكيفية، لا بد له أن يقطع (أو يغطي ويتخلل) مجالا مفتوحا في مواجهتنا وأن يبقى مع ذلك في ذاته شيئا ويظهر بوصفه كيانا ثابتا، هذا الظهور للشيء عن طريق قطعه أو تخلله مجالا يقع في مواجهتنا يتحقق داخل منفتح (أو مجال مفتوح) لم يعمل التمثل (الاستحضار) على خلق انفتاحه، وإنما أخذ - من جانب التمثل - مأخذ مجال للعلاقات، والعلاقة بين العبارة المتمثلة وبين الشيء هي تحقق تلك الإحالة التي تتم في الأصل كما تتم في كل مرة على صورة مسلك،
53
والمسلك يتصف دائما بأنه - وهو الذي يتم داخل المجال المنفتح - يرتبط باستمرار بما هو متكشف
54
من حيث هو كذلك، هذا المتكشف وبهذا المعنى الدقيق وحده قد جربه الفكر الغربي منذ وقت مبكر بوصفه «ذلك الذي يحضر»
55
كما سماه منذ وقت طويل ب «الموجود».
إن المسلك منفتح على الموجود، وكل علاقة انفتاح مسلك، وتفتح الإنسان (أو انفتاحه) يتفاوت حسب طبيعة الموجود وأسلوب مسلكه نحوه،
56
وكل عمل وإنجاز، كل فعل وتدبير، يبقى في انفتاح مجال يستطيع الموجود في داخله أن يوضع الوضع الذي يسمح بالتعبير عنه من حيث ماهويته
57
وكيفيته، ولا يتأتى هذا إلا إذا أصبح الموجود نفسه متمثلا (أو مستحضرا) في التعبير الذي يمثله، بحيث يخضع هذا التعبير لفرض يلزمه بأن يعبر عن الموجود من حيث هو كذلك، وبقدر ما يلتزم التعبير بهذا الفرض، فإنه يتوافق
58
مع الموجود، والتعبير الذي يلتزم بهذا الفرض يكون تعبيرا صحيحا أو متوافقا (حقيقيا)،
59
وما يعبر عنه بهذه الطريقة هو الصحيح المتوافق (الحقيقي).
يجب على العبارة أن تستمد توافقها (صحتها) من تفتح المسلك (أو انفتاحه)؛ إذ إن هذا التفتح وحده هو الذي يتيح للمنكشف
60
بوجه عام أن يصبح معيارا للتمثل المكافئ، ولكن المسلك المنفتح نفسه هو الذي يجب عليه أن يهتدي بهذا المعيار، ومعنى هذا أن المسلك يتحتم عليه أن يقبل العطية السابقة لهذا المعيار الذي يوجه كل تمثل، وهذا متضمن في تفتح المسلك، ولكن إذا كان تفتح المسلك هذا هو وحده الذي يجعل توافق العبارة أو صحتها (حقيقتها) ممكنة، فيلزم عن هذا أن يكون ذلك الذي يجعل التوافق (أو الصحة) ممكنا هو صاحب الحق الأصلي في أن يعتبر ماهية الحقيقة.
بهذا تسقط الإحالة
61
التقليدية والنهائية للحقيقة إلى العبارة منظورا إليها بوصفها الموضع الوحيد الذي تحل فيه ماهيتها،
62
إن القضية ليست هي الموطن الأصلي للحقيقة، ولكن في نفس الوقت يبرز هذا السؤال عن أساس الإمكانية الباطنة للمسلك المنفتح الذي يعطي نفسه المعيار بصورة مسبقة؛ إذ إن هذه الإمكانية وحدها هي التي تخلع على توافق (أو صحة) القضية
63
المظهر الذي يخول له تحقيق ماهية الحقيقة. (3) أساس إمكانية التوافق
64
من أين يستمد التعبير المتمثل الفرض
65
الذي يوعز إليه بأن يتجه نحو الموضوع ويتوافق معه حسب «قانون» التطابق؟ لماذا يسهم هذا التوافق في تحديد ماهية الحقيقة؟ كيف تتم مثل هذه العطية الأولية للمعيار وهذا الإيعاز بالتوافق؟ لا يتم هذا حتى تكون هذه العطية الأولية قد تمكنت من تحريرنا بحيث ننفتح على ما يتكشف فيها وما يلزم كل تمثل،
66
إن التحرر من أجل معيار ملزم لا يتيسر إلا إذا كان تحررا إزاء المنكشف الذي يظهر في «مجال» مفتوح،
67
مثل هذا التحرر يشير إلى الماهية التي لم تفهم حتى الآن للحرية. إن انفتاح المسلك، وهو الذي يجعل التوافق ممكنا من الناحية الباطنة، يقوم على أساس الحرية، إن الحرية هي ماهية الحقيقة.
ولكن ألا تضع هذه القضية «التي تؤكد» ماهية التوافق أمرا بدهيا مكان أمر بدهي آخر؟ إن الفعل لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان الفاعل حرا، كذلك الشأن في فعل التعبير المتمثل وفي قبول إحدى الحقائق أو رفضها، بيد أن القضية لا تعني مع ذلك أن تكوين عبارة أو توصيلها «للغير» أو استيعابها يحتاج بالضرورة إلى الفعل الخالص من الضغط والإلزام، وإنما تقول: إن الحرية هي ماهية الحقيقة ذاتها، والمقصود ب «الماهية» هنا هو أساس الإمكان الباطن لما يسلم بأنه معروف مباشرة وبوجه عام، ولكننا إذا ذكرنا تصور الحرية لا نفكر في الحقيقة بل ولا نفكر أيضا في ماهيتها؛ ولهذا فإن القضية التي تزعم أن ماهية الحقيقة (أو توافق العبارة وصحتها) هي الحرية، لا بد أن تثير الحيرة.
أليس وضع ماهية الحقيقة في الحرية معناه أن نضع الحقيقة تحت رحمة الهوى؟
68
وهل هناك شيء أقدر على تقويض الحقيقة من تركها نهبا لتعسف هذه «القصبة المرتعشة»
69
وتحكمها؟ إن الشيء الذي ظل يلح على الحكم السليم
70
أثناء هذه المناقشة قد ظهر الآن أكثر وضوحا: إن الحقيقة هنا ترد
71
إلى ذاتية الذات الإنسانية، وحتى لو أمكن أن تصل هذه الذات إلى الموضوعية، فإن هذه الموضوعية ستظل إنسانية شأنها شأن الذاتية، كما ستبقى تحت تصرف الإنسان.
ما من شك في أن الإنسان ينسب إليه الزيف والنفاق، والكذب والخداع، والغش والتظاهر، وعلى الجملة كل ألوان اللاحقيقة، ولكن اللاحقيقة تعد كذلك نقيض الحقيقة، ولهذا يرى الناس من حقهم أن يستبعدوها من دائرة السؤال عن الماهية الخالصة للحقيقة، وذلك على أساس أنها الوجه السلبي من الحقيقة،
72
هذا الأصل الإنساني للاحقيقة إنما يؤكد، بطريق مضاد، أن ماهية الحقيقة في ذاتها هي التي لها السيادة على الإنسان، هذه الحقيقة في ذاتها تعد في نظر الميتافيزيقا خالدة وأبدية؛ ومن ثم فلا يمكن أن تنبني على زوال الكائن البشري وهشاشته،
73
فكيف إذن يتيسر لماهية الحقيقة أن تجد حماها وأساسها في حرية الإنسان؟
إن النفور الذي تلقاه القضية القائلة بأن ماهية الحقيقة هي الحرية يقوم على بعض الأحكام المسبقة،
74
ومن أشد هذه الأحكام عنادا تلك التي تزعم أن الحرية خاصية من خصائص الإنسان، وأن ماهية الحرية لا تحتاج إلى مزيد من البحث، وأن كل الناس تعرف ما هو الإنسان. (4) ماهية الحرية
ومع هذا التنبيه إلى الارتباط الماهوي
75
بين الحقيقة بوصفها توافقا (أو صحة وصوابا) وبين الحرية يزعزع هذه الأحكام المسبقة، بشرط أن نكون على استعداد «لإجراء» تحول في التفكير، إن التأمل في الارتباط الماهوي القائم بين الحقيقة والحرية يؤدي بنا إلى البحث في ماهية الإنسان من منظور
76
يضمن لنا تجربة أساس ماهوي خفي للموجود-الإنساني (أو الآنية)،
77
بحيث يضعنا «هذا التأمل» قبل ذلك
78
في المجال الذي تفصح فيه الحقيقة عن ماهيتها،
79
من هنا يتضح أيضا أن الحرية ليست هي أساس الإمكانية الباطنة للتوافق (الصحة والصواب) إلا لأنها تتلقى ماهيتها الخاصة بها
80
من ماهية أخرى أشد منها أصالة، وهي ماهية الحقيقة التي تعد وحدها ماهوية بحق.
81
لقد حددت الحرية بادئ ذي بدء بأنها حرية
82
لأجل المنكشف في «نطاق» المفتوح،
83
كيف يتعين علينا أن نفكر في ماهية الحرية؟ إن المنكشف،
84
الذي يتكافأ معه التعبير المتمثل
85
بوصفه متوافقا معه، هو الموجود المفتوح في مسلك منفتح،
86
والحرية لأجل انكشاف المفتوح هي التي تسمح للموجود بأن يكون الموجود على النحو الذي هو عليه،
87
وهكذا يتبين أن الحرية هي «ترك-الموجود-يوجد».
إننا نتحدث عادة عن «الترك»
88
عندما ننفض أيدينا مثلا من مشروع خططنا له، ومعنى قولنا: «نحن نترك شيئا يوجد» أننا لن نلمسه بعد ذلك ولن نشغل أنفسنا به، وفي هذه الحالة يفيد «ترك الشيء يوجد» المعنى السلبي من انصراف عن الشيء وتخل عنه، ويعبر عن عدم الاكتراث به وإسقاطه، والكلمة الضرورية التي نلجأ إليها هنا للتعبير عن «ترك-الموجود- يوجد» لا تقصد الإسقاط وعدم الاكتراث، وإنما تقصد العكس من ذلك، إن «ترك-الموجود- يوجد» معناه أن نهب أنفسنا له، ولا ينبغي أن يفهم هذا مرة أخرى على أنه مجرد تعامل مع الموجود الذي نصادفه أو نبحث عنه، ولا على أنه مجرد صون ورعاية وتنظيم له، إن ترك الموجود يوجد - أي من جهة وجوده على ما هو عليه - معناه أن يهب الإنسان نفسه للمنفتح، وانفتاحه الذي يدخل فيه كل موجود ويستقر فيه، كما يأتي به هذا الموجود معه،
89
هذا المنفتح هو الذي تصوره الفكر الغربي في بدايته ووصفه باللا-محتجب (تاألليثيا).
90
ولو ترجمنا الكلمة اليونانية (أليثيا)
91
باللاتحجب بدلا من ترجمتها «بالحقيقة»، فإن هذه الترجمة لن تكون فحسب أكثر أمانة من الناحية «الحرفية»، بل إنها ستوجهنا إلى تغيير تفكيرنا في التصور الشائع للحقيقة بمعنى توافق العبارة وستجعلنا نرجع إلى المعنى الأصلي - الذي لم يفهم بعد حق الفهم - وهو انكشاف الموجود أو تكشفه،
92
إن هبة النفس
93
لتكشف الموجود «لا تعني» أن تضيع فيها، بل أن تتهيأ
94
لنوع من التراجع أمام الموجود حتى يتجلى وينكشف فيما هو عليه وعلى ما هو عليه ويتمكن التكافؤ المتمثل من أن يستمد منه المعيار، ومثل هذا الترك للموجود معناه أن نعرض أنفسنا للموجود بما هو كذلك وأن نضع مسلكنا كله في الانفتاح، إن «ترك- الموجود-يوجد»، هو في ذاته تعرض وتخارج،
95
وماهية الحرية، منظورا إليها على ضوء ماهية الحقيقة، تتضح الآن بوصفها التعرض لتكشف الموجود.
وليست الحرية مقصورة على ما يطيب للفهم العام أن يتصوره تحت هذا الاسم: أي معنى الهوى أو النزوة التي تنبثق أحيانا في أنفسنا وتدفعنا إلى اختيار هذا الجانب أو ذاك، وليست الحرية هي انتفاء الضغط والإلزام بأن نفعل شيئا (معينا) أو لا نفعله، وليست الحرية كذلك بالتهيؤ أو الاستعداد لقضاء مطلب أو ضرورة (ومن ثم موجود من نوع ما)، إن الحرية قبل هذا كله (أي قبل الحرية السلبية والإيجابية) هي الهبة أو الانصراف إلى انكشاف الموجود بما هو كذلك، والتكشف نفسه يحافظ عليه ويصان في الهبة المتخارجة، وبفضل هذه الهبة (أو هذا الانصراف والتوجه) يكون انفتاح المفتوح، أي يكون الهناك (أو الحضور)
96
ما يكون عليه.
في الهناك (الدازاين أو الحضور) يصان للإنسان (ذلك) الأساس الماهوي الذي طال العهد على عدم تأسيسه، والذي يتيح له أن يتخارج،
97
والوجود هنا لا يقصد به وجود الموجود بمعنى وروده أو حضوره أمامنا، ولا ينبغي كذلك أن يفهم بالمعنى «الوجودي» أي بمعنى الجهد الأخلاقي الذي نقصده من اهتمام الإنسان بنفسه اهتماما قائما على تكوينه الجسدي والنفسي، إن الوجود (التخارج) الذي يمد جذوره في الحقيقة بوصفها حرية، هو التعرض لتكشف الموجود بما هو موجود، ويبدأ وجود الإنسان التاريخي أو يبدأ تخارجه - وهو بعد لا يزال غير مفهوم وغير محتاج إلى تأسيس ماهيته - في تلك اللحظة التي يتجه فيها المفكر الأول إلى لاتحجب الموجود لكي يسأل ما هو الموجود،
98
في هذا السؤال يجرب اللاتحجب لأول مرة، ويتجلى الموجود في مجموعه بوصفه «فيزيس»
99
أي «طبيعة»، وهي هنا كلمة لا تعني بعد مجالا معينا من مجالات الوجود، وإنما تعني الموجود بما هو كذلك في مجموعه، منظورا إليه من حيث هو حضور في حالة بزوغ (أو انبثاق)، ولا يبدأ التاريخ إلا حيث يرفع الموجود نفسه ويحفظ ويصان بصورة واضحة في لاتحجبه، وحيث يفهم هذا الحفظ والصون على ضوء السؤال عن الموجود بما هو موجود، إن التكشف المبدئي للموجود في مجموعه، والسؤال عن الموجود بما هو موجود، وبداية التاريخ الغربي كلها شيء واحد، وتتم في وقت وزمن واحد، (لكن) هذا الزمن الذي لا سبيل إلى قياسه هو الذي يفتتح به كل مقياس.
100
ولكن إذا كان الموجود المتخارج هناك،
101
وبوصفه «ترك-الموجود-يوجد»، هو الذي يحرر الإنسان «لحريته»؛ وذلك حين تخوله
102 (حق) اختيار إمكانية (موجود) ما، أو تفرض عليه ضرورة (موجود ما)، فليس التعسف البشري
103
هو الذي يملك «التصرف في» الحرية، إن الإنسان لا يملك الحرية كما لو كانت خاصية له، بل إن العكس هو الأصح؛ فالحرية، أي الدازاين (أو الوجود- هناك) المتخارج الكاشف، هي التي تملكه على نحو أصيل يبلغ من أصالته أنها هي وحدها التي تكفل لبشرية
104
ما أن تنشئ العلاقة بالموجود في مجموعه وبما هو موجود، وهي العلاقة التي يقوم عليها التاريخ ويميز بها، إن الإنسان المتخارج هو وحده الإنسان التاريخي، أما «الطبيعة» فهي بلا تاريخ.
إن الحرية التي تفهم هذا الفهم بحيث تعني «ترك-الموجود-يوجد» (هي حرية) تعمل على تحقيق ماهية الحقيقة بمعنى تكشف الموجود، وليست الحقيقة خاصية مميزة للقضية الصحيحة (المتوافقة) التي تقولها «ذات» بشرية عن موضوع ما ثم تعتبر بعد ذلك قضية «صادقة» دون أن نعرف شيئا عن المجال الذي ستصدق فيه، وإنما الحقيقة هي تكشف الموجود الذي يتم بفضله
105
انفتاح، وفي هذا الانفتاح يتكون كل مسلك بشري وكل موقف يتخذه الإنسان، وذلك بفضل تعرضها له،
106
من أجل هذا يكون (وجود) الإنسان على نحو متخارج،
107
ولما كان كل مسلك إنساني منفتحا على طريقته، فضلا عن أنه يتواءم
108
مع ما يتعلق به،
109
فيلزم عن هذا أن يكون مسلك ترك-الوجود،
110
أي الحرية، قد أنعم عليه بنعمة الإيعاز الباطن
111
الذي يطابق
112
بين تمثله وبين الموجود، (وهكذا) يصبح الآن معنى تخارج الإنسان: إن تاريخ الإمكانيات الأساسية
113
لبشرية تاريخية مدخر
114
له في الكشف عن الموجود في مجموعه، ومن الأسلوب الذي تحضر
115
به الماهية الأصلية للحقيقة تنشأ القرارات الأساسية النادرة عبر التاريخ.
ولكن لما كانت الحقيقة في صميم ماهيتها حرية، فقد يتفق للإنسان التاريخي، وهو بصدد ترك-الموجود-يوجد، ألا يتركه يوجد فيما هو عليه أو كما هو عليه، عندئذ ينكر الموجود ويحور،
116
وعندئذ يؤكد المظهر سلطانه وقوته، وفي هذه القوة تتبدى
117
لاماهية الحقيقة، ولكن لما لم تكن الحرية المتخارجة - بوصفها ماهية الحقيقة - خاصية من خصائص الإنسان، بل يتخارج الإنسان ويصبح بذلك قادرا على التاريخ لأن الحرية هي التي تملكه، فإن لاماهية الحقيقة لا يمكن أيضا أن تنجم عن مجرد عجز الإنسان وإهماله،
118
إن اللاحقيقة - على العكس مما سبق - لا بد أن تأتي من ماهية الحقيقة.
وارتباط الحقيقة باللاحقيقة ارتباطا ماهويا يمنعهما من الوقوف من بعضهما موقفا ينم عن عدم الاكتراث، هو الذي يسمح للقضية الحقيقية (الصادقة) أن تضاد القضية غير الحقيقية (الكاذبة) تضادا حادا،
119
لهذا فإن السؤال عن ماهية الحقيقة لا يصل إلى مجاله الأصلي
120
إلا إذا استطاع من خلال النظر المسبق في الماهية الكاملة للحقيقة أن يضم كذلك التفكير في اللاحقيقة إلى أفق تكشف الماهية،
121
إن البحث في لاماهية الحقيقة ليس مجرد ملء ثغرة ثانوية،
122
بل هو الخطوة الحاسمة نحو وضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعا مناسبا، ولكن كيف يمكننا أن ندرك اللاماهية في (صميم) ماهية الحقيقة؟ إذا كانت ماهية الحقيقة لا تستنفد في توافق العبارة (أو صحتها وصوابها)، فلا يمكن بالمثل أن تسوى اللاحقيقة بعدم توافق (أو عدم صحة) الحكم. (5) ماهية الحقيقة
تبين لنا أن ماهية الحقيقة هي الحرية، هذه الحرية هي الترك المتخارج الكاشف للموجود، وكل مسلك منفتح يتحرك
123
في (مجال) ترك الموجود-يوجد، ويقف موقفا (معينا) من هذا الموجود أو ذاك، والحرية، من حيث هي انصراف
124
إلى انكشاف الموجود في مجموعه بما هو موجود، قد أثرت على كل سلوك بحيث يتوافق مع الموجود في مجموعه وبكليته،
125
غير أن هذا التأثر
126
لا يفهم أبدا على أنه «تجربة» أو «حالة شعورية»؛
127
لأن هذا معناه أن يفقد ماهيته ويفسر بشيء («كالحياة» أو «النفس») لا يمكنه أن يزعم لنفسه شرف الماهية إلا في الظاهر، ولا يتسنى له (أن يمضي في هذا الزعم) إلا إذا ظل منطويا على تزييف لهذا التأثر وإساءة فهمه، إن التأثر - أي التعرض المتخارج للموجود في مجموعه - لا «يجرب» ولا يشعر إلا لأن «الإنسان المجرب»
128
قد «وهب نفسه» أو انصراف إلى حالة تأثر كاشفة عن الموجود بكليته، دون أن يكون لديه إحساس سابق بماهية هذا التأثر، إن كل مسلك «يقوم به» الإنسان التاريخي، سواء شعر بذلك صراحة أو لم يشعر به، وسواء فهمه أو لم يفهمه، إنما هو مسلك متأثر
129
كما هو مستقر،
130
عن طريق هذا التأثر، في الموجود الكلي في مجموعه، إن تكشف الوجود بكليته وفي مجموعه ليس مطابقا
131
لمجموع الموجودات المعرفية في الواقع، إنما الأمر على عكس ذلك، فحيثما قلت معرفة الإنسان بالموجود ولم يعرفه عن طريق العلم إلا معرفة تقريبية وأولية،
132
أمكن لتكشف الموجود بكليته أن يتأكد بصورة أكثر ماهوية
133
مما لو أصبح المعروف وما يسهل معرفته في كل وقت من الضخامة والاتساع بحيث لا يحيط به النظر ولا يقوى على مقاومة جهود المعرفة ومحاولاتها الدائبة عندما تتجاوز القدرة التقنية
134
على السيطرة على الأشياء كل حد ممكن، بلى إن الهذر والمذر الذي تلغو به معرفة تدعى الإلمام بكل شيء - ولم تعد إلا معرفة وحسب - يصيب تكشف الموجود بالتسطح ويهوي به في ظلام العدم الظاهر لكل ما لم يعد يصل حتى إلى درجة الشيء الذي لا يستحق الاكتراث، ولم يبق له من وجود إلا كمثل ما يبقى لشيء منسي.
135
إن ترك الموجود-يوجد، وهو الأصل في التوافق
136
مع الموجود بكليته، ينفذ في كل مسلك منفتح يتحرك في مجاله كما يسبقه أيضا، ومسلك الإنسان يتغلغل فيه تكشف الموجود بكليته وفي مجموعه، ولكن هذه «الكلية أو المجموع» تبدو في نظر التقدير
137
والانشغال اليومي كأنها أمر يتعذر التنبؤ به وإدراكه،
138
ومن المستحيل إدراكها عن طريق الموجود الذي يكشف نفسه، سواء أكان هذا الموجود ينتمي للطبيعة أو التاريخ.
ومع أنها تتغلغل باستمرار في كل شيء وتطبعه على التوافق،
139
فإنها تظل على الرغم من ذلك هي اللامحدد والذي لا يقبل التحديد، كما تختلط لهذا السبب في أغلب الأحيان بأكثر الأمور شيوعا وأقلها لفتا للانتباه، ولكن هذا الذي يتغلغل في كل شيء ويطبعه على التأثر أو التوافق
140
ليس عدما، وإنما هو حجب (إخفاء) الموجود بكليته، فبقدر ما يسمح ترك-الوجود في كل مسلك على حدة بأن يوجد الموجود الذي يتعلق به، وبذلك يكشف عنه، فإنه يحجب الموجود بكليته؛ ولهذا فإن ترك-الموجود (يوجد) هو في نفس الوقت حجب وإخفاء، في الحرية المتخارجة للدازاين (الموجود الإنساني-هناك) يتم حجب (إخفاء) الموجود بكليته، ويكون الاحتجاب أو الاختفاء. (6) اللاحقيقة من حيث هي حجب (أو إخفاء)
إن التحجب (الاختفاء) يمنع «الأليثيا»
141
من التكشف (أو اللاتحجب)، بل لا يسمح لها بأن تكون ستيريزس
142 (سلبا)، وإنما يحفظ لها (أي للأليثيا) أخص ما يخصها (لكي يكون) ملكا لها، وإذا فالتحجب (الاختفاء)، إذا فكرنا فيه من جهة الحقيقة بوصفها لاتحجبا (أو تكشفا)، هو عدم-التكشف، وهو يعد بهذه المثابة اللا-حقيقة الأصلية التي تنتمي لماهية الحقيقة انتماء أصيلا،
143
وتحجب الموجود بكليته لا يتم أبدا كما لو كان نتيجة لاحقة ومترتبة على المعرفة الجزئية دائما بالموجود، إن تحجب الموجود بكليته، (أي) اللاحقيقة الأصلية، أقدم من كل انكشاف لهذا الموجود أو ذاك، وهو كذلك أقدم من ترك-الموجود نفسه الذي يحجب أثناء الكشف
144
ويتخذ موقفا من الحجب،
145
ما الذي يحافظ عليه ترك-الموجود في علاقته هذه بالحجب؟ إنه (شيء) لا يقل عن حجب الموجود بما هو موجود وبكليته، أي السر، ولا يتعلق الأمر بسر مفرد
146
خاص بهذا الشيء أو ذاك، وإنما يتعلق بأمر واحد، وهو أن السر (حجب المحتجب) بما هو سر يتغلغل في الوجود الإنساني
147
ويتحكم فيه.
