L'Appel de la Vérité
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Genres
هذا العلو قانون أساسي من قوانين وجوده المرتبط بالمستقبل على نحو ما سنرى بعد، ومع هذا فنحن نفتقد لديه العلو ذا «البعد الرأسي» إن صح هذا التعبير، الذي نجده عند أفلوطين أو عند فيلسوف معاصر مثل ياسبرز أو عند تلميذه - أقصد هيدجر - وهو فلفجانج شتروفه.
2
وأعتقد - إن لم أكن مخطئا - أن هذا «العلو الرأسي» الذي يتجه بالإنسان إلى الحقيقة العالية كان خليقا بأن يخفف من وطأة القتامة والجهامة والمأساوية التي تشيع في عالمه.
أضف إلى هذا أننا نظلمه من ناحيتين: إذا وصفناه بأنه ممثل الجناح «الملحد» من فلسفة الوجود، كما هي العادة في معظم ما يكتب عنه في العربية، وإذا دمغنا فلسفته بالإستاتيكية أو السكون والسلبية، كما يذهب أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي مثلا،
3
فهيدجر نفسه يرفض أن توصف فلسفته بالإلحاد، وينكر هذه الكلمة الفظيعة كل الإنكار، بل إنه ليصرح في بعض أحاديثه بأن فكره يهيئ «بعد القداسة» الذي يجب أن يسبق كل حديث عن الله أو عن الدين، والمتأمل لفلسفته لن يخطئ فيها تأثير الأفلاطونية الحديثة وأوغسطين والعصر الوسيط وباسكال وهامان وهيردر وكيركجور، وإذا كان قد حرص دائما على البعد عن الدين، فإنه لم يغلق باب الحوار بينه وبين رجال اللاهوت المسيحي - لا سيما البروستنتيين منهم - الذين أفادوا من كثير من جوانب فلسفته، ولو أمعنت النظر في فلسفة الوجود عنده وعند غيره للمست تأثير التصورات الدينية عليها بصورة لا يمكن أن تخطئها العين، ألا يذكرك وصفه الإنسان بأنه الموجود الذي يهتم بوجوده وكلامه عن الهم والقلق وحرصه على تحقيق الوجود الأصيل؛ بما تسعى إليه الأديان من الخلاص والنجاة؟ ألا تلمس في تحليلاته للذنب والضمير أصداء بعيدة من الخطيئة الأولى؟ صحيح أنها قد اجتثت من جذورها الدينية الأصلية ودخلت في سياق التفسير «المباطن» البعيد عن كل حقيقة عالية، ولكنها لا تزال مع ذلك تفوح برائحة العاطفة الدينية الحارة، وإن تكن عاطفة متدين عنيد! (4)
لا شك بأننا نميل بطبعنا إلى تصنيف الناس ووضعهم في «خانات»، وهذا يريحنا منهم إلى حد كبير! فإذا عرفت أن هذا الرجل «ماركسي» أو «وجودي» أو «تقدمي» أو «رجعي» أو «عدمي» أو «واقعي» أو «رومانتيكي» أمكنك بعد ذلك أن تحبسه في سجن محدد لا يخرج منه أبدا! هذا - كما تعلم - هو الاتجاه الغالب عندنا على صغار النقاد والكتاب الذين يملئون حياتنا صياحا وثرثرة وشوشرة، ويقذفون الناس بأحجار الشعارات والمصطلحات التي لم يحاولوا تمثلها والتساؤل عن أساسها ومصدرها وسياقها في تاريخ الأدب والفكر والحياة، ولن تعدم أيضا أمثال هؤلاء في الغرب، وإن كانوا بطبيعة الحال أكثر علما ووعيا وأشد بعدا عن التظاهر والضجيج والدجل، فكم من ناقد أو شارح اتهم هيدجر بالعدمية واللامعقولية، بل اتهمه بالرجعية وبتأييد الإمبريالية والرأسمالية، وحمله مسئولية أي حرب ذرية مقبلة ستحقق الموت والعدم الذي طالما تغنى به!
وقد تسأل - إن كنت من المغرمين بالتصنيفات - ألم يكن الأولى بهيدجر أن يطلق على بحثه في الوجود الإنساني اسم «الأنثروبولوجيا» بدلا من «الأنطولوجيا الأساسية»، ما دام يبدؤه في كتابه الأكبر «الوجود والزمان» من الإنسان، ولا يتجاوز دائرته «على الأقل في المرحلة الأولى من تفكيره»، وما دام يعرف الإنسان بأنه هو الموجود الذي يهتم بوجوده، أو بالأحرى بإمكان وجوده؟ ولكنك في هذه الحالة تنسى السؤال الأساسي الذي انطلق منه وهو السؤال عن معنى الوجود، وتنسى أن بحثه في الوجود الإنساني وبنيته وأحواله ومسلكه من العالم المحيط به لم يكن سوى معبر إلى ذلك السؤال، لم يكن الإنسان بما هو إنسان - كما هو الحال في الأنثروبولوجيا - هو موضوع هذا البحث، بل كان وسيلة للوصول إلى تصور واف عن الوجود؛ ولهذا كان سؤاله: هل هناك طريق يؤدي من تناهي الإنسان إلى الوجود؟ وظل موقف هيدجر من هذه المشكلة موقفا نظريا، على العكس من باسبرز الذي أكد أهمية الجانب العملي في الوصول إلى تحقيق الوجود الذاتي، بينما تركه هيدجر مسألة خاصة بالإنسان الفرد نفسه يحدده بنفسه في المواقف التي تواجهه.
وقد تسأل أيضا: إذا كانت فلسفة هيدجر قد تناولت عددا كبيرا من الظواهر والوقائع «اللامعقولة» التي لم تنتبه إليها الميتافيزيقا التقليدية، وعبر عنها كيركجور كما عبرت عنها فلسفة الحياة في صورة تتسم بالمفارقة التي ما لبثت أن رفضت بدعوى أنها غير علمية - إذا كانت قد تناولت هذه الوقائع وأضفت عليها الطابع الأنطولوجي والظاهراتي، فهل تكون فلسفته عقلانية أم لاعقلانية (صوفية)؟ والجواب على هذا أنه يشجب كلا الموقفين الأحاديين؛ فالعقلانية في رأيه «بلا قوة» والصوفية «بلا هدف»، ولهذا فمن التجني عليه أن تسمي فلسفته عقلانية أو لاعقلانية لأنها تنفذ إلى طبقات أعمق لا تعرف عنها هذه المواقف الأحادية شيئا؛ ولهذا أيضا نجد لديه هذه العبارة الجديرة بالالتفات: «إن النزعة اللاعقلانية - بوصفها الطرف المقابل للعقلانية - لا تتحدث إلا كحديث الأحول عما تعمى عنه النزعة العقلانية!».
4
Page inconnue