ولما جرى نحو السنة خمسين للمسيح افتراق الرسل إذ ساروا إلى قطار المعمور ليقوموا بمهمة التبشير التي أمرهم بها سدهم كان لبلاد العرب نصيب حسن في هذه القسمة المباركة فإن التقاليد القديمة تتواصل وتتفق على أن بعض الرسل تلمذوا أمم العرب وقبائلهم من جهات مختلفة وقد جمع العلّامة يوسف السمعاني في مكتبته الشرقية في المجلد الثالث القسم الثاني (Bibl. Or. III٢، I-٣٠) كثيرًا من شواهد كتبة اليونان الشام وجهات طور سيئا واليمن والحجاز والعراق يذكرون منهم متى وبرتلماوس وتدّاوس ومتّيّا وتوما. وقد نقل بعض هذه الشواهد المؤرخين المسلمون نفسهم كالطبري في تاريخه (ج١ص ٧٣٧ ٧٣٨) وأبي الفداء في تاريخه (٣٨:١ والمقريزي في الخطط (٤٨٣:٢) وابن خلدون في تاريخ العبر (٤٧:٢) والمسعودي في مروج الذهب (١٢٧:١) . هذا فضلًا عن بعض تلاميذ الرسل كفيليبس الشمّاس وتيمون وادي أو تدّاي ممن تناقل الرواة خبر بشارتهم بين العرب.
وكفى دليلًا بهذه الشواهد المتعددة على أن الدعوة النّصرانية التي امتدّت إلى أقاصي المعمر لم تهمل جزيرة العرب القريبة بسكانها امتزاج الماء بالروح فيعاملونهم ويتاجرونهم.
وقد ذكر القديس ايرونيموس في شروحه على نبوة ارميا (ف٣١) ونبوة ذكريا (ف١١) أنّ أسواقًا سنويًا كانت تقام قريبًا من سيحم (نابلس) يأتي إليها عدد عديد من نصارى ويهود ووثنيين يقصدونها للمتاجرة من بلاد الشام وفينيقية والعرب. فلا تتعدى إذن طورنا إن أكدنا انتشار النصرانيّة في بلاد العرب منذ عهد الرسل. وبذلك تحققت نبؤات الأنبياء الذين سبقوا وتنبّأوا باهتداء العرب وإيمانهم بالمسيح. قال النبي أشعيا بعد وصفه العجيب للسيد المسيح (ف١١ ع١ ١٠) ذاكرًا للشعوب التي تقبل شريعته فجعل منها آدوم ومؤاب. وكرر ذلك في الفصل ٤٢ وعدّد قبائل قيدار وبلاد سلع (Petra) وفي الفصل ٦٠ ذكر بين المستنيرين بأنوار أورشليم وملكها الموعود مدين وعيفة وسبأ وقيدار والنبط وفيه يذكر قدومهم على المسيح ليهدوه الطافهم من ذهب ولبان.
وكان النبي داؤد (في مزموريه٦٧ ع٣٢ و٨٠:٧١ ١٠) سبق أشعيا في ذكر سجود العرب للمسيح وطاعتهم له. ومثلما ارميا في فصله التاسع حيث ذكر "افتقاد الرب للأمم المختونين مع الغلف ... أدوم وبني عمّون وموآب وكلّ مقصوصي الزوايا الساكنين في البريّة".
وفي السنة ٧٠ للميلاد تمت نبوة المسيح عن خراب أورشليم فلم يبق فيها حجر على حجر وتفرّق بقايا اليهود شذرمذر بعد أن قتل منهم وسبي الألوف ومئات الألوف الّا أن من كانوا تنصّروا منهم كانوا بأمر الرب سبقوا أو خربوا من المدينة وعبروا الأردن وسكنوا في مدن العرب التي هناك كما أخبروا أسابيوس المؤرخ (١. فاستوطنوا تلك الأسقاع وكان يرعاهم أساقفة من جنسهم. وقد وجد أصحاب الآثار في أيامنا عددًا دثرًا من كتبهم الدينيّة كالأناجيل الأربعة وبعض أسفار التوراة وقطعًا طقسية وأناشيد وصلوات وغير ذلك مما يشهد على نصرانيتهم وسكناهم زمنًا طويلًا في تلك النواحي. وهذه البقايا كانت مكتوبة باللغة الفلسطينية أي الآرامية الشائعة في فلسطين. ولا ريب أن العرب الذين حلّ بينهم هؤلاء النصارى أخذوا شيئًا من تعاليمهم واستضاؤوا بأنوار دينهم وإذا استفتينا أقدم آثار النصرانية وما كتبه آباء الكنيسة الأولون في القرون الأولى للميلاد وجدناهم يذكرون الدعوة المسيحية في جزيرة العرب إما تعرضًا وإما تصريحًا فمن تنويههم بذلك قولهم بأن الإيمان المسيحي "منتشر في العالم كله" فإن صح هذا القول في البلاد القاصية حتى الهند والعجم وجزائر البحر أفلا يكون أيضًا صح بالحري في بلاد العرب المجاورة لمنبع الدعوة المسيحية. فترى القديس مرقس في آخر إنجيله (٢٠:١٦) مؤكدًا بأن تلاميذ الرب "خرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات" وبعده بقليل كان يشكر بولس الرسول أهل الرومية في رسالته غليهم (٨:١) "على أن إيمانهم يبشروا به في العالم كله". وفي رسالة القديس اغناطيوس النوراني تلميذ الرسل إلى أهل أفسس (PP. GG.، V، col. ٦٤٧) يذكر "الأساقفة الذين يرعون المؤمنين في العالم كله ويتفقون جميعًا بالإيمان". ومثله معاصره القديس بوليكربوس الذي كان يدعو المسيح "راعيا
1 / 3