ومن الأدلة التي تناقلها بالتقليد فدوَّنها المؤرخون تنصر الضجاعمة الذين سبقوا الغسانيين في ملك البقاء. وقد حفظوا لنا اسم أحد أمرائهم فدعوه دؤاد بن الهبولة المعروف باللثق وجعلوا مقامه في مادبا (اطلب تاريخ ابن خلدون ١٥٣:٢) وذلك في أواخر القرن الثاني للمسيح.
ولما انتهى طور الاضطهادات عل المسيحيين في القرن الرابع قسمت تلك النواحي أيالتين مدنيتين فدعيت الواحدة بفلسطين الثانية كانت حاضرتها مدينة باسان والأخرى فلسطين الثالثة كانت حاضرتها مدينة بترا أو سلع. وقد بلغ عدد الكراسي فيها قبل الإسلام نيفًا وربعين كرسيًا يُعرف أسماء كثيرين من أساقفتها الذين دبروها ورعوا مؤمنيها فناهيك بذلك شاهدًا صادقًا على امتداد الدين المسيحي في العرب وكان أكثر الدعاة عملًا في نشر النصرانية نساكها وسياحها الذين كانوا اتخذوا لهم مآوي ومحابس يسكنونها معتزلين عن الناس ليعيشوا فيها عيشة الملائكة بالزهد وضروب المناسك الرهبانية فكان مثلهم يعمل في قلوب العرب خصوصًا ويجتذبهم إلى دين أولئك الأبرار فيطلبون منهم نعمة المعمودية.
ومما أخبر به القديس هيرونيموس في ترجمة القديس هيلاريون (١ إن هذا السائح الجليل اذلي تنسك في جهات غزة سار إلى مدينة الخلصة (Elusa) في البرية جنوبي بحر لوط ليعود أحد تلامذته وكان أهلها يدينون بالوثنية ويكرمون الزهرة على شكل حجرة فوافق وصوله إليها يوم عيد الزهرة فلما بلغهم قدوم القديس خرجوا لاستقباله وأكرموه إكرامًا جزيلًا مع نسائهم وأولادهم وكانو يطلبون بركته وكان قوم منهم نالوا بدعائه الشفاء من أمراضهم فجعلوا يتوسلون إليه بأن يقيم بينهم فوعدهم بأن يفعل بعائه الشفاء من أمراضهم فجعلوا يتوسلون إليه بأن يقيم بينهم فوعدهم بأن يعل إذا نبذوا عبادة الحجارة وآمنوا بالسيد المسيح. فأجابوا إلى طلبته ولم يدعوه يخرج من بلدتهم حتى اختط لهم حدود كنيسة يقيمونها وكان ممن تنصروا على يد القديس كاهنهم وسادن أصنامهم. ومذ ذاك الوقت وردت عدة آثار عن النصرانية في الخلصاء وأسماء أساقفتها منهم واحد يسمى عبد الله وسنذكر أعمالًا أخرى لهيلاريون.
وممن دخلت لنصرانية بينهم في تلك الأنحاء أمة النبيط أو النبط فهؤلاء كانوا أيضًا من العرب فأنشأوا دولة عظيمة ومصَّروا لهم الأمصار واتخذوا لهم مدينة عظيمة يدعونها بترا وسلع لا تزال آثارها الفخيمة تدهش كل من يقصدها. وقد مر لحضرة الأب جلابرت (المشرق ٩٦٥:٨ ٩٧٣) وصف بعض أبنيتها العادية. وكان ظهور النبط نحو القرن الخامس قبل المسيح وما لبثوا أن اشتد ساعدهم واستفحل أمرهم وصار لملوكهم شهرة واسعة واستقلوا بالملك في القرن الثاني قبل المسيح وكان أولهم "الحارث الأول" ودام ملكهم إلى العشر الأول من القرن الثاني بعد المسيح حيث تغلَّب الرومان على بلادهم وكان آخر ملوكهم مالك أو مليكوس الثاني (١٠٣ ١٠٧) وأصبحت بلاد النبط إقليمًا رومانيًا يتولاه أحد حكام رومية.
وكانت بترا معبرًا لكل القوافل القادمة من مصر إلى دمشق ومن جزيرة العرب إلى فلسطين ومن العراق إلى مصر ولذلك ازدادت ثروتها واشتهر أهلها بالمتاجرة.
وبلغتها النصرانية قبل غيرها من مدن النبط وترى أستيريوس أسقفها يلعب دورًا مهمًا في عهد قسطنطين لمعاكسة البدعة الأريانية. ثم انتشرت النصرانية في بقية النبط وتأصلت فيهم وثبتوا عليها حتى بعد ظهور الإسلام بمدة حتى أن بعض الكتبة يدعون نصارى العرب نبطًا. ولك مثال على ذلك في بعض مقامات بديع الزمان في المقامة الزوينية حيث جعل نصابه أبا الفتح الإسكندري نبطيًا فيقول متظاهرًا بالإسلام:
إن أكُ أمنتُ فكم ليلةٍ ... جحدتُ فيها وعبدتُ الصليبُ
وكذلك ضرب شعراء العرب المثل برهبان مدين وزهدهم. قال كثير عزة:
رهبانُ مدينَ والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العقاب قعودًا
1 / 13