وهكذا يحدث في أثناء ترك-الموجود، الذي يكشف عن الموجود بكليته ويحجبه في نفس الوقت، أن يظهر الحجب (الإخفاء) بمظهر المحتجب في المقام الأول،
148
والدازاين (الموجود-الإنساني)، بقدر ما يتخارج، يتعهد
149
أول وأوسع عدم-تكشف، أي اللاحقيقة الأصلية، إن اللاماهية
150
الأصلية للحقيقة هي السر، وكلمة اللاماهية لا تتضمن هنا معنى التدهور في الماهية الذي ننسبه لها عندما تتسع فتصبح مرادفة للكلي العام (كوينون، جينوس)
151
ولإمكانه
152
وأساسه، إن اللاماهية تدل هنا على الماهية السابقة في الوجود،
153
ولكن اللاماهية تدل عادة على تشوه تلك الماهية التي سقطت وتدهورت بالفعل، ومع هذا فإن اللاماهية، على طريقتها ووفق الحالة المطابقة، تبقى في جميع هذه الدلالات والمعاني مرتبطة بالماهية ارتباطا أساسيا ولا تصبح أبدا غير أساسية بمعنى أن تتحول إلى شيء لا يستحق الاهتمام.
ولكن الكلام بهذه الصورة عن اللاماهية يؤذي الرأي الشائع حتى الآن أذى شديدا ويبدو في مظهره أشبه ما يكون بتكديس مجموعة من «المفارقات» المغتصبة المصطنعة، ولما كان من الصعب تلافي هذا المظهر، فإننا نؤثر التخلي عن هذه اللغة التي تبدو في نظر الظن الشائع (الدوكسا)
154
وحده لغة مليئة بالمفارقات، أما الذي يعلم (الأمور على حقيقتها) فإن «اللا»، في اللاماهية الأصلية للحقيقة بوصفها لا حقيقة، تشير عنده إلى مجال حقيقة الوجود الذي لم يعرف بعد (لا مجال للوجود وحده).
إن الحرية، بوصفها ترك-الموجود-يوجد، هي في ذاتها علاقة منفتحة، أي علاقة غير منغلقة على نفسها، في هذه العلاقة يتأسس كل مسلك ويتلقى منها التوجه للموجود وتكشفه،
155
بيد أن هذه العلاقة بالحجب (أو الإخفاء) تحجب نفسها بإعطائها الصدارة لنسيان السر
156
وتختفي في هذا النسيان، ومع أن الإنسان يدخل دائما - عن طريق مسلكه - في علاقة بالموجود، إلا أنه يقف عادة عند هذا الموجود أو ذاك وما يتكشف منه،
157
وهو كذلك يظل على تمسكه بالواقع المعتاد والواقع الذي يمكن التحكم فيه والسيطرة عليه، حتى في الأحوال التي تستوجب النظر في المسائل الأولى والأخيرة،
158
وعندما يشرع في التوسع في تكشف الموجود
159
وتعديله وإعادة تحصيله
160
وتأمينه في مختلف مجالات عمله ونشاطه، فإنه في هذه الحالة أيضا يستمد التعاليم التي توجهه إلى هذه الغاية من دائرة أهدافه المعتادة وحاجاته المألوفة.
ولكن الاستقرار في (إطار) الحياة المعتادة يساوي في ذاته رفض الاعتراف بتحجب المتحجب، صحيح أن الحياة المعتادة نفسها لا تخلو من الألغاز، والغوامض، والقضايا التي لم تحسم، والمسائل التي تحتمل الشك، غير أن جميع هذه المشاكل الواثقة بنفسها
161
ليست إلا معابر ووسائط لحركة الحياة العادية على طريقها المعتاد؛ ولهذا فليست بالمشاكل الجوهرية، وحيثما تم التجاوز
162
عن تحجب الموجود بكليته واعتبر مجرد حد يعلن عن نفسه أحيانا بصورة عرضية، فإن الحجب (أو الإخفاء) بوصفه حدثا أساسيا، يكون في هذه الحالة قد هوى في (قاع) النسيان.
بيد أن السر المنسي للدازاين لا يستبعده النسيان، وإنما يضفي هذا النسيان حضورا خاصا على الاختفاء الظاهري للمنسي، وبينما ينتفي
163
السر في النسيان ومن أجل النسيان، فإنه يفرض على الإنسان التاريخي الاستقرار في حياته العادية والركون إلى أمجاده الزائفة،
164
وهكذا تعمد البشرية
165
التي خلي بينها وبين هذه الحياة إلى استكمال «عالمها» بما يستجد لها من حاجات وأهداف، وتملؤه بخططها ومشاريعها، عندئذ يستمد الإنسان، الذي نسي الموجود بكليته، مقاييسه من هذه الخطط والمشروعات، ثم يثبت على هذه المقاييس ويظل يتزود بمقاييس جديدة، دون أن يفكر بعد ذلك في الأساس الذي يقوم عليه اتخاذ المقاييس ولا في ماهية ذلك الذي يقدمها ويعطيها، وعلى الرغم من التقدم المتصل نحو مقاييس جديدة وأهداف وغايات جديدة، فإن الإنسان يخطئ في تقدير الماهية الأصيلة للمقاييس التي يتخذها، إنه يزل في القياس، ويستفحل الزلل كلما تصور أنه وحده - بوصفه ذاتا - هو مقياس كل موجود، وتصر البشرية، في غمرة هذا النسيان الذي فقد المقياس، على تأكيد ذاتها بفضل ما تيسر لها من أسباب الحياة المعتادة، ويجد هذا الإصرار سنده الذي يعتمد عليه، ولا سبيل له إلى معرفته، في العلاقة التي لا تسمح له فحسب بأن يتخارج، بل تسمح له في نفس الوقت أيضا بأن يتداخل، أي بأن يتشدد في تمسكه بما يقدمه له الموجود الذي يبدو أنه يظهر من نفسه وفي نفسه.
إن الدازاين (الموجود-الإنساني) المتخارج متداخل،
166
وحتى الوجود المتداخل يسوده السر،
167
ولكنه يكون عندئذ هو ماهية الحقيقة التي نسيت وصارت غير أساسية.
168 (7) اللاحقيقة من حيث هي ضلال
إن الإنسان، بطبيعته المتداخلة،
169
متجه نحو (الجانب) الشائع المعتاد من الوجود، غير أنه لا «يتداخل» إلا إذا كان قبل ذلك قد «تخارج»، أي إلا إذا أخذ الموجود في نفس الوقت مأخذ المقياس الموجه له، ولكن البشرية، من خلال اتخاذ المقياس الخاص بها، تصرف عن السر، هذا التوجه المتداخل نحو الشائع المعتاد، وهذا الانصراف المتخارج عن السر، مرتبطان برباط وثيق، إنهما شيء واحد ونفس الشيء، وذلك الاتجاه وهذا الانصراف يأتيان في واقع الأمر من الحيرة أو البلبلة التي يتميز بها الدازاين،
170
فلهفة
171
الإنسان بين الهرب من السر واللجوء إلى (الواقع) المعتاد، واندفاعه من موضوع يومي إلى آخر، وغفلته المستمرة عن السر، كل هذا هو الضلال
172 (أو الزيغ والخطأ).
الإنسان يضل، إنه لا يقع في الضلال في لحظة معينة، وإنما يمضي إليه دائما لأنه (بطبعه) يتداخل من حيث يتخارج؛ ومن ثم فهو موجود بالفعل (أو بصورة مسبقة) في الضلال، والضلال الذي يمضي فيه الإنسان ليس شيئا يسعى بجانبه ويحاذي طريقه وكأنه حفرة يسقط فيها أحيانا، وإنما الضلال جزء من تكوين الدازاين الذي خلى بين الإنسان التاريخي وبينه،
173
والضلال هو مجال تلك البلبلة
174
التي يتم فيها دائما، ببراعة ومرونة، نسيان التخارج المتداخل نفسه وغفلته عن نفسه،
175
ويتأكد حجب الموجود بكليته - الذي يكون هو نفسه محتجبا - في انكشاف الموجود المعين، وهذا الانكشاف، بوصفه نسيان الحجب، هو الذي يكون الضلال.
إن الضلال، بالقياس إلى الماهية الأصلية للحقيقة، هو ضد الماهية الأساسي،
176
الضلال ينفتح انفتاحا لكل ما يناوئ الحقيقة الماهوية (أو الأساسية)،
177
والضلال هو مسرح الخطأ وسببه،
178
وليس الخطأ غلطة فردية أو عرضية، إنما هو مملكة (سيادة أو حكم) ذلك التاريخ الذي تختلط فيه كل أسباب الضلال المتشابكة.
إن لكل مسلك أسلوبه في الخطأ، وذلك طبقا لانفتاحه وعلاقته بالموجود بكليته، ويمتد الخطأ من الغلط والسهو وسوء التقدير إلى التعثر والشطط في المواقف والقرارات الأساسية الحاسمة،
179
والواقع أن ما نسميه في العادة بل وما تدعوه المذاهب الفلسفية أيضا باسم الخطأ، أي عدم تطابق الحكم وكذب المعرفة، ليس في حقيقة الأمر سوى أسلوب واحد من أساليب الخطأ، بل هو أكثر هذه الأساليب سطحية، إن الضلال الذي يتحتم على البشرية التاريخية أن تمضي فيه لكي يكون سعيها ضالا، هو مكون أساسي من مكونات انفتاح الدازاين (الموجود-الإنساني)، إن الضلال يغلب على الإنسان ويسيطر عليه من حيث يسوقه أو يدفعه إلى الضلال، ولكن الضلال باعتباره دفعا على الضلال، يسهم في نفس الوقت في إيجاد تلك الإمكانية التي يستطيع الإنسان أن ينتزعها من التخارج ، وهي إمكانية ألا يقع في الضلال، وأن يتجنب إغفال سر (الدازاين).
ولما كان التخارج المتداخل للإنسان يتحرك في الضلال، وكان الضلال - من حيث إنه يوقع في الخطأ - يهدد الإنسان دائما على نحو من الأنحاء ويجعله بسبب هذا التهديد مثقلا بالسر وإن يكن هو السر المنسي، فإن الإنسان يكون في تخارج موجوديته أو تواجده خاضعا في وقت واحد لغلبة السر عليه وتهديد الضلال له، إن كليهما
180
يحمله على الحياة في محنة القهر،
181
والماهية الكاملة للحقيقة، والتي تنطوي على ضد ماهيتها،
182
تبقي الموجود الإنساني في المحنة بواسطة هذا التأرجح الدائم (بين السر وبين تهديد الضلال)،
183
إن الدازاين خاضع للمحنة،
184
ومن موجودية الإنسان ومنها وحدها ينبثق انكشاف الضرورة،
185
وعن طريق هذا الانكشاف يستطيع الوجود الإنساني أن يضع نفسه في المحتوم.
186
إن تكشف لا-تحجب الموجود بما هو موجود هو في ذاته وفي نفس الوقت تحجب الموجود بكليته، وفي هذه المعية
187
التي تجمع بين التكشف والتحجب يثبت الضلال ويتأكد، إن حجب المتحجب والضلال ينتميان معا للماهية الأصلية للحقيقة، وليست الحرية، مفهومة من خلال التخارج المتداخل للموجود-الإنساني، هي ماهية الحقيقة (بمعنى توافق التمثل أو تطابقه) إلا لأن الحرية نفسها تصدر عن الماهية الأصلية للحقيقة، عن سيادة السر في (غمرة) الضلال ، إن «ترك-الموجود-يوجد» يتحقق في (مجال) المسلك المنفتح، ومع ذلك فإن ترك-الموجود-يوجد بما هو موجود وبكليته (أمر) لا يتم بصورة أصيلة ووافية بالماهية إلا إذا أخذ في الاعتبار
188
من حين إلى حين من جهة ماهيته الأصلية، عندئذ يبدأ الانفتاح
189
على السر في التحقق في (إطار) الضلال من حيث هو ضلال، عندئذ يوضع السؤال عن ماهية الحقيقة وضعا أصيلا، وعندئذ يتضح الأساس الذي يقوم عليه تشابك ماهية الحقيقة مع حقيقة الماهية، إن النظر إلى السر انطلاقا من الضلال (هو الذي) يضع مشكلة السؤال الأوحد: ما هو الموجود بما هو موجود وفي كليته؟ مثل هذا السؤال يتفكر في المشكلة الأساسية المميزة التي لم يتم التوصل بعد إلى إزالة التباسها، ألا وهي مشكلة وجود الموجود، إن التفكير في الموجود الذي ينشأ عنه هذا التساؤل أصلا، هو الذي عرف منذ عهد أفلاطون ب «الفلسفة»
190
ثم أطلق عليه بعد ذلك اسم «الميتافيزيقا». (8) السؤال عن الحقيقة والفلسفة
في فكر الوجود يتاح لتحرر الإنسان من أجل التخارج،
191
وهو التحرر الذي يؤسس التاريخ، أن ينطق (عن نفسه) بالكلمة،
192
والكلمة ليست في المقام الأول «تعبيرا» عن رأي، وإنما هي النسق المصون
193
لحقيقة الموجود بكليته، ولا يهم عدد الذين يمكنهم أن يسمعوا إلى هذه الكلمة، فنوعية أولئك الذين يمكنهم الإصغاء إليها هي التي تقرر وضع الإنسان في التاريخ،
194
ولكن في نفس تلك اللحظة من تاريخ العالم التي تتحقق فيها بداية الفلسفة، تبدأ كذلك السيطرة الصريحة للفهم العام
195 (أو السفسطائية).
إن هذا الفهم العام يهيب ببداهة
196
الموجود المنكشف ويفسر كل تساؤل فكري (أو فلسفي) بأنه تهجم على الفهم السليم
197
واعتداء على حساسيته المريبة.
198
بيد أن رأي
199
الفهم السليم - المبرر تبريرا تاما في مجاله الخاص - لا يصدق على ماهية الفلسفة التي لا يمكن أن تتحدد إلا من خلال علاقتها بالحقيقة الأصلية للموجود بما هو كذلك وبكليته، ولما كانت الماهية الكاملة للحقيقة تتضمن
200
اللاحقيقة وتتأكد
201
قبل كل شيء على صورة الحجب (أو الإخفاء)، فإن الفلسفة، بوصفها التساؤل عن هذه الحقيقة (لا بد أن تكون منقسمة على ذاتها)، إن فكرها هو الاتزان اللين (المرن) الذي لا يمتنع على تحجب الموجود بكليته، وفكرها كذلك هو التشدد المتفتح
202
الذي لا يدمر التحجب وإنما ينقله - مع الحفاظ على طبيعته - إلى وضوح التعقل وبهذا يلزمه «بأن يتجلى» في حقيقته الخاصة به.
والفلسفة في هذا الاتزان المرن وهذه المرونة المتزنة اللذين يتيحان للموجود أن يوجد بما هو كذلك وبكليته، تنمو وتتحول إلى تساؤل (من طبيعته) أنه إذا لم يستطع أن يقصر (كل) علاقته على الموجود وحده، فإنه لا يحتمل أدنى تسلط عليه من الخارج، وقد شعر كانط بهذه المحنة الباطنية (العميقة) للفكر؛ إذ يقول عن الفلسفة: الواقع أننا نجد الفلسفة هنا في موقف عصيب، ولقد كان ينبغي لهذا الموقف أن يكون ثابتا، ولو أنه لا يجد في الأرض ولا في السماء ما يتعلق به أو يستند إليه، إن عليها هنا أن تقيم البرهان على نقائها بأن تجعل من نفسها حارسة على قوانينها (أو مدبرة لها)، بدلا من أن تكون الرسول المبشر بقوانين يوصي بها حس فطري أو ما لا أدريه من طبيعة وصية عليها.
203
إن كانط، الذي تمهد أعماله للمرحلة الأخيرة من مراحل الميتافيزيقا الغربية، إنما يتطلع إلى مجال لم يستطع أن يفهمه تبعا لموقفه الميتافيزيقي الأساسي القائم على الذاتية - إلا من خلال هذه الذاتية وحدها - ولهذا كان حتما عليه أن يفسر الفلسفة بأنها هي الحارسة المدبرة لقوانينها الخاصة، وهذه النظرة الجوهرية
204
إلى مصير الفلسفة تبلغ مع ذلك من الاتساع قدرا يجعلها تستنكر كل استبعاد للفكر،
205
وإن أشد صور هذا الاستبعاد عجزا هي تلك التي تتذرع بالقول بأن الفلسفة «تعبير» عن الحضارة (كما فعل اشبنجلر) أو بأنها ترف (أو زخرف تزهو به) إنسانية منكبة على العمل والإنتاج، ولكن سواء حققت الفلسفة ماهيتها التي تقررت لها في الأصل بوصفها «مدبرة» قوانينها الخاصة، أو لم تتأيد لها صفة تبرير قوانينها ولم تحدد من خلال حقيقة ذلك الذي يجعل قوانينها قوانين،
206
فإن الذي يحسم الأمر في الحالين هو الأصالة
207
التي تجعل الماهية الأولية
208
للحقيقة أساسية بالنسبة للتساؤل الفلسفي.
209
إن المحاولة التي تقدمها هنا تتجاوز بالسؤال عن ماهية الحقيقة الحدود التقليدية للتصور الشائع عن مفهوم الماهية وتساعد على التأمل في هذه القضية: ألا ينبغي أن يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة الماهية؟ ولكن الفلسفة تفكر في الوجود (عندما تفكر) في مفهوم الماهية.
210
ولعل رد الإمكانية الباطنة لتوافق (أو تطابق) العبارة إلى الحرية المتخارجة (لترك-الموجود-يوجد) على اعتبار أنها هي «الأساس» الذي يقوم عليه، ووضع مبدأ ماهية هذا الأساس في التحجب والضلال - لعلهما أن يشيا (أو يوحيا) بشمول (أو عمومية) «مجردة»، وإنما هي على العكس من ذلك الفريد
211
المتحجب لتاريخ فريد يكشف عن «معنى» ما نسميه بالوجود وما اعتدنا منذ زمن طويل على التفكير فيه على أنه هو الموجود بكليته. (9) ملحوظة
إن السؤال عن ماهية الحقيقة ينبع من السؤال عن حقيقة الماهية، وذلك السؤال يفهم الماهية بمعناها القريب وهو «المائية»
212
أو «الشيئية»،
213
وأما الحقيقة فيفهمها باعتبارها خاصية تميز المعرفة، والسؤال عن حقيقة الماهية يفهم الماهية من جهة الفعل ويفكر من خلال هذه الكلمة - مع بقائه في إطار التصور الميتافيزيقي - في الوجود
214
بوصفه الفارق الكائن بين الوجود والموجود، إن الحقيقة تعني الحجب المضيء بوصفه خاصية أساسية للوجود.
والسؤال عن ماهية الحقيقة يجد الجواب عنه في هذه القضية: «ماهية الحقيقة هي حقيقة الماهية»، ويتبين من الشرح السابق أن القضية ليست مجرد قلب لتركيب الألفاظ، وأنها تهدف إلى الظهور بمظهر المفارقة، إن «الموضوع»
215
في هذه القضية - إن جاز استخدام هذه المقولة النحوية المشئومة على الإطلاق - هو حقيقة الماهية، إن الحجب المضيء يكون، أي يترك التوافق (التطابق) بين المعرفة والموجود يتحقق،
216
إن القضية جلية، ليست على الإطلاق من النوع الذي يفهم من «العبارة»، إن الجواب عن السؤال عن ماهية الحقيقة هو سيرة
217
تحول تم في تاريخ الوجود، ولما كان الحجب المضيء من مكونات الوجود، فإنه
218
يظهر في مبدأ أمره في ضوء الإخفاء المانع والاسم الذي يطلق على هذه الإضاءة هو الأليثيا.
219
كان في النية تكملة هذه المحاضرة عن «ماهية الحقيقة» بمحاضرة أخرى عن «حقيقة الماهية»، غير أن هذا المشروع لم يتحقق للأسباب التي أشرت إليها في رسالتي عن «النزعة الإنسانية»، وقد ألقيت «ماهية الحقيقة» في شكل محاضرة عامة في خريف وشتاء سنة 1930م في بريمن وماربورج وفرايبورج (بالبريسجاو)، كما ألقيت في صيف سنة 1932م بمدينة درسدن.
220
إن السؤال الأساسي (الوجود والزمان، 1927م) عن «معنى» الوجود، أي عن أهمية المشروع (الوجود والزمان، ص151)، أي عن الانفتاح، أي عن حقيقة الموجود وحسب، قد أغفل عمدا في هذه المحاضرة، إن الفكر فيها يلتزم في ظاهره بالطريق الذي سارت عليه الميتافيزيقا، ولكنه مع ذلك يحقق في خطواته الحاسمة، التي تنتقل من الحقيقة بوصفها توافقا أو تطابقا إلى الحرية المتخارجة، ومن هذه إلى الحقيقة باعتبارها حجبا وضلالا - يحقق تحولا في التساؤل يؤدي إلى تجاوز الميتافيزيقا.
إن الفكر الذي تحاول المحاضرة تقديمه تتوجه هذه التجربة الأساسية، إن القرب من حقيقة الوجود لا يتهيأ للإنسان التاريخي إلا انطلاقا من الدازاين أو الموجودية التي يمكن أن يرتبط بها الإنسان،
221
ولم تتخل المحاضرة فحسب عن كل نوع من الأنثروبولوجيا وكل تصور للإنسان باعتباره ذاتية، وهو نفس ما حدث في كتاب الوجود والزمان، ولم يقتصر الأمر أيضا على تقصي حقيقة الوجود باعتبار أنها الأساس الذي يشهد عليه موقف تاريخي جديد، بل إن مسار العرض في المحاضرة يبذل ما في وسعه للتفكير انطلاقا من هذا الأساس الجديد (وهو الدازاين)، وإن تسلسل السؤال في مراحله المتلاحقة ليعبر عن الطريق الذي يتابعه فكر لا يريد أن يقدم تمثلات (تصورات) ومفاهيم، وإنما يؤثر أن يجرب نفسه ويمتحنها باعتباره تحولا في العلاقة بالوجود.
نظرية أفلاطون عن الحقيقة
يعبر عادة عن المعارف التي تصل إليها العلوم في قضايا، وتقدم للإنسان في صورة نتائج صالحة للتطبيق، و«نظرية» أحد المفكرين هي ذلك الذي لم يقله في ثنايا قوله، وهي ذلك الذي يتعرض له الإنسان بحيث يهب له نفسه في سخاء.
ومن أجل أن نجرب ذلك الذي لم يقله أحد المفكرين - أيا كان نوعه - ونتمكن من معرفته والإحاطة به في المستقبل، فلا بد لنا أن نتفكر فيما يقوله، والوفاء بهذا المطلب يقتضي منا أن نتناول «بالدرس والتحليل» جميع «محاورات» أفلاطون في صورة متسقة، ولما كان هذا الأمر مستحيلا، فإن علينا أن نسلك طريقا آخر يؤدي بنا إلى ذلك «الجانب» الذي لم يقله أفلاطون ولم يفصح عنه فكره.
هذا الجانب الذي ظل «مطويا»، فلم يقله أفلاطون؛ يعبر عن تحول في تحديد ماهية الحقيقة. وتحقق هذا التحول في ماهية الحقيقة، ومضمونه، وما تأسس عليه، هو ما سوف نحاول توضيحه على ضوء التفسير الذي سنقدمه ل «رمز للكهف».
1
يبدأ الكتاب السابع من «محاورة» أفلاطون عن ماهية «البوليس»
2
بتقديم صورة عن «رمز الكهف» (الجمهورية، 7، 514أ، 2 إلى 517أ، 7)،
3
والرمز يروي حكاية، والحكاية تنمو وتتطور في حوار سقراط مع جلوكون، الأول يصورها، والثاني يعبر عن الدهشة التي تستيقظ في نفسه، والترجمة التالية
4
توضح النص الأصلي وتشرحه ببعض الإضافات الموضوعة بين قوسين.
