وذكر تلميذ انطون في سيرته أن أميرًا من امراء قبائل عرب الجزيرة دعاه مالكًا (Basilicus) قدم على القديس فوجد سمعان يصلي فوق موده فجثا تحته ينتظر نهاية صلاته ليطلب بركته وإذا بدودة كانت ترعى جسم القديس وكان يحتمل ذلك بصبر حبًا لله سقطت قالتقطها الأمير ليحفظها كتذكار وذخيرة. فلحظ سمعان فعل الأمير فصرخ إليه: انك بفعلك هذا ايها الرجل الشريف قد كدرتني فكيف تمس ما ينتثر من جسدي من القذر. ففتح الأمير يده وإذا بالدودة قد استحالت إلى درة ثمينة فاراها القديس وقال: ليست هذه دودة بل درة. فأجابه سمعان: على حسب ليمانك قد صنع بك الرب فلتكن يدك مباركة طول حياتك. وانطلق الأمير فرحًا على أن بعض أمراء العرب غير المنتصرين لم يرضوا بفعل رعاياهم وخروجهم إلى بلاد الرومان وتنصرهم على يد سمعان العمودي. ومما أخبر المؤرخ قزمًا الكاهن ان ملك الحيرة الذي دعاه بالنعمان وهو النعمان الأول الذي يلقبه العرب بالأعور لما استولى على ملك الحيرة بعد امرؤ القيس الثاني (نحو ٣٩٠ 'لى ٤٢٠) امتعض من رحلة أهل الحيرة إلى القديس سمعان فاعلن لامر ملكي أنه ينهي تحت عقاب الموت الخروج إلى زيادة السائح. فما انتشر هذا الخبر حتى استولى الخوف على رعاياه فرأوا أن الطاعة لهذا الحكم الظالم أولى من التعرض للموت الأحمر. إلا أن الملك لم يلبث أن ندم على ما فعل. ففي ذات الليلة التي وليت صدور الحكم ظهر له القديس في الحلم وفي يده سيف ومعه حمسة رجال لابسين ثيابًا بيضاء ناصعة فنظر إلى الملك شزرًا وبكته على فعله ثم أمر الرجال أن يربطوه ويجلدوه جلدًا مبرحًا دون أن يرثوا لعويله فلما يصير إلى التلف أمر بالكف عنه ثم سل السيف متهددًا وقال: "اياك اياك أن تعود إلى مثلها فبهذا السيف تقطع مفاصلك" فقام الملك وهو على آخر رمق ولما أصبح الصباح جمع حاشيته والغى حكمه أمامهم وحض شعبه أن يذهبوا إلى القديس كيفما شاؤوا. قال قزما المؤرخ: "وهذا الخبر رواه أحد قواد النعمان المسمى انطيوخس بن سالم وكان سمعه من فم النعمان ولما جاء ليزور القديس أخبر بما سمع أمام سمعان نفسه وأنا حاضر". وأردف الراوي قائلًا: ومذ ذاك الحين أطلقت الحرية لعرب الحيرة بأن يدينوا بالنصرانية ثم قال: والملك النعمان كان يريد بعد ذلك أن ينتصر ويزهد بالدنيا لكنه خاف من سطوة ملك العجم.
(قلنا) ولنا في شهادة مؤرخي العرب ما يثبت هذه الرواية ويؤيد صحتها. فان المؤرخون قد رووا أن النعمان الأعمور بعد سنين من ملكه اجتمع بأحد النساك الصالحين المدعوين بالرابطة فزهده بالفانية ودعاه إلى ترك الدنيا وعبادة الله فلبى الملك دعوته ولبس معه المسوح وساحا في الأرض زهدًا. وليس هؤلاء الرابطة على رأينا سوى رهبان النصارى الذين نبنًا لك وفرة عددهم في جهات العراق وزهدهم بالعام. وفيما ذكرنا من تاريخ قزما مصداق على هذا الرأي. ولعل الدير الذي دعاه العرب بدير الأمور قد ابتناه نعمان الأعور المذكور لولا أن ياقوت (٢: ٦٤٤) نسب دير الأعور الواقع على قوله بظاهر الكوفة إلى رجل من بني حذافة ابن زهر بن اياد وقد مر بك أن بني اياد من أقدم قبائل العرب المنتصرة.
ولا غرور أن تنصر هذين الملكين زاد النصرانية شأنًا وعزًا في العراق. قال قزما بعد رواية انطيوخس بن سالم عن ندامة النعمان أن الدين المسيحي مذ ذاك الوقت نما نموًا عظيمًا فكثر عدد الأساقفة والكهنة حتى ضاق عن الحصر. ولما قام الملك ازدشير الأول واضطهد النصارى في ملكه نال عرب العراق قسم من تلك المحن اظهروا فيها من الثبات ما غير بعد مدة أفكار الملك فتغاضى عنهم. وقيل أن امرأة الملك ازدشير نالت بشفاعة القديس سمعان الشفاء من مرض عضال فرغبت إلى الملك أن يكف الاضطهاد عن النصارى في مملكته.
وفي القسم الأول من القرن الخامس بلغت النصرانية أوج فخرها وازدهارها في العراق. وكان الايمان كاثوليكيًا محضًا لم يشب بشيء من اضاليل النساطرة واليعاقبة وكان الأساقفة حريصين على وديعة التعالم الرسولية كما ترى من أعمال مجمع المدائن الذي عقد سنة ٤١٠ فشذبت اضاليل آريوس وغيره من المبتدعين.
1 / 34