وكانت نواحي الغور على ضفتي نهر الأردن أديرة عديدة يُعرف منها نحو العشرين قد اكتشف بعضها حضرة رئيس مدرسة الصلاحية المفضال الأب ي. ل. فدرلين (R.P.J.L. Federlin) ووصف أخربتها وصفًا مدققًا في مقالاته الفريدة التي نشرها أن رهبان تلك الأديرة اجتذبوا إلى الدين المسيحي من كان يجاورهم من عرب الحضر بل لدينا دلائل على ترهب بعض أولئك العرب المنتصرين في هذه الأديرة أشهرهم القديس إيليا البطريرك الأورشليمي فهذا كان عربي الأصل رحل من بلده إلى دير نطرون في مصر وبعد أن أرتاض في الآداب الرهبانية سكن مدة في دير سابساس على ضفة الأردن اليمنى ثم رُقي إلى رتبة البطريركية فدافع عن الإيمان بغيرة شديدة حتى فضَّل النفي على موافقة المبتدعين ومات في أيلة سنة ٥١٣.
وممن يستحق ذكرًا خصوصيًا في تبشير العرب ودعوتهم إلى النصرانية القديس العظيم أفتيميوس كوكب برية الأردن وجهات الغور فإن الله اصطفاه في أواسط القرن الخامس لينير عددًا عديدًا من العرب ويهديهم إلى سبيل الإيمان فإن المؤرخ الشهير والراهب معاصره كيرلس من سيتوبوليس (Scythopolis) أو بيسان روى في ترجمته تفاصيل ذلك الخبر الي رواه حضرة الأب بيترس من جماعة البولنديين (في المشرق ٣٤٤:١٢ ٣٥٣) نقلًا عن نسخة عربية قديمة في مكتبتنا الشرقية وخلاصته أن أحد الوثنيين يوناني الأصل المدعو إسباباط ولعله أصبهبذ ولاه أزدشير الملك تخوم الغجم فلما أثار الاضطهاد على نصارى مملكته وأخذ يصادرهم ويذيقهم ضروب العذابات جعلوا يولون هاربين من العجم إلى ممالك الرومان وإسباباط لا يتعرض لهم رغمًا عن أوامر الملك فسعى المجوس به لدى ازدشير ليعاقبه ففرَّ هو أيضًا هاربًا إلى أراضي الرومان حيث أكرم وفادته أناطوليوس الحاكم وولاه على القبائل العربية المنتمية لرومية.
وكان لإسباباط ولدٌ يدعى طرابون مصاب بالفالج أفرغ أبوه في شفائه كل الوسائل دون فائدة فالتجأ أخيرًا بالهام من الله إلى القديس أفتيميوس فشفى الغلام ونصر أباه ودعاه بطرس وعمد كل آل بيته وتبعهم في دينهم قوم كثيرون من العرب سعى القديس أفتيميوس في تلقينهم كل عقائد النصرانية. ثم اجتذب مثلهم غيرهم من قبائل العرب فخطط لهم القديس افتيميوس حدود مدينة صغيرة ليست بعيدة من ديره وأمرهم ببنائها على رسم معلوم وحفر لهم بئرًا وابتنى لهم كنيسة ودارًا لزعيمهم. ثم اتفق مع البطريرك يوريناليوس فجعل بطرس أسقفًا عليهم.
وأخذ كثيرون من العرب يتواردون إلى منزلهم حتى بلغ عددهم عشرين ألفًا ودعيت مدينة هؤلاء المنتصرين بالمحلة وتوالى الأساقفة عليهم حتى أواخر القرن السادس مع ما ألمَّ بهم من الضيقات والبلايا لاسيما بمعاداة قبائل العرب الوثنيين الذين غزوهم غير مرة.
والحق يقال أن هؤلاء الغزاة كانوا على مألوف عادة شذاذ العرب يتلصصون الأقفار فينهبون محابس الرهبان وأديرتهم ويسلبون ما يجدونه فيها. وقد أخبر كلسينانوس في خطابه السادس (Migne، P.L.، XLIX، col. ٦٤٣=٦٤٨) أن هؤلاء الأشقياء هجموا على تقوع على مسافة ستة أميال من مدينة بيت لحم جنوبًا فقتلوا رهبانًا كانوا يعيشون في البراري بالنسك والتقى ثم أخبر أن أهل تلك الناحية ابدوا لذخائرهم إكرامًا عظيمًا "ولاسيما جموع العرب الذين هناك وبلغت رغبتهم في اقتنائها إلى أن وقع بينهم قتال للفوز بتلك الأجسام المقدسة" وكان ذلك سنة ٣٩٥ للمسيح. وفي هذا دليل على أن عرب فلسطين كانوا يدينون بالنصرانية.
وجاء أيضًا في مجموع المجامع (Labbe: Collect. Concil.، III، ٧٢٨) أن البطريرك يوليناليوس سقَّف عددًا من الأساقفة لجهات العرب قبل السنة ٤٣٠ وهذا دليل آخر على انتشار النصرانية بين عرب فلسطين. وورد قبل ذلك في تاريخ سنة ٣٦٣ في مجمع أنطاكية اسم أسقف يدعى تاوتيموس قد وقَّع على أعماله بهذا الإمضاء "تاتيموس أسقف العرب" ولعله أراد قبائل العرب الساكنة في نواحي تذمر حيث كانت النصرانية أصابت مقامًا رفيعًا ليس فقط في حواضرها كتدمر والقريتين وحوارين ولكن في بادية تدمر نفسها حيث تنصرت القبائل المتنقلة فيها.
الباب الرابع
النصرانية في النجب وطورسينا
1 / 14