سقراط: والآن، قارن طبيعتنا من وجهة التربية
5
بمثل هذه التجربة، تأمل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكن أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يقيمون منذ الطفولة مقيدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم بحيث يبقون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا النظر إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم، بسبب هذه القيود والسلاسل، عاجزون عن التلفت حولهم برءوسهم، في إمكانهم مع ذلك أن يبصروا نورا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيدين بالسلاسل (أي في ظهورهم) يمتد في الجهة العلوية طريق بني على طوله - تصور هذا - جدار منخفض شبيه بالحواجز التي يقيمها المهرجون (أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة) أمام الناس لكي يعرضوا عليهم ألعابهم.
قال: هذا ما أراه. - تأمل كذلك كيف يعبر الناس على طول هذا الجدار الصغير حاملين مختلف الأشياء، من تماثيل وصور من الحجر والخشب وغير ذلك مما يصنع البشر، فيتحدث بعضهم مع بعض كما هو منتظر، ويمر البعض الآخر صامتين. - صورة غريبة هذه التي تتكلم عنها، هكذا قال، ومساجين من نوع غريب.
قلت: إنهم يشبهوننا، نحن البشر، شبها تاما، مثل هؤلاء الناس لم تقع أعينهم منذ البداية، سواء أكان ذلك من أنفسهم أو من غيرهم، إلا على الظلال التي تلقيها النار على جدار الكهف المواجه لهم.
قال: وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما داموا قد أجبروا على عدم تحريك رءوسهم طوال حياتهم. - ولكن ماذا عساهم يرون من هذه الأشياء التي يحملها الناس (خلف ظهورهم)؟ ألا يرون هذه «الظلال» نفسها؟ - الأمر كذلك في الواقع. - لو كان في وسعهم أن يتحدثوا مع بعضهم البعض عما يرون، ألا نعتقد أنهم كانوا سيحسبون أن ما يرونه هو الوجود ؟ - بالضرورة. - ماذا يكون الأمر إذن لو أن هذا السجن تردد فيه صدى من الجدار المواجه لهم؟ ألا تظن أنهم كلما صدر صوت عن واحد من الذين يمرون خلف المسجونين اعتقدوا أن الحديث إنما يصدر عن الظلال التي تمر أمامهم؟ - لا شيء غير ذلك، بحق زيوس.
قلت: إن أمثال هؤلاء المساجين لن يعتقدوا في واقع الأمر أن هناك شيئا حقيقيا سوى ظلال الأدوات (التي يحملها العابرون).
قال: بالطبع هذا أمر ضروري.
قلت: تتبع إذن بنظرتك كيف يفك هؤلاء المساجين من قيودهم ويشفون في نفس الوقت من فقدان البصيرة، وتفكر عندئذ كيف تكون طبيعة فقدان البصيرة هذه إذا حدث لهم ما يلي، كلما فكت السلاسل عن أحدهم وأجبر على الوقوف على قدميه فجأة والالتفات برقبته والسير قدما والتطلع إلى النور، فلن يقوى على ذلك إلا إذا عانى ألما (شديدا)، ولن يستطيع من خلال الوهج أن ينظر إلى تلك الأشياء التي رأى ظلالها من قبل (لو أن ذلك كله حدث له)، فماذا تحسبه يقول لو أن أحدا أخبره بأن ما رآه من قبل لم يكن إلا عدما، وأنه الآن أقرب إلى الوجود، وأن نظره أكثر صوابا لأنه يلتفت إلى ما هو أكثر وجودا؟
ولو أن أحدا عرض عليه الأشياء التي مرت عليه واحدا بعد الآخر واضطره أن يجيب عن سؤاله عما هو هذا الشيء، ألا تعتقد أنه سيحار كيف يرد عليه وأنه سيعد ما رآه بعينيه من قبل أكثر حقيقة مما يعرض عليه الآن؟ - بالطبع. - وإذا أجبر أحد على النظر إلى النور (المنبعث من النار)، ألن تؤلمه عيناه ويتمنى أن يحولهما عنه ويفر إلى ما يقوى على النظر إليه ويعتقد أن ما رآه أوضح في الواقع بكثير مما يعرض الآن عليه؟ - الأمر كذلك.
قلت: وإذا حدث أن أحدا جذبه بالقوة من هناك وشده على الطريق الوعر (إلى خارج الكهف) ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذ بالألم والسخط؟ ألن يحس، وقد وقف في نور الشمس، بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئا مما يقال له الآن إنه حق؟ - لن يقوى أبدا على ذلك، أو لن يقوى عليه فجأة على الأقل. - أعتقد أن الأمر يحتاج إلى التعود إذا كان عليه أن يرى ما هناك (أي خارج الكهف في ضوء الشمس)، إنه سيتمكن في أول الأمر (نتيجة لهذا التعود) من النظر في يسر شديد إلى الظلال، وسيكون في وسعه بعد ذلك أن يرى صور الناس وبقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، إلى أن يتمكن أخيرا من رؤية هذه الأشياء نفسها (أي الموجودات الحقيقية بدلا من انعكاساتها)، ألا يكون في وسعه أن يرى من بين هذه الأشياء ما «يتجلى» منها في قبة السماء، كما يرى السماء نفسها، وأن تكون رؤيته لها بالليل حين يتطلع ببصره إلى ضوء النجوم والقمر أيسر من رؤيته للشمس وضوئها بالنهار؟ - لا شك في ذلك. - أعتقد أنه سيتمكن في آخر الأمر من النظر إلى الشمس نفسها، لا إلى صورتها المنعكسة في الماء أو حيثما ظهرت فحسب (وسيتمكن من النظر) إلى الشمس نفسها كما هي عليه في ذاتها، وفي الموضع المحدد لها، لكي يتأملها ويتعرف طبيعتها. - من الضروري أن يصل به الأمر إلى ذلك. - وبعد أن يبلغ ذلك سيكون في مقدوره أن يجمل القول عنها (أي عن الشمس) فيعرف أنها هي التي تضمن «تعاقب» فصول السنة كما تضمن «مر» السنين وتتحكم في كل ما هو موجود الآن في محيط الرؤية، بل إنها (أي الشمس) هي علة كل ما يجده أولئك (المقيمون في الكهف) على نحو من الأنحاء حاضرا أمامهم. - واضح أنه سيصل إلى هذا (أي إلى الشمس وما يستضيء بنورها) بعد أن تجاوز ذاك (أي ما كان ظلا وانعكاسا فحسب). - ماذا يحدث إذن لو أنه تذكر سكنه الأول وتذكر المعرفة التي كانت سائدة فيه والمساجين الذين كانوا معه؟ ألا تعتقد أنه سيسعد بهذا التغيير الذي حدث له، بينما يأسف لأولئك؟ - أسفا شديدا! - فإذا حددت في المكان القديم (بين من كانوا يقيمون في الكهف ) جوائز وألوان معينة من التكريم لكل من يرى الأشياء العابرة رؤية حادة، ويتذكر ما يمر منها في المقدمة ثم ما يتبعها أو يتفق مروره معها في وقت واحد، ويكون أقدرهم على التنبؤ بما سيأتي منها في المستقبل قبل غيره، أتعتقد أنه (أي ذلك الذي غادر الكهف ورأى نور الشمس والحقيقة) سيحس بالشوق إليهم (أي إلى الذين ما يزالون في الكهف) لكي يتنافس مع الذين يضعونهم موضع التكريم والقوة، أم لا تعتقد معي أنه سيأخذ نفسه بما يقول عنه هوميروس «من خدمة رجل غريب فقير»
6
وسيحتمل كل ما يمكن احتماله ويؤثره على اعتناق الآراء (التي يؤمنون بها في الكهف) والحياة كما يحبون؟ - أعتقد أنه سيفضل أن يحتمل كل شيء على أن يحيا تلك الحياة (التي يحيونها في الكهف).
قلت: والآن تفكر في هذا، لو حدث لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه مرة أخرى وجلس في نفس المكان (الذي كان يجلس فيه)، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟
قال: طبيعي جدا أن يحدث له ذلك. - فإذا عاد إلى الجدال مع المقيدين الدائمين هناك حول الآراء المختلفة عن الظلال، في الوقت الذي لا تزال فيه عيناه تعشيان (من الضوء) قبل أن تعودا سيرتهما الأولى - الأمر الذي سيستغرق منه زمنا غير قليل حتى يتعود عليه - ألا تعتقد أنه سيعرض نفسه هناك للسخرية، وأنهم سيحاولون إقناعه بأنه لم يغادر الكهف إلا ليعود إليه بعينين مريضتين، وأن الأمر لا يستحق أبدا أن يشق الإنسان على نفسه بالصعود إلى هناك؟ وإذا حاول أحد أن يمد يديه ليفك عنهم قيودهم ويصعد بهم إلى أعلى، (ألا تعتقد) أنهم لو استطاعوا أن يمسكوا به ويقتلوه، فسوف يقتلونه حقا؟
قال: يقينا سيفعلون ذلك.
7 •••
ما معنى هذه الحكاية؟ - إن أفلاطون يتولى الجواب بنفسه، فهو يقوم بتفسيرها بعد الانتهاء من روايتها مباشرة (517أ، 8 إلى 517د، 7).
المسكن الشبيه بالكهف هو «صورة»، «المقر الذي يتبدى للنظر» (كل يوم)،
8
والنار المتوهجة في الكهف، فوق رءوس سكانه، هي «صورة» الشمس، وقبة الكهف تمثل قبة السماء، تحت هذه القبة يعيش البشر، مرتبطين بالأرض ومقيدين بها، وكل ما يحيط بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم «الواقع» أي الموجود، في هذا المسكن الشبيه بالكهف يجدون أنهم «في العالم» وأنهم «في بيتهم» ويجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه.
أما الأشياء التي يسميها «الرمز» وتمكن رؤيتها خارج الكهف فهي صورة ذلك الذي تتقوم به الموجودية التي يختص بها الموجود، وهذا في رأي أفلاطون هو ما به يتجلى الموجود في «مظهره»، هذا المظهر لا يعده أفلاطون مجرد «وجه» من وجوهه،
9
إن «المظهر» في رأيه ينطوي على نوع من «البروز» أو «البزوغ» الذي يجعل كل شيء «يحضر» أو يمثل أو يقدم نفسه، إن الموجود يتبدى أو يتجلى في «مظهره».
والمظهر في اللغة اليونانية هو «الأيدوس» أو «الأيديا»،
10
والأشياء التي يغمرها ضوء النهار خارج الكهف، حيث يمتد مجال الرؤية الحرة إلى كل شيء، تصور «المثل» في «الرمز» في صورة عيانية، ولو لم تكن هذه المثل - أي هذه المظاهر المتنوعة التي تتبدى بها الأشياء والكائنات الحية والبشر والأعداد والآلهة - نصب عيني الإنسان، لما أمكنه في رأي أفلاطون أن يدرك هذا أو ذاك، ويعرف أنه بيت أو شجرة أو إله. إن الإنسان يتصور عادة أنه يرى أمامه هذا البيت وتلك الشجرة وسائر الموجودات، غير أنه في معظم الأحوال لا يشعر أدنى شعور بأنه لا يرى كل ما يألفه ويعتقد أنه «الواقع» إلا على ضوء «المثل»، ولكن كل ما يتصور الإنسان أنه وحده هو الواقع، كل ما يمكن أن يرى مباشرة ويسمع ويلمس ويقدر حسابه، يظل في نظر أفلاطون مجرد انعكاس باهت للمثل، أي مجرد ظل، هذا الشيء القريب من الإنسان أشد القرب، هذا الذي يبقى ظلا على الرغم من كل شيء، هو الذي يأسر الإنسان ويقيده في حياته اليومية، إنه يحيا في سجن ويترك جميع «المثل» وراء ظهره، ولأنه لا يعلم أن هذا السجن سجن، تجده يتصور أن هذا المجال الذي تدور فيه حياته اليومية تحت قبة السماء هو مجال التجربة والحكم اللذين يحددان مقياس جميع الأشياء والعلاقات، ويضعان القاعدة التي يقوم عليها كيانها ونظامها.
لو فكرنا بلغة «الرمز»
11
وتخيلنا الإنسان وقد التفت فجأة إلى النار المشتعلة خلف ظهره في داخل الكهف - هذه النار التي يعكس لهبها ظلال الأشياء التي تمر هنا وهناك - لوجدنا أنه سيحس على الفور بأن هذا التحول غير المعتاد في الرؤية والنظر إنما هو إزعاج للسلوك المألوف والظن الشائع، بل إن مجرد التفكير في مثل الموقف الغريب الذي ينتظر من الإنسان أن يتخذه في داخل الكهف سيرفض رفضا باتا؛ لأنه هناك في الكهف «يعتقد أنه» يمتلك الواقع امتلاكا كاملا واضحا لا لبس فيه، هذا الإنسان الذي يحيا في الكهف متشبثا «برأيه» لن يكون في وسعه أن يحس أدنى إحساس بأن واقعه قد لا يكون إلا ظلا، وكيف يتسنى له أن يعرف شيئا عن الظلال إذا كان لا يريد أن يعرف أي شيء عن النار المشتعلة في الكهف ولا عن الضوء المنبعث منها، مع أن هذه النار لا تخرج عن كونها نارا صناعية، ومن المفروض فيها أن تكون مألوفة لديه. وعلى العكس من ذلك نور الشمس الساطع خارج الكهف، فهو نور لم «يصنعه»
12
الإنسان، إن الكائنات النامية والأشياء الماثلة
13
تتجلى في نوره الساطع تجليا مباشرا دون حاجة إلى تصورها عن طريق الظلال التي تعكسها، والأشياء التي تتجلى بنفسها تعتبر في الرمز صورة «للمثل»، ولكن الشمس في «الرمز» تمثل «صورة» ذلك الذي يجعل جميع المثل مرئية، إنها صورة مثال المثل، هذا المثال يسميه أفلاطون «هي توأجاثو» ويترجم عادة ترجمة حرفية لا تخلو من سوء فهم ب «مثال الخير».
14
هذه الأنواع المختلفة من التطابق التي حصرناها الآن بين الظلال والواقع الذي يجربه الإنسان كل يوم، بين انعكاس ضوء النار في الكهف والنور الساطع الذي يغمر الواقع القريب المألوف، بين الأشياء الموجودة خارج الكهف والمثل، بين الشمس وأعلى المثل (هذه الأنواع المختلفة من التطابق) لا تستنفد مضمون «الرمز»، أجل! إننا لم نتوصل بعد إلى أخص ما يخص هذا الرمز، ذلك لأنه يروي لنا أحداثا ولا يقتصر على بيان الأماكن التي يقيم فيها الإنسان والمواقع التي يشغلها داخل الكهف وخارجه، ولكن الأحداث التي يعرضها علينا هي في الواقع مراحل انتقال من الكهف إلى ضوء النهار يعقبها الرجوع من ضوء النهار إلى الكهف.
ماذا يحدث في مراحل الانتقال هذه؟ ما الذي يجعلها ممكنة؟ مم تستمد ضرورتها؟ ما هي أهميتها؟
إن الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار والعودة من هناك مرة أخرى يتطلب من الأعين أن تغير ما اعتادت عليه فتتحول من الظلام إلى النور ثم من النور إلى الظلام، ستعاني الأعين في كل مرة من الحيرة والارتباك وستكون معاناتها لسببين مختلفين كل الاختلاف: «ستحس الأعين بنوعين من الحيرة والارتباك؛ وذلك لسببين مختلفين».
15
معنى هذا أن الإنسان يمكن أن ينتقل من جهل لا يكاد ينتبه له، إلى حيث يتجلى له الموجود في صورة أكثر ماهوية،
16
وإن لم ينضج بعد ولم يتهيأ لمثل هذا الموجود، وقد يمكنه من ناحية أخرى أن ينتزع من موقف المعرفة الماهوية (الأساسية) الذي وصل إليه فيلقي به في مجال يتحكم فيه الواقع الشائع المعتاد، دون أن يكون على استعداد للاعتراف بأن ما يألفه ويباشره في هذا المجال هو الواقع، وكما يتحتم على العين الجسدية أن تثابر على تغيير عاداتها في بطء ودأب، سواء أرادت أن تتعود على النور الساطع أو على الظلام الدامس، كذلك يتحتم على النفس أيضا أن تأخذ نفسها بالصبر والتأني حتى تتعود على مجال الموجود الذي تواجهه وتتعرض له، غير أن مثل هذا التعود يتطلب أولا من النفس أن تتحول بكليتها نحو الاتجاه الأساسي الذي تنزع إليه، شأنها في هذا شأن العين التي لا يمكنها أن ترى الرؤية الصحيحة الشاملة إلا إذا سبق للجسم كله اتخاذ الوضع الملائم لذلك.
لكن لم يتطلب التعود على هذا المجال أو ذاك كل هذا الدأب والصبر والأناة؟ لأن التحول (في الاتجاه) يمس وجود الإنسان، ولهذا يتم في صميم كيانه (ماهيته)،
17
معنى هذا أن الموقف الأساسي
18
الذي ينبغي أن ينشأ عن تحول في الاتجاه، لا بد أن ينبثق من علاقة تحمل الكائن الإنساني
19
بالفعل وتتطور إلى مسلك ثابت، هذا التحول والتغير الذي يؤدي إلى تعود الكائن الإنساني على المجال الذي يوجه إليه هو الذي يؤلف ماهية ذلك الذي يطلق عليه أفلاطون اسم «البايديا»،
20
وليس من سبيل إلى ترجمة هذه الكلمة، «فالبايديا» - بحسب تحديد أفلاطون لماهيتها - هي «التمهيد لتحول اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته»،
21
ولهذا فإن «البايديا» في ماهيتها انتقال، وهذا الانتقال يتم من «الأبايدويزيا»
22
إلى «البايديا»، وتبقى «الباديديا» - طبقا لطابع الانتقال هذا - على علاقة مستمرة «بالأبايدويزيا»، ولعل أنسب كلمة ألمانية يمكن أن تقابل الاسم اليوناني «بايديا» هي كلمة «التكوين»
23
وإن كانت في الواقع لا تفي به وفاء تاما، ويجب علينا بطبيعة الحال أن نرد للكلمة الأخيرة طاقتها التعبيرية الأصلية وأن ننسى ما لحق بها في أواخر القرن التاسع عشر من سوء التأويل، إن «التكوين» يدل على معنيين: فهو من ناحية تكوين بمعنى الصياغة أو التشكيل (الذي يصوغ مادة الشيء ويظهره)،
24
ولكن هذا «التكوين» «يكون» (أو يشكل ويصوغ) في نفس الوقت تبعا لمطابقة مسبقة مع صورة أولية معتمدة عليها، تسمى لهذا السبب نموذجا،
25
إن «التكوين» تشكيل وصياغة، وهو بالإضافة إلى هذا مدخل إلى صورة معينة، والماهية المضادة «للبايديا» هي «الأبايدويزيا» أي الافتقار إلى التكوين (التشكيل والصياغة) أو نقصه وعدمه، وهذا النقص في التكوين لا يتفتح فيه الموقف الأساسي، ولا يوضح فيه النموذج الذي يمكن الاعتماد عليه.
إن مكمن القوة في دلالة «رمز الكهف» هو أنه يحاول عن طريق الصورة القصصية الحية أن يجعل ماهية «البايديا» (شيئا) تمكن رؤيته ومعرفته، وفي الوقت نفسه نجد أفلاطون يحاول أن يعصم ماهية «البايديا» من أن تتحول إلى مجرد معلومات تفرغ في النفس التي لم تتهيأ لها كما لو كانت وعاء فارغا ينتظر من يملؤه، فالواقع أن «التكوين» الأصيل يستولي على النفس ذاتها ويحولها بكليتها، وذلك حين يمهد لهذا بوضع الإنسان في مكانه الماهوي (الأساسي) ويعوده عليه، والعبارة التي يفتتح بها أفلاطون حكاية الكهف في بداية الباب السابع من الجمهورية تبين بوضوح كاف أن الهدف من «الرمز» هو تصوير ماهية «البايديا»: «عليك بعد هذا أن تكون لنفسك من التجربة (التي سيقدمها فيما بعد) نظرة في (ماهية) «التكوين» و«عدم التكوين»؛ إذ إنهما أمران (مرتبطان) متصلان بصميم وجودنا الإنساني».
26
إن «رمز الكهف» - كما تقول عبارة أفلاطون بوضوح - بصور ماهية «التكوين»، ولكن هذا التفسير الذي نحاول تقديمه للرمز يهدف على العكس من ذلك إلى بيان «نظرية» أفلاطون عن الحقيقة، ألا نحمل «الرمز» عن طريق هذه المحاولة بشيء غريب عليه؟ إن التفسير (في هذه الحالة) مهدد بالانحراف إلى نوع من التأويل المغتصب، ربما يبدو هذا في الظاهر، إلى أن يثبت الرأي القائل بأن تفكير أفلاطون يخضع لتحول (تم في مفهوم) ماهية الحقيقة، بحيث أصبح هذا التحول هو القانون الخفي الذي يعتمد عليه ما يقوله (هذا) المفكر، هذا التفسير الذي فرضته محنة متأخرة يذهب إلى أن «الرمز» لا يقتصر على تصوير ماهية «التكوين» في صورة (حية ملموسة)، بل يضيف إلى ذلك أنه في نفس الوقت يوسع أفق البصر لكي ينفتح على التحول الذي تم في ماهية الحقيقة، وإذا كان الرمز قادرا على توضيح هذين الأمرين، ألا يستلزم هذا أن تكون هناك علاقة ماهوية (أساسية) تجمع بين «التكوين» و«الحقيقة»، الواقع أن هذه العلاقة قائمة، وهي تكمن في أن ماهية الحقيقة وأسلوب التحول (في مفهومها) هما اللذان يجعلان «التكوين» من ناحية بنيته الأساسية أمرا ممكنا.
ولكن ما الذي يجمع بين «التكوين» و«الحقيقة» في وحدة ماهوية (أساسية) أصيلة؟
إن «البايدايا» تدل على تحول الإنسان بكليته، بمعنى أن يخرج من دائرة الأشياء المألوفة التي يواجهها في حياته ويتعود على وضعه الجديد في دائرة أو مجال آخر يظهر فيه الموجود نفسه، ولا يصبح هذا الوضع ممكنا حتى يتغير كل ما كان واضحا أو متكشفا بالنسبة للإنسان ويتغير كذلك أسلوب وضوحه وتكشفه، لا بد أن يتحول هذا الذي يعتبر في نظر الإنسان لامحتجبا كما يتحول أسلوب لا تحجبه،
27
واللاتحجب يسمى في اليونانية «أليثيا »،
28
وهي كلمة تترجم عادة «بالحقيقة»، وقد ظل معنى «الحقيقة» في نظر الفكر الغربي منذ عهد قديم هو تطابق
29
التصور الفكري مع الموضوع، تطابق العقل مع الشيء.
30
لو حاولنا مع ذلك أن تتخلى عن ترجمة كلمتي «بايدايا» و«أليثيا» ترجمة حرفية، وحاولنا بدلا من ذلك أن نفكر في الماهية الموضوعية التي تنطوي عليها الكلمتان اللتان نجتهد في ترجمتهما من خلال المعرفة اليونانية،
31
لوجدنا على الفور أن «التكوين» و«الحقيقة» يلتقيان في وحدة ماهوية واحدة، ولو أخذنا ماهية ذلك الذي تسميه كلمة «أليثيا» مأخذ الجد لوجدنا هذا السؤال يطرح نفسه: من أين يستمد أفلاطون تحديده لماهية اللاتحجب؟ إن كل محاولة للإجابة على هذا السؤال نفسه مضطرة للرجوع إلى المضمون الحقيقي «لرمز الكهف»، وسوف تبين أن «الرمز» يتناول ماهية الحقيقة كما تبين طريقة تناوله له.
إننا بالكلام عن المتحجب وتحجبه إنما نصف ذلك الموجود الحاضر
32
في كل مجال من المجالات التي يقيم فيها الإنسان، ولكن «الرمز» يحكي قصة الانتقال من مكان إقامة إلى آخر، ومن هنا تنقسم هذه الحكاية إلى مجموعة من الأماكن المختلفة (التي يقيم فيها السجناء) وتتسلسل صعودا وهبوطا على نحو عجيب، وتقوم الفروق المختلفة بين أماكن الإقامة كما تقوم مستويات الانتقال (من مرحلة إلى أخرى) على الاختلاف في معنى الأليثيس
33
المأخوذ به كمقياس ملزم ، وعلى نوع الحقيقة السائد في كل مرحلة؛ لهذا ينبغي أن نفكر في مفهوم «الأليثيس»، أو اللاتحجب، ونحدد أوصافه عند كل مستوى.
