وكانت نجران تحت حكم بني الحارث لما قصدها ذو نواس ملك حمير اليهودي فافتتحها وامتحن أهلها بأخاديد النار فمات منهم عدد دثر مفضلين الموت الأحمر على جحود الدين، وبعد ظفر الحبش بذي نواس عاد بنو الحارث بن كعب إلى أمرة نجران وكان من أشرافهم بنو عبد المدان بن الديان لذي شادو كعبة نجران وكنيستها المعروفة بالقليس التي أفاض الكتبة في وصف محاسنها كما رأيت في الباب المختص بنصرانية أهل اليمن، وبقي بنو الحارث بن كعب على نصرانيتهم بعد ظهور الإسلام كما يؤخذ من كتاب الوفادات لابن سعد (Wellhausen، Skizzen،IV،٨) حيث صالحهم نبي المسلمين على شروط عددها هناك ولم ينبذوا دينهم، ومما رأيناه في أحد المخططات مكتبة قديمة في حلب منسوبًا إلى شاعر بني الحارث الأبيات الآتية الشهيرة إلى دينهم القويم:
ألا أننا من معشر سبقت لهم ... أيادي من الحسنى فعرفوا من الجهلِ
ولم ينظروا يومًا إلى ذات محرمٍ ... ولا عرفوا إلا التقية في الفعل
وفينا من التوحيد والعقل شاهدٌ ... عرفناه والتوحيد يعرف بالعقل
نعاينٌ من فوق السماوات كلها ... معاينة الأشخاص بالجوهر المجلي
ونعلم ما كنا ومن أين بدؤنا ... وما نحن بالتصوير في عالم الشكل
وإنَّا وإن كنّا على مركبة الثرى ... فأرماحنا في عالم النور تستعلي
وما صعدت لم تختبره وإنَّما ... رأت ذاتها بالنور في العالم العقلي
فلم ترض بالدنيا مقامًا فأثرت ... حقيقة ممثولٍ وجلَّت عن المثل
١٧ "حمير" أخبار تنصرها مرت في باب النصرانية في اليمن فعليك بها، وزد عليها نصوصنا في قول الفيروزآبادي: "أن كثير من ملوك اليمن والحيرة تنصروا".
١٨ "حنيفة" بنو حنيفة بطن كبير من بكر بن وائل كانوا يسكنون اليمامة وقد مر ذكر تنصرهم في أثناء ذكر "النصرانية في حضرموت وعمان واليمامة والبحرين" وفندنا هناك ما روي عن عبادتهم لصنم من عجين بل وجدنا في ذلك الهجو دليلًا على نصرانيتهم إشارة إلى القربان الأقدس، ومثله قول الآخر:
أكلت ربها حنيفُ من جو ... عٍ قدمٍ ومن أعواز
ومن حنفة كان هوذة بن علي المعروف بذي التاج ملك اليمامة الذي مر ذكره.
ومنهم كان مسليمة بن حبيب الذي ناصب محمدًا وتبعه أهل اليمامة واستفحل أمره وكاد يظهر على الإسلام لولا خالد بن الوليد اتلذي غلبه وقتله، ومما يدل على نصرانية بني حنيفة ما ذكره ابن سعد في كتاب الوفادات (Wellhausen،p.٤٦) .
حيث روى خبر وفودهم على محمد إلى أن قال: "أعطاهم رسول الله أداوةً من ماء فيه فضل طهوره فقال: إذا قدمتم بلدكم اكسروا بيعتكم وانضحوا مكانها بهذا الماء واتخذوا مكانها مسجدًا ففعلوا" ثم يذكر أن "راهب البيعة هرب فكان آخر العهد به" فذكره لبيعة بني حنيفة وراهبها دلل ساطع على نصرانيتهنم.
١٩ "الخزرج" بنو الخزرج كبني الأوس كانوا يسكنون المدينة ويعدون من أهل الكتاب أي النصارى (يراجع ما سبق عن النصرانية في المدينة) .
٢٠ "ربيعة" هو اسم يطلق على قبائل العديد المنتسبة إلى ربيعة بن نزار وهي أكبر قسم من القبائل العدنانية الأربع أعني إنمار وإياد وربيعة ومضر، وقد انتشرت النصرانية في ربيعة حتى أوشكت تشمل كل بطونها وفروعها فترى من ثم كتبه العرب إذا ذكروا النصرانية في الجاهلية جعلوها خصوصًا في ربيعة فقال الفيروزآبادي: "وكانت النصرانية في ربيعة" وشهد بذلك قبله ابن قتيبة في المعارف (ص٣٠٥ من طبعة مصر) وابن رسته في الأعلاق النفسية (ص٢١٧) والقاضي ابن صاعد في كتاب الأمم (ص٣٤ من طبعتنا) وغيرهم كثيرون.
فقولهم "أن النصرانية كانت في ربيعة" بإطلاقه يدل تعلى أن هذا الدين كان الغالب عليهم على اختلا قبائلهم، ويؤيد ذلك ما رويناه عن نصرانية أعظم قبائل ربيعة كبكر وتغلب وامرئ القيس وحنيفة وشيبان الخ، فناهيك بذلك شاهدًا على شيوع النصرانية بين العرب.
1 / 57