وهكذا فسر هؤلاء الكتبة آية أشعيا النبي عن المسيح (ف٦٠ ع٦): "كثرة الإبل تغشاك بكران مدين وعيفة كلذهم من شبأ يأتون حاملين ذهبًا ولبانًا يبشّرون بتسابيح الرب" وسبق داؤد فقال (مز ٧١): "ملوك سبأ يقربون له العطايا". فإن مدين وعيفة وشبأ كلها تدل على نواحي العرب.
وعليها تدل أيضًا الألطاف التي قدّمها هؤلاء المجوس للمسيح أي الذهب واللبان والمر وكلّها من مرافق بلاد العرب. فإن ذهب أنحاء العرب كان مشهورًا وتنبأ داؤد بتقدمته للمسيح (مز ٧١) فقال: "يؤدون إله من ذهب شبأ". أما اللبان والمرّ فلا يكادان يستخرجان من غير جزيرة العرب فيتّجر بها أهلها كلها شهد على ذلك قدماء الكتبة بعد سفر التكوين (٣٧:٢٥) .
ثم يؤيد هذا الرأي قول المجوس في الإنجيل لهيرودس بأنهم رأوا نجم المسيح في لاشرق فأتوا ليسجدوا له. فقولهم "في الشرق" يدلّ على بلاد العرب أكثر من سواهم لوقوعها شرقي فلسطين فضلًا عن ركوب العرب يعرفون بالأسفار المقدّسة ببني الشرق (وبالعبرانية..... بمعناها) بل شاع هذا الاسم عند الرومان واليونان فاشتقوا منه Sarraceni ووزد على ذلك أنّ النجم الذي رآه المجوس هو الكوكب الذي وسبق أنبأهم به بلعام في مشارف مؤاب (سفر العدد ٢٤:١٧) لما قال: "أنه سيطلع كوكب من يعقوب ويقوم صولجان من اسرائيل". فتحققت النبوءة حيث تنبأ بها بلعام مرغومًا فتناقل العرب نبؤته ابنًا عن أب وراقبوا كوكبه حتى رأوه. ولا بأس من كون هؤلاء القادمين إلى مهد المسيح يدعون مجوسًا. فإن هذا الاسم كان يطلق عند العبرانيين على حكماء الشرق عمومًا وكثيرًا ما أثنى الكتاب الكريم على حكمه العرب في سفر أيوب وسفر الملوك الثالث (٣٠:٤) وسفر باروك (٢٣:٣) . وقد شهد كتبة اليونان بأنّ فيثاغورث الفيلسوف رحل إلى جزيرة العرب ليأخذ الحكمة عن أهلها. بل صرّح بلينيوس الطبيعي بأن بلاد العرب كانت بلاد مجوس.
وفي الإنجيل الطاهر شاهدٌ آخر على سبق العرب في معرفة السيد المسيح وذلك ذكر المبشّرون متى (ف٤ عدد ٢٤ ٢٥) ومرقس (٧:٣) ولوقا (١٧:٦) في جملة الجموع المتقاطرة إلى استماع تعاليم الرب أهل آدوم والمدن العشر وما وراء الأردن. فلا شك أن صيته يكون بلغ العرب القاطنين في تلك الجهات. بل ذكر الإنجيل (متى ٣١:٨ ومرقس ٣١:٧) أن المسيح عبر الأردن وتجوّل في المدن الواقعة ما وراء ذلك النهر ومرّ بالمدن العشر (وضع الآيات في بقعة الجرجاسيين. وكان أهل الحضر والمدن من العرب يسكنون تلك الأنحاء فلا يقبل العقل أنهم لم يقتبسوا شيئًا من أنوار ابن الله الكلمة.
ثم ما لبث العرب أن نالوا نصيبًا من الدعوة المسيحية وذلك يوم حلول الروح القدس على التلاميذ في العليّة الصهيونيّة كما اختبر القديس لوقا في سفر الأعمال (ف٢) فإنه صرّح بأنّ العرب كانوا في جملة الذين عاينوا آيات ذلك اليوم الشريف وسمعوا الحواريين يتكلّمون بلغتهم العربية. فلا جرم أنّ بعضًا منهم كانوا في عداد الثلثة الآلاف المصطبغين ذلك اليوم (أعمال ٤١:٢) فلما عادوا إلى بلادهم نضروا بين مواطنيهم ما رأوا وسمعوا من أمر المسيح وتلاميذه.
وبعد مدة قليلة أثار اليهود على تلامذة الرب تلك الاضطهادات التي ذكرها صاحب الأعمال (ف٨) فكانت على شبه الرياح التي تقوي الشجرة النامية وتؤصل جذورها في الأرض وتنقل ب١ذورها إلى أمكنة أخرى فتزداد وتتوفّر. وأول من يذكر من الرسل أنه دخل بلاد العرب هو الإناء المصطفى القديس بولس فإنه أخبر عن نفسه في رسالته إلى أهل غلاطية (ف١ع١٧) أنه بعد اهتدائه إلى الإيمان بظهور السيد المسيح له على طريق دمشق واعتماده على يد حنانيّا التلميذ الذي هرب من دسائس اليهودإلى جزيرة العرب حيث أقام مدة. فمن البديهي أنّ ذلك الرسول الذي خصّه الله بدعوة الأمم باشر منذ ذاك الحين بالتبشير إلى النصرانيّة من رآهم من العرب مستعدين لقبول دير الخلاص لئلا يحل به ذاك الويل الذي كان يوجس منه فزعًا حيث قال (١ كور ١٦٩) الويل لي إن لم نبشر. عليه فنصادق على قول الذين يجعلون بولس الرسول كأحد رسل العرب. وقد عدّه بعض كتبة الروم كأول الدعاة على المسيح في بصرى حاضر حوران.
1 / 2