في المستوى الأول يحيا البشر في الكهف مقيدين بالسلاسل والأغلال، أسارى ما يلتقون به لقاء مباشرا، ويختم أفلاطون وصفه لهذا المكان الذي يقيم فيه البشر بهذه العبارة الجازمة: «إن السجناء المغلولين على هذه الصورة لن يعتقدوا على الإطلاق أن ثمة ما هو غير محجب سوى ظلال الأدوات.»
34 (515ج، 1-2).
وفي المستوى الثاني يحدثنا «الرمز» عن الخلاص من القيود والأغلال، لقد توصل السجناء إلى شيء من الحرية، ولكنهم ما زالوا محبوسين داخل الكهف، إنهم يستطيعون الآن أن يتلفتوا برءوسهم ويحركوا أجسامهم في كل اتجاه، أصبح في إمكانهم أن يروا بأنفسهم الأشياء التي كانت تمر خلف ظهورهم ويحملها العابرون في أيديهم، وصار أولئك الذين لم يكونوا يبصرون إلا الضلال والأشباح «أكثر اقترابا من الموجود»
35 (515د، 2)، أخذت الأشياء نفسها تعرض منظرها بشكل من الأشكال، أي على ضوء النار الصناعية المشتعلة داخل الكهف، ولم تعد الظلال تخفيها كما كانت تفعل من قبل، فإذا اتفق للأعين أن تقع على الظلال، غشيت هذه الظلال على البصر وحجبت عنه رؤية الأشياء نفسها، ولكن ما إن يتخلص البصر من أسر الظلال حتى يتمكن الإنسان الذي تحرر هذا التحرر من الوصول إلى دائرة ذلك الذي يصفه «الرمز» بأنه «أليثيسترا»
36 (515د، 6) أي أكثر تكشفا أو لاتحجبا، ومع ذلك فلا بد من أن يقال عمن تحرر على هذه الصورة أنه «سيعتبر أن ما رآه من قبل (أي الظلال) أكثر تكشفا (أو لاتحجبا) مما يظهر له الآن»
37 (نفس الموضع من الجمهورية).
ما السبب في هذا؟
إن الضوء الذي تعكسه النار يعشى عيني السجين المتحرر الذي لم يتعود عليه، هذا العشى يحول بينه وبين رؤية النار نفسها كما يمنعه من أن يدرك كيف ينعكس نورها على الأشياء فيتيح لهذه الأشياء أن تظهر؛ ولهذا لا يستطيع هذا الشيء عشي الضوء بصره أن يفطن إلى أن ما كان يراه من قبل لم يكن سوى ظلال الأشياء التي انعكست على ضوء هذه النار ذاتها، صحيح أن السجين الذي تحرر سيرى أشياء أخرى غير الظلال، ولكن كل ما يراه سيختلط عليه اختلاطا شديدا، وإذا قارن بين هذا الخلط المضطرب وبين ما كان يراه من ظلال منعكسة على ضوء النار التي لم يكن يعرفها أو يبصرها، تبين له أن هذه الظلال كانت ذات معالم ثابتة محددة؛ ولهذا فلا غرابة في أن يبدو هذا الجانب الظاهر الثابت من الظلال في نظر السجين المتحرر «أكثر لاتحجبا أو تكشفا»؛ لأنه كان يراه واضحا لا اختلاط فيه، من أجل هذا نجد كلمة «أليثيس»
38
تتكرر في نهاية العرض الذي يقدمه رمز «الكهف» عن المستوى الثاني، وإن كانت تأتي في صيغة التفضيل «أليثيسترا» (الأكثر لاتحجبا)، إن الحقيقة على الأصالة تكمن (في نظر هذا السجين المتحرر) في الظلال، فهو على الرغم من تخلصه من الأغلال لا يزال يسيء تقدير مفهوم «الحق» ووضعه؛ لأنه لا يزال يفتقر إلى الأساس الذي ينبني عليه «التقدير»، ألا وهو الحرية، صحيح أن الخلاص من الأغلال يحرره بعض التحرر، ولكن هذا الخلاص لم يصل به بعد إلى الحرية الحقيقية.
ويصل السجين المتحرر من الأغلال إلى هذه الحرية الحقيقة عندما يبلغ المستوى الثالث، فهنا يكون هذا السجين الذي تحرر من أغلاله قد انطلق إلى خارج الكهف حيث «الحرية الرحيبة»، هناك يتضح كل شيء وينفتح في ضوء النهار، إن منظر الأشياء على ما هي عليه لا يظهر له الآن كما كان الحال من قبل في داخل الكهف عندما كانت مجرد انعكاس لضوء النار الصناعية التي سببت له الخلط والاضطراب، إن الأشياء نفسها تظهر له الآن بكل ما يكتنف منظرها الخاص من إلزام والتزام، والحرية التي أصبح المتحرر يجد نفسه فيها ليست مجرد فضاء رحب لا تحده الحدود، وإنما هي الإلزام الذي يفرضه نور ساطع يشع من الشمس التي يراها في نفس الوقت، والمناظر التي تبدي الأشياء على ما هي عليه، أي الأيدية
39 (أو المثل)، هي التي تكون الماهية التي يتجلى هذا الموجود المفرد أو ذاك على ضوئها، وفي هذا التجلي يمكن أن يتكشف
40
هذا الذي يظهر كما يمكن أن يصبح ميسرا (للنظر).
ويتحدد هذا المستوى (الذي يقيم فيه السجين المتحرر) مرة أخرى على أساس اللامحتجب الذي يتكون له هنا صفة المقياس الحقيقي الملزم؛ ولهذا يسارع أفلاطون في بداية عرضه للمستوى الثالث بالكلام عن ذلك «الذي يقال عنه الآن أنه لامحتجب»
41 (الجمهورية، 516أ، 3) هذا اللامحتحب (يصفه أفلاطون) بأنه «أليثيستيرون» أي الأكثر لاتحجبا (تكشفا) من الأشياء التي كانت تظهر على الضوء الصناعي في داخل الكهف، كما كانت مختلفة عن الظلال، إن اللامحتجب الذي بلغه (السجين المتحرر) في هذه المرحلة هو «الأشد لاتحجبا» (تا أليثيستاتا)،
42
صحيح أن أفلاطون لا يستخدم الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع من حديثه، ولكنه يذكر «الأشد لاتحجبا» (توأليثياتون)
43
في سياق الشرح الهام المماثل في بداية الباب السادس من الجمهورية، فنحن نراه في هذا الموضع الأخير (474ج، 5 وما بعدها) يذكر أولئك «الذين يتطلعون إلى الأشد لاتحجبا»
44 (أو أعظم الأشياء تكشفا)، وهكذا الأشد لاتحجبا يتجلى أو يظهر فيما يكون عليه الموجود، وبغير هذا التجلي أو الظهور لمائية
45 (المثل) لأمكن أن يبقى هذا (الموجود) وذاك وكل شيء على الإطلاق متحجبا مخفيا، ويوصف «الأشد لاتحجبا» بهذا الوصف لأنه يظهر بصورة مسبقة في كل ما هو ظاهر، كما ييسر هذا الظاهر (أو يجعله في متناول النظر).
ولكن إذا كان تحول البصر - في داخل الكهف نفسه - من الظلال إلى النار والأشياء التي تظهر على ضوئها؛ أمرا عسيرا بل محكوما عليه بالإخفاق، فلا بد أن يتطلب التحرر في «المكان» الحر الرحيب خارج الكهف غاية الصبر والجهد، إن التحرر لا يأتي نتيجة الخلاص من الأغلال ولا هو مجرد انفلات من القيود، وإنما يبدأ بالتعود المتصل على تثبيت النظر على المعالم المحددة
46
للأشياء ذات المنظر المحدد الثابت، التحرر الحقيقي هو مداومة التحول نحو ما يظهر في منظره ويكون لدى ظهوره هو الأشد لاتحجبا (تكشفا)، ولا وجود للحرية إلا في مثل هذا التحول، ولكن هذا التحول لن تحققه إلا ماهية «البايدايا» من حيث هي تحول، ومن ثم فإن اكتمال ماهية «التكوين» لا يمكن أن يتم إلا في مجال «الأكثر لاتحجبا» وعلى أساسه، أي في مجال «الأليثيستاتون»، أي الأكثر حقيقة، أي الحقيقة الخالصة، إن ماهية «التكوين» تقوم على أساس ماهية «الحقيقة»، ولما كانت ماهية «البايدايا» تكمن في التمهيد «لتحويل اتجاه الإنسان بكليته وفي ماهيته»،
47
فإنها تظل بهذا الاعتبار
48
تجاوزا مستمرا للأبايدويزيا،
49
إن البايدايا تحمل في ذاتها العلاقة الأساسية التي ترجع بها
50
إلى نقص التكوين، وإذا كان على رمز الكهف، كما يفسره أفلاطون نفسه، أن يصور ماهية «البايدايا» (في صورة حية ملموسة) فلا بد أن يتجه هذا التصوير أيضا إلى توضيح هذه النقطة الجوهرية وهي التجاوز المستمر لنقص التكوين؛ ولهذا لا تنتهي القصة التي يحكيها «الرمز» بالنهاية التي يحلو للبعض أن يتخيلوها، أي بوصف أعلى مستوى يصل إليه السجين المتحرر وهو الخروج من الكهف، إن العكس من هذا هو الصحيح، فهبوط السجين المتحرر إلى الكهف ورجوعه إلى زملائه الذين لا يزالون مقيدين بالأغلال؛ جزء متمم للحكاية التي يرويها «الرمز»، إن السجين المتحرر يرى الآن من واجبه أيضا أن يحول (عيون) هؤلاء عما يبدو لهم لامحتجبا لكي يرتفع بهم إلى الأكثر لاتحجبا، غير أن السجين المتحرر لا يستقيم له الأمر في داخل الكهف، إنه يتعرض لخطر الوقوع تحت سيطرة الحقيقة السائدة هناك، أي لخطر الوقوع في قبضة «الواقع» الشائع المألوف الذي يعد (في نظرهم) هو الواقع الوحيد، بل إن السجين ليشعر بأنه مهدد باحتمال قتله، وهو احتمال تحول إلى واقع، كما نعرف من قدر سقراط الذي «علم» أفلاطون.
إن الهبوط إلى الكهف، والصراع الذي يدور في داخله بين المحرر وبين السجناء الذين يقاومون كل تحرر، يكونان المستوى الرابع الذي يكتمل به «الرمز»، صحيح أن كلمة «أليثيس» لا ترد في هذا الجزء من الحكاية، ولكنها لن تستغني في هذا المستوى (الأخير) عن التعرض للامحتجب الذي يحدد مجال الكهف الذي يعود السجين المتحرر لزيارته، ولكن ألم تسبق تسمية «اللامحتجب» الذي كان يسود الكهف
51
في المستوى الأول؟ ألم يكن اسمه عندئذ هو «الظلال »؟ لا شك في هذا، غير أن دور اللامحتجب لا يقتصر على جعل الظاهر بأي شكل من الأشكال ميسرا
52
ومفتوحا في ظهوره، وإنما يقوم اللامحتجب دائما بتجاوز تحجب المتحجب، إن من الضروري أن ينتزع اللامحتجب (من ثنايا) التحجب، أن يسلب بمعنى من المعاني من هذا التحجب.
ولما كان الأصل في اللاتحجب عند اليونان أنه يتغلغل
53
في ماهية الوجود وبذلك يحدد الموجود من جهة حضوره
54
وييسره
55 (حقيقته)، فإن الكلمة التي يستخدمها اليونان للدلالة على ما كان الرومان يسمونه «الصدق»
56
ونسميه نحن «الحقيقة» تتميز بأنها تبدأ بالحرف
a
الذي يدل على السلب «أليثيا»،
57
إن الأصل في الحقيقة أنها تدل على ما ينتزع من التحجب والخفاء ، والحقيقة من حيث هي هذا الانتزاع تكون في كل مرة على هيئة كشف أو انكشاف،
58
وقد يكون التحجب على أنحاء مختلفة: فهو غلق، أو حفظ، أو ستر، أو تغطية، أو تقنع، أو تنكر، ولما كان من المحتم، في «رمز» أفلاطون، أن ينتزع أعلى أنواع اللاتحجب انتزاعا من (ثنايا) حجب (أو خفاء) دنيء وعنيد، فمن الطبيعي أيضا أن يكون تخليص (السجين) من الكهف ووضعه في (مجال) الحرية التي يغمرها ضوء النهار صراع حياة أو موت، والمستوى الرابع من مستويات «الرمز» يشير إشارة لماحة إلى أن «السلب»، أو الكفاح في سبيل انتزاع اللامحتجب، مرتبط بماهية الحقيقة، ولهذا نجد أن هذا المستوى يتناول كذلك (مسألة) «الأليثيا»، شأنه في هذا شأن المستويات الثلاثة المتقدمة عليه.
مهما يكن الأمر فإن هذا «الرمز» لم يكن ليقوم على صورة الكهف إلا لأن التجربة الأساسية التي كانت بديهية عند اليونان، ألا وهي تجربة «الأليثيا» أو لاتحجب الموجود، قد عملت من قبل على تحديد طبيعته، إذ ماذا عسى أن يكون الكهف العميق في باطن الأرض إن لم يكن شيئا مفتوحا وتحوطه الجدران من كل جانب فتعزله عن الأرض على الرغم من فتحة المدخل الذي يؤدي إليه؟ إن انغلاق
59
الكهف - المفتوح في ذاته - وما يتسبب في تغيير وضعه ومن ثم في حجبه، إنما تشير كلها في نفس الوقت إلى ما يقع خارجه، أي اللامحتجب الذي ينفسح في ضوء النهار، وإن ماهية الحقيقة التي فكر فيها اليونان في الأصل بمعنى «الأليثيا»، أي اللاتحجب المرتبط بالمتحجب (المنكر والمقنع)، «هذه الحقيقة» وحدها ترتبط ارتباطا أساسيا بصورة الكهف القائم تحت الأرض بعيدا عن ضوء النهار، ولو كان للحقيقة ماهية أخرى غير اللاتحجب أو لو تحددت على أقل تقدير بشيء آخر غيره لما كان «لرمز الكهف» أية قيمة تصويرية أو تعبيرية.
ومع أن «الأليثيا» قد تكون موضوع تجربة أصيلة في «رمز الكهف» وقد تذكر وتؤكد في مواضع بارزة (من النص)، فإن ثمة ماهية أخرى للحقيقة تحتل مكان الصدارة بدلا من اللاتحجب، وهذا في الواقع إنما يدل ضمنا على أن اللاتحجب أيضا لا يزال يحتفظ بمكانه.
إن تصوير الرمز والتفسير الخاص الذي يقدمه أفلاطون له يكادان يسلمان بأن الكهف السفلي وما يقع خارجه هما المجال الذي تتم الأحداث المروية في إطاره، ولعل أهم هذه الأحداث هي مراحل الانتقال التي يحكيها «الرمز» والصعود من دائرة النار الصناعية إلى إشراق الشمس الساطعة، ثم الهبوط مرة أخرى من منبع النور كله إلى ظلام الكهف، ولا تأتي قوة التعبير والتصوير في «رمز الكهف» من صورة الانغلاق التي يوحي بها القبو السفلي والبقاء في أسر الانغلاق، ولا من رؤية (الأفق) المفتوح خارج الكهف، فالواقع أن مكمن القوة في تفسير أفلاطون وتصويره «للرمز» يتركز في الدور الذي تقوم به النار، والضوء المنعكس منها، والظلال، ونور النهار الساطع، وضوء الشمس والشمس ذاتها، إن كل شيء فيه يعتمد على ظهور الظاهر والتمكين من رؤيته،
60
حقا أن اللاتحجب يرد ذكره «أثناء الكلام عن» المستويات المختلفة، ولكن التفكير فيه ينصب على طريقته في تيسير تجلي الظاهر في منظره (أيدوس)
61
والتمكين لهذا الظاهر المتجلي بنفسه (الأيدايا)
62
من أن يصبح قابلا للرؤية، بل إن التأمل الحقيقي ينصب على ظهور المنظر الذي يكفله الضوء الساطع، هذا المنظر هو الذي يسمح بالتطلع إلى كينونة كل موجود،
63
فالتأمل الحقيقي إذن ينصب على «الأيدايا»، وهذا (أي الأيدايا أو المثال) هو المنظر الذي يتيح التطلع إلى الموجود (الكائن الحاضر)، «الأيدايا» هو الظهور الخالص بالمعنى الذي نقصده عندما نقول «إن الشمس تظهر»، إن «المثال»
64
لا يسمح «بظهور» شيء آخر (وراءه)، إن هو ذاته الظاهر الذي لا يعنيه إلا إظهار نفسه، «الأيدايا» هو الظاهر (المتبدي)، وماهية المثال تكمن في قابليته لأن يظهر ويرى، هذه (القابلية للظهور والرؤية) هي التي تحقق الحضور (الكينونة) أي حضور ما يكون عليه الموجود، في «ما-ئية»
65
الموجود يحضر
66
هذا في كل حالة معينة؛ ولهذا فإن الماهية الحقيقية للوجود تكمن في نظر أفلاطون في «الما-ئية»، وحتى التسمية المتأخرة تشي بان «الما-ئية» (في اللغة اللاتينية)
67
هي الكينونة
68
الحقة، أي هي الماهية
69
وليست هي الموجود،
70
وما يقدمه المثال (بهذه الطريقة) للرؤية ويجعله متاحا لها هو بالنسبة للنظر المتجه إليه لا تحجب (تكشف) الكينونة (أو المائية) التي يظهر بها، بهذا يفهم اللامتحجب فهما أوليا مسبقا ووحيدا باعتباره ذلك المدرك أثناء إدراك «الأيدايا»،
71
والمعروف
72
من خلال المعرفة،
73
إن التعقل (نوآين)
74
والعقل (نوس)
75
أو (الإدراك) يكتسبان في هذه الصياغة الأفلاطونية علاقتهما الأساسية «بالمثال»، والتهيؤ لهذا التوجه إلى المثل هو الذي يحدد ماهية الإدراك وبالتالي ماهية «العقل».
إن «اللاتحجب» يقصد به (ذلك) اللامتحجب الذي ييسر باستمرار طريق ظهور المثال، ولما كان هذا التيسير يتحقق بالضرورة من خلال «رؤية» أو «نظر»، فلا بد أن يدخل اللاتحجب في «علاقة» مع الرؤية، وأن يكون «متضايفا» معها؛ ولهذا نجد أفلاطون يطرح هذا السؤال في ختام الباب السادس من الجمهورية: ما الذي يجمع بين المرئي والرؤية في علاقتهما بعضهما ببعض؟ ما طبيعة العلاقة المتشابكة بينهما؟ أي نير
76 (زيجون، الجموهرية 508أ، 1) يربطهما؟
إن الإجابة التي يوضحها «رمز الكهف» تتم على هذه الصورة: إن الشمس، وهي منبع النور، تجعل المرئي قابلا للرؤية، ولكن البصر لا يرى المرئي إلا بقدر ما تكون العين مشمسة (هيلو أيديس)،
77
أي بقدر ما تكون لديه القدرة على الانتماء لماهية الشمس، أي لظهورها، والعين ذاتها «تستنير» وتهب نفسها لظهور (الشمس)، وبهذا يمكنها أن تستقبل ما يظهر وأن تدركه ، هذه الصورة تدل من الناحية الموضوعية على فكرة متسقة يعبر عنها أفلاطون على هذا النحو: «وإذن فهذا الذي يتيح للمعروف أن يتكشف (لا يتحجب)، كما يهب العارف القدرة (على المعرفة)، هو ما يمكنك أن تقول عنه إن مثال الخير.»
78 (الجمهورية، الباب السادس، 508ه، 1 وما بعدها).
يصف «الرمز» الشمس بأنها صورة لمثال الخير، ما هي ماهية هذا المثال؟ باعتبار الخير مثالا (أيدايا)
79
فهو الظاهر، وهو - بهذا الاعتبار أيضا - واهب الرؤية، وهو المرئي ومن ثم القابل للمعرفة: «إن مثال الخير، في مجال المعرفة، هو الذي يحقق كل ظهور، ولهذا أيضا فهو في نهاية الأمر الرؤية المرئية، ولذلك فمن شأنه أنه لا يكاد يرى (إلا بالجهد الجهيد).» (الجمهورية، 517ب، 7)، وتترجم كلمة «تو أجاثون»
80
بتعبير يبدو مفهوما في ظاهره وهو «الخير»، وأغلب من يستخدمون هذا التعبير يخطر على بالهم معنى «الخير الأخلاقي» الذي يوصف بهذه الصفة؛ لأنه يتفق مع القانون الأخلاقي، ولكن هذا المعنى يحيد عن الفكر اليوناني، وإن كان تفسير أفلاطون نفسه «للأجاثون»
81
بأنه مثال هو الذي أوحى بالتفكير في «الخير» تفكيرا أخلاقيا كما جعل المتأخرين يسيئون تقديره فيجعلونه «قيمة»، إن فكرة القيمة التي نشأت في القرن التاسع عشر وترتبت على المفهوم الحديث «للحقيقة» هي آخر خلف «للأجاثون» وأضعفه، وبقدر ما تتغلغل «القيمة» والتفسير من خلال «القيم» في ميتافيزيقا نيتشه على هذه الصورة المطلقة التي عبر عنها بعبارته المعروفة «قلب جميع القيم»، بقدر ما يمكننا أن نعد نيتشه نفسه - الذي غابت عنه كل معرفة بالأصل الميتافيزيقي «للقيمة» - أشد الأفلاطونيين تطرفا عبر تاريخ الميتافيزيقا الغربية، والسبب في هذا أن نيتشه قد اعتبر أن القيمة هي الشرط الذي وضعته «الحياة نفسها» لإمكان «الحياة»، وبهذا فهم ماهية «الأجاثون» فهما بعيدا عن كل تحيز أو حكم مسبق وقع فيه أولئك الذين يلهثون وراء المسخ الذي يسمونه «القيم الصادقة في ذاتها».
ولو شئنا أن نفكر في ماهية «المثال» من وجهة النظر الحديثة واعتبرناه «إدراكا»
82 (أي تصورا ذاتيا) لوجدنا في «مثال الخير أو فكرته» ... «قيمة» معينة في ذاتها، لها بالإضافة إلى ذلك «فكرة» أو «مثال»، وهذا المثال يستلزم بطبيعة الحال أن يكون أعلى المثل؛ لأن كل شيء (في الحياة) يتوقف على اتباع الخير (للصالح العام أو لتوطيد دعائم النظام)، وطبيعي أن يضيع كل أثر للماهية الأصلية «لمثال الخير»
83
الأفلاطوني في إطار هذا التفكير الحديث.
يدل «التو أجاثون»
84 (الخير) في المفهوم اليوناني على ما يصلح لشيء أو يمنح غيره الصلاحية، وكل «أيدايا»
85 (مثال)، أو منظر شيء ما، هو الذي يسمح برؤية ما يكون عليه (أو كينونة) موجود ما، وعلى هذا فإن «المثل» هي التي تجعل الشيء صالحا لأن يظهر على ما هو عليه
86
وبهذا يمكن أن يكون له كيان.
87
إن المثل هي موجودية كل موجود؛ ومن ثم فإن ذلك الذي يجعل كل مثال صالحا لأن يكون مثال المثل على حد تعبير أفلاطون، هو الذي يمكن لظهور كل ما هو كائن في كل ما يتبدى منه للنظر.
فماهية المثال تكمن في أنه هو علة إمكان الظهور والصلاحية له، وهذا الظهور هو الذي يكفل رؤية «الموجود» في منظره (الذي يبدو عليه)، ومن أجل هذا كان مثال المثل هو واهب الصلاحية على الإطلاق، أي «تو أجاثون»، وهذا الأخير هو الذي يتيح الظهور لكل ما يظهر؛ ولهذا كان هو نفسه الظاهر بحق، أي أشد «الموجودات» ظهورا، ولهذا أيضا فإن أفلاطون يسمي «الأجاثون»: أشد الموجودات ظهورا،
88 (الجمهورية، 518ج، 9).
