الحجاز على مقتضى تعريف العرب جبل ممتد من تخوم صنعاء في اليمن إلى تخوم الشام من جنوب جزيرة العرب الشرقي إلى شمالها الغربي وقد دعي حجازًا لأنه يحجز غور تهامة على سواحل خليج العرب عن بلاد نجد في أواسط الجزيرة، ويدعى الحجاز أيضًا بجبل السراة وهو أعظم جبال العرب وفيه أشهر مدنهم أي مكة والمدينة وتدخل فيه دومة الجندل حتى أيلة على بحر القلزم التي نعتها ياقوت بآخر بلاد الحجاز فتلك البلاد كانت قديمًا عريقة في الوثنية ولاسيما في عبادة قوات الطبيعة وأخصها النيران العظيمان لشمس والقمر ثم الزهرة، على أن دعاة الدين المسيحي لم يحجموا عن دعوة أهلها إلى النصرانية كما تشهد عليه شواهد ثابتة نقلها قدماء الكتبة من يونان وسريان وعرب، وقد أثبتنا سابقًا شهادة ابن خلدون (ج٢ ص١٥٠ من تاريخه) في بعثة الرسول برتلماوس "إلى أرض العرب والجاز" وسبقه إلى مثل ذلك الطبري في تاريخه (طبعة ليدن ج١ ص٧٣٨) حيث قال: "وكان ممن توجه من الحواريين.. ابن تلما (أي رتلماوس) إلى العربية وهي أرض الحجاز".
وكذلك ورد في سرة الرسول لابن هشام (ص١٧٢، ed.Wustenfeld،): "وبعثت من الحواريين.. ابن تلما إلى الإعرابية وهي أرض الحجاز" وجاء في ترجمة القديس يعقوب أسقف أورشليم (ص١٧) أنه: "نصر أرض فلسطين وما يليها من ناحية حمص وقيسارية والسامرة وبادية الحجاز".
ث في تاريخ الطبري قصة ظريفة عن رسول السيد المسيح إلى العرب نرويها يجرفها دون القطع بصحتها قال (١: ٧٣٨ ٧٣٩): حدثنا ابن حميد.. عن أبي سليم الأنصاري ثم الزرقي قال: كان على امرأة منا نذر لتظهرن على رأس الجماء جبل بالعقيق من ناحية المدينة (قال) فظهر معها حتى إذا استوينا على رأس الجبل إذا قبر عظيم عليه حجران عظيمان حجر عند رأسه وحجر عند رجليه فيهما كتاب بالمسند لا أدري ما هو، فاحتملت الحجرين معي حتى إذا كنت ببعض الجبل منهبطًا ثقلًا علي فألقيت إحدهما وهبطت بالآخر فعرضته على أهل السريانية هل يعرفون كتابته فلم يعرفوه.
وعرضته على من يكتب بالزبور (أي العبرانية) من أهل اليمن ومن يكتب بالمسند فلم يعرفوه، فلما لم أجد أحدًا ممن يعرفه ألقيته تحت تابوت لنا فمكث سنين، ثم دخل علينا ناس من أهل ماه الفرس يبتغون (ويروي: يبيعون) الخر ز فقلت لهم: هل لكم من كتاب.
فقالوا: نعم فأخرجت إليهم الحجر فإذا هم يقرأونه فإذا هو بكتابتهم: "هذا قبر رسول الله عيسى بن مريم ﵇ إلى أهل هذه البلاد" فإذا هم كانوا أهلها في ذلك الزمان مات عندهم فدفنوه على رأس الجبل.
فهذه شهادة جليلة تشير إلى مجيء أحد رسل السيد المسيح إلى الحجاز قريبًا من المدينة، ومن عجيب أمر كاتبها أنه يعتبر كالنصارى "عيسى بن مريم" إلهًا ذا قرينة الكتابة تبين أن الرسول لمذكور ليس هو عيسى بل هو مرسل من "عيسى".
"إيلة" كما مر في طرف الحجاز من جهة الغرب كان أهلها قبل الإسلام نصارى ويهودًا، ولا يبعد أن النصرانية دخلت فيها بعد المسيح بزمن قليل لقربها من بلاد الشام وفلسطين، وما لا ينكر أن صاحبها كان نصرانيًا لما ظهر رسول العرب واسمه يوحنا بن رؤبة صالحة نبي الإسلام على جزية كانت تبلغ ٣٠ دينار وفي كتاب وفادات العرب على محمد لابن سعد (ed.wellhausen، skizze.iv،٢٧) ما حرفه: "قال وقدم يحنه بن رؤية على النبي وكان ملك إيلة.. وأقبل ومعه جرباء واذرح.
فأتوه فصالحهم وقطع عليهم جزية معلومة.. اخبر عبد الرحمن بن جابر عن أبيه قال: رأيت على يحنه بن رؤبة يوم أتى النبي صليبًا من ذهب وهو معقود الناصية فلما رأى رسول الله كفر وأومأ برأسه إليه النبي أن أرفع رأسك، وصالحه وكساه رسول الله برد يمنة..".
وجاء في كتاب التنبيه والإشراق للمسعودي (طبعة ليدن ص٢٧٣) أن "يحنة بن رؤبة كان أسقف إيلة وأنه قدم على محمد سنة ٩ لهجرة وهو في تبوك فصالحه على أن لكل حالمٍ بها دينارًا في السنة".
1 / 47