قال ارنوبيوس في القرن الثالث للمسيح يذكر الشعوب الوثنية التي بشّر بينها الرسل فأنشئت الكنائس لمن تنصّر منهم (ك٢ ف٥ و١٢): "انظر العجائب التي جرت في أنحاء المعمورة منذ ظهور المسيح حتى أنه لا يكاد يوجد الآن أمّة عريقة بالهمجية إلّا لطّفت خشونتها محبّة به واخضعت عقلها للإيمان بتعاليمه فاتفقت على ذلك أجيال الناس المتباينة المختلفة طباعًا وآدابًا. ومما نقدر أن نحصيه من هذه الشعوب أهل الهند والصين والفرس والماديين والذين يسكنون في بلاد العرب ومصر وجهات آسية وسوريا. وفي كل الجزائر والأقاليم".فترى أنه أحصى بلاد العرب في جملة دان للمسيح في ذلك العهد. وقد ذكرهم المؤرخ سوزمان (PP.GG.T، ٦٧، ١٤٧٦) في القرن الرابع وأفاد "أن بعض قرى العرب ودسا كرههم يوجد فيها أساقفة". وكذلك صرّح بذكرهم تاودوريطس في القرن الخامس في كتابه المعروف بدواء اضاليل اليونان (PP. GG. T، ٨٨، P. ١٠٣٧) قال: "ليس فقط قد خضعت للمسيح الأمم الخاضعة لشرائع الرومان كالحبش المتخمين لتيبة وقبائل الاسماعليين ... بل غيرهم من الأمم احنوا رؤوسهم لتعاليم الصيادين وشرائع الإنجيل كالسرماتيين والهنود والعجم والصينيين (Serae) والبريطانيين والجرمانيين". وقال مثل ذلك في محل آخر في كتابة المسمى التاريخ الرهباني (PP. GG. T،. ٨٢، P. ١٤٧١) .
الباب الثاني النصرانية بين عرب الشام إذا نظرت في خارطة إلى بحر الشام وحدّدت مدينتيه الساحليتين طرابلس شمالًا وعكّا جنوبًا ثم سرت منها على خطّين متوازيين على الشرق بلغ بك المسير بعد مرحلتين من طرابلس وثلاث إلى أربع مراحل من عكّا إلى مفارز متّسعة تمتد على مدى البصر إلى جهة تدمر فالفرات شمالًا وإلى مشارف الشام فاللجا وتلال الصفا حتى جبال حوران وسهول البلقان جنوبًا فكل تلك النواحي الرحبة الأرجاء التي تقيس نحو أربعمائة كيلو متر طولًا مثلها عرضًا تعرف اليوم ببادية الشام.
ولم تكن هذه البادية في سالف الأجيال قفرة قليلة السكان لا تكاد تجد فيها كاليوم غير قرى معدودة أو بعض أحياء البدو الذين يتنقلون فيها مع مراشيهم انتجاعًا للمراعي. وإنما كانت بعد تملك الرومان عليها أوائل التاريخ المسيحي أصبحت كروضة غنّاء شيد فيها أصحابها المدن العامرة لسكنى الأهلين وابتنوا الحصون الحريزة تأمينًا للطرق وعزّزوا الزراعة والفلاحة وانبطوا الآبار وحفروا الصهاريج لجميع مياه الأمطار وخدّدوا القني لسقي المزروعات. والآثار الباقية من هذه الأعمال إلى يومان تنطق بعمر أن تلك الأصقاع وحضارتها الراقية.
أما سكّانها فكانوا من عناصر شتى بينهم الرومان المستعمرون لا سيما من الجنود الذين اتمّوا مدّة خدمتهم ثم جالية اليونان من بقايا الدول السابقة منذ عهد الاسكندر والسلوقيين ثم الوطنيّون والفنيقيّون الذين احتلوا تلك البلاد لاستثمارها والمتاجرة فيها وكانت تلك الانحاء أوفق ما يتمناه العرب لسكناهم فترى أهل الحضر منهم يسكنون القرى ويتعاطون اشغال الفلاحة. أما أهل الوبر فكانوا يرعون مواشيهم في الأرياف ويرتزقون بلحومها وألبانها وأصوافها. فيها عددهم حتى رسخت قدمهم وصارت إليهم الأمر.
1 / 5