إن تعبير «مثال الخير» الذي يعد تعبيرا مضللا للرأي الحديث
89
أشد التضليل، هو الاسم الذي يطلقه أفلاطون على ذلك المثال المتميز، الذي يظل - باعتباره مثال المثل - هو واهب الصلاحية لكل شيء، هذا المثال، الذي يمكنه وحده أن يسمى «الخير»، يبقى «المثال الكامل أو الأعلى» (أيدايا تيلويتايا)
90
لأن ماهية المثال تتحقق فيه، أي تبدأ كينونتها، بحيث يصدر عنه إمكان جميع المثل الأخرى، ويجوز أن يوصف الخير بأنه «أعلى المثل» من جهتين: فهو من جهة أعلى المثل من حيث رتبته في التمكين،
91
كما أن التطلع إليه يعد من جهة أخرى (أشد أنواع التطلع) وعورة ومن ثم أحوجها للجهد والعناء، وعلى الرغم من عناء الإدراك
92
الحقيقي ومشقته، فإن المثال الذي يتحتم بحسب ماهية المثال ووفق المفهوم اليوناني له أن يسمى «الخير»، يظل بمعنى من المعاني وبصورة دائمة في مرمى النظر، وذلك حيثما تجلى أي موجود على الإطلاق أو ظهر، وحتى عندما ترى الظلال التي لا تزال ماهيتها خافية محجوبة،
93
فلا بد أن تكون هناك ثمة نار يشتعل ضوءها، ولو لم يدرك هذا الضوء الإدراك الحق ولم يعرف أنه منحة من النار ولا عرف أيضا أن هذه النار لا تخرج عن كونها وليدة (أنكونون)
94
الشمس (الجمهورية، الباب السادس، 507أ، 3) إن الشمس تظل غير مرئية في داخل الكهف، ومع ذلك فإن الظلال نفسها تعيش على ضوئها، أما النار المشتعلة في داخل الكهف، التي تمكن من إدراك الظلال إدراكا لا يعي ماهيته الذاتية، فهي صورة تعبر عن الأساس المجهول لتجربة الموجود التي تعني الموجود حقا وإن كانت لا تعرفه من حيث هو كذلك، ولكن الشمس بما ترسله من ضوء لا يقتصر دورها على ما تمنحه من نور ساطع وما تجود به على كل (الموجودات) الظاهرة من ظهور (للنظر) و«لاتحجب» أو تكشف، إن ظهورها
95
يشع الدفء في نفس الوقت ويساعد، عن طريق توهجها، كل «ما ينشأ ويكون» على أن يبلغ كيانه المرئي (الجمهورية، 509ب)، فإذا تمت رؤية الشمس نفسها رؤية حقيقية
96 - ونقول هذا ونعنيه حرفيا دون حاجة إلى صورة أو مجاز - وإذا أمكن رؤية المثال الأعلى، عندئذ يمكن «أن نستنتج بشكل عام وموحد (من المثال الأعلى) أنه بالنسبة للناس جميعا هو علة كل صواب (في سلوكهم) كما هو علة كل جمال»، أي أنه هو علة ما يتبدى للسلوك على نحو يمكنه
97
من إظهار منظره، إن المثال الأعلى هو مصدر كل «الموضوعات» ومصدر موضوعيتها، أي هو علتها، و«الخير» هو الذي يضمن ظهور المنظر، وهو الذي يجعل للكائن (الحاضر) كيانه الذي هو عليه،
98
وعن طريق هذا الضمان يتم حفظ الموجود في الوجود و«إنقاذه».
ومن ماهية المثال الأعلى ينتج - فيما يتصل بكل نظر ينطوي على الحرص على الذات - «أن الذي يعنى بأن يكون مسلكه عن حرص وبصيرة سواء كان ذلك في أموره الخاصة أو في الأمور العامة، لا بد أن يكون هذا المثال (أي المثال الذي يسمى بالخير لأنه يجعل ماهية المثال ممكنة) نصب عينيه وأمام بصره.»
99 (الجمهورية، 517ج، 3 / 4) من شاء أن يعمل أو يريد في عالم يحدده «المثال» فلا غنى له قبل كل شيء عن النظر إلى المثال، وفي هذا تكمن أيضا ماهية «البايدايا» التي تقوم على تحرير الإنسان وشد أزره لكي يكون قادرا على النظر الواضح الثابت إلى الماهية، ولما كان الهدف من «رمز الكهف» حسب تفسير أفلاطون له هو تصوير ماهية «البايدايا» في صورة حية، فلا بد أيضا أن يحكي (لنا) عن الصعود والارتفاع للنظر إلى المثال الأعلى.
هل معنى هذا أن «رمز الكهف» لا يهتم أساسا «بالأليثيا»؟ بالطبع لا، ومع ذلك فمن الثابت أن هذا «الرمز» ينطوي على «نظرية» أفلاطون عن الحقيقة، ذلك أنه يقوم على الحدث الضمني الذي يبين سيطرة «الأيدايا» على «الأليثيا»،
100
إن الرمز يقدم لنا صورة عما يقوله أفلاطون عن «مثال الخير»: إنه هو نفسه سيد،
101
لأنه يضمن اللاتحجب (لما يظهر نفسه) كما يضمن إدراك (المتحجب) (الجمهورية 517خ، 4)، إن «الأليثيا» تقع في نير «الأيدايا»، وإن أفلاطون عندما يقول عن «الأيدايا» إنه هو السيد الذي يسمح باللاتحجب، فإنما يشير بذلك إلى شيء لم يقله، وهو أن ماهية الحقيقة لم تعد تنفتح (أو تتجلى) كماهية للاتحجب عن فيض ماهيتها، بل تزحزحت (عن مكانها الأصلي) إلى ماهية «الأيدايا»، إن ماهية الحقيقة قد تخلت عن خاصية اللاتحجب الأساسية.
إذا كان المهم في كل مسلك (متعلق) بالموجود هو النظر
102
إلى «المنظر»،
103
فلا بد أن يتركز كل جهد على التمكين من مثل هذا النظر، وهذا يستلزم النظر الصحيح،
104
وعندما ينصرف المتحرر - الذي لا يزال داخل الكهف - عن الظلال ليتجه إلى الأشياء، فإننا نجده يلتفت ببصره إلى ما هو «أكثر وجودا» من الظلال: «فإن اتجه إلى ما هو أكثر وجودا، أتيح له أن ينظر نظرة أسلم»
105 (515د. 3 / 4)، إن الانتقال من وضع إلى آخر يقوم على النظر نظرة أسلم، كل شيء يتوقف على سلامة النظرة (أو صوابها وصحتها)، وبفضل هذه النظرة الصحيحة تصح الرؤية والمعرفة، بحيث يتجهان مباشرة إلى المثال الأعلى، ويثبتان على هذا الاتجاه بحيث يتوافق الإدراك مع ما يتعين رؤيته، وهذا هو «منظر» الموجود، وينشأ عن هذا التوافق بين الإدراك - بوصفه نظرا
106 - وبين المثال تطابق
107
بين المعرفة والموضوع، وهكذا ينشأ عن تقدم «المثال»
108
و«النظر»
109
في الرتبة على «الأليثايا» تحول في ماهية الحقيقة، وتصبح الحقيقة هي صواب (أورثوتيس)
110
الإدراك والتعبير.
في هذا التحول الذي يطرأ على ماهية الحقيقة يتم في نفس الوقت تحول في مكان الحقيقة، صحيح أنها باعتبارها لاتحجبا، لا تزال تمثل خاصية أساسية من خصائص الموجود نفسه، ولكنها - باعتبارها صواب النظرة - ستصبح ميزة يختص بها المسلك الإنساني من الموجود.
بيد أن أفلاطون مضطر على نحو من الأنحاء إلى إثبات الحقيقة باعتبارها خاصية (من خصائص) الموجود؛ لأن الموجود من جهة وجوده (أو حضوره وكينونته) يكون له وجود في أثناء ظهوره، وهذا الموجود يأتي معه باللاتحجب، ولكن السؤال عن المتحجب ينتقل في نفس الوقت إلى سؤال عن ظهور المنظر، وبالتالي إلى النظر (أو الرؤية) المتصلة بهذا المنظر وصحة هذه الرؤية وصوابها، ومن أجل هذا نجد في نظرية أفلاطون ازدواجية ضرورية، وهذه الازدواجية نفسها هي التي تؤيد ما لم نقله من قبل وما ينبغي أن نقوله الآن عن التحول في ماهية الحقيقة، وتتضح الازدواجية بكل حدتها إذا عرفنا أن أفلاطون يتناول «الأليثيا» ويتحدث عنها في الوقت الذي يقصد فيه الأورثوتيس (الصحة والصواب) ويضعها موضع المقياس الملزم، وكل هذا يتم في نفس السياق الفكري.
ويمكن أن نستخلص هذه الازدواجية في تحديد أفلاطون لماهية الحقيقة من عبارة واحدة ترد في الفقرة التي تتضمن تفسيره الخاص لرمز الكهف (517ب، 7 إلى ج، 5)، والفكرة الأساسية في هذه العبارة هي أن المثال الأعلى هو الذي يحكم النير الذي يشد المعرفة إلى الموضوع الذي تعرفه، ولكن هذه العلاقة (بين المعرفة والمعروف) تفهم من جهتين، ففي البداية يقول أفلاطون هذه العبارة الهامة: «إن مثال الخير هو علة كل صحيح وكل جميل»
111 (أي علة إمكان الماهية)، ثم يقول بعد ذلك إن مثال الخير هو «السيد الذي يكفل (تحقيق) اللاتحجب كما يكفل الإدراك»،
112
وهاتان العبارتان لا تسيران في خطين متوازيين، بحيث تطابق «الأليثيا» (اللاتحجب) «الأورثا» (الصحيح والصائب) ويطابق النوس (العقل أو الفهم) «الكالا»
113 (الجميل)، وإنما يتم هذا التطابق بطريقة التقاطع؛ فالصحيح أو الصائب (أورثا) وصحته أو صوابه يطابقه الإدراك الصحيح، والجميل يطابقه اللامحتجب، ذلك أن ماهية الجميل تكمن في أنه هو الظاهر أو المتجلي بذاته ومن ذاته أشد ظهور وأنقاه،
114
وأنه هو الذي يظهر المنظر وبذلك يكون لامتحجبا، وكلا العبارتين تتحدثان عن صدارة مثال الخير أو تقدمه في الرتبة باعتبار أنه هو الذي يجعل صحة المعرفة ولا تحجب المعروف أمرا ممكنا، فالحقيقة هنا لا تحجب وصحة (أو صواب) في آن واحد، وإن كان هذا (لا يمنع) أن اللاتحجب لا يزال خاضعا لنير «الأيدايا» (المثال).
ونفس هذه الازدواجية في تحديد ماهية الحقيقة نجدها سائدة عند أرسطو؛ ففي الفصل الختامي من الكتاب السابع من الميتافيزيقا (كتاب الثيتا، 10، 1051أ، 34 وما بعدها) الذي يصل فيه تفكير أرسطو عن وجود الموجود إلى ذروته، نجد أن اللاتحجب هو الطابع الأساسي الغالب على الموجود، ومع ذلك فإن أرسطو يقول: «ليس الكذب «الباطل» والصدق «الحق» في الأشياء «الموضوعات» نفسها وإنما هو في الفهم»،
115 (الميتافيزيقا، باب الإيتا، 1027ب، 25 وما بعدها).
إن حكم الفهم هو موطن الحقيقة والبطلان
116
والفارق بينهما، وتكون العبارة حقيقية (صادقة) بقدر ما تتطابق مع الموضوع، أي بقدر ما تكون تطابقا (هومويوزيس)،
117
هذا التحديد لماهية الحقيقة لم يعد يتضمن أية إهابة «بالأليثيا» مفهومة بمعنى اللاتحجب، وإنما أصبحت «الأليثيا» بوصفها الضد المقابل «للبسويدوس» - أي للكذب أو عدم الصحة - على العكس من ذلك تفهم بمعنى الصحة أو الصواب، ومنذ ذلك الحين أصبحت صياغة مفهوم الحقيقة بوصفها صحة التصور المعبر عنه بالقول هي الصياغة الملزمة للفكر الغربي كله، ويكفي أن نستشهد على هذا بالقضايا الأساسية التي تمثل الصيغة المعبرة عن ماهية الحقيقة في العصور الرئيسية التي تعاقبت على الميتافيزيقا.
ففي العصر المدرسي الوسيط نجد عبارة توماس الأكويني: «توجد الحقيقة بمعناها الصحيح في العقل (الفهم) البشري أو العقل الإلهي»
118 (مسائل الحقيقة، السؤال الأول، المادة الرابعة، الإجابة). إن مكانها الأساسي في العقل، ولم تعد الحقيقة هنا هي «الأليثيا» (اللاتحجب) وإنما أصبحت هي «الهومويوزيس» (التطابق أو التوافق)،
119
وفي بداية العصر الحديث نجد ديكارت يقول في عبارة تفوق العبارة السابقة حدة: «إن الحقيقة (الصدق) أو البطلان (الكذب) بمعناها الصحيح لا يمكن أن توجد إلا في العقل (الفهم) وحده»
120 (قواعد لهداية الذهن، القاعدة الثامنة، الاعتراض العاشر، 396). ومع بداية اكتمال العصر الحديث نجد نيتشه يقول في عبارة تفوق العبارة الأخيرة أيضا في حدتها: «إن الحقيقة هي ذلك النوع من الخطأ الذي لا يستطيع نوع معين من الكائنات الحية أن يعيش بدونه.» إن قيمة الحياة هي الشيء الحاسم في نهاية الأمر (من خاطرة دونها نيتشه في سنة 1885م، إرادة القوة، الحكمة 493).
إذا كانت الحقيقة في نظر نيتشه نوعا من الخطأ، فإن ماهيتها تكمن في طريقة التفكير التي قضى عليها بأن تزيف الواقع كلما اتجه التصور (العقلي) إلى تثبيت «الصيرورة» الدائمة،
121
وبذلك تدعي أن هذا الذي تثبته هو الواقع، مع أنه لا يتطابق مع الصيرورة السيالة (المتدفقة)، أي أنه بالنسبة إليها مخالف للصواب بل خطأ بين، وتحديد نيتشه للحقيقة بأنها عدم صواب الفكر ينطوي على الرضا بالتحديد التقليدي لماهية الحقيقة بأنها صواب (صحة) القول (لوجوس)،
122
ومفهوم نيتشه عن الحقيقة يعكس النتيجة النهائية التي تمخض عنها ذلك التحول الذي تم في ماهية الحقيقة فجعلها تنتقل من لاتحجب الموجود إلى صواب النظر، وقد تحقق التحول نفسه في تحديد الموجود (أي كينونة الكائن أو حضور الحاضر كما يفهمه الفكر اليوناني)
123
بأنه أيدايا (مثال).
والنتيجة التي نستخلصها من هذا التفسير للموجود هي أن الكينونة (الحضور) لم تعد - كما كانت في بداية الفكر الغربي - هي استشراف
124
المتحجب للاتحجب، مع العلم بأن هذا اللاتحجب نفسه، باعتباره تكشفا أو انكشافا، يعبر عن الخاصية الأساسية للكينونة، إن أفلاطون يفهم الكينونة (حضور الماهية أو الأوزيا)
125
بوصفها مثالا (أيدايا)، ولكن هذا المثال لا يخضع للاتحجب ولا يمكن أن نقول عنه: إنه يظهر اللامتحجب أداء لخدمة له،
126
وإنما الأولى أن يقال إنه يحدد الظهور (التجلي) الذي قد يجوز - في إطار ماهيته نفسها وبالرجوع إلى ذاته وحدها - أن يسمى لاتحجبا، إن «الأيدايا» (المثل) لم تعد هي المجال
127
الذي تعبر فيه «الأليثيا» عن نفسها، وإنما أصبح الأساس الذي يجعلها ممكنة، ولكن حتى (هذا التفسير) يجعل «الأيدايا» تصر على شيء من الماهية الأصلية - التي لا تزال غير معروفة - «للأليثيا».
لم تعد الحقيقة إذن - بوصفها لاتحجبا - هي الطابع الأساسي للوجود، وإنما أصبحت - نتيجة لخضوعها لنير المثال - صحة وصوابا، كما أصبحت بعد ذلك خاصية مميزة (لطريقة) معرفة الموجود، ومنذ ذلك الحين بدأ النزوع إلى «الحقيقة» بمعنى صحة النظر وصواب (حكمه)، منذ ذلك الحين أصبح اكتساب النظرة الصائبة إلى المثل هو الأمر الحاسم في كل المواقف الأساسية من الموجود، ومن أجل هذا ارتبط التفكير في «البايدايا» بالتحول الذي تم في ماهية «الأليثيا» كما ارتبطا بنفس الحكاية التي يصورها رمز الكهف عن الانتقال من مستوى (للإقامة) إلى مستوى آخر.
والفارق بين مستويي الإقامة
128
في داخل الكهف وخارجه هو (في الواقع) فارق في «الصوفيا»،
129
وتدل هذه الكلمة بوجه عام على الإحاطة به ومعرفته وتفهمه، ولكن معناها الأصيل هو الإحاطة بما (يكون في حالة) اللاتحجب، وبهذه الكينونة يتم له كيان ثابت، وهذه الإحاطة أو المعرفة تختلف عن مجرد تحصيل المعارف والمعلومات، إنها تدل على الاستقرار في مقام
130
يستند بادئ ذي بدء إلى كيان ثابت.
إن المعرفة أو الإحاطة التي يعتد
131
بها هناك في الكهف السفلي (أو إيكاي صوفيا، الجمهورية، 516ج، 5)
132
تتفوق عليها «صوفيا» أو معرفة أخرى، وهذه «الصوفيا» أو المعرفة الأخيرة تتجه قبل كل شيء لرؤية وجود الموجود في «المثل»، وهي إلى جانب هذا تتميز - بالقياس إلى تلك «الصوفيا» المأخوذ بها في داخل الكهف - بذلك الدافع الذي يدفعها لتجاوز الكائن (الحاضر) القريب والتماس المقام في الكيان الثابت الذي يظهر نفسه بنفسه، إن هذه «الصوفيا» في ذاتها محبة وصداقة (فيليا)
133 «المثل» التي تتضمن اللاتحجب، هذه الصوفيا التي يؤخذ بها خارج الكهف هي الفلسفة،
134
والفلسفة كلمة عرفتها لغة اليونان قبل عهد أفلاطون واستخدمتها بوجه عام للدلالة على المحبة (أو الميل) لمعرفة صحيحة، وقد كان أفلاطون هو أول من أطلق الكلمة على معرفة معينة بالموجود تحدد
135
في نفس الوقت وجود الموجود بأنه مثال، ومنذ أفلاطون أصبح التفكير في الوجود «فلسفة»؛ لأنه تطلع إلى «المثل» (أو نظر يحاول استشرافها)، ولكن «الفلسفة» التي بدأت مع أفلاطون قد احتفظت من بعده بطابع ذلك الذي سمي في وقت متأخر «ميتافيزيقا»، وأفلاطون نفسه يقدم لنا الصورة الأساسية للميتافيزيقا في الحكاية التي يحكيها رمز الكهف، بل إن كلمة «الميتافيزيقا» نفسها قد سبق أفلاطون إلى صياغتها صياغة أولية في رمز الكهف.
فعندما يصور لنا (الجمهورية، 516) تعود النظر على المثل نجده يقول (516ج، 3): إن الفكر يتجاوز
136
ذلك الذي لا يعرف إلا معرفة الظل والانعكاس (ويعلو فوقه) «إلى»
137
هذه، أي إلى «المثل»، إنها
138
هي فوق المحسوس الذي يرى من خلال الرؤية غير الحسية، وهي وجود الموجود الذي لا يمكن أن يفهم بأدوات الجسد، وأسمى ما في مجال «فوق المحسوس» هو ذلك «المثال» الذي يوصف بأنه «مثال المثل» ويظل لهذا السبب هو علة ظهور كل وجود وثبات كيانه، ولما كان هذا «المثال» هو علة كل (شيء)، فإنه لهذا السبب هو «المثال» الذي يسمى «بالخير»، هذه العلة التي تعتبر أسمى العلل وأولها يسميها أفلاطون كما يسميها أرسطو «الإلهية» (توثيون)
139
ومنذ أن فسر الوجود بأنه «إيدايا» (مثال) أصبح التفكير في وجود الموجود تفكيرا ميتافيزيقا، كما أصبحت الميتافيزيقا لاهوتية،
140
إن اللاهوت معناه هنا تفسير «علة» الموجود بأنه هو «الإله»، ونقل الوجود إلى هذه العلة التي تحوي في ذاتها الوجود كما تسمح له بالصدور عن ذاتها؛ لأنها هي أعلى الموجودات رتبة في الوجود.
ونفس هذا التفسير للوجود بأنه (إيدايا) - وهو تفسير يرجع الفضل في أهميته وصدارته إلى التحول الذي تم في ماهية «الأليثيا» - يستلزم نظرة متميزة
141
إلى المثل، وهذا التميز يتناظر مع الدور الذي تقوم به «البايدايا» أو «صياغة» الإنسان؛ ومن ثم غلب على الميتافيزيقا الاهتمام بوجود الإنسان ووضعه بين الموجودات.
وبداية الميتافيزيقا في تفكير أفلاطون تمثل في الوقت نفسه بداية «النزعة الإنسانية»، ونحن نستخدم الكلمة الأخيرة في هذا السياق بمعناها الجوهري، أي بأوسع معانيها، وتدل «النزعة الإنسانية» بهذا المعنى على ذلك الحدث الذي ارتبط ببداية الميتافيزيقا وتطورها
142
ونهايتها، وهو حلول الإنسان - من وجهات نظر متفاوتة ولكن عن علم وقصد - في وسط الموجودات (ومركزها)، دون أن يستلزم هذا بالضرورة أن يكون هو أعلى الموجودات، نقول «الإنسان» وقد نقصد به زمرة بشرية معينة أو البشرية كلها، فردا أو جماعة، شعبا أو مجموعة من الشعوب، والمقصود به في كل الأحوال، وفي إطار سياق ميتافيزيقي أساسي يضم الموجودات، هو الأخذ بيد الإنسان الذي تحددت (ماهيته) بهذه الطريقة - أي الحيوان الناطق
143 - ومساعدته على تحرير إمكاناته وبلوغ اليقين عن مصيره والأمان في «حياته»، ويتم هذا على هيئة صياغة للسلوك «الأخلاقي»، وخلاص للنفس الخالدة، وتفتح للطاقات للبدعة، وتهذيب للعقل، ورعاية للشخصية، وإيقاظ للإحساس بالقضايا العامة، وصقل للجسد، وقد يتم أيضا على صورة تشابك بين بعض هذه «النزعات الإنسانية» أو بينها جميعا، وفي كل حالة يتحقق نوع من الدوران الميتافيزيقي المحدد حول الإنسان في فلك ضيق أو واسع، ومع اكتمال الميتافيزيقا تلح «النزعة الميتافيزيقية» أيضا (أو الأنثروبولوجيا بالمفهوم اليوناني) على أشد «الأوضاع» تطرفا وأكثرها في نفس الوقت إطلاقا.
إن تفكير أفلاطون يخضع للتحول الذي تم في ماهية الحقيقة، هذا التحول الذي أصبح فيما بعد تاريخ الميتافيزيقا التي بدأت تحقق اكتمالها المطلق في تفكير نيتشه؛ ولهذا فلا يمكن أن تكون «نظرية» أفلاطون عن الحقيقة قطعة من الماضي، إنها «حاضر» تاريخي، ونحن لا نقصد هذا بمعنى التأثير التاريخي اللاحق فحسب «لنظرية» من النظريات، ولا نقصده أيضا بمعنى بعث الروح القديمة أو محاكاتها، ولا مجرد الحفاظ على التراث المأثور (إن الأمر لأكبر من هذا بكثير)، فذلك التحول في ماهية الحقيقة «قطعة من» الحاضر؛ لأنه هو الواقع الأساسي الراسخ منذ أقدم الأزمنة، هو الواقع الذي يتغلغل في كل شيء ويغلب على كل شيء، واقع تاريخ الكرة الأرضية الذي لا تزال عجلته دائرة حتى الزمن المعاصر.
كل ما يعرض للإنسان التاريخي من أحداث فإنما هو نتيجة مترتبة على قرار حاسم عن ماهية الحقيقة، وهو قرار اتخذ من قبل ولم يتوقف أبدا على «إرادة» الإنسان نفسه، هذا القرار الفاصل هو الذي كان يبين في كل مرة نوع الحقيقة التي «ينبغي» البحث عنها وإثباتها، أو نبذها وإسقاطها، وذلك على ضوء الماهية التي تم تحديدها للحقيقة.
والحكاية التي يرويها رمز الكهف تعطينا صورة دقيقة عما يحدث الآن أو سوف يحدث في تاريخ البشرية المطبوعة بالطابع الغربي: إن الإنسان يفكر في كل ما هو موجود وفي ذهنه أن ماهية الحقيقة هي صواب التصور (العقلي) أو صحته، ولهذا نجده يفكر في كل موجود على أساس «المثل» كما يقدر كل واقع على أساس «القيم»، وليس المهم في هذا هو نوع المثل والقيم التي يضعها «نصب عينيه»، وإنما المعيار الوحيد الفاصل في هذا هو أن الواقع قد أصبح يفسر على أساس «المثل» وأن العالم يوزن بميزان «القيم».
ذكرنا القارئ فيما سبق بالماهية الأصلية للحقيقة، وقد تبين أن اللاتحجب هو الخاصية الأساسية للموجود، والتذكير بالماهية الأصلية للحقيقة يقتضي بالضرورة أن نفكر في هذه الماهية تفكيرا أكثر أصالة، ولهذا فلا يمكن أبدا أن نقف «في فهمنا» للاتحجب عند المعنى الذي فهمه أفلاطون منه عندما أخضعه «للأيدايا» (المثال)، والسبب في هذا هو أن اللاتحجب كما يفهمه أفلاطون يظل متعلقا بالنظر، والإدراك، والفكر، والقول، والتقيد بهذه العلاقة معناه التخلي عن ماهية اللاتحجب.
وكل محاولة لوضع ماهية اللاتحجب في «العقل» أو «الروح» أو «الفكر» أو «اللوجوس» أو تأسيسها على أي نوع آخر من أنواع «الذاتية» لن تفلح في إنقاذ ماهية اللاتحجب، ذلك أن هذا الذي يحتاج إلى تأسيس، وهو ماهية اللاتحجب نفسه، لم يتم السؤال عنه هنا سؤالا كافيا، إن ما سنفعله في كل الأحوال لن يخرج عن «تفسير» نتيجة مترتبة على ماهية اللاتحجب التي لم تفهم على الوجه الصحيح.
لا غنى لنا قبل هذا عن تقدير (الجانب) «الإيجابي» الكامن في الماهية «السلبية» «للأليثيا» (أو اللاتحجب)، ولا غنى لنا عن الإحساس بأن هذا «الجانب الإيجابي» هو الخاصية الأساسية للوجود نفسه، ولا بد أن تأتي المحنة التي لا يكتفى فيها بالسؤال عن الموجود وحده، وإنما يصبح الوجود لأول مرة موضع السؤال، ولما كانت هذه المحنة وشيكة الوقوع، فإن الماهية الأصلية للحقيقة لا تزال راقدة في أصلها
144
المحتجب الخفي.
أليثيا
(هيراقليطس، الشذرة السادسة عشرة)
أطلق عليه لقب الفيلسوف المظلم،
1
واشتهر هيراقليطس بهذا اللقب منذ أن كانت مؤلفاته لا تزال كاملة، أما الآن فنحن لا نعرف منها إلا شذرات ناقصة، والمفكرون المتأخرون - مثل أفلاطون وأرسطو - والكتاب وعلماء الفلسفة اللاحقون - مثل ثيوفراسط وسكستوس أمبيريقوس وديوجينيس اللائرسي وبلوتارك - بل كذلك آباء الكنيسة المسيحيون - مثل هيبوليتوس وكليمنس السكندري وأوريجينس - يقتبسون بعض نصوص هيراقليطس التي نجدها في ثنايا أعمالهم، ولقد جمعت هذه النصوص والشذرات، وكان لعلماء فقه اللغة (اليونانية) والباحثين في تاريخ الفلسفة أكبر الفضل في جمعها، وتتألف هذه الشذرات في بعض الأحيان من عدة جمل، وفي بعضها الآخر من جملة واحدة، وقد لا تزيد في أحيان كثيرة عن مزق من عبارات مبتورة أو بضع كلمات متفرقة.
إن سياق التفكير عند المفكرين والكتاب المتأخرين هو الذي يحدد اختيارهم لكلمات هيراقليطس وطريقتهم في اقتباسها، وهو الذي يحدد كذلك مجال تفسيرهم لها، ولو تأملنا مواضع هذه الكلمات من كتابات المؤلفين المتأخرين لما وجدنا لهذا السبب إلا السياق الذي ضمنوه النص المقتبس، لا السياق الأصلي الذي استخرجوها منه؛ ومن ثم فإن النصوص المقتبسة والمواضع التي وردت فيها لن تقدم لنا الجانب الأساسي من تفكير هيراقليطس، أي الوحدة العضوية التي تعتمد عليها البنية الداخلية لمؤلفاته، والنظرة المتأنية في هذه البنية هي الكفيلة بالكشف عن المصدر الذي انبثق منه حديث الشذرات المتفرقة، وهي الكفيلة أيضا بأن تدلنا على المعنى الذي نفهم به صوت كل شذرة منها على حدة، ولما كان من العسير علينا أن نحدس بذلك المركز الذي نبعت منه كتابات هيراقليطس واستمدت منه وحدتها، وكانت صعوبة التفكير في هذا المركز تزداد يوما بعد يوم، فنحن أولى بإطلاق لقب «المظلم» على هذا المفكر وأحقهم بأن يبدو في أعينهم مظلما، بل إن المعنى الحقيقي الذي ينطوي عليه هذا اللقب يظل هو نفسه على غموضه وظلامه بالنسبة إلينا.
يوصف هيراقليطس «بالمظلم»،
2
غير أنه هو المنير، ذلك أنه ينطق عن المنير عندما يحاول الإهابة بظهوره (وتجليه) في لغة الفكر، إن المنير ليبقى، بقدر ما ينير، ونحن نسمي نوره الإنارة، وعلينا أن نتفكر فيما يتصل بها وينتمي إليها، كما نتفكر في طريقة حدوثها والمكان الذي تتم فيه، إن كلمة «المنير» تدل على ما يضيء ويشع ويسطع، والإنارة هي التي تكفل الظهور، وهي التي تمنح الظاهر حرية الظهور، والحرية
3
هي مجال اللاتحجب (أو التكشف)، والكشف (أو اللاتحجب) هو الذي يدبر أمره، وعلينا بعد أن نسأل عما ينتمي بالضرورة لهذا الكشف، ونرى إن كان التكشف (اللاتحجب) والإنارة هما نفس الشيء.
لن يغنينا الرجوع إلى معنى كلمة «اليثيزيا»
4
شيئا ولن نجني منه ثمرة، ولا بد أيضا من التريث قبل أن نقرر إن كان ما نفهمه عادة من «الحقيقة» و«اليقين» و«الموضوعية» و«الواقع» يرتبط أدنى ارتباط بما يشير إليه تكشف (لاتحجب) الفكر وإنارته، لعل الفكر الذي يتبع مثل هذه الإشارة أن يستشكل عليه أمر أجل وأسمى من تأكيد الحقيقة الموضوعية كما تؤخذ على معنى العبارات (أو القضايا) الصادقة، ما السر في ذلك التسرع الذي يدفع البعض دائما إلى نسيان الذاتية التي ترتبط بكل موضوعية؟ وما الذي يجعلهم، كلما لاحظوا هذا الارتباط بينهما، يحاولون تفسيره بالاعتماد على أحد طرفيه أو بإضافة طرف ثالث يمكنه الجمع بين الموضوع والذات؟ ولماذا يأبون في عناد أن يتصوروا مرة واحدة إمكان أن يعلن الارتباط بين الذات والموضوع عن ماهيته في ذلك الذي يضمن ماهية الموضوع وموضوعيته، وماهية الذات وذاتيتها، أي يضمن قبل ذلك المجال الذي تتحقق فيه علاقتهما المتبادلة؟ إن المشقة التي نكابدها من التفكير في هذا «الضامن» قبل أن تتيسر لنا القدرة على التطلع إليه لا ترجع إلى قصور الفهم السائد، ولا إلى الضيق بالنظرة الرحبة التي تقلق المألوف وتزعج المعتاد الذي درجنا عليه، فالأولى من هذا أن نرجح سببا آخر.
فنحن نعرف أكثر ما نطيق، ونتسرع في الاعتقاد تسرعا لا يتيح لنا أن نجرب السؤال ونسكن إليه، ذلك أن هذه التجربة وهذا السكن في أشد الحاجة إلى القدرة على الاندهاش من البسيط والاطمئنان إلى هذا الاندهاش كما يطمئن المرء إلى وطنه وبيته.
وطبيعي أن هذا البسيط لن يقدم لنا بمجرد ترجمة كلمة «اليثيزيا» ترجمة ساذجة تعبر عن معناها الحرفي أو تردد أن هذا المعنى هو «اللاتحجب»، إن اللاتحجب هو الطابع الأساسي الذي يميز ذلك الذي تمكن من الظهور بالفعل وترك التحجب أو الخفاء وراءه، وهذا هو معنى الحرف
a
الذي بدأ به الكلمة، وهو الحرف الذي وصفه علم النحو أو القواعد في مرحلة متأخرة من مراحل الفكر اليوناني بأنه الألف
a
السالبة أو النافية، إن العلاقة «بالليثيه»
5
أو التحجب وبهذا التحجب نفسه لن تفقد وزنها إن نحن اقتصرنا على تجربة اللامتحجب تجربة مباشرة وفهمناه بمعنى الظاهر أو الحاضر أو الكائن.
إن الاندهاش لا يبدأ إلا بالسؤال عن معنى هذا كله والطريقة التي تم بها، ولكن كيف يمكننا الوصول إليه؟ أيكون ذلك بالإقبال على نوع من الاندهاش الذي يتطلع إلى ما نصفه بالإنارة والكشف؟
6
إن اندهاش الفكر يعبر عن نفسه بالسؤال، يقول هيراقليطس: «كيف يتسنى لامرئ أن يحجب نفسه عما لا يغيب أبدا؟»
7
وعبارة هيراقليطس السابق تعد الشذرة السادسة عشرة من شذراته الباقية، ولعلها تستحق أن تكون الشذرة الأولى، نظرا لمنزلتها من الشذرات الأخرى وقدرتها الفائقة على الإشارة والإيحاء، وقد ذكر كليمنس السكندري (من حوالي سنة 150 إلى سنة 215 بعد الميلاد) هذه العبارة في كتابه «المربي»
8
لتأييد إحدى أفكاره اللاهوتية والتربوية، فهو يستشهد بشذرة هيراقليطس ويقدم لها قائلا: «ربما استطاع إنسان أن يتخفى بعيدا عن النور المدرك المحسوس، ولكن من المستحيل عليه أن يفعل ذلك مع النور الروحي، أو كما يقول هيراقليطس »
9 (المربي، الكتاب الثالث، الفصل العاشر).
وكليمنس السكندري يقصد بهذه العبارة أن الله محيط بكل شيء، مطلع على كل ما يفعله الإنسان، لا تخفى عليه خطيئة ارتكبها في الظلام؛ لهذا نجده يقول أيضا في موضع آخر من كتابه السالف الذكر: «ولهذا لن يسقط إنسان، حرص على أن يرعى الله، في كل فعاله»
10 (الكتاب الثالث، الفصل الخامس)، من ذا الذي يمكنه أن يمنع كليمنس السكندري من وضع عبارة هيراقليطس في سياق التصور المسيحي وفقا لأهدافه اللاهوتية والتربوية وبعد انقضاء سبعة قرون عليها؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يحول بينه وبين تفسيرها على طريقته؟ إن هذا الرجل - الذي يعد من آباء الكنيسة الأول - يذكر العبارة وفي ذهنه ذلك المذنب الذي يحاول أن يتخفى بعيدا عن النور (الإلهي)، أما هيراقليطس فيتحدث عن البقاء في حالة الاحتجاب، وكليمنس يقصد النور المتعالي على عالم الحس أي إله العقيدة المسيحية،
11
أما هيراقليطس فلا يذكر إلا ذلك الذي «لا يغيب أبدا»، ولو سألنا: هل تعني «لا» التي نؤكدها في هذه العبارة نوعا من القصر والتحديد، لبقي السؤال في هذا الموضع والمواضع التالية مفتوحا.
ماذا عسى أن نستفيد من رفض التفسير اللاهوتي لهذه الشذرة بحجة أنه تفسير خاطئ؟ ربما تصور البعض أننا نريد من وراء الملاحظات التالية أن نزهو بتقديم تفسير صحيح مطلق لنظرية هيراقليطس، ولكننا في الواقع سنقصر كل جهودنا على البقاء بالقرب من كلمة هيراقليطس التي تنطق بها عبارته السابقة، فلعل هذا أن يسهم في هداية فكر يأتي في المستقبل إلى أفق نداء لم يسمع صوته بعد.
ولما كان هذا النداء يصدر عن الوعد الذي يخضع له الفكر ويلتزم به، فليس المهم هنا أن نقيم ونوازن لنعرف من هم المفكرون الذين اقتربوا من هذا النداء ولا مدى اقترابهم منه، بل الأولى من ذلك أن نوجه كل جهودنا إلى محاولة الاقتراب من مجال ذلك الذي يستحق منا عناء التفكير فيه، من خلال الحوار الذي نقيمه مع مفكر قديم.
إن أصحاب النظر والبصيرة يعلمون أن هيراقليطس يتحدث إلى أفلاطون على نحو يختلف عن حديثه إلى أرسطو أو أحد آباء الكنيسة أو هيجل أو نيتشه، ومن تمسك بهذه التفسيرات التاريخية المتنوعة، فسيجد نفسه مضطرا إلى اعتبارها تفسيرات تتفاوت صحتها على قدر علاقتها بهذا المفسر أو ذاك، وسيجد أن هذا التنوع في التفسير سيهدده بمواجهة شبح النسبية المفزع، ما السبب في هذا؟ لأن الخطأ التاريخي الذي تنطوي عليه هذه التفسيرات يكون في هذه الحالة قد تخلى عن الحوار المتسائل مع المفكر، بل لعله ألا يكون قد دخل بالمرة في مثل هذا الحوار.
إن الوجه الآخر لكل تفسير يقدم لتفكير المفكر عن طريق الحوار معه إنما هو علامة خصوبة لم تقل أو لم يعبر عنها، مطوية في ذلك الذي لم يستطع هيراقليطس نفسه أن يقوله (أو يعبر عنه) إلا عن طريق النظرات التي قيضت له وحده، وكل محاولة لتعقب نظرية هيراقليطس الموضوعية الصحيحة لن تخرج عن كونها محاولة تبتعد بنفسها عن ذلك الخطر المبارك الذي يصيب الإنسان حين تصيبه حقيقة فكر ما.
والملاحظات التالية لا تؤدي إلى أية نتيجة، إنها تكتفي بالإشارة إلى الحدث.
صيغت عبارة هيراقليطس على شكل سؤال، والكلمة التي ينتهي بها هذا السؤال انتهاءه إلى غاية (التيلوس)
12
تسمي ذلك الذي يبدأ منه السؤال نفسه، إنه المجال الذي يتحرك فيه الفكر، والكلمة التي يرتفع نحوها السؤال هي «لاثوي»
13
هل هناك أيسر من القول بأن «لانثانو»
14 (اختفى وتحجب) والماضي الناقص منها (الاثون) تعني أنني أظل مخفيا أو محتجبا؟ ومع هذا كله فنحن لا زلنا عاجزين عن الوصول إلى المعنى المباشر الذي نطقت به هذه الكلمة.
يروي لنا هوميروس (الإلياذة، النشيد الثامن، البيت 83 وما بعده) كيف كان أوديسبوس يستمع إلى المغني ديمودكوس وهو يترنم بأغنياته الحزينة وأغنياته المرحة في بلاط ملك «الفاقيين»، وكيف كان يخفي رأسه في كل مرة ويبكي دون أن يلحظه الحاضرون، يقول البيت الثالث والتسعون من هذا النشيد ما ترجمته: «عندئذ ذرف الدموع، دون أن يلحظه الآخرون جميعا.»
15
غير أن ترجمة «فوس»
16
أكثر اقترابا من القول اليوناني؛ لأنها تنقل الفعل الهام «أخفى» (الانثاني)
17
إلى اللغة الألمانية: «أخفى الدموع المتساقطة عن بقية الضيوف.» ولكن «الانثاني» ليست فعلا متعديا وإنما تعني أنه «ظل مخفيا أو محتجبا» أي من حيث هو إنسان يذرف الدموع، والبقاء مخفيا أو محتجبا هو الكلمة الأساسية في اللغة اليونانية، أما اللغة الألمانية فتقول: «بكى دون أن يلحظه الآخرون.» وبهذا المعنى أيضا تترجم عبارة أبيقور المعروف «لاثي بيوزاس»
18 (عش في الخفاء)، أما معناها الأصلي كما فكر فيه اليونان فهو «ابق-بوصفك ذلك الذي يحيا حياته مخفيا أو محتجبا»، والخفاء أو التحجب هو الذي يحدد هنا أسلوب كينونة الإنسان - (أو حضوره) - بين الناس، واللغة اليونانية تكشف بطريقة قولها عن أن التحجب (التخفي)، أي البقاء في التحجب والخفاء، أسلوب في الكينونة (أو الحضور) يفوق جميع الأساليب الأخرى، والخاصية الأساسية للكينونة نفسها تتحدد عن طريق البقاء في «حالة» الخفاء أو حالة اللاتحجب، ولسنا بحاجة للرجوع إلى اشتقاق كلمة «اليثيزيا» - وهو اشتقاق قد يبدو ظاهر المرونة - لكي نعرف أن كينونة الكائن (أو حضور الحاضر) لا تعبر عن نفسها في اللغة إلا من خلال الظهور، والتبدي، والإفصاح عن النفس، والحضور، والوجود، والانبثاق، والمظهر، وما كان لهذا كله أن يتسق ويتناغم في ثنايا الوجود اليوناني واللغة اليونانية لو لم يكن البقاء في التحجب أو اللاتحجب هو الخاصية السائدة التي لا تحتاج إلى التعبير عن نفسها في اللغة؛ لأن هذه اللغة نفسها تصدر عنها.
والتجربة اليونانية تنظر إلى أوديسيوس بما يتفق مع وجهة النظر هذه، فهي لا تعد الضيوف الحاضرين بمثابة ذوات تتصور أوديسيوس الباكي من خلال مسلكها الذاتي، وكأنه موضوع لا تدركه، بل الأولى من ذلك أن نقول إن التجربة اليونانية تتصور أوديسيوس الباكي وقد أحاط به التحجب (الخفاء) فتعذر على الحاضرين أن يروه، إن هوميروس لا يقول إن أوديسيوس حجب دموعه، والشاعر القديم لا يقول كذلك إن أوديسيوس الباكي قد حجب نفسه، وإنما يقول إن أوديسيوس بقي محجوبا، ولا بد لنا من معاودة التأمل في هذه الواقعة، مهما تعرضنا لخطر الوقوع في التزيد والفضول، فبغير التبصر المتأني بهذه الواقعة يظل في نظرنا تفسير أفلاطون للكينونة (الوجود أو الحضور) بأنها مثال (إيدايا) نوعا من التعسف أو الصدفة.
بيد أن هوميروس يقول في بيت متقدم على الأبيات التي اقتبسناها في السياق السابق (وهو البيت السادس والثمانون) ما ترجمته (على لسان «فوس» وفقا لأسلوب اللغة الألمانية في التعبير): (أخفى أوديسيوس رأسه) «حتى لا يلمح الفاقيون الجفون الدامعة»،
19
لكن فوس لا يترجم الكلمة الأساسية «أيديتو»،
20
فأوديسيوس قد خجل وغلب عليه الحياء من أن يبدو باكيا يذرف الدموع أمام الفاقيين، أليس من الواضح أن هذا يساوي القول بأنه أخفى (حجب) نفسه خجلا أو حياء من الفاقيين؟ أم أن علينا أن نفكر في الخجل (أيدوس)
21
من ناحية البقاء في التحجب، إذا حاولنا أن نقترب من ماهيته التي جربها اليونان؟ لو صح هذا لكان معنى «الشعور بالخجل» هو شعور المرء بالأمان والبقاء متخفيا (أو متحجبا) في ظل الرجاء والتماسك.
من هذا المشهد الذي صور فيه الشاعر اليوناني أوديسيوس وهو يبكي في الخفاء يتبين لنا كيف جرب الشاعر كينونة الكائن، وهي معنى الوجود الذي أصبح قدرا قبل أن يتاح التفكير فيه، إن الكينونة (أو الحضور) هي التحجب الذي يغمره النور: هذا التحجب يناسبه الخجل، والخجل هو التخفي المتهيب أمام اقتراب الكائن (ساعة كينونته)، وهو طي هذا الكائن في القرب المصون
22
لذلك لا ينفك في (حالة) حضور، هذا الحضور الذي يظل (بدوره) تحجبا متزايدا، وهكذا ينبغي علينا أن نفكر في الخجل وكل ما هو قريب منه رفيع الشأن على ضوء البقاء في التحجب.
وهكذا ينبغي علينا أيضا أن نهيئ أنفسنا لاستعمال كلمة يونانية أخرى - تنتمي للجذر «لاث» - بطريقة تنم عن قدر أكبر من التأمل وإمعان الفكر، والكلمة هي «أبيلانثانسناي».
23
ونحن نترجمها في العادة ترجمة صحيحة «بالنسيان»، وتصور لنا هذه الدقة المعجمية أن كل شيء على ما يرام، بل إننا لنفعل هذا وكأن النسيان واضح وضوح الشمس، وقد لا يخلو الأمر من ملاحظة عابرة يعلق بها البعض على هذه الكلمة اليونانية فيقول لنا : إنها تتضمن معنى البقاء في التحجب والخفاء.
لكن ما معنى «النسيان»؟
إن المتوقع من الإنسان الحديث - الذي يسعى جهده لكي ينسى بأقصى سرعة ممكنة - أن يعرف ما هو النسيان، ولكنه لا يعرف عنه شيئا، لقد نسي ماهية النسيان، هذا إن كان قد تسنى له أن يفكر فيه تفكيرا كافيا، أي يتطلع بفكره إلى المجال الذي تتحقق فيه ماهية النسيان، والشعور القائم باللامبالاة وعدم الاكتراث بماهية النسيان لا يرجع بحال من الأحوال إلى أسلوب الحياة المتعجلة العابرة التي نحياها اليوم، فكل ما يحدث من جراء هذه اللامبالاة إنما يلزم عن ماهية النسيان؛ ذلك أن من طبيعة هذا النسيان أن يبتعد عن نفسه أو يفلت منها لكي يغوص في قرارة تحجبه وتخفيه، ولقد جرب اليونان «الليثي»
24
أو النسيان وعرفوا أنه هو قدر الحجب والإخفاء.
يقول الفعل اليوناني (لانثانوماي)
25
ما معناه: إنني أبقى بالنسبة لنفسي محجوبا - وذلك بالقياس إلى علاقة اللامحتجب بي، بهذا يكون اللامحتجب من ناحيته محتجبا، كما أكون أنا أيضا محتجبا من ناحية علاقتي به، وهكذا يهوي الكائن (الحاضر) في التحجب بحيث أبقى في أثناء هذا الحجب محتجبا بالنسبة إلى نفسي، باعتبار أنني ذلك الذي ينفلت منه الكائن، وفي نفس الوقت يحتجب هذا الحجب من ناحيته، ومثل هذا يحدث فيما نقصده عادة بقولنا: لقد نسيت «شيئا ما»، غير أن هذا الشيء ليس هو وحده الذي يغيب عنا عند النسيان، فالنسيان ذاته يهوي في حجب (إخفاء) من ذلك النوع الذي يوقعنا نحن أنفسنا مع علاقتنا بالمنسي في التحجب؛ ولهذا السبب يؤكد اليونان الفعل «أنا أبقى منسيا بالنسبة لنفسي» (إبيلانثانوماي)
26
في صيغة المجهول التي تفيد المعلوم فيزيدونه حدة؛ ولهذا أيضا لا تطاق صفة التحجب الذي يقع فيه الإنسان في نفس الوقت على علاقته بذلك الذي يفلت من الإنسان عن طريقه (أي عن طريق التحجب).
هكذا يتبين من أسلوب اللغة اليونانية في استخدام فعل «لانثاناين»
27 (الاحتجاب أو البقاء في حالة التحجب) استخداما يبرز أهميته وصدارته، كما يتبين من تجربة النسيان من خلال البقاء في حالة التحجب، أن «لانثانو»
28 (أي أبقى متحجبا) لا تدل على أسلوب من أساليب سلوك الإنسان الأخرى المتعددة، وإنما تدل على الخاصية الأساسية التي يتسم بها مسلكه كله مما هو كائن (حاضر) أو غائب،
29
هذا إذا لم تكن هي الخاصية الأساسية للكينونة والغياب نفسهما.
وإذا كلمة «ليثو»
30 (أبقى محتجبا) تكلمت إلينا في عبارة أحد المفكرين، وإذا هي
31
جاءت بالإضافة إلى هذا في ختام سؤال فكري، فمن الواجب علينا أن نتمعن في هذه الكلمة بقدر ما يسعنا اليوم من صبر وتعمق وأناة.
إن كل احتجاب (أو بقاء في حالة التحجب) ينطوي في ذاته على علاقة بذلك الذي أفلت منه المحتجب (أو انتزع بعيدا عنه)، ولكنه ظل في بعض الحالات وعن طريق ذلك الحجب ميالا إليه، واللغة اليونانية تضع ذلك الذي يظل المفلت أو المنتزع من خلال الحجب ميالا إليه، في حالة المفعول فتقول: «حجب «الدموع المتساقطة» عن الآخرين جميعا.»
32
يسأل هيراقليطس فيقول: «كيف يتسنى لأحد أن يبقى محتجبا؟»
33
ولكن عن ماذا؟ عن ذلك الذي تذكره الكلمات التي تسبق هذا السؤال وتبدأ بها عبارة هيراقليطس، الذي لا يغيب أبدا:
34
و«الأحد» الذي تذكره العبارة ليس هو الفاعل الذي يعود عليه بقاء شيء ما في حالة تحجب، وإنما «الأحد» المذكور يوضع هو نفسه - بالقياس إلى إمكان بقائه محتجبا - في موضع السؤال أو الإشكال، إن السؤال الذي يطرحه هيراقليطس لا يبدأ بالتفكير في التحجب واللاتحجب في علاقتهما بذلك الإنسان الذي قد نميل - بحسب التصور الذي درجنا عليه في العصر الحديث - إلى وصفه بأنه حامل اللاتحجب إن لم يكن هو صانعه، فالواقع أن سؤال هيراقليطس يفكر - إن جاز هذا التعبير الحديث - بطريقة عكسية، إنه يتفكر في علاقة الإنسان «بما لا يغيب أبدا» كما يفكر في الإنسان من خلال هذه العلاقة.
إننا نترجم البنية اللغوية اليونانية «تومي دينون بوتي»
35
بهذه الكلمات: «ما لا يغيب أبدا»، وكأن هذا أمر بديهي واضح بذاته، ما معنى هذه الكلمات؟ ومن أين لنا أن نعرف معناها؟ ربما تبادر إلى الأذهان أن هذا هو أول ما ينبغي علينا أن نبدأ بالبحث عنه، ولو أدى بنا هذا البحث إلى البعد عن عبارة هيراقليطس، بيد أننا سنعرض أنفسنا في هذه الحالة وفي سائر الحالات المشابهة إلى خطر الإسراف والشطط في البحث.
ذلك أننا سنتصور منذ البداية أن البنية اللغوية المذكورة قد بلغت من الوضوح حدا يكفي لحفزنا على التوفر بكل ما في وسعنا على النظر إلى ذلك الذي يصفه تفكير هيراقليطس بأنه «لا يغيب أبدا»، ولكننا لن نبعد في السؤال إلى هذا الحد، كما أننا لن نفصل فيما إذا كان من الممكن طرح السؤال المذكور بهذه الطريقة أو بغيرها؛ لأن محاولة الفصل في هذه القضية ستسقط من تلقاء نفسها إذا اتضح أن السؤال عن ذلك الذي يدعوه هيراقليطس بأنه «لا يغيب أبدا» هو في الحقيقة سؤال لا داعي له، كيف يتضح هذا؟ وكيف يمكننا أن نتجنب خطر الشطط في السؤال؟
ليس من سبيل إلى هذا إلا إذا جربنا بأنفسنا أن البنية اللغوية السابقة «تومي-دينون-بوتي» تطرح أمام الفكر قدرا كافيا من القضايا التي تستحق الوقوف عندها، وذلك بمجرد أن نتناول ما تقوله هذه البنية بالشرح والتفسير.
إن الكلمة الأساسية فيها هي «تودينون»،
36
وهي مرتبطة بالفعل «ديئو»
37
الذي يعني التدثر
38
والغوص، أما المصدر «دوآين»
39
فيعني الدخول في شيء بحيث يغيب ويغوص فيه، كأن نقول مثلا إن الشمس تغيب في البحر أو تغوص فيه، في مغيب الشمس،
40
أي قرب حلول المساء، أو الغياب في السحب،
41
أي التلاشي وراءها، إن الغياب بالمفهوم اليوناني يتم في صورة التحجب أو الاحتجاب.
يتضح لنا الآن - وإن يكن هذا على نحو تقريبي - أن الكلمتين الأساسيتين، الغنيتين بالمضمون، اللتين تبدأ بهما عبارة هيراقليطس وتنتهي - وهما «تودينون» (الغائب) و«لاثوي»
42 (البقاء في حالة التحجب) - تتحدثان عن شيء واحد، ومع هذا يبقى السؤال عن مغزى هذا الحديث ومدى صحته قائما، مهما يكن من شيء فإننا نكسب شيئا غير قليل إذا عرفنا أن العبارة تتحرك في مجال الحجب حركة متسائلة، أم ترانا نقع فريسة وهم شديد بمجرد التفكير في هذا؟ يبدو الأمر كذلك في الواقع؛ لأن العبارة تذكر ذلك «الذي لا يغيب أبدا»،
43
ومن الواضح أنه ذلك الذي لا يحتجب أبدا ولا يجوز عليه الاحتجاب، إن هذا الاحتجاب مستبعد، صحيح أن العبارة تتساءل عن البقاء في (طوايا) الاحتجاب، ولكنها تضع إمكان الاحتجاب بصورة حاسمة موضع السؤال،
44
بحيث يشبه هذا السؤال في نهاية الأمر أن يكون جوابا، وهذا الجواب يستبعد إمكان حالة البقاء في الاحتجاب، والعبارة المؤكدة لا تتحدث إلا في الصيغة الخطابية للسؤال: ليس في وسع أحد أن يبقى محتجبا أمام ما لا يغيب أبدا، وهي عبارة تكاد توحي لمن يسمعها بأنها أشبه ما تكون بالمبدأ أو القاعدة.
ونحن لا نكاد نعدل عن انتزاع الكلمتين الأساسيتين «تودينون»
45 (الغائب) و«لاثوي»
46 (يبقى محتجبا) بمفردهما ولا تكاد تستمع إليهما في السياق المتكامل للعبارة حتى يتضح لنا أن العبارة لا تتحرك على الإطلاق في مجال التحجب بل في المجال العكسي تماما، ولو أننا غيرنا بنية الكلمات وجعلناها على هذه الصورة «تومي بوتي دينون» (الذي لا يغيب أبدا)
47
لاتضح لنا على الفور أن العبارة تتحدث عن ذلك الذي لا يغيب أبدا، ولو عمدنا بعد ذلك إلى تحويل أسلوب الكلام من صيغة النفي إلى صيغة الإثبات لاستمعنا إلى ما تصفه العبارة بأنه «لا يغيب أبدا»، ألا وهو ذلك الذي ينفتح (أو يطلع وينمو) باستمرار، ولقد كان من الضروري أن تكون الكلمات اليونانية المعبرة عن هذا الوصف هي «توأثي فيئون»
48 (الذي ينفتح على الدوام)، ونحن لا نجد هذا التعبير عند هيراقليطس، غير أن المفكر يتحدث عن «الفيزيس»
49
وهي إحدى الكلمات الأساسية التي يقوم عليها الفكر اليوناني، وهكذا نكون قد وقعنا على جواب السؤال عن ذلك الذي ينفي هيراقليطس عنه الغياب.
ولكن هل تصلح الإشارة إلى «الفيزيس» (الانفتاح) أن تكون جوابا، طالما بقي المعنى الذي تفهم به «الفيزيس» غامضا؟ وماذا تفيدنا العناوين الرنانة من نوع «الكلمة الأساسية»، إذا كانت أصول الفكر اليوناني وأعماقه لا تكاد تعنينا إلا قليلا، حتى لنلجأ إلى تغطيتها بأسماء دفعتنا الغفلة إلى استعارتها من مجالات التصور الشائع؟ إذا كانت «تو-مي-بوتي-دينون»
50 «الذي لا يغيب أبدا» تعني «الفيزيس»، فإن الإحالة إلى «الفيزيس» لا تبين لنا ما هو ذلك «الذي لا يغيب أبدا»، بل إن العكس هو الصحيح: «فالذي لا يغيب أبدا» ينبهنا إلى التأمل في مدى إمكان تجربة «الفيزيس» بوصفه الانفتاح الدائم، كما ينبهنا إلى كيفية هذه التجربة، ولكن ما هو هذا الانفتاح إن لم يكن هو ذلك الذي يكشف عنه (أو يكتشف) على الدوام؟ بهذا المفهوم تتحرك مقالة العبارة في مجال الكشف لا في مجال الحجب.
ولكن كيف يتعين علينا أن نفكر في مجال الكشف وفي هذا الكشف نفسه، ومن زاوية أي واقعة ينبغي علينا أن نقوم بهذا التفكير؛ بحيث لا نتعرض لخطر الجري وراء الكلمات وتصيدها؟ إننا كلما أصررنا على تجنب النظر إلى المنفتح دائما، أي الذي لا يغيب أبدا، أو تصوره في صورة شيء كائن (أو ظاهر حاضر) ازدادت ضرورة التعرف على ماهية هذا الذي تطلق عليه صفة عدم الغياب أبدا.
إن الرغبة في المعرفة تستحق الثناء في أغلب الأحوال، اللهم إلا إذا انساقت وراء العجلة والتسرع، ومع ذلك فقد لا نجد طريقة نسير عليها أكثر حذرا، هذا إن لم نقل أشد إملالا وضجرا، من طريقة الالتزام بكلمات العبارة «التي قالها هيراقليطس»، ولكن هل التزمنا بها حقا؟ أم أن التغيير غير الملحوظ في سياق الكلمات وترتيبها قد انحرف بنا إلى التعجل وأضاع علينا فرصة الانتباه إلى ما هو أهم؟ الأمر كذلك في الواقع، لقد غيرنا من ترتيب هذه الكلمات «تو-مي-دينون-بوتي» وجعلناها على هذه الصورة «تو- مي-بوتي-دينون»
51
وترجمنا «مي-بوتي» ترجمة صحيحة ب «أبدا» كما ترجما «تو-دينون» ترجمة صحيحة «بالغائب» أو «بما يغيب»، وحين فعلنا ذلك لم نقف عند «مي»
52
التي وضعت مستقلة بذاتها قبل «دينون» (الغائب أو ما يغيب)، ولا أطلنا التفكير في «بوتي» (أبدا) التي أخرت بعدها؛ ولهذا لم ننتبه إلى الإشارة التي لمح بها حرف النفي «مي» والظرف «بوتي» (أبدا)، الأمر الذي كان يمكن أن يحفزنا على المزيد من التأني في تفسير كلمة «دينون».
إن «مي» حرف نفي وهي مثل الحرف «أوك»
53
تعني «لا»، ولكن بمعنى آخر مختلف، فالحرف «أوك» ينكر على المقصود بالنفي شيئا ما إنكارا صريحا، أما حرف «مي» فيضيف إلى ما يدخل في مجال نفيه شيئا ما: منعا، أو إبعادا، أو وقاية.
إن «مي-بوتي» تقول: «إنه لا أبدا» فماذا إذا؟ ألا يكون
54
شيء إلا على ما هو عليه.
إن «مي» (لا) و«بوتي» (أبدا) في عبارة هيراقليطس يحيطان بال «دينون» (الغائب)، والكلمة الأخيرة تعد من الوجهة النحوية اسما للفاعل، وقد ترجمناها حتى الآن بالمعنى الاسمي الذي يبدو أقرب المعاني إليها، وقوينا بذلك الظن القريب أيضا بأن هيراقليطس يتحدث عن شيء لا يجوز عليه الغياب، ولكن الحرف والظرف النافيين «مي» و«بوتي» يتعلقان بالدوام (البقاء) والكينونة (الحضور) على هذا النحو أو ذاك، بهذا يكون النفي متعلقا بالمعنى الفعلي لاسم الفاعل «دينون»، ويصدق نفس الشيء على «مي» في كلمة «ايئون»
55 (الوجود الثابت الباقي) في قصيدة بلرمنيدز التعليمية، والبنية اللغوية التي تتألف من الكلمات «تو-مي-دينون-بوتي» تقول: الذي لا يجوز عليه الغياب أبدا.
ولو تجرأنا مرة أخرى - ولو للحظة واحدة - على تغيير صيغة البنية السابقة من النفي إلى الإثبات لتبين لنا أن هيراقليطس يفكر في الانفتاح الدائم، وأنه لا يقصد به أي شيء يمكن أن يوصف بالانفتاح، ولا يريد به كذلك «كل» الذي يتأثر بانفتاح، وإنما يفكر في الانفتاح ويقصر تفكيره عليه وحده، والانفتاح الدائم منذ الأزل وإلى الأبد يوصف في كلمته التي قيلت بعد تفكر في معناها - باسم «الفيزيس» - وقد نجد أنفسنا مضطرين إلى ترجمتها «بالفتوح» وهي ترجمة غير مألوفة وإن تكن وافية بالقصد، مثلها في هذا مثل كلمة «نشوء»
56
الشائعة.
إن هيراقليطس يفكر في استحالة الغياب،
57
وإذا أخذنا هذا بالمفهوم اليوناني كان معناه استحالة الدخول في الاحتجاب، في أي مجال إذن يتحرك القول الذي تنطق به العبارة؟ إنه - حسب المعنى الذي يدل عليه - يذكر الاحتجاب، أي استحالة الدخول فيه، والعبارة تدل في الوقت نفسه على الانفتاح الدائم، والتكشف المتصل من الأزل إلى الأبد، والبنية اللغوية المركبة من هذه الكلمات: «تو-مي-دينون-بوتي» - أي عدم الغياب أبدا - تعني الأمرين معا: الكشف والحجب، لا بوصفهما حدثين مختلفين ملصقين ببعضهما البعض،
58
بل بوصفهما شيئا واحدا بعينه، ولو انتبهنا إلى هذا لحيل بيننا وبين وضع «تين فيزين»
59 (الانفتاح) بلا تدبر في موضع «تو-مي-دينون-بوتي»، أم أن هذا (التصرف) لا يزال ممكنا، هذا إن لم يكن ضروريا لا غنى عنه؟ إن صحت الحالة الأخيرة فلن يجوز لنا أن نقصر تفكيرنا في ال «فيزيس» على معنى الانفتاح وحده، فهي في الحقيقة ليست كذلك أبدا، إن هيراقليطس نفسه يعبر عن هذا تعبيرا واضحا لا يخلو مع ذلك من السر والغموض حين يقول في الشذرة «123» من شذراته الباقية: «فيزيس كريبتستاي فيلاي»
60 (إن الفيزيس تحب التخفي)، ولن نبحث هنا إن كانت الترجمة المعروفة «ماهية الأشياء تميل إلى التخفي» تتصل ولو من بعيد بمجال تفكير هيراقليطس؛ فقد لا يليق بنا أن ننسب مثل هذا المعنى الشائع لهيراقليطس، هذا بصرف النظر عن أن التفكير في «ماهية الأشياء» لم يبدأ إلا على يد أفلاطون،
61
ولا بد لنا من الانتباه إلى شيء آخر، فالنص يذكر «فيزيس» أو الانفتاح (التكشف) و«كريبتستاي»
62
أو الحجب متجاورتين أشد التجاور، وقد يبدو هذا للوهلة الأولى أمرا مستغربا، فإذا كانت «الفيزيس» - بوصفها انفتاحا - تتجنب شيئا أو بالأحرى تزور عن شيء، فهي تتجنب التحجب (كريتستاي) وتزور عنه، غير أن هيراقليطس يفكر فيهما
63
من جهة قربهما الشديد من بعضهما البعض، بل إنه ليؤكد هذا القرب، حين يحدده من خلال الفيزيس، إن التكشف يحب التحجب، ما معنى هذا؟ هل يسعى الانفتاح إلى التحجب؟ أين يمكن أن يوجد هذا الاحتجاب وبأي معنى من معاني «الوجود»؟ أم هل تحس «الفيزيس» في بعض الأحيان، وعلى سبيل التغيير، بميل يدفعها إلى التحجب بدلا من الانفتاح؟ هل تقول العبارة إن الانفتاح يتحول أحيانا إلى تحجب، بحيث يغلب أحدهما مرة والآخر مرة ثانية؟ لا شيء من ذلك ألبتة.
فهذا التفسير يخطئ معنى الحب «فيلاي»
64
الذي يجمع بين «الفيزيس» و«الكريتستاي» ويؤكد العلاقة بينهما، وهو قبل كل شيء ينسى أهم ما في العبارة وأولاه بالتفكير، ونعني به الطريقة التي يكون بها الانفتاح على صورة الاحتجاب، وإذا جاز لنا في سياق هذا الكلام عن «الفيزيس» أن نتحدث عن «كينونة الماهية»،
65
فإن الفيزيس في هذه الحالة لا تعني «الماهية» أي «ما»
66
تكون عليه الأشياء، وهيراقليطس لا يذكر هذا المعنى هنا ولا في شذرتيه «1، 112» اللتين يستخدم فيهما هذه الصيغة «كاتا-فيزين»
67 (حسب الفيزيس)، فعبارته لا تفكر في «الفيزيس» من حيث هي ماهية الأشياء، وإنما تفكر في ماهية (مفهومه كفعل) الفيزيس.
إن الانفتاح بما هو كذلك يميل دائما إلى الانغلاق، وفي هذا الانغلاق يبقى ذاك الانفتاح مطويا، وليس الكريتستاي، بوصفه تحجبا، مجرد انغلاق، وإنما هو طي تبقى فيه إمكانية «تحقق» ماهية الانفتاح مصونة، كما ينتمي إليه الانفتاح بما هو كذلك ويتعلق به، إن التحجب يكفل للتكشف ماهيته، وفي التحجب يسود على عكس من ذلك مسلك الميل إلى التكشف، وماذا عسى أن يكون التحجب إن لم يتمسك باتجاهه نحو الانفتاح؟
وهكذا لا تنفصل «الفيزيس» عن «الكريتستاي»، وإنما يميل أحدهما لصاحبه، إنهما نفس الشيء، ومثل هذا الميل يمكن أحدهما من الإنعام على الآخر بماهيته الخاصة به، هذا الفضل المتبادل هو ماهية الحب (فيلاين) والمحبة (فيليا)، وفي هذا الميل الذي يؤلف بين الانفتاح والاحتجاب تكمن ماهية «الفيزيس» بكل امتلائها وخصوبتها، لهذا يمكن أن تترجم الشذرة «123» التي تقول «إن الفيزيس تحب التحجب
68
على هذا النحو»: «إن الانفتاح (من خلال التحجب) ينعم بالفضل على التحجب».
ولكننا سنظل نفكر في «الفيزيس» تفكيرا عابرا غير متعمق إذا تصورنا أنها لا تخرج عن الانفتاح أو إتاحة الانفتاح، ونسبنا إليها بعد ذلك خصائص من نوع ما، وأغفلنا خلال ذلك الأمر الحاسم؛ ألا وهو أن التكشف لن يستبعد التحجب فحسب، بل أنه يحتاج إليه لكي يمكنه أن يفصح عن ماهيته بوصفه تكشفا، إذا فهمنا «الفيزيس» بهذا المعنى جاز لنا عندئذ أن نقول «تين فيزين» (حسب الفيزيس أو وفقا له) بدلا من «تو-مي-دينون-بوتي» (الذي لا يغيب أبدا).
هاتان التسميتان تصفان المجال الذي تسوده العلاقة الغامضة بين الكشف والحجب، هذه العلاقة تنطوي على الوحدة التي تميز الواحد «الهين»
69
الذي يرجح أن يكون المفكرون الأولون قد عاينوه في ثرائه وبساطته، ثم بقي بعد ذلك مستغلقا على المفكرين الذين جاءوا بعدهم، إن «عدم الدخول في الاحتجاب» (تو-مي-دينون-بوتي) لا يقع أبدا في قبضة الاحتجاب ولا يتلاشى فيه، ولكنه يظل ميالا إلى التحجب؛ لأنه على الدوام انبثاق من الحجب، وذلك بحكم كونه عدم الدخول في ... إن الفكر اليوناني حين يعبر عن «ذلك الذي لا يغيب أبدا» (تو-مي-دينون-بوتي)، إنما يعبر كذلك بصورة ضمنية عن التخفي أو التحجب (كريتستاي) وبهذا يذكر ماهية «الفيزيس» الكاملة التي تغلب عليها المحبة (فيليا)
70
وتضعها بين الكشف والحجب.
ربما كانت المحبة «فيليا» التي تشير إليها الشذرة «123»، والتجانس الخفي أو الانسجام غير المنظور (هارمونيا أفانيس) الذي تذكره الشذرة «54» تعبيرا عن نفس الشيء،
71
هذا بشرط أن تظل البنية - التي يتلاحم بفضلها الكشف والحجب - هي أخفى الخفايا؛ لأنها هي التي تتيح الظهور لكل ما يظهر وتنعم به عليه.
والإشارة إلى «الفيزيس» و«الفيليا» (المحبة) و«الهارمونيا» (الانسجام) قد خففت من طابع عدم التحديد الذي جعلنا ندرك «ذلك الذي لا يغيب أبدا» (تو-مي-دينون- بوتي) وأتاح لنا الاستماع إلى صوته، ومع هذا فنحن نحس الآن برغبة ملحة - قد يتعذر علينا التحكم فيها - في التعبير الحي الملموس عن المقصود بالكشف والحجب، وذلك بدلا من التفسير المجرد من الصور العينية والمكانية، ولكننا سنتبين أننا نطرح هذه المسألة بعد فوات الأوان، لماذا؟ لأن ذلك «الذي لا يغيب أبدا»
72
صفة يطلقها الفكر (اليوناني) المبكر على مجال المجالات جميعا، وإن كان من الضروري أن نؤكد أنه ليس جنس الأجناس الذي تتدرج تحته أنواع مختلفة من المجالات، إنه ذلك الذي يمكن التعبير عنه بأنه أشبه بالمكان الذي يضم كل ما يمكن أن ينتمي إليه، بهذا المعنى يكون مجال «ما لا يغيب أبدا» مجالا فريدا استمد تفرده هذا من رحابته الشاملة الجامعة، فكل ما يتصل بحدث الكشف - إذا جرب على وجهه الصحيح - ينمو فيه نموا شاملا جامعا،
73
إنه هو «العيني الملموس» على الأصالة، ولكن كيف يمكن أن نتصور هذا المجال، من خلال الشروح السابقة التي تتسم بالتجريد، في صورة عينية ملموسة؟ لن يكون لهذا السؤال ما يبرره إلا إذا غفلنا عن حقيقة هامة، وهي أنه لا يجوز لنا أن نتهجم على تفكير هيراقليطس بأوصاف من نوع «العيني» و«المجرد»، و«الحسي» و«غير الحسي»، و«العياني» و«غير العياني»، فتعودنا على مثل هذه الأوصاف التي ألفناها منذ زمن طويل لا يضمن لها الأهمية البالغة التي ننسبها إليها، فقد يتفق لهيراقليطس أن يقول كلمة تدل على شيء عياني بينما يريد في الواقع أن يفكر في شيء غير عياني بالمرة، ولعل هذا أن يوضح لنا أن مثل هذه الأوصاف والتحديدات لا تسعفنا فيما نحن بصدده.
يمكننا على ضوء الشرح السابق أن نضع «الذي ينمو على الدوام»
74
في موضع «الذي لا يغيب أبدا» وذلك إذا راعينا شرطين، أولهما أن نفكر في «الفيزيس» من ناحية التحجب، وثانيهما أن نفهم «فيئون»
75
فهمنا لفعل (النمو)، ولو حاولنا أن نعثر على كلمة «أئي-فيئون»
76 (النمو الدائم) لضاعت محاولتنا سدى، ولوجدنا بدلا منها كلمة «أئي-زوئون» (الحي أبدا أو الحياة الدائمة) في الشذرة «30»،
77
وفعل «الحياة» يعبر عن معنى يمتد إلى أفق رحب، وبعد أقصى، وعمق حميم، وهو نفس المعنى الذي كان يقصده نيتشه في العبارة التي دونها بين سنتي 1885م، 1886م عندما قال: «الوجود - ليس لدينا من تصور عنه سوى تصور «الحياة» - وكيف يتسنى لميت أن «يوجد»؟»
78
كيف يتعين علينا أن نفهم كلمة «الحياة» إذا اعتبرناها ترجمة أمينة للكلمة اليونانية «زين»؟
79
إن المصدر والفعل في حالة ضمير المتكلم يتضمنان الجذر «زا»، وطبيعي أننا لن نستطيع التوصل إلى المفهوم اليوناني عن الحياة مهما بذلنا من جهد لاستخراج معناها من هذه البنية الصوتية (زا).
ولكننا نود أن ننبه إلى أن اللغة اليونانية - وبخاصة على لسان شاعريها هيرميروس وبندار - تستخدم كلمات تبدأ بالسابقة «زا» مثل «زاثيئوس» (إلهي جدا أو مقدس جدا) «زامينيس» (شديد أو عنيف جدا) «زابيروس»
80 (ناري جدا)، ويفيدنا علم اللغة أن السابقة «زا» تدل على التأكيد أو التشديد، ولكن هذا «التشديد» لا يقصد به الزيادة الميكانيكية ولا الديناميكية، فالشاعر بندار يصف بقاعا وجبالا، ومروجا وشطآنا بأنها «زائيئوس-إلهية جدا»، وهو يلجأ إلى هذا الوصف عندما يريد أن يقول إن الآلهة طالما تجلت لها وأطلت عليها (من عليائها) وعبرت عن حقيقتها ووجودها من خلال هذا التجلي والظهور، فالبقاع لها قداسة خاصة؛ لأنها تنبثق أو تتفتح انفتاحا خالصا حين تتيح للظاهر أن يظهر، وكذلك تعني «زامينيس» (شديد جدا) ذلك الذي يتيح للعاصفة بكل شدتها وعنفوانها أن تنفتح وتنبثق في تمام ماهيتها.
إن السابقة «زا» تعني إتاحة الانبثاق والانفتاح الخالص من خلال الألوان المختلفة للظهور والإطلال والنفاذ والحضور ومن أجلها جميعا، والفعل «زين» (الحياة) يصف الانفتاح في النور كما يقول هوميروس: «الحياة، أي رؤية نور الشمس»
81
والكلمات اليونانية التي تعني «الحياة»، والعمر، والكائن الحي
82
كلمات لا يجوز لنا أن نفهمها من الناحية الزيولوجية (الحيوانية) ولا من الناحية البيولوجية (الحيوية) بمعناها الواسع، والمعنى الذي تقصده اللغة اليونانية بالكائن الحي بعيد كل البعد عن المعنى البيولوجي للحيوان، حتى لقد استطاع اليونان أن يصفوا آلهتهم بأنها «كائنات حية»،
83
ما السبب في هذا؟ إن (وصفهم للآلهة) بالمطلين يعني أنها تنفتح أو تنبثق بحيث تمكن رؤيتها، وأنهم ينظرون للآلهة نظرة مختلفة عن نظرتهم للحيوانات، ويجربونها كذلك تجربة مختلفة، ولكن الحيوان ينتمي للحياة (زين) انتماء من نوع خاص، وانفتاح الحيوان على ما هو حر يظل - على نحو مثير للغرابة ومعقد معا - أمرا مقيدا مغلقا على ذاته، والتكشف والتحجب كلاهما متحد في الحيوان على نحو يجعل من المتعذر على تفسيرنا البشري أن يجد له طريقا (ينفذ منه إليه)، وذلك بمجرد أن يصر على تجنب التفسير الميكانيكي للحيوان - وهو تفسير ممكن دائما - إصراره على تجنب كل تفسير يحمل طابع النزعة التشبيهية بالإنسان، ولما كان الحيوان لا يتكلم، فإن للتكشف والتحجب بالإضافة إلى اتحادهما في (طبيعة) الحيوانات، حياة من نوع مختلف تمام الاختلاف.
84
ومع هذا كله فإن زوئي (الحياة) وفيزيس تدلان على شيء واحد بعينه: فكلمة «آئي زوئون» (الدائم الحياة) تفيد «أئي-فيئون» (الدائم النمو) كما تفيد «تو-مي-دينون- بوتي»
85 (الذي لا يغيب أبدا).
إن كلمة «آئي-زئون» (الدائم الحياة) في الشذرة «30» السالفة الذكر يأتي بعد كلمة «بير» (النار)، وهي لا ترد فيها باعتبارها كلمة تدل على صفة، بل باعتبارها اسما يمهد للتعبير عن الطريقة التي ينبغي أن تفهم بها النار، أي من حيث هي انبثاق أو انفتاح دائم.
إن هيراقليطس يستخدم كلمة «النار» للدلالة على ذلك «الذي لم يوجده أحد من الآلهة ولا من البشر»، أي ذلك الذي كان دائما قبل الآلهة والبشر ولم يزل يقوم في ذاته وبالنسبة لهم «كفيزيس»، وبهذا يؤمن كل حضور ويصونه، ولكن المقصود بهذا الحضور هو «الكوزموس»
86
ونحن في العادة نترجم الكلمة الأخيرة «بالعالم» ونظل نفكر فيها تبعا لذلك تفكيرا بعيدا عن الصواب كلما قصرنا تصورنا للعالم على التصور الكوزمولوجي (الكوني) أو قصرناه في المقام الأول على مفهوم الفلسفة الطبيعية منه.
العالم نار دائمة، وانفتاح وانبثاق دائم بكل ما لكلمة «الفيزيس» من معنى، وإذا كنا نتحدث هنا عن حريق أبدي يلتهم العالم، فلا يجوز لنا أن نذهب إلى تصور قائم بذاته، ثم نتصور أن هناك حريقا شب فيه وأتى عليه، فالواقع أن العالم، و«النار» و«الحياة الدائمة»، و«الذي لا يغيب أبدا»،
87
تعبر جميعا عن نفس الشيء؛ ولهذا فإن ماهية النار التي يفكر فيها هيراقليطس ليست بالوضوح المباشر الذي توحي لنا به رؤية اللهب المستعر، ويكفي أن ننتبه إلى المعاني المختلفة التي تستخدم بها كلمة «بير» (النار) مما يمكنها من الإشارة إلى الماهية الكاملة لذلك الذي تلمح به هذه الكلمة على لسان المفكر الذي نطق بها.
إن كلمة «بير » (النار) صفة تطلق على نار الأضحية، ونار الموقد، ونار الحراسة، كما تطلق أيضا على ضوء المشاعل، وبريق الكواكب والنجوم، في النار تكمن الإنارة، والاشتعال والتوهج، والنور الهادئ الذي ينشر أشعته الساطعة على الفضاء «الرحب»، في «النار» يكمن كذلك الدمار، والاضطرام، والإعاقة، والانطفاء، وهيراقليطس حين يتكلم عن النار يفكر قبل كل شيء في الإضاءة،
88
كما يفكر في الإشارة الهادية
89
التي تقدم المقياس وتسترده، وقد اكتشف كارل رينهارت
90
إحدى شذرات هيراقليطس في كتابات هيبوليتوس،
91
وأثبت صحة نسبتها إليه وبين أن النار (تو-بير) عنده تدل في نفس الوقت على معنى المتفكر
92 (تو-فرونيمون) الذي يهدي كل إنسان إلى الطريق ويدل كل شيء على مكانه، هذه النار المتفكرة الهادية تجمع كل شيء وتؤمن ماهيته وتحفظها عليه، وهذه النار المتفكرة هي التجميع الذي يهيئ تحقق الماهية ويقدمه، إن النار (بير) هي التجميع (اللوجوس)
93
وتفكيرها هو القلب، أي هو رحابة العالم التي «تنشر» الضوء والأمن، وهكذا نجد هيراقليطس يستخدم أسماء متنوعة للدلالة على الماهية الكامنة لشيء واحد بعينه، وهذه الأسماء هي فيزيس (الانبثاق أو الانفتاح)، بير (النار)، لوجوس (التجميع)، هارمونيا (التجانس والانسجام)، بولميوس (الحرب والشقاق)، أريس (النزاع) فيليا (المحبة)، هين (الواحد).
94
من هنا تأتي البنية اللغوية التي تبدأ بها الشذرة «16» وتعود إليهما، ألا وهي «تو-مي-دينون-بوتي» أي ذلك الذي لا يغيب ولا يهوي أبدا، وينبغي علينا أن نستشف المعنى الذي تصفه هذه البنية اللغوية وأن نتسمع صوته عن طريق الإنصات إلى الكلمات الأساسية المعبرة عن تفكير هيراقليطس.
هكذا تبين لنا أن عدم الدخول أبدا في الاحتجاب
95
هو الانفتاح أو الانبثاق الدائم من (طيات) التحجب، على هذه الصورة تتوهج نار العالم
96
وتظهر وتتفكر، ولو تفكرنا فيها باعتبارها الإنارة الخالصة لوجدنا أن هذه الإنارة لا تأتي معها بالضوء الساطع فحسب، وإنما تؤدي كذلك إلى الانفتاح الحر الذي يظهر كل شيء بما في ذلك ضده، بهذا تزيد الإنارة عن مجرد إلقاء الضوء الساطع، كما تزيد أيضا عن إتاحة الحرية، إن الإنارة هي «القوة» المتفكرة المجمعة التي تهيئ للانفتاح الحر، هي ضمان الحضور (أو كينونة الكائن ووجوده وتحقق ماهيته).
إن حدث الإنارة هو العالم، والإنارة المتفكرة المجمعة التي تهيئ للانفتاح الحر هي (عملية) كشف، كما أنها تقوم على التحجب الذي ينتمي إليه ذلك الذي يجد ماهيته في الكشف، ولهذا السبب لا يمكن أبدا أن يصبح مجرد تلاش في الاحتجاب، ولا أن يصبح غيابا (وهويا). «كيف يتسنى لأحد أن يبقى محجبا؟»
97
هكذا تسأل عبارة هيراقليطس مشيرة بذلك إلى الجزء الأول منها الذي يسبق هذا السؤال - ويقع في حالة المفعول - وهو «ذلك الذي لا يغيب أبدا»، ونحن نترجم العبارة - مستخدمين حالة الجر - بقولنا: «كيف يتسنى لأحد أن يبقى محتجبا عنها - أي عن الإنارة؟» وطريقة السؤال تستبعد مثل هذه الإمكانية دون تقديم مبرر لهذا الاستبعاد، لا بد إذن أن يقوم هذا المبرر في المسئول نفسه، والواقع أننا على وشك العثور على هذا المبرر، فلما كان ذلك الذي لا يغيب أبدا، أي لما كانت الإنارة ترى كل شيء وتلاحظ كل شيء، فمن المستحيل أن يتخفى عنها شيء، ولكن العبارة لا تذكر شيئا عن الرؤية والملاحظة، وأهم من ذلك أنها لا تقول: «كيف يتسنى لشيء «ما»؟» بل تقول: «كيف يتسنى لأحد ...؟»
إن الإنارة - وفقا لما تقوله العبارة - لا تتعلق بأي كائن (يحضر في ماهيته) كيفما اتفق، ولكن من هو المقصود «بالأحد» (تيس)؟
98
أقرب ما يخطر على البال هو الإنسان، لا سيما أن السؤال موجه من بشر فان إلى بشر، ومع هذا فإن الذي يتحدث هنا مفكر، وهو الإضافة إلى هذا مفكر يعيش بالقرب من أبوللون وأرتيميس،
99
ولهذا يمكن أن تكون عبارته حوارا مع المطلين (من عليائهم)، وأن تقصد الآلهة فيمن تقصدهم بالأحد (تيس)، ومما يغلب هذا الظن أن الشذرة «30» تقول «لم يوجده أحد من الآلهة ولا من البشر»، كما أن الشذرة «53» - التي يرد ذكرها في أغلب الأحيان في صورة ناقصة - تسمي الخالدين والفانين معا حين تقول: إن التفريق «بوليموس»
100 (أي الإنارة) يظهر بعض الحضور
101
على صورة الآلهة، وبعضهم الآخر على صورة البشر ، ويجعل من بعضهم عبيدا، ومن بعضهم الآخر أحرارا»، معنى هذا أن الإنارة الدائمة تجعل الآلهة والبشر يكونون
102
في اللاتحجب، بحيث لن يسع أحدا منهم أن يبقى محتجبا، وليس السبب في هذا أن هناك أحدا يمكن أن نلاحظه، بل السبب فيه هو مجرد كينونة (أو حضور) كل منهم، ومع ذلك تظل كينونة (حضور) الآلهة مختلفة عن كينونة (حضور) البشر، فأولئك - باعتبارهم آلهة مشاهدين - هم المطلون (من عليائهم) في نور ذلك الذي يتيح الكينونة، والذي يتجه نحوه الفانون على طريقتهم، وذلك عندما يدعونه يوجد في كينونته ويركزون عليه انتباههم.
ويتبين لنا مما سبق أن الإنارة ليست مجرد بهر وإضاءة، فلما كانت الكينونة سيرا متصلا
103
من التحجب إلى التكشف، فإن الإنارة الكاشفة-الحاجبة تعود على كينونة الكائن،
104
ولكن الشذرة «16» لا تتحدث عن كل شيء أو أي شيء
105
يمكن أن يكون، وإنما تتحدث بوضوح عن ذلك الذي يقوم ضمنا باسترداد ذلك الكائن أيضا والاحتفاظ به، حتى ولو لم يكن (ذلك الذي تتساءل عنه) من القوة والغلبة بحيث يحسب بين الآلهة والبشر، وإن لم يمنع هذا من أن يكون بمعنى آخر إلهيا وبشريا، وأن يضم النبات والحيوان والجبال والبحار والنجوم؟ وما الذي يمكن أن يستند إليه تميز الآلهة والبشر إن لم يستند إلى أنها بالذات لن تستطيع أبدا أن تبقى محتجبة عن الإنارة؟ ولماذا تعجز عن هذا؟ لأن علاقتها بالإنارة ليست سوى الإنارة نفسها، من حيث إن هذه تجمع الآلهة والبشر في الإنارة وتحافظ عليها فيها.
إن الإنارة لا تقتصر على إضاءة الكائن، وإنما هي قبل ذلك تجمعه وتؤمنه في الكينونة، ولكن ما هو نوع كينونة الآلهة والبشر؟ إنهم لا يستضيئون بالإنارة فحسب، بل يستمدون منها النور ومن أجلها يستنيرون، بهذا يتمكنون من تحقيق الإنارة على طريقتهم (أي يمكنونها من تحقيق ماهيتها كاملة) وبهذا أيضا يرعون الإنارة ويحرسونها، إن الآلهة والبشر لا يستضيئون فحسب بنور (معين)، مهما يكن هذا النور آتيا من أعلى،
106
بحيث لا يمكنهم أبدا أن يتخفوا منه ويلوذوا بالظلام، إن النور يغمر ماهيتهم، إنهم مستنيرون، أي مجمعون في حدث الإنارة؛ ولهذا السبب فهم لا يحجبون أبدا، بل يكشفون، على أن نفهم هذا الكشف
107
بمعنى مغاير، فكما ينتمي البعيدون إلى البعد، كذلك يعهد بالمتكشفين - بالمعنى الذي ينبغي الآن أن نفهم به الكشف - إلى الإنارة التي تؤمنهم وتحفظهم وترعاهم، إنهم - بحسب ما تقضي به ماهيتهم - موضوعون في خفاء السر وتحجبه، مجمعون، بسبب ارتباطهم باللوجوس،
108
في التجانس الذي يؤلف بينهم أو «الهومولوجين»
109
الذي تتحدث عنه الشذرة «50».
هل كان هيراقليطس يقصد بسؤاله هذا المعنى الذي شرحناه؟ وهل يتصل ما قلناه في هذا الشرح بمجال تصوره؟ من ذا الذي يستطيع أن يعرف هذا أو يؤكده؟ ومع ذلك وبصرف النظر عن مجال التصور القديم الذي كان يعيش فيه هيراقليطس، فلعل العبارة تريد أن تقول ما قلناه في الشرح الذي حاولنا تقديمه، إن العبارة لتقوله، بشرط أن يتيسر الحوار الفكري الذي يستحثها على القول، وهي تقوله وتتركه في نفس الوقت دون أن يقال،
110
إن الطرق المؤدية إلى منطقة «ما لا يقال» تظل في الواقع أسئلة تقتصر دائما على ما يبدو لها منذ القدم في صور عديدة من الخفاء والغموض.
وإذا كان هيراقليطس يتفكر في الإنارة الكاشفة-الحاجبة - أي في نار العالم - من خلال علاقتها المستترة بأولئك الذين يعتبرون بحسب ماهيتهم مستنيرين؛ ولذلك أيضا يعتبرون المنتمين إلى الإنارة المنتبهين
111
لها بالمعنى المتميز للانتماء والانتباه، إذا كان هذا كذلك فإن طابع السؤال الغالب على العبارة يوحي به ويشير إليه.
ترى هل تنطلق العبارة من تجربة فكرية تحمل بالفعل كل خطوة من خطوات الفكر؟ أيريد سؤال هيراقليطس أن يقتصر على القول بأنه لا يمكن أن تقف علاقة نار العالم بالآلهة والبشر عند انتماء هؤلاء للإنارة بحكم كونهم مستنيرين ومنظورين،
112
بل ينبغي أن تكون علاقتها بهم من جهة أنهم هم المستترون
113
الذين يشاركون - على طريقتهم - في جلب النور وصونه والحفاظ عليه وتأريثه؟
إن صح الفرض الأخير جاز القول بأن العبارة المتسائلة تفصح عن الاندهاش الفكري الذي يهيئ العلاقة التي تستطيع الإنارة من خلالها أن تسترد ماهية الآلهة والبشر وتحتويها وتضمها إليها، وفي هذه الحالة يمكننا القول بأن التعبير المتسائل (على لسان هيراقليطس) متفق مع ما كان منذ القدم جديرا بالاندهاش الفكري وما يحافظ بفضل هذا الاندهاش على جدارته وقيمته.
ليس من المستطاع تقدير مدى إحساس تفكير هيراقليطس بمجال المجالات ولا درجة وضوحه، ومع ذلك فليس من شك في أن العبارة تتحرك في مجال الإنارة، وتتأكد (هذه الحقيقة) إذا تبينا أن بداية السؤال ونهايته تذكر الكشف والحجب، وبخاصة من ناحية العلاقة التي تربط بينهما، ولسنا في حاجة للتنبيه إلى الشذرة «50» التي تنص على التجميع الكاشف- الحاجب، الذي يخاطب الفانين بالأسلوب الذي يجعل ماهيتهم تتفتح من خلال توافقهم مع «اللوجوس» أو عدم توافقهم معه.
ما أيسر أن نبادر إلى الظن بأن سر ذلك الذي ينبغي التفكير فيه مخبوء ومطمور في طوايا الكتمان، ولكن الواقع أن مكان ماهيته «يقع» في القرب الذي يقرب كل كينونة
114
ويصون كل قريب، إن كينونة القرب
115
لشديدة القرب من تصورنا المعتاد - الذي ينصرف إلى الكائن وينشغل بأحواله - إلى الحد الذي لا يسمح لنا بأن نجرب تمكن
116
القرب أو نفكر فيه بصورة كافية دون تهيؤ واستعداد سابق، ويحتمل ألا يكون السر، الذي يصدر نداؤه عن ذلك الذي ينبغي التفكير فيه، شيئا آخر غير كينونة ما نحاول الإشارة إليه تحت «الإنارة»؛ ولهذا يعبر الظن اليومي (المعتاد) بالسر في ثقة وعناد، ولقد عرف هيراقليطس هذا، فالشذرة «72» من شذراته الباقية تقول: «إنهم يختلفون (أو ينقسمون ويتنازعون) حول اللوجوس الذي (يتجهون إليه) ويتعاملون معه أكثر من غيره، وهكذا يتبين أن ذلك الذي يلتقون به كل يوم تظل (كينونته) أمرا غريبا بالنسبة لهم.»
117
إن الفانين يتجهون دائما إلى التجميع الكاشف-الحاجب الذي ينير كل كائن في كينونته، بيد أنهم ينصرفون عن الإنارة ولا يتجهون إلا إلى الكائن الذي يلتقون به في تعاملهم اليومي مع كافة الأشياء التقاء مباشرا، إنهم يحسبون أن تعاملهم هذا مع الكائن ييسر لهم الألفة المعقولة،
118
وكأن هذا شيء يصدر (تلقائيا) عن طبيعته، غير أنه يظل غريبا بالنسبة إليهم، ذلك أنهم لا يدرون شيئا عن ذلك الذي عهد بهم إليه، أي لا يدرون شيئا عن الكينونة
119
التي يرجع لنورها الفضل في إظهار الكائن، إن «اللوجوس»
120
الذي يذهبون ويقفون في ضوء إنارته يبقى محتجبا عنهم، ويظل منسيا منهم.
وكلما ازدادوا معرفة بكل ما من شأنه أن يعرف، ازدادت غرابته في نظرهم دون أن يدروا، ولربما انتبهوا إلى هذا لو أمكنهم أن يطرحوا هذا السؤال: كيف يتسنى لمن تنتمي ماهيته للإنارة أن يمنع نفسه عن استقبال الإنارة ورعايتها؟ وكيف يتسنى له أن يفعل هذا بغير أن يجرب على الفور أن اليومي (الشائع المألوف) لا يمكن أن يصبح أكثر الأمور شيوعا إلا لأن هذا الشيوع يظل مدينا لنسيان ذلك الذي يستطيع وحده أن يظهر ما يبدو أنه معروف من نفسه في نور الكائن؟
121
إن الظن اليومي الشائع يلتمس الحق في «الأشياء» المتنوعة الدائمة التجدد
122
التي يراها متناثرة أمامه، إنه لا يرى البريق الهادئ (الذهب) الذي يشع من السر الذي يتجلى على الدوام في بساطة الإنارة.
ويقول هيراقليطس (في الشذرة التاسعة): «إن الحمير لتؤثر القش والتبن على الذهب.»
123
بيد أن الإشعاع الذهبي الذي ينبعث عن التجلي المستور
124
للإنارة لا يمكن الإمساك به، وإنما هو حدث خالص، إن التجلي المستور للإنارة يفيض عن التحجب المبارك الكامن في رعاية القدر وحفظه، لهذا فإن تجلي الإنارة في ذاته هو في نفس الوقت التحجب، وهو بهذا المعنى أكثر الأشياء غموضا وأشدها ظلاما.
يوصف هيراقليطس بأنه المظلم،
125
وسوف يحتفظ في المستقبل بهذا الاسم، غير أنه هو المظلم؛ لأنه - بالسؤال - يتجه بفكره نحو الإنارة.
أهم المصادر
Heidegger, Martin :
Sein und Zeit. Achte unveranderte Auflage. Tübingen, Max Neimeyer Verlag, 1957.
Heidegger, Martin :
Holzwege. Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann, 1952.
Heidegger, Martin :
Vorträge und Aufsätze. Pfullingen, Günther Neske, 1954.
Heidegger, Martin :
Von Wesen der Wahrheit. Frankfurt am Main, Vittorio Klostermann, 1957.
Heidegger, Martin :
Heidegger, Martin :
Unterwegs zur Sprache. Pfullingen, 1959.
Heidegger, Martin :
De l’essence de la vérité. Trad. française par A. de Waelbene et Walter Biemel, Paris, P.U.F., 1952.
Biemel, Walter :
Martin Heidegger, Rowohlts Monographien, Hamburg, Rowohlt, 1973.
Siegmuller, Wolfgang :
Hauptströmungen der Gegenwartsphilosophie. Stuttgart, A. Kroner Verlag, 1959, 2. 135-194.
ريجيس جوليفيه:
المذاهب الوجودية من كيركجورد إلى نيتشه، ترجمة المرحوم فؤاد كامل، القاهرة، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1966م.
فؤاد زكريا:
مشكلة الحقيقة (رسالة دكتوراه، النسخة الإنجليزية التي لم تنشر بعد).
عبد الرحمن بدوي:
الزمان الوجودي، القاهرة، النهضة المصرية، الطبعة الثانية، 1954م.
زكريا إبراهيم:
دراسات في الفلسفة المعاصرة، القاهرة، مكتبة مصر، الطبعة الأولى، 1968م.
زكريا إبراهيم:
فلسفة الفن في الفكر المعاصر، القاهرة ، مكتبة مصر.
نظمي لوقا:
الحقيقة، تناول فلسفي، القاهرة، عالم الكتب، 1972م.
يحيى هودي:
دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، القاهرة، دار النهضة العربية 1968م.
Page